جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط

ابن رجب الحنبلي

[مقدمة المؤلف]

[مقدمة المؤلف] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ، وَجَعَلَ أُمَّتَنَا - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - خَيْرَ أُمَّةٍ، وَبَعَثَ فِينَا رَسُولًا مِنَّا يَتْلُو عَلَيْنَا آيَاتِهِ، وَيُزَكِّينَا وَيُعَلِّمُنَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ. أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ الْجَمَّةِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً تَكُونُ لِمَنِ اعْتَصَمَ بِهَا خَيْرَ عِصْمَةٍ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ لِلْعَالَمِينَ رَحْمَةً، وَفَرَضَ عَلَيْهِ بَيَانَ مَا أَنْزَلَ إِلَيْنَا، فَأَوْضَحَ لَنَا كُلَّ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَخَصَّهُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَرُبَّمَا جَمَعَ أَشْتَاتَ الْحِكَمِ وَالْعُلُومِ فِي كَلِمَةٍ، أَوْ شَطْرِ كَلِمَةٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، صَلَاةً تَكُونُ لَنَا نُورًا مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَخَصَّهُ بِبَدَائِعِ الْحِكَمِ. كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ «النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ» قَالَ الزُّهْرِيُّ: جَوَامِعُ الْكَلِمِ - فِيمَا بَلَغَنَا - أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ لَهُ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْأَمْرَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

خَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالْمُوَدِّعِ، فَقَالَ: " أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ ". قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. " وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ» "، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَخَرَّجَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّى أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ، وَاخْتُصِرَ لِيَ اخْتِصَارًا» . وَخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَ لِيَ الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا» . وَرُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ الْقُرَشِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ " فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَعَلَّمَنَا التَّشَهُّدَ» .

وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ، عَنِ الْبِتْعِ وَالْمِزْرِ، قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ بِخَوَاتِمِهِ، فَقَالَ: أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ أَسْكَرَ عَنِ الصَّلَاةِ» . وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ فِي كِتَابِ " الْمَبْعَثِ " بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ الْحَبَشِيِّ، قَالَ: «حُدِّثْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: " فُضِّلْتُ عَلَى مَنْ قَبْلِي بِسِتٍّ وَلَا فَخْرَ " فَذَكَرَ مِنْهَا: قَالَ: " وَأُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَجْعَلُونَهَا جُزْءًا بِاللَّيْلِ إِلَى الصَّبَاحِ، فَجَمَعَهَا لِي رَبِّي فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1] (الْحَدِيدِ: 1) » . فَجَوَامِعُ الْكَلِمِ الَّتِي خُصَّ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] (النَّحْلِ: 90) قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ تَتْرُكْ هَذِهِ الْآيَةُ خَيْرًا إِلَّا أَمَرَتْ بِهِ، وَلَا شَرًّا إِلَّا نَهَتْ عَنْهُ. وَالثَّانِي: مَا هُوَ فِي كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُنْتَشِرٌ مَوْجُودٌ فِي السُّنَنِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ جُمُوعًا مِنْ كَلِمَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَامِعَةِ، فَصَنَّفَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ السُّنِّيِّ كِتَابًا سَمَّاهُ: " الْإِيجَازَ وَجَوَامِعَ الْكَلِمِ مِنَ السُّنَنِ الْمَأْثُورَةِ " وَجَمَعَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُضَاعِيُّ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الْوَجِيزَةِ كِتَابًا سَمَّاهُ: " الشِّهَابَ فِي الْحِكَمِ وَالْآدَابِ "، وَصَنَّفَ عَلَى مِنْوَالِهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، فَزَادُوا عَلَى مَا ذَكَرَهُ زِيَادَةً كَثِيرَةً. وَأَشَارَ الْخَطَّابِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " إِلَى يَسِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْجَامِعَةِ. وَأَمْلَى الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ مَجْلِسًا سَمَّاهُ " الْأَحَادِيثَ الْكُلِّيَّةَ " جَمَعَ فِيهِ الْأَحَادِيثَ الْجَوَامِعَ الَّتِي يُقَالُ: إِنَّ مَدَارَ الدِّينِ عَلَيْهَا، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْكَلِمَاتِ الْجَامِعَةِ الْوَجِيزَةِ، فَاشْتَمَلَ مَجْلِسُهُ هَذَا عَلَى سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ حَدِيثًا. ثُمَّ إِنَّ الْفَقِيهَ الْإِمَامَ الزَّاهِدَ الْقُدْوَةَ أَبَا زَكَرِيَّا يَحْيَى النَّوَوِيَّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَخَذَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي أَمْلَاهَا ابْنُ الصَّلَاحِ، وَزَادَ عَلَيْهَا تَمَامَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا، وَسَمَّى كِتَابَهُ " بِالْأَرْبَعِينَ "، وَاشْتَهَرَتْ هَذِهِ الْأَرْبَعُونَ الَّتِي جَمَعَهَا، وَكَثُرَ حِفْظُهَا، وَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا بِبَرَكَةِ نِيَّةِ جَامِعِهَا، وَحُسْنِ قَصْدِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ تَكَرَّرَ سُؤَالُ جَمَاعَةٍ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لِتَعْلِيقِ شَرْحٍ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي جَمْعِ كِتَابٍ يَتَضَمَّنُ شَرْحَ مَا يُيَسِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَعَانِيهَا، وَتَقْيِيدِ مَا يَفْتَحُ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ تَبْيِينِ قَوَاعِدِهَا وَمَبَانِيهَا، وَإِيَّاهُ أَسْأَلُ الْعَوْنَ عَلَى مَا قَصَدْتُ، وَالتَّوْفِيقَ لِصَلَاحِ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ فِيمَا أَرَدْتُ، وَأُعَوِّلُ فِي أَمْرِي كُلِّهِ عَلَيْهِ، وَأَبْرَأُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إِلَّا إِلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ مَنْ شَرَحَ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ قَدْ تَعَقَّبَ عَلَى جَامِعِهَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَرْكَهُ

لِحَدِيثِ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ، فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» قَالَ: لِأَنَّهُ الْجَامِعُ لِقَوَاعِدِ الْفَرَائِضِ الَّتِي هِيَ نِصْفُ الْعِلْمِ، فَكَانَ يَنْبَغِي ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْجَامِعَةِ، كَمَا ذَكَرَ حَدِيثَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» لِجَمْعِهِ لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ. فَرَأَيْتُ أَنَا أَنْ أَضُمَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَى أَحَادِيثِ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي جَمَعَهَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَنْ أَضُمَّ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَحَادِيثَ أُخَرَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الْجَامِعَةِ لِأَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ، حَتَّى تَكْمُلَ عِدَّةُ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا خَمْسِينَ حَدِيثًا، وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ الْأَحَادِيثِ الْمَزِيدَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: حَدِيثُ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا» حَدِيثُ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» حَدِيثُ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ» حَدِيثُ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» حَدِيثُ: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ» حَدِيثُ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا» حَدِيثُ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ» حَدِيثُ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَسَمَّيْتُهُ:

جَامِعَ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ فِي شَرْحِ خَمْسِينَ حَدِيثًا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ غَرَضِي إِلَّا شَرْحُ الْأَلْفَاظِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْكُلِّيَّةُ، فَلِذَلِكَ لَا أَتَقَيَّدُ بِكَلَامِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَرَاجُمِ رُوَاةِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَا بِأَلْفَاظِهِ فِي الْعَزْوِ إِلَى الْكُتُبِ الَّتِي يَعْزُو إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا آتِي بِالْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنِّي قَدْ أَعْلَمْتُكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِي غَرَضٌ إِلَّا فِي شَرْحِ مَعَانِي كَلِمَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَوَامِعِ، وَمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْآدَابِ وَالْحِكَمِ وَالْمَعَارِفِ وَالْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ. وَأُشِيرُ إِشَارَةً لَطِيفَةً قَبْلَ الْكَلَامِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ إِلَى إِسْنَادِهِ؛ لِيُعْلَمَ بِذَلِكَ صِحَّتُهُ وَقُوَّتُهُ وَضَعْفُهُ، وَأَذْكُرُ بَعْضَ مَا رُوِيَ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ شَيْءٌ غَيْرُ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ غَيْرُهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ يَصِحُّ فِيهِ غَيْرُهُ، نَبَّهْتُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

[الحديث الأول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى]

[الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ اللِّيْثِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،

وَلَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ تَصِحُّ غَيْرُ هَذَا الطَّرِيقِ، كَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، لَكِنْ لَا يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ عِنْدَ الْحُفَّاظِ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنِ الْأَنْصَارِيِّ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ، فَقِيلَ: رَوَاهُ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ مِائَتَيْ رَاوٍ، وَقِيلَ: رَوَاهُ عَنْهُ سَبْعُمِائَةِ رَاوٍ، وَمِنْ أَعْيَانِهِمْ: مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ،

وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَشُعْبَةُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَغَيْرُهُمْ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّتِهِ وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ، وَبِهِ صَدَّرَ الْبُخَارِيُّ كِتَابَهُ " الصَّحِيحَ " وَأَقَامَهُ مَقَامَ الْخُطْبَةِ لَهُ، إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ لَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: لَوْ صَنَّفْتُ كِتَابًا فِي الْأَبْوَابِ، لَجَعَلْتُ حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ فِي كُلِّ بَابٍ، وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُصَنِّفَ كِتَابًا، فَلْيَبْدَأْ بِحَدِيثِ " «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ". وَهَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَدُورُ الدِّينُ عَلَيْهَا، فَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ ثُلُثُ الْعِلْمِ، وَيَدْخُلُ فِي سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الْفِقْهِ. وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَالَ: أُصُولُ الْإِسْلَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ: حَدِيثُ عُمَرَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ.» وَقَالَ الْحَاكِمُ: حَدَّثُونَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَقَوْلَهُ: «إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا،» وَقَوْلَهُ: «مَنْ أَحْدَثِ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُبْدَأَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي كُلِّ تَصْنِيفٍ، فَإِنَّهَا أُصُولُ الْأَحَادِيثِ

وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ هِيَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ: حَدِيثُ عُمَرَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ،» وَحَدِيثُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ» ، وَحَدِيثُ «إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ» ، وَحَدِيثُ: «مَنْ صَنَعَ فِي أَمْرِنَا شَيْئًا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ.» وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعَ أَمْرِ الْآخِرَةِ فِي كَلِمَةٍ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» ، وَجَمَعَ أَمْرَ الدُّنْيَا كُلَّهُ فِي كَلِمَةٍ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» يَدْخُلَانِ فِي كُلِّ بَابٍ. وَعَنْ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ نَظَرْتُ فِي الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ، فَإِذَا هُوَ أَرْبَعَةُ آلَافِ حَدِيثٍ، ثُمَّ نَظَرْتُ، فَإِذَا مَدَارُ أَرْبَعَةِ آلَافِ حَدِيثٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ: حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: «الْحَلَّالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ،» وَحَدِيثُ عُمَرَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ» الْحَدِيثَ، وَحَدِيثُ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ.» قَالَ: فَكُلُّ حَدِيثٍ مِنْ هَذِهِ رُبُعُ الْعِلْمِ. وَعَنْ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا، قَالَ كَتَبْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، انْتَخَبْتُ مِنْهَا مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْكِتَابُ - يَعْنِي كِتَابَ " السُّنَنِ " - جَمَعْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَثَمَانِمِائَةِ حَدِيثٍ، وَيَكْفِي الْإِنْسَانَ لِدِينِهِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ،» وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا حَتَّى لَا

يَرْضَى لِأَخِيهِ إِلَّا مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ» ، وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ» . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْفِقْهُ يَدُورُ عَلَى خَمْسَةِ أَحَادِيثَ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ» ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» ، وَقَوْلِهِ «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَقَوْلِهِ «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» ، وَقَوْلِهِ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ» ، «وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، قَالَ: أُصُولُ السُّنَنِ فِي كُلِّ فَنٍّ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ: حَدِيثُ عُمَرَ «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَحَدِيثُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ» ، وَحَدِيثُ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ، وَحَدِيثُ: «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ» . وَلِلْحَافِظِ أَبِي الْحَسَنِ طَاهِرِ بْنِ مُفَوِّزٍ الْمُعَافِرِيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ: عُمْدَةُ الدِّينِ عِنْدَنَا كَلِمَاتٌ ... أَرْبَعٌ مِنْ كَلَامِ خَيْرِ الْبَرِيَّهْ اتَّقِ الشُّبُهَاتِ وَازْهَدْ وَدَعْ مَا ... لَيْسَ يَعْنِيكَ وَاعْمَلَنَّ بِنِيَّهْ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وَكِلَاهُمَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَيْسَ غَرَضُنَا هَاهُنَا تَوْجِيهَ ذَلِكَ، وَلَا بَسْطَ الْقَوْلِ فِيهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِ قَوْلِهِ: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، فَكَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَزْعُمُ

أَنَّ تَقْدِيرَهُ: الْأَعْمَالُ صَحِيحَةٌ أَوْ مُعْتَبَرَةٌ وَمَقْبُولَةٌ بِالنِّيَّاتِ، وَعَلَى هَذَا فَالْأَعْمَالُ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا الْأَعْمَالُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُفْتَقِرَةُ إِلَى النِّيَّةِ، فَأَمَّا مَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ كَالْعَادَاتِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَاللُّبْسِ وَغَيْرِهَا، أَوْ مِثْلِ رَدِّ الْأَمَانَاتِ وَالْمَضْمُونَاتِ، كَالْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبِ، فَلَا يَحْتَاجُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَى نِيَّةٍ، فَيُخَصُّ هَذَا كُلُّهُ مِنْ عُمُومِ الْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ هَاهُنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْأَعْمَالُ هَاهُنَا عَلَى عُمُومِهَا، لَا يُخَصُّ مِنْهَا شَيْءٌ. وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ جُمْهُورَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. قَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: أُحِبُّ لِكُلِّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا مِنْ صَلَاةٍ، أَوْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُتَقَدِّمَةً فِي ذَلِكَ قَبْلَ الْفِعْلِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، فَهَذَا يَأْتِي عَلَى كُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ. وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي أَحْمَدَ - عَنِ النِّيَّةِ فِي الْعَمَلِ، قُلْتُ كَيْفَ النِّيَّةُ؟ قَالَ: يُعَالِجُ نَفْسَهُ، إِذَا أَرَادَ عَمَلًا لَا يُرِيدُ بِهِ النَّاسَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ الْحَرْبِيُّ: قَالَ حَدَّثَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ بِحَدِيثِ عُمَرَ: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَأَحْمَدُ جَالِسٌ، فَقَالَ أَحْمَدُ لِيَزِيدَ: يَا أَبَا خَالِدٍ، هَذَا الْخِنَاقُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقِيلَ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: الْأَعْمَالُ وَاقِعَةٌ أَوْ حَاصِلَةٌ بِالنِّيَّاتِ، فَيَكُونُ إِخْبَارًا عَنِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ أَنَّهَا لَا تَقَعُ إِلَّا عَنْ قَصْدٍ مِنَ الْعَامِلِ هُوَ سَبَبُ عَمَلِهَا وَوُجُودِهَا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» إِخْبَارًا عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَنَّ حَظَّ الْعَامِلِ مِنْ عَمَلِهِ نِيَّتُهُ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً، فَعَمَلُهُ صَالِحٌ، فَلَهُ أَجْرُهُ، وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً، فَعَمَلُهُ فَاسِدٌ، فَعَلَيْهِ وِزْرُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ: الْأَعْمَالُ صَالِحَةٌ،

أَوْ فَاسِدَةٌ، أَوْ مَقْبُولَةٌ، أَوْ مَرْدُودَةٌ، أَوْ مُثَابٌ عَلَيْهَا، أَوْ غَيْرُ مُثَابٍ عَلَيْهَا بِالنِّيَّاتِ، فَيَكُونُ خَبَرًا عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ صَلَاحَ الْأَعْمَالِ وَفَسَادَهَا بِحَسَبِ صَلَاحِ النِّيَّاتِ وَفَسَادِهَا، كَقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ» أَيْ: إِنَّ صَلَاحَهَا وَفَسَادَهَا وَقَبُولَهَا وَعَدَمَهُ بِحَسَبِ الْخَاتِمَةِ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» إِخْبَارٌ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ إِلَّا مَا نَوَاهُ بِهِ، فَإِنْ نَوَى خَيْرًا حَصَلَ لَهُ خَيْرٌ، وَإِنْ نَوَى بِهِ شَرًّا حَصَلَ لَهُ شَرٌّ، وَلَيْسَ هَذَا تَكْرِيرًا مَحْضًا لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى أَنَّ صَلَاحَ الْعَمَلِ وَفَسَادَهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِيجَادِهِ، وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ الْعَامِلِ عَلَى عَمَلِهِ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ الصَّالِحَةِ، وَأَنَّ عِقَابَهُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ الْفَاسِدَةِ، وَقَدْ تَكُونُ نِيَّتُهُ مُبَاحَةً، فَيَكُونُ الْعَمَلُ مُبَاحًا، فَلَا يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، فَالْعَمَلُ فِي نَفْسِهِ صَلَاحُهُ وَفَسَادُهُ وَإِبَاحَتُهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الْحَامِلَةِ عَلَيْهِ، الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُودِهِ، وَثَوَابُ الْعَامِلِ وَعِقَابُهُ وَسَلَامَتُهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الَّتِي بِهَا صَارَ الْعَمَلُ صَالِحًا، أَوْ فَاسِدًا، أَوْ مُبَاحًا. وَاعْلَمْ أَنَّ النِّيَّةَ فِي اللُّغَةِ نَوْعٌ مِنَ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فُرِّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ. وَالنِّيَّةُ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ تَقَعُ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِمَعْنَى تَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، كَتَمْيِيزِ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَثَلًا، وَتَمْيِيزِ صِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ صِيَامِ غَيْرِهِ، أَوْ تَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْعَادَاتِ، كَتَمْيِيزِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ مِنْ غُسْلِ التَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ النِّيَّةُ هِيَ الَّتِي تُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي كُتُبِهِمْ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي: بِمَعْنَى تَمْيِيزِ الْمَقْصُودِ بِالْعَمَلِ، وَهَلْ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا

شَرِيكَ لَهُ، أَمْ غَيْرُهُ، أَمِ اللَّهُ وَغَيْرُهُ، وَهَذِهِ النِّيَّةُ هِيَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا الْعَارِفُونَ فِي كُتُبِهِمْ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَتَوَابِعِهِ، وَهِيَ الَّتِي تُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا مُصَنَّفًا سَمَّاهُ: كِتَابَ " الْإِخْلَاصِ وَالنِّيَّةِ " وَإِنَّمَا أَرَادَ هَذِهِ النِّيَّةَ، وَهِيَ النِّيَّةُ الَّتِي يَتَكَرَّرُ ذِكْرُهَا فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً بِلَفْظِ النِّيَّةِ، وَتَارَةً بِلَفْظِ الْإِرَادَةِ، وَتَارَةً بِلَفْظٍ مُقَارِبٍ لِذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهَا كَثِيرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ لَفْظِ النِّيَّةِ أَيْضًا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُقَارِبَةِ لَهَا. وَإِنَّمَا فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النِّيَّةِ وَبَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ وَنَحْوَهِمَا؛ لِظَنِّهِمُ اخْتِصَاصَ النِّيَّةِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: النِّيَّةُ تَخْتَصُّ بِفِعْلِ النَّاوِي، وَالْإِرَادَةُ لَا تَخْتَصُّ بِذَلِكَ، كَمَا يُرِيدُ الْإِنْسَانُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَلَا يَنْوِيَ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النِّيَّةَ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي غَالِبًا، فَهِيَ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ، وَلِذَلِكَ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِلَفْظِ الْإِرَادَةِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] [آلِ عِمْرَانَ: 152] ، وَقَوْلِهِ: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67] (الْأَنْفَالِ: 67) ، وَقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] (الشُّورَى: 20) ، وَقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا - وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18 - 19] (الْإِسْرَاءِ: 18 - 19) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16] (هُودٍ: 15 - 16) وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] (الْأَنْعَامِ: 52) ، وَقَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ

وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28] (الْكَهْفِ: 28) ، وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الروم: 38] وَقَوْلِهِ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] (الرُّومِ: 38 - 39) . وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهَا فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِ " الِابْتِغَاءِ " كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 20] (اللَّيْلِ: 20) ، وَقَوْلِهِ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 265] (الْبَقَرَةِ: 265) ، وَقَوْلِهِ: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272] (الْبَقَرَةِ: 272) ، وَقَوْلِهِ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] (النِّسَاءِ: 114) . فَنَفَى الْخَيْرَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا يَتَنَاجَى بِهِ النَّاسُ إِلَّا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَخَصَّ مِنْ أَفْرَادِهِ الصَّدَقَةَ وَالْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ لِعُمُومِ نَفْعِهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّنَاجِيَ بِذَلِكَ خَيْرٌ، وَأَمَّا الثَّوَابُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ، فَخَصَّهُ بِمَنْ فَعَلَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَغَيْرِهِمَا خَيْرًا، وَإِنْ لَمْ يَبْتَغِ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي، فَيَحْصُلُ بِهِ لِلنَّاسِ إِحْسَانٌ وَخَيْرٌ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَمْرِ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَأُثِيبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ خَيْرًا لَهُ، وَلَا ثَوَابَ لَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ صَامَ وَصَلَّى وَذَكَرَ اللَّهَ، يَقْصِدُ بِذَلِكَ عَرَضَ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ لَهُ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفْعَ فِي ذَلِكَ لِصَاحِبِهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ فِيهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ إِلَى أَحَدٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَحْصُلَ لِأَحَدٍ بِهِ اقْتِدَاءٌ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ، وَكَلَامِ السَّلَفِ مِنْ تَسْمِيَةِ هَذَا الْمَعْنَى بِالنِّيَّةِ، فَكَثِيرٌ

جِدًّا، وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَهُ، كَمَا خَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْوِ إِلَّا عِقَالًا، فَلَهُ مَا نَوَى» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ أَكْثَرَ شُهَدَاءِ أُمَّتِي أَصْحَابُ الْفُرُشِ، وَرُبَّ قَتِيلٍ بَيْنَ صَفَّيْنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ» . وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ،، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» . وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّمَا يُبْعَثُ النَّاسُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ.» وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّمَا يُبْعَثُ الْمُقْتَتِلُونَ عَلَى النِّيَّاتِ.» وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ، فَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ، خُسِفَ بِهِمْ، فَقُلْتُ:

يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا؟ قَالَ: يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ.» وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، «وَقَالَ فِيهِ يُهْلَكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا، وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى، يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ.» وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ.» هَذَا لَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ، وَلَفْظُ أَحْمَدَ: «مَنْ كَانَ هَمُّهُ الْآخِرَةَ، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا،» وَخَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَعِنْدَهُ: «مَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الْآخِرَةَ.» وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ "، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُثِبْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ.» وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ

لَهُ، وَلَا أَجْرَ لِمَنْ لَا حِسْبَةَ لَهُ يَعْنِي: لَا أَجْرَ لِمَنْ لَمْ يَحْتَسِبْ ثَوَابَ عَمَلِهِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَبِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَا يَنْفَعُ قَوْلٌ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَلَا يَنْفَعُ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا يَنْفَعُ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا نِيَّةٌ إِلَّا بِمَا وَافَقَ السُّنَّةَ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: تَعَلَّمُوا النِّيَّةَ، فَإِنَّهَا أَبْلَغُ مِنَ الْعَمَلِ. وَعَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، قَالَ: إِنَّى لَأُحِبُّ أَنْ تَكُونَ لِي نِيَّةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: انْوِ فِي كُلِّ شَيْءٍ تُرِيدُهُ الْخَيْرَ، حَتَّى خُرُوجِكَ إِلَى الْكُنَاسَةِ. وَعَنْ دَاوُدَ الطَّائِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ الْخَيْرَ كُلَّهُ إِنَّمَا يَجْمَعُهُ حُسْنُ النِّيَّةِ، وَكَفَاكَ بِهَا خَيْرًا وَإِنْ لَمْ تَنْصَبْ. قَالَ دَاوُدُ: وَالْبِرُّ هِمَّةُ التَّقِيِّ، وَلَوْ تَعَلَّقَتْ جَمِيعُ جَوَارِحِهِ بِحُبِّ الدُّنْيَا، لَرَدَّتْهُ يَوْمًا نِيَّتُهُ إِلَى أَصْلِهِ. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، قَالَ: مَا عَالَجْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ نِيَّتِي؛ لِأَنَّهَا تَنْقَلِبُ عَلَيَّ. وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ، قَالَ: تَخْلِيصُ النِّيَّةِ مِنْ فَسَادِهَا أَشَدُّ عَلَى الْعَامِلِينَ مِنْ طُولِ الِاجْتِهَادِ. وَقِيلَ لِنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَلَا تَشْهَدُ الْجَنَازَةَ؟ قَالَ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَنْوِيَ، قَالَ فَفَكَّرَ هُنَيَّةً، ثُمَّ قَالَ: امْضِ.

وَعَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: صَلَاحُ الْقَلْبِ بِصَلَاحِ الْعَمَلِ، وَصَلَاحُ الْعَمَلِ بِصَلَاحِ النِّيَّةِ. وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْمُلَ لَهُ عَمَلُهُ، فَلْيُحْسِنْ نِيَّتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْجُرُ الْعَبْدَ إِذَا حَسُنَتْ نِيَّتُهُ حَتَّى بِاللُّقْمَةِ. وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: رُبَّ عَمَلٍ صَغِيرٍ تُعَظِّمُهُ النِّيَّةُ، وَرُبَّ عَمَلٍ كَبِيرٍ تُصَغِّرُهُ النِّيَّةُ. وَقَالَ ابْنُ عَجْلَانَ: لَا يَصْلُحُ الْعَمَلُ إِلَّا بِثَلَاثٍ: التَّقْوَى لِلَّهِ، وَالنِّيَّةِ الْحَسَنَةِ، وَالْإِصَابَةِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْكَ نِيَّتَكَ وَإِرَادَتَكَ. وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ، قَالَ: إِيثَارُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَفْضَلُ مِنَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِهِ. خَرَّجَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ " الْإِخْلَاصِ وَالنِّيَّةِ ". وَرَوَى فِيهِ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَصِدْقُ النِّيَّةَ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ مَعْنَى مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ أُصُولَ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: حَدِيثُ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ،» وَحَدِيثُ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ،» وَحَدِيثُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ.» فَإِنَّ الدِّينَ كُلَّهُ يَرْجِعُ إِلَى فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ، وَالتَّوَقُّفِ عَنِ الشُّبُهَاتِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ.

وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِي ظَاهِرِهِ عَلَى مُوَافَقَةِ السُّنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ.» وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِي بَاطِنِهِ يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ عُمَرَ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ.» وَقَالَ الْفُضَيْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] (الْمُلْكِ: 2) ، قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. وَقَالَ: إِنَّ الْعَمَلَ إِذَا كَانَ خَالِصًا، وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا، وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا، لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا وَصَوَابًا، قَالَ: وَالْخَالِصُ إِذَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّوَابُ إِذَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفُضَيْلُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] (الْكَهْفِ: 110) . وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّمَا تَفَاضَلُوا بِالْإِرَادَاتِ، وَلَمْ يَتَفَاضَلُوا بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ.» لَمَّا ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِحَسَبِ النِّيَّاتِ، وَأَنَّ حَظَّ الْعَامِلِ مِنْ عَمَلِهِ نِيَّتُهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَهَاتَانِ كَلِمَتَانِ جَامِعَتَانِ، وَقَاعِدَتَانِ كُلِّيَّتَانِ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا شَيْءٌ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِثَالًا مِنْ أَمْثَالِ الْأَعْمَالِ الَّتِي صُورَتُهَا وَاحِدَةٌ، وَيَخْتَلِفُ صَلَاحُهَا وَفَسَادُهَا بِاخْتِلَافِ النِّيَّاتِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ سَائِرُ الْأَعْمَالِ عَلَى حَذْوِ هَذَا الْمِثَالِ. وَأَصْلُ الْهِجْرَةِ: هِجْرَانُ بَلَدِ الشِّرْكِ، وَالِانْتِقَالُ مِنْهُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، كَمَا

كَانَ الْمُهَاجِرُونَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ يُهَاجِرُونَ مِنْهَا إِلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ هَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ مِنْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى النَّجَاشِيِّ. فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْهِجْرَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ بِهَا، فَمَنْ هَاجَرَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ حُبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَرَغْبَةً فِي تَعَلُّمِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ حَيْثُ كَانَ يَعْجِزُ عَنْهُ فِي دَارِ الشِّرْكِ، فَهَذَا هُوَ الْمُهَاجِرُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَقًّا، وَكَفَاهُ شَرَفًا وَفَخْرًا أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مَا نَوَاهُ مِنْ هِجْرَتِهِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى اقْتَصَرَ فِي جَوَابِ هَذَا الشَّرْطِ عَلَى إِعَادَتِهِ بِلَفْظِهِ؛ لِأَنَّ حُصُولَ مَا نَوَاهُ بِهِجْرَتِهِ نِهَايَةُ الْمَطْلُوبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِطَلَبِ دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ تَاجِرٌ، وَالثَّانِي خَاطِبٌ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِمُهَاجِرٍ. وَفِي قَوْلِهِ: «إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» تَحْقِيرٌ لِمَا طَلَبَهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَاسْتِهَانَةٌ بِهِ، حَيْثُ لَمْ يُذْكَرْ بِلَفْظِهِ. وَأَيْضًا فَالْهِجْرَةُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاحِدَةٌ فَلَا تَعَدُّدَ فِيهَا، فَلِذَلِكَ أَعَادَ الْجَوَابَ فِيهَا بِلَفْظِ الشَّرْطِ. وَالْهِجْرَةُ لِأُمُورِ الدُّنْيَا لَا تَنْحَصِرُ، فَقَدْ يُهَاجِرُ الْإِنْسَانُ لِطَلَبِ دُنْيَا مُبَاحَةٍ تَارَةً، وَمُحَرَّمَةٍ تَارَةً، وَأَفْرَادُ مَا يُقْصَدُ بِالْهِجْرَةِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا لَا تَنْحَصِرُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: «فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ،» يَعْنِي كَائِنًا مَا كَانَ. وَقَدْ رُوِيَ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] الْآيَةَ (الْمُمْتَحَنَةِ: 10) . قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَلَّفَهَا بِاللَّهِ: مَا خَرَجَتْ مِنْ بُغْضِ زَوْجٍ، وَبِاللَّهِ: مَا خَرَجَتْ رَغْبَةً بِأَرْضٍ عَنْ أَرْضٍ، وَبِاللَّهِ: مَا خَرَجَتِ الْتِمَاسَ دُنْيَا، وَبِاللَّهِ: مَا خَرَجَتْ إِلَّا

حُبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ "، وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي بَعْضِ نُسَخِ كِتَابِهِ مُخْتَصَرًا. وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ فِي كِتَابِهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ - هُوَ أَبُو وَائِلٍ - قَالَ: خَطَبَ أَعْرَابِيٌّ مِنَ الْحَيِّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا: أَمُّ قَيْسٍ، فَأَبَتْ أَنْ تُزَوِّجَهُ حَتَّى يُهَاجِرَ، فَهَاجَرَ، فَتَزَوَّجَتْهُ، فَكُنَّا نُسَمِّيهِ مُهَاجِرَ أَمِّ قَيْسٍ. قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ: مَنْ هَاجَرَ يَبْتَغِي شَيْئًا، فَهُوَ لَهُ. وَهَذَا السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا كَانَ فِي عَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَكِنْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَ فِينَا رَجُلٌ خَطَبَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا: أُمُّ قَيْسٍ فَأَبَتْ أَنْ تَزَوَّجَهُ حَتَّى يُهَاجِرَ، فَهَاجَرَ، فَتَزَوَّجَهَا، فَكُنَّا نُسَمِّيهِ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ هَاجَرَ لِشَيْءٍ فَهُوَ لَهُ. وَقَدِ اشْتَهَرَ أَنَّ قِصَّةَ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ هِيَ كَانَتْ سَبَبَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا،» وَذَكَرَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ

فِي كُتُبِهِمْ، وَلَمْ نَرَ لِذَلِكَ أَصْلًا بِإِسْنَادٍ يَصِحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ كَالْهِجْرَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَصَلَاحُهَا وَفَسَادُهَا بِحَسَبِ النِّيَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهَا، كَالْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اخْتِلَافِ نِيَّاتِ النَّاسِ فِي الْجِهَادِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ مِنَ الرِّيَاءِ، وَإِظْهَارِ الشُّجَاعَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ: أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فَخَرَجَ بِهَذَا كُلُّ مَا سَأَلُوا عَنْهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ. فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيَرَى مَكَانَهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: «الرَّجُلُ يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً» . وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شَيْءَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» .

وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَجْرَ لَهُ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا أَجْرَ لَهُ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ «الْغَزْوُ غَزْوَانِ، فَأَمَّا مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ، وَأَطَاعَ الْإِمَامَ، وَأَنْفَقَ الْكَرِيمَةَ، وَيَاسَرَ الشَّرِيكَ، وَاجْتَنَبَ الْفَسَادَ، فَإِنَّ نَوْمَهُ وَنُبْهَهُ أَجْرٌ كُلُّهُ، وَأَمَّا مَنْ غَزَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَسُمْعَةً، وَعَصَى الْإِمَامَ، وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ بِالْكَفَافِ.» وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْجِهَادِ وَالْغَزْوِ، فَقَالَ: إِنْ قَاتَلْتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، بَعَثَكَ اللَّهُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، وَإِنْ قَاتَلْتَ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا، بَعَثَكَ اللَّهُ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا، عَلَى أَيِّ حَالٍ قَاتَلْتَ أَوْ قُتِلْتَ بَعَثَكَ اللَّهُ عَلَى تِيكَ الْحَالِ» .

وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ، لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ، لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ، قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ، لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.» وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا بَلَغَهُ هَذَا الْحَدِيثُ، بَكَى حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود: 15 - 16] (هُودٍ: 15 - 16) . وَقَدْ وَرَدَ الْوَعِيدُ عَلَى تَعَلُّمِ الْعِلْمِ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ، كَمَا خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ

يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يَعْنِي: رِيحَهَا. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ.» وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَحُذَيْفَةَ، وَجَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَفْظُ حَدِيثِ جَابِرٍ: «لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَالنَّارَ النَّارَ.» وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِثَلَاثٍ: لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِتُجَادِلُوا بِهِ الْفُقَهَاءَ، أَوْ لِتَصْرِفُوا بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ، وَابْتَغُوا بِقَوْلِكُمْ وَفِعْلِكُمْ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى وَيَذْهَبُ مَا سِوَاهُ. وَقَدْ وَرَدَ الْوَعِيدُ عَلَى الْعَمَلِ لِغَيْرِ اللَّهِ عُمُومًا، كَمَا خَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ

بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَمَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ أَقْسَامٌ: فَتَارَةً يَكُونُ رِيَاءً مَحْضًا، بِحَيْثُ لَا يُرَادُ بِهِ سِوَى مُرَاءَاتِ الْمَخْلُوقِينَ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، كَحَالِ الْمُنَافِقِينَ فِي صَلَاتِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142] (النِّسَاءِ: 142) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ - الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ - الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 4 - 6] (الْمَاعُونِ: 4 - 6) . وَكَذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَفَّارَ بِالرِّيَاءِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال: 47] (الْأَنْفَالِ: 47) . وَهَذَا الرِّيَاءُ الْمَحْضُ لَا يَكَادُ يَصْدُرُ مِنْ مُؤْمِنٍ فِي فَرْضِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَقَدْ يَصْدُرُ فِي الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ أَوِ الْحَجِّ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، أَوِ الَّتِي يَتَعَدَّى نَفْعُهَا، فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ فِيهَا عَزِيزٌ، وَهَذَا الْعَمَلُ لَا يَشُكُّ مُسْلِمٌ أَنَّهُ حَابِطٌ وَأَنَّ صَاحِبَهُ يَسْتَحِقُّ الْمَقْتَ مِنَ اللَّهِ وَالْعُقُوبَةَ. وَتَارَةً يَكُونُ الْعَمَلُ لِلَّهِ، وَيُشَارِكُهُ الرِّيَاءُ، فَإِنْ شَارَكَهُ مِنْ أَصْلِهِ فَالنُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ وَحُبُوطِهِ أَيْضًا. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشَرِيكَهُ» وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلَفْظُهُ: فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ.

وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ،، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى يُرَائِي، فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ صَامَ يُرَائِي، فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرَائِي، فَقَدْ أَشْرَكَ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ قَسِيمٍ لِمَنْ أَشْرَكَ بِي شَيْئًا، فَإِنَّ جُدَّةَ عَمَلِهِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ لِشَرِيكِهِ الَّذِي أَشْرَكَ بِهِ أَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فُضَالَةَ - وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ» . وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ حَدِيثِ الضَّحَاكِ بْنِ قَيْسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ، فَمَنْ أَشْرَكَ مَعِي شَرِيكًا، فَهُوَ لِشَرِيكِهِ. يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَخْلِصُوا أَعْمَالَكُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَا أُخْلِصَ لَهُ، وَلَا تَقُولُوا: هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ، فَإِنَّهَا لِلرَّحِمِ، وَلَيْسَ لِلَّهِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِوُجُوهِكُمْ، فَإِنَّهَا لِوُجُوهِكُمْ، وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهَا شَيْءٌ»

وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا شَيْءَ لَهُ فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا شَيْءَ لَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» . وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّى أَقِفُ الْمَوْقِفَ أُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُرِيدُ أَنْ يُرَى مَوْطِنِي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] » (الْكَهْفِ: 110) . وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّ الْعَمَلَ إِذَا خَالَطَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّيَاءِ كَانَ بَاطِلًا: طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَغَيْرُهُمْ. وَفِي مَرَاسِيلِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلًا فِيهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ رِيَاءٍ» . وَلَا نَعْرِفُ عَنِ السَّلَفِ فِي هَذَا خِلَافًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. فَإِنْ خَالَطَ نِيَّةَ الْجِهَادِ مَثَلًا نِيَّةٌ غَيْرُ الرِّيَاءِ، مِثْلُ أَخْذِهِ أُجْرَةً لِلْخِدْمَةِ، أَوْ أَخْذِ

شَيْءٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ، أَوِ التِّجَارَةَ، نَقَصَ بِذَلِكَ أَجْرُ جِهَادِهِمْ، وَلَمْ يُبْطَلْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو،، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الْغُزَاةَ إِذَا غَنِمُوا غَنِيمَةً، تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَغْنَمُوا شَيْئًا، تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ» . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى أَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ بِجِهَادِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ، وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي الْجِهَادِ إِلَّا الدُّنْيَا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: التَّاجِرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُكَارِيُّ أَجْرُهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا يَخْلُصُ مِنْ نِيَّتِهِمْ فِي غُزَاتِهِمْ، وَلَا يَكُونُ مِثْلَ مَنْ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لَا يَخْلِطُ بِهِ غَيْرَهُ. وَقَالَ أَيْضًا فِيمَنْ يَأْخُذُ جُعْلًا عَلَى الْجِهَادِ: إِذَا لَمْ يَخْرُجْ لِأَجْلِ الدَّرَاهِمِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ، كَأَنَّهُ خَرَجَ لِدِينِهِ، فَإِنْ أُعْطِيَ شَيْئًا، أَخَذَهُ. وَكَذَا رُوِيَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: إِذَا أَجْمَعَ أَحَدُكُمْ عَلَى الْغَزْوِ، فَعَوَّضَهُ اللَّهُ رِزْقًا، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ أَحَدُكُمْ إِنْ أُعْطِيَ دِرْهَمًا غَزَا، وَإِنْ مُنِعَ دِرْهَمًا مَكَثَ، فَلَا خَيْرَ فِي ذَلِكَ. وَكَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا كَانَتْ نِيَّةُ الْغَازِي عَلَى الْغَزْوِ، فَلَا أَرَى بَأْسًا. وَهَكَذَا يُقَالُ فِيمَنْ أَخَذَ شَيْئًا فِي الْحَجِّ لِيَحُجَّ بِهِ: إِمَّا عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ عَنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي حَجِّ الْجَمَّالِ وَحَجِّ الْأَجِيرِ وَحَجِّ التَّاجِرِ: هُوَ تَمَامٌ لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ قَصْدَهُمُ الْأَصْلِيَّ كَانَ هُوَ الْحَجَّ دُونَ التَّكَسُّبِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَصْلُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، ثُمَّ طَرَأَتْ عَلَيْهِ نِيَّةُ الرِّيَاءِ، فَإِنْ كَانَ خَاطِرًا

وَدَفَعَهُ، فَلَا يَضُرُّهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنِ اسْتَرْسَلَ مَعَهُ، فَهَلْ يُحْبَطُ بِهِ عَمَلُهُ أَمْ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ وَيُجَازَى عَلَى أَصْلِ نِيَّتِهِ؟ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ قَدْ حَكَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَرَجَّحَا أَنَّ عَمَلَهُ لَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُجَازَى بِنِيَّتِهِ الْأُولَى وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَيُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " مَرَاسِيلِهِ " عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَنِي سَلَمَةَ كُلَّهُمْ يُقَاتِلُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ لِلدُّنْيَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ نَجْدَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فَأَيُّهُمُ الشَّهِيدُ؟ قَالَ: كُلُّهُمْ إِذَا كَانَ أَصْلُ أَمْرِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا» . وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي عَمَلٍ يَرْتَبِطُ آخِرُهُ بِأَوَّلِهِ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، فَأَمَّا مَا لَا ارْتِبَاطَ فِيهِ كَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَإِنْفَاقِ الْمَالِ وَنَشْرِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ بِنِيَّةِ الرِّيَاءِ الطَّارِئَةِ عَلَيْهِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْهَاشِمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رُبَّمَا أُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ وَلِي نِيَّةٌ، فَإِذَا أَتَيْتُ عَلَى بَعْضِهِ، تَغَيَّرَتْ نِيَّتِي، فَإِذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّاتٍ. وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا الْجِهَادُ، كَمَا فِي مُرْسَلِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، فَإِنَّ الْجِهَادَ يَلْزَمُ بِحُضُورِ الصَّفِّ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ حِينَئِذٍ، فَيَصِيرُ كَالْحَجِّ. فَأَمَّا إِذَا عَمِلَ الْعَمَلَ لِلَّهِ خَالِصًا، ثُمَّ أَلْقَى اللَّهُ لَهُ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، فَفَرِحَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَاسْتَبْشَرَ بِذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ.

وَفِي هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ «سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَعِنْدَهُ: «الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ فَيُحِبُّهُ النَّاسُ عَلَيْهِ» . وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ، فَيَسُرُّهُ، فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ، أَعْجَبَهُ، فَقَالَ: لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ السِّرِّ، وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ» . وَلْنَقْتَصِرَ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَالرِّيَاءِ، فَإِنَّ فِيهِ كِفَايَةً. وَبِالْجُمْلَةِ، فَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ: لَيْسَ عَلَى النَّفْسِ شَيْءٌ أَشَقَّ مِنَ الْإِخْلَاصِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِيهِ نَصِيبٌ. وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ الرَّازِيُّ: أَعَزُّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا الْإِخْلَاصُ، وَكَمْ أَجْتَهِدُ فِي إِسْقَاطِ الرِّيَاءِ عَنْ قَلْبِي، وَكَأَنَّهُ يَنْبُتُ فِيهِ عَلَى لَوْنٍ آخَرَ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تُبْتُ إِلَيْكَ مِنْهُ، ثُمَّ عُدْتُ فِيهِ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا جَعَلْتُهُ لَكَ عَلَى نَفْسِي، ثُمَّ لَمْ أَفِ لَكَ بِهِ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا زَعَمْتُ أَنِّي أَرَدْتُ بِهِ وَجْهَكَ، فَخَالَطَ قَلْبِي مِنْهُ مَا قَدْ عَلِمْتَ.

فَصْلٌ وَأَمَّا النِّيَّةُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ، وَهُوَ أَنَّ تَمْيِيزَ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْعَادَاتِ، وَتَمْيِيزَ الْعَادَاتِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، فَإِنَّ الْإِمْسَاكَ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يَقَعُ تَارَةً حَمِيَّةً، وَتَارَةً لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَكْلِ، وَتَارَةً تَرْكًا لِلشَّهَوَاتِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَحْتَاجُ فِي الصِّيَامِ إِلَى نِيَّةٍ لِيَتَمَيَّزَ بِذَلِكَ عَنْ تَرْكِ الطَّعَامِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ. وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ مِنْهَا فَرْضٌ، وَمِنْهَا نَفْلٌ. وَالْفَرْضُ يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا، فَإِنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَالصَّوْمُ الْوَاجِبُ تَارَةً يَكُونُ صِيَامَ رَمَضَانَ، وَتَارَةً صِيَامَ كَفَّارَةٍ، أَوْ عَنْ نَذْرٍ، وَلَا يَتَمَيَّزُ هَذَا كُلُّهُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ، تَكُونُ نَفْلًا وَتَكُونُ فَرْضًا، وَالْفَرْضُ مِنْهُ زَكَاةٌ، وَمِنْهُ كَفَّارَةٌ، وَلَا يَتَمَيَّزُ ذَلِكَ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى» . وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُوجِبُ تَعْيِينَ النِّيَّةِ لِلصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، بَلْ يَكْفِي عِنْدَهُ أَنْ يَنْوِيَ فَرْضَ الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ تَسْمِيَتَهُ فِي الْحَالِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ، عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَنَسِيَ عَيْنَهَا، أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ ثَلَاثَ صَلَوَاتٍ: الْفَجْرَ وَالْمَغْرِبَ وَرُبَاعِيَّةً وَاحِدَةً. وَكَذَلِكَ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ تَعْيِينِيَّةٍ، أَيْضًا بَلْ تُجْزِئُ بِنِيَّةِ الصِّيَامِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِصِيَامٍ آخَرَ

وَهُوَ أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَرُبَّمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ بِالْكُلِّيَّةِ، لِتَعْيِينِهِ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ كَرَدِّ الْوَدَائِعِ، وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ الزَّكَاةَ كَذَلِكَ وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهَا تُجْزِئُ بِنِيَّةِ الصَّدَقَةِ الْمُطْلَقَةِ كَالْحَجِّ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ تَصَدَّقَ بِالنِّصَابِ كُلِّهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ أَجْزَأَهُ عَنْ زَكَاتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا، يُلَبِّي بِالْحَجِّ عَنْ رَجُلٍ، فَقَالَ لَهُ أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَذِهِ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنِ الرَّجُلِ» . وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّهُ صَحِيحٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَأَخَذَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا، فِي أَنَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ تَسْقُطُ بِنِيَّةِ الْحَجِّ مُطْلَقًا، سَوَاءً نَوَى التَّطَوُّعَ أَوْ غَيْرَهُ، وَلَا يَشْتَرِطُ لِلْحَجِّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ، فَمَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَجَّ عَنْ نَذْرِهِ، أَوْ نَفْلًا وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ عَنْهَا، وَقَدْ ثَبَتَ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَعْدَمَا دَخَلُوا مَعَهُ، وَطَافُوا وَسَعَوْا أَنْ يَفْسَخُوا حَجَّهُمْ وَيَجْعَلُوهُ عُمْرَةً، وَكَانَ مِنْهُمُ الْقَارِنُ وَالْمُفْرِدُ، وَإِنَّمَا كَانَ طَوَافُهُمْ عِنْدَ قُدُومِهِمْ طَوَافَ الْقُدُومِ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ، وَقَدْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ

طَوَافَ عُمْرَةٍ وَهُوَ فَرْضٌ» ، وَقَدْ أَخَذَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي فَسْخِ الْحَجِّ، وَعَمِلَ بِهِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى أَصْلِهِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ تَعْيِينَ الطَّوَافِ الْوَاجِبِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِالنِّيَّةِ، وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَقَدْ يُفَرِّقُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ طَوَافُهُ فِي إِحْرَامٍ انْقَلَبَ، كَالْإِحْرَامِ الَّذِي يَفْسَخُهُ، وَيَجْعَلُهُ عُمْرَةً، فَيَنْقَلِبُ الطَّوَافُ فِيهِ تَبَعًا لِانْقِلَابِ الْإِحْرَامِ، كَمَا يَنْقَلِبُ الطَّوَافُ فِي الْإِحْرَامِ الَّذِي نَوَى بِهِ التَّطَوُّعَ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، تَبَعًا لِانْقِلَابِ إِحْرَامِهِ مِنْ أَصْلِهِ، وَوُقُوعِهِ، عَنْ فَرْضِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ بِنِيَّةِ الْوَدَاعِ، أَوِ التَّطَوُّعِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ بِهِ الْفَرْضَ، وَلَمْ يَنْقَلِبْ فَرْضًا تَبَعًا لِانْقِلَابِ إِحْرَامِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّ «رَجُلًا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ وَضَعَ صَدَقَتَهُ عِنْدَ رَجُلٍ، فَجَاءَ ابْنُ صَاحِبِ الصَّدَقَةِ، فَأَخَذَهَا مِمَّنْ هِيَ عِنْدَهُ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ أَبُوهُ، فَخَاصَمَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَصَدِّقِ: لَكَ مَا نَوَيْتَ، وَقَالَ لِلْآخِذِ: لَكَ مَا أَخَذْتَ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَدْ أَخَذَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَعَمِلَ بِهِ فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يَمْنَعُ مَنْ دَفَعَ الصَّدَقَةَ إِلَى وَلَدِهِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ مُحَابَاةً، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى وَلَدِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، كَانَتِ الْمُحَابَاةُ مُنْتَفِيَةً، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلِهَذَا لَوْ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إِلَى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا، وَكَانَ غَنِيًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَجْزَأَتْهُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا دَفَعَ إِلَى مَنْ يَعْتَقِدُ اسْتِحْقَاقَهُ، وَالْفَقْرُ أَمْرٌ خَفِيٌّ، لَا يَكَادُ يَطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَأَمَّا الطَّهَارَةُ، فَالْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لَهَا مَشْهُورٌ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لِلصَّلَاةِ هَلْ هِيَ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، أَمْ هِيَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ كَإِزَالَةِ

النَّجَاسَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ؟ فَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهَا النِّيَّةَ، جَعَلَهَا كَسَائِرِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، وَمَنِ اشْتَرَطَ لَهَا النِّيَّةَ، جَعَلَهَا عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً، فَإِذَا كَانَتْ عِبَادَةً فِي نَفْسِهَا، لَمْ تَصِحَّ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ تَكَاثُرُ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْوُضُوءَ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ وَالْخَطَايَا، وَأَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ كَمَا أَمَرَ، كَانَ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، حَيْثُ رَتَّبَ عَلَيْهِ تَكْفِيرَ الذُّنُوبِ، وَالْوُضُوءُ الْخَالِي مِنَ النِّيَّةِ لَا يُكَفِّرُ شَيْئًا مِنَ الذُّنُوبِ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ، وَلَا تَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ، وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ بَقِيَّةِ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ، كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ مَا وَرَدَ فِي الْوُضُوءِ مِنَ الثَّوَابِ، وَلَوْ شَرَكَ بَيْنَ نِيَّةِ الْوُضُوءِ، وَبَيْنَ قَصْدِ التَّبَرُّدِ، أَوْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ أَوِ الْوَسَخِ، أَجْزَأَهُ فِي الْمَنْصُوصِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، لِأَنَّ هَذَا الْقَصْدَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ، وَلِهَذَا لَوْ قَصَدَ مَعَ رَفْعِ الْحَدَثِ تَعْلِيمَ الْوُضُوءِ، لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصِدُ أَحْيَانًا بِالصَّلَاةِ تَعْلِيمَهَا لِلنَّاسِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ، كَمَا قَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . وَمِمَّا تَدْخُلُ النِّيَّةُ فِيهِ مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ: مَسَائِلُ الْأَيْمَانِ. فَلَغْوُ الْيَمِينِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِالْقَلْبِ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، قَالَ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ

اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] (الْبَقَرَةِ: 225) . وَكَذَلِكَ يَرْجِعُ فِي الْأَيْمَانِ إِلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ وَمَا قَصَدَ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ عَتَاقٍ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ نَوَى مَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ لَفْظِهِ، فَإِنَّهُ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ مَشْهُورَانِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَيْهِ رَجُلٌ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: شَبِّهْنِي، قَالَ: كَأَنَّكِ ظَبْيَةٌ، كَأَنَّكِ حَمَامَةٌ، فَقَالَتْ: لَا أَرْضَى حَتَّى تَقُولَ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ طَالِقٌ، فَقَالَ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: خُذْ بِيَدِهَا فَهِيَ امْرَأَتُكَ. خَرَّجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ: أَرَادَ النَّاقَةَ تَكُونُ مَعْقُولَةً، ثُمَّ تُطْلَقُ مِنْ عِقَالِهَا وَيُخْلَى عَنْهَا، فَهِيَ خَلِيَّةٌ مِنَ الْعِقَالِ، وَهِيَ طَالِقٌ، لِأَنَّهَا قَدْ طُلِّقَتْ مِنْهُ، فَأَرَادَ الرَّجُلُ ذَلِكَ، فَأَسْقَطَ عَنْهُ عُمَرُ الطَّلَاقَ لِنِيَّتِهِ. قَالَ: وَهَذَا أَصْلٌ لِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ يُشْبِهُ لَفْظَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَهُوَ يَنْوِي غَيْرَهُ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَفِي الْحُكْمِ عَلَى تَأْوِيلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَيُرْوَى عَنْ سُمَيْطٍ السُّدُوسِيِّ، قَالَ: خَطَبْتُ امْرَأَةً، فَقَالُوا: لَا نُزَوِّجُكَ حَتَّى تُطَلِّقَ امْرَأَتَكَ، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا، فَزَوِّجُونِي ثُمَّ نَظَرُوا، فَإِذَا امْرَأَتِي عِنْدِي، فَقَالُوا أَلَيْسَ قَدْ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا؟ فَقُلْتُ: كَانَ عِنْدِي فُلَانَةٌ، فَطَلَّقْتُهَا، وَفُلَانَةٌ فَطَلَّقْتُهَا، فَأَمَّا هَذِهِ، فَلَمْ أُطَلِّقْهَا، فَأَتَيْتُ شَقِيقَ بْنَ ثَوْرٍ وَهُوَ يُرِيدُ الْخُرُوجَ إِلَى

عُثْمَانَ وَافِدًا، فَقُلْتُ لَهُ: سَلْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ هَذِهِ، فَخَرَجَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: نِيَّتُهُ. خَرَّجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " كِتَابِ الطَّلَاقِ " وَحَكَى إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: حَدِيثُ السُّمَيْطِ تَعْرِفُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، السُّدُوسِيُّ وَإِنَّمَا جَعَلَ نِيَّتَهُ بِذَلِكَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ شَقِيقٌ لِعُثْمَانَ، فَجَعَلَهَا نِيَّتَهُ. فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ ظَالِمًا، وَنَوَى خِلَافَ مَا حَلَّفَهُ عَلَيْهِ غَرِيمُهُ، لَمْ تَنْفَعْهُ نِيَّتُهُ، وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ» ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الظَّالِمِ، فَأَمَّا الْمَظْلُومُ، فَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ. وَقَدْ خَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُوَيْدِ بْنِ حَنْظَلَةَ، قَالَ: «خَرَجْنَا نُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ، فَتَحَرَّجَ النَّاسُ أَنْ يَحْلِفُوا، فَحَلَفْتُ أَنَا أَنَّهُ أَخِي، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ الْقَوْمَ تَحَرَّجُوا أَنْ يَحْلِفُوا، وَحَلَفْتُ أَنَا أَنَّهُ أَخِي، فَقَالَ: صَدَقْتَ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» . وَكَذَلِكَ تَدْخُلُ النِّيَّةُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَإِذَا أَتَى بِلَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلطَّلَاقِ أَوِ الْعَتَاقِ، فَلَابُدَّ لَهُ مِنَ النِّيَّةِ. وَهَلْ يَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ دَلَالَةُ الْحَالِ مِنْ غَضَبٍ أَوْ سُؤَالِ الطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ أَمْ لَا؟

فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَهَلْ يَقَعُ بِذَلِكَ الطَّلَاقُ فِي الْبَاطِنِ كَمَا لَوْ نَوَاهُ، أَمْ يَلْزَمُ بِهِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ فَقَطْ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ أَيْضًا، وَلَوْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِكِنَايَةٍ ظَاهِرَةٍ، كَالْبَتَّةِ وَنَحْوِهَا، فَهَلْ يَقَعُ بِهِ الثَّلَاثُ أَوْ وَاحِدَةٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الثَّلَاثُ مَعَ إِطْلَاقِ النِّيَّةِ، فَإِنْ نَوَى بِهِ مَا دُونَ الثَّلَاثِ، وَقَعَ بِهِ مَا نَوَاهُ، وَحُكِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ أَيْضًا. وَلَوْ رَأَى امْرَأَةً، يَظُنُّهَا امْرَأَتَهُ، فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ بَانَتْ أَجْنَبِيَّةً، طُلِّقَتِ امْرَأَتُهُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ، وَحُكِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَلَوْ كَانَ الْعَكْسُ، بِأَنْ رَأَى امْرَأَةً ظَنَّهَا أَجْنَبِيَّةً، فَطَلَّقَهَا، فَبَانَتِ امْرَأَتَهُ، فَهَلْ تُطَلَّقُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ، عَنْ أَحْمَدَ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ. وَلَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَنَهَى إِحْدَاهُمَا عَنِ الْخُرُوجِ، ثُمَّ رَأَى امْرَأَةً قَدْ خَرَجَتْ، فَظَنَّهَا الْمَنْهِيَّةَ، فَقَالَ لَهَا: فُلَانَةُ خَرَجْتِ؟ أَنْتِ طَالِقٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا، فَقَالَ: الْحَسَنُ تُطَلَّقُ الْمَنْهِيَّةُ، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي نَوَاهَا، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: تُطَلَّقَانِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا تُطَلَّقُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ: أَنَّهُ تُطَلَّقُ الْمَنْهِيَّةُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ نَوَى طَلَاقَهَا. وَهَلْ تُطَلَّقُ الْمُوَاجَهَةُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا تُطَلَّقُ: هَلْ تُطَلَّقُ فِي الْحُكْمِ فَقَطْ، أَمْ فِي الْبَاطِنِ أَيْضًا؟ عَلَى طَرِيقَتَيْنِ لَهُمْ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا فِي الْبَاطِنِ التَّوَصُّلُ إِلَى مَا هُوَ مُحَرَّمٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، كَعُقُودِ الْبُيُوعِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا مَعْنَى الرِّبَا وَنَحْوِهَا، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ إِنَّمَا نَوَى بِهِ الرِّبَا لَا الْبَيْعَ " «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» ". وَمَسَائِلُ النِّيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفِقْهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِي سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الْفِقْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالنِّيَّةُ: هِيَ قَصْدُ الْقَلْبِ، وَلَا يَجِبُ التَّلَفُّظَ بِمَا فِي الْقَلْبِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَخَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَهُ قَوْلًا بِاشْتِرَاطِ التَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ لِلصَّلَاةِ، وَغَلَّطَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ، وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي التَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، فَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَحَبَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ. وَلَا يُعْلَمُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ نَقْلٌ خَاصٌّ عَنِ السَّلَفِ، وَلَا عَنِ الْأَئِمَّةِ إِلَّا فِي الْحَجِّ وَحْدَهُ، فَإِنَّ مُجَاهِدًا قَالَ: إِذَا أَرَادَ الْحَجَّ، يُسَمِّي مَا يُهِلُّ بِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يُسَمِّيهِ فِي التَّلْبِيَةِ، وَهَذَا لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَذْكُرُ نُسُكَهُ فِي تَلْبِيَتِهِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي أَنَّهُ يَقُولُ عِنْدَ إِرَادَةِ عَقْدِ الْإِحْرَامِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ، كَمَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَكَلَامُ مُجَاهِدٍ لَيْسَ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَكْثَرُ السَّلَفِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالنَّخَعِيُّ: تُجْزِئُهُ النِّيَّةُ عِنْدَ الْإِهْلَالِ، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا عِنْدَ إِحْرَامِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ، فَقَالَ لَهُ: أَتُعْلِمُ النَّاسَ؟ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ؟ . وَنَصَّ مَالِكٌ عَلَى مِثْلِ هَذَا، وَأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُسَمِّيَ مَا أَحْرَمَ بِهِ. حَكَاهُ صَاحِبُ كِتَابِ " تَهْذِيبِ الْمُدَوَّنَةِ " مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: أَتَقُولُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ - يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ - شَيْئًا؟ قَالَ: لَا. وَهَذَا قَدْ يَدْخُلُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَتَلَفَّظُ بِالنِّيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[الحديث الثاني بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر]

[الْحَدِيثُ الثَّانِي بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ]

الْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ". قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ. قَالَ: " أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ". قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: " أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ ". قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ؟ . قَالَ: " مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ". قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا؟ . قَالَ: " أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ ".

ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: " يَا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ . قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلِمٌ عَنِ الْبُخَارِيِّ بِإِخْرَاجِهِ، فَخَرَّجَهُ مِنْ طَرِيقِ كَهْمَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِرُيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدُ الْجُهَنِيُّ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجِّينَ أَوْ مُعْتَمِرِينَ، فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ، فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي، أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ، وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ. فَقَالَ: إِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي،

وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ، مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ. ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. ثُمَّ خَرَّجَهُ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى، بَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، وَذَكَرَ أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا زِيَادَةً وَنَقْصًا. وَخَرَّجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، وَقَدْ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَهُ، وَفِيهِ زِيَادَاتٌ مِنْهَا: فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: " «وَتَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَأَنْ تُتِمَّ الْوُضُوءَ [وَتَصُومَ رَمَضَانَ] " قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَنَا مُسْلِمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ» . وَقَالَ فِي الْإِيمَانِ: " «وَتُؤْمِنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْمِيزَانِ "، وَقَالَ فِيهِ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَنَا مُؤْمِنٌ؟ قَالَ: " نَعَمْ» ". وَقَالَ فِي آخِرِهِ: " «هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ لِيُعَلِّمَكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ، خُذُوا عَنْهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا شُبِّهَ عَلَيَّ مُنْذُ أَتَانِي قَبْلَ مَرَّتَيْ هَذِهِ، وَمَا عَرَفْتُهُ حَتَّى وَلَّى» ". وَخَرَّجَنَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا الْإِيمَانُ؟ فَقَالَ: " الْإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكِتَابِهِ، وَبِلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: " الْإِسْلَامُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ لَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ "

قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: " أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ " قَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ، عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا رَأَيْتَ الْعُرَاةَ الْحُفَاةَ رُؤُوسَ النَّاسِ، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْبَهْمِ فِي الْبُنْيَانِ، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] (لُقْمَانَ: 34) . قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَلَيَّ بِالرَّجُلِ "، فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوهُ، فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ» ". وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ بِسِيَاقٍ أَتَمَّ مِنْ هَذَا، وَفِيهِ فِي خِصَالِ الْإِيمَانِ: " «وَتُؤْمِنَ

بِالْقَدَرِ كُلِّهِ» " «وَقَالَ فِي الْإِحْسَانِ: " أَنْ تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» ". وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مَسْنَدِهِ " مِنْ حَدِيثِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْ حَدِيثِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَامِرٍ أَوْ أَبِي عَامِرٍ، أَوْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي حَدِيثِهِ قَالَ: «وَنَسْمَعُ رَجْعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَرَى الَّذِي يُكَلِّمُهُ، وَلَا نَسْمَعُ كَلَامَهُ» ، وَهَذَا يَرُدُّهُ حَدِيثُ عُمَرَ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ أَصَحُّ. وَقَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَهُوَ حَدِيثٌ عَظِيمٌ جِدًّا، يَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الدِّينِ كُلِّهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِهِ: " «هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» " بَعْدَ أَنْ شَرَحَ دَرَجَةَ الْإِسْلَامِ، وَدَرَجَةَ الْإِيمَانِ، وَدَرَجَةَ الْإِحْسَانِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي تَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْإِيمَانِ وَعَكْسِهِ فَفِي حَدِيثِ

عُمَرَ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ بَدَأَ بِالسُّؤَالِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ بَدَأَ بِالسُّؤَالِ عَنِ الْإِيمَانِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْإِحْسَانِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. فَأَمَّا الْإِسْلَامُ، فَقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَهُوَ عَمَلُ اللِّسَانِ، ثُمَّ إِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ الْبَيْتِ لِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى عَمَلٍ بَدَنِيٍّ: كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَإِلَى عَمَلٍ مَالِيٍّ: وَهُوَ إِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَإِلَى مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا، كَالْحَجِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَعِيدِ عَنْ مَكَّةَ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ أَضَافَ إِلَى ذَلِكَ الِاعْتِمَارَ، وَالْغُسْلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَإِتْمَامَ الْوُضُوءِ، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَاهُنَا أُصُولَ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَنَا مُسْلِمٌ؟» قَالَ: " نَعَمْ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَمَّلَ الْإِتْيَانَ بِمَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ، صَارَ مُسْلِمًا حَقًّا، مَعَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِالشَّهَادَتَيْنِ، صَارَ مُسْلِمًا حُكْمًا، فَإِذَا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ، أُلْزِمَ بِالْقِيَامِ بِبَقِيَّةِ خِصَالِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَرَكَ الشَّهَادَتَيْنِ، خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَفِي خُرُوجِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي تَرْكِهِ بَقِيَّةَ مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ «رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: أَنْ تُطْعِمَ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» . وَفِي " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «إِنَّ لِلْإِسْلَامِ

صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَسْلِيمُكَ عَلَى بَنِي آدَمَ إِذَا لَقِيتَهُمْ وَتَسْلِيمُكَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِمْ، فَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا، فَهُوَ سَهْمٌ مِنَ الْإِسْلَامِ تَرَكَهُ، وَمَنْ يَتْرُكْهُنَّ، فَقَدْ نَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ» . وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لِلْإِسْلَامِ ضِيَاءٌ وَعَلَامَاتٌ كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، فَرَأْسُهَا وَجِمَاعُهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَإِتْمَامُ الْوُضُوءِ، وَالْحُكْمُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَطَاعَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَتَسْلِيمُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَتَسْلِيمُكُمْ عَلَى أَهْلِيكُمْ إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَكُمْ، وَتَسْلِيمُكُمْ عَلَى بَنِي آدَمَ إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ» وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَلَعَلَّهُ مَوْقُوفٌ. وَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: الْإِسْلَامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ: الْإِسْلَامُ سَهْمٌ، وَالصَّلَاةُ سَهْمٌ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ، وَحَجُّ الْبَيْتِ سَهْمٌ، وَالْجِهَادُ سَهْمٌ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ سَهْمٌ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ سَهْمٌ، وَخَابَ مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ. وَخَرَّجَهُ الْبَزَّارُ مَرْفُوعًا، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ.

وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَّجَهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى حُذَيْفَةَ أَصَحُّ. قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَوْلُهُ: " الْإِسْلَامُ سَهْمٌ " يَعْنِي الشَّهَادَتَيْنِ، لِأَنَّهُمَا عَلَمُ الْإِسْلَامِ، وَبِهِمَا يَصِيرُ الْإِنْسَانُ مُسْلِمًا. وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ أَيْضًا، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا مَا خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا

وَعَلَى جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا، وَلَا تَعْوَجُّوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ، قَالَ وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ. وَالصِّرَاطُ: الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللَّهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ» زَادَ التِّرْمِذِيُّ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] (يُونُسَ: 25) . فَفِي هَذَا الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ، وَنَهَى عَنْ تَجَاوُزِ حُدُودِهِ، وَأَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَهُ. وَأَمَّا الْإِيمَانُ، فَقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالِاعْتِقَادَاتِ الْبَاطِنَةِ، فَقَالَ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْإِيمَانَ بِهَذِهِ الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ فِي مَوَاضِعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] (الْبَقَرَةِ: 285) . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] الْآيَةَ (الْبَقَرَةِ: 277) ، وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 3 - 4] (الْبَقَرَةِ: 3 - 4) . وَالْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ،

وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْكِتَابِ وَالْبَعْثِ، وَالْقَدَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَفَاصِيلِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ، مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِ الْيَوْمِ الْآخِرِ كَالْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ. وَقَدْ أَدْخَلَ فِي الْإِيمَانِ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ رَوَى ابْنُ عُمَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مُحْتَجًّا بِهِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْقَدَرَ، وَزَعَمَ أَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ: يَعْنِي أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ لَمْ يَسْبِقْ بِهِ سَابِقُ قَدَرٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ غَلَّظَ ابْنُ عُمَرَ عَلَيْهِمْ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ أَعْمَالُهُمْ بِدُونِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ. وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَبَقَ فِي عِلْمِهِ مَا يَعْمَلُهُ الْعِبَادُ مِنْ خَيْرٍ، وَشَرٍّ، وَطَاعَةٍ، وَمَعْصِيَةٍ، قَبْلَ خَلْقِهِمْ وَإِيجَادِهِمْ، وَمَنْ هُوَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ هُوَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَأَعَدَّ لَهُمُ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ جَزَاءً لِأَعْمَالِهِمْ قَبْلَ خَلْقِهِمْ وَتَكْوِينِهِمْ، وَأَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَأَحْصَاهُ، وَأَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ تَجْرِي عَلَى مَا سَبَقَ فِي عَمَلِهِ وَكِتَابِهِ. وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ كُلَّهَا مِنَ الْكُفْرِ، وَالْإِيمَانِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْعِصْيَانِ، وَشَاءَهَا مِنْهُمْ، فَهَذِهِ الدَّرَجَةُ يُثْبِتُهَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَيُنْكِرُهَا الْقَدَرِيَّةُ، وَالدَّرَجَةُ الْأُولَى أَثْبَتَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ، وَنَفَاهَا غُلَاتُهُمْ، كَمَعْبَدٍ الْجَهْنَيِّ، الَّذِي سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ مَقَالَتِهِ، وَكَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ: نَاظِرُوا الْقَدَرِيَّةَ بِالْعِلْمِ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ خُصِمُوا، وَإِنْ جَحَدُوهُ فَقَدْ كَفَرُوا، يُرِيدُونَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْعِلْمَ الْقَدِيمَ السَّابِقَ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَّمَهُمْ قَبْلَ خَلْقِهِمْ إِلَى شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ، وَكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي كِتَابٍ حَفِيظٍ، فَقَدْ كَذَّبَ بِالْقُرْآنِ، فَيَكْفُرُ بِذَلِكَ، وَإِنْ أَقَرُّوا بِذَلِكَ، وَأَنْكَرُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَفْعَالَ عِبَادِهِ، وَشَاءَهَا، وَأَرَادَهَا مِنْهُمْ إِرَادَةً كَوْنِيَّةً قَدَرِيَّةً، فَقَدْ خُصِمُوا، لِأَنَّ مَا أَقَرُّوا بِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَنْكَرُوهُ. وَفِي تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.

وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ الْعِلْمَ الْقَدِيمَ، فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ عَلَى تَكْفِيرِهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَجَعَلَ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا مِنَ الْإِسْلَامِ، لَا مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِيمَانَ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ، وَأَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ. وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ أَدْرَكَهُمْ. وَأَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى مَنْ أَخْرَجَ الْأَعْمَالَ مِنَ الْإِيمَانِ إِنْكَارًا شَدِيدًا. وَمِمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى قَائِلِهِ، وَجَعَلَهُ قَوْلًا مُحْدَثًا: سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَقَتَادَةُ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: هُوَ رَأْيٌ مُحْدَثٌ، أَدْرَكْنَا النَّاسَ عَلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ مَنْ مَضَى مِمَّنْ سَلَفَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ فَرَائِضُ وَشَرَائِعُ [وَحُدُودٌ] وَسُنَنٌ، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا، اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ. وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا، لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ". قِيلَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى دُخُولِ الْأَعْمَالِ فِي الْإِيمَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4] (الْأَنْفَالِ: 2 - 4) .

وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» . فَلَوْلَا أَنَّ تَرْكَ هَذِهِ الْكَبَائِرِ مِنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ، لَمَا انْتَفَى اسْمُ الْإِيمَانِ عَنْ مُرْتَكِبِ شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الِاسْمَ لَا يَنْتَفِى إِلَّا بِانْتِفَاءِ بَعْضِ أَرْكَانِ الْمُسَمَّى أَوْ وَاجِبَاتِهِ. وَأَمَّا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ النُّصُوصِ وَبَيْنَ حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَتَفْرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وَإِدْخَالِهِ الْأَعْمَالَ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ دُونَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ يَتَّضِحُ بِتَقْرِيرِ أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا

يَكُونُ شَامِلًا لِمُسَمَّيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ عِنْدَ إِفْرَادِهِ وَإِطْلَاقِهِ، فَإِذَا قُرِنَ ذَلِكَ الِاسْمُ بِغَيْرِهِ، صَارَ دَالًّا عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ، وَالِاسْمُ الْمَقْرُونُ بِهِ دَالٌّ عَلَى بَاقِيهَا، وَهَذَا كَاسْمِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، فَإِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا، دَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ، فَإِذَا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، دَلَّ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِ ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَالْآخَرُ عَلَى بَاقِيهَا، فَهَكَذَا اسْمُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ: إِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا، دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ وَدَلَّ بِانْفِرَادِهِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْآخَرُ بِانْفِرَادِهِ، فَإِذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا، دَلَّ أَحَدُهُمَا عَلَى بَعْضِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ، وَدَلَّ الْآخَرُ عَلَى الْبَاقِي. وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ الْجَبَلِ: قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَالْإِسْلَامُ فِعْلُ مَا فُرِضَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا ذُكِرَ كُلُّ اسْمٍ عَلَى حِدَتِهِ مَضْمُومًا إِلَى آخَرَ فَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا مُفْرَدَيْنِ، أُرِيدَ بِأَحَدِهِمَا مَعْنًى لَمْ يُرَدْ بِالْآخَرِ، وَإِذَا ذُكِرَ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ، شَمِلَ الْكُلَّ وَعَمَّهُمْ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِهِ " مَعَالِمِ السُّنَنِ "، وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ بَعْدِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الْإِيمَانَ عِنْدَ ذِكْرِهِ مُفْرَدًا فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْإِسْلَامَ الْمَقْرُونَ بِالْإِيمَانِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَفَسَّرَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ الْإِسْلَامَ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْإِيمَانَ، كَمَا فِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ "، عَنْ

عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَكَ لِلَّهِ، وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ، قَالَ: فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " الْإِيمَانُ " قَالَ: وَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: " أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ "، قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " الْهِجْرَةُ " قَالَ: فَمَا الْهِجْرَةُ؟ قَالَ: " أَنْ تَهْجُرَ السُّوءَ " قَالَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " الْجِهَادُ» ". فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ أَفْضَلَ الْإِسْلَامِ، وَأَدْخَلَ فِيهِ الْأَعْمَالَ. وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَظْهَرُ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ: هَلْ هُمَا وَاحِدٌ، أَوْ مُخْتَلِفَانِ؟ . فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، وَصَنَّفُوا فِي ذَلِكَ تَصَانِيفَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ: مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ بْنِ سُوَيْدٍ الرَّمْلِيِّ عَنْهُ، وَأَيُّوبُ فِيهِ ضَعْفٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْكِي عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا، كَأَبِي بَكْرِ بْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَغَيْرِهِ، وَقَدْ نُقِلَ هَذَا التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ قَتَادَةُ، وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ مَهْدِيٍّ، وَشَرِيكٌ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَغَيْرُهُمْ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي صِفَةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا. وَكَانَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ يَقُولَانِ: " مُسْلِمٌ " وَيَهَابَانِ " مُؤْمِنٌ ". وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَزُولُ الِاخْتِلَافُ، فَيُقَالُ: إِذَا أُفْرِدَ كُلٌّ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ بِالذِّكْرِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ، وَإِنْ قُرِنَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ.

وَالتَّحْقِيقُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ، وَإِقْرَارُهُ، وَمَعْرِفَتُهُ، وَالْإِسْلَامُ: هُوَ اسْتِسْلَامُ الْعَبْدِ لِلَّهِ، وَخُضُوعُهُ، وَانْقِيَادُهُ لَهُ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْعَمَلِ، وَهُوَ الدِّينُ، كَمَا سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْإِسْلَامَ دِينًا، وَفِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَالْإِحْسَانَ دِينًا، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الِاسْمَيْنِ إِذَا أُفْرِدَ دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ، وَإِنَّمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا حَيْثُ قُرِنَ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ بِالْآخَرِ. فَيَكُونُ حِينَئِذٍ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ: جِنْسَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ، وَبِالْإِسْلَامِ جِنْسَ الْعَمَلِ. وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ» . وَهَذَا لِأَنَّ الْأَعْمَالَ تَظْهَرُ عَلَانِيَةً، وَالتَّصْدِيقَ فِي الْقَلْبِ لَا يَظْهَرُ. «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ إِذَا صَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ: " اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا، فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا، فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ» "، لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْجَوَارِحِ، إِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ فِي الْحَيَاةِ، فَأَمَّا عِنْدَ الْمَوْتِ، فَلَا يَبْقَى غَيْرُ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ. وَمِنْ هُنَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ، فَإِنَّ مَنْ حَقَّقَ الْإِيمَانَ، وَرَسَخَ فِي قَلْبِهِ، قَامَ بِأَعْمَالِ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا وَإِنَّ فِي

الْجَسَدِ مُضْغَةٌ، إِذَا صَلُحَتْ، صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» فَلَا يَتَحَقَّقُ الْقَلْبُ بِالْإِيمَانِ إِلَّا وَتَنْبَعِثُ الْجَوَارِحُ فِي أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْإِيمَانُ ضَعِيفًا، فَلَا يَتَحَقَّقُ الْقَلْبُ بِهِ تَحَقُّقًا تَامًّا مَعَ عَمَلِ جَوَارِحِهِ بِأَعْمَالِ الْإِسْلَامِ، فَيَكُونُ مُسْلِمًا، وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ الْإِيمَانَ التَّامَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] (الْحُجُرَاتِ: 14) ، وَلَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ بَلْ

كَانَ إِيمَانُهُمْ ضَعِيفًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات: 14] (الْحُجُرَاتِ: 14) ، يَعْنِي لَا يَنْقُصُكُمْ مِنْ أُجُورِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ مَا يَقْبَلُ بِهِ أَعْمَالَهُمْ. وَكَذَلِكَ «قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا قَالَ لَهُ: لَمْ تُعْطِ فُلَانًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْ مُسْلِمٌ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُحَقِّقْ مَقَامَ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا

هُوَ فِي مَقَامِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَتَى ضَعُفَ الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ، لَزِمَ مِنْهُ ضَعْفُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ أَيْضًا، لَكِنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ يَنْفِى عَمَّنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» . وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ: هَلْ يُسَمَّى مُؤْمِنًا نَاقِصَ الْإِيمَانِ، أَوْ يُقَالُ: لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، لَكِنَّهُ مُسْلِمٌ، عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَأَمَّا اسْمُ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ بَعْضِ وَاجِبَاتِهِ، أَوِ انْتِهَاكِ بَعْضِ مُحَرَّمَاتِهِ، وَإِنَّمَا يُنْفَى بِالْإِتْيَانِ بِمَا يُنَافِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ نَفْيُ الْإِسْلَامِ عَمَّنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ، كَمَا يُنْفَى الْإِيمَانُ عَمَّنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ إِطْلَاقُ الْكُفْرِ عَلَى فِعْلِ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِطْلَاقُ النِّفَاقِ أَيْضًا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يُسَمَّى مُرْتَكِبُ الْكَبَائِرِ كَافِرًا كُفْرًا أَصْغَرَ أَوْ مُنَافِقًا النِّفَاقَ الْأَصْغَرَ، وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَجَازَ إِطْلَاقَ نَفْيِ اسْمِ الْإِسْلَامِ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَارِكُ الزَّكَاةِ بِمُسْلِمٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُ كَافِرًا بِذَلِكَ، خَارِجًا مِنَ الْإِسْلَامِ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِيمَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْحَجِّ، وَلَمْ يَحُجَّ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ كُفْرَهُمْ، وَلِهَذَا أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ

يَقُولُ: لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدُ، فَهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى كِتَابِيَّتِهِمْ. وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اسْمَ الْإِسْلَامِ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِوُجُودِ مَا يُنَافِيهِ، وَيَخْرُجُ عَنِ الْمِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَاسْمُ الْإِسْلَامِ إِذَا أُطْلِقَ أَوِ اقْتَرَنَ بِهِ الْمَدْحُ، دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ كُلُّهُ مِنَ التَّصْدِيقِ وَغَيْرِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ. وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ مَالِكٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً، فَغَارَتْ عَلَى قَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِنِّي مُسْلِمٌ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنَ السَّرِيَّةِ فَنُمِيَ الْحَدِيثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ أَبَى عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ مُؤْمِنًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» .

فَلَوْلَا أَنَّ الْإِسْلَامَ الْمُطْلَقَ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ بِالْأُصُولِ الْخَمْسَةِ، لَمْ يَصِرْ مَنْ قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ مُؤْمِنًا بِمُجَرَّدِ هَذَا الْقَوْلِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَلِكَةِ سَبَأٍ أَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] (النَّمْلِ: 44) ، وَأَخْبَرَ، عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ دَعَا بِالْمَوْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْمُطْلَقَ يَدْخُلُ فِيهِ مَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ مِنَ التَّصْدِيقِ. وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " «عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ؛ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَدِيُّ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، قُلْتُ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَتُؤْمِنُ بِالْأَقْدَارِ كُلِّهَا خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَحُلْوِهَا وَمُرِّهَا» فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ مِنَ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ إِنَّ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ نِزَاعٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِتْيَانَ بِلَفْظِهِمَا دُونَ التَّصْدِيقِ بِهِمَا، فَعُلِمَ أَنَّ التَّصْدِيقَ بِهِمَا دَاخِلٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ فَسَّرَ الْإِسْلَامَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] (آلِ عِمْرَانَ: 19) بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَأَمَّا إِذَا نُفِيَ الْإِيمَانُ عَنْ أَحَدٍ، وَأُثْبِتَ لَهُ الْإِسْلَامُ، كَالْأَعْرَابِ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُمْ رُسُوخُ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَتَثْبُتُ لَهُمُ الْمُشَارَكَةُ فِي أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ مَعَ نَوْعِ إِيمَانٍ يُصَحِّحُ لَهُمُ الْعَمَلَ، إِذْ لَوْلَا هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْإِيمَانِ، لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا نُفِيَ عَنْهُمُ الْإِيمَانُ، لِانْتِفَاءِ ذَوْقِ حَقَائِقِهِ، وَنَقْصِ بَعْضِ وَاجِبَاتِهِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ الْقَائِمَ بِالْقُلُوبِ مُتَفَاضِلٌ

وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، فَإِنَّ إِيمَانَ الصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ يَتَجَلَّى الْغَيْبُ لِقُلُوبِهِمْ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ شَهَادَةٌ، بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ وَلَا الِارْتِيَابَ، لَيْسَ كَإِيمَانِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذِهِ الدَّرَجَةَ بِحَيْثُ لَوْ شُكِّكَ لَدَخَلَهُ الشَّكُّ. وَلِهَذَا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْتَبَةَ الْإِحْسَانِ أَنْ يَعْبُدَ الْعَبْدُ رَبَّهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ لِعُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ، وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ. وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ: هَلْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ يَضْحَكُونَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَالْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ أَمْثَالُ الْجِبَالِ. فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً أَوْ شُعَيْرَةً؟ ! كَالَّذِينِ يَخْرُجُونَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنَ النَّارِ، فَهَؤُلَاءِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ لِضَعْفِهِ عِنْدَهُمْ. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ - أَعْنِي مَسَائِلَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ - مَسَائِلُ عَظِيمَةٌ جِدًّا، فَإِنَّ اللَّهَ عَلَّقَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ، وَاسْتِحْقَاقَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالِاخْتِلَافَ فِي مُسَمَّيَاتِهَا أَوَّلَ اخْتِلَافٍ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ خِلَافُ الْخَوَارِجِ لِلصَّحَابَةِ، حَيْثُ أَخْرَجُوا عُصَاةَ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَدْخَلُوهُمْ فِي دَائِرَةِ الْكُفْرِ، وَعَامَلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْكَفَّارِ، وَاسْتَحَلُّوا بِذَلِكَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَهُمْ خِلَافُ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَوْلُهُمْ بِالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، ثُمَّ حَدَثَ خِلَافُ الْمُرْجِئَةِ، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْفَاسِقَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ

وَقَدْ صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَصَانِيفَ مُتَعَدِّدَةً، وَمِمَّنْ صَنَّفَ فِي الْإِيمَانِ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ: الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ. وَكَثُرَتْ فِيهِ التَّصَانِيفُ بَعْدَهُمْ

مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَاهُنَا نُكْتَةً جَامِعَةً لِأُصُولٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا، وَفِيهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - كِفَايَةٌ. فَصْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَمُسَمَّى الْإِيمَانِ أَيْضًا، وَذَكَرْنَا مَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ، وَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهَا أَيْضًا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ الْبَاطِنَةِ. فَيَدْخُلُ فِي أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ إِخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ، وَالنُّصْحُ لَهُ وَلِعِبَادِهِ، وَسَلَامَةُ الْقَلْبِ لَهُمْ مِنَ الْغِشِّ وَالْحَسَدِ وَالْحِقْدِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى. وَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَجَلُ الْقُلُوبِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَخُشُوعُهَا عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ وَكِتَابِهِ، وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ، وَتَحْقِيقُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَخَوْفُ اللَّهِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، وَالرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا، وَاخْتِيَارُ تَلَفِ النُّفُوسِ بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْآلَامِ عَلَى الْكُفْرِ، وَاسْتِشْعَارُ قُرْبِ اللَّهِ مِنَ الْعَبْدِ، وَدَوَامُ اسْتِحْضَارِهِ، وَإِيثَارُ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُمَا، وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِيهِ، وَالْعَطَاءُ، لَهُ وَالْمَنْعُ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ لَهُ، وَسَمَاحَةُ النُّفُوسِ بِالطَّاعَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَالِاسْتِبْشَارُ بِعَمَلِ الْحَسَنَاتِ، وَالْفَرَحُ بِهَا، وَالْمَسَاءَةُ بِعَمَلِ السَّيِّئَاتِ وَالْحُزْنُ عَلَيْهَا، وَإِيثَارُ الْمُؤْمِنِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَكَثْرَةُ الْحَيَاءِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ لِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُوَاسَاةُ الْمُؤْمِنِينَ، خُصُوصًا الْجِيرَانَ، وَمُعَاضَدَةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُنَاصَرَتُهُمْ، وَالْحُزْنُ بِمَا يُحْزِنُهُمْ. وَلْنَذْكُرْ بَعْضَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ: فَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي دُخُولِهِ فِي اسْمِ الْإِسْلَامِ، فَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ "

وَ " النَّسَائِيِّ "، «عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا الَّذِي بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ قُلْتُ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَكَ لِلَّهِ، وَأَنْ تُوَجِّهَ وَجْهَكَ إِلَى اللَّهِ، وَتُصَلِّي الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: قُلْتُ: وَمَا آيَةُ الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ: أَنْ تَقُولَ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ، وَتَخَلَّيْتُ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَكُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ» . وَفِي السُّنَنِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ قَالَ: فِي خُطْبَتِهِ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى: ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ الْخِصَالَ تَنْفِي الْغِلَّ، عَنْ قَلْبِ الْمُسْلِمِ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ "، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «سُئِلَ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» .

وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، فَلَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» . وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي دُخُولِهِ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ، فَمِثْلُ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4] (الْأَنْفَالِ: 2 - 3) وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16] (الْحَدِيدِ: 16) . وَقَوْلِهِ {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] ، وَقَوْلِهِ {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] (الْمَائِدَةِ: 23) ، وَقَوْلِهِ {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] (آلِ عِمْرَانَ: 175) . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» . وَالرِّضَا بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِالرِّضَا بِتَدْبِيرِهِ لِلْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ لَهُ. وَالرِّضَا بِالْإِسْلَامِ دِينًا يَتَضَمَّنُ اخْتِيَارَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ. وَالرِّضَا بِمُحَمَّدٍ رَسُولًا يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَقَبُولِ ذَلِكَ بِالتَّسْلِيمِ وَالِانْشِرَاحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى

يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] (النِّسَاءِ: 65) . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ طَعْمِ الْإِيمَانِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ طَعْمَ الْإِيمَانِ وَحَلَاوَتَهُ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ، وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» . وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " «عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ تَحْتَرِقَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تُشْرِكَ بِاللَّهِ، وَأَنْ تُحِبَّ غَيْرَ ذِي نَسَبٍ لَا تُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ، فَقَدْ دَخَلَ حُبُّ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِكَ، كَمَا دَخَلَ حُبُّ الْمَاءِ لِلظَّمْآنِ فِي الْيَوْمِ الْقَائِظِ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ لِي بِأَنْ أَعْلَمَ أَنِّي مُؤْمِنٌ؟ قَالَ:

مَا مِنْ أُمَّتِي - أَوْ هَذِهِ الْأُمَّةِ - عَبْدٌ يَعْمَلُ حَسَنَةً فَيَعْلَمُ أَنَّهَا حَسَنَةً، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُجَازِيهِ بِهَا خَيْرًا، وَلَا يَعْمَلُ سَيِّئَةً فَيَعْلَمُ أَنَّهَا سَيِّئَةً، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهَا إِلَّا هُوَ، إِلَّا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَغَيْرِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ» . وَفِي " مُسْنَدِ بَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ " عَنْ رَجُلِ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَرِيحُ الْإِيمَانِ إِذَا أَسَأْتَ، أَوْ ظَلَمْتَ أَحَدًا: عَبْدَكَ أَوْ أَمَتَكَ، أَوْ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، صُمْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ، وَإِذَا أَحْسَنْتَ اسْتَبْشَرْتَ» . وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُؤْمِنُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا، وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي يَأْمَنُهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ الَّذِي إِذَا أَشْرَفَ عَلَى طَمَعٍ، تَرَكَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»

وَفِيهِ أَيْضًا «عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: طِيبُ الْكَلَامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ. فَقُلْتُ: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ. قُلْتُ: أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ. قُلْتُ: أَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: خُلُقٌ حَسَنٌ» . وَقَدْ فَسَّرَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ الصَّبْرَ وَالسَّمَاحَةَ، فَقَالَ هُوَ الصَّبْرُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَالسَّمَاحَةُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَفِي " التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ " عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» ، وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَخَرَّجَهُ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْغَاضِرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ، فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ فِي كُلِّ عَامٍ» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ: «فَقَالَ رَجُلٌ: وَمَا تَزْكِيَةُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ

اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ» وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ أَوَّلَ الْحَدِيثِ دُونَ آخِرِهِ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَفْضَلَ الْإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَكَ حَيْثُ كُنْتَ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ، حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ» . وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] (الْحُجُرَاتِ: 10) . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ

وَاحِدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أَيْضًا: الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ، اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» . وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، يَأْلَمُ الْمُؤْمِنُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ كَمَا يَأْلَمُ الْجَسَدُ لِمَا فِي الرَّأْسِ» . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَنْهُ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، قَالُوا: مَنْ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ! قَالَ:

مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» . وَخَرَّجَ " الْحَاكِمُ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ، وَأَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، زَادَ أَحْمَدُ: وَأَنْكَحَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ «سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَفْضَلِ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: أَنْ تُحِبَّ لِلَّهِ وَتَبْغَضَ لِلَّهِ، وَتُعْمِلَ لِسَانَكَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، فَقَالَ وَمَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَتَكْرَهَ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَأَنْ تَقُولَ خَيْرًا أَوْ تَصْمُتَ» . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ كَثْرَةَ ذِكْرِ اللَّهِ مِنْ أَفْضَلِ الْإِيمَانِ. وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَسْتَحِقُّ الْعَبْدُ صَرِيحَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلَّهِ، وَيُبْغِضَ لِلَّهِ، فَإِذَا أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى» . وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ»

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحِبَّ فِي اللَّهِ، وَأَبْغِضْ فِي اللَّهِ، وَوَالِ فِي اللَّهِ، وَعَادِ فِي اللَّهِ، فَإِنَّمَا تُنَالُ وِلَايَةُ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَلَنْ يَجِدَ عَبْدٌ طَعْمَ الْإِيمَانِ - وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ - حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ، وَقَدْ صَارَتْ عَامَّةُ مُؤَاخَاةِ النَّاسِ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لَا يُجْدِي عَلَى أَهْلِهِ شَيْئًا. خَرَّجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ. فَصْلٌ وَأَمَّا الْإِحْسَانُ، فَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ، تَارَةً مَقْرُونًا بِالْإِيمَانِ، وَتَارَةً مَقْرُونًا بِالْإِسْلَامِ، وَتَارَةً مَقْرُونًا بِالتَّقْوَى، أَوْ بِالْعَمَلِ. فَالْمَقْرُونُ بِالْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93] (الْمَائِدَةِ: 93) . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30] (الْكَهْفِ: 30) . وَالْمُقِرُّونَ بِالْإِسْلَامِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [البقرة: 112] (الْبَقَرَةِ: 112) ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22] الْآيَةَ (لُقْمَانَ: 22) . وَالْمُقِرُّونَ بِالتَّقْوَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] (النَّحْلِ: 128) ، وَقَدْ يُذْكَرُ مُفْرَدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] (يُونُسَ: 26) ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

تَفْسِيرُ الزِّيَادَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِجَعْلِهِ جَزَاءً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ، لِأَنَّ الْإِحْسَانَ هُوَ أَنْ يَعْبُدَ الْمُؤْمِنُ رَبَّهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى وَجْهِ الْحُضُورِ وَالْمُرَاقَبَةِ، كَأَنَّهُ يَرَاهُ بِقَلْبِهِ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ فِي حَالِ عِبَادَتِهِ، فَكَانَ جَزَاءُ ذَلِكَ النَّظَرَ إِلَى اللَّهِ عِيَانًا فِي الْآخِرَةِ. وَعَكْسُ هَذَا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ جَزَاءِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] (الْمُطَفِّفِينَ: 15) ، وَجَعَلَ ذَلِكَ جَزَاءً لِحَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ تَرَاكُمُ الرَّانِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، حَتَّى حَجَبَتْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ فِي الدُّنْيَا، فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنْ حُجِبُوا عَنْ رُؤْيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْإِحْسَانِ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهِيَ اسْتِحْضَارُ قُرْبِهِ وَأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْخَشْيَةَ وَالْخَوْفَ وَالْهَيْبَةَ وَالتَّعْظِيمَ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنْ تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» . وَيُوجِبُ أَيْضًا النُّصْحَ فِي الْعِبَادَةِ، وَبَذَلَ الْجَهْدِ فِي تَحْسِينِهَا وَإِتْمَامِهَا وَإِكْمَالِهَا. وَقَدْ وَصَّى النَّبِيُّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ، كَمَا رَوَى إِبْرَاهِيمُ الْهَجَرِيُّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، «عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَخْشَى اللَّهَ كَأَنِّي أَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ أَكُنْ أَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَانِي» . وَرُوِيَ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ جَسَدِي، فَقَالَ: اعْبُدِ اللَّهَ، كَأَنَّكَ تَرَاهُ» خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مَرْفُوعًا

وَمَوْقُوفًا " «كُنْ كَأَنَّكَ تَرَى اللَّهَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ» ". وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ، وَاجْعَلْهُ مُوجَزًا، فَقَالَ: صَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، فَإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ لَا تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . وَفِي حَدِيثِ حَارِثَةَ الْمَشْهُورِ - وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ مُرْسَلَةٍ، وَرُوِيَ مُتَّصِلًا، وَالْمُرْسَلُ أَصَحُّ - «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، قَالَ: انْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ كَيْفَ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ كَيْفَ يَتَعَاوَوْنَ فِيهَا. قَالَ: أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ، عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ»

وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَّى رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: اسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ اسْتِحْيَاءَكَ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنْ صَالِحِي عَشِيرَتِكَ لَا يُفَارِقَانِكَ» . وَيُرْوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلًا. وَيُرْوَى «عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَّاهُ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: اسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ كَمَا تَسْتَحْيِي رَجُلَا ذَا هَيْبَةٍ مِنْ أَهْلِكَ» . «وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ خَالِيًا، فَقَالَ: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ» . وَوَصَّى أَبُو الدَّرْدَاءِ رَجُلًا، فَقَالَ لَهُ: اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ. وَخَطَبَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ ابْنَتَهُ وَهُمَا فِي الطَّوَافِ، فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ لَقِيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، وَقَالَ كُنَّا فِي الطَّوَافِ نَتَخَايَلُ اللَّهَ بَيْنَ أَعْيُنِنَا. أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ. قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . قِيلَ: إِنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أُمِرَ بِمُرَاقَبَةِ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ،

وَاسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ مِنْ عَبْدِهِ، حَتَّى كَأَنَّ الْعَبْدَ يَرَاهُ، فَإِنَّهُ قَدْ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَيَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِإِيمَانِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ، وَيَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ وَبَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، فَإِذَا حَقَّقَ هَذَا الْمَقَامَ، سَهُلَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ إِلَى الْمَقَامِ الثَّانِي، وَهُوَ دَوَامُ التَّحْدِيقِ بِالْبَصِيرَةِ إِلَى قُرْبِ اللَّهِ مِنْ عَبْدِهِ وَمَعِيَّتِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَلْيَعْبُدِ اللَّهَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ، فَلْيَسْتَحْيِ مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: اتَّقِ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَفِ اللَّهَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ، وَاسْتَحْيِ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ. قَالَتْ بَعْضُ الْعَارِفَاتِ مِنَ السَّلَفِ: مَنْ عَمِلَ لِلَّهِ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ، فَهُوَ عَارِفٌ، وَمَنْ عَمِلَ عَلَى مُشَاهَدَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ، فَهُوَ مُخْلِصٌ. فَأَشَارَتْ إِلَى الْمَقَامَيْنِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا. أَحَدُهُمَا: مَقَامُ الْإِخْلَاصِ، وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ عَلَى اسْتِحْضَارِ مُشَاهَدَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ وَقُرْبِهِ مِنْهُ، فَإِذَا اسْتَحْضَرَ الْعَبْدُ هَذَا فِي عَمَلِهِ وَعَمِلَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُخْلِصٌ لِلَّهِ، لِأَنَّ اسْتِحْضَارَهُ ذَلِكَ فِي عَمَلِهِ يَمْنَعُهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ بِالْعَمَلِ. وَالثَّانِي: مَقَامُ الْمُشَاهَدَةِ، وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ عَلَى مُقْتَضَى مُشَاهَدَتِهِ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ، وَهُوَ أَنْ يَتَنَوَّرَ الْقَلْبُ بِالْإِيمَانِ، وَتَنْفُذَ الْبَصِيرَةُ فِي الْعِرْفَانِ، حَتَّى يَصِيرَ الْغَيْبُ كَالْعِيَانِ. وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ مَقَامِ الْإِحْسَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَتَفَاوَتُ أَهْلُ هَذَا الْمَقَامِ فِيهِ بِحَسَبِ قُوَّةِ نُفُوذِ الْبَصَائِرِ.

وَقَدْ فَسَّرَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمَثَلَ الْأَعْلَى الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] (الرُّومِ: 27) بِهَذَا الْمَعْنَى، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] (النُّورِ: 35) ، وَالْمُرَادُ: مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، كَذَا قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ. وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ " «أَفْضَلُ الْإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَكَ حَيْثُ كُنْتَ» " وَحَدِيثُ: «مَا تَزْكِيَةُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ؟ ، قَالَ: " أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ» ". وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: رَجُلٌ حَيْثُ تَوَجَّهَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] (الْبَقَرَةِ: 186) وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وَقَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7] (الْمُجَادَلَةِ: 7) وَقَوْلِهِ: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] (يُونُسَ: 61) وَقَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] (ق: 16) . وَقَوْلِهِ: {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108] (النِّسَاءِ: 108) . وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالنَّدْبِ إِلَى اسْتِحْضَارِ هَذَا الْقُرْبِ فِي حَالِ الْعِبَادَاتِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي، فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، أَوْ رَبُّهُ بَيْنَهُ

وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صِلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ» . «وَقَوْلِهِ لِلَّذِينَ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «هُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» . وَقَوْلِهِ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» . وَقَوْلِهِ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا مَعَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّى ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» . وَمَنْ فَهِمَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ تَشْبِيهًا أَوْ حُلُولًا أَوِ اتِّحَادًا، فَإِنَّمَا أُتِيَ

مِنْ جَهْلِهِ، وَسُوءِ فَهْمِهِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. قَالَ بَكْرٌ الْمُزَنِيُّ: مَنْ مِثْلُكَ يَا ابْنَ آدَمَ: خُلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمِحْرَابِ وَالْمَاءِ كُلَّمَا شِئْتَ دَخَلْتَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ. وَمَنْ وَصَلَ إِلَى اسْتِحْضَارِ هَذَا فِي حَالِ ذِكْرِهِ اللَّهَ وَعِبَادَتِهِ، اسْتَأْنَسَ بِاللَّهِ، وَاسْتَوْحَشَ مِنْ خَلْقِهِ ضَرُورَةً. قَالَ ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ: قَرَأْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ، كَلِّمُوا اللَّهَ كَثِيرًا، وَكَلِّمُوا النَّاسَ قَلِيلًا قَالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ اللَّهَ كَثِيرًا؟ قَالَ: ادْخُلُوا بِمُنَاجَاتِهِ، اخْلُوا بِدُعَائِهِ. خَرَّجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ. وَخَرَّجَ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ رِيَاحٍ، قَالَ: كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ، حَتَّى أُقْعِدَ مِنْ رِجْلَيْهِ، فَكَانَ يُصَلِّي جَالِسًا أَلْفَ رَكْعَةٍ، فَإِذَا صَلَّى الْعَصْرَ، احْتَبَى فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَيَقُولُ: عَجِبْتُ لِلْخَلِيقَةِ كَيْفَ أَنِسَتْ بِسِوَاكَ، بَلْ عَجِبْتُ لِلْخَلِيقَةِ كَيْفَ اسْتَنَارَتْ قُلُوبُهَا بِذِكْرِ سِوَاكَ. وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: دَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ النَّضْرِ الْحَارِثِيِّ، فَرَأَيْتُهُ كَأَنَّهُ مُنْقَبِضٌ، فَقُلْتُ: كَأَنَّكَ تَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى؟ قَالَ أَجَلْ، فَقُلْتُ: أَوَمَا تَسْتَوْحِشُ؟ فَقَالَ كَيْفَ أَسْتَوْحِشُ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي

وَقِيلَ لِمَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ: أَلَا تَسْتَوْحِشُ؟ فَقَالَ: وَيَسْتَوْحِشُ مَعَ اللَّهِ أَحَدٌ؟ . وَكَانَ حَبِيبٌ أَبُو مُحَمَّدٍ يَخْلُو فِي بَيْتِهِ وَيَقُولُ: مَنْ لَمْ تَقَرَّ عَيْنُهُ بِكَ، فَلَا قَرَّتْ عَيْنُهُ، وَمَنْ لَمْ يَأْنَسْ بِكَ، فَلَا أُنْسَ. وَقَالَ غَزْوَانُ: إِنِّي أَصَبْتُ رَاحَةَ قَلْبِي فِي مُجَالَسَةِ مَنْ لَدَيْهِ حَاجَتِي. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ: مَا تَلَذَّذَ الْمُتَلَذِّذُونَ بِمِثْلِ الْخَلْوَةِ بِمُنَاجَاةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ مُسْلِمٌ الْعَابِدُ: لَوْلَا الْجَمَاعَةُ، مَا خَرَجْتُ مِنْ بَابِي أَبَدًا حَتَّى أَمُوتَ، وَقَالَ: مَا يَجِدُ الْمُطِيعُونَ لِلَّهِ لَذَّةً فِي الدُّنْيَا أَحْلَى مِنَ الْخَلْوَةِ بِمُنَاجَاةِ سَيِّدِهِمْ، وَلَا أَحْسَبُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ عَظِيمِ الثَّوَابِ أَكْبَرَ فِي صُدُورِهِمْ وَأَلَذَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، ثُمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، قَالَ: أَعْلَى الدَّرَجَاتِ أَنْ تَنْقَطِعَ إِلَى رَبِّكَ، وَتَسْتَأْنِسَ إِلَيْهِ بِقَلْبِكَ وَعَقْلِكَ وَجَمِيعِ جَوَارِحِكَ حَتَّى لَا تَرْجُوَ إِلَّا رَبَّكَ وَلَا تَخَافَ إِلَّا ذَنْبَكَ، وَتَرْسَخَ مَحَبَّتُهُ فِي قَلْبِكَ حَتَّى لَا تُؤْثِرَ عَلَيْهَا شَيْئًا، فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ لَمْ تُبَالِ فِي بَرٍّ كُنْتَ، أَوْ فِي بَحْرٍ، أَوْ فِي سَهْلٍ، أَوْ فِي جَبَلٍ، وَكَانَ شَوْقُكَ إِلَى لِقَاءِ الْحَبِيبِ شَوْقَ الظَّمْآنِ إِلَى الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَشَوْقَ الْجَائِعِ إِلَى الطَّعَامِ الطَّيِّبِ، وَيَكُونُ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَكَ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَحْلَى مِنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ الصَّافِي عِنْدَ الْعَطْشَانِ فِي الْيَوْمِ الصَّائِفِ.

وَقَالَ الْفُضَيْلُ: طُوبَى لِمَنِ اسْتَوْحَشَ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ اللَّهُ جَلِيسَهُ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ لَا آنَسَنِي اللَّهُ إِلَّا بِهِ أَبَدًا. وَقَالَ مَعْرُوفٌ لِرَجُلٍ: تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَكُونَ جَلِيسَكَ، وَأَنِيسَكَ وَمَوْضِعَ شَكْوَاكَ. وَقَالَ ذُو النُّونِ: مِنْ عَلَامَةِ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ أَنْ لَا يَأْنَسُوا بِسِوَاهُ، وَلَا يَسْتَوْحِشُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِذَا سَكَنَ الْقَلْبَ حُبُّ اللَّهِ تَعَالَى، أَنِسَ بِاللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَلُّ فِي صُدُورِ الْعَارِفِينَ أَنْ يُحِبُّوا سِوَاهُ. وَكَلَامُ الْقَوْمِ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ ذِكْرُهُ جَدًّا، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَمَنْ تَأَمَّلَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ عَلِمَ أَنَّ جَمِيعَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ تَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَتَدْخُلُ تَحْتَهُ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ مِنْ فِرَقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا تَخْرُجُ عُلُومُهُمُ الَّتِي يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ إِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ خِصَالِ الْإِسْلَامِ، وَيُضِيفُونَ إِلَى ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَالدِّمَاءِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَيَبْقَى كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَكَلَّمُونَ عَلَى مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ، وَهُمَا أَصْلُ الْإِسْلَامِ كُلِّهِ. وَالَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ، يَتَكَلَّمُونَ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ، وَعَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ.

وَالَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى عِلْمِ الْمَعَارِفِ وَالْمُعَامَلَاتِ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ، وَعَلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ أَيْضًا، كَالْخَشْيَةِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالرِّضَا، وَالصَّبْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَانْحَصَرَتِ الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِرَقُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَرَجَعَتْ كُلُّهَا إِلَيْهِ، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَحْدَهُ كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى ذِكْرِ السَّاعَةِ مِنَ الْحَدِيثِ. فَقَوْلُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» يَعْنِي أَنَّ عِلْمَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ فِي وَقْتِ السَّاعَةِ سَوَاءٌ، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا، وَلِهَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي «خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ تَلَا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] (لُقْمَانَ: 34) ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف: 187] (الْأَعْرَافِ: 187) » . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] الْآيَةَ» . وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ

إِلَّا الْخَمْسَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] الْآيَةَ» . وَخَرَّجَ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: أُوتِيَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفَاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ خَمْسٍ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] الْآيَةَ. قَوْلُهُ: «فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا» . يَعْنِي: عَنْ عَلَامَاتِهَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اقْتِرَابِهَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا،» وَهِيَ عَلَامَاتُهَا أَيْضًا. وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسَّاعَةِ عَلَامَتَيْنِ: الْأُولَى: " «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا» " وَالْمُرَادُ بِرَبَّتِهَا سَيِّدَتُهَا وَمَالِكَتُهَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " رَبَّهَا " وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى فَتْحِ الْبِلَادِ، وَكَثْرَةِ جَلْبِ الرَّقِيقِ حَتَّى تَكْثُرَ السِّرَارِيُّ، وَيَكْثُرَ أَوْلَادُهُنَّ، فَتَكُونُ الْأَمَةُ رَقِيقَةً لِسَيِّدِهَا وَأَوْلَادُهُ مِنْهَا بِمَنْزِلَتِهِ، فَإِنَّ وَلَدَ السَّيِّدِ بِمَنْزِلَةِ السَّيِّدِ، فَيَصِيرُ وَلَدُ الْأَمَةِ بِمَنْزِلَةِ رَبِّهَا وَسَيِّدِهَا. وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أُمَّ الْوَلَدِ إِنَّمَا تُعْتَقُ عَلَى وَلَدِهَا مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ مِيرَاثِ وَالِدِهِ، وَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى أَوْلَادِهَا بِالْمِيرَاثِ، فَتُعْتَقُ عَلَيْهِمْ وَإِنَّهَا قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهَا تُبَاعُ، قَالَ: وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ. قُلْتُ: قَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، وَأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ وَأَنَّهَا تُعْتَقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ وَلَدَ الْأَمَةِ رَبَّهَا، فَكَأَنَّ وَلَدَهَا هُوَ الَّذِي أَعْتَقَهَا فَصَارَ عِتْقُهَا مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ سَبَبُ عِتْقِهَا، فَصَارَ كَأَنَّهُ مَوْلَاهَا. وَهَذَا كَمَا رُوِيَ عَنِ «النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي أُمِّ وَلَدِهِ مَارِيَّةَ لَمَّا وَلَدَتْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ

السَّلَامُ " أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» ". وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ عَنْهُ: «تَلِدُ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا» : تَكْثُرُ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ، يَقُولُ: إِذَا وَلَدَتْ فَقَدْ عَتَقَتْ لِوَلَدِهَا وَقَالَ: فِيهِ حُجَّةٌ أَنَّ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يُبَعْنَ. وَقَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: " تَلِدُ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا " بِأَنَّهُ يَكْثُرُ جَلْبُ الرَّقِيقِ، حَتَّى تُجْلَبَ الْبِنْتُ، فَتُعْتَقُ ثُمَّ تُجْلَبُ الْأُمُّ فَتَشْتَرِيهَا الْبِنْتُ وَتَسْتَخْدِمُهَا وَهِيَ جَاهِلَةٌ بِأَنَّهَا أُمُّهَا، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا فِي الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِمَاءَ تَلِدْنَ الْمُلُوكَ، وَقَالَ وَكِيعٌ: مَعْنَاهُ تَلِدُ الْعَجَمُ الْعَرَبَ، وَالْعَرَبُ مُلُوكُ الْعَجَمِ وَأَرْبَابٌ لَهُمْ. وَالْعَلَامَةُ الثَّانِيَةُ: " «أَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ» ". وَالْمُرَادُ بِالْعَالَةِ: الْفُقَرَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] (الضُّحَى: 8) . وَقَوْلُهُ: " «رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ» " هَكَذَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ أَسَافِلَ النَّاسِ يَصِيرُونَ رُؤَسَاءَهُمْ، وَتَكْثُرُ أَمْوَالُهُمْ حَتَّى يَتَبَاهَوْنَ بِطُولِ الْبُنْيَانِ وَزَخْرَفَتِهِ وَإِتْقَانِهِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَكَرَ ثَلَاثَ عَلَامَاتٍ: مِنْهَا: أَنْ تَكُونَ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ رُؤُوسَ النَّاسِ، وَمِنْهَا أَنْ يَتَطَاوَلَ رُعَاةُ الْبَهْمِ فِي الْبُنْيَانِ. وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ فَقَالَ فِيهِ:

" «وَأَنْ تَرَى الصُّمَّ الْبُكْمَ الْعُمْيَ الْحُفَاةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ مُلُوكَ النَّاسِ " قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ، فَانْطَلَقَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَعَتَّ؟ قَالَ: " هُمُ الْعُرَيْبُ» " وَكَذَا رَوَى هَذِهِ اللَّفْظَةَ الْأَخِيرَةَ عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الْأُوَلُ، فَهِيَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: " الصُّمُّ الْبُكْمُ الْعُمْيُ " إِشَارَةٌ إِلَى جَهْلِهِمْ وَعَدَمِ عِلْمِهِمْ وَفَهْمِهِمْ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ، فَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ،، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدُ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعَ بْنَ لُكَعٍ» . وَفِي " صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ " عَنْ أَنَسٍ،، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَنْقَضِي الدُّنْيَا حَتَّى تَكُونَ عِنْدَ لُكَعِ بْنِ لُكَعٍ» .

وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الدُّنْيَا لُكَعُ بْنُ لُكَعٍ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سُنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُتَّهَمُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْمُتَّهَمُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ، قَالُوا: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: السَّفِيهُ يَنْطِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: " «الْفَاسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» " وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ» ، وَذَكَرَ بَاقِيَهُ. وَمَضْمُونُ مَا ذُكِرَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْأُمُورَ تَوَسَّدُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَنْ سَأَلَهُ، عَنِ السَّاعَةِ: " «إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» "، فَإِنَّهُ إِذَا صَارَ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ رِعَاءُ الشَّاءِ - وَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالْجَفَاءِ - رُؤُوسَ النَّاسِ، وَأَصْحَابَ الثَّرْوَةِ وَالْأَمْوَالِ، حَتَّى يَتَطَاوَلُوا فِي الْبُنْيَانِ، فَإِنَّهُ يَفْسَدُ بِذَلِكَ نِظَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ رَأْسُ النَّاسِ مَنْ كَانَ فَقِيرًا عَائِلًا، فَصَارَ مَلِكًا عَلَى النَّاسِ، سَوَاءً كَانَ مُلْكُهُ عَامًّا أَوْ خَاصًّا فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُعْطِي النَّاسَ حُقُوقَهُمْ، بَلْ يَسْتَأْثِرُ عَلَيْهِمْ بِمَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِأَنْ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى فَمِ التِّنِّينِ، فَيَقْضِمُهَا،

خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَمُدَّهَا إِلَى يَدِ غَنِيٍّ قَدْ عَالَجَ الْفَقْرَ. وَإِذَا كَانَ مَعَ هَذَا جَاهِلًا جَافِيًا، فَسَدَ بِذَلِكَ الدِّينُ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ هِمَّةٌ فِي إِصْلَاحِ دِينِ النَّاسِ وَلَا تَعْلِيمِهِمْ، بَلْ هِمَّتُهُ فِي جِبَايَةِ الْمَالِ وَاكْتِنَازِهِ، وَلَا يُبَالِي بِمَا فَسَدَ مِنْ دِينِ النَّاسِ، وَلَا بِمَنْ ضَاعَ مِنْ أَهْلِ حَاجَاتِهِمْ. وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَسُودَ كُلَّ قَبِيلَةٍ مُنَافِقُوهَا» ". وَإِذَا صَارَ مُلُوكُ النَّاسِ وَرُؤُوسُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ انْعَكَسَتْ سَائِرُ الْأَحْوَالِ، فَصُدِّقَ الْكَاذِبُ، وَكُذِّبَ الصَّادِقُ، وَائْتُمِنَ الْخَائِنُ، وَخُوِّنَ الْأَمِينُ، وَتَكَلَّمَ الْجَاهِلُ، وَسَكَتَ الْعَالِمُ، أَوْ عَدِمَ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَأَخْبَرَ: أَنَّهُ يُقْبَضُ الْعِلْمُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقَ عَالِمٌ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَّلُّوا وَأَضَلُّوا.» وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَصِيرَ الْعِلْمُ جَهْلًا، وَالْجَهْلُ عِلْمًا. وَهَذَا كُلُّهُ مِنِ انْقِلَابِ الْحَقَائِقِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَانْعِكَاسِ الْأُمُورِ. وَفِي " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: " «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ

السَّاعَةِ أَنْ يُوضَعَ الْأَخْيَارُ، وَيُرْفَعَ الْأَشْرَارُ» ". وَفِي قَوْلِهِ: " يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ " دَلِيلٌ عَلَى ذَمِّ التَّبَاهِي وَالتَّفَاخُرِ خُصُوصًا بِالتَّطَاوُلِ فِي الْبُنْيَانِ، وَلَمْ يَكُنْ إِطَالَةُ الْبِنَاءِ مَعْرُوفًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، بَلْ كَانَ بُنْيَانُهُمْ قَصِيرًا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، رَوَى أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ، حَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فَرَأَى قُبَّةً مُشْرِفَةً، فَقَالَ " مَا هَذِهِ "؟ قَالُوا: هَذِهِ لِفُلَانٍ، رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَجَاءَ صَاحِبُهَا، فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَهَدَمَهَا الرَّجُلُ.» وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا، وَعِنْدَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ بِنَاءٍ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ هَكَذَا عَلَى رَأْسِهِ - أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَهُوَ وَبَالٌ.» وَقَالَ حُرَيْثُ بْنُ السَّائِبِ عَنِ الْحَسَنِ: كُنْتُ أَدْخُلُ بُيُوتَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَنَاوَلُ سَقْفَهَا بِيَدِي. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ: لَا تُطِيلُوا بِنَاءَكُمْ فَإِنَّهُ شَرُّ أَيَّامِكُمْ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ: قَالَ حُذَيْفَةُ لِسَلْمَانَ: أَلَّا نَبْنِيَ لَكَ مَسْكَنًا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لِمَ تَجْعَلُنِي مَلِكًا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ نَبْنِي لَكَ بَيْتًا مِنْ قَصَبٍ وَنَسْقُفُهُ بِالْبَوَارِي، إِذَا قُمْتَ كَادَ أَنْ يُصِيبَ رَأْسَكَ، وَإِذَا نِمْتَ كَادَ أَنْ يَمَسَّ طَرَفَيْكَ، قَالَ: كَأَنَّكَ كُنْتَ فِي نَفْسِي

وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ بِنَاءَهُ فَوْقَ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، نُودِيَ يَا أَفْسَقَ الْفَاسِقِينَ، إِلَى أَيْنَ؟ . خَرَّجَهُ كُلَّهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي " مُسْنَدِهِ ": بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ أَبِي عَائِشَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي شُمَيْلَةَ قَالَ: نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ حَوْلَ الْمَسْجِدِ: يَعْنِي بِالْبَصْرَةِ فِي أَخْبِيَةِ الشَّعْرِ، فَفَشَا فِيهِمُ السَّرَقُ، فَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْيَرَاعِ، فَبَنَوْا بِالْقَصَبِ، فَفَشَا فِيهِمُ الْحَرِيقُ، فَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْمَدَرِ، وَنَهَى أَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ سُمْكَهُ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، وَقَالَ: إِذَا بَنَيْتُمْ مِنْهُ بُيُوتَكُمْ فَابْنُوا مِنْهُ الْمَسْجِدَ قَالَ ابْنُ أَبِي عَائِشَةَ: وَكَانَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بَنَى مَسْجِدَ الْبَصْرَةِ بِالْقَصَبِ، قَالَ: مَنْ صَلَّى فِيهِ وَهُوَ مِنْ قَصَبٍ أَفْضَلُ مِمَّنْ صَلَّى فِيهِ وَهُوَ مِنْ لَبِنٍ، وَمَنْ صَلَّى فِيهِ وَهُوَ مِنْ لَبِنٍ، أَفْضَلُ مِمَّنْ صَلَّى فِيهِ وَهُوَ مِنْ آجُرٍّ. وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ» . وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَرَاكُمْ سَتُشَرِّفُونَ مَسَاجِدَكُمْ بَعْدِي كَمَا شَرَّفَتِ الْيَهُودُ كَنَائِسَهَا، وَكَمَا شَرَّفَتِ النَّصَارَى بِيَعَهَا.» وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُ، قَالَ: «لَمَّا بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ، قَالَ: ابْنُوهُ عَرِيشًا كَعَرِيشِ مُوسَى. قِيلَ لِلْحَسَنِ: وَمَا عَرِيشُ مُوسَى؟ قَالَ إِذَا رَفَعَ يَدَهُ بَلَغَ الْعَرِيشَ: يَعْنِي السَّقْفَ» .

[الحديث الثالث بني الإسلام على خمس]

[الْحَدِيثُ الثَّالِثُ بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ]

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ،» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَاهُ فِي " الِصَّحِيحَيْنِ " مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَّجَ حَدِيثَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ ذِكْرُ الْإِسْلَامِ.

وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِسْلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسِ، فَهِيَ كَالْأَرْكَانِ وَالدَّعَائِمِ لِبُنْيَانِهِ، وَقَدْ خَرَّجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي " كِتَابِ الصَّلَاةِ " وَلَفْظُهُ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسِ دَعَائِمَ» فَذَكَرَهُ. وَالْمَقْصُودُ تَمْثِيلُ الْإِسْلَامِ بِبُنْيَانِهِ وَدَعَائِمُ الْبُنْيَانِ هَذِهِ الْخَمْسُ، فَلَا يَثْبُتُ الْبُنْيَانُ بِدُونِهَا، وَبَقِيَّةُ خِصَالِ الْإِسْلَامِ كَتَتِمَّةِ الْبُنْيَانِ، فَإِذَا فُقِدَ مِنْهَا شَيْءٌ، نَقَصَ الْبُنْيَانُ وَهُوَ قَائِمٌ لَا يَنْتَقِضُ بِنَقْصِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ نَقْضِ هَذِهِ الدَّعَائِمِ الْخَمْسِ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَزُولُ بِفَقْدِهَا جَمِيعًا بِغَيْرِ إِشْكَالٍ، وَكَذَلِكَ يَزُولُ بِفَقْدِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالشَّهَادَتَيْنِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا: " «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» " وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «عَلَى خَمْسٍ: عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ» " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: " «عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ» ". وَبِهَذَا يَعْلَمُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ دَاخِلٌ فِي ضِمْنِ الْإِسْلَامِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي. وَأَمَّا إِقَامُ الصَّلَاةِ، فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَهَا، فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ

وَثَوْبَانَ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ. وَخَرَّجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ،، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَتْرُكِ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا، فَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمَّدًا، فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْمِلَّةِ» . وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ» فَجَعَلَ الصَّلَاةَ كَعَمُودِ الْفُسْطَاطِ الَّذِي لَا يَقُومُ الْفُسْطَاطُ إِلَّا بِهِ وَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِهِ وَلَوْ سَقَطَ الْعَمُودُ لَسَقَطَ الْفُسْطَاطُ وَلَمْ يَثْبُتْ بِدُونِهِ وَقَالَ عُمَرُ: لَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ، وَقَالَ سَعْدٌ

وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مَنْ تَرَكَهَا، فَقَدْ كَفَرَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَوْنَ مِنَ الْأَعْمَالِ شَيْئًا تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ. وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: تَرْكُ الصَّلَاةِ كُفْرٌ، لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ. وَذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَحَكَى إِسْحَاقُ عَلَيْهِ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ! وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ: هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ عَمْدًا أَنَّهُ كَافِرٌ بِذَلِكَ وَرُوِيَ ذَلِكَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَنَافِعٍ وَالْحَكَمِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْكُمْ، مَا أَطَقْتُمُوهُ، وَلَوْ تَرَكْتُمُوهُ لَكَفَرْتُمْ» .

وَخَرَّجَ الَّالِكَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُؤَمَّلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ النُّكْرِيُّ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا رَفَعَهُ قَالَ: «عُرَى الْإِسْلَامِ، وَقَوَاعِدُ الدِّينِ ثَلَاثَةٌ عَلَيْهِنَّ أُسُسُ الْإِسْلَامِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالصَّلَاةُ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ. مَنْ تَرَكَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً، فَهُوَ بِهَا كَافِرٌ، حَلَالُ الدَّمِ، وَتَجِدُهُ كَثِيرَ الْمَالِ لَمْ يَحُجَّ فَلَا يَزَالُ بِذَلِكَ كَافِرًا وَلَا يَحِلُّ بِذَلِكَ دَمُهُ، وَتَجِدُهُ كَثِيرَ الْمَالِ فَلَا يُزَكِّي، فَلَا يَزَالُ بِذَلِكَ كَافِرًا وَلَا يَحِلُّ دَمُهُ» وَرَوَاهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ مَوْقُوفًا مُخْتَصَرًا، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو حَمَّادٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَرْفُوعًا، وَقَالَ: «وَمَنْ تَرَكَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً، فَهُوَ بِاللَّهِ كَافِرٌ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَقَدْ حَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ» وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَحُجَّ، وَقَالَ: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ تَارِكَ الزَّكَاةِ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ: أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ خَاصَّةً كُفْرٌ دُونَ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: الْمُرْجِئَةُ سَمَّوْا تَرْكَ الْفَرَائِضِ ذَنْبًا بِمَنْزِلَةِ رُكُوبِ الْمَحَارِمِ، وَلَيْسَ سَوَاءً، لِأَنَّ رُكُوبَ الْمَحَارِمِ مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَالٍ مَعْصِيَةٌ، وَتَرْكُ الْفَرَائِضِ مِنْ غَيْرِ جَهْلٍ وَلَا عُذْرٍ هُوَ كُفْرٌ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي أَمْرِ إِبْلِيسَ وَعُلَمَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِنَعْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِسَانِهِمْ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِشَرَائِعِهِ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ عَلَى كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ بِكُفْرِ إِبْلِيسَ بِتَرْكِ السُّجُودِ لِآدَمَ، وَتَرْكُ السُّجُودِ لِلَّهِ أَعْظَمُ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ إِبْلِيسُ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا وَيْلِي أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ، فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ.» وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّعَائِمَ الْخَمْسَ بَعْضُهَا مُرْتَبِطٌ بِبَعْضٍ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ بَعْضُهَا بِدُونِ بَعْضٍ كَمَا فِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ زِيَادِ بْنِ نُعَيْمٍ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَرْبَعٌ فَرَضَهُنَّ اللَّهُ فِي الْإِسْلَامِ فَمَنْ أَتَى بِثَلَاثٍ لَمْ يُغْنِينَ عَنْهُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِيَ بِهِنَّ جَمِيعًا: الصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ الْبَيْتِ» وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ زِيَادٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدِّينُ خَمْسٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُنَّ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِيمَانٌ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَبِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ هَذِهِ وَاحِدَةٌ، وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ عَمُودُ الدِّينِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الْإِيمَانَ إِلَّا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةُ طَهُورٌ مِنَ الذُّنُوبِ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ الْإِيمَانَ وَلَا الصَّلَاةَ إِلَّا بِالزَّكَاةِ، فَمَنْ فَعَلَ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ جَاءَ رَمَضَانُ فَتَرَكَ صِيَامَهُ مُتَعَمِّدًا

لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ الْإِيمَانَ، وَلَا الصَّلَاةَ، وَلَا الزَّكَاةَ، فَمَنْ فَعَلَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَ ثُمَّ تَيَسَّرَ لَهُ الْحَجُّ، فَلَمْ يَحُجَّ، وَلَمْ يُوصِ بِحَجَّةٍ، وَلَمْ يَحُجَّ عَنْهُ بَعْضُ أَهْلِهِ، لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ الْأَرْبَعَ الَّتِي قَبْلَهَا» ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَقَالَ سَأَلْتُ أَبِي عَنْهُ فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ عَطَاءٍ الْخُرَسَانِيِّ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ تَفْسِيرِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءُ مِنْ أَجِلَّاءِ عُلَمَاءِ الشَّامِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ لَمْ يُزَكِّ، فَلَا صَلَاةَ لَهُ، وَنَفْيُ الْقَبُولِ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الصِّحَّةِ، وَلَا وُجُوبُ الْإِعَادَةِ بِتَرْكِهِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِذَلِكَ انْتِفَاءُ الرِّضَا بِهِ، وَمَدْحُ عَامِلِهِ، وَالثَّنَاءُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَالْمُبَاهَاةُ بِهِ لِلْمَلَائِكَةِ. فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الْأَرْكَانِ عَلَى وَجْهِهَا، حَصَلَ لَهُ الْقَبُولُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَمَنْ قَامَ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعَاقَبُ عَلَى مَا أَتَى بِهِ مِنْهَا عُقُوبَةَ تَارِكِهِ، بَلْ تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّتُهُ، وَقَدْ يُثَابُ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَمِنْ هَاهُنَا يُعْلَمُ أَنَّ ارْتِكَابَ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يَنْقُصُ بِهَا الْإِيمَانُ تَكُونُ مَانِعَةً مِنْ قَبُولِ بَعْضِ الطَّاعَاتِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ بَعْضِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا» وَقَالَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» وَقَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ.»

وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ إِذَا شَمِلَ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةً، لَمْ يَزَلْ زَوَالُ الِاسْمِ بِزَوَالِ بَعْضِهَا، فَيُبْطَلُ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَوْ دَخَلَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ لَلَزِمَ أَنْ يَزُولَ بِزَوَالِ عَمَلٍ مِمَّا دَخَلَ فِي مُسَمَّاهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ هَذِهِ الْخَمْسَ دَعَائِمَ الْإِسْلَامِ وَمَبَانِيهِ، وَفَسَّرَ بِهَا الْإِسْلَامَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَفِي حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الَّذِي فِيهِ أَنَّ «أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَفَسَّرَهُ لَهُ بِهَذِهِ الْخَمْسِ» . وَمَعَ هَذَا فَالْمُخَالِفُونَ فِي الْإِيمَانِ يَقُولُونَ: لَوْ زَالَ مِنَ الْإِسْلَامِ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ أَرْبَعُ خِصَالٍ سِوَى الشَّهَادَتَيْنِ، لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّ جِبْرِيلَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، لَا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَنُقَّادِهِ، مِنْهُمْ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَقَدْ ضَرَبَ الْعُلَمَاءُ مَثَلَ الْإِيمَانِ بِمَثَلِ شَجَرَةٍ لَهَا أَصْلٌ وَفُرُوعٌ وَشُعَبٌ، فَاسْمُ الشَّجَرَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَوْ زَالَ شَيْءٌ مِنْ شُعَبِهَا وَفُرُوعِهَا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ الشَّجَرَةِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هِيَ شَجَرَةٌ نَاقِصَةٌ أَوْ غَيْرُهَا أَتَمُّ مِنْهَا. وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 24] (إِبْرَاهِيمَ: 24) . وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَبِأَصْلِهَا التَّوْحِيدُ الثَّابِتُ فِي الْقُلُوبِ، وَأُكُلُهَا: هُوَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ النَّاشِئَةُ مِنْهُ. وَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُسْلِمِ بِالنَّخْلَةِ وَلَوْ زَالَ شَيْءٌ مِنْ فُرُوعِ

النَّخْلَةِ، أَوْ مِنْ ثَمَرِهَا، لَمْ يَزُلْ بِذَلِكَ عَنْهَا اسْمُ النَّخْلَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةَ الْفُرُوعِ أَوِ الثَّمَرِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْجِهَادَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا، مَعَ أَنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قِيلَ لَهُ: فَالْجِهَادُ؟ قَالَ الْجِهَادُ حَسَنٌ، وَلَكِنْ هَكَذَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «إِنَّ رَأْسَ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ» ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ: أَعْلَى شَيْءٍ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ دَعَائِمِهِ وَأَرْكَانِهِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ بِخِلَافِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِهَادَ لَا يَسْتَمِرُّ فِعْلُهُ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، بَلْ إِذَا نَزَلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ مِلَّةٌ غَيْرُ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَيَسْتَغْنِي عَنِ الْجِهَادِ بِخِلَافِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ، فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[الحديث الرابع إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة]

[الْحَدِيثُ الرَّابِعُ إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً]

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَعَمَلِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، رَوَاهُ الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ طَرِيقِهِ خَرَّجَهُ الشَّيْخَانِ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْأَسْفَاطِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي حَدَّثَ عَنْكَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ حَدَّثْتُهُ بِهِ أَنَا " يَقُولُهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ غَفَرَ اللَّهُ لِلْأَعْمَشِ كَمَا حَدَّثَ بِهِ، وَغَفَرَ اللَّهُ

لِمَنْ حَدَّثَ بِهِ قَبْلَ الْأَعْمَشِ، وَلِمَنْ حَدَّثَ بِهِ بَعْدَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً» قَدْ رُوِيَ تَفْسِيرُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ رَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ طَارَتْ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ وَظُفْرٍ، فَتَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَنْحَدِرُ فِي الرَّحِمِ، فَتَكُونُ عَلَقَةً. قَالَ: فَذَلِكَ جَمْعُهَا. خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. وَرُوِيَ تَفْسِيرُ الْجَمْعِ مَرْفُوعًا بِمَعْنًى آخَرَ، فَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مِنْدَهْ فِي كِتَابِ " التَّوْحِيدِ " مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ خَلْقَ عَبْدٍ، فَجَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ، طَارَ مَاؤُهُ فِي كُلِّ عِرْقٍ وَعُضْوٍ مِنْهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّابِعِ جَمَعَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَحْضَرَهُ فِي كُلِّ عِرْقٍ لَهُ دُونَ آدَمَ:» {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] قَالَ ابْنُ مِنْدَهْ: إِسْنَادُهُ مُتَّصِلٌ مَشْهُورٌ عَلَى رَسْمِ أَبِي عِيسَى وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا

وَخَرَّجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُطَهَّرِ بْنِ الْهَيْثَمِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِجَدِّهِ «يَا فُلَانُ مَا وُلِدَ لَكَ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا عَسَى أَنْ يُولَدَ لِي؟ إِمَّا غُلَامٌ وَإِمَّا جَارِيَةٌ، قَالَ: فَمَنْ يُشْبِهُ؟ قَالَ مَنْ عَسَى أَنْ يُشْبِهَ؟ يُشْبِهُ أُمَّهُ أَوْ أَبَاهُ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَقُولَنَّ كَذَا. إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ، أَحْضَرَهَا اللَّهُ كُلَّ نَسَبٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آدَمَ، أَمَا قَرَأْتَ هَذِهِ الْآيَةَ {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] (الِانْفِطَارِ: 8) قَالَ: سَلَكَكَ» وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ وَمُطَهَّرُ بْنُ الْهَيْثَمِ ضَعِيفٌ جِدًّا: وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ وَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَاهُ لَمْ يُسْلِمْ إِلَّا فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ يَعْنِي: أَنَّهُ لَا صُحْبَةَ لَهُ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي قَالَ لَهُ: وَلَدَتِ امْرَأَتِي غُلَامًا أَسْوَدَ قَالَ: «لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ» . وَقَوْلُهُ «ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ» يَعْنِي: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَالْعَلَقَةُ قِطْعَةٌ مِنْ دَمٍ. «ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ» يَعْنِي: أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَالْمُضْغَةُ: قِطْعَةٌ مِنْ لَحْمٍ. «ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ.» فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فِي ثَلَاثَةِ أَطْوَارٍ، فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنْهَا يَكُونُ فِي طَوْرٍ، فَيَكُونُ فِي الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى نُطْفَةً، ثُمَّ فِي

الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ عَلَقَةً، ثُمَّ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، مُضْغَةً ثُمَّ بَعْدَ الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا يَنْفُخُ الْمَلَكُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيَكْتُبُ لَهُ هَذِهِ الْأَرْبَعَ الْكَلِمَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ تَقَلُّبَ الْجَنِينِ فِي هَذِهِ الْأَطْوَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 5] (الْحَجِّ: 5) . وَذَكَرَ هَذِهِ الْأَطْوَارَ الثَّلَاثَةَ: النُّطْفَةَ وَالْعَلَقَةَ وَالْمُضْغَةَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ذَكَرَ زِيَادَةً عَلَيْهَا، فَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ (12 - 14) {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ - ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ - ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14] . فَهَذِهِ سَبْعُ تَارَاتٍ ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِخَلْقِ ابْنِ آدَمَ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: خُلِقَ ابْنُ آدَمَ مِنْ سَبْعٍ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ. وَسُئِلَ عَنِ الْعَزْلِ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ، فَهَلْ يُخْلَقُ أَحَدٌ حَتَّى تَجْرِيَ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَةُ؟ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: وَهَلْ تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَمُرَّ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ؟ . وَرُوِيَ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: جَلَسَ إِلَيَّ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَنَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَذَاكَرُوا الْعَزْلَ، فَقَالُوا لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تَكُونُ مَوْءُودَةً حَتَّى تَمُرَّ عَلَى التَّارَاتِ السَّبْعِ: تَكُونُ سُلَالَةً مِنْ طِينٍ، ثُمَّ تَكُونُ نُطْفَةً، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُضْغَةً، ثُمَّ تَكُونُ عِظَامًا، ثُمَّ تَكُونُ لَحْمًا، ثُمَّ تَكُونُ خَلْقًا آخَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي " الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ ".

وَقَدْ رَخَّصَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ لِلْمَرْأَةِ فِي إِسْقَاطِ مَا فِي بَطْنِهَا مَا لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ، وَجَعَلُوهُ كَالْعَزْلِ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ وَلَدٌ انْعَقَدَ، وَرُبَّمَا تَصَوَّرَ وَفِي الْعَزْلِ لَمْ يُوجَدْ وَلَدٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا تَسَبَّبَ إِلَى مَنْعِ انْعِقَادِهِ، وَقَدْ لَا يَمْتَنِعُ انْعِقَادُهُ بِالْعَزْلِ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَهُ، كَمَا قَالَ «النَّبِيُّ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْعَزْلِ: قَالَ: لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَعْزِلُوا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا» . وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ إِذَا صَارَ الْوَلَدُ عَلَقَةً، لَمْ يَجُزْ لِلْمَرْأَةِ إِسْقَاطُهُ؛ لِأَنَّهُ وَلَدٌ انْعَقَدَ بِخِلَافِ النُّطْفَةِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ بَعْدُ، وَقَدْ لَا تَنْعَقِدُ وَلَدًا. وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ذِكْرُ الْعِظَامِ وَأَنَّهُ يَكُونُ عَظْمًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ يُحَدِّثُ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ النُّطْفَةَ تَكُونُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى حَالِهَا لَا تُغَيَّرُ، فَإِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعُونَ، صَارَتْ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً كَذَلِكَ، ثُمَّ عِظَامًا كَذَلِكَ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُسَوِّيَ خَلْقَهُ، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا،» وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ. وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ، تَكُونُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً نُطْفَةً، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ تَكُونُ عِظَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكْسُو اللَّهُ الْعِظَامَ لَحْمًا» . وَرِوَايَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنِينَ لَا يُكْسَى اللَّحْمَ إِلَّا بَعْدَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ

يَوْمًا، وَهَذَا غَلَطٌ بِلَا رَيْبٍ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ بِلَا رَيْبٍ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ: هُوَ ابْنُ جُدْعَانَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِ الْعِظَامِ وَاللَّحْمِ فِي أَوَّلِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، فَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا، وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا ثُمَّ قَالَ يَا رَبِّ أَذْكُرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَجَلُهُ؟ فَيَقُولُ رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أَمَرَ وَلَا يَنْقُصُ» . وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَصْوِيرَ الْجَنِينِ وَخَلْقَ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَجِلْدِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ لَحْمًا وَعِظَامًا. وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ يُقَسِّمُ النُّطْفَةَ إِذَا صَارَتْ عَلَقَةً إِلَى أَجْزَاءٍ، فَيَجْعَلُ بَعْضَهَا لِلْجَلْدِ، وَبَعْضَهَا لِلَّحْمِ، وَبَعْضَهَا لِلْعِظَامِ، فَيُقَدَّرُ ذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ وُجُودِهِ. وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، بَلْ ظَاهِرُهُ أَنْ يُصَوِّرَهَا وَيَخْلُقَ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ كُلَّهَا، وَقَدْ يَكُونُ خَلْقُ ذَلِكَ بِتَصْوِيرِهِ وَتَقْسِيمِهِ قَبْلَ وُجُودِ اللَّحْمِ وَالْعِظَامِ، قَدْ يَكُونُ هَذَا فِي بَعْضِ الْأَجِنَّةِ دُونَ بَعْضٍ. وَحَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ الْمُتَقَدِّمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّصْوِيرَ يَكُونُ لِلنُّطْفَةِ أَيْضًا فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] (الْإِنْسَانِ: 2) وَفَسَّرَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ أَمْشَاجَ النُّطْفَةِ بِالْعُرُوقِ الَّتِي فِيهَا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَمْشَاجُهُا: عُرُوقُهَا

وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ الطِّبِّ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمَنِيَّ إِذَا وَقَعَ فِي الرَّحِمِ، حَصَلَ لَهُ زُبْدِيَّةٌ وَرَغْوَةٌ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً، وَفِي هَذِهِ الْأَيَّامِ تُصَوَّرُ النُّطْفَةُ مِنْ غَيْرِ اسْتِمْدَادٍ مِنَ الرَّحِمِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَسْتَمِدُّ مِنْهُ، وَابْتِدَاءُ الْخُطُوطِ وَالنَّقْطِ بَعْدَ هَذَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ يَتَقَدَّمُ يَوْمًا وَيَتَأَخَّرُ يَوْمًا، ثُمَّ بَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ - وَهُوَ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ - يَنْفُذُ الدَّمُ إِلَى الْجَمِيعِ فَيَصِيرُ عَلَقَةً، ثُمَّ تَتَمَيَّزُ الْأَعْضَاءُ تَمَيُّزًا ظَاهِرًا، وَيَتَنَحَّى بَعْضُهَا عَنْ مُمَارَسَةِ بَعْضٍ، وَتَمْتَدُّ رُطُوبَةُ النُّخَاعِ، ثُمَّ بَعْدَ تِسْعَةِ أَيَّامٍ يَنْفَصِلُ الرَّأْسُ عَنِ الْمَنْكِبَيْنِ وَالْأَطْرَافُ عَنِ الْأَصَابِعِ تَمَيُّزًا يَسْتَبِينُ فِي بَعْضٍ، وَيَخْفَى فِي بَعْضٍ. قَالُوا: وَأَقَلُّ مُدَّةٍ يَتَصَوَّرُ الذَّكَرُ فِيهَا ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَالزَّمَانُ الْمُعْتَدِلُ فِي تَصْوِيرِ الْجَنِينِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَقَدْ يَتَصَوَّرُ فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، قَالُوا: وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْأَسْقَاطِ ذَكَرٌ تَمَّ قَبْلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَا أُنْثَى قَبْلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَهَذَا يُوَافِقُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ فِي التَّخْلِيقِ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، وَمَصِيرُهُ لَحْمًا فِيهَا أَيْضًا. وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى أَنَّ الْجَنِينَ يَغْلِبُ عَلَيْهِ فِي الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى وَصْفُ الْمَنِيِّ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ وَصْفُ الْعَلَقَةِ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ وَصْفُ الْمُضْغَةِ، وَإِنْ كَانَتْ خِلْقَتُهُ قَدْ تَمَّتْ وَتَمَّ تَصْوِيرُهُ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ذِكْرُ وَقْتِ تَصْوِيرِ الْجَنِينِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَفْسِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَصْوِيرَهُ قَدْ يَقَعُ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ

الثَّالِثَةِ أَيْضًا، فَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: النُّطْفَةُ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ جَاءَهَا مَلَكٌ فَأَخَذَهَا بِكَفِّهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مُخَلَّقَةٌ أَمْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قِيلَ: غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ، لَمْ تَكُنْ نَسَمَةً، وَقَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ، وَإِنْ قِيلَ مُخَلَّقَةٌ، قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، مَا الْأَجَلُ وَمَا الْأَثَرُ؟ ، وَبِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ؟ قَالَ: فَيُقَالُ لِلنُّطْفَةِ: مَنْ رَبُّكِ؟ فَتَقُولُ: اللَّهُ، فَيُقَالُ: مَنْ رَازِقُكِ؟ فَتَقُولُ: اللَّهُ، فَيُقَالُ: اذْهَبْ إِلَى الْكِتَابِ، فَإِنَّكَ سَتَجِدُ فِيهِ قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةَ، قَالَ: فَتُخْلَقُ، فَتَعِيشُ فِي أَجَلِهَا وَتَأْكُلُ فِي رِزْقِهَا، وَتَطَأُ فِي أَثَرِهَا، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا، مَاتَتْ، فَدُفِنَتْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ تَلَا الشَّعْبِيُّ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5] (الْحَجِّ: 5) . فَإِذَا بَلَغَتْ مُضْغَةً، نُكِّسَتْ فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ فَكَانَتْ نَسَمَةً، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ، قَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا، وَإِنْ كَانَتْ مُخَلَّقَةً نُكِّسَتْ نَسَمَةً. خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنْ لَا تَصْوِيرَ قَبْلَ ثَمَانِينَ يَوْمًا، فَرَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6] (آلِ عِمْرَانَ: 6) قَالَ: إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الْأَرْحَامِ، طَارَتْ فِي الْجَسَدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَكُونُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِذَا بَلَغَ أَنْ تُخْلَقَ، بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يُصَوِّرُهَا، فَيَأْتِي الْمَلَكُ بِتُرَابٍ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ، فَيَخْلِطُهُ فِي الْمُضْغَةِ، ثُمَّ يَعْجِنُهُ بِهَا، ثُمَّ يُصَوِّرُهَا كَمَا يُؤْمَرُ فَيَقُولُ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ وَمَا رِزْقُهُ، وَمَا عُمُرُهُ، وَمَا أَثَرُهُ، وَمَا مَصَائِبُهُ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، فَإِذَا مَاتَ ذَلِكَ الْجَسَدُ، دُفِنَ حَيْثُ

أُخِذَ ذَلِكَ التُّرَابُ، خَرَّجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " وَلَكِنَّ السُّدِّيَّ مُخْتَلِفٌ فِي أَمْرِهِ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يُنْكِرُ عَلَيْهِ جَمْعَهُ الْأَسَانِيدَ الْمُتَعَدِّدَةَ لِلتَّفْسِيرِ الْوَاحِدِ، كَمَا كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ يُنْكِرُونَ عَلَى الْوَاقِدِيِّ جَمْعَهُ الْأَسَانِيدَ الْمُتَعَدِّدَةَ لِلْحَدِيثِ الْوَاحِدِ. وَقَدْ أَخَذَ طَوَائِفُ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَتَأَوَّلُوا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَرْفُوعَ عَلَيْهَا، وَقَالُوا: أَقَلُّ مَا يَتَبَيَّنُ خَلْقُ الْوَلَدِ أَحَدٌ وَثَمَانُونَ يَوْمًا، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُضْغَةً إِلَّا فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، وَلَا يَتَخَلَّقُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مُضْغَةً. وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: إِنَّهُ لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ، وَلَا تُعْتَقُ أَمُّ الْوَلَدِ إِلَّا بِالْمُضْغَةِ الْمُخَلَّقَةِ، وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّقَ وَيَتَصَوَّرَ فِي أَحَدٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الْعَلَقَةِ: هِيَ دَمٌ لَا يَسْتَبِينُ فِيهَا الْخَلْقُ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُضْغَةُ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ، فَهَلْ تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ، وَتَصِيرُ أَمُّ الْوَلَدِ بِهَا مُسْتَوْلِدَةً؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا التَّخْطِيطُ، وَلَكِنْ كَانَ خَفِيًّا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا أَهْلُ الْخِبْرَةِ مِنَ النِّسَاءِ، فَشَهِدْنَ بِذَلِكَ، قُبِلَتْ شَهَادَتَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ قَبْلَهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ خَلْقٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُهُ صَالِحٌ فِي الطِّفْلِ يَتَبَيَّنُ خَلْقُهُ.

قَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا نُكِّسَ فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ، كَانَ مُخَلَّقًا، انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ، وَعَتَقَتْ بِهِ الْأَمَةُ، إِذَا كَانَ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَكَذَا نَقَلَ عَنْهُ حَنْبَلٌ: إِذَا أَسْقَطَتْ أَمُّ الْوَلَدِ، فَإِنْ كَانَ خِلْقَةً تَامَّةً عَتَقَتْ، وَانْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ إِذَا دَخَلَ فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، وَهَذَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ الْجَمَاعَةِ عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: إِذَا تَبَيَّنَ خَلْقُهُ، لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ أَنَّهَا تُعْتَقُ بِذَلِكَ إِذَا كَانَتْ أَمَةً، وَنَقَلَ عَنْهُ أَيْضًا جَمَاعَةٌ فِي الْعَلَقَةِ إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَلَدٌ أَنَّ الْأَمَةَ تُعْتَقُ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَحَكَى قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ طَرَدَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ أَحْمَدَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِهِ أَيْضًا. وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ التَّخْلِيقُ فِي الْعَلَقَةِ كَمَا قَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ الْمُتَقَدِّمِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: حَدِيثُ حُذَيْفَةَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَخَلَّقُ إِذَا صَارَ لَحْمًا وَعَظْمًا، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَقَعُ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، لَا فِي حَالِ كَوْنِهِ عَلَقَةً، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَا ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَلَقَةَ تَتَخَلَّقُ وَتَتَخَطَّطُ، وَكَذَلِكَ الْقَوَابِلُ مِنَ النِّسْوَةِ يَشْهَدْنَ بِذَلِكَ، وَحَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ يَشْهَدُ بِالتَّصْوِيرِ فِي حَالِ كَوْنِ الْجَنِينِ نُطْفَةً أَيْضًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَبَقِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ بَعْدَ مَصِيرِهِ مُضْغَةً أَنَّهُ يَبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيَكْتُبُ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعَ، وَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَاخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي تَرْتِيبِ الْكِتَابَةِ وَالنَّفْخِ، فَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي " صَحِيحِهِ " «وَيُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ» فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَصْرِيحٌ بِتَأْخِيرِ نَفْخِ الرُّوحِ عَنِ الْكِتَابَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ خَرَّجَهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ " الْقَدَرِ " «ثُمَّ يُبْعَثُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ،» وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُصَرِّحُ بِتَقَدُّمِ النَّفْخِ عَلَى الْكِتَابَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ

هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ بِرِوَايَاتِهِمْ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَفْهَمُونَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَرْتِيبَ الْأَخْبَارِ فَقَطْ لَا تَرْتِيبَ مَا أُخْبِرَ بِهِ. وَبِكُلِّ حَالٍ، فَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدُلُّ عَلَى تَأْخِيرِ نَفْخِ الرُّوحِ فِي الْجَنِينِ وَكِتَابَةِ الْمَلَكِ لِأَمْرِهِ إِلَى بَعْدِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حَتَّى تَتِمَّ الْأَرْبَعُونَ الثَّالِثَةُ. فَأَمَّا نَفْخُ الرُّوحِ، فَقَدْ رُوِيَ صَرِيحًا عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. فَرَوَى زَيْدُ بْنُ عَلِيًّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: إِذَا تَمَّتِ النُّطْفَةُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بُعِثَ إِلَيْهَا مَلَكٌ، فَنَفَخَ فِيهَا الرُّوحَ فِي الظُّلُمَاتِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] (الْمُؤْمِنُونَ: 14) ، خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَإِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ. وَخَرَّجَ الَّالِكَائِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ، مَكَثَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ نُفِخَ فِيهَا الرُّوحُ، ثُمَّ مَكَثَتْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ بُعِثَ إِلَيْهَا مَلَكٌ، فَنَقَفَهَا فِي نُقْرَةِ الْقَفَا، وَكَتَبَ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَفِيهِ أَنَّ نَفْخَ الرُّوحِ يَتَأَخَّرُ عَنِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ. وَبَنَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مَذْهَبَهُ الْمَشْهُورَ عَنْهُ عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَّ الطِّفْلَ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ بَعْدَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، صُلِّيَ عَلَيْهِ؛ حَيْثُ كَانَ قَدْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ ثُمَّ مَاتَ. وَحُكِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَنَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَفِي تِلْكَ الْعَشْرِ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ عَنْهُ: تَكُونُ النَّسَمَةُ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَعَلَقَةً

أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَمُضْغَةً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ تَكُونُ عَظْمًا وَلَحْمًا، فَإِذَا تَمَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ. فَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالرِّوَايَاتُ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ عَنْ أَحْمَدَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فِي مُدَّةِ الْعَشْرِ بَعْدَ تَمَامِ الْأَرْبَعَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْهُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ لَمَّا سُئِلَ عَنْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ حَيْثُ جُعِلَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا: مَا بَالُ الْعَشْرِ؟ قَالَ: يُنْفَخُ فِيهَا الرُّوحُ. وَأَمَّا أَهْلُ الطِّبِّ، فَذَكَرُوا أَنَّ الْجَنِينَ إِنْ تَصَوَّرَ فِي خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا تَحَرَّكَ فِي سَبْعِينَ يَوْمًا، وَوُلِدَ فِي مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ، وَرُبَّمَا تَقَدَّمَ أَيَّامًا، وَتَأَخَّرَ فِي التَّصْوِيرِ وَالْوِلَادَةِ، وَإِذَا كَانَ التَّصْوِيرُ فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، تَحَرَّكَ فِي تِسْعِينَ يَوْمًا، وَوُلِدَ فِي مِائَتَيْنِ وَسَبْعِينَ يَوْمًا، وَذَلِكَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا كِتَابَةُ الْمَلَكِ، فَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَيْضًا عَلَى مَا سَبَقَ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ؟ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقًا، قَالَ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الْأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ» وَظَاهِرُ هَذَا يُوَافِقُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرُ مُدَّةٍ، وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ الَّذِي تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ تَكُونُ فِي أَوَّلِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا بِلَفْظٍ آخَرَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَوْ

سَعِيدٌ؟ فَيَكْتُبَانِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ فَيَكْتُبَانِ، وَيَكْتُبُ عَمَلَهُ، وَأَثَرَهُ وَأَجَلَهُ وَرِزْقَهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ.» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ أَيْضًا: «إِنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يَتَسَوَّرُ عَلَيْهَا الْمَلَكُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ أَيْضًا: " لِبِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً ". وَفِي " مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اسْتَقَرَّتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بُعِثَ إِلَيْهَا مَلَكٌ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَيَعْلَمُ» . وَقَدْ سَبَقَ مَا رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ، وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ يُبْعَثُ إِلَيْهِ وَهُوَ نُطْفَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تُعْرَضُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ، فَيَنْظُرُ فِيهَا ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْأَرْحَامِ، فَيَنْظُرُ فِيهَا ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6] (آلِ عِمْرَانَ: 6) ، وَقَوْلُهُ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} [الشورى: 49] (الشُّورَى: 49) الْآيَةَ، وَيُؤْتَى بِالْأَرْزَاقِ، فَيَنْظُرُ فِيهَا ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، وَتُسَبِّحُهُ الْمَلَائِكَةُ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، قَالَ: فَهَذَا مِنْ شَأْنِكُمْ وَشَأْنِ رَبِّكُمْ " وَلَكِنْ لَيْسَ فِي هَذَا تَوْقِيتُ مَا يَنْظُرُ فِيهِ مِنَ الْأَرْحَامِ بِمُدَّةٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَكُونُ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ؛ فَخَرَّجَ الَّالِكَائِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ إِذَا مَكَثَتِ النُّطْفَةُ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاءَهَا الْمَلَكُ فَاخْتَلَجَهَا، ثُمَّ عَرَجَ بِهَا إِلَى الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: اخْلُقْ يَا أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ، فَيَقْضِي اللَّهُ فِيهَا مَا يَشَاءُ

مِنْ أَمْرِهِ، ثُمَّ تُدْفَعُ إِلَى الْمَلَكِ عِنْدَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَسَقْطٌ أَمْ تَمَامٌ؟ فَيُبَيِّنُ لَهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَاقِصُ الْأَجَلِ أَمْ تَامُّ الْأَجَلِ؟ فَيُبَيِّنُ لَهُ، وَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَوَاحِدٌ أَمْ تَوْءَمٌ؟ فَيُبَيِّنُ لَهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيُبَيِّنُ لَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيُبَيِّنُ لَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ اقْطَعْ لَهُ رِزْقَهُ، فَيَقْطَعُ لَهُ رِزْقَهُ مَعَ أَجَلِهِ، فَيَهْبِطُ بِهِمَا جَمِيعًا. فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَنَالُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُسِمَ لَهُ. وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: إِنَّ الْمَنِيَّ يَمْكُثُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَأْتِيهِ مَلَكُ النُّفُوسِ، فَيَعْرُجُ بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا هُوَ قَاضٍ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَكْتُبُ مَا هُوَ لَاقٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ تَلَا أَبُو ذَرٍّ مِنْ فَاتِحَةِ سُورَةِ التَّغَابُنِ إِلَى قَوْلِهِ {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن: 3] (التَّغَابُنِ: 3) . وَهَذَا كُلُّهُ يُوَافِقُ مَا فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كِتَابَةَ الْمَلَكِ تَكُونُ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَأَنَّ إِسْنَادَهُ فِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَأَثْبَتَ الْكِتَابَةَ مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ يُقَالُ مَعَ ذَلِكَ: إِنَّ إِحْدَاهُمَا فِي السَّمَاءِ وَالْأُخْرَى فِي بَطْنِ الْأُمِّ، وَالْأَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهَا مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجِنَّةِ، فَبَعْضُهُمْ يُكْتَبُ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى، وَبَعْضُهُمْ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ

وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ لَفْظَةَ " ثُمَّ " فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ تَرْتِيبُ الْإِخْبَارِ، لَا تَرْتِيبُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي نَفْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ رَجَّحَ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَكُونُ فِي أَوَّلِ الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ وَقَالَ: إِنَّمَا أَخَّرَ ذِكْرَهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَى مَا بَعْدَ ذِكْرِ الْمُضْغَةِ وَإِنْ ذُكِرَتْ بِلَفْظِ " ثُمَّ " لِئَلَّا يَنْقَطِعَ ذِكْرُ الْأَطْوَارِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَنْقَلِبُ فِيهَا الْجَنِينُ وَهُوَ كَوْنُهُ: نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَمُضْغَةً، فَإِنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ أَعْجَبُ وَأَحْسَنُ، فَلِذَلِكَ أَخَّرَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَعْطُوفُ مُتَقَدِّمًا عَلَى بَعْضِهَا فِي التَّرْتِيبِ، وَاسْتَشْهَدَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ - ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ - ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 7 - 9] (السَّجْدَةِ: 7 - 9) ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ: آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَسْوِيَتَهُ، وَنَفْخَ الرُّوحِ فِيهِ، كَانَ قَبْلَ جَعْلِ نَسْلِهِ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرُهُ قُدْرَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَبْدَأِ خَلْقِ آدَمَ وَخَلْقِ نَسْلِهِ، عَطَفَ ذِكْرَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَأَخَّرَ ذِكْرَ تَسْوِيَةِ آدَمَ وَنَفْخَ الرُّوحِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ مِنْ طِينٍ وَبَيْنَ خَلْقِ نَسْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ هَذِهِ الْكِتَابَةَ تُكْتَبُ بَيْنَ عَيْنَيِ الْجَنِينِ، فَفِي " مُسْنَدِ الْبَزَّارِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا خَلَقَ اللَّهُ النَّسَمَةَ، قَالَ مَلَكُ الْأَرْحَامِ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ قَالَ: فَيَقْضِي اللَّهُ إِلَيْهِ أَمْرَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَقْضِي اللَّهُ إِلَيْهِ أَمْرَهُ، ثُمَّ يَكْتُبُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَا هُوَ لَاقٍ حَتَّى النَّكْبَةَ يُنْكَبُهَا.» وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ غَيْرَ مَرْفُوعٍ، وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ الْمُتَقَدِّمُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمَلَكَ يَكْتُبُ ذَلِكَ فِي صَحِيفَةٍ، وَلَعَلَّهُ يَكْتُبُ فِي صَحِيفَةٍ، وَيَكْتُبُ بَيْنَ عَيْنَيِ الْوَلَدِ

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ تَقْتَرِنُ بِهَذِهِ الْكِتَابَةِ أَنَّهُ يُخْلَقُ مَعَ الْجَنِينِ مَا تَضَمَّنَتْ مِنْ صِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ، فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَالَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، بَعَثَ مَلَكًا، فَدَخَلَ الرَّحِمَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، مَاذَا؟ فَيَقُولُ: غُلَامٌ أَوْ جَارِيَةٌ أَوْ مَا شَاءَ أَنْ يَخْلُقَ فِي الرَّحِمِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا أَجَلُهُ؟ فَيَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا خَلْقُهُ؟ مَا خَلَائِقُهُ؟ فَيَقُولُ: كَذَا كَذَا، فَمَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ يُخْلَقُ مَعَهُ فِي الرَّحِمِ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ " الْقَدَرِ " وَالْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ ". وَبِكُلِّ حَالٍ، فَهَذِهِ الْكِتَابَةُ الَّتِي تُكْتَبُ لِلْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ غَيْرُ كِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ السَّابِقَةِ لِخَلْقِ الْخَلَائِقِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] (الْحَدِيدِ: 22) ، كَمَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.» وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَجَرْى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.» وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ مَا رُوِيَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمَلَكَ إِذَا سَأَلَ عَنْ حَالِ النُّطْفَةِ، أُمِرَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْكِتَابِ السَّابِقِ، وَيُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ تَجِدُ فِيهِ قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ، وَقَدْ تَكَاثَرَتِ النُّصُوصُ بِذِكْرِ الْكِتَابِ السَّابِقِ، بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ،

فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا، نَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا، فَكُلُّ مُيَسَّرٍ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] الْآيَتَيْنِ (اللَّيْلِ: 5) » . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ قَدْ سَبَقَ الْكِتَابُ بِهِمَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِلسَّعَادَةِ أَوِ الشَّقَاوَةِ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُعْرَفُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَوْ لِمَا يُسِّرَ لَهُ» . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِيهِ أَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ بِحَسَبَ خَوَاتِيمِ الْأَعْمَالِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ " «فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ، كَذَلِكَ رَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ، قَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَيْضًا.

وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ» . وَفِي " صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ " عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّمَا «الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ» . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا، كَالْوِعَاءِ، إِذَا طَابَ أَعْلَاهُ، طَابَ أَسْفَلُهُ، وَإِذَا خَبُثَ أَعْلَاهُ، خَبُثَ أَسْفَلُهُ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَانَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَانَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ، فَإِنَّ الْعَامِلَ يَعْمَلُ زَمَانًا مِنْ عُمُرِهِ، أَوْ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ، فَيَعْمَلُ عَمَلًا سَيِّئًا، وَإِنَّ الْعَبْدَ لِيَعْمَلُ الْبُرْهَةَ مِنْ عُمُرِهِ بِعَمَلٍ سَيِّئٍ، لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا» . وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ تَحَوَّلَ، فَعَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ

النَّارِ، وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ تَحَوَّلَ، فَعَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَمَاتَ فَدَخَلَهَا» . وَخَرَّجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ؟ فَقُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا، فَقَالَ: لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: " هَذَا الْكِتَابُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ، فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ أَبَدًا " ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ: " هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أَجْمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ، فَلَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا " فَقَالَ أَصْحَابُهُ: فَفِيمَ الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرًا قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: " سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الْعِبَادِ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَادَ فِيهِ: " «صَاحِبُ الْجَنَّةِ مَخْتُومٌ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَصَاحِبُ النَّارِ مَخْتُومٌ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ

عَمَلٍ، وَقَدْ يَسْلُكُ بِأَهْلِ السَّعَادَةِ طَرِيقَ أَهْلِ الشَّقَاءِ حَتَّى يُقَالَ: مَا أَشْبَهَهُمْ بِهِمْ، بَلْ هُمْ مِنْهُمْ، وَتُدْرِكُهُمُ السَّعَادَةُ فَتَسْتَنْقِذُهُمْ، وَقَدْ يَسْلُكُ بِأَهْلِ الشَّقَاءِ طَرِيقَ أَهْلِ السَّعَادَةِ حَتَّى يُقَالَ: مَا أَشْبَهَهُمْ بِهِمْ بَلْ هُمْ مِنْهُمْ وَيُدْرِكُهُمُ الشَّقَاءُ، مَنْ كَتَبَهُ اللَّهُ سَعِيدًا فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَعْمِلَهُ بِعَمَلٍ يُسْعِدُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ وَلَوْ بِفَوَاقِ نَاقَةٍ، ثُمَّ قَالَ: الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا، الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا» " وَخَرَّجَهُ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ وَفِي أَصْحَابِهِ رَجُلٌ لَا يَدَعُ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالُوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا أُصَاحِبُهُ، فَاتَّبَعَهُ، فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ عَلَى الْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» " زَادَ الْبُخَارِيُّ رِوَايَةً لَهُ " «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ» ". وَقَوْلُهُ: " فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ " إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَاطِنَ الْأَمْرِ يَكُونُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّ خَاتِمَةَ السُّوءِ تَكُونُ بِسَبَبِ دَسِيسَةٍ بَاطِنَةٍ لِلْعَبْدِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النَّاسُ، إِمَّا مِنْ جِهَةِ

عَمَلٍ سَيِّئٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتِلْكَ الْخَصْلَةُ الْخَفِيَّةُ تُوجِبُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَعْمَلُ الرَّجُلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَفِي بَاطِنِهِ خَصْلَةٌ خَفِيَّةٌ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ، فَتَغْلِبُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْخَصْلَةُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، فَتُوجِبُ لَهُ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ: حَضَرْتُ رَجُلًا عِنْدَ الْمَوْتِ يُلَقَّنُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ فِي آخِرِ مَا قَالَ: هُوَ كَافِرٌ بِمَا تَقُولُ، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَإِذَا هُوَ مُدْمِنُ خَمْرٍ. فَكَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ يَقُولُ: اتَّقُوا الذُّنُوبَ، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتْهُ. وَفِي الْجُمْلَةِ: فَالْخَوَاتِيمُ مِيرَاثُ السَّوَابِقِ، فَكُلُّ ذَلِكَ سَبَقَ فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ يَشْتَدُّ خَوْفُ السَّلَفِ مِنْ سُوءِ الْخَوَاتِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْلَقُ مِنْ ذِكْرِ السَّوَابِقِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قُلُوبَ الْأَبْرَارِ مُعَلَّقَةٌ بِالْخَوَاتِيمِ، يَقُولُونَ: بِمَاذَا يُخْتَمُ لَنَا؟ وَقُلُوبُ الْمُقَرَّبِينَ مُعَلَّقَةٌ بِالسَّوَابِقِ، يَقُولُونَ: مَاذَا سَبَقَ لَنَا. وَبَكَى بَعْضُ الصَّحَابَةِ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبَضَ خَلْقَهُ قَبْضَتَيْنِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ» " وَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ كُنْتُ؟ . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا أَبْكَى الْعُيُونَ مَا أَبْكَاهَا الْكِتَابُ السَّابِقُ. وَقَالَ سُفْيَانُ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ: هَلْ أَبْكَاكَ قَطُّ عِلْمُ اللَّهِ فِيكَ؟ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ: تَرَكَنِي لَا أَفْرَحُ أَبَدًا. وَكَانَ سُفْيَانُ يَشْتَدُّ قَلَقُهُ مِنَ السَّوَابِقِ وَالْخَوَاتِيمِ، فَكَانَ يَبْكِي وَيَقُولُ: أَخَافُ أَنْ أَكُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ شَقِيًّا، وَيَبْكِي، وَيَقُولُ: أَخَافُ أَنْ أُسْلَبَ الْإِيمَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ.

وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَقُومُ طُولَ لَيْلِهِ قَابِضًا عَلَى لِحْيَتِهِ، وَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَدْ عَلِمْتَ سَاكِنَ الْجَنَّةِ مِنْ سَاكِنِ النَّارِ، فَفِي أَيِّ الدَّارَيْنِ مَنْزِلُ مَالِكٍ؟ . وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: مَنْ خَلَا قَلْبُهُ مِنْ ذِكْرِ أَرْبَعَةِ أَخْطَارٍ، فَهُوَ مُغْتَرٌّ، فَلَا يَأْمَنُ الشَّقَاءَ: الْأَوَّلُ: خَطَرُ يَوْمِ الْمِيثَاقِ حِينَ قَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي، فَلَا يُعْلَمُ فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ، وَالثَّانِي: حِينَ خُلِقَ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، فَنُودِيَ الْمَلَكُ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَلَا يَدْرِي: أَمِنَ الْأَشْقِيَاءِ هُوَ أَمْ مِنَ السُّعَدَاءِ؟ وَالثَّالِثُ: ذِكْرُ هَوْلِ الْمَطْلَعِ، وَلَا يَدْرِي أَيُبَشَّرُ بِرِضَا اللَّهِ أَوْ بِسُخْطِهِ؟ وَالرَّابِعُ: يَوْمَ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا، وَلَا يَدْرِي، أَيُّ الطَّرِيقَيْنِ يُسْلَكُ بِهِ. وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: الْمُرِيدُ يَخَافُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْمَعَاصِي، وَالْعَارِفُ يَخَافُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْكُفْرِ. وَمِنْ هُنَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ النِّفَاقَ وَيَشْتَدُّ قَلَقُهُمْ وَجَزَعُهُمْ مِنْهُ، فَالْمُؤْمِنُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ النِّفَاقَ الْأَصْغَرَ، وَيَخَافُ أَنْ يَغْلِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْخَاتِمَةِ، فَيُخْرِجُهُ إِلَى النِّفَاقِ الْأَكْبَرِ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ دَسَائِسَ السُّوءِ الْخَفِيَّةِ تُوجِبُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: " «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " فَقِيلَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: " نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ شَاءَ» " خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ فِي دُعَائِهِ أَنْ يَقُولَ: " اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،

أَوَإِنَّ الْقُلُوبَ لَتَتَقَلَّبُ؟ قَالَ: " نَعَمْ؛ مَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ بَشَرٍ إِلَّا أَنَّ قَلْبَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، فَإِنْ شَاءَ عَزَّ وَجَلَّ، أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّنَا أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ " قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تُعَلِّمُنِي دَعْوَةً أَدْعُو بِهَا لِنَفْسِي؟ قَالَ: " بَلَى، قُولِي اللَّهُمَّ رَبَّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي، وَأَجِرْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ مَا أَحْيَيْتَنِي» ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يَصْرِفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ "، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ» ".

[الحديث الخامس من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد]

[الْحَدِيثُ الْخَامِسُ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ]

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمَّتِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَلْفَاظُهُ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَعْنَاهَا مُتَقَارِبٌ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: " «مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» ". وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ كَالْمِيزَانِ لِلْأَعْمَالِ فِي ظَاهِرِهَا كَمَا أَنَّ حَدِيثَ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» مِيزَانٌ لِلْأَعْمَالِ فِي بَاطِنِهَا، فَكَمَا أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ لِعَامِلِهِ فِيهِ ثَوَابٌ، فَكَذَلِكَ كُلُّ عَمَلٍ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى عَامِلِهِ، وَكُلُّ مَنْ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ. وَسَيَأْتِي حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ

الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوًا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . «وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: " إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا» " وَسَنُؤَخِّرُ الْكَلَامَ عَلَى الْمُحْدَثَاتِ إِلَى ذِكْرِ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَنَتَكَلَّمُ هَاهُنَا عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهَا أَمْرُ الشَّارِعِ وَرَدُّهَا. فَهَذَا الْحَدِيثُ بِمَنْطُوقِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ الشَّارِعِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَيَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ عَلَيْهِ أَمْرُهُ فَهُوَ غَيْرُ مَرْدُودٍ، وَالْمُرَادُ بِأَمْرِهِ هَاهُنَا: دِينُهُ وَشَرْعُهُ، كَالْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» . فَالْمَعْنَى إِذًا: أَنَّ مَنْ كَانَ عَمَلُهُ خَارِجًا عَنِ الشَّرْعِ لَيْسَ مُتَقَيِّدًا بِالشَّرْعِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ. وَقَوْلُهُ: " لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا " إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَعْمَالَ الْعَامِلِينَ كُلِّهِمْ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَتَكُونُ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ حَاكِمَةً عَلَيْهَا بِأَمْرِهَا وَنَهْيِهَا، فَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ جَارِيًا تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مُوَافِقًا لَهَا، فَهُوَ مَقْبُولٌ، وَمَنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مَرْدُودٌ. وَالْأَعْمَالُ قِسْمَانِ: عِبَادَاتٌ وَمُعَامَلَاتٌ. فَأَمَّا الْعِبَادَاتُ، فَمَا كَانَ مِنْهَا خَارِجًا عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى عَامِلِهِ، وَعَامِلُهُ يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ

الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] (الشُّورَى: 21) فَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ بِعَمَلٍ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ، فَعَمَلُهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِحَالِ الَّذِينَ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً، وَهَذَا كَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِسَمَاعِ الْمَلَاهِي، أَوْ بِالرَّقْصِ، أَوْ بِكَشْفِ الرَّأْسِ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ الَّتِي لَمْ يَشْرَعِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ التَّقَرُّبَ بِهَا بِالْكُلِّيَّةِ. وَلَيْسَ مَا كَانَ قُرْبَةً فِي عِبَادَةٍ يَكُونُ قُرْبَةً فِي غَيْرِهَا مُطْلَقًا، فَقَدْ «رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ إِنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَأَنْ يَصُومَ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْعُدَ وَيَسْتَظِلَّ، وَأَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ» فَلَمْ يَجْعَلْ قِيَامَهُ وَبُرُوزَهُ فِي الشَّمْسِ قُرْبَةً يُوفِي بِنَذْرِهِمَا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ عِنْدَ سَمَاعِ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَنَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ مَا دَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ؛ إِعْظَامًا لِسَمَاعِ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَجْعَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ قُرْبَةً تُوفِي بِنَذْرِهِ، مَعَ أَنَّ الْقِيَامَ عِبَادَةٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَالصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ وَالدُّعَاءِ بِعَرَفَةَ، وَالْبُرُوزُ لِلشَّمْسِ قُرْبَةٌ لِلْمُحْرِمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ قُرْبَةً فِي مَوْطِنٍ يَكُونُ قُرْبَةً فِي كُلِّ الْمَوَاطِنِ، وَإِنَّمَا يَتْبَعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ فِي مَوَاضِعِهَا. وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَرَّبَ بِعِبَادَةٍ نُهِيَ عَنْهَا بِخُصُوصِهَا، كَمَنْ صَامَ يَوْمَ الْعِيدِ، أَوْ صَلَّى وَقْتَ النَّهْيِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَصْلُهُ مَشْرُوعٌ وَقُرْبَةٌ، ثُمَّ أَدْخَلَ فِيهِ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، أَوْ أَخَلَّ فِيهِ بِمَشْرُوعٍ، فَهَذَا مُخَالِفٌ أَيْضًا لِلشَّرِيعَةِ بِقَدْرِ إِخْلَالِهِ بِمَا أَخَلَّ بِهِ، أَوْ

إِدْخَالِهِ مَا أَدْخَلَ فِيهِ، وَهَلْ يَكُونُ عَمَلُهُ مِنْ أَصْلِهِ مَرْدُودًا عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَهَذَا لَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ فِيهِ بِرَدٍّ وَلَا قَبُولٍ، بَلْ يُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ مَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْعَمَلِ أَوْ شُرُوطِهِ مُوجِبًا لِبُطْلَانِهِ فِي الشَّرِيعَةِ، كَمَنْ أَخَلَّ بِالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، أَوْ كَمَنْ أَخَلَّ بِالرُّكُوعِ أَوْ بِالسُّجُودِ أَوْ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِيهِمَا، فَهَذَا عَمَلٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ إِعَادَتُهُ إِنْ كَانَ فَرْضًا، وَإِنْ كَانَ مَا أَخَلَّ بِهِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَمَلِ، كَمَنْ أَخَلَّ بِالْجَمَاعَةِ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهَا وَلَا يَجْعَلُهَا شَرْطًا، فَهَذَا لَا يُقَالُ: إِنَّ عَمَلَهُ مَرْدُودٌ مِنْ أَصْلِهِ، بَلْ هُوَ نَاقِصٌ. وَإِنْ كَانَ قَدْ زَادَ فِي الْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، فَزِيَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ عَلَيْهِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ قُرْبَةً وَلَا يُثَابُ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ تَارَةً يُبْطَلُ بِهَا الْعَمَلُ مِنْ أَصْلِهِ، فَيَكُونُ مَرْدُودًا، كَمَنْ زَادَ فِي صِلَاتِهِ رَكْعَةً عَمْدًا مَثَلًا، وَتَارَةً لَا يُبْطِلُهُ، وَلَا يَرُدُّهُ مِنْ أَصْلِهِ، كَمَنْ تَوَضَّأَ أَرْبَعًا أَرْبَعًا، أَوْ صَامَ اللَّيْلَ مَعَ النَّهَارِ، وَوَاصَلَ فِي صِيَامِهِ، وَقَدْ يُبَدِّلُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ فِي الْعِبَادَةِ بِمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، كَمَنْ سَتَرَ عَوْرَتَهُ فِي الصَّلَاةِ بِثَوْبِ مُحَرَّمٍ، أَوْ تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ، أَوْ صَلَّى فِي بُقْعَةِ غَصْبٍ، فَهَذَا قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: هَلْ عَمَلُهُ مَرْدُودٌ مِنْ أَصْلِهِ، أَوْ أَنَّهُ غَيْرُ مَرْدُودٍ وَتَبْرَأُ بِهِ الذِّمَّةُ مِنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ؟ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَرْدُودٍ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَدْ حَكَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ يُقَالُ لَهُمْ: الشِّمْرِيَّةُ أَصْحَابُ أَبِي شِمْرٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ كَانَ فِي ثَمَنِهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ أَنَّ عَلَيْهِ إِعَادَةَ صِلَاتِهِ، وَقَالَ: مَا سَمِعْتُ قَوْلًا أَخْبَثَ مِنْ قَوْلِهِمْ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ مِنْ أَكَابِرِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، الْمُطَّلِعِينَ عَلَى مَقَالَاتِ السَّلَفِ، وَقَدِ اسْتَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ وَجَعَلَهُ بِدْعَةً، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الْقَوْلَ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ فِي مِثْلِ هَذَا.

وَيُشْبِهُ هَذَا الْحَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّهُ حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ أَمْ لَا؟ . وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ الذَّبْحُ بِآلَةٍ مُحَرَّمَةٍ، أَوْ ذَبْحُ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الذَّبْحُ، كَالسَّارِقِ، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: إِنَّهُ تُبَاحُ الذَّبِيحَةُ بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُحَرَّمَةٌ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي ذَبْحِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ، لَكِنَّ الْقَوْلَ بِالتَّحْرِيمِ فِيهِ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ، لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِعَيْنِهِ. وَلِهَذَا فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ مِنَ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِالْعِبَادَةِ فَيُبْطِلُهَا، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ مُخْتَصًّا بِهَا فَلَا يُبْطِلُهَا، فَالصَّلَاةُ بِالنَّجَاسَةِ، أَوْ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، أَوْ بِغَيْرِ سِتَارَةٍ، أَوْ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ يُبْطِلُهَا لِاخْتِصَاصِ النَّهْيِ بِالصَّلَاةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي الْغَصْبِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّ الصِّيَامَ لَا يُبْطِلُهُ إِلَّا ارْتِكَابُ مَا نُهِيَ عَنْهُ فِيهِ بِخُصُوصِهِ، وَهُوَ جِنْسُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، بِخِلَافِ مَا نُهِيَ عَنْهُ الصَّائِمُ، لَا بِخُصُوصِ الصِّيَامِ، كَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَكَذَلِكَ الْحَجُّ مَا يُبْطِلُهُ إِلَّا مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ الْجِمَاعُ، وَلَا يُبْطِلُهُ مَا لَا يَخْتَصُّ بِالْإِحْرَامِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، كَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ. وَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ: إِنَّمَا يُبْطَلُ بِمَا نُهِيَ عَنْهُ فِيهِ بِخُصُوصِهِ، وَهُوَ الْجِمَاعُ، وَإِنَّمَا يُبْطَلُ بِالسُّكْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، لِنَهْيِ السَّكْرَانِ عَنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ

وَدُخُولِهِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] (النِّسَاءِ: 43) أَنَّ الْمُرَادَ مَوَاضِعُ الصَّلَاةِ، فَصَارَ كَالْحَائِضِ، وَلَا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ بِغَيْرِهِ مِنِ ارْتِكَابِهِ الْكَبَائِرَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ، وَحُكِيَ عَنْ غَيْرِهِمْ أَيْضًا. وَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ كَالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَنَحْوِهِمَا، فَمَا كَانَ مِنْهَا تَغَيُّرًا لِلْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ، كَجَعْلِ حَدِّ الزِّنَا عُقُوبَةً مَالِيَّةً، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ مِنْ أَصْلِهِ، لَا يَنْتَقِلُ بِهِ الْمِلْكُ، لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَّذِي سَأَلَهُ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى فُلَانٍ، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمِائَةُ الشَّاةُ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ» . وَمَا كَانَ مِنْهَا عَقْدًا مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي الشَّرْعِ، إِمَّا لِكَوْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَيْسَ مَحِلًّا لِلْعَقْدِ، أَوْ لِفَوَاتِ شَرْطٍ فِيهِ، أَوْ لِظُلْمٍ يَحْصُلُ بِهِ لِلْمَعْقُودِ مَعَهُ وَعَلَيْهِ، أَوْ لِكَوْنِ الْعَقْدِ يَشْغَلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الْوَاجِبِ عِنْدَ تُضَايُقِ وَقْتِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذَا الْعَقْدُ: هَلْ هُوَ مَرْدُودٌ بِالْكُلِّيَّةِ، لَا يَنْتَقِلُ بِهِ الْمِلْكُ، أَمْ لَا؟ هَذَا الْمَوْضِعُ قَدِ اضْطَرَبَ النَّاسُ فِيهِ اضْطِرَابًا كَثِيرًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ أَنَّهُ مَرْدُودٌ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ يُفِيدُهُ، فَحَصَلَ الِاضْطِرَابُ فِيهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَالْأَقْرَبُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنْهُ لَحِقٍّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَنَعْنِى أَنَّهُ بِكَوْنِ الْحَقِّ لِلَّهِ: أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِرِضَا الْمُتَعَاقِدِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنْهُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ بِحَيْثُ يَسْقُطُ بِرِضَاهُ بِهِ، فَإِنَّهُ يَقِفُ عَلَى رِضَاهُ بِهِ، فَإِنْ رَضِيَ لَزِمَ الْعَقْدُ، وَاسْتَمَرَّ الْمِلْكُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ، فَلَهُ الْفَسْخُ، فَإِنْ كَانَ

الَّذِي يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ، كَالزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ، فَلَا عِبْرَةَ بِرِضَاهُ وَلَا بِسُخْطِهِ، وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ رِفْقًا بِالْمَنْهِيِّ خَاصَّةً لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ، فَخَالَفَ وَارْتَكَبَ الْمَشَقَّةَ، لَمْ يَبْطُلْ بِذَلِكَ عَمَلُهُ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا نِكَاحُ مَنْ يَحْرُمُ نِكَاحُهُ، إِمَّا لِعَيْنِهِ، كَالْمُحَرَّمَاتِ عَلَى التَّأْبِيدِ بِسَبَبٍ أَوْ نَسَبٍ، أَوْ لِلْجَمْعِ أَوْ لِفَوَاتِ شَرْطٍ لَا يَسْقُطُ بِالتَّرَاضِي بِإِسْقَاطِهِ: كَنِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ وَالْمُحْرِمَةِ، وَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ حُبْلَى فَرَدَّ النِّكَاحَ لِوُقُوعِهِ فِي الْعِدَّةِ» 32.

وَمِنْهَا عُقُودُ الرِّبَا، فَلَا تُفِيدُ الْمِلْكَ، وَيُؤْمَرُ بِرَدِّهَا، وَقَدْ «أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَاعَ صَاعَ تَمْرٍ بِصَاعَيْنِ أَنْ يَرُدَّهُ» . وَمِنْهَا بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ وَالْكَلْبِ، وَسَائِرِ مَا نُهِيَ عَنْ بَيْعِهِ

مِمَّا لَا يَجُوزُ التَّرَاضِي بِبَيْعِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي، فَلَهُ صُوَرٌ عَدِيدَةٌ: مِنْهَا إِنْكَاحُ الْوَلِيِّ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ إِنْكَاحُهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَقَدْ «رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ ثَيِّبٍ زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ» ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ «خَيَّرَ امْرَأَةً زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهَا» ، وَفِي بُطْلَانِ هَذَا النِّكَاحِ وَوُقُوفِهِ عَلَى الْإِجَازَةِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ تَصَرُّفُهُ بَاطِلًا مِنْ أَصْلِهِ، بَلْ يَقِفُ عَلَى إِجَازَتِهِ، فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ فِي شِرَائِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاتَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ شَاةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ بَاعَ إِحْدَاهُمَا، وَقَبِلَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَخَصَّ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ بِمَنْ كَانَ يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ فِي مَالِهِ بِإِذْنٍ إِذَا خَالَفَ الْإِذْنَ. وَمِنْهَا تَصَرُّفُ الْمَرِيضِ فِي مَالِهِ كُلِّهِ: هَلْ يَقَعُ بَاطِلًا مِنْ أَصْلِهِ أَمْ يَقِفُ تَصَرُّفُهُ فِي الثُّلُثَيْنِ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ مَشْهُورٌ لِلْفُقَهَاءِ، وَالْخِلَافُ فِي

مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ إِلَيْهِ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ، فَجَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا» ، وَلَعَلَّ الْوَرَثَةَ لَمْ يُجِيزُوا عِتْقَ الْجَمِيعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا بَيْعُ الْمُدَلِّسِ وَنَحْوِهِ كَالْمُصَرَّاةِ، وَبَيْعِ النَّجَشِ، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي صِحَّتِهِ كُلِّهِ اخْتِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِلَى بُطْلَانِهِ وَرَدِّهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَصِحُّ وَيَقِفُ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ حَصَلَ لَهُ ظُلْمٌ بِذَلِكَ، فَقَدْ صَحَّ عَنِ «النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَعَلَ مُشْتَرِي الْمُصَرَّاةِ بِالْخِيَارِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ لِلرُّكْبَانِ الْخِيَارَ إِذَا

هَبَطُوا السُّوقَ» ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَرْدُودٍ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى بَعْضِ مَنْ قَالَ بِالْبُطْلَانِ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ، فَلَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ جَوَابًا. وَأَمَّا بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، فَمَنْ صَحَّحَهُ، جَعَلَهُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَمَنْ أَبْطَلَهُ جَعَلَ الْحَقَّ فِيهِ لِأَهْلِ الْبَلَدِ كُلِّهِمْ، وَهُمْ غَيْرُ مُنْحَصِرِينَ، فَلَا يُتَصَوَّرُ إِسْقَاطُ حُقُوقِهِمْ، فَصَارَ كَحَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَمِنْهَا: لَوْ بَاعَ رَقِيقًا يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ كَالْأُمِّ وَوَلَدِهَا، فَهَلْ يَقَعُ بَاطِلًا مَرْدُودًا، أَمْ يَقِفُ عَلَى رِضَاهُمْ بِذَلِكَ؟ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِرَدِّ هَذَا الْبَيْعِ. وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ، وَلَوْ رَضُوا بِذَلِكَ، وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إِلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ بِرِضَاهُمْ: مِنْهُمُ النَّخَعِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ، فَعَلَى هَذَا يَتَوَجَّهُ أَنْ يَصِحَّ وَيَقِفُ عَلَى الرِّضَا. وَمِنْهَا لَوْ خَصَّ بَعْضَ أَوْلَادِهِ بِالْعَطِيَّةِ دُونَ بَعْضٍ، فَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «أَمَرَ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ لَمَّا خَصَّ وَلَدَهُ النُّعْمَانَ بِالْعَطِيَّةِ أَنْ يَرُدَّهُ» ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلِ الْمِلْكُ بِذَلِكَ إِلَى الْوَلَدِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْعَطِيَّةَ تَصِحُّ وَتَقَعُ مُرَاعَاةً، فَإِنْ سَوَّى بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطِيَّةِ، أَوِ اسْتَرَدَّ مَا أَعْطَى الْوَلَدَ، جَازَ وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مِيرَاثٌ وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ نَحْوُهُ، وَأَنَّ الْعَطِيَّةَ

تَبْطُلُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ وَهَلْ لِلْوَرَثَةِ الرُّجُوعُ فِيهَا أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَمِنْهَا الطَّلَاقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، كَالطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ، فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ لِحَقِّ الزَّوْجِ، حَيْثُ كَانَ يَخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَعْقُبَهُ فِيهِ النَّدَمُ، وَمَنْ نَهَى عَنْ شَيْءٍ رِفْقًا بِهِ، فَلَمْ يَنْتَهِ عَنْهُ بَلْ فَعَلَهُ وَتَجَشَّمَ مَشَقَّتَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِبُطْلَانِ مَا أَتَى بِهِ، كَمَنْ صَامَ فِي الْمَرَضِ أَوِ السَّفَرِ، أَوْ وَاصَلَ فِي الصِّيَامِ، أَوْ أَخْرَجَ مَالَهُ وَجَلَسَ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ، أَوْ صَلَّى قَائِمًا مَعَ تَضَرُّرِهِ بِالْقِيَامِ لِلْمَرَضِ، أَوِ اغْتَسَلَ وَهُوَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ الضَّرَرَ أَوِ التَّلَفَ وَلَمْ يَتَيَمَّمْ، أَوْ صَامَ الدَّهْرَ وَلَمْ يُفْطِرْ، أَوْ قَامَ اللَّيْلَ وَلَمْ يَنَمْ، وَكَذَلِكَ إِذَا جَمَعَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ عَلَى الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ طَلَاقِ الْحَائِضِ لِحَقِّ الْمَرْأَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِهَا بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، وَلَوْ رَضِيَتْ بِذَلِكَ بِأَنْ سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ بِعِوَضٍ فِي الْحَيْضِ، فَهَلْ يَزُولُ بِذَلِكَ تَحْرِيمُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَزُولُ التَّحْرِيمُ بِذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْرِيمَ فِيهِ لِحَقِّ الزَّوْجِ خَاصَّةً، فَإِذَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فَسَقَطَ، وَإِنْ عَلَّلَ بِأَنَّهُ لِحَقِّ الْمَرْأَةِ لَمْ يَمْنَعْ نُفُوذُهُ وَوُقُوعُهُ أَيْضًا، فَإِنَّ رِضَا الْمَرْأَةِ بِالطَّلَاقِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِوُقُوعِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ سِوَى شِرْذِمَةٍ يَسِيرَةٍ مِنَ الرَّوَافِضِ وَنَحْوِهِمْ، كَمَا أَنَّ رِضَا الرَّقِيقِ بِالْعِتْقِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَلَوْ تَضَرَّرَ بِهِ، وَلَكِنْ إِذَا تَضَرَّرَتِ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ طَلَاقِهَا، أُمِرَ الزَّوْجُ بِارْتِجَاعِهَا، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ عُمَرَ بِارْتِجَاعِ زَوْجَتِهِ تَلَافِيًا مِنْهُ لِضَرَرِهَا، وَتَلَافِيًا لِمَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ حَتَّى لَا تَصِيرَ بَيْنُونَتُهَا مِنْهُ نَاشِئَةً عَنْ طَلَاقٍ مُحَرَّمٍ، وَلِيَتَمَكَّنَ مِنْ طَلَاقِهَا عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ، فَتَحْصُلُ إِبَانَتُهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا، وَهَذَا مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ أَصْحَابِ

ابْنِ عُمَرَ كُلِّهِمْ مِثْلِ ابْنِهِ سَالِمٍ، وَمَوْلَاهُ نَافِعٍ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَطَاوُسٍ، وَيُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ أَنْكَرَ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَلَى أَبِي الزُّبَيْرِ مِنَ الْمُحْدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ تَفَرَّدَ بِمَا خَالَفَ الثِّقَاتَ، فَلَا يُقْبَلُ تَفَرُّدُهُ، فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَبَ عَلَيْهِ الطَّلْقَةَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ: إِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي بِذَلِكَ: يَعْنِي بِارْتِجَاعِ الْمَرْأَةِ، وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَ ثَلَاثًا، فَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ.

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ زِيَادَةٌ أُخْرَى لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَإِنَّمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدَ رِوَايَتِهِ لِلْحَدِيثِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ كَانَ طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ طَلَاقَ ابْنِ عُمَرَ كَانَ ثَلَاثًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا رَدَّهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوقِعِ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ عَنْهُ، فَلَعَلَّ أَبَا الزُّبَيْرِ اعْتَقَدَ هَذَا حَقًّا، فَرَوَى تِلْكَ اللَّفْظَةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَهِمَهُ، وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: «عَنْ جَابِرٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِيُرَاجِعْهَا فَإِنَّهَا امْرَأَتُهُ» " وَأَخْطَأَ فِي ذِكْرِ جَابِرٍ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، وَتَفَرَّدَ بِقَوْلِهِ: " فَإِنَّهَا امْرَأَتُهُ " وَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَبِي الزُّبَيْرِ، وَأَصْحَابُ ابْنِ عُمَرَ الثِّقَاتُ الْحُفَّاظُ الْعَارِفُونَ بِهِ الْمُلَازِمُونَ لَهُ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَرَوَى أَيُّوبُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: مَكَثْتُ عِشْرِينَ سَنَةً يُحَدِّثُنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَاجِعَهَا» ، فَجَعَلْتُ لَا أَتَّهِمُهُمْ وَلَا أَعْرِفُ الْحَدِيثَ حَتَّى لَقِيتُ أَبَا غَلَّابٍ يُونُسَ بْنَ جُبَيْرٍ وَكَانَ ذَا ثَبَتٍ، فَحَدَّثَنِي أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ فَحَدَّثَهُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: فَجَعَلْتُ لَا أَعْرِفُ لِلْحَدِيثِ وَجْهًا وَلَا أَفْهَمُهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ شَاعَ بَيْنَ الثِّقَاتِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ أَنَّ طَلَاقَ ابْنِ عُمَرَ كَانَ ثَلَاثًا، وَلَعَلَّ أَبَا الزُّبَيْرِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَلِذَلِكَ كَانَ نَافِعٌ يَسْأَلُ كَثِيرًا عَنْ طَلَاقِ ابْنِ عُمَرَ، هَلْ كَانَ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً؟ وَلَمَّا قَدِمَ نَافِعٌ مَكَّةَ، أَرْسَلُوا

إِلَيْهِ مِنْ مَجْلِسِ عَطَاءٍ يَسْأَلُونَهُ عَنْ ذَلِكَ لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَاسْتِنْكَارُ ابْنِ سِيرِينَ لِرِوَايَةِ الثَّلَاثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ قَائِلًا مُعْتَبَرًا يَقُولُ: إِنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا وَجْهَ لَهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، وَسُئِلَ عَمَّنْ قَالَ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ، لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مَا أَمَرَ بِهِ، فَقَالَ: هَذَا قَوْلُ سُوءٍ رَدِيءٌ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَّهُ احْتَسَبَ بِطَلَاقِهِ فِي الْحَيْضِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْوُقُوعُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مُجْمِعُونَ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ حِجَازِهِمْ وَتِهَامِهِمْ، وَيَمَنِهِمْ وَشَامِهِمْ، وَعِرَاقِهِمْ وَمِصْرِهِمْ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ مَنْ يُحْفَظُ قَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ. وَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ مُسْتَنِدًا إِلَى مَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْخُشَنِيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، قَالَ: لَا يُعْتَدُّ بِهَا» ، وَبِإِسْنَادِهِ، عَنْ خِلَاسٍ نَحْوَهُ، فَإِنَّ هَذَا الْأَثَرَ قَدْ سَقَطَتْ مِنْ آخِرِهِ لَفْظَةٌ وَهِيَ قَالَ: لَا يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ، كَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، وَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَيْضًا، وَقَالَ: هُوَ غَرِيبٌ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ إِلَّا عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَمُرَادُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي طَلَّقَ فِيهَا لَا تَعْتَدُّ بِهَا الْمَرْأَةُ قُرْءًا، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ خِلَاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ،

وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، فَوَهِمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا وَهِمَ ابْنُ حَزْمٍ، فَحَكَوْا عَنْ بَعْضِ مَنْ سَمَّيْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ لَا يَقَعُ، وَهَذَا سَبَبُ وَهْمِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ إِنَّمَا رَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ ثَلَاثَةُ مَسَاكِنَ، فَأَوْصَى بِثُلُثِ ثَلَاثِ مَسَاكِنَ هَلْ تُجْمَعُ لَهُ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: تُجْمَعُ لَهُ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ، حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَمُرَادُهُ أَنَّ تَغْيِيرَ وَصِيَّةِ الْمُوصِي إِلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ وَأَنْفَعُ جَائِزٌ، وَقَدْ حُكِيَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَرُبَّمَا يَسْتَدِلُّ بَعْضُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] وَلَعَلَّهُ أَخَذَ هَذَا مِنْ جَمْعِ الْعِتْقِ، فَإِنَّهُ صَحَّ " «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَدَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً» " خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ تَكْمِيلَ عِتْقِ الْعَبْدِ مَهْمَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ تَشْقِيصِهِ، وَلِهَذَا شُرِعَتِ السَّرَايَةُ وَالسِّعَايَةُ إِذَا أَعْتَقَ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ. «وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدٍ لَهُ: هُوَ عَتِيقٌ كُلُّهُ لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ» . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْقَاسِمِ هَذَا، وَأَنَّ وَصِيَّةَ الْمُوصِي لَا تُجْمَعُ، وَيُتْبَعُ لَفْظُهُ إِلَّا فِي الْعِتْقِ خَاصَّةً، لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي جَمَعَ لَهُ فِي الْعِتْقِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي بَقِيَّةِ الْأَمْوَالِ، فَيَعْمَلُ فِيهَا بِمُقْتَضَى وَصِيَّةِ الْمُوصِي.

وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْعِتْقِ إِلَى أَنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ ثُلُثُهُ، وَيَسْتَسْعَوْنَ فِي الْبَاقِي، وَاتِّبَاعُ قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ وَأَوْلَى، وَالْقَاسِمُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ فِي مُشَارَكَةِ الْمُوصَى لَهُ لِلْوَرَثَةِ فِي الْمَسَاكِنِ كُلِّهَا ضَرَرًا عَلَيْهِمْ، فَيَدْفَعُ عَنْهُمْ هَذَا الضَّرَرَ بِجَمْعِ الْوَصِيَّةِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ شَرَطَ فِي الْوَصِيَّةِ عَدَمَ الْمُضَارَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12] (النِّسَاءِ: 12) فَمَنْ ضَارَّ فِي وَصِيَّتِهِ، كَانَ عَمَلُهُ مَرْدُودًا عَلَيْهِ لِمُخَالَفَتِهِ مَا شَرَطَ اللَّهُ فِي الْوَصِيَّةِ. وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ وَصَّى لَهُ بِثُلُثِ مَسَاكِنِهِ كُلِّهَا، ثُمَّ تَلَفَ ثُلُثَا الْمَسَاكِنِ، وَبَقِيَ مِنْهَا ثُلُثٌ أَنَّهُ يُعْطَى كُلُّهُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَوَافَقَهُمُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ أَصْحَابِنَا فِي خِلَافِهِ، وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَسَاكِنَ الْمُشْتَرَكَةَ تُقَسَّمُ بَيْنَ الْمُشْتَرِكِينَ فِيهَا قِسْمَةَ إِجْبَارٍ، كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ أَبِي مُوسَى مِنْ أَصْحَابِنَا، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمَسَاكِنَ الْمُتَعَدِّدَةَ لَا تُقَسَّمُ قِسْمَةَ إِجْبَارٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فُتْيَا الْقَاسِمِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْوَرَثَةِ أَوِ الْمُوصَى لَهُمْ طَلَبَ قِسْمَةَ الْمَسَاكِنِ فَكَانَتْ مُتَقَارِبَةً بِحَيْثُ يَضُمُّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ فِي الْقِسْمَةِ، فَإِنَّهُ يُجَابُ إِلَى قِسْمَتِهَا عَلَى قَوْلِهِمْ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[الحديث السادس إن الحلال بين وإن الحرام بين]

[الْحَدِيثُ السَّادِسُ إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ]

الْحَدِيثُ السَّادِسُ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَفِي أَلْفَاظِهِ بَعْضُ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ أَوْ مُتَقَارِبٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَجَابِرٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ أَصَحُّ أَحَادِيثِ الْبَابِ.

فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» مَعْنَاهُ: أَنَّ الْحَلَالَ الْمَحْضَ بَيِّنٌ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْحَرَامُ الْمَحْضُ، وَلَكِنْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أُمُورٌ تَشْتَبِهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، هَلْ هِيَ مِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ؟ وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَيَعْلَمُونَ مِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ هِيَ. فَأَمَّا الْحَلَالُ الْمَحْضُ: فَمِثْلُ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الزُّرُوعِ، وَالثِّمَارِ وَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَشُرْبِ الْأَشْرِبَةِ الطَّيِّبَةِ، وَلِبَاسِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ، أَوِ الصُّوفِ أَوِ الشَّعْرِ، وَكَالنِّكَاحِ، وَالتَّسَرِّي وَغَيْرِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ اكْتِسَابُهُ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ كَالْبَيْعِ، أَوْ بِمِيرَاثٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ. وَالْحَرَامُ الْمَحْضُ: مِثْلُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ، وَلِبَاسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ، وَمِثْلُ الْأَكْسَابِ الْمُحَرَّمَةِ كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ وَثَمَنِ مَالَا يَحِلُّ بَيْعُهُ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ بِسَرِقَةٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ تَدْلِيسٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُشْتَبِهُ: فَمِثْلُ بَعْضِ مَا اخْتُلِفَ فِي حَلِّهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ، إِمَّا مِنَ الْأَعْيَانِ كَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَالضَّبِّ، وَشُرْبِ مَا اخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِهِ مِنَ الْأَنْبِذَةِ الَّتِي يُسْكِرُ كَثِيرُهَا، وَلُبْسِ مَا اخْتُلِفَ فِي إِبَاحَةِ لُبْسِهِ مِنْ جُلُودِ السِّبَاعِ وَنَحْوِهَا، وَإِمَّا مِنَ الْمَكَاسِبِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَمَسَائِلِ الْعِينَةِ وَالتَّوَرُّقِ وَنَحْوِ

ذَلِكَ، وَبِنَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَ الْمُشْتَبِهَاتِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ الْكِتَابَ، وَبَيَّنَ فِيهِ لِلْأُمَّةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] (النَّحْلِ: 89) قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: كُلُّ شَيْءٍ أَمَرُوا بِهِ أَوْ نَهَوْا عَنْهُ، وَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ (الْآيَةَ: 176) الَّتِي بَيَّنَ فِيهَا كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] (الْأَنِعَامِ: 119) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] (التَّوْبَةِ: 115) وَوَكَّلَ بَيَانَ مَا أَشْكَلَ مِنَ التَّنْزِيلِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] (النَّحْلِ: 44) وَمَا قُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ، وَلِهَذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِعَرَفَةَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] (الْمَائِدَةِ: 3) . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تَرَكْتُكُمْ عَلَى بَيْضَاءَ نَقِيَّةٍ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ» . وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا طَائِرٌ يُحَرِّكُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا وَقَدْ ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا.

وَلَمَّا شَكَّ النَّاسُ فِي مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَرَكَ السَّبِيلَ نَهْجًا وَاضِحًا، وَأَحَلَّ الْحَلَالَ وَحَرَّمَ الْحَرَامَ، وَنَكَحَ وَطَلَّقَ، وَحَارَبَ وَسَالَمَ، وَمَا كَانَ رَاعِي غَنَمٍ يُتْبِعُ بِهَا رُؤُوسَ الْجِبَالِ يَخْبِطُ عَلَيْهَا الْعِضَاهَ بِمِخْبَطِهِ، وَيَمْدُرُ حَوْضَهَا بِيَدِهِ بِأَنْصَبَ وَلَا أَدْأَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيكُمْ. وَفِي الْجُمْلَةِ فَمَا تَرَكَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَلَالًا إِلَّا مُبَيَّنًا وَلَا حَرَامًا إِلَّا مُبَيَّنًا، لَكِنَّ بَعْضَهُ كَانَ أَظْهَرَ بَيَانًا مِنْ بَعْضٍ، فَمَا ظَهَرَ بَيَانُهُ وَاشْتَهَرَ وَعُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ فِيهِ شَكٌّ، وَلَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهْلِهِ فِي بَلَدٍ يَظْهَرُ فِيهِ الْإِسْلَامُ، وَمَا كَانَ بَيَانُهُ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْهُ مَا اشْتُهِرَ بَيْنَ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ خَاصَّةً، فَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حِلِّهِ أَوْ حُرْمَتِهِ، وَقَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، وَمِنْهُ مَا لَمْ يَشْتَهِرْ بَيْنَ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ أَيْضًا، فَاخْتَلَفُوا فِي تَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَذَلِكَ لِأَسْبَابٍ: مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ النَّصُّ عَلَيْهِ خَفِيًّا لَمْ يَنْقُلْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، فَلَمْ يَبْلُغْ جَمِيعَ حَمَلَةِ الْعِلْمِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَنْقُلُ فِيهِ نَصَّانِ، أَحَدُهُمَا بِالتَّحْلِيلِ، وَالْآخَرُ بِالتَّحْرِيمِ، فَيَبْلُغُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَحَدَ النَّصَّيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَيَتَمَسَّكُونَ بِمَا بَلَغَهُمْ، أَوْ يَبْلُغُ النَّصَّانِ مَعًا مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ التَّارِيخُ، فَيَقِفُ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِالنَّاسِخِ.

وَمِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ صَرِيحٌ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومٍ أَوْ مَفْهُومٍ أَوْ قِيَاسٍ، فَتَخْتَلِفُ أَفْهَامُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا كَثِيرًا. وَمِنْهَا مَا يَكُونُ فِيهِ أَمْرٌ، أَوْ نَهْيٌ، فَتَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي حَمْلِ الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ، وَفِي حَمْلِ النَّهْيِ عَلَى التَّحْرِيمِ أَوِ التَّنْزِيهِ، وَأَسْبَابُ الِاخْتِلَافِ أَكْثَرُ مِمَّا ذَكَرْنَا. وَمَعَ هَذَا فَلَابُدَّ فِي الْأُمَّةِ مِنْ عَالِمٍ يُوَافِقُ الْحَقَّ، فَيَكُونُ هُوَ الْعَالِمَ بِهَذَا الْحُكْمِ، وَغَيْرُهُ يَكُونُ الْأَمْرُ مُشْتَبِهًا عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ عَالِمًا بِهَذَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَا يَظْهَرُ أَهْلُ بَاطِلِهَا عَلَى أَهْلِ حَقِّهَا، فَلَا يَكُونُ الْحَقُّ مَهْجُورًا غَيْرَ مَعْمُولٍ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ، وَلِهَذَا «قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ: لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مُشْتَبِهَةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا، وَلَيْسَتْ مُشْتَبِهَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْمُقْتَضِي لِاشْتِبَاهِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا يُعْلَمُ سَبَبُ حِلِّهِ وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُتَيَقَّنُ وَمِنْهَا مَا يُعْلَمُ سَبَبُ تَحْرِيمِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، فَالْأَوَّلُ لَا تَزُولُ إِبَاحَتُهُ إِلَّا بِيَقِينِ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا فِي الْأَبْضَاعِ عِنْدَ مَنْ يُوقِعُ الطَّلَاقَ بِالشَّكِّ فِيهِ كَمَالِكٍ، أَوْ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ وُقُوعُهُ كَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَالثَّانِي: لَا يَزُولُ تَحْرِيمُهُ إِلَّا بِيَقِينِ الْعِلْمِ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ فِيهِ. وَأَمَّا مَا لَا يُعْلَمُ لَهُ أَصْلُ مِلْكٍ كَمَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي بَيْتِهِ وَلَا يَدْرِي: هَلْ هُوَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فَهَذَا مُشْتَبِهٌ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا فِي بَيْتِهِ مِلْكُهُ لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَالْوَرَعُ اجْتِنَابُهُ، فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّى لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ فَأُلْقِيهَا»

خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مِنْ جِنْسِ الْمَحْظُورِ، وَشَكَّ هَلْ هُوَ مِنْهُ أَمْ لَا؟ قَوِيَتِ الشُّبْهَةُ. وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَهُ أَرَقٌ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَقْتَ اللَّيْلَةَ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَصَبْتُ تَمْرَةً تَحْتَ جَنْبِي، فَأَكَلْتُهَا وَكَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ» . وَمِنْ هَذَا أَيْضًا مَا أَصْلُهُ الْإِبَاحَةُ كَطَهَارَةِ الْمَاءِ، وَالثَّوْبِ، وَالْأَرْضِ، إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ زَوَالَ أَصْلِهِ، فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، وَمَا أَصْلُهُ الْحَظْرُ كَالْأَبْضَاعِ وَلُحُومِ الْحَيَوَانِ، فَلَا تَحِلُّ إِلَّا بِيَقِينِ حِلِّهِ مِنَ التَّذْكِيَةِ وَالْعَقْدِ، فَإِنْ تَرَدَّدَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِظُهُورِ سَبَبٍ آخَرَ رَجَعَ إِلَى الْأَصْلِ فَبَنَى عَلَيْهِ، فَيَبْنِي فِيمَا أَصْلُهُ الْحُرْمَةُ عَلَى التَّحْرِيمِ وَلِهَذَا «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ الصَّيْدِ الَّذِي يَجِدُ فِيهِ الصَّائِدُ أَثَرَ سَهْمٍ غَيْرِ سَهْمِهِ، أَوْ كَلْبٍ غَيْرِ كَلْبِهِ، أَوْ يَجِدُهُ قَدْ وَقَعَ فِي مَاءٍ وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ لَا يَدْرِي: هَلْ مَاتَ مِنَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ لَهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ» ، فَيَرْجِعُ فِيمَا أَصْلُهُ الْحِلُّ إِلَى الْحِلِّ، فَلَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالثَّوْبَ بِمُجَرَّدِ ظَنِّ النَّجَاسَةِ، وَكَذَلِكَ الْبَدَنُ إِذَا تَحَقَّقَ طَهَارَتُهُ وَشَكَّ: هَلِ انْتَقَضَتْ بِالْحَدَثِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَنَّهُ شَكَى إِلَيْهِ الرَّجُلَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ

صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: " فِي الْمَسْجِدِ " بَدَلَ الصَّلَاةِ. وَهَذَا يَعُمُّ حَالَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ وُجِدَ سَبَبٌ قَوِيٌّ يُغَلِّبُ مَعَهُ عَلَى الظَّنِّ نَجَاسَةَ مَا أَصْلُهُ الطَّهَارَةُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ يَلْبَسُهُ كَافِرٌ لَا يَتَحَرَّزُ مِنَ النَّجَاسَاتِ، فَهَذَا مَحَلُّ اشْتِبَاهٍ، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ أَخْذًا بِالْأَصْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ تَنْزِيهًا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَهُ إِذَا قَوِيَ ظَنُّ النَّجَاسَةِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ مِمَّنْ لَا تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُ أَوْ يَكُونُ مُلَاقِيًا لِعَوْرَتِهِ كَالسَّرَاوِيلِ وَالْقَمِيصِ، وَتَرْجِعُ هَذِهِ الْمَسَائِلُ وَشَبَهُهَا عَلَى قَاعِدَةِ تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ وَالظَّاهِرُ النَّجَاسَةُ وَقَدْ تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ فِي ذَلِكَ. فَالْقَائِلُونَ بِالطَّهَارَةِ يَسْتَدِلُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَطَعَامُهُمْ إِنَّمَا يَصْنَعُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ فِي أَوَانِيهِمْ، وَقَدْ أَجَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْوَةَ يَهُودِيٍّ، وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَلْبَسُونَ وَيَسْتَعْمِلُونَ مَا يُجْلَبُ إِلَيْهِمْ مِمَّا يَنْسِجُهُ الْكَفَّارُ بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي، وَكَانُوا فِي الْمَغَازِي يَقْتَسِمُونَ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْأَوْعِيَةِ، وَالثِّيَابِ وَيَسْتَعْمِلُونَهَا، وَصَحَّ عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوا الْمَاءَ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ. وَالْقَائِلُونَ بِالنَّجَاسَةِ يَسْتَدِلُّونَ بِأَنَّهُ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الْخِنْزِيرَ، وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا، فَاغْسِلُوهَا بِالْمَاءِ ثُمَّ كُلُوا فِيهَا» . وَقَدْ فَسَّرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الشُّبْهَةَ بِأَنَّهَا مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ: يَعْنِي الْحَلَالَ الْمَحْضَ وَالْحَرَامَ الْمَحْضَ، وَقَالَ: مَنِ اتَّقَاهَا، فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَفَسَّرَهَا تَارَةً بِاخْتِلَاطِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا مُعَامَلَةُ مَنْ فِي مَالِهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ مُخْتَلِطٌ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ الْحَرَامَ؛ فَقَالَ أَحْمَدُ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا، أَوْ شَيْئًا لَا يُعْرَفُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ أَوْ مُحَرَّمٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ الْحَلَالَ، جَازَتْ مُعَامَلَتُهُ وَالْأَكْلُ مِنْ مَالِهِ. وَقَدْ رَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي جَوَائِزِ السُّلْطَانِ: لَا بَأْسَ بِهَا، مَا يُعْطِيكُمْ مِنَ الْحَلَالِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعْطِيكُمْ مِنَ الْحَرَامِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يُعَامِلُونَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَنِبُونَ الْحَرَامَ كُلَّهُ. وَإِنِ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ فَهُوَ شُبْهَةٌ، وَالْوَرَعُ تَرْكُهُ قَالَ سُفْيَانُ: لَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ، وَتَرْكُهُ أَعْجَبُ إِلَيَّ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ مَا لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فِي مَالِهِ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ، وَلَكِنْ عُلِمَ أَنَّ فِيهِ شُبْهَةً؛ فَلَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ مِنْهُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ. وَذَهَبَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ إِلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسَلْمَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الرُّخْصَةِ، وَإِلَى مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ فِي إِبَاحَةِ الْأَخْذِ بِمَا يَقْضِي مِنَ الرِّبَا وَالْقِمَارِ، نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَبَهِ حَلَالُهُ بِحَرَامِهِ: إِنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا أَخْرَجَ مِنْهُ قَدْرَ الْحَرَامِ، وَتَصَرَّفَ فِي الْبَاقِي، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَلِيلًا، اجْتَنَبَهُ كُلَّهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَلِيلَ إِذَا تَنَاوَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّهُ تَبْعُدُ مَعَهُ السَّلَامَةُ مِنَ الْحَرَامِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْوَرَعِ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَأَبَاحَ التَّصَرُّفَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بَعْدَ إِخْرَاجِ قَدْرِ الْحَرَامِ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَخَذَ بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ مِنْهُمْ بِشْرٌ الْحَافِيُّ. وَرَخَّصَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ فِي الْأَكْلِ مِمَّنْ يُعْلَمُ فِي مَالِهِ حَرَامٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ

مِنَ الْحَرَامِ بِعَيْنِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ مَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ. وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنِ السَّلَفِ، فَصَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ جَارٌ يَأْكُلُ الرِّبَا عَلَانِيَةً وَلَا يَتَحَرَّجُ مِنْ مَالٍ خَبِيثٍ يَأْخُذُهُ يَدَعُوهُ إِلَى طَعَامِهِ، قَالَ: أَجِيبُوهُ فَإِنَّمَا الْمَهْنَأُ لَكُمْ وَالْوِزْرُ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْلَمُ لَهُ شَيْئًا إِلَّا خَبِيثًا أَوْ حَرَامًا، فَقَالَ: أَجِيبُوهُ وَقَدْ صَحَّحَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَكِنَّهُ عَارَضَهُ عَارِضٌ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْإِثْمُ حَوَازُّ الْقُلُوبِ. وَرُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْأَوَّلِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَمُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَغَيْرِهِمْ، وَالْآثَارُ بِذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي كِتَابِ " الْأَدَبِ " لِحُمَيْدِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ، وَبَعْضُهَا فِي كِتَابِ " الْجَامِعِ " لِلْخَلَّالِ وَفِي مُصَنَّفَيْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَمَتَى عُلِمَ أَنَّ عَيْنَ الشَّيْءِ حَرَامٌ، أُخِذَ بِوَجْهٍ مُحَرَّمٍ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ، وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ فِي

الرَّجُلِ يُقْضَى مِنَ الرِّبَا، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَعَنِ الرَّجُلِ يُقْضَى مِنَ الْقِمَارِ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، خَرَّجَهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ خِلَافُ هَذَا، وَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَكَاسِبَ قَدْ فَسَدَتْ، فَخُذُوا مِنْهَا مَا شِبْهَ الْمُضْطَرِّ. وَعَارَضَ الْمَرْوِيَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسَلْمَانَ، مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّهُ مِنْ حَرَامٍ فَاسْتَقَاءَهُ. وَقَدْ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ فِي الْحُكْمِ لِكَوْنِ الْفَرْعِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أُصُولٍ تَجْتَذِبُهُ، كَتَحْرِيمِ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ، فَإِنَّ هَذَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ تَحْرِيمِ الظِّهَارِ الَّذِي تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ الْكُبْرَى، وَبَيْنَ تَحْرِيمِ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا الَّذِي تُبَاحُ مَعَهُ الزَّوْجَةُ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، وَبَيْنَ تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ الَّذِي لَا تُبَاحُ مَعَهُ الزَّوْجَةُ بِدُونِ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ وَبَيْنَ تَحْرِيمِ الرَّجُلِ عَلَيْهِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي لَا يُحَرِّمُهُ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ الصُّغْرَى، أَوْ لَا يُوجِبُ شَيْئًا عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، فَمِنْ هَاهُنَا كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَبِكُلِّ حَالٍ، فَالْأُمُورُ الْمُشْتَبِهَةُ الَّتِي لَا تَتَبَيَّنُ أَنَّهَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ لِكَثِيرٍ مِنَ

النَّاسِ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ يَتَبَيَّنُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنَّهَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ، لِمَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَزِيدِ عِلْمٍ، وَكَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُشْتَبِهَاتِ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُهَا، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَعْلَمُهَا، فَدَخَلَ فِيمَنْ لَا يَعْلَمُهَا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ يَتَوَقَّفُ فِيهَا، لِاشْتِبَاهِهَا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: مَنْ يَعْتَقِدُهَا عَلَى غَيْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَدَلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ غَيْرَ هَؤُلَاءِ يَعْلَمُهَا، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ يَعْلَمُهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُصِيبَ عِنْدَ اللَّهِ فِي مَسَائِلِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الْمُشْتَبِهَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا وَاحِدٌ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ مُصِيبٍ لِحُكْمِ اللَّهِ فِيهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ فِيهَا اعْتِقَادًا يَسْتَنِدُ فِيهِ إِلَى شُبْهَةٍ يَظُنُّهَا دَلِيلًا، وَيَكُونُ مَأْجُورًا عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَمَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ لِعَدَمِ اعْتِمَادِهِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» قَسَّمَ النَّاسَ فِي الْأُمُورِ الْمُشْتَبِهَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ هِيَ مُشْتَبِهَةٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُهَا، فَأَمَّا مَنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا، وَاتَّبَعَ مَا دَلَّهُ عِلْمُهُ عَلَيْهَا، فَلِذَلِكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ، لَمْ يَذْكُرْهُ لِظُهُورِ حُكْمِهِ، فَإِنَّ هَذَا الْقِسْمَ أَفْضَلُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ حُكْمَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُشْتَبِهَةِ عَلَى النَّاسِ، وَاتَّبَعَ عِلْمَهُ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ حُكْمُ اللَّهِ فِيهَا، فَهُمْ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا مَنْ يَتَّقِي هَذِهِ الشُّبُهَاتِ، لِاشْتِبَاهِهَا عَلَيْهِ، فَهَذَا قَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ. وَمَعْنَى اسْتَبْرَأَ: طَلَبَ الْبَرَاءَةَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ مِنَ النَّقْصِ وَالشَّيْنِ، وَالْعِرْضُ: هُوَ مَوْضِعُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِذِكْرِهِ بِالْجَمِيلِ مَدْحٌ، وَبِذِكْرِهِ بِالْقَبِيحِ قَدْحٌ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ تَارَةً فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَتَارَةً فِي سَلَفِهِ، أَوْ فِي

أَهْلِهِ، فَمَنِ اتَّقَى الْأُمُورَ الْمُشْتَبِهَةَ وَاجْتَنَبَهَا، فَقَدْ حَصَّنَ عِرْضَهُ مِنَ الْقَدْحِ وَالشَّيْنِ الدَّاخِلِ عَلَى مَنْ لَا يَجْتَنِبُهَا، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ الشُّبُهَاتِ، فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَدْحِ فِيهِ وَالْطَّعْنِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهَمِ، فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: " «فَمَنْ تَرَكَهَا اسْتِبْرَاءً لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، فَقَدْ سَلِمَ» " وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَتْرُكُهَا بِهَذَا الْقَصْدِ - وَهُوَ بَرَاءَةُ دِينِهِ وَعِرْضِهِ عَنِ النَّقْصِ - لَا لِغَرَضٍ آخَرَ فَاسِدٍ مِنْ رِيَاءٍ وَنَحْوِهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَلَبَ الْبَرَاءَةِ لِلْعِرْضِ مَمْدُوحٌ كَطَلَبِ الْبَرَاءَةِ لِلدِّينِ، وَلِهَذَا وَرَدَ " أَنَّ مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ، فَهُوَ صَدَقَةٌ ". وَفِي رِوَايَةٍ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " فِي هَذَا الْحَدِيثِ: " «فَمَنْ تَرَكَ مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ» " يَعْنِي: أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْإِثْمَ مَعَ اشْتِبَاهِهِ عَلَيْهِ، وَعَدَمِ تَحَقُّقِهِ، فَهُوَ أَوْلَى بِتَرْكِهِ إِذَا اسْتَبَانَ لَهُ أَنَّهُ إِثْمٌ، وَهَذَا إِذَا كَانَ تَرْكُهُ تَحَرُّزًا مِنَ الْإِثْمِ، فَأَمَّا مَنْ يَقْصِدُ التَّصَنُّعَ لِلنَّاسِ، فَإِنَّهُ لَا يَتْرُكُ إِلَّا مَا يَظُنُّ أَنَّهُ مَمْدُوحٌ عِنْدَهُمْ تَرْكُهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ يَقَعُ فِي الشُّبُهَاتِ مَعَ كَوْنِهَا مُشْتَبِهَةً عِنْدَهُ، فَأَمَّا مَنْ أَتَى شَيْئًا مِمَّا يَظُنُّهُ النَّاسُ شُبْهَةً، لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ حَلَالٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ إِذَا خَشِيَ مِنْ طَعْنِ النَّاسِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، كَانَ تَرْكُهَا حِينَئِذٍ اسْتِبْرَاءً لِعِرْضِهِ، فَيَكُونُ حَسَنًا، وَهَذَا كَمَا «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ رَآهُ وَاقِفًا مَعَ صَفِيَّةَ: " إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ» " وَخَرَجَ أَنَسٌ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَرَأَى النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا

وَرَجَعُوا فَاسْتَحْيَا، وَدَخَلَ مَوْضِعًا لَا يَرَاهُ النَّاسُ فِيهِ، وَقَالَ: " مَنْ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ النَّاسِ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ " وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا، وَلَا يَصِحُّ. وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَلَالٌ، إِمَّا بِاجْتِهَادٍ سَائِغٍ، أَوْ تَقْلِيدٍ سَائِغٍ، وَكَانَ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنْ كَانَ الِاجْتِهَادُ ضَعِيفًا، أَوِ التَّقْلِيدُ غَيْرُ سَائِغٍ، وَإِنَّمَا حَمَلَ عَلَيْهِ مُجَرَّدُ اتِّبَاعِ الْهَوَى، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ أَتَاهُ مَعَ اشْتِبَاهِهِ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَأْتِي الشُّبُهَاتِ مَعَ اشْتِبَاهِهَا عَلَيْهِ، قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، فَهَذَا يُفَسَّرُ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ارْتِكَابُهُ لِلشُّبْهَةِ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهَا شُبْهَةٌ ذَرِيعَةً إِلَى ارْتِكَابِهِ الْحَرَامَ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ حَرَامٌ بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّسَامُحِ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " لِهَذَا الْحَدِيثِ: «وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ» . وَفِي رِوَايَةٍ: " «وَمَنْ يُخَالِطُ الرِّيبَةَ، يُوشِكُ أَنْ يَجْسُرَ» " أَيْ: يَقْرُبَ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْحَرَامِ الْمَحْضِ، وَالْجَسُورُ: الْمِقْدَامُ الَّذِي لَا يَهَابُ شَيْئًا، وَلَا يُرَاقِبُ أَحَدًا، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ: " يَجْشُرَ " بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: يَرْتَعُ، وَالْجَشْرُ: الرَّعْيُ، وَجَشَرْتَ الدَّابَّةَ: إِذَا رَعَيْتَهَا. وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ يَرْعَى بِجَنْبَاتِ الْحَرَامِ، يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَهُ، وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالْمُحَقَّرَاتِ، يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَ الْكَبَائِرَ» ". وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى مَا هُوَ مُشْتَبَهٌ عِنْدَهُ، لَا يَدْرِي: أَهُوَ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ، فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَيُصَادِفُ الْحَرَامَ وَهُوَ لَا

يَدْرِي أَنَّهُ حَرَامٌ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، فَمَنِ اتَّقَاهَا، كَانَ أَنْزَهَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ أَوْشَكَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالْمُرْتِعِ حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَ الْحِمَى وَهُوَ لَا يَشْعُرُ» خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يُطِيعُ وَالِدَيْهِ فِي الدُّخُولِ فِي شَيْءٍ مِنَ الشُّبْهَةِ أَمْ لَا يُطِيعُهُمَا؟ فَرُوِيَ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: لَا طَاعَةَ لَهُمَا فِي الشُّبْهَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الْعَبَّادَانِيِّ قَالَ: يُطِيعُهُمَا، وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ: يُدَارِيهِمَا، وَأَبَى أَنْ يُجِيبَ فِيهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَشْبَعُ الرَّجُلُ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَلَا يَشْتَرِي الثَّوْبَ لِلتَّجَمُّلِ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَتَوَقَّفَ فِي حَدِّ مَا يُؤْكَلُ وَمَا يُلْبَسُ مِنْهَا، وَقَالَ فِي التَّمْرَةِ يُلْقِيهَا الطَّيْرُ: لَا يَأْكُلُهَا، وَلَا يَأْخُذُهَا، وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِي الرَّجُلِ يَجِدُ فِي بَيْتِهِ الْأَفْلُسَ أَوِ الدَّرَاهِمَ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهَا، يَعْنِي: إِذَا لَمْ يَدْرِ مِنْ أَيْنَ هِيَ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ لَا يَأْكُلُ إِلَّا شَيْئًا يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَيَسْأَلُ عَنْهُ حَتَّى يَقِفَ عَلَى أَصْلِهِ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ ضَعْفًا

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ» : هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَأَنَّهُ يَقْرُبُ وُقُوعَهُ فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَأَضْرِبُ لَكُمْ مَثَلًا ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلَ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْحِمَى الَّذِي يَحْمِيهِ الْمُلُوكُ، وَيَمْنَعُونَ غَيْرَهُمْ مِنْ قُرْبَانِهِ، وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَ مَدِينَتِهِ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا حِمَى مُحَرَّمًا لَا يُقْطَعُ شَجَرُهُ وَلَا يُصَادُ صَيْدُهُ، وَحِمَى عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَمَاكِنُ يَنْبُتُ فِيهَا الْكَلَأُ لِأَجْلِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ

وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَمَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَنَعَ عِبَادَهُ مِنْ قُرْبَانِهَا وَسَمَّاهَا حُدُودَهُ، فَقَالَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] (الْبَقَرَةِ: 187) ، وَهَذَا فِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ حَدَّ لَهُمْ مَا أَحَلَّ لَهُمْ وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَقْرَبُوا الْحَرَامَ، وَلَا يَعْتَدُوا الْحَلَالَ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] (الْبَقَرَةِ: 229) ، وَجَعَلَ مَنْ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى وَقَرِيبًا مِنْهُ جَدِيرًا بِأَنْ يَدْخُلَ الْحِمَى وَيَرْتَعَ فِيهِ، فَلِذَلِكَ مَنْ تَعَدَّى الْحَلَالَ، وَوَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَارَبَ الْحَرَامَ غَايَةَ الْمُقَارَبَةِ، فَمَا أَخْلَقَهُ بِأَنْ يُخَالِطَ الْحَرَامَ الْمَحْضَ، وَيَقَعَ فِيهِ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي التَّبَاعُدُ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَاجِزًا. وَقَدْ خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ»

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: تَمَامُ التَّقْوَى أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ الْعَبْدُ، حَتَّى يَتَّقِيَهُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَحَتَّى يَتْرُكَ بَعْضَ مَا يَرَى أَنَّهُ حَلَالٌ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَازَالَتِ التَّقْوَى بِالْمُتَّقِينَ حَتَّى تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الْحَرَامِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِنَّمَا سُمُّوا الْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمُ اتَّقَوْا مَالَا يُتَّقَى وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَدَعَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلَالِ لَا أَخْرِقُهَا. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: لَا يَسْلَمُ لِلرَّجُلِ الْحَلَالُ حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ حَاجِزًا مِنَ الْحَلَالِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَا يُصِيبُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ حَاجِزًا مِنَ الْحَلَالِ، وَحَتَّى يَدَعَ الْإِثْمَ وَمَا تَشَابَهَ مِنْهُ. وَيَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ وَتَحْرِيمِ الْوَسَائِلِ إِلَيْهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ تَحْرِيمُ قَلِيلِ مَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ، وَتَحْرِيمُ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَتَحْرِيمُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ سَدًّا لِذَرِيعَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، وَمَنْعُ الصَّائِمِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ إِذَا كَانَتْ تُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ، وَمَنَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مُبَاشَرَةَ الْحَائِضِ فِيمَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ، كَمَا «كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ امْرَأَتَهُ إِذَا كَانَتْ حَائِضًا أَنْ تَتَّزِرَ، فَيُبَاشِرُهَا مِنْ فَوْقِ الْإِزَارِ» .

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَيَّبَ دَابَّتَهُ تَرْعَى بِقُرْبِ زَرْعِ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لِمَا أَفْسَدَتْهُ مِنَ الزَّرْعِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ نَهَارًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ مُفْرِّطٌ بِإِرْسَالِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَكَذَا الْخِلَافُ لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَ الصَّيْدِ قَرِيبًا مِنَ الْحَرَمِ، فَدَخَلَ فَصَادَ فِيهِ، فَفِي ضَمَانِهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقِيلَ يَضْمَنُهُ بِكُلِّ حَالٍ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَلَاحَ حَرَكَاتِ الْعَبْدِ بِجَوَارِحِهِ، وَاجْتِنَابَهُ الْمُحَرَّمَاتِ وَاتِّقَاءَهُ لِلشُّبَهَاتِ بِحَسَبَ صَلَاحِ حَرَكَةِ قَلْبِهِ. فَإِذَا كَانَ قَلْبُهُ سَلِيمًا، لَيْسَ فِيهِ إِلَّا مَحَبَّةُ اللَّهِ وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَخَشْيَةُ الْوُقُوعِ فِيمَا يَكْرَهُهُ، صَلَحَتْ حَرَكَاتُ الْجَوَارِحِ كُلِّهَا، وَنَشَأَ عَنْ ذَلِكَ اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا، وَتَوَقٍّ لِلشُّبَهَاتِ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ. وَإِنْ كَانَ الْقَلْبُ فَاسِدًا، قَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ اتِّبَاعُ هَوَاهُ، وَطَلَبُ مَا يُحِبُّهُ، وَلَوْ كَرِهَهُ اللَّهُ، فَسَدَتْ حَرَكَاتُ الْجَوَارِحِ كُلِّهَا، وَانْبَعَثَتْ إِلَى كُلِّ الْمَعَاصِي وَالْمُشْتَبِهَاتِ بِحَسَبِ اتِّبَاعِ هَوَى الْقَلْبِ. وَلِهَذَا يُقَالُ: الْقَلْبُ مَلِكُ الْأَعْضَاءِ، وَبَقِيَّةُ الْأَعْضَاءِ جُنُودُهُ، وَهُمْ مَعَ هَذَا جُنُودٌ طَائِعُونَ لَهُ، مُنْبَعِثُونَ فِي طَاعَتِهِ، وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ، لَا يُخَالِفُونَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ صَالِحًا كَانَتْ هَذِهِ الْجُنُودُ صَالِحَةً، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا كَانَتْ جُنُودُهُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَاسِدَةً، وَلَا يَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا الْقَلْبُ السَّلِيمُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] (الشُّعَرَاءِ: 88 - 89) ،

وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: " «أَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا» "، فَالْقَلْبُ السَّلِيمُ: هُوَ السَّالِمُ مِنَ الْآفَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ كُلِّهَا، وَهُوَ الْقَلْبُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَخَشْيَةِ اللَّهِ، وَخَشْيَةِ مَا يُبَاعِدُ مِنْهُ. وَفِي " مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ» . وَالْمُرَادُ بِاسْتِقَامَةِ إِيمَانِهِ: اسْتِقَامَةُ أَعْمَالِ جَوَارِحِهِ، فَإِنَّ أَعْمَالَ جَوَارِحِهِ لَا تَسْتَقِيمُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الْقَلْبِ، وَمَعْنَى اسْتِقَامَةِ الْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ مُمْتَلِئًا مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَمَحَبَّةِ طَاعَتِهِ، وَكَرَاهَةِ مَعْصِيَتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ لِرَجُلٍ: دَاوِ قَلْبَكَ؛ فَإِنَّ حَاجَةَ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ صَلَاحُ قُلُوبِهِمْ: يَعْنِي أَنَّ مُرَادَهُ مِنْهُمْ وَمَطْلُوبَهُ صَلَاحُ قُلُوبِهِمْ، فَلَا صَلَاحَ لِلْقُلُوبِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ فِيهَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَعَظَمَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَخَشْيَتُهُ وَمَهَابَتُهُ وَرَجَاؤُهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَتَمْتَلِئَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " فَلَا صَلَاحَ لِلْقُلُوبِ حَتَّى يَكُونَ إِلَهُهَا الَّذِي تَأْلَهُهُ وَتَعْرِفُهُ وَتُحِبُّهُ وَتَخْشَاهُ هُوَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَوْ كَانَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَهٌ يُؤَلَّهُ سِوَى اللَّهِ، لَفَسَدَتْ بِذَلِكَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] (الْأَنْبِيَاءِ: 22) .

فَعِلْمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مَعًا حَتَّى تَكُونَ حَرَكَاتُ أَهْلِهَا كُلُّهَا لِلَّهِ، وَحَرَكَاتُ الْجَسَدِ تَابِعَةٌ لِحَرَكَةِ الْقَلْبِ وَإِرَادَتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ حَرَكَتُهُ وَإِرَادَتُهُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَقَدْ صَلَحَ وَصَلَحَتْ حَرَكَاتُ الْجَسَدِ كُلِّهُ، وَإِنْ كَانَتْ حَرَكَةُ الْقَلْبِ وَإِرَادَاتُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَسَدَ، وَفَسَدَتْ حَرَكَاتُ الْجَسَدِ بِحَسَبِ فَسَادِ حَرَكَةِ الْقَلْبِ. وَرَوَى اللَّيْثُ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] (الْأَنْعَامِ: 151) قَالَ: لَا تُحِبُّوا غَيْرِي. وَفِي " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الشَّرَكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَأَدْنَاهُ أَنْ تُحِبَّ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْجَوْرِ، وَأَنْ تُبْغِضَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعَدْلِ، وَهَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ؟ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] (آلِ عِمْرَانَ: 31) » فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، وَبُغْضَ مَا يُحِبُّهُ مُتَابَعَةٌ لِلْهَوَى، وَالْمُوَالَاةُ عَلَى ذَلِكَ وَالْمُعَادَاةُ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فَجَعَلَ اللَّهُ عَلَامَةَ الصِّدْقِ فِي مَحَبَّتِهِ اتِّبَاعَ رَسُولِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَتِمُّ بِدُونِ الطَّاعَةِ وَالْمُوَافَقَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نُحِبُّ رَبَّنَا حُبًّا شَدِيدًا فَأَحَبَّ اللَّهُ أَنَّ يَجْعَلَ لِحُبِّهِ عَلَمًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وَمِنْ هُنَا قَالَ الْحَسَنُ: اعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تُحِبَّ اللَّهَ حَتَّى تُحِبَّ طَاعَتَهُ.

وَسُئِلَ ذُو النُّونِ: مَتَى أُحِبُّ رَبِّي؟ قَالَ: إِذَا كَانَ مَا يُبْغِضُهُ عِنْدَكَ أَمَرَّ مِنَ الصَّبْرِ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ السِّرِيِّ: لَيْسَ مِنْ أَعْلَامِ الْحُبِّ أَنْ تُحِبَّ مَا يُبْغِضُهُ حَبِيبُكَ. قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ: كُلُّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يُوَافِقِ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ، فَدَعَوَاهُ بَاطِلٌ. وَقَالَ رُوَيْمٌ: الْمَحَبَّةُ الْمُوَافَقَةُ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: لَيْسَ بِصَادِقٍ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ وَلَمْ يَحْفَظْ حُدُودَهُ، وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ: قَرَأْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ: مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ آثَرَ مِنْ رِضَاهُ، وَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ آثَرَ مِنْ هَوَى نَفْسِهِ. وَفِي " السُّنَنِ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، وَأَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ» وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ كُلَّ حَرَكَاتِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ إِذَا كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ فَقَدْ كَمُلَ إِيمَانُ الْعَبْدِ بِذَلِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَيَلْزَمُ مِنْ صَلَاحِ حَرَكَاتِ الْقَلْبِ صَلَاحُ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ، فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ صَالِحًا لَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِرَادَةُ اللَّهِ وَإِرَادَةُ مَا يُرِيدُهُ لَمْ تَنْبَعِثِ الْجَوَارِحُ إِلَّا فِيمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ، فَسَارَعَتْ إِلَى مَا فِيهِ رِضَاهُ، وَكَفَّتْ عَمَّا يَكْرَهُهُ، وَعَمَّا يَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَكْرَهُهُ وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ ذَلِكَ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا ضَرَبْتُ بِبَصَرِي، وَلَا نَطَقْتُ بِلِسَانِي، وَلَا بِطَشْتُ بِيَدِي، وَلَا نَهَضْتُ عَلَى قَدَمِي حَتَّى أَنْظُرَ عَلَى طَاعَةٍ أَوْ عَلَى مَعْصِيَةٍ؟ فَإِنْ كَانَتْ طَاعَتُهُ تَقَدَّمَتْ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْصِيَةً تَأَخَّرَتْ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيُّ: مَا خَطَوْتُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً خُطْوَةً لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ لِدَاوُدَ الطَّائِيِّ: لَوْ تَنَحَّيْتَ مِنَ الظِّلِّ إِلَى الشَّمْسِ، فَقَالَ: هَذِهِ خُطًى لَا أَدْرِي كَيْفَ تُكْتَبُ. فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لَمَّا صَلَحَتْ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا إِرَادَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، صَلَحَتْ جَوَارِحُهُمْ، فَلَمْ تَتَحَرَّكْ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِمَا فِيهِ رِضَاهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

[الحديث السابع الدين النصيحة]

[الْحَدِيثُ السَّابِعُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ]

الْحَدِيثُ السَّابِعُ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ ثَلَاثًا قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُهَيْلٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ صَحَّحَهُ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ جَمِيعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصَّحِيحَ حَدِيثُ تَمِيمٍ، وَالْإِسْنَادُ الْآخَرُ وَهْمٌ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَثَوْبَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ عَنْ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا الْفِقْهُ.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: هَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَأْنٌ، ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ أَنَّهُ أَحَدُ أَرْبَاعِ الدِّينِ. وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لَا يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُمْسِ وَيُصْبِحُ نَاصِحًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِإِمَامِهِ، وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَحَبُّ مَا تَعَبَّدَنِي بِهِ عَبْدِي النُّصْحُ لِي» . وَقَدْ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ النُّصْحُ لِلْمُسْلِمِينَ عُمُومًا، وَفِي بَعْضِهَا النُّصْحُ لِوُلَاةِ أُمُورِهِمْ، وَفِي بَعْضِهَا: نُصْحُ وُلَاةِ الْأُمُورِ لِرَعَايَاهُمْ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ - وَهُوَ النُّصْحُ لِلْمُسْلِمِينَ - عُمُومًا، فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " «عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «حَقُّ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتٌّ فَذَكَرَ مِنْهَا: وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ» . وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ حَكِيمِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِذَا

اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيَنْصَحْ لَهُ» . وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ النُّصْحُ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ، وَنُصْحُهُمْ لِرَعَايَاهُمْ، فَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَغَيْرِهِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فِي خُطْبَتِهِ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى «ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ» وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الْخُطْبَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظٍ آخَرَ خَرَجَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي " الْأَفْرَادِ " بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ:

النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً ثُمَّ لَمَّ يَحُطُّهَا بِنَصِيحَةٍ إِلَّا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنَّهُمْ نَصَحُوا لِأُمَمِهِمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ عَنْ نُوحٍ، وَعَنْ صَالِحٍ وَقَالَ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] (التَّوْبَةِ: 91) يَعْنِي: أَنَّ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجِهَادِ لِعُذْرٍ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ نَاصِحًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تَخَلُّفِهِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْأَعْذَارَ كَاذِبِينَ، وَيَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ نُصْحٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّصِيحَةَ تَشْمَلُ خِصَالَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَسَمَّى ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا، فَإِنَّ النُّصْحَ لِلَّهِ يَقْتَضِي الْقِيَامَ بِأَدَاءِ وَاجِبَاتِهِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا، وَهُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ، فَلَا يَكْمُلُ النُّصْحُ لِلَّهِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ بِدُونِ كَمَالِ الْمَحَبَّةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ، وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ فِي التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِنَوَافِلِ الطَّاعَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا. وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ لِأَحَدِكُمْ عَبْدَانِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَهُ، وَيُؤَدِّي إِلَيْهِ إِذَا ائْتَمَنَهُ، وَيَنْصَحُ لَهُ إِذَا غَابَ عَنْهُ، وَكَانَ الْآخَرُ يَعْصِيهِ إِذَا أَمَرَهُ، وَيَخُونُهُ إِذَا ائْتَمَنَهُ، وَيَغُشُّهُ إِذَا غَابَ عَنْهُ كَانَا سَوَاءً؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكَذَاكُمْ أَنْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.

وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: الْحُبُّ أَفْضَلُ مِنَ الْخَوْفِ، أَلَا تَرَى إِذَا كَانَ لَكَ عَبْدَانِ أَحَدُهُمَا يُحِبُّكَ، وَالْآخَرُ يَخَافُكَ، فَالَّذِي يُحِبُّكَ مِنْهُمَا يَنْصَحُكَ شَاهِدًا كُنْتَ أَوْ غَائِبًا لِحُبِّهِ إِيَّاكَ، وَالَّذِي يَخَافُكَ عَسَى أَنْ يَنْصَحَكَ إِذَا شَهِدْتَ لِمَا يَخَافُ وَيَغُشُّكَ إِذَا غِبْتَ وَلَا يَنْصَحُكَ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا الْخَالِصُ مِنَ الْعَمَلِ؟ قَالَ: مَا لَا تُحِبُّ أَنْ يَحْمَدَكَ النَّاسُ عَلَيْهِ، قَالُوا: فَمَا النُّصْحُ لِلَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَبْدَأَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ حَقِّ النَّاسِ، وَإِنْ عَرَضَ لَكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا لِلَّهِ، وَالْآخَرُ لِلدُّنْيَا، بَدَأْتَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةٍ هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، قَالَ: وَأَصْلُ النُّصْحِ فِي اللُّغَةِ الْخُلُوصُ، يُقَالُ: نَصَحْتُ الْعَسَلَ: إِذَا خَلَّصْتُهُ مِنَ الشَّمْعِ. فَمَعْنَى النَّصِيحَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ: صِحَّةُ الِاعْتِقَادِ فِي وَحْدَانِيَّتِهِ، وَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ

فِي عِبَادَتِهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِهِ: الْإِيمَانُ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ: التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ، وَبَذْلُ الطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَنَهَى عَنْهُ، وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ: إِرْشَادُهُمْ إِلَى مَصَالِحِهِمْ. انْتَهِي. وَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِهِ " تَعْظِيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ " عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ فَسَّرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَى حُسْنِهِ، وَنَحْنُ نَحْكِيهِ هَاهُنَا بِلَفْظِهِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: جِمَاعُ تَفْسِيرِ النَّصِيحَةِ هُوَ عِنَايَةُ الْقَلْبِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ مَنْ كَانَ، وَهِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا فَرْضٌ، وَالْآخَرُ نَافِلَةٌ، فَالنَّصِيحَةُ الْمُفْتَرِضَةُ لِلَّهِ: هِيَ شِدَّةُ الْعِنَايَةِ مِنَ النَّاصِحِ بِاتِّبَاعِ مَحَبَّةِ اللَّهِ فِي أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ، وَمُجَانَبَةِ مَا حَرَّمَ. وَأَمَّا النَّصِيحَةُ الَّتِي هِيَ نَافِلَةٌ، فَهِيَ إِيثَارُ مَحَبَّتِهِ عَلَى مَحَبَّةِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ أَنْ يَعْرِضَ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ، وَالْآخَرُ لِرَبِّهِ، فَيَبْدَأُ بِمَا كَانَ لِرَبِّهِ، وَيُؤَخِّرُ مَا كَانَ لِنَفْسِهِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ تَفْسِيرِ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ، الْفَرْضُ مِنْهُ وَالنَّافِلَةُ، وَلِذَلِكَ تَفْسِيرٌ، وَسَنَذْكُرُ بَعْضَهُ لِيَفْهَمَ بِالتَّفْسِيرِ مَنْ لَا يَفْهَمُ بِالْجُمْلَةِ. فَالْفَرْضُ مِنْهَا مُجَانَبَةُ نَهْيِهِ، وَإِقَامَةُ فَرْضِهِ بِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ مَا كَانَ مُطِيقًا لَهُ، فَإِنْ عَجَرَ عَنِ الْإِقَامَةِ بِفَرْضِهِ لِآفَةٍ حَلَّتْ بِهِ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ حَبْسٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، عَزَمَ عَلَى أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ مَتَى زَالَتْ عَنْهُ الْعِلَّةُ الْمَانِعَةُ لَهُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] (التَّوْبَةِ: 91) ، فَسَمَّاهُمْ مُحْسِنِينَ لِنَصِيحَتِهِمْ لِلَّهِ بِقُلُوبِهِمْ لِمَا مَنَعُوا مِنَ الْجِهَادِ بِأَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ تُرْفَعُ الْأَعْمَالُ كُلُّهَا عَنِ الْعَبْدِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، وَلَا يُرْفَعُ عَنْهُ النُّصْحُ لِلَّهِ، فَلَوْ كَانَ مِنَ الْمَرَضِ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُهُ عَمَلٌ بِشَيْءٍ مِنْ جَوَارِحِهِ بِلِسَانٍ وَلَا

غَيْرِهِ، غَيْرَ أَنَّ عَقْلَهُ ثَابِتٌ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ النُّصْحُ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ وَهُوَ أَنْ يَنْدَمَ عَلَى ذُنُوبِهِ، وَيَنْوِيَ إِنْ صَحَّ أَنْ يَقُومَ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَجْتَنِبَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، وَإِلَّا كَانَ غَيْرَ نَاصِحٍ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ. وَكَذَلِكَ النُّصْحُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَى النَّاسِ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، وَمِنَ النُّصْحِ الْوَاجِبِ لِلَّهِ أَنْ لَا يَرْضَى بِمَعْصِيَةِ الْعَاصِي، وَيُحِبَّ طَاعَةَ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَأَمَّا النَّصِيحَةُ الَّتِي هِيَ نَافِلَةٌ لَا فَرْضٌ، فَبَذْلُ الْمَجْهُودِ بِإِيثَارِ اللَّهِ عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ بِالْقَلْبِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي النَّاصِحِ فَضْلٌ عَنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ النَّاصِحَ إِذَا اجْتَهَدَ، لَمْ يُؤْثِرْ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، وَقَامَ بِكُلِّ مَا كَانَ فِي الْقِيَامِ بِهِ سُرُورُهُ وَمَحَبَّتُهُ، فَكَذَلِكَ النَّاصِحُ لِرَبِّهِ، وَمَنْ تَنَفَّلَ لِلَّهِ بِدُونِ الِاجْتِهَادِ، فَهُوَ نَاصِحٌ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ، غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلنُّصْحِ بِكَمَالِهِ. وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَشِدَّةُ حُبِّهِ وَتَعْظِيمُ قَدْرِهِ، إِذْ هُوَ كَلَامُ الْخَالِقِ، وَشِدَّةُ الرَّغْبَةِ فِي فَهْمِهِ، وَشِدَّةُ الْعِنَايَةِ لِتَدَبُّرِهِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِطَلَبِ مَعَانِي مَا أَحَبَّ مَوْلَاهُ أَنْ يُفْهِمَهُ عَنْهُ، أَوْ يَقُومَ بِهِ لَهُ بَعْدَ مَا يُفْهِمُهُ، وَكَذَلِكَ النَّاصِحُ مِنَ الْعِبَادِ يَفْهَمُ وَصِيَّةَ مَنْ يَنْصَحُهُ، وَإِنْ وَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابٌ مِنْهُ، عُنِيَ بِفَهْمِهِ لِيَقُومَ عَلَيْهِ بِمَا كَتَبَ بِهِ فِيهِ إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ النَّاصِحُ لِكِتَابِ رَبِّهِ، يُعْنَى بِفَهْمِهِ لِيَقُومَ لِلَّهِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، ثُمَّ يَنْشُرُ مَا فَهِمَ فِي الْعِبَادِ وَيُدِيمُ دِرَاسَتَهُ بِالْمَحَبَّةِ لَهُ، وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِ، وَالتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ. وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ، فَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي طَاعَتِهِ وَنُصْرَتِهِ وَمُعَاوَنَتِهِ، وَبَذْلُ الْمَالِ إِذَا أَرَادَهُ وَالْمُسَارَعَةُ إِلَى مَحَبَّتِهِ، وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ: فَالْعِنَايَةُ بِطَلَبِ سُنَّتِهِ، وَالْبَحْثُ عَنْ أَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ، وَتَعْظِيمُ أَمْرِهِ، وَلُزُومُ الْقِيَامِ بِهِ، وَشِدَّةُ الْغَضَبِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ تَدَيَّنَ بِخِلَافِ سُنَّتِهِ، وَالْغَضَبُ عَلَى مَنْ ضَيَّعَهَا لِأَثَرَةِ

دُنْيَا، وَإِنْ كَانَ مُتَدَيِّنًا بِهَا، وَحُبُّ مَنْ كَانَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ مِنْ قَرَابَةٍ، أَوْ صِهْرٍ، أَوْ هِجْرَةٍ أَوْ نُصْرَةٍ، أَوْ صُحْبَةِ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالتَّشَبُّهِ بِهِ فِي زِيِّهِ وَلِبَاسِهِ. وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَحُبُّ صَلَاحِهِمْ وَرُشْدِهِمْ وَعَدْلِهِمْ، وَحُبُّ اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ، وَكَرَاهَةُ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّدَيُّنُ بِطَاعَتِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْبُغْضُ لِمَنْ رَأَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ، وَحُبُّ إِعْزَازِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ، وَيُشْفِقَ عَلَيْهِمْ، وَيَرْحَمَ صَغِيرَهُمْ، وَيُوَقِّرَ كَبِيرَهُمْ، وَيَحْزَنَ لِحُزْنِهِمْ، وَيَفْرَحَ لِفَرَحِهِمْ، وَإِنْ ضَرَّهُ ذَلِكَ فِي دُنْيَاهُ كَرُخْصِ أَسْعَارِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ فَوَاتُ رِبْحِ مَا يَبِيعُ مِنْ تِجَارَتِهِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا يَضُرُّهُمْ عَامَّةً، وَيُحِبُّ صَلَاحَهُمْ وَإِلْفَتَهُمْ وَدَوَامَ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ، وَنَصْرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَدَفْعَ كُلِّ أَذًى وَمَكْرُوهٍ عَنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ تَتَضَمَّنُ قِيَامَ النَّاصِحِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ بِوُجُوهِ الْخَيْرِ إِرَادَةً وَفِعْلًا. فَالنَّصِيحَةُ لِلَّهِ تَعَالَى: تَوْحِيدُهُ وَوَصْفُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا يُضَادُّهَا وَيُخَالِفُهَا، وَتَجَنُّبُ مَعَاصِيهِ، وَالْقِيَامُ بِطَاعَتِهِ وَمَحَابِّهِ بِوَصْفِ الْإِخْلَاصِ، وَالْحُبُّ فِيهِ وَالْبُغْضُ فِيهِ، وَجِهَادُ مَنْ كَفَرَ بِهِ تَعَالَى وَمَا ضَاهَى ذَلِكَ، وَالدُّعَاءُ إِلَى ذَلِكَ، وَالْحَثُّ عَلَيْهِ. وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِهِ: الْإِيمَانُ بِهِ وَتَعْظِيمُهُ وَتَنْزِيهُهُ، وَتِلَاوَتُهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ،

وَالْوُقُوفُ مَعَ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَتَفَهُّمُ عُلُومِهِ وَأَمْثَالِهِ، وَتَدَبُّرُ آيَاتِهِ، وَالدُّعَاءُ إِلَيْهِ، وَذَبِّ تَحْرِيفِ الْغَالِينَ وَطَعْنِ الْمُلْحِدِينَ عَنْهُ. وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ: الْإِيمَانُ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَتَوْقِيرُهُ وَتَبْجِيلُهُ، وَالتَّمَسُّكُ بِطَاعَتِهِ، وَإِحْيَاءُ سُنَّتِهِ وَاسْتِثَارَةُ عُلُومِهَا وَنَشْرُهَا وَمُعَادَاةُ مَنْ عَادَاهُ وَعَادَاهَا، وَمُوَالَاةُ مَنْ وَالَاهُ وَوَالَاهَا، وَالتَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِهِ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِهِ، وَمَحَبَّةُ آلِهِ وَصَحَابَتِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: مُعَاوَنَتُهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَطَاعَتُهُمْ فِيهِ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِهِ، وَتَنْبِيهُهُمْ فِي رِفْقٍ وَلُطْفٍ، وَمُجَانَبَةُ الْوُثُوبِ عَلَيْهِمْ، وَالدُّعَاءُ لَهُمْ بِالتَّوْفِيقِ وَحَثُّ الْأَغْيَارِ عَلَى ذَلِكَ. وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ: إِرْشَادُهُمْ إِلَى مَصَالِحِهِمْ، وَتَعْلِيمُهُمْ أُمُورَ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَسِتْرُ عَوْرَاتِهِمْ، وَسَدُّ خَلَّاتِهِمْ، وَنُصْرَتُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَالذَّبُّ عَنْهُمْ، وَمُجَانَبَةُ الْغِشِّ، وَالْحَسَدُ لَهُمْ، وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُهُ لِنَفْسِهِ، وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ. وَمِنْ أَنْوَاعِ نُصْحِهِمْ بِدَفْعِ الْأَذَى وَالْمَكْرُوهِ عَنْهُمْ إِيثَارُ فَقِيرِهِمْ وَتَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ، وَرَدُّ مَنْ زَاغَ مِنْهُمْ عَنِ الْحَقِّ فِي قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ بِالتَّلَطُّفِ فِي رَدِّهِمْ إِلَى الْحَقِّ، وَالرِّفْقُ بِهِمْ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَحَبَّةً لِإِزَالَةِ فَسَادِهِمْ وَلَوْ بِحُصُولِ ضَرَرٍ لَهُ فِي دُنْيَاهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: وَدِدْتُ أَنَّ هَذَا الْخَلْقَ أَطَاعُوا اللَّهَ وَإِنَّ لَحْمِي قُرِضَ بِالْمَقَارِيضِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي عَمِلْتُ فِيكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَعَمِلْتُمْ بِهِ، فَكُلَّمَا عَمِلْتُ فِيكُمْ بِسُنَّةٍ، وَقَعَ مِنِّي عُضْوٌ حَتَّى يَكُونَ آخَرَ شَيْءٍ مِنْهَا خُرُوجُ نَفْسِي. وَمِنْ أَنْوَاعِ النُّصْحِ لِلَّهِ تَعَالَى وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ - وَهُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ الْعُلَمَاءُ - رَدُّ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبَيَانُ دَلَالَتِهِمَا عَلَى مَا يُخَالِفُ الْأَهْوَاءَ كُلَّهَا

وَكَذَلِكَ رَدُّ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ مِنْ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ، وَبَيَانُ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى رَدِّهَا، وَمِنْ ذَلِكَ بَيَانُ مَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ بِتَبْيِينِ حَالِ رُوَاتِهِ وَمَنْ تُقْبَلُ رِوَايَاتُهُ مِنْهُمْ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ، وَبَيَانُ غَلَطِ مَنْ غَلَطَ مِنْ ثِقَاتِهِمُ الَّذِينَ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ. وَمِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ النُّصْحِ أَنْ يَنْصَحَ لِمَنِ اسْتَشَارَهُ فِي أَمْرِهِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيَنْصَحْ لَهُ» وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: «إِنَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْصَحَ لَهُ إِذَا غَابَ» وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ فِي غَيْبِهِ بِالسُّوءِ أَنْ يَنْصُرَهُ، وَيَرُدَّ عَنْهُ، وَإِذَا رَأَى مَنْ يُرِيدُ أَذَاهُ فِي غَيْبِهِ، كَفَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ النُّصْحَ فِي الْغَيْبِ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ النُّصْحِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ النُّصْحُ فِي حُضُورِهِ تَمَلُّقًا، وَيَغُشُّهُ فِي غَيْبِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ حَقَّ نَصِيحَتِكَ لِأَخِيكَ حَتَّى تَأْمُرَهُ بِمَا تَعْجِزُ عَنْهُ. قَالَ الْحَسَنُ: وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ شِئْتُمْ لَأُقْسِمَنَّ لَكُمْ بِاللَّهِ إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ الَّذِينَ يُحَبِّبُونَ اللَّهَ إِلَى عِبَادِهِ وَيُحَبِّبُونَ عِبَادَ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ بِالنَّصِيحَةِ. وَقَالَ فَرْقَدٌ السَّبْخِيُّ، قَرَأْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: الْمُحِبُّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمِيرٌ مُؤَمَّرٌ عَلَى الْأُمَرَاءِ، زُمْرَتُهُ أَوَّلُ الزُّمَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَجْلِسُهُ أَقْرَبُ الْمَجَالِسِ فِيمَا هُنَاكَ وَالْمَحَبَّةُ فِيمَا هُنَاكَ وَالْمَحَبَّةُ مُنْتَهَى الْقُرْبَةِ وَالِاجْتِهَادِ، وَلَنْ يَسْأَمَ الْمُحِبُّونَ مِنْ طُولِ اجْتِهَادِهِمْ

لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يُحِبُّونَهُ وَيُحِبُّونَ ذِكْرَهُ، وَيُحَبِّبُونَ إِلَى خَلْقِهِ، يَمْشُونَ بَيْنَ عِبَادِهِ بِالنَّصَائِحِ، وَيَخَافُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ يَوْمَ تَبْدُو الْفَضَائِحُ، أُولَئِكَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَهْلُ صَفْوَتِهِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا رَاحَةَ لَهُمْ دُونَ لِقَائِهِ. وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ فِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الْمُزَنِيِّ: مَا فَاقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ، وَلَكِنْ بِشَيْءٍ كَانَ فِي قَلْبِهِ، قَالَ: الَّذِي كَانَ فِي قَلْبِهِ الْحُبُّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالنَّصِيحَةُ فِي خَلْقِهِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: مَا أَدْرَكَ عِنْدَنَا مَنْ أَدْرَكَ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَإِنَّمَا أَدْرَكَ عِنْدَنَا بِسَخَاءِ الْأَنْفُسِ، وَسَلَامَةِ الصُّدُورِ، وَالنُّصْحِ لِلْأُمَّةِ. وَسُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: النُّصْحُ لِلَّهِ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: كَانَ يُقَالُ: أَنْصَحُ النَّاسِ لَكَ مَنْ خَافَ اللَّهَ فِيكَ. وَكَانَ السَّلَفُ إِذَا أَرَادُوا نَصِيحَةَ أَحَدٍ، وَعَظُوهُ سِرًّا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَهِيَ نَصِيحَةٌ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ فَإِنَّمَا وَبَّخَهُ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ: الْمُؤْمِنُ يَسْتُرُ وَيَنْصَحُ، وَالْفَاجِرُ يَهْتِكُ وَيُعَيِّرُ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ: كَانَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ إِذَا رَأَى الرَّجُلُ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا يَأْمُرُهُ فِي رِفْقٍ، فَيُؤْجَرُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَإِنَّ أَحَدَ هَؤُلَاءِ يَخْرِقُ بِصَاحِبِهِ فَيَسْتَغْضِبُ أَخَاهُ وَيَهْتِكُ سِتْرَهُ. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ أَمْرِ السُّلْطَانِ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيِهِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ فَاعِلًا وَلَابُدَّ، فَفِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ نُصْحُ الذِّمِّيِّ، وَعَلَيْهِ نُصْحُ الْمُسْلِمِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالنُّصْحُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَأَنْ يَنْصَحَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» .

[الحديث الثامن أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله]

[الْحَدِيثُ الثَّامِنُ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ]

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ رِوَايَةِ وَاقَدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. وَقَوْلُهُ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ تَفَرَّدَ بِهَا الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ. وَقَدْ رُوِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَأَكَلُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَيَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا

اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، فَقَدِ اعْتَصَمُوا وَعَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مُخْتَصَرًا. وَخَرَّجَ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ: إِقَامِ الصَّلَاةِ وَلَا إِيتَاءِ الزَّكَاةِ فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ» . وَخَرَجَّهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأَوَّلِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ قَرَأَ {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 21] (الْغَاشِيَةِ: 21) .

وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْهِجْرَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، وَفِي صِحَّتِهِ عَنْ سُفْيَانَ نَظَرٌ، فَإِنَّ رُوَاةَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِنَّمَا صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَبَعْضُهُمْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ. ثُمَّ قَوْلُهُ «عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ هَذَا الْقَوْلِ مَأْمُورًا بِالْقِتَالِ، وَيَقْتُلُ مَنْ أَبَى الْإِسْلَامَ، وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْبَلُ مِنْ كُلِّ مَنْ جَاءَهُ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ الشَّهَادَتَيْنِ فَقَطْ، وَيَعْصِمُ دَمَهُ بِذَلِكَ، وَيَجْعَلُهُ مُسْلِمًا، فَقَدْ «أَنْكَرَ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَتْلَهُ لِمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَمَّا رَفَعَ عَلَيْهِ السَّيْفَ، وَاشْتَدَّ نَكِيرُهُ عَلَيْهِ» . وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَرِطُ عَلَى مَنْ جَاءَهُ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ أَنْ يَلْتَزِمَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ، بَلْ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَبِلَ مِنْ قَوْمٍ الْإِسْلَامَ، وَاشْتَرَطُوا أَنْ لَا يُزَكُّوا، فَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «اشْتَرَطَتْ ثَقِيفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا صَدَقَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا جِهَادَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَيَتَصَدَّقُونَ وَيُجَاهِدُونَ» . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ اللَّيْثِيِّ «عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ عَلَى أَنْ لَا يُصَلِّي إِلَّا صَلَاتَيْنِ، فَقَبِلَ مِنْهُ» .

وَأَخَذَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَقَالَ: يَصِحُّ الْإِسْلَامُ عَلَى الشَّرْطِ الْفَاسِدِ، ثُمَّ يُلْزَمُ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِأَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ: «بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا أَخِرَّ إِلَّا قَائِمًا» . قَالَ أَحْمَدُ: مَعْنَاهُ أَنْ يَسْجُدَ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ. وَخَرَّجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ جِدًّا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ مَنْ أَجَابَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا بِإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَكَانَتَا فَرِيضَتَيْنِ عَلَى مَنْ أَقَرَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة: 13] (الْمُجَادَلَةِ: 13) » وَهَذَا لَا يَثْبُتُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُقِرُّ أَحَدًا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ

عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَهَذَا حَقٌّ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَرَ مُعَاذًا لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ أَنْ يَدْعُوَهُمْ أَوَّلًا إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ، وَقَالَ: إِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ بِالزَّكَاةِ» وَمُرَادُهُ أَنَّ مَنْ صَارَ مُسْلِمًا بِدُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ أُمِرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَكَانَ مَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ يَذْكُرُ لَهُ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ بَقِيَّةَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَكَمَا قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي جَاءَهُ ثَائِرَ الرَّأْسِ يَسْأَلُهُ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَظْهَرُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَلْفَاظِ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ كُلَّهَا حَقٌّ، فَإِنَّ كَلِمَتِيِ الشَّهَادَتَيْنِ بِمُجَرَّدِهِمَا تَعْصِمُ مَنْ أَتَى بِهِمَا، وَيَصِيرُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا، فَإِذَا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ، وَآتَى الزَّكَاةَ، وَقَامَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَلَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ، فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَهُمْ مَنَعَةً قُوتِلُوا. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْكَافِرَ يُقَاتَلُ حَتَّى يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَيُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَيُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَسِيرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذَا، وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلِيًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ وَقَالَ: امْشِ وَلَا تَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ فَسَارَ عَلِيٌّ شَيْئًا، ثُمَّ وَقَفَ، فَصَرَخَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ؟ فَقَالَ: قَاتِلْهُمْ عَلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، فَقَدْ عَصَمُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» فَجَعَلَ مُجَرَّدَ الْإِجَابَةِ إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ عِصْمَةً لِلنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَمِنْ حَقِّهَا الِامْتِنَاعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قِتَالِ الْجَمَاعَةِ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] (التَّوْبَةِ: 5) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] (التَّوْبَةِ: 11) وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] (الْبَقَرَةِ: 193) مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] (الْبَيِّنَةِ: 5) . وَثَبَتَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا وَإِلَّا أَغَارَ عَلَيْهِمْ» مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ. وَكَانَ يُوصِي سَرَايَاهُ: " «إِنْ سَمِعْتُمْ مُؤَذِّنًا أَوْ رَأَيْتُمْ مَسْجِدًا، فَلَا تَقْتُلُوا أَحَدًا» ". وَقَدْ بَعَثَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ إِلَى قَوْمٍ مِنْ بَنِي الْعَنْبَرِ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا، ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا قَبْلَ ذَلِكَ. «وَبَعَثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ عُمَانَ كِتَابًا فِيهِ: " مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ إِلَى أَهْلِ عُمَانَ، سَلَامٌ أَمَّا بَعْدُ: فَأَقِرُّوا بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَأَدُّوا الزَّكَاةَ، وَخُطُّوا الْمَسَاجِدَ، وَإِلَّا غَزَوْتُكُمْ» " خَرَّجَهُ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا.

فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَعْتَبِرُ حَالَ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَإِلَّا لَمْ يَمْتَنِعْ عَنْ قِتَالِهِمْ، وَفِي هَذَا وَقَعَ تَنَاظُرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا تَوُفِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. فَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ قِتَالَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: " إِلَّا بِحَقِّهِ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قِتَالَ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ بِحَقِّهِ جَائِزٌ، وَمِنْ حَقِّهِ أَدَاءُ حَقِّ الْمَالِ الْوَاجِبِ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ظَنَّ أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِتْيَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ يَعْصِمُ الدَّمَ فِي الدُّنْيَا تَمَسُّكًا بِعُمُومِ أَوَّلِ الْحَدِيثِ كَمَا ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ امْتَنَعَ مِنْ دُخُولِ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ أَلْفَاظِ وَرَدَتْ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَجَعَ إِلَى مُوَافَقَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ خَرَّجَ النَّسَائِيُّ قِصَّةَ تَنَاظُرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بِزِيَادَةٍ: وَهِيَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ

لِعُمَرَ: إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ» وَخَرَّجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي " صَحِيحِهِ " وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ أَخْطَأَ فِيهَا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ إِسْنَادًا وَمَتْنًا، قَالَهُ أَئِمَّةُ الْحُفَّاظِ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ، وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَهَذَا أَخَذَهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا بِحَقِّهَا وَفِي رِوَايَةٍ: «إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ» فَجَعَلَ مِنْ حَقِّ الْإِسْلَامِ إِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ، كَمَا أَنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَرْتَكِبَ الْحُدُودَ، وَجَعَلَ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا اسْتُثْنِيَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا بِحَقِّهَا. وَقَوْلُهُ: لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهُ يُقَاتَلُ لِأَنَّهَا حَقُّ الْبَدَنِ، فَكَذَلِكَ مَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْمَالِ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قِتَالَ تَارِكِ الصَّلَاةِ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ أَصْلًا مَقِيسًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ مَذْكُورًا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ عُمَرُ وَإِنَّمَا أَخَذَ مِنْ قَوْلِهِ: " إِلَّا بِحَقِّهَا " فَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ لِأَنَّهَا مِنْ حَقِّهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْإِسْلَامِ. وَيُسْتَدَلُّ أَيْضًا عَلَى الْقِتَالِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ بِمَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ أَنْكَرَ، فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ لَا مَا صَلَّوْا» .

وَحُكْمُ مَنْ تَرَكَ سَائِرَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ أَنْ يُقَاتَلُوا عَلَيْهَا كَمَا يُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَسْقَعِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ النَّاسَ عَلَى خَمْسٍ، فَمَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنَ الْخَمْسِ، فَقَاتِلْهُ عَلَيْهَا كَمَا تُقَاتِلُ عَلَى الْخَمْسِ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ تَرَكُوا الْحَجَّ لَقَاتَلْنَاهُمْ عَلَيْهِ، كَمَا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. فَهَذَا الْكَلَامُ فِي قِتَالِ الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ. وَأَمَّا قَتْلُ الْوَاحِدِ الْمُمْتَنِعِ عَنْهَا، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ الْمُمْتَنِعُ عَنِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ رَجُلٍ، فَقَالَ: " لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي " فَقَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّى لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ» . وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ، قَالَ: أَلَيْسَ يُصَلِّي؟ قَالَ: بَلَى، وَلَا صَلَاةَ لَهُ، قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ، عَنْ قَتْلِهِمْ» .

وَأَمَّا قَتْلُ الْمُمْتَنِعِ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ لِمَنْ قَالَ: يُقْتَلُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ. أَحَدُهُمَا: يُقْتَلُ أَيْضًا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَيُسْتَدَّلُّ لَهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا. وَالثَّانِي: لَا يُقْتَلُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ. وَأَمَّا الصَّوْمُ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: يُقْتَلُ بِتَرْكِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: لَا يُقْتَلُ بِذَلِكَ، وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ الصَّوْمِ، وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: الصَّوْمُ وَلَمْ يَجِئْ فِيهِ شَيْءٌ. قُلْتُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: أَنَّ مَنْ تَرَكَ الشَّهَادَتَيْنِ أَوِ الصَّلَاةَ أَوِ الصِّيَامَ، فَهُوَ كَافِرٌ حَلَالُ الدَّمِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ ". وَأَمَّا الْحَجُّ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِي الْقَتْلِ بِتَرْكِهِ رِوَايَتَانِ، وَحَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رِوَايَةَ قَتْلِهِ عَلَى مَنْ أَخَّرَهُ عَازِمًا عَلَى تَرْكِهِ، بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ أَخَّرَهُ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْمَوْتُ فِي عَامِهِ، فَأَمَّا إِنْ أَخَّرَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَلَا قَتْلَ بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِلَّا بِحَقِّهَا " وَفِي رِوَايَةٍ: " إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ " قَدْ سَبَقَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَدْخَلَ فِي هَذَا الْحَقِّ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَأَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَدْخَلَ فِيهِ فِعْلَ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ أَيْضًا. وَمِنْ حَقِّهَا ارْتِكَابُ مَا يُبِيحُ دَمَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقَدْ وَرَدَ تَفْسِيرُ حَقِّهَا بِذَلِكَ، خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، عَصَمُوا مِنِّي

دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قِيلَ: وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: زِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ، وَكُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، وَقَتْلُ نَفْسٍ، فَيُقْتَلُ بِهَا» وَلَعَلَّ آخِرَهُ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الصَّوَابَ وَقْفُ الْحَدِيثِ كُلِّهِ عَلَيْهِ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» " يَعْنِي أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ تَعْصِمُ دَمَ صَاحِبِهَا وَمَالَهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ مَا يُبِيحُ دَمَهُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ، فَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا، أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ ": ثُمَّ تَلَا {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ - لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ - إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ - فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ - إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ - ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 21 - 26] (الْغَاشِيَةِ: 21 - 26) وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا عَلَيْكَ تَذْكِيرُهُمْ بِاللَّهِ، وَدَعْوَتُهُمْ إِلَيْهِ، وَلَسْتَ مُسَلَّطًا عَلَى إِدْخَالِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ قَهْرًا وَلَا مُكَلَّفًا بِذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَرْجِعَ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ إِلَيْهِ وَحِسَابَهُمْ عَلَيْهِ. وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزَّارِ " عَنْ عِيَاضٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةٌ عَلَى اللَّهِ كَرِيمَةٌ، لَهَا عِنْدَ اللَّهِ مَكَانٌ، وَهِيَ كَلِمَةٌ مَنْ قَالَهَا صَادِقًا،

أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ، وَمَنْ قَالَهَا كَاذِبًا حَقَنَتْ مَالَهُ وَدَمَهُ، وَلَقِيَ اللَّهَ غَدًا فَحَاسَبَهُ» . وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ يَرَى قَبُولَ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ وَهُوَ الْمُنَافِقُ إِذَا أَظْهَرَ الْعَوْدَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَرَ قَتْلَهُ بِمُجَرَّدِ ظُهُورِ نِفَاقِهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَامِلُ الْمُنَافِقِينَ، وَيُجْرِيهِمْ عَلَى أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ فِي الظَّاهِرِ مَعَ عِلْمِهِ بِنِفَاقِ بَعْضِهِمْ فِي الْبَاطِنِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ، عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[الحديث التاسع ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم]

[الْحَدِيثُ التَّاسِعُ مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ]

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَحْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَخَرَّجَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُؤَالُهُمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ذَكَرَ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ

بِشَيْءٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَدَعُوهُ» . وَخَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُخْتَصَرًا، وَقَالَ فِيهِ: فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] (الْمَائِدَةِ: 101) . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ لَمَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَجِّ، وَقَالُوا: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: " فُلَانٌ " فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] » . وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَغَضِبَ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ، فَقَامَ رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى الرِّجَالَ دُعِيَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ: " أَبُوكَ حُذَافَةُ " ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ» . وَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ هَذِهِ الْآيَةَ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟

فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] . وَخَرَّجَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غَضْبَانُ مُحْمَارًّا وَجْهُهُ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَيْنَ أَنَا؟ فَقَالَ " فِي النَّارِ " فَقَامَ إِلَيْهِ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: " أَبُوكَ حُذَافَةُ " فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، إِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَشِرْكٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَنْ آبَاؤُنَا، قَالَ: فَسَكَنَ غَضَبُهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] » . وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذَّنَ فِي النَّاسِ، فَقَالَ: يَا قَوْمُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَأَغْضَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَنْ لَكَفَرْتُمْ، فَاتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ، فَافْعَلُوا، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَانْتَهُوا عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] » ، نَهَاهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا مِثْلَ الَّذِي سَأَلَتِ النَّصَارَى فِي الْمَائِدَةِ، فَأَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ فِيهَا بِتَغْلِيظٍ سَاءَكُمْ، وَلَكِنِ انْتَظِرُوا، فَإِذَا نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّكُمْ لَا تَسْأَلُونَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا وَجَدْتُمْ تِبْيَانَهُ. فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَلَى النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَا يَسُوءُ

السَّائِلَ جَوَابُهُ مِثْلَ سُؤَالِ السَّائِلِ؛ هَلْ هُوَ فِي النَّارِ أَوْ فِي الْجَنَّةِ، وَهَلْ أَبُوهُ مَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ أَوْ غَيْرُهُ، وَعَلَى النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْعَبَثِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرُهُمْ. وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ سُؤَالُ الْآيَاتِ وَاقْتِرَاحُهَا عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ، كَمَا كَانَ يَسْأَلُهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ. وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ السُّؤَالُ عَمَّا أَخْفَاهُ اللَّهُ عَنْ عِبَادِهِ، وَلَمْ يُطْلِعْهُمْ عَلَيْهِ، كَالسُّؤَالِ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، وَعَنِ الرُّوحِ. وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى نَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِمَّا يُخْشَى أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ سَبَبًا لِنُزُولِ التَّشْدِيدِ فِيهِ، كَالسُّؤَالِ عَنِ الْحَجِّ: هَلْ يَجِبُ كُلَّ عَامٍ أَمْ لَا؟ وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» . «وَلَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللِّعَانِ كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى ابْتُلِيَ السَّائِلُ عَنْهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِذَلِكَ فِي أَهْلِهِ» ، «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ» . وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخِّصُ فِي الْمَسَائِلِ إِلَّا لِلْأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْوُفُودِ الْقَادِمِينَ عَلَيْهِ، يَتَأَلَّفُهُمْ بِذَلِكَ، فَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ الْمُقِيمُونَ بِالْمَدِينَةِ

الَّذِينَ رَسَخَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَنَهَوْا عَنِ الْمَسْأَلَةِ، كَمَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، قَالَ: أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةً مَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَّا الْمَسْأَلَةُ، كَانَ أَحَدُنَا إِذَا هَاجَرَ لَمْ يَسْأَلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيهِ أَيْضًا «عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ، فَيَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " «عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: كَانَ اللَّهُ قَدْ أَنْزَلَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] قَالَ: فَكُنَّا قَدْ كَرِهْنَا كَثِيرًا مِنْ مَسْأَلَتِهِ وَاتَّقَيْنَا ذَلِكَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَأَتَيْنَا أَعْرَابِيًّا، فَرَشَوْنَاهُ بَرْدًا، ثُمَّ قُلْنَا لَهُ: سَلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ حَدِيثًا» . وَفِي " مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى " عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: إِنْ كَانَ لَتَأْتِي عَلَيَّ السَّنَةُ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَأَتَهَيَّبُ مِنْهُ، وَإِنْ كُنَّا لَنَتَمَنَّى الْأَعْرَابَ. وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزَّارِ "، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ

مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً، كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] (الْبَقَرَةِ: 219) ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] (الْبَقَرَةِ: 22) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى (الْبَقَرَةِ: 22) ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَانًا يَسْأَلُونَهُ عَنْ حُكْمِ حَوَادِثَ قَبْلَ وُقُوعِهَا، لَكِنْ لِلْعَمَلِ بِهَا عِنْدَ وُقُوعِهَا، كَمَا قَالُوا لَهُ: إِنَّا لَاقُوا الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ وَسَأَلُوهُ عَنِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بَعْدَهُ، وَعَنْ طَاعَتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَسَأَلَهُ حُذَيْفَةُ عَنِ الْفِتَنِ، وَمَا يَصْنَعُ فِيهَا. فَبِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْمَسَائِلِ وَذَمِّهَا، وَلَكِنْ بَعْضُ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُخْتَصًّا بِزَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يَخْشَى حِينَئِذٍ مِنْ تَحْرِيمِ مَا لَمْ يَحْرُمْ، أَوْ إِيجَابِ مَا يَشُقُّ الْقِيَامُ بِهِ، وَهَذَا قَدْ أَمِنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا وَحْدَهُ هُوَ سَبَبُ كَرَاهَةِ الْمَسَائِلِ، بَلْ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي كَلَامِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا بِقَوْلِهِ: وَلَكِنِ انْتَظِرُوا، فَإِذَا نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّكُمْ لَا تَسْأَلُونَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا وَجَدْتُمْ تِبْيَانَهُ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ لَابُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَيُبَلِّغُ ذَلِكَ رَسُولُهُ عَنْهُ، فَلَا حَاجَةَ بَعْدَ هَذَا لِأَحَدٍ فِي السُّؤَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ مِنْهُمْ، فَمَا كَانَ فِيهِ هِدَايَتُهُمْ وَنَفْعُهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَابُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهُ لَهُمُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، كَمَا قَالَ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] (النِّسَاءِ: 176) . وَحِينَئِذٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ شَيْءٍ، وَلَا سِيَّمَا قَبْلَ وُقُوعِهِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ

الْمُهِمَّةُ إِلَى فَهْمِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ اتِّبَاعُ ذَلِكَ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ عَنِ الْمَسَائِلِ؛ فَيُحِيلُ عَلَى الْقُرْآنِ، كَمَا «سَأَلَهُ عُمَرُ عَنِ الْكَلَالَةِ، " فَقَالَ يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ» . وَأَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ شُغْلًا عَنِ الْمَسَائِلِ، «فَقَالَ: إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ، فَالَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُسْلِمِ الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَالِاهْتِمَامُ أَنْ يَبْحَثَ عَمَّا جَاءَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي فَهْمِ ذَلِكَ، وَالْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِيهِ، ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِالتَّصْدِيقِ بِذَلِكَ إِنْ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ، بَذَلَ وُسْعَهُ فِي الِاجْتِهَادِ فِي فِعْلِ مَا يَسْتَطِيعُهُ مِنَ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ مَا يُنْهَى عَنْهُ، وَتَكُونُ هِمَّتُهُ مَصْرُوفَةً بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى ذَلِكَ؛ لَا إِلَى غَيْرِهِ. وَهَكَذَا كَانَ حَالُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ هِمَّةُ السَّامِعِ مَصْرُوفَةً عِنْدَ سَمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَى فَرْضِ أُمُورٍ قَدْ تَقَعُ، وَقَدْ لَا تَقَعُ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، وَيُثَبِّطُ عَنِ الْجِدِّ فِي مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ. وَقَدْ «سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَنِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ، فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ» ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتَ عَلَيْهِ؟ أَرَأَيْتَ إِنْ زُوحِمْتَ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: اجْعَلْ " أَرَأَيْتَ " بِالْيَمَنِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَمُرَادُ ابْنِ عُمَرَ أَنْ لَا يَكُونَ لَكَ هَمٌّ إِلَّا فِي الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَّا فَرْضَ الْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ أَوْ تَعَسُّرَهَ قَبْلَ وُقُوعِهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَفْتُرُ الْعَزْمُ عَلَى التَّصْمِيمِ عَنِ الْمُتَابَعَةِ، فَإِنَّ التَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ، وَالسُّؤَالَ عَنِ الْعِلْمِ إِنَّمَا يُحْمَدُ إِذَا كَانَ لِلْعَمَلِ، لَا لِلْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِتَنًا تَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَتَى ذَلِكَ يَا عَلِيُّ؟ قَالَ: إِذَا تُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَتُعُلِّمَ لِغَيْرِ الْعَمَلِ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِغَيْرِ الْآخِرَةِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ بِكُمْ إِذَا لَبِسْتُمْ فِتْنَةً يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَتُتَّخَذُ سُنَّةً، فَإِنْ غُيِّرَتْ يَوْمًا قِيلَ: هَذَا مُنْكَرٌ؟ قَالُوا: وَمَتَى ذَلِكَ؟ قَالَ: إِذَا قَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ، وَتُفِقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ. خَرَّجَهُمَا عَبْدُ الرَّازَّقِ فِي كِتَابِهِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَكْرَهُونَ السُّؤَالَ عَنِ الْحَوَادِثِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَلَا يُجِيبُونَ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ: خَرَجَ عُمَرُ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أُحَرِّجُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُونَا عَنْ مَا لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّ لَنَا فِيمَا كَانَ شُغُلًا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ لَعَنَ السَّائِلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ. وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِذَا سُئِلَ، عَنِ الشَّيْءِ يَقُولُ: كَانَ هَذَا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، قَالَ: دَعُوهُ حَتَّى يَكُونَ.

وَقَالَ مَسْرُوقٌ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: أَكَانَ بَعْدُ؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ أَجِمَّنَا - يَعْنِي: أَرِحْنَا حَتَّى يَكُونَ -، فَإِذَا كَانَ اجْتَهَدْنَا لَكَ رَأْيَنَا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: سُئِلَ عَمَّارُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: هَلْ كَانَ هَذَا بَعْدُ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَدَعُونَا حَتَّى يَكُونَ، فَإِذَا كَانَ تَجَشَّمْنَاهُ لَكُمْ. وَعَنِ الصَّلْتِ بْنِ رَاشِدٍ، قَالَ سَأَلْتُ طَاوُسًا عَنْ شَيْءٍ، فَانْتَهَرَنِي فَقَالَ: أَكَانَ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: آللَّهِ؟ قُلْتُ: آللَّهِ. قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَنَا أَخْبَرُونَا، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تُعَجِّلُوا بِالْبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ، فَيَذْهَبُ بِكُمْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُعَجِّلُوا بِالْبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ، لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ إِذَا سُئِلَ سُدِّدَ، أَوْ قَالَ وُفِّقَ. وَقَدْ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ " الْمَرَاسِيلِ " مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تُعَجِّلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مَنْ إِذَا قَالَ سُدِّدَ أَوْ وُفِّقَ، وَأَنَّكُمْ إِنْ عَجَّلْتُمْ، تَشَتَّتَ بِكُمُ السُّبُلُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا» " وَمَعْنَى إِرْسَالِهِ أَنَّ طَاوُسًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ. وَخَرَّجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ مُرْسَلًا.

وَرَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّبَيْرَ بْنَ سَعِيدٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَشْيَاخَنَا يُحَدِّثُونَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا يَزَالُ فِي أُمَّتِي مَنْ إِذَا سُئِلَ سُدِّدَ وَأُرْشِدَ حَتَّى يَتَسَاءَلُوا، عَنْ مَا لَمْ يَنْزِلْ تَبْيِينُهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، ذَهَبَ بِهِمْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا» ". وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّنَابِحِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ» . خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. رَحِمَهُ اللَّهُ وَفَسَّرَهَا الْأَوْزَاعِيُّ، وَقَالَ: هِيَ شِدَادُ الْمَسَائِلِ. وَقَالَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ: هِيَ مَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ كَيْفَ وَكَيْفَ. وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَيَكُونُ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتِي يُغَلِّطُونَ فُقَهَاءَهُمْ بِعَضَلِ الْمَسَائِلِ، أُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي» . وَقَالَ الْحَسَنُ: شِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ شِرَارَ الْمَسَائِلِ يُعْمُونَ بِهَا عِبَادَ اللَّهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ عَبْدَهُ بَرَكَةَ الْعِلْمِ، أَلْقَى عَلَى لِسَانِهِ الْمَغَالِيطَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ أَقَلَّ النَّاسِ عِلْمًا. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ: أَدْرَكْتُ هَذِهِ الْبَلْدَةَ، وَإِنَّهُمْ لَيَكْرَهُونَ الْإِكْثَارَ الَّذِي فِيهِ النَّاسُ الْيَوْمَ. يُرِيدُ الْمَسَائِلَ. وَقَالَ أَيْضًا: سَمِعْتُ مَالِكًا وَهُوَ يَعِيبُ كَثْرَةَ الْكَلَامِ وَكَثْرَةَ الْفُتْيَا، ثُمَّ قَالَ: يَتَكَلَّمُ كَأَنَّهُ جَمَلٌ مُغْتَلِمٌ يَقُولُ: هُوَ كَذَا، هُوَ كَذَا يَهْدِرُ فِي كَلَامِهِ.

وَقَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَكْرَهُ الْجَوَابَ فِي كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ، وَقَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] (الْإِسْرَاءِ: 85) فَلَمْ يَأْتِهِ فِي ذَلِكَ جَوَابٌ. وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ الْمُجَادَلَةَ عَنِ السُّنَنِ أَيْضًا قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، الرَّجُلُ يَكُونُ عَالِمًا بِالسُّنَنِ يُجَادِلُ عَنْهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ يُخْبِرُ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ قُبِلَ مِنْهُ وَإِلَّا سَكَتَ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى: كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ فِي الْعِلْمِ يَذْهَبُ بِنُورِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِ الرَّجُلِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: الْمِرَاءُ فِي الْعِلْمِ يُقَسِّي الْقَلْبَ، وَيُؤَثِّرُ الضَّغْنَ. وَكَانَ أَبُو شُرَيْحٍ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ يَوْمًا فِي مَجْلِسِهِ، فَكَثُرَتِ الْمَسَائِلُ، فَقَالَ: قَدْ دَرِنَتْ قُلُوبُكُمْ مُنْذُ الْيَوْمِ، فَقُومُوا إِلَى أَبِي حُمَيْدٍ خَالِدِ بْنِ حُمَيْدٍ اصْقُلُوا قُلُوبَكُمْ، وَتَعَلَّمُوا هَذِهِ الرَّغَائِبَ، فَإِنَّهَا تُجَدِّدُ الْعِبَادَةَ، وَتُورِثُ الزَّهَادَةَ، وَتَجُرُّ الصَّدَاقَةَ، وَأَقِلُّوا الْمَسَائِلَ إِلَّا مَا نَزَلَ، فَإِنَّهَا تُقَسِّي الْقُلُوبَ، وَتُورِثُ الْعَدَاوَةَ. وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي أَحْمَدَ - يَسْأَلُ، عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ؟ بُلِيتُمْ بِهَا بَعْدُ؟ وَقَدِ انْقَسَمَ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ أَقْسَامًا: فَمِنْ أَتْبَاعِ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَنْ سَدَّ بَابَ الْمَسَائِلِ حَتَّى قَلَّ فِقْهُهُ وَعِلْمُهُ بِحُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَصَارَ حَامِلَ فِقْهٍ غَيْرَ فَقِيهٍ. وَمِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الرَّأْيِ مَنْ تَوَسَّعَ فِي تَوْلِيدِ الْمَسَائِلِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، مَا يَقَعُ فِي الْعَادَةِ مِنْهَا وَمَا لَا يَقَعُ، وَاشْتَغَلُوا بِتَكَلُّفِ الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ، وَكَثْرَةِ الْخُصُومَاتِ فِيهِ، وَالْجِدَالِ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ افْتِرَاقُ الْقُلُوبِ، وَيَسْتَقِرَّ فِيهَا بِسَبَبِهِ الْأَهْوَاءُ وَالشَّحْنَاءُ وَالْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ، وَيَقْتَرِنُ ذَلِكَ كَثِيرًا بِنِيَّةِ الْمُغَالَبَةِ، وَطَلَبِ

الْعُلُوِّ وَالْمُبَاهَاةِ، وَصَرْفِ وُجُوهِ النَّاسِ وَهَذَا مِمَّا ذَمَّهُ الْعُلَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ، وَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى قُبْحِهِ وَتَحْرِيمِهِ. وَأَمَّا فُقَهَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْعَامِلُونَ بِهِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ هَمِّهِمُ الْبَحْثُ عَنْ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا يُفَسِّرُهُ مِنَ السُّنَنِ الصَّحِيحَةِ، وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَعَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْرِفَةِ صَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا، ثُمَّ التَّفَقُّهِ فِيهَا وَتَفَهُّمِهَا، وَالْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِيهَا، ثُمَّ مَعْرِفَةِ كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ، وَمَسَائِلِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَأُصُولِ السُّنَّةِ وَالزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَفِي مَعْرِفَةِ هَذَا شُغْلٌ شَاغِلٌ عَنِ التَّشَاغُلِ بِمَا أَحْدَثَ مِنَ الرَّأْيِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَا يَقَعُ، وَإِنَّمَا يُورِثُ التَّجَادُلُ فِيهِ كَثْرَةَ الْخُصُومَاتِ وَالْجِدَالِ وَكَثْرَةَ الْقِيلِ وَالْقَالِ. وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ كَثِيرًا إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَوَلِّدَاتِ الَّتِي لَا تَقَعُ يَقُولُ: دَعُونَا مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُحْدَثَةِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ يُونُسُ بْنُ سُلَيْمَانَ السَّقَطِيُّ: نَظَرْتُ فِي الْأَمْرِ، فَإِذَا هُوَ الْحَدِيثُ وَالرَّأْيُ، فَوَجَدْتُ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَرُبُوبِيَّتَهُ وَإِجْلَالَهُ وَعَظَمَتَهُ، وَذِكْرَ الْعَرْشِ وَصِفَةَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَذِكْرَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالْحَلَّالَ وَالْحَرَامَ، وَالْحَثَّ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَجِمَاعُ الْخَيْرِ فِيهِ، وَنَظَرْتُ فِي الرَّأْيِ، فَإِذَا فِيهِ الْمَكْرُ، وَالْغَدْرُ، وَالْحِيَلُ، وَقَطِيعَةُ الْأَرْحَامِ، وَجِمَاعُ الشَّرِّ فِيهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبَوَيْهِ: مَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْقَبْرِ فَعَلَيْهِ بِالْآثَارِ، وَمَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْخُبْزِ فَعَلَيْهِ بِالرَّأْيِ. وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ طَلَبِ الْعِلْمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، تَمَكَّنَ مِنْ فَهْمِ جَوَابِ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَةِ غَالِبًا، لِأَنَّ أُصُولَهَا تُوجَدُ فِي تِلْكَ الْأُصُولِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، وَلَابُدَّ

أَنْ يَكُونَ سُلُوكُ هَذَا الطَّرِيقِ خَلْفَ أَئِمَّةِ أَهْلِهِ الْمُجْمَعِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ، فَإِنَّ مَنِ ادَّعَى سُلُوكَ هَذَا الطَّرِيقِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقِهِمْ، وَقَعَ فِي مَفَاوِزَ وَمَهَالِكَ، وَأَخَذَ بِمَا لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهِ، وَتَرَكَ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ. وَمِلَاكُ الْأَمْرِ كُلِّهِ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ بِمَعْرِفَةِ مَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ، وَسُلُوكِ طَرِيقِهِ، وَالْعَمَلِ بِذَلِكَ، وَدُعَاءِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَسَدَّدَهُ، وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمَمْدُوحِينَ فِي الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] (فَاطِرٍ: 28) ، وَمِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، فَقَالَ: مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ، وَمَنْ عَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ، فَذَلِكَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ» . وَقَالَ نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ: يُقَالُ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: الْمُتَوَاضِعُونَ لِلَّهِ، وَالْمُتَذَلِّلُونَ لِلَّهِ فِي مَرْضَاتِهِ لَا يَتَعَاطَوْنَ مَنْ فَوْقَهُمْ، وَلَا يُحَقِّرُونَ مَنْ دُونَهُمْ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ، أَبَرُّ قُلُوبًا، وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ» . وَهَذَا إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَمَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِهِ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْيَمَنِ، ثُمَّ إِلَى مِثْلِ أَبِي مُسْلِمٍ

الْخَوْلَانِيِّ وَأُوَيْسٍ الْقَرْنِيِّ، وَطَاوُسٍ، وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ الْخَائِفِينَ لِلَّهِ، فَكُلُّهُمْ عُلَمَاءُ بِاللَّهِ يَخْشَوْنَهُ وَيَخَافُونَهُ، وَبَعْضُهُمْ أَوْسَعُ عِلْمًا بِأَحْكَامِ اللَّهِ وَشَرَائِعِ دِينِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنْ تَمَيُّزُهُمْ عَنِ النَّاسِ بِكَثْرَةِ قِيلَ وَقَالَ، وَلَا بِحْثٍ وَلَا جِدَالٍ. وَكَذَلِكَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهُوَ الَّذِي يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ بِرَتْوَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُهُ بِتَوْسِعَةِ الْمَسَائِلِ وَتَكْثِيرِهَا، بَلْ قَدْ سَبَقَ عَنْهُ كَرَاهَةُ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَقَعُ، وَإِنَّمَا كَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ وَعَالِمًا بِأُصُولِ دِينِهِ وَقَدْ قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: مَنْ نَسْأَلُ بَعْدَكَ؟ قَالَ عَبْدَ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقَ، قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ اتِّسَاعٌ فِي الْعِلْمِ، قَالَ: إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ مِثْلُهُ يُوَفَّقُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ. وَسُئِلَ عَنْ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، فَقَالَ: كَانَ مَعَهُ أَصْلُ الْعِلْمِ: خَشْيَةُ اللَّهِ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ: كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا، وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ بِاللَّهِ جَهْلًا. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ. وَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَقُولُ: مَنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا تُوجَدُ مِثْلُهَا فِي كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، بَلِ اشْتَغَلَ بِفَهْمِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَصْدُهُ بِذَلِكَ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي، فَهُوَ مِمَّنِ امْتَثَلَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنِ اهْتِمَامُهُ بِفَهْمِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَاشْتَغَلَ بِكَثْرَةِ تَوْلِيدِ الْمَسَائِلِ قَدْ تَقَعُ وَقَدْ لَا تَقَعُ، وَتَكَلَّفَ أَجْوِبَتَهَا بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ، خُشِيَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِهَذَا الْحَدِيثِ، مُرْتَكِبًا لِنَهْيِهِ، تَارِكًا لِأَمْرِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ كَثْرَةَ وُقُوعِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَرْكِ الِاشْتِغَالِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَوْ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا سَأَلَ عَمَّا شَرَعَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ فَامْتَثَلَهُ، وَعَمَّا نَهَى عَنْهُ فِيهِ فَاجْتَنَبَهُ، وَقَعَتِ الْحَوَادِثُ مُقَيَّدَةً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنَّمَا يَعْمَلُ الْعَامِلُ بِمُقْتَضَى رَأْيِهِ وَهَوَاهُ، فَتَقَعُ الْحَوَادِثُ عَامَّتُهَا مُخَالِفَةً لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرُبَّمَا عَسُرَ رَدُّهَا إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِبُعْدِهَا عَنْهَا. وَفِي الْجُمْلَةِ فَمَنِ امْتَثَلَ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَانْتَهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ، وَكَانَ مُشْتَغِلًا بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ، حَصَلَ لَهُ النَّجَاةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ، وَاشْتَغَلَ بِخَوَاطِرِهِ وَمَا يَسْتَحْسِنُهُ، وَقَعَ فِيمَا حَذَّرَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ هَلَكُوا بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَعَدَمِ انْقِيَادِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ لِرُسُلِهِمْ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» " قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ النَّهْيَ أَشَدُّ مِنَ الْأَمْرِ، لِأَنَّ النَّهْيَ لَمْ يُرَخَّصْ فِي ارْتِكَابِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَالْأَمْرُ قُيِّدَ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَيُشْبِهُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: أَعْمَالُ الْبِرِّ يَعْمَلُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَأَمَّا الْمَعَاصِي، فَلَا يَتْرُكُهَا إِلَّا صِدِّيقٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ، تَكُنْ أَعْبَدَ

النَّاسِ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْبِقَ الدَّائِبَ الْمُجْتَهِدَ فَلْيَكُفَّ عَنِ الذُّنُوبِ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا عَبَدَ الْعَابِدُونَ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ تَرْكِ مَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ تَفْضِيلِ تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ عَلَى نَوَافِلِ الطَّاعَاتِ، وَإِلَّا فَجِنْسُ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَاتِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا، وَالْمَحَارِمَ الْمَطْلُوبُ عَدَمُهَا، وَلِذَلِكَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ بِخِلَافِ الْأَعْمَالِ، وَلِذَلِكَ كَانَ جِنْسُ تَرْكِ الْأَعْمَالِ قَدْ تَكُونُ كُفْرًا كَتَرْكِ التَّوْحِيدِ، وَكَتَرْكِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْضِهَا عَلَى مَا سَبَقَ، بِخِلَافِ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيَّاتِ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ بِنَفْسِهِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: لَرَدُّ دَانِقٍ مِنْ حَرَامٍ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ تُنْفَقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ: تَرْكُ دَانَقٍ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ خَمْسِمِائَةِ حَجَّةٍ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: ذِكْرُ اللَّهِ بِاللِّسَانِ حَسَنٌ وَأَفْضَلُ مِنْهُ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ الْعَبْدُ

عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ فَيُمْسِكَ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَأَنْ أَرُدَّ دِرْهَمًا مِنْ شُبْهَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَمِائَةِ أَلْفٍ، حَتَّى بَلَغَ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَيْسَتِ التَّقْوَى قِيَامَ اللَّيْلِ، وَصِيَامَ النَّهَارِ، وَالتَّخْلِيطَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ التَّقْوَى أَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ، وَتَرْكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ عَمَلٌ، فَهُوَ خَيْرٌ إِلَى خَيْرٍ، أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَالَ أَيْضًا: وَدِدْتُ أَنِّي لَا أُصَلِّي غَيْرَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ سِوَى الْوَتْرِ، وَأَنْ أُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَلَا أَتَصَدَّقَ بَعْدَهَا بِدِرْهَمٍ، وَأَنْ أَصُومَ رَمَضَانَ وَلَا أَصُومَ بَعْدَهُ يَوْمًا أَبَدًا، وَأَنْ أَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ لَا أَحُجَّ بَعْدَهَا أَبَدًا، ثُمَّ أَعْمِدُ إِلَى فَضْلِ قُوتِي، فَأَجْعَلُهُ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيَّ، فَأَمْسِكُ عَنْهُ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ يَدُلُّ عَلَى اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ - وَإِنْ قُلْتُ - أَفْضَلُ مِنَ الْإِكْثَارِ مِنْ نَوَافِلِ الطَّاعَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ، وَهَذَا نَفْلٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ،» لِأَنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَالْعَمَلُ يَتَوَقَّفُ وَجُودُهُ عَلَى شُرُوطٍ وَأَسْبَابٍ، وَبَعْضُهَا قَدْ لَا يُسْتَطَاعُ، فَلِذَلِكَ قَيَّدَهُ بِالِاسْتِطَاعَةِ، كَمَا قَيَّدَ اللَّهُ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى بِالِاسْتِطَاعَةِ، قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (التَّغَابُنِ: 16) وَقَالَ فِي الْحَجِّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] (آلِ عِمْرَانَ: 97) . وَأَمَّا النَّهْيُ: فَالْمَطْلُوبُ عَدَمُهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ، فَالْمَقْصُودُ اسْتِمْرَارُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا لَا يُسْتَطَاعُ، وَهَذَا فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ، فَإِنَّ الدَّاعِيَ إِلَى فِعْلِ الْمَعَاصِي قَدْ يَكُونُ قَوِيًّا، لَا صَبْرَ مَعَهُ لِلْعَبْدِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مَعَ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، فَيَحْتَاجُ الْكَفُّ عَنْهَا حِينَئِذٍ إِلَى مُجَاهَدَةٍ شَدِيدَةٍ،

رُبَّمَا كَانَتْ أَشَقَّ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ مُجَرَّدِ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ، وَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا مِنْ يَجْتَهِدُ فَيَفْعَلُ الطَّاعَاتِ، وَلَا يَقْوَى عَلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَقَدْ سُئِلَ عُمَرُ عَنْ قَوْمٍ يَشْتَهُونَ الْمَعْصِيَةَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهَا، فَقَالَ: أُولَئِكَ قَوْمٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ مَيْسَرَةَ: يَقُولُ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: أَيُّهَا الشَّابُّ التَّارِكُ شَهْوَتَهُ، الْمُتَبَذِّلُ فِي شَبَابِهِ لِأَجْلِي، أَنْتَ عِنْدِي كَبَعْضِ مَلَائِكَتِي. وَقَالَ: مَا أَشَدَّ الشَّهْوَةَ فِي الْجَسَدِ، إِنَّهَا مِثْلُ حَرِيقِ النَّارِ، وَكَيْفَ يَنْجُو مِنْهَا الْحَصُورِيُّونَ؟ . وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ الْعِبَادَ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَقَدْ أَسْقَطَ عَنْهُمْ كَثِيرًا مِنَ الْأَعْمَالِ بِمُجَرَّدِ الْمَشَقَّةِ رُخْصَةً عَلَيْهِمْ، وَرَحْمَةً لَهُمْ، وَأَمَّا الْمَنَاهِي، فَلَمْ يُعْذَرْ أَحَدٌ بِارْتِكَابِهَا بِقُوَّةِ الدَّاعِي وَالشَّهَوَاتِ، بَلْ كَلَّفَهُمْ تَرْكَهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَنَّ مَا أَبَاحَ أَنْ يُتَنَاوَلَ مِنَ الْمَطَاعِمِ الْمُحَرَّمَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مَا تَبَقَى مَعَهُ الْحَيَاةُ، لَا لِأَجْلِ التَّلَذُّذِ وَالشَّهْوَةِ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ صِحَّةُ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إِنَّ النَّهْيَ أَشَدُّ مِنَ الْأَمْرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا» يَعْنِي: لَنْ تَقْدِرُوا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ كُلِّهَا.

وَرَوَى الْحَكَمُ بْنُ حَزْنٍ الْكُلَفِيُّ، قَالَ: «وَفَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدْتُ مَعَهُ الْجُمُعَةَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصَا أَوْ قَوْسٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِكَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ لَنْ تُطِيقُوا، وَلَنْ تَفْعَلُوا كُلَّ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا» " أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ. وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ كُلِّهِ، وَقَدَرَ عَلَى بَعْضِهِ، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمَا أَمْكَنَهُ مِنْهُ، وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي مَسَائِلَ: مِنْهَا الطَّهَارَةُ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى بَعْضِهَا، وَعَجَزَ عَنِ الْبَاقِي: إِمَّا لِعَدَمِ الْمَاءِ، أَوْ لِمَرَضٍ فِي بَعْضِ أَعْضَائِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنَّهُ يَأْتِي مِنْ ذَلِكَ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَيَتَيَمَّمُ لِلْبَاقِي، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَمِنْهَا الصَّلَاةُ، فَمَنْ عَجَزَ عَنْ فِعْلِ الْفَرِيضَةِ قَائِمًا صَلَّى قَاعِدًا، فَإِنْ عَجَزَ صَلَّى مُضْطَجِعًا، وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ.» وَلَوْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَوْمَأَ بِطَرْفِهِ، وَصَلَّى بِنِيَّتِهِ، وَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَمِنْهَا زَكَاةُ الْفِطْرِ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى إِخْرَاجِ بَعْضِ صَاعٍ، لَزِمَهُ ذَلِكَ عَلَى

الصَّحِيحِ، فَأَمَّا مَنْ قَدَرَ عَلَى صِيَامِ بَعْضِ النَّهَارِ دُونَ تَكْمِلَتِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّ صِيَامَ بَعْضِ الْيَوْمِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي نَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ قَدَرَ عَلَى عِتْقِ بَعْضِ رَقَبَةٍ فِي الْكَفَّارَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ، لَأَنَّ تَبْعِيضَ الْعِتْقِ غَيْرُ مَحْبُوبٍ لِلشَّارِعِ بَلْ يُؤْمَرُ بِتَكْمِيلِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ. وَأَمَّا مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فِي الْحَجِّ، فَهَلْ يَأْتِي بِمَا بَقِيَ مِنْهُ مِنَ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ أَمْ لَا؟ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَيَتَحَلَّلُ بِعُمْرَةٍ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، عَنْ أَحْمَدَ أَشْهَرُهُمَا: أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، لِأَنَّ الْمَبِيتَ وَالرَّمْيَ مِنْ لَوَاحِقِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَتَوَابِعِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَبِذِكْرِهِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ لِمَنْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ، فَلَا يُؤْمَرُ بِهِ مَنْ لَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ كَمَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ الْمُعْتَمِرُ.

[الحديث العاشر إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا]

[الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا]

الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] (الْمُؤْمِنُونَ: 51) ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] (الْبَقَرَةِ: 172) ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ: أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَفُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ ثِقَةٌ وَسَطٌ خَرَّجَ لَهُ مُسْلِمٌ دُونَ الْبُخَارِيِّ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ» هَذَا قَدْ جَاءَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ وَالطَّيِّبُ هُنَا: مَعْنَاهُ الطَّاهِرُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُقَدَّسٌ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ كُلِّهَا، وَهَذَا كَمَا فِي

قَوْلِهِ: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26] (النُّورِ: 26) ، وَالْمُرَادُ: الْمُنَزَّهُونَ مِنْ أَدْنَاسِ الْفَوَاحِشِ وَأَوْضَارِهَا. وَقَوْلُهُ " لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا " قَدْ وَرَدَ مَعْنَاهُ فِي حَدِيثِ الصَّدَقَةِ، وَلَفْظُهُ: «لَا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا. . . . . . .» وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنَ الصَّدَقَاتِ إِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا حَلَالًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي نَتَكَلَّمُ فِيهِ الْآنَ بِقَوْلِهِ: " «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا» " أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا طَاهِرًا مِنَ الْمُفْسِدَاتِ كُلِّهَا، كَالرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ، وَلَا مِنَ الْأَمْوَالِ إِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا حَلَالًا، فَإِنَّ الطَّيِّبَ يُوصَفُ بِهِ الْأَعْمَالُ وَالْأَقْوَالُ وَالِاعْتِقَادَاتُ، فَكُلُّ هَذِهِ تَنْقَسِمُ إِلَى طِيِّبٍ وَخَبِيثٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100] (الْمَائِدَةِ: 100) هَذَا كُلُّهُ. وَقَدْ قَسَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَامَ إِلَى طَيِّبٍ وَخَبِيثٍ، فَقَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] (إِبْرَاهِيمَ: 24) ، {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26] (إِبْرَاهِيمَ: 26) ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] (فَاطِرٍ: 10) ، وَوَصَفَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يُحِلُّ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ الْخَبَائِثَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ وَالِاعْتِقَادَاتُ أَيْضًا، وَوَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالطَّيِّبِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32] (النَّحْلِ: 32) وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ عِنْدَ الْمَوْتِ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ، يَقُولُونَ

لَهَمْ: طِبْتُمْ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا زَارَ أَخَاهُ فِي اللَّهِ تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: " طِبْتَ، وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا» ". فَالْمُؤْمِنُ كُلُّهُ طَيِّبٌ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ وَجَسَدُهُ بِمَا سَكَنَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَظَهَرَ عَلَى لِسَانِهِ مِنَ الذِّكْرِ، وَعَلَى جَوَارِحِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ، وَدَاخِلَةٌ فِي اسْمِهِ فَهَذِهِ الطَّيِّبَاتُ كُلُّهَا يَقْبَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَحْصُلُ بِهِ طِيبَةُ الْأَعْمَالِ لِلْمُؤْمِنِ طِيبُ مَطْعَمِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ حَلَالٍ، فَبِذَلِكَ يَزْكُو عَمَلُهُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْعَمَلَ وَلَا يَزْكُو إِلَّا بِأَكْلِ الْحَلَالِ، وَإِنَّ أَكْلَ الْحَرَامِ، يُفْسِدُ الْعَمَلَ، وَيَمْنَعُ قَبُولَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ: " «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا» " إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] . وَالْمُرَادُ بِهَذَا أَنَّ الرُّسُلَ وَأُمَمَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي هِيَ الْحَلَالُ، وَبِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَمَا دَامَ الْأَكْلُ حَلَالًا، فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مَقْبُولٌ، فَإِذَا كَانَ الْأَكْلُ غَيْرَ حَلَالٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْعَمَلُ مَقْبُولًا؟ . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَأَنَّهُ كَيْفَ يُتَقَبَّلُ مَعَ الْحَرَامِ، فَهُوَ مِثَالٌ لِاسْتِبْعَادِ قَبُولِ الْأَعْمَالِ مَعَ التَّغْذِيَةِ بِالْحَرَامِ. وَقَدْ خَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «تُلِيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168] (الْبَقَرَةِ: 168) ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا سَعْدُ

أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الْعَبْدَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْهُ عَمَلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» . وَفِي " مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا «عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " مَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي ثَمَنِهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ، لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً مَا كَانَ عَلَيْهِ "، ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ فَقَالَ: صُمَّتَا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا مَعْنَاهُ أَيْضًا، خَرَّجَهُ الْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ جِدًّا. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ حَاجًّا بِنَفَقَةٍ طَيِّبَةٍ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، فَنَادَى: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَزَادُكَ حَلَالٌ، وَرَاحِلَتُكَ حَلَالٌ، وَحَجُّكَ مَبْرُورٌ غَيْرُ مَأْزُورٍ، وَإِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ بِالنَّفَقَةِ الْخَبِيثَةِ، فَوَضَعَ رِجْلَهُ فِي

الْغَرْزِ، فَنَادَى لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ، زَادُكَ حَرَامٌ، وَنَفَقَتُكَ حَرَامٌ، وَحَجُّكَ غَيْرُ مَبْرُورٍ» ". وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بِنَحْوِهِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ أَيْضًا. وَرَوَى أَبُو يَحْيَى الْقَتَّاتُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ فِي جَوْفِهِ حَرَامٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَجِّ مَنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ، وَمَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ حَرَامٍ، هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ بِذَلِكَ، وَفِيهِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُتَقَبَّلُ الْعَمَلُ مَعَ مُبَاشَرَةِ الْحَرَامِ، لَكِنَّ الْقَبُولَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الرِّضَا بِالْعَمَلِ، وَمَدْحُ فَاعِلِهِ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُبَاهَاةُ بِهِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ حُصُولُ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ سُقُوطُ الْفَرْضِ بِهِ مِنَ الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هَاهُنَا الْقَبُولُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ سُقُوطِ الْفَرْضِ بِهِ مِنَ الذِّمَّةِ، كَمَا وَرَدَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ الْآبِقِ، وَلَا الْمَرْأَةُ الَّتِي زَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَلَا مَنْ أَتَى كَاهِنًا، وَلَا مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَالْمُرَادُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - نَفْيُ الْقَبُولِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، وَهُوَ الْمُرَادُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (الْمَائِدَةِ: 27) . وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَشْتَدُّ مِنْهَا خَوْفُ السَّلَفِ عَلَى نُفُوسِهِمْ، فَخَافُوا أَنْ لَا يَكُونُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ مَعْنَى " الْمُتَّقِينَ " فِيهَا، فَقَالَ: يَتَّقِي الْأَشْيَاءَ، فَلَا يَقَعُ فِيمَا لَا يَحِلُّ لَهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النِّبَاجِيُّ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: خَمْسُ خِصَالٍ بِهَا تَمَامُ الْعَمَلِ:

الْإِيمَانُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ، وَإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالْعَمَلُ عَلَى السُّنَّةِ، وَأَكْلُ الْحَلَالِ، فَإِنْ فَقَدْتَ وَاحِدَةً، لَمْ يَرْتَفِعِ الْعَمَلُ، وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ تَعْرِفِ الْحَقَّ، لَمْ تَنْتَفِعْ، وَإِذَا عَرَفْتَ الْحَقَّ، وَلَمْ تَعْرِفِ اللَّهَ، لَمْ تَنْتَفِعْ، وَإِنْ عَرَفْتَ اللَّهَ، وَعَرَفْتَ الْحَقَّ، وَلَمْ تُخْلِصِ الْعَمَلَ، لَمْ تَنْتَفِعْ، وَإِنْ عَرَفْتَ اللَّهَ، وَعَرَفْتَ الْحَقَّ، وَأَخْلَصْتَ الْعَمَلَ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى السُّنَّةِ، لَمْ تَنْتَفِعْ، وَإِنْ تَمَّتِ الْأَرْبَعُ، وَلَمْ يَكُنِ الْأَكْلُ مِنْ حَلَالٍ لَمْ تَنْتَفِعْ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ الْوَرْدِ: لَوْ قُمْتَ مَقَامَ هَذِهِ السَّارِيَةِ لَمْ يَنْفَعْكَ شَيْءٌ حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَدْخُلُ بَطْنَكَ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ. وَأَمَّا الصَّدَقَةُ بِالْمَالِ الْحَرَامِ، فَغَيْرُ مَقْبُولَةٍ كَمَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ مَا تَصَدَّقَ عَبْدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ - إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي " مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَكْتَسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ، فَيُنْفِقُ مِنْهُ، فَيُبَارَكُ فِيهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ، فَيُتَقَبَّلُ مِنْهُ، وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنْ

يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ» . وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ دَرَّاجٍ عَنِ ابْنِ حُجَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَسَبَ مَالًا حَرَامًا، فَتَصَدَّقَ بِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ، وَكَانَ إِصْرُهُ عَلَيْهِ» . خَرَّجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. وَفِي مَرَاسِيلِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَصَابَ مَالًا مِنْ مَأْثَمٍ، فَوَصَلَ بِهِ رَحِمَهُ، وَتَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ أَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، جُمِعَ ذَلِكَ جَمِيعًا، ثُمَّ قُذِفَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَيَزِيدَ بْنِ مَيْسَرَةَ أَنَّهُمَا جَعَلَا مَثَلَ مَنْ أَصَابَ مَالًا مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، فَتَصَدَّقَ بِهِ مَثَلَ مَنْ أَخَذَ مَالَ يَتِيمٍ، وَكَسَا بِهِ أَرْمَلَةً. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَمَّنْ كَانَ عَلَى عَمَلٍ، فَكَانَ يَظْلِمُ وَيَأْخُذُ الْحَرَامَ، ثُمَّ تَابَ، فَهُوَ يَحُجُّ وَيُعْتِقُ وَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يُكَفِّرُ الْخَبِيثَ وَكَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يُكَفِّرُ الْخَبِيثَ، وَلَكِنَّ الطَّيِّبَ يُكَفِّرُ الْخَبِيثَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيُّهَا الْمُتَصَدِّقُ عَلَى الْمِسْكِينِ يَرْحَمُهُ، ارْحَمْ مَنْ قَدْ ظَلَمْتَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّدَقَةَ بِالْمَالِ الْحَرَامِ تَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ الْخَائِنُ أَوِ الْغَاصِبُ وَنَحْوُهُمَا، عَنْ نَفْسِهِ، فَهَذَا هُوَ

الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ: بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ، بَلْ يَأْثَمُ بِتَصَرُّفِهِ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَا يَحَصُلُ لِلْمَالِكِ بِذَلِكَ أَجْرٌ، لِعَدَمِ قَصْدِهِ وَنِيَّتِهِ، كَذَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَفِي كِتَابِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ الْأَخْنَسِ الْخُزَاعِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: وَجَدْتُ لُقَطَةً، أَفَأَتَصَدَّقُ بِهَا، قَالَ: لَا تُؤْجَرُ أَنْتَ وَلَا صَاحِبُهَا وَلَعَلَّ مُرَادَهُ إِذَا تَصَدَّقَ بِهَا قَبْلَ تَعْرِيفِهَا الْوَاجِبِ. وَلَوْ أَخَذَ السُّلْطَانُ، أَوْ بَعْضُ نُوَّابِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَالًا يَسْتَحِقُّهُ، فَتَصَدَّقَ مِنْهُ أَوْ أَعْتَقَ، أَوْ بَنَى بِهِ مَسْجِدًا أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، فَالْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَالْغَاصِبِ إِذَا تَصَدَّقَ بِمَا غَصَبَهُ، كَذَلِكَ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ النَّاسُ قَدِ اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ فِي حَالِ مَوْتِهِ وَهُمْ يُثْنُونَ عَلَيْهِ بِبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ، وَابْنُ عُمَرَ سَاكِتٌ، فَطُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ، فَرَوَى لَهُ حَدِيثَ " «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ» "، ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَكُنْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ. وَقَالَ أَسَدُ بْنُ مُوسَى فِي " كِتَابِ الْوَرَعِ ": حَدِيثُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ مَسْلَمَةَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَامِرٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ هَذَا الْعِقَابَ الَّتِي نُسَهِّلُهَا، وَالْعُيُونَ الَّتِي نُفَجِّرُهَا، أَلْنَا فِيهَا أَجْرٌ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ خَبِيثًا لَا يُكَفِّرُ خَبِيثًا قَطُّ؟ . حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي مَلِيحٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ لِابْنِ عَامِرٍ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنِ الْعِتْقِ: فَقَالَ مَثَلُكَ مَثَلُ رَجُلٍ سَرَقَ إِبِلَ حَاجٍّ، ثُمَّ جَاهَدَ بِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَانْظُرْ هَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ؟ . وَقَدْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّشْدِيدِ فِي الْوَرَعِ كَطَاوُسٍ وَوُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ

يَتَوَقَّوْنَ الِانْتِفَاعَ بِمَا أَحْدَثَهُ مِثْلُ هَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ، وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ رَخَّصَ فِيمَا فَعَلُوهُ مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ، كَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَصَانِعِ، فَإِنَّ هَذِهِ يُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِ الْفَيْءِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا أَشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ بِمَالٍ حَرَامٍ كَالْمُكُوسِ وَالْغُصُوبِ وَنَحْوِهَا، فَحِينَئَذٍ يَتَوَقَّى الِانْتِفَاعَ بِمَا عُمِلَ بِالْمَالِ الْحَرَامِ، وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ إِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَخْذَهُمْ لِأَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ صَدَقَةٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّ هَذَا شَبِيهٌ بِالْغُصُوبِ، وَعَلَى مِثْلِ هَذَا يُحْمَلُ إِنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمُلُوكِ بُنْيَانَ الْمَسَاجِدِ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: رَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَقَدِّمِينَ سُئِلَ عَمَّنْ كَسَبَ حَلَالًا وَحَرَامًا مِنَ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ، ثُمَّ بَنَى الْأَرْبِطَةَ وَالْمَسَاجِدَ: هَلْ لَهُ ثَوَابٌ؟ فَأَفْتَى بِمَا يُوجِبُ طِيبَ قَلْبِ الْمُنْفِقِ، وَأَنَّ لَهُ فِي إِيقَافِ مَا لَا يَمْلِكُهُ نَوْعُ سَمْسَرَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَعْيَانَ الْمَغْصُوبِينَ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَقُلْتُ وَاعَجَبًا مِنْ مُتَصَدِّرِينَ لِلْفَتْوَى لَا يَعْرِفُونَ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ، يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي حَالِ هَذَا الْمُنْفِقِ أَوَّلًا، فَإِنْ كَانَ سُلْطَانًا، فَمَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَقَدْ عَرَفْتَ وُجُوهَ مَصَارِفِهِ، فَكَيْفَ يَمْنَعُ مُسْتَحِقِّيهِ، وَيَشْغَلُهُ بِمَا لَا يُفِيدُ مِنْ بِنَاءِ مَدْرَسَةٍ أَوْ رِبَاطٍ؟ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَنُوَّابِ السَّلَاطِينِ، فَيَجِبُ أَنْ يَرُدَّ مَا يَجِبُ رَدُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا أَوْ غَصْبًا، فَكُلُّ شَيْءٍ تَصَرَّفَ فِيهِ حَرَامٌ، وَالْوَاجِبُ رَدُّهُ عَلَى مَنْ أُخِذَ مِنْهُ، أَوْ وَرَثَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ رَدَّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ أَوْ فِي الصَّدَقَةِ، وَلَمْ يَحْظَ آخِذُهُ بِغَيْرِ الْإِثْمِ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَلَامُهُ فِي السَّلَاطِينِ الَّذِينَ عَهِدَهُمْ فِي وَقْتِهِ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنَ الْفَيْءِ حُقُوقَهُمْ، وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهِ لِأَنْفُسِهِمْ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ بِبِنَاءِ مَا يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِمْ مِنَ مَدَارِسَ وَأَرْبِطَةٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا قَدْ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَيَخُصُّ بِهِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، فَأَمَّا لَوْ فَرَضَ إِمَامٌ عَادِلٌ يُعْطِي النَّاسَ حُقُوقَهُمْ مِنَ الْفَيْءِ، ثُمَّ يَبْنِي لَهُمْ

مِنْهُ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ، أَوْ مَارِسْتَانَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، وَلَوْ كَانَ بَعْضُ مَنْ يَأْخُذُ الْمَالَ لِنَفْسِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بَنَى بِمَا أَخَذَ مِنْهُ بِنَاءً مُحْتَاجًا إِلَيْهِ فِي حَالٍ، يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِيهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لَكِنَّهُ يَنْسُبُهُ إِلَى نَفْسِهِ، فَقَدْ يَتَخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْغَاصِبِ إِذَا رَدَّ الْمَالَ إِلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ هَلْ يَبْرَأُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا بَنَى عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا زَخْرَفَةٍ. وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِتَرْمِيمِ مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَتَجَاوَزُوا مَا تَصَدَّعَ مِنْهُ، وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَجِدْ لِلْبُنْيَانِ فِي مَالِ اللَّهِ حَقًّا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيمَا أَضَرَّ بَيْتَ مَالِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ تَصَرُّفَ الْغَاصِبِ وَنَحْوِهِ فِي مَالِ غَيْرِهِ مُوقَفًا عَلَى إِجَازَةِ مَالِكِهِ، فَإِنْ أَجَازَ تَصَرُّفَهُ فِيهِ جَازَ، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ مِنْ مَالٍ مَغْصُوبٍ، ثُمَّ أَجَازَهُ الْمَالِكُ، جَازَ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ، وَكَذَلِكَ خَرَّجَ ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدَ غَيْرِهِ عَنْ نَفْسِهِ مُلْتَزِمًا ضَمَانَهُ فِي مَالِهِ، ثُمَّ أَجَازَهُ الْمَالِكُ جَازَ، وَنُفِّذَ عِتْقُهُ، وَهُوَ خِلَافُ نَصِّ أَحْمَدَ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ شَاةً، فَذَبَحَهَا لِمُتْعَتِهِ وَقِرَانِهِ، ثُمَّ أَجَازَهَا الْمَالِكُ أَجَزَأَتْ عَنْهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْغَاصِبِ فِي الْمَالِ الْمَغْصُوبِ: أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَنْ صَاحِبِهِ إِذَا عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ إِلَى أَنَّ الْغَالَّ إِذَا تَفَرَّقَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ يَدْفَعُ إِلَى الْإِمَامِ خُمُسَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِالْبَاقِي، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ

الصَّامِتِ وَمُعَاوِيَةَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ يُشْبِهُ مَذْهَبَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْمَالِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهُ، قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعُوا فِي اللُّقَطَةِ عَلَى جَوَازِ الصَّدَقَةِ بِهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَانْقِطَاعِ صَاحِبِهَا، وَجَعَلُوهُ إِذَا جَاءَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأَجْرِ وَالضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ الْغُصُوبُ انْتَهَى. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ عَمَّنْ عِنْدَهُ مَالٌ حَرَامٌ، وَلَا يَعْرِفُ أَرْبَابَهُ، وَيُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنْهُ؟ قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِهِ وَلَا أَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْهُ. قَالَ مَالِكٌ: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ عَطَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ وَزْنِهِ ذَهَبًا. وَقَالَ سُفْيَانُ فِيمَنِ اشْتَرَى مِنْ قَوْمٍ شَيْئًا مَغْصُوبًا: يَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ، تَصَدَّقَ بِهِ كُلِّهُ، وَلَا يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ، وَكَذَا قَالَ فِيمَنْ بَاعَ شَيْئًا مِمَّنْ تُكْرَهُ مُعَامَلَتُهُ لِشُبْهَةِ مَالِهِ، قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِالثَّمَنِ، وَخَالَفَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَقَالَ: يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ خَاصَّةً وَقَالَ أَحْمَدُ: يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ. وَكَذَا قَالَ فِيمَنْ وَرِثَ مَالًا مِنْ أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ يَبِيعُ مِمَّنْ تُكْرَهُ مُعَامَلَتُهُ: أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ مِنْهُ بِمِقْدَارِ الرِّبْحِ، وَيَأْخُذُ الْبَاقِي. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوُ ذَلِكَ: مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَمْوَالِ الْحَرَامِ أَنَّهَا تُحْفَظُ، وَلَا يُتَصَدَّقُ بِهَا حَتَّى يَظْهَرَ مُسْتَحِقُّهَا. وَكَانَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ يَرَى أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ مَالٌ حَرَامٌ لَا يَعْرِفُ أَرْبَابَهُ، أَنَّهُ يُتْلِفُهُ، وَيُلْقِيهِ فِي الْبَحْرِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَقَالَ: لَا يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا بِالطَّيِّبِ. وَالصَّحِيحُ الصَّدَقَةُ بِهِ، لِأَنَّ إِتْلَافَ الْمَالِ وَإِضَاعَتَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِرْصَادُهُ أَبَدًا تَعْرِيضٌ لَهُ لِلْإِتْلَافِ، وَاسْتِيلَاءُ الظَّلَمَةِ عَلَيْهِ، وَالصَّدَقَةُ بِهِ لَيْسَتْ عَنْ مُكْتَسِبِهِ

حَتَّى يَكُونَ تَقَرُّبًا مِنْهُ بِالْخَبِيثِ، وَإِنَّمَا هِيَ صَدَقَةٌ عَنْ مَالِكِهِ، لِيَكُونَ نَفْعُهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ حَيْثُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: «ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ !» . هَذَا الْكَلَامُ أَشَارَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آدَابِ الدُّعَاءِ، وَإِلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِي إِجَابَتَهُ، وَإِلَى مَا يَمْنَعُ مِنْ إِجَابَتِهِ، فَذَكَرَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِي إِجَابَةَ الدُّعَاءِ أَرْبَعَةً: أَحَدُهَا: إِطَالَةُ السَّفَرِ، وَالسَّفَرُ بِمُجَرَّدِهِ يَقْتَضِي إِجَابَةَ الدُّعَاءِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَعِنْدَهُ: " دَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ ". وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ: " وَمَتَى طَالَ السَّفَرُ، كَانَ أَقْرَبَ إِلَى إِجَابَةِ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ حُصُولِ انْكِسَارِ النَّفْسِ بِطُولِ الْغُرْبَةِ عَنِ الْأَوْطَانِ، وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ، وَالِانْكِسَارِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ. وَالثَّانِي: حُصُولُ التَّبَذُّلِ فِي اللِّبَاسِ وَالْهَيْئَةِ بِالشَّعَثِ وَالِاغْبِرَارِ، وَهُوَ - أَيْضًا - مِنَ الْمُقْتَضِيَاتِ لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رُبَّ

أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» . «وَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلِاسْتِسْقَاءِ، خَرَجَ مُتَبَذِّلًا مُتَوَاضِعًا مُتَضَرِّعًا» . وَكَانَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ حَبَسَ لَهُ ابْنَ أَخٍ، فَلَبِسَ خُلْقَانَ ثِيَابِهِ، وَأَخَذَ عُكَّازًا بِيَدِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: أَسْتَكِينُ لِرَبِّي، لَعَلَّهُ أَنْ يُشَفِّعَنِي فِي ابْنِ أَخِي. الثَّالِثُ: مَدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ الَّتِي يُرْجَى بِسَبَبِهَا إِجَابَتُهُ، وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ» خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَرُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا. «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ حَتَّى يَرَى بَيَاضَ إِبِطَيْهِ» ، «وَرَفَعَ

يَدَيْهِ يَوْمَ بَدْرٍ يَسْتَنْصِرُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، عَنْ مَنْكِبَيْهِ» . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ رَفْعِ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ فَقَطْ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَفَعَلَهُ لَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ دُعَاءَ الْقُنُوتِ فِي الصَّلَاةِ يُشِيرُ فِيهِ بِأُصْبُعِهِ، مِنْهُمُ الْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هَذَا هُوَ الْإِخْلَاصُ فِي الدُّعَاءِ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا أَثْنَيْتَ عَلَى اللَّهِ، فَأَشِرْ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَجَعْلَ ظُهُورَهُمَا إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ مُسْتَقْبِلُهَا، وَجَعَلَ بُطُونَهُمَا مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمُ الرَّفْعَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، مِنْهُمُ الْجَوْزَجَانِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الرَّفْعُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَضَرُّعٌ.

وَمِنْهَا عَكْسُ ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ أَيْضًا، وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ كَذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّفْعُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اسْتِجَارَةٌ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتِعَاذَةٌ بِهِ، مِنْهُمُ: ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَرُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا اسْتَعَاذَ رَفَعَ يَدَيْهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ» . وَمِنْهَا رَفَعُ يَدَيْهِ، جَعَلَ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَظُهُورَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ فِي سُؤَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّ هَذَا هُوَ الدُّعَاءُ وَالسُّؤَالُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَمِنْهَا عَكْسُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَلْبُ كَفَّيْهِ وَجَعْلُ ظُهُورِهِمَا إِلَى السَّمَاءِ وَبَطْنِهِمَا مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ» . وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَفْظُهُ: " «فَبَسَطَ يَدَيْهِ، وَجَعَلَ ظَاهِرَهُمَا مِمَّا يَلِي السَّمَاءَ» " وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَلَفْظُهُ: اسْتَسْقَى هَكَذَا يَعْنِي: مَدَّ يَدَيْهِ، وَجَعَلَ بُطُونَهُمَا مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ يَدْعُو هَكَذَا وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِيَالَ ثُنْدُوَتِهِ، وَجَعَلَ بُطُونَ كَفَّيْهِ مِمَّا يَلِي

الْأَرْضَ» . وَهَكَذَا وَصَفَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ رَفْعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ بِعَرَفَةَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ هَذَا هُوَ الِاسْتِجَارَةُ. وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: هَذَا هُوَ الِابْتِهَالُ. وَالرَّابِعُ: الْإِلْحَاحُ عَلَى اللَّهِ بِتَكْرِيرِ ذِكْرِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُطْلَبُ بِهِ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ، وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: يَا رَبِّ أَرْبَعًا، قَالَ اللَّهُ: لَبَّيْكَ عَبْدِي، سَلْ تُعْطَهُ» ". وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ خَارِجَةَ: أَنَّ «قَوْمًا شَكَوْا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَقَالَ: اجْثُوا عَلَى الرُّكَبِ، وَقُولُوا: يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَرَفَعَ السَّبَّابَةَ إِلَى السَّمَاءِ، فَسُقُوا حَتَّى أَحَبُّوا أَنْ يُكْشَفَ عَنْهُمْ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَغَيْرِهِ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصَّلَاةُ مَثْنَى مَثْنَى، وَتَشَهُّدٌ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَتَضَرُّعٌ، وَتَخْشُّعٌ وَتَمَسْكُنٌ، وَتُقْنِعُ يَدَيْكَ - يَقُولُ: تَرْفَعُهُمَا إِلَى رَبِّكَ مُسْتَقْبِلًا بِهِمَا وَجْهَكَ - وَتَقُولُ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهِيَ خِدَاجٌ» ". وَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عَنْ أَنَسٍ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، إِلَّا قَالَ لَهُ رَبُّهُ: " لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ".

ثُمَّ رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: اسْمُ اللَّهِ الْأَكْبَرُ رَبِّ رَبِّ. وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: مَا قَالَ عَبْدٌ يَا رَبِّ يَا رَبِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، إِلَّا نَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ، فَقَالَ: أَمَا تَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ؟ ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ - رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ - رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ - رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ - فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} [آل عمران: 191 - 195] (آلِ عِمْرَانَ: 191 - 195) . وَمَنْ تَأَمَّلَ الْأَدْعِيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ وَجَدَهَا غَالِبًا تُفْتَتَحُ بِاسْمِ الرَّبِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] (الْبَقَرَةِ: 201) ، {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] (الْبَقَرَةِ: 286) ، وَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] (آلِ عِمْرَانَ: 8) . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَسُئِلَ مَالِكٌ وَسُفْيَانُ عَمَّنْ يَقُولُ فِي الدُّعَاءِ: يَا سَيِّدِي، فَقَالَا: يَقُولُ: يَا رَبِّ. زَادَ مَالِكٌ: كَمَا قَالَتِ الْأَنْبِيَاءُ فِي دُعَائِهِمْ. وَأَمَّا مَا يَمْنَعُ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ، فَقَدْ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنَّهُ التَّوَسُّعُ فِي الْحَرَامِ أَكْلًا

وَشُرْبًا وَلُبْسًا وَتَغْذِيَةً، وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَأَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِسَعْدٍ: " أَطِبْ مَطْعَمَكَ، تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ» " فَأَكْلُ الْحَلَالِ وَشُرْبُهُ وَلُبْسُهُ وَالتَّغَذِّي بِهِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثَنَا الْأَصْفَرُ، قَالَ: قِيلَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: تُسْتَجَابُ دَعْوَتُكَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: مَا رَفَعْتُ إِلَى فَمِي لُقْمَةً إِلَّا وَأَنَا عَالِمٌ مِنْ أَيْنَ مَجِيئُهَا، وَمِنْ أَيْنَ خَرَجَتْ. وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ دَعَوْتَهُ، فَلْيُطِبْ طُعْمَتَهُ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا أُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ. وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ دُعَاءَ الْعَبْدِ يُحْبَسُ عَنِ السَّمَاوَاتِ بِسُوءِ الْمَطْعَمِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ» " مَعْنَاهُ: كَيْفَ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي اسْتِحَالَةِ الِاسْتِجَابَةِ، وَمَنْعِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْحَرَامِ وَالتَّغَذِّيَ بِهِ مِنْ جُمْلَةِ مَوَانِعِ الْإِجَابَةِ، وَقَدْ يُوجَدُ مَا يَمْنَعُ هَذَا الْمَانِعَ مِنْ مَنْعِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمَاتِ الْفِعْلِيَّةِ مَانِعًا مِنَ الْإِجَابَةِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ تَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ يَمْنَعُ اسْتِجَابَةَ دُعَاءِ الْأَخْيَارِ، وَفِعْلَ الطَّاعَاتِ يَكُونُ مُوجِبًا لِاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ. وَلِهَذَا لَمَّا تَوَسَّلَ الَّذِينَ دَخَلُوا الْغَارَ، وَانْطَبَقَتِ

الصَّخْرَةُ عَلَيْهِمْ بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ الَّتِي أَخْلَصُوا فِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَدَعَوُا اللَّهَ بِهَا، أُجِيبَتْ دَعْوَتُهُمْ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: مَثَلُ الَّذِي يَدْعُو بِغَيْرِ عَمَلٍ، كَمَثَلِ الَّذِي يَرْمِي بِغَيْرِ وَتَرٍ. وَعَنْهُ قَالَ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَبْلُغُ الدُّعَاءَ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] (فَاطِرٍ: 10) . وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: بِالْوَرَعِ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ يَقْبَلُ اللَّهُ الدُّعَاءَ وَالتَّسْبِيحَ. وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَكْفِي مَعَ الْبِرِّ مِنَ الدُّعَاءِ مِثْلُ مَا يَكْفِي الطَّعَامَ مِنَ الْمِلْحِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ: يَكْفِي مِنَ الدُّعَاءِ مَعَ الْوَرَعِ الْيَسِيرُ، وَقِيلَ لِسُفْيَانَ: لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ؟ قَالَ: إِنَّ تَرْكَ الذُّنُوبِ هُوَ الدُّعَاءُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: رَأَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلًا رَافِعًا يَدَيْهِ وَهُوَ يَسْأَلُ اللَّهَ مُجْتَهِدًا، فَقَالَ مُوسَى: أَيْ رَبِّ عَبْدُكَ دَعَاكَ حَتَّى رَحِمْتَهُ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَمَا صَنَعْتَ فِي حَاجَتِهِ؟ فَقَالَ: يَا مُوسَى لَوْ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ مَا نَظَرْتُ فِي حَاجَتِهِ حَتَّى يَنْظُرَ فِي حَقِّي. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مَعْنَاهُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: أَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَلَاءٌ، فَخَرَجُوا مَخْرَجًا، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيِّهِ أَنْ أَخْبِرْهُمْ أَنَّكُمْ تَخْرُجُونَ إِلَى الصَّعِيدِ بِأَبْدَانٍ نَجِسَةٍ،

وَتَرْفَعُونَ إِلَيَّ أَكُفًّا قَدْ سَفَكْتُمْ بِهَا الدِّمَاءَ وَمَلَأْتُمْ بِهَا بُيُوتَكُمْ مِنَ الْحَرَامِ، الْآنَ اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَيْكُمْ، وَلَنْ تَزْدَادُوا مِنِّي إِلَّا بُعْدًا. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا تَسْتَبْطِئِ الْإِجَابَةَ، وَقَدْ سَدَّدْتَ طُرُقَهَا بِالْمَعَاصِي، وَأَخَذَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: نَحْنُ نَدْعُو الْإِلَهَ فِي كُلِّ كَرْبٍ ... ثُمَّ نَنْسَاهُ عِنْدَ كَشْفِ الْكُرُوبِ كَيْفَ نَرْجُو إِجَابَةً لِدُعَاءٍ ... قَدْ سَدَدْنَا طَرِيقَهَا بِالذُّنُوبِ

[الحديث الحادي عشر دع ما يريبك إلى ما لا يريبك]

[الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ]

الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ سِبْطِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَيْحَانَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ السَّعْدِيِّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو الْحَوْرَاءِ السَّعْدِيُّ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: اسْمُهُ رَبِيعَةُ بْنُ شَيْبَانَ، وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي أَنَّ أَبَا الْحَوْرَاءِ اسْمُهُ رَبِيعَةُ بْنُ شَيْبَانَ، وَمَالَ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ الْجَوْزَجَانِيُّ: أَبُو الْحَوْرَاءِ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِيهِ ذِكْرُ قُنُوتِ الْوَتْرِ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ

وَغَيْرِهِ زِيَادَةٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهِيَ " فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ " وَلَفْظُ ابْنِ حِبَّانَ: " فَإِنَّ الْخَيْرَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الشَّرَّ رِيبَةٌ ". وَقَدْ خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ فِيهِ جَهَالَةٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَخَرَّجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَجْوَدَ مِنْهُ مَوْقُوفًا عَلَى أَنَسٍ. وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَإِنَّمَا يُرْوَى هَذَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ عُمَرَ، وَيُرْوَى عَنْ مَالِكٍ مِنْ قَوْلِهِ. انْتَهَى. وَيُرْوَى بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ - وَهُوَ ضَعِيفٌ -، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ «النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ " قَالَ: وَكَيْفَ لِي بِالْعِلْمِ بِذَلِكَ؟ قَالَ: " إِذَا أَرَدْتَ أَمْرًا، فَضَعْ يَدَكَ عَلَى صَدْرِكَ، فَإِنَّ الْقَلْبَ يَضْطَرِبُ لِلْحَرَامِ، وَيَسْكُنُ لِلْحَلَالِ، وَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْوَرِعَ يَدَعُ الصَّغِيرَةَ مَخَافَةَ الْكَبِيرَةِ» ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ مُرْسَلًا. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ نَحْوَهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَادَ فِيهِ: «قِيلَ لَهُ: فَمَنِ الْوَرِعُ؟ قَالَ: " الَّذِي يَقِفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ» "

وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْكَلَامُ مَوْقُوفًا عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: مِنْهُمْ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: مَا تُرِيدُ إِلَى مَا يَرِيبُكَ وَحَوْلَكَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ لَا تَرِيبُكَ؟ ! وَقَالَ عُمَرُ: دَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ، يَعْنِي: مَا ارْتَبْتُمْ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقُوا أَنَّهُ رِبًا. وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ يَرْجِعُ إِلَى الْوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَاتِّقَائِهَا، فَإِنَّ الْحَلَالَ الْمَحْضَ لَا يَحْصُلُ لِمُؤْمِنٍ فِي قَلْبِهِ مِنْهُ رَيْبٌ - وَالرَّيْبُ: بِمَعْنَى الْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ - بَلْ تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَيَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ، وَأَمَّا الْمُشْتَبِهَاتُ فَيَحْصُلُ بِهَا لِلْقُلُوبِ الْقَلَقُ وَالِاضْطِرَابُ الْمُوجِبُ لِلشَّكِّ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ: إِذَا كَانَ الْعَبْدُ وَرِعًا، تَرَكَ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ: يَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّ الْوَرَعَ شَدِيدٌ، وَمَا وَرَدَ عَلَيَّ أَمْرَانِ إِلَّا أَخَذْتُ بِأَشَدِّهِمَا، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ. وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ: مَا شَيْءٌ أَهْوَنُ مِنَ الْوَرَعِ، إِذَا رَابَكَ شَيْءٌ، فَدَعْهُ. وَهَذَا إِنَّمَا يَسْهُلُ عَلَى مِثْلِ حَسَّانَ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: كَتَبَ غُلَامٌ لِحَسَّانَ بْنِ أَبِي سِنَانٍ إِلَيْهِ مِنَ الْأَهْوَازِ: إِنَّ قَصَبَ السُّكَّرِ أَصَابَتْهُ آفَةٌ، فَاشْتَرِ السُّكَّرَ فِيمَا قِبَلَكَ، فَاشْتَرَاهُ مِنْ رَجُلٍ، فَلَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ إِلَّا قَلِيلٌ فَإِذَا فِيمَا اشْتَرَاهُ رِبْحُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، قَالَ: فَأَتَى صَاحِبَ السُّكَّرِ، فَقَالَ: يَا هَذَا إِنَّ غُلَامِي كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ، فَلَمْ أُعْلِمْكَ، فَأَقَلَّنِي فِيمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ، فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: قَدْ أَعْلَمْتَنِي الْآنَ، وَقَدْ طَيَّبْتُهُ لَكَ، قَالَ: فَرَجَعَ فَلَمْ يَحْتَمِلْ قَلْبُهُ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: يَا هَذَا إِنِّي لَمْ آتِ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَأُحِبُّ أَنَّ تَسْتَرِدَّ هَذَا الْبَيْعَ، قَالَ: فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى رَدَّهُ عَلَيْهِ.

وَكَانَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ إِذَا طَلَبَ الْمَتَاعَ وَنَفَقَ، وَأَرْسَلَ يَشْتَرِيهِ يَقُولُ لِمَنْ يَشْتَرِي لَهُ: أَعْلِمْ مَنْ تَشْتَرِي مِنْهُ أَنَّ الْمَتَاعَ قَدْ طُلِبَ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: تَرَكَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا فِيمَا لَا تَرَوْنَ بِهِ الْيَوْمَ بَأْسًا. وَكَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ دِينَارٍ قَدْ بَعَثَ طَعَامًا إِلَى الْبَصْرَةِ مَعَ رَجُلٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَهُ يَوْمَ يَدْخُلُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ، فَأَتَاهُ كِتَابُهُ: إِنِّي قَدِمْتُ الْبَصْرَةَ، فَوَجَدْتُ الطَّعَامَ مُبَغَّضًا فَحَبَسْتُهُ، فَزَادَ الطَّعَامُ، فَازْدَدْتُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ: إِنَّكَ قَدْ خُنْتَنَا، وَعَمِلْتَ بِخِلَافِ مَا أَمَرْنَاكَ بِهِ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي، فَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ ثَمَنِ الطَّعَامِ عَلَى فُقَرَاءِ الْبَصْرَةِ، فَلَيْتَنِي أَسْلَمُ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ. وَتَنَزَّهَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ خَمْسِائَةِ أَلْفٍ مِنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ، فَلَمْ يَأْخُذْهُ، وَكَانَ أَبُوهُ يَلِي الْأَعْمَالَ لِلسَّلَاطِينِ، وَكَانَ يَزِيدُ يَعْمَلُ الْخُوصَ، وَيَتَقَوَّتُ مِنْهُ إِلَى أَنْ مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ قَدِ احْتَكَرَ طَعَامًا كَثِيرًا، فَرَأَى سَحَابًا فِي الْخَرِيفِ فَكَرِهَهُ، فَقَالَ: أَلَا أُرَانِي قَدْ كَرِهْتُ مَا يَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ؟ فَآلَى أَنْ لَا يَرْبَحَ فِيهِ شَيْئًا، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. وَفِي هَذَا أَنَّ الْمُحْتَكِرَ يَنْبَغِي لَهُ التَّنَزُّهُ عَنْ رِبْحِ مَا احْتَكَرَهُ احْتِكَارًا مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى التَّنَزُّهِ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ لِدُخُولِهِ فِي رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ

عَنْهُ فِيمَنْ أَجَّرَ مَا اسْتَأْجَرَهُ بِرِبْحٍ: إِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي رِبْحِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إِذَا خَالَفَ فِيهِ الْمَضَارِبُ: إِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِيمَا إِذَا اشْتَرَى ثَمَرَةً قَبْلَ صَلَاحِهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا: إِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِالزِّيَادَةِ، وَحَمَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ بِالشُّبُهَاتِ مُسْتَحَبٌّ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ أَكْلِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ، فَقَالَتْ: إِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ قَلَائِلُ فَمَا رَابَكَ، فَدَعْهُ يَعْنِي مَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ: هَلْ هُوَ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ، فَاتْرُكْهُ، فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي إِبَاحَةِ أَكْلِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَصِدْ هُوَ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ أَفْضَلُ، لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الشُّبْهَةِ، وَلَكِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّ مِنْ مَسَائِلِ الِاخْتِلَافِ مَا ثَبَتَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُخْصَةٌ لَيْسَ لَهَا مُعَارِضٌ، فَاتِّبَاعُ تِلْكَ الرُّخْصَةِ أَوْلَى مِنِ اجْتِنَابِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الرُّخْصَةُ بَلَغَتْ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ، فَامْتَنَعَ مِنْهَا لِذَلِكَ، وَهَذَا كَمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ، وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، فَإِنَّهُ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ شَكُّهُ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَطْعُهَا لِصِحَّةِ النَّهْيِ

عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يُوجِبُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ لِلرُّخْصَةِ مُعَارِضٌ، إِمَّا مِنْ سُنَّةٍ أُخْرَى، أَوْ مِنْ عَمَلِ الْأُمَّةِ بِخِلَافِهَا، فَالْأَوْلَى تَرْكُ الْعَمَلِ بِهَا، وَكَذَا لَوْ كَانَ قَدْ عَمِلَ بِهَا شُذُوذٌ مِنَ النَّاسِ، وَاشْتَهَرَ فِي الْأُمَّةِ الْعَمَلُ بِخِلَافِهَا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ الْأَخْذَ بِمَا عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ أَجَارَهَا اللَّهُ أَنْ يَظْهَرَ أَهْلُ بَاطِلِهَا عَلَى أَهْلِ حَقِّهَا، فَمَا ظَهَرَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ، فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَهَاهُنَا أَمْرٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ وَهُوَ أَنَّ التَّدْقِيقَ فِي التَّوَقُّفِ عَنِ الشُّبُهَاتِ إِنَّمَا يَصْلُحُ لِمَنِ اسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُ كُلُّهَا، وَتَشَابَهَتْ أَعْمَالُهُ فِي التَّقْوَى وَالْوَرَعِ، فَأَمَّا مَنْ يَقَعُ فِي انْتِهَاكِ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَرَّعَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ دَقَائِقِ الشُّبَهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ يُنْكَرُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: يَسْأَلُونَنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ قَتَلُوا الْحُسَيْنَ، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا» . وَسَأَلَ رَجُلٌ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَأُمُّهُ تَأْمُرُهُ بِطَلَاقِهَا، فَقَالَ: إِنْ كَانَ بَرَّ أُمَّهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ بِرِّهَا إِلَّا طَلَاقُ زَوْجَتِهِ فَلْيَفْعَلْ، وَإِنْ كَانَ يَبِرُّهَا بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ، ثُمَّ يَقُومُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أُمِّهِ، فَيَضْرِبُهَا، فَلَا يَفْعَلُ. وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ يَشْتَرِي بَقْلًا، وَيَشْتَرِطُ الْخُوصَةَ: يَعْنِي الَّتِي تُرْبَطُ بِهَا جِرْزَةُ الْبَقْلِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: أَيْشٍ هَذِهِ الْمَسَائِلُ؟ ! قِيلَ لَهُ:

إِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، فَقَالَ أَحْمَدُ: إِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، فَنَعَمْ هَذَا يُشْبِهُ ذَاكَ. وَإِنَّمَا أَنْكَرَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِمَّنْ لَا يُشْبِهُ حَالُهُ، وَأَمَّا أَهْلُ التَّدْقِيقِ فِي الْوَرَعِ فَيُشْبِهُ حَالُهُمْ هَذَا، وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ نَفْسُهُ يَسْتَعْمِلُ فِي نَفْسِهِ هَذَا الْوَرَعَ، فَإِنَّهُ أَمَرَ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ سَمْنًا، فَجَاءَ بِهِ عَلَى وَرَقَةٍ فَأَمَرَ بِرَدِّ الْوَرَقَةِ إِلَى الْبَائِعِ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَا يَسْتَمِدُّ مِنْ مَحَابِرِ أَصْحَابِهِ، وَإِنَّمَا يُخْرِجُ مَعَهُ مَحْبَرَتَهُ يَسْتَمِدُّ مِنْهَا، وَاسْتَأْذَنَهُ رَجُلٌ أَنْ يَكْتُبَ مِنْ مَحْبَرَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ فَهَذَا وَرَعٌ مُظْلِمٌ، وَاسْتَأْذَنَهُ آخَرُ فِي ذَلِكَ فَتَبَسَّمَ، فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْ وَرَعِي وَلَا وَرَعُكَ هَذَا، وَهَذَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ وَإِلَّا فَهُوَ كَانَ فِي نَفْسِهِ يَسْتَعْمِلُ هَذَا الْوَرَعَ، وَكَانَ يُنْكِرُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ، بَلْ يَتَسَامَحُ فِي الْمَكْرُوهَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَيُقْدِمُ عَلَى الشُّبُهَاتِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «فَإِنَّ الْخَيْرَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الشَّرَّ رِيبَةٌ» " يَعْنِي: أَنَّ الْخَيْرَ تَطْمَئِنُّ بِهِ الْقُلُوبُ، وَالشَّرَّ تَرْتَابُ بِهِ، وَلَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْقُلُوبِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَخَرَّجَ ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ:

{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15] (الْمُلْكِ: 15) ثُمَّ قَالَ لِجَارِيَتِهِ: إِنْ دَرَيْتِ مَا مَنَاكِبُهَا فَأَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ، قَالَتْ: مَنَاكِبُهَا: جِبَالُهَا، فَكَأَنَّمَا سُفِعَ فِي وَجْهِهِ، وَرَغِبَ فِي جَارِيَتِهِ، فَسَأَلَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَمَرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَهَاهُ، فَسَأَلَ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَقَالَ: الْخَيْرُ طُمَأْنِينَةٌ وَالشَّرُّ رِيبَةٌ، فَذَرْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ. وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: " «إِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ» " يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِ كُلِّ قَائِلٍ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ: " «وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» " وَإِنَّمَا يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الصِّدْقَ، وَعَلَامَةُ الصِّدْقِ أَنَّهُ تَطْمَئِنُّ بِهِ الْقُلُوبُ، وَعَلَّامَةُ الْكَذِبِ أَنَّهُ تَحْصُلَ بِهِ الرِّيبَةُ، فَلَا تَسْكُنُ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ، بَلْ تَنْفِرُ مِنْهُ. وَمِنْ هُنَا كَانَ الْعُقَلَاءُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعُوا كَلَامَهُ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، عَرَفُوا أَنَّهُ صَادِقٌ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ، وَإِذَا سَمِعُوا كَلَامَ مُسَيْلِمَةَ، عَرَفُوا أَنَّهُ كَاذِبٌ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْبَاطِلِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ سَمِعَهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ يَدَّعِي أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: يَا وَبْرُ يَا وَبْرُ، لَكَ أُذُنَانِ وَصَدْرٌ، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ يَا عَمْرُو، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ تَكْذِبُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ: صَوِّرْ مَا شِئْتَ فِي قَلْبِكَ، وَتَفَكَّرْ فِيهِ، ثُمَّ قِسْهُ إِلَى ضِدِّهِ، فَإِنَّكَ إِذَا مَيَّزْتَ بَيْنَهُمَا، عَرَفْتَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالصِّدْقَ مِنَ الْكَذِبِ، قَالَ: كَأَنَّكَ تُصَوِّرُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَتَفَكَّرُ فِيمَا أَتَى بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ فَتَقْرَأُ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} [البقرة: 164] الْآيَةَ (الْبَقَرَةِ: 164) ، ثُمَّ تَتَصَوَّرُ ضِدَّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَجِدُهُ مُسَيْلِمَةَ، فَتَتَفَكَّرُ فِيمَا جَاءَ بِهِ فَتَقْرَأُ:

أَلَا يَا رَبَّةَ الْمَخْدَعْ 26 قَدْ هُيِّئَ لَكِ الْمَضْجَعْ يَعْنِي قَوْلَهُ لِسِجَاحَ حِينَ تَزَوَّجَ بِهَا، قَالَ: فَتَرَى هَذَا - يَعْنِي الْقُرْآنَ - رَصِينًا عَجِيبًا، يَلُوطُ بِالْقَلْبِ، وَيَحْسُنُ فِي السَّمْعِ، وَتَرَى ذَا - يَعْنِي قَوْلَ مُسَيْلِمَةَ - بَارِدًا غَثًّا فَاحِشًا، فَتَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا حَقٌّ أُتِيَ بِوَحْيٍ، وَأَنَّ مُسَيْلِمَةَ كَذَّابٌ أُتِيَ بِبَاطِلٍ.

[الحديث الثاني عشر من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه]

[الْحَدِيثُ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ]

الْحَدِيثُ الثَّانِيَ عَشَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ، وَقَدْ حَسَّنَهُ الشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ رِجَالَ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، وَقُرَّةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَيْوَيْلَ وَثَّقَهُ قَوْمٌ وَضَعَّفَهُ آخَرُونَ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْفُوظٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِتَحْسِينِ الشَّيْخِ لَهُ، وَأَمَّا أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ، فَقَالُوا: لَيْسَ هُوَ بِمَحْفُوظٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَإِنَّمَا هُوَ مَحْفُوظٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، كَذَلِكَ رَوَاهُ الثِّقَاتُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، مِنْهُمْ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَيُونُسُ، وَمَعْمَرٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: " «مِنْ إِيمَانِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» " وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ مُرْسَلًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ،

وَالْبُخَارِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَدْ خَلَّطَ الضُّعَفَاءُ فِي إِسْنَادِهِ عَلَى الزُّهْرِيِّ تَخْلِيطًا فَاحِشًا، وَالصَّحِيحُ فِيهِ الْمُرْسَلُ، وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَصَلَهُ وَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْعُمَرِيُّ لَيْسَ بِالْحَافِظِ، وَخَرَّجَهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " تَارِيخِهِ " مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا، وَقَالَ: لَا يَصِحُّ إِلَّا عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ مُرْسَلًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْأَدَبِ، وَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ أَبُو عَمْرٍو بْنُ الصَّلَاحِ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ إِمَامِ الْمَالِكِيَّةِ فِي زَمَانِهِ أَنَّهُ قَالَ: جِمَاعُ آدَابِ الْخَيْرِ وَأَزِمَّتُهُ تَتَفَرَّعُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ: قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي اخْتَصَرَ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ: «لَا تَغْضَبْ» وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِهِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَى مَا يَعْنِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ؛ وَمَعْنَى يَعْنِيهِ: أَنَّهُ تَتَعَلَّقُ عِنَايَتُهُ بِهِ، وَيَكُونُ مِنْ مَقْصِدِهِ وَمَطْلُوبِهِ، وَالْعِنَايَةُ: شِدَّةُ الِاهْتِمَامِ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ عَنَاهُ يَعْنِيهِ: إِذَا اهْتَمَّ بِهِ وَطَلَبَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَتْرُكُ مَا لَا عِنَايَةَ لَهُ بِهِ وَلَا إِرَادَةَ بِحُكْمِ الْهَوَى وَطَلَبِ النَّفْسِ، بَلْ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَالْإِسْلَامِ وَلِهَذَا جَعَلَهُ مِنْ حُسْنِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا حَسُنَ إِسْلَامُ الْمَرْءِ، تَرَكَ مَا لَا يَعْنِيهِ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَقْوَالِ

وَالْأَفْعَالِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَإِنَّ الْإِسْلَامَ الْكَامِلَ الْمَمْدُوحَ يَدْخُلُ فِيهِ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» وَإِذَا حَسُنَ الْإِسْلَامُ، اقْتَضَى تَرْكَ مَا لَا يَعْنِي كُلَّهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُشْتَبِهَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَعْنِي الْمُسْلِمَ إِذَا كَمُلَ إِسْلَامُهُ، وَبَلَغَ إِلَى دَرَجَةِ الْإِحْسَانِ، وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ تَعَالَى كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَرَاهُ، فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ بِقَلْبِهِ، أَوْ عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِ اللَّهِ مِنْهُ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ، فَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَ كُلَّ مَا لَا يَعْنِيهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَشْتَغِلَ بِمَا يَعْنِيهِ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللَّهِ وَتَرْكُ كُلِّ مَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ كَمَا وَصَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنَ اللَّهِ كَمَا يَسْتَحْيِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ صَالِحِي عَشِيرَتِهِ لَا يُفَارِقُهُ. وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَالتِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا وَعَى، وَلِتَذْكُرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» ".

قَالَ بَعْضُهُمْ: اسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ، وَخَفِ اللَّهَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِذَا تَكَلَّمْتَ، فَاذْكُرْ سَمْعَ اللَّهِ لَكَ، وَإِذَا سَكَتَّ، فَاذْكُرْ نَظَرَهُ إِلَيْكَ. وَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ - إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ - مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 16 - 18] [ق: 16، 17، 17] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61] [يُونُسَ: 61] ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] (الزُّخْرُفِ: 80) . وَأَكْثَرُ مَا يُرَادُ بِتَرْكِ مَا لَا يَعْنِي حِفْظُ اللِّسَانِ مِنْ لَغْوِ الْكَلَامِ كَمَا أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ فِي سُورَةِ (ق) .

وَفِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ قِلَّةَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ» . وَخَرَّجَ الْخَرَائِطِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مُطَاعٌ فِي قَوْمِي فَمَا آمُرُهُمْ؟ قَالَ لَهُ: مُرْهَمْ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَقِلَّةِ الْكَلَامِ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِمْ» . وَفِي " صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ " عَنْ أَبِي ذَرٍّ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ تَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يَتَفَكَّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللَّهِ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَكُونَ ظَاعِنًا إِلَّا لِثَلَاثٍ: تَزَوُّدٌ لِمَعَادٍ، أَوْ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ، أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ؛ وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ، مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ، وَمَنْ حَسَبَ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ، قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ» . قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ عَدَّ كَلَامَهُ مَنْ عَمَلِهِ، قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يَعُدُّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ، فَيُجَازِفُ فِيهِ، وَلَا يَتَحَرَّى، وَقَدْ خَفِيَ هَذَا عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حَتَّى «سَأَلَ عَنْهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنُؤَاخَذُ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟» .

وَقَدْ نَفَى اللَّهُ الْخَيْرَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا يَتَنَاجَى بِهِ النَّاسُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] (النِّسَاءِ: 114) . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ إِلَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَقَدْ تَعَجَّبَ قَوْمٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، فَقَالَ سُفْيَانُ: وَمَا تَعَجُّبُكُمْ مِنْ هَذَا، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] ؟ (النِّسَاءِ: 114) أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38] (النَّبَأِ: 38) . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَجُلٌ: أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَلَا تَدْرِي، فَلَعَلَّهُ تَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِيهِ أَوْ بَخِلَ بِمَا لَا يُغْنِيهِ» وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ

مُتَعَدِّدَةٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي بَعْضِهَا: أَنَّهُ قُتِلَ شَهِيدًا. وَخَرَّجَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ فِي " مُعْجَمِهِ " مِنْ حَدِيثِ شِهَابِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تُسَلِّمَ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: إِنَّكِ مِنْ قَبِيلٍ يُقَلِّلْنَ الْكَثِيرَ، وَتَمْنَعُ مَا لَا يُغْنِيهَا، وَتَسْأَلُ عَمًّا لَا يَعْنِيهَا» . وَخَرَّجَهُ الْعُقَيْلِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «أَكْثَرُ النَّاسِ ذُنُوبًا أَكْثَرُهُمْ كَلَامًا فِيمَا لَا يَعْنِيهِ» ". قَالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمَلَائِيُّ: مَرَّ رَجُلٌ بِلُقْمَانَ وَالنَّاسُ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ عَبْدَ بَنِي فُلَانٍ؟ قَالَ بَلَى، قَالَ: الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى عِنْدَ جَبَلِ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: بَلَى، فَقَالَ: فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى؟ قَالَ صِدْقُ الْحَدِيثِ وَطُولُ السُّكُوتِ عَمَّا لَا يَعْنِينِي. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلَانِ بَلَغَتْ بِهِمَا عِبَادَتُهُمَا أَنْ مَشَيَا عَلَى الْمَاءِ، فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ فِي الْبَحْرِ إِذْ هُمَا بِرَجُلٍ يَمْشِي عَلَى الْهَوَاءِ،

فَقَالَا لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بِأَيِّ شَيْءٍ أَدْرَكْتَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ؟ قَالَ: بِيَسِيرٍ مِنَ الدُّنْيَا: فَطَمْتُ نَفْسِي عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَكَفَفْتُ لِسَانِي عَمَّا لَا يَعْنِينِي، وَرَغِبْتُ فِيمَا دَعَانِي إِلَيْهِ، وَلَزِمْتُ الصَّمْتَ، فَإِنْ أَقْسَمْتُ عَلَى اللَّهِ، أَبَرَّ قَسَمِي، وَإِنْ سَأَلْتُهُ أَعْطَانِي. دَخَلُوا عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي مَرَضِهِ وَوَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ، فَسَأَلُوهُ، عَنْ سَبَبِ تَهَلُّلِ وَجْهِهِ، فَقَالَ مَا مِنْ عَمَلٍ أَوْثَقُ عِنْدِي مِنْ خَصْلَتَيْنِ: كُنْتُ لَا أَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِينِي، وَكَانَ قَلْبِي سَلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ: أَمْرٌ أَنَا فِي طَلَبِهِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً لَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ وَلَسْتُ بِتَارِكِ طَلَبِهِ أَبَدًا، قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْكَفُّ عَمَّا لَا يَعْنِينِي. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. وَرَوَى أَسَدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، فَقَامَ إِلَيْهِ نَاسٌ، فَأَخْبَرُوهُ، وَقَالُوا: أَخْبِرْنَا بِأَوْثَقِ عَمَلِكَ فِي نَفْسِكَ، قَالَ: إِنَّ عَمَلِي لَضَعِيفٌ، وَأَوْثَقُ مَا أَرْجُو بِهِ سَلَامَةُ الصَّدْرِ، وَتَرْكِي مَا لَا يَعْنِينِي» . وَرَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مِنْ عَلَامَةِ إِعْرَاضِ اللَّهِ تَعَالَى، عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ شُغْلَهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: مَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا

لَا يَعْنِيهِ، حُرِمَ الصِّدْقَ، وَقَالَ مَعْرُوفٌ: كَلَامُ الْعَبْدِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ خِذْلَانٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ مَا لَا يَعْنِي الْمَرْءَ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِهِ، فَإِذَا تَرَكَ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَفَعَلَ مَا يَعْنِيهِ كُلَّهُ، فَقَدْ كَمُلَ حُسْنُ إِسْلَامِهِ، وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ بِفَضْلِ مَنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ وَأَنَّهُ تُضَاعَفُ حَسَنَاتُهُ، وَتُكَفَّرُ سَيِّئَاتُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَثْرَةَ الْمُضَاعَفَةِ تَكُونُ بِحَسَبِ حُسْنِ الْإِسْلَامِ، فَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» فَالْمُضَاعَفَةُ لِلْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَابُدَّ مِنْهُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ بِحَسَبِ إِحْسَانِ الْإِسْلَامِ، وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ وَفَضْلِهِ، كَالنَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ، وَفِي الْحَجِّ، وَفِي الْأَقَارِبِ، وَفِي الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَأَوْقَاتِ الْحَاجَةِ إِلَى النَّفَقَةِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَزَلَتْ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] [الْأَنْعَامِ: 160] فِي الْأَعْرَابِ، قِيلَ لَهُ: فَمَا لِلْمُهَاجِرِينَ؟ قَالَ: مَا هُوَ أَكْثَرُ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] [النِّسَاءِ: 40] . وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَسْلَمَ

الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، وَمُحِيَتْ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ،» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " وَقِيلَ لَهُ: ائْتَنِفِ الْعَمَلَ ". وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ الَّتِي كَانَ أَزْلَفَهَا: مَا سَبَقَ مِنْهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُثَابُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الْكُفْرِ إِذَا أَسْلَمَ وَتُمْحَى عَنْهُ سَيِّئَاتُهُ إِذَا أَسْلَمَ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُحْسِنَ إِسْلَامَهُ، وَيَتَّقِيَ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ فِي حَالِ إِسْلَامِهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: أَمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهَا، وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " «عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَسْلَمَ: أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: " تَشْتَرِطُ مَاذَا " قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: " أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟» " وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ: " أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الذُّنُوبِ " وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْإِسْلَامِ الْكَامِلِ الْحَسَنِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي قَبْلَهُ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَيْضًا «عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ، أَفِيهَا أَجْرٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ:

قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَدَعُ شَيْئًا صَنَعْتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا صَنَعْتُ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَسَنَاتِ الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ يُثَابُ عَلَيْهَا» كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَيِّئَاتِهِ فِي الشِّرْكِ تُبَدَّلُ حَسَنَاتٍ، وَيُثَابُ عَلَيْهَا أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا - يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا - إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 68 - 70] [الْفَرْقَانِ 68 - 69 - 70] ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا التَّبْدِيلِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ فِي الدُّنْيَا بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُبَدِّلُ مَنْ أَسْلَمَ وَتَابَ إِلَيْهِ، بَدَلَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي: الْإِيمَانُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَسَمَّى مِنْهُمُ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءً، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيَّ، وَعِكْرِمَةَ قُلْتُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْحَسَنِ. قَالَ: وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو مَالِكٍ وَغَيْرُهُمَا: هِيَ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ خَاصَّةً لَيْسَ هِيَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ. قُلْتُ: إِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّبْدِيلُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَمَّا إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ فِي الدُّنْيَا، فَالْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ وَالْمُسْلِمُ إِذَا تَابَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، بَلِ الْمُسْلِمُ إِذَا تَابَ، فَهُوَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ. قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: التَّبْدِيلُ فِي الْآخِرَةِ: جُعِلَتْ لَهُمْ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَمَكْحُولٌ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: وَأَنْكَرَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٌ، وَخَالِدٌ سَبَلَانُ، وَفِيهِ مَوْضِعُ إِنْكَارٍ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا حَاصِلُهُ

أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْ كَثُرَتْ سَيِّئَاتُهُ أَحْسَنُ حَالًا مِمَّنْ قَلَّتْ سَيِّئَاتُهُ حَيْثُ يُعْطِي مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ أَنْ يُبَدِّلَ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ وَلَمْ يَذْكُرِ الْعَدَدَ كَيْفَ تُبَدَّلُ، فَيَجُوزُ أَنَّ مَعْنَى تُبَدَّلَ: أَنَّ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً وَاحِدَةً وَتَابَ مِنْهَا يُبَدِّلُهُ اللَّهُ مِائَةَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَنْ عَمِلَ أَلْفَ سَيِّئَةٍ أَنَّ تُبَدَّلَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مَنْ قَلَّتْ سَيِّئَاتُهُ أَحْسَنُ حَالًا. قُلْتُ: هَذَا الْقَوْلُ - وَهُوَ التَّبْدِيلُ فِي الْآخِرَةِ - قَدْ أَنْكَرَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30] (آلِ عِمْرَانَ: 30) وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] (الزَّلْزَلَةِ: 8) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] (الْكَهْفِ: 49) وَلَكِنْ قَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ التَّائِبَ يُوقَفُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ تُبَدَّلُ حَسَنَاتٍ، قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُؤْتَى كِتَابَهُ فِي سَتْرٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقْرَأُ سَيِّئَاتِهِ، فَإِذَا قَرَأَ تَغَيَّرَ لَهَا لَوْنُهُ حَتَّى يَمُرَّ بِحَسَنَاتِهِ، فَيَقْرَؤُهَا فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ لَوْنُهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِذَا سَيِّئَاتُهُ قَدْ بُدِّلَتْ حَسَنَاتٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] (الْحَاقَّةِ: 19)

وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلَتْ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَاهُنَا قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» . فَإِذَا بُدِّلَتِ السَّيِّئَاتُ بِالْحَسَنَاتِ فِي حَقِّ مَنْ عُوقِبَ عَلَى ذُنُوبِهِ بِالنَّارِ، فَفِي حَقِّ مَنْ مُحِيَتْ سَيِّئَاتُهُ بِالْإِسْلَامِ وَالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ أَوْلَى، لِأَنَّ مَحْوَهَا بِذَلِكَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ مَحْوِهَا بِالْعِقَابِ. وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِي الْعَنْبَسِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ أَنَّهُمْ أَكْثَرُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِينَ بَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ» ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي الْعَنْبَسِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَشْبَهُ مِنَ الْمَرْفُوعِ، وَيُرْوَى مِثْلُ هَذَا، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَيْضًا وَيُخَالِفُ قَوْلَهُ الْمَشْهُورَ: إِنَّ التَّبْدِيلَ فِي الدُّنْيَا

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْحَرْبِيُّ فِي التَّبْدِيلِ، وَأَنَّ مَنْ قَلَّتْ سَيِّئَاتُهُ يُزَادُ فِي حَسَنَاتِهِ، وَمَنْ كَثُرَتْ سَيِّئَاتُهُ يُقَلَّلُ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ صَرِيحٌ فِي رَدِّ هَذَا، وَأَنَّهُ يُعْطَى مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْ كَثُرَتْ سَيِّئَاتُهُ أَحْسَنُ حَالًا مِمَّنْ قَلَّتْ سَيِّئَاتُهُ، فَيُقَالُ: إِنَّمَا التَّبْدِيلُ فِي حَقِّ مَنْ نَدِمَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، وَجَعَلَهَا نُصْبَ عَيْنَيْهِ، فَكُلَّمَا ذَكَرَهَا ازْدَادَ خَوْفًا، وَوَجَلًا، وَحَيَاءً مِنَ اللَّهِ، وَمُسَارَعَةً إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُكَفِّرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان: 70] (الْفُرْقَانِ: 70) وَمَا ذَكَرْنَاهُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ، فَإِنَّهُ يَتَجَرَّعُ مِنْ مَرَارَةِ النَّدَمِ وَالْأَسَفِ عَلَى ذُنُوبِهِ أَضْعَافَ مَا ذَاقَ مِنْ حَلَاوَتِهَا عِنْدَ فِعْلِهَا، وَيَصِيرُ كُلُّ ذَنْبٍ مِنْ ذُنُوبِهِ سَبَبًا لِأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ مَاحِيَةٍ لَهُ، فَلَا يُسْتَنْكَرُ بَعْدَ هَذَا تَبْدِيلُ هَذِهِ الذُّنُوبِ حَسَنَاتٍ. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، تَبَدَّلَتْ سَيِّئَاتُهُ فِي الشِّرْكِ حَسَنَاتٍ، فَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ

جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، «عَنْ أَبِي فَرْوَةَ شَطْبٍ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا، وَلَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: " أَسْلَمْتَ؟ " فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَافْعَلِ الْخَيْرَاتِ، وَاتْرُكِ السَّيِّئَاتِ، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهَا " قَالَ: وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى» . وَخَرَّجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي نُفَيْلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ مَكْحُولٍ مُرْسَلًا، وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ وَعِنْدَهُ: عَنْ أَبِي طَوِيلٍ شَطْبٍ الْمَمْدُودِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ، وَكَذَا خَرَّجَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ فِي " مُعْجَمِهِ " وَذَكَرَ أَنَّ الصَّوَابَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ مُرْسَلًا أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوِيْ شَطْبٍ، وَالشَّطْبُ فِي اللُّغَةِ: الْمَمْدُودُ، فَصَحَّفَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ، وَظَنَّهُ اسْمَ رَجُلٍ.

[الحديث الثالث عشر لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه]

[الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ]

الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَجَّاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ " حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ أَوْ لِأَخِيهِ " بِالشَّكِّ. وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَلَفْظُهُ: " لَا يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ ". وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبَيِّنُ مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْمُخَرَّجَةِ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْإِيمَانِ نَفْيُ بُلُوغِ حَقِيقَتِهِ وَنِهَايَتِهِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ كَثِيرًا مَا يُنْفَى لِانْتِفَاءِ بَعْضِ أَرْكَانِهِ وَوَاجِبَاتِهِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ،» وَقَوْلِهِ: «لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» .

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ: هَلْ يُسَمَّى مُؤْمِنًا نَاقِصَ الْإِيمَانِ، أَمْ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا؟ وَإِنَّمَا يُقَالُ: هُوَ مُسْلِمٌ، وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. فَأَمَّا مِنِ ارْتَكَبَ الصَّغَائِرَ، فَلَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ، يَنْقُصُ مِنْ إِيمَانِهِ بِحَسَبِ مَا ارْتَكَبَ مِنْ ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبَائِرِ يُقَالُ لَهُ: مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ مَرْوِيٌّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزَّانِي يُنْزَعُ مِنْهُ نُورُ الْإِيمَانِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يُنْزَعُ مِنْهُ الْإِيمَانُ، فَيَكُونُ فَوْقَهُ كَالظُّلَّةِ، فَإِنْ تَابَ عَادَ إِلَيْهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ: الْإِيمَانُ كَالْقَمِيصِ، يَلْبَسُهُ الْإِنْسَانُ تَارَةً، وَيَخْلَعُهُ تَارَةً أُخْرَى، وَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَيْرُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا كَمُلَ خِصَالُ الْإِيمَانِ، لَبِسَهُ، فَإِذَا نَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ نَزَعَهُ، وَكُلُّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْإِيمَانِ الْكَامِلِ التَّامِّ الَّذِي لَا يَنْقُصُ مِنْ وَاجِبَاتِهِ شَيْءٌ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ خِصَالِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبَةِ أَنْ يُحِبَّ الْمَرْءُ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهَ لَهُ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَقَدْ نَقَصَ إِيمَانُهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: أَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ

تَكُنْ مُسْلِمًا» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّهُ «سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الْإِيمَانِ، قَالَ: أَفْضَلُ الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ لِلَّهِ وَتُبْغِضَ لِلَّهِ، وَتُعْمِلَ لِسَانَكَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، قَالَ: وَمَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبَّ لِنَفْسِكَ، وَتَكْرَهَ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ، وَأَنْ تَقُولَ خَيْرًا أَوْ تَصْمُتَ» . وَقَدْ رَتَّبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولَ الْجَنَّةِ عَلَى هَذِهِ الْخَصْلَةِ؛ فَفِي " مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ «عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَسَدٍ الْقَسْرِيِّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتُحِبُّ الْجَنَّةَ "؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: " فَأَحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ» ". وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَلْتُدْرِكْهُ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَأْتِي إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ» . وَفِيهِ أَيْضًا «عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» .

وَإِنَّمَا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، لِمَا رَأَى مِنْ ضَعْفِهِ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ هَذَا لِكُلِّ ضَعِيفٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يَتَوَلَّى أُمُورَ النَّاسِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَوَّاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ بِدُعَاءِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ، وَأَنْ يَتَوَلَّى سِيَاسَةَ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أَرْضَى لَكَ مَا أَرْضَى لِنَفْسِي، وَأَكْرَهُ لَكَ مَا أَكْرَهُ لِنَفْسِي، لَا تَقْرَأِ الْقُرْآنَ وَأَنْتَ جُنُبٌ، وَلَا أَنْتَ رَاكِعٌ، وَلَا أَنْتَ سَاجِدٌ» . وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ يَبِيعُ حِمَارًا لَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَتَرْضَاهُ لِي؟ قَالَ: لَوْ رَضِيتُهُ لَمْ أَبِعْهُ، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرْضَى لِأَخِيهِ إِلَّا مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ جُمْلَةِ النَّصِيحَةِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ الدِّينِ كَمَا سَبَقَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ حَدِيثَ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ» خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسُوءُهُ مَا يَسُوءُ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ، وَيُحْزِنُهُ مَا يُحْزِنُهُ. وَحَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي نَتَكَلَّمُ الْآنَ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسُرُّهُ مَا يَسُرُّ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ، وَيُرِيدُ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُرِيدُهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يَأْتِي مِنْ كَمَالِ سَلَامَةِ الصَّدْرِ مِنَ الْغِلِّ وَالْغِشِّ وَالْحَسَدِ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَقْتَضِي أَنْ يَكْرَهَ الْحَاسِدُ أَنْ يَفُوقَهُ أَحَدٌ فِي خَيْرٍ، أَوْ يُسَاوِيَهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَمْتَازَ عَلَى النَّاسِ بِفَضَائِلِهِ، وَيَنْفَرِدَ بِهَا عَنْهُمْ، وَالْإِيمَانُ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يُشْرِكَهُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ فِيمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مَنْ لَا يُرِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ وَلَا الْفَسَادَ، فَقَالَ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83] (الْقَصَصِ: 83) . وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُعْجِبُهُ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ أَنْ يَكُونَ أَجْوَدَ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِ صَاحِبِهِ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] . وَكَذَا رُوِيَ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: لَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ نَعْلُهُ أَجْوَدَ مِنْ نَعْلِ غَيْرِهِ، وَلَا شِرَاكُهُ أَجْوَدَ مِنْ شِرَاكِ غَيْرِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الْفَخْرَ عَلَى غَيْرِهِ لَا مُجَرَّدَ التَّجَمُّلِ، قَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ:

التَّكَبُّرُ، وَطَلَبُ الشَّرَفِ وَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَ ذِي سُلْطَانِهَا، وَالْفَسَادُ: الْعَمَلُ بِالْمَعَاصِي. وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ مَنْ كَرِهَ أَنْ يَفُوقَهُ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ فِي الْجَمَالِ، فَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْحَاكِمُ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ مَالِكُ بْنُ مَرَارَةَ الرَّهَاوِيُّ، فَأَدْرَكْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ قُسِمَ لِي مِنَ الْجَمَالِ مَا تَرَى، فَمَا أُحِبُّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فَضَلَنِي بِشِرَاكَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا، أَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْبَغْيُ؟ فَقَالَ: " لَا، لَيْسَ ذَلِكَ بِالْبَغْيِ، وَلَكِنَّ الْبَغْيَ مَنْ بَطِرَ - أَوْ قَالَ: - سَفِهَ الْحَقَّ وَغَمَصَ النَّاسَ» ". وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَاهُ، وَفِي حَدِيثِهِ: " الْكِبْرُ " بَدَلُ " الْبَغْيِ ". فَنَفَى أَنْ يَكُونَ كَرَاهَتُهُ لِأَنْ يَفُوقَهُ أَحَدٌ فِي الْجَمَالِ بَغْيًا أَوْ كِبْرًا، وَفَسَّرَ الْكِبْرَ وَالْبَغْيَ بِبَطَرِ الْحَقِّ، وَهُوَ التَّكَبُّرُ عَلَيْهِ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْ قَبُولِهِ كِبْرًا إِذَا خَالَفَ هَوَاهُ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: التَّوَاضُعُ أَنَّ تَقْبَلَ الْحَقَّ مِنْ كُلِّ مَنْ جَاءَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، فَمَنْ قَبِلَ الْحَقَّ مِمَّنْ جَاءَ بِهِ، سَوَاءً كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَسَوَاءً كَانَ يُحِبُّهُ أَوْ لَا يُحِبُّهُ، فَهُوَ مُتَوَاضِعٌ، وَمَنْ أَبَى قَبُولَ الْحَقِّ تَعَاظُمًا عَلَيْهِ، فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ. وَغَمْصُ النَّاسِ: هُوَ احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى النَّفْسِ بِعَيْنِ الْكَمَالِ، وَإِلَى غَيْرِهِ بِعَيْنِ النَّقْصِ.

وَفِي الْجُمْلَةِ، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُحِبَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ رَأَى فِي أَخِيهِ الْمُسْلِمِ نَقْصًا فِي دِينِهِ، اجْتَهَدَ فِي إِصْلَاحِهِ. قَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ مِنَ السَّلَفِ: أَهْلُ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ نَظَرُوا بِنُورِ اللَّهِ، وَعَطَفُوا عَلَى أَهْلِ مَعَاصِي اللَّهِ، مَقَتُوا أَعْمَالَهُمْ، وَعَطَفُوا عَلَيْهِمْ لِيُزِيلُوهُمْ بِالْمَوَاعِظِ عَنْ فِعَالِهِمْ، وَأَشْفَقُوا عَلَى أَبْدَانِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَلَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا حَقًّا حَتَّى يَرْضَى لِلنَّاسِ مَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ رَأَى فِي غَيْرِهِ فَضِيلَةً فَاقَ بِهَا عَلَيْهِ فَتَمَنَّى لِنَفَسِهِ مِثْلَهَا، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْفَضِيلَةُ دِينِيَّةً، كَانَ حَسَنًا، وَقَدْ تَمَنَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ مَنْزِلَةَ الشَّهَادَةِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقْرَؤُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ» . «وَقَالَ فِي الَّذِي رَأَى مَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَقَالَ: " لَوْ أَنَّ لِي مَالًا، لَفَعَلْتُ فِيهِ كَمَا فَعَلَ، فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ» " وَإِنْ كَانَتْ دُنْيَوِيَّةً، فَلَا خَيْرَ فِي تَمَنِّيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ - وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ

وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص: 79 - 80] (الْقَصَصِ: 79 - 80) . وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] (النِّسَاءِ: 32) ، فَقَدْ فُسِّرَ ذَلِكَ بِالْحَسَدِ، وَهُوَ تَمَنِّي الرَّجُلِ نَفْسَ مَا أُعْطِيَ أَخُوهُ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ، وَأَنْ يَنْتَقِلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفُسِّرَ بِتَمَنِّي مَا هُوَ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا أَوْ قَدَرًا، كَتَمَنِّي النِّسَاءِ أَنْ يَكُنَّ رِجَالًا، أَوْ يَكُونُ لَهُنَّ مِثْلُ مَا لِلرِّجَالِ مِنَ الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ كَالْجِهَادِ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ كَالْمِيرَاثِ، وَالْعَقْلِ وَالشَّهَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ تَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْزَنَ لِفَوَاتِ الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ، وَلِهَذَا أَمَرَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الدِّينِ إِلَى مَنْ فَوْقَهُ، وَأَنْ يُنَافِسَ فِي طَلَبِ ذَلِكَ جُهْدَهُ وَطَاقَتَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (الْمُطَفِّفِينَ: 26) وَلَا يَكْرَهُ أَنَّ أَحَدًا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ، بَلْ يُحِبُّ لِلنَّاسِ كُلِّهِمُ الْمُنَافَسَةَ فِيهِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ أَدَاءِ النَّصِيحَةِ لِلْإِخْوَانِ. كَمَا قَالَ الْفُضَيْلُ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ مِثْلَكَ، فَمَا أَدَّيْتَ النَّصِيحَةَ لِرَبِّكَ، كَيْفَ وَأَنْتَ تُحِبُّ أَنْ يَكُونُوا دُونَكَ؟ ! يُشِيرُ إِلَى أَنَّ النَّصِيحَةَ لَهُمْ أَنْ يُحِبَّ أَنْ يَكُونُوا فَوْقَهُ، وَهَذِهِ مَنْزِلَةٌ عَالِيَةٌ، وَدَرَجَةٌ رَفِيعَةٌ فِي النُّصْحِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّمَا الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الشَّرْعِ أَنْ يُحِبَّ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُ، وَمَعَ هَذَا، فَإِذَا فَاقَهُ أَحَدٌ فِي فَضِيلَةٍ دِينِيَّةٍ، اجْتَهَدَ عَلَى لِحَاقِهِ، وَحَزِنَ عَلَى تَقْصِيرِ نَفْسِهِ، وَتَخَلُّفِهِ عَنْ لِحَاقِ السَّابِقِينَ، لَا حَسَدًا لَهُمْ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ، بَلْ مُنَافَسَةً لَهُمْ، وَغِبْطَةً وَحُزْنًا عَلَى النَّفْسِ بِتَقْصِيرِهَا وَتَخَلُّفِهَا عَنْ دَرَجَاتِ السَّابِقِينَ. وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَزَالَ يَرَى نَفْسَهُ مُقَصِّرًا عَنِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، فَيَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ أَمْرَيْنِ نَفِيسَيْنِ: الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْفَضَائِلِ، وَالِازْدِيَادُ مِنْهَا، وَالنَّظَرُ إِلَى نَفْسِهِ بِعَيْنِ النَّقْصِ، وَيَنْشَأُ مِنْ هَذَا أَنْ يُحِبَّ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَرْضَى لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مِثْلِ حَالِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ،

بَلْ يَجْتَهِدُ فِي إِصْلَاحِهَا. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسْعٍ لِابْنِهِ: أَمَّا أَبُوكَ، فَلَا كَثَّرَ اللَّهُ فِي الْمُسْلِمِينَ مِثْلَهُ. فَمَنْ كَانَ لَا يَرْضَى عَنْ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُحِبُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُ مَعَ نُصْحِهِ لَهُمْ؟ بَلْ هُوَ يُحِبُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُ، وَيُحِبُّ لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَلِمَ الْمَرْءُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّهُ عَلَى غَيْرِهِ بِفَضْلٍ، فَأَخْبَرَ بِهِ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ، وَكَانَ إِخْبَارُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّحَدُّثِ بِالنِّعَمِ، وَيَرَى نَفْسَهُ مُقَصِّرًا فِي الشُّكْرِ، كَانَ جَائِزًا، فَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي، وَلَا يَمْنَعُ هَذَا أَنْ يُحِبَّ لِلنَّاسِ أَنْ يُشَارِكُوهُ فِيمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنِّي لَأَمُرُّ عَلَى الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَأَوَدُّ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَعْلَمُونَ مِنْهَا مَا أَعْلَمُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ تَعَلَّمُوا هَذَا الْعِلْمَ، وَلَمْ يُنْسَبْ إِلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ. وَكَانَ عُتْبَةُ الْغُلَامُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ يَقُولُ لِبَعْضِ إِخْوَانِهِ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى أَمْرِهِ وَأَعْمَالِهِ: أَخْرِجْ إِلَيَّ مَاءً أَوْ تَمَرَاتٍ أُفْطِرُ عَلَيْهَا؛ لِيَكُونَ لَكَ أَجْرٌ مِثْلُ أَجْرِي.

[الحديث الرابع عشر لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث]

[الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ]

الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " التَّارِكُ لِلْإِسْلَامِ " بَدَلُ قَوْلِهِ: " لِدِينِهِ " وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ: فَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: " «رَجُلٍ زَنَى بَعْدَ

إِحْصَانِهِ، فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ، أَوْ قَتَلَ عَمْدًا، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، أَوِ ارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ» ". وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ أَنَسٍ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ تَفْسِيرُ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ خِصَالٍ هِيَ حَقُّ الْإِسْلَامِ الَّتِي يُسْتَبَاحُ بِهَا دَمُ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَالْقَتْلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا زِنَا الثَّيِّبِ، فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ حَدَّهُ الرَّجْمُ حَتَّى يَمُوتَ، وَقَدْ «رَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ» ، وَكَانَ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي نُسِخَ لَفْظُهُ: " وَالشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ". وَقَدِ اسْتَنْبَطَ ابْنُ عَبَّاسٍ الرَّجْمَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: 15] (الْمَائِدَةِ: 15) ، قَالَ: فَمَنْ كَفَرَ بِالرَّجْمِ، فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ،

ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: كَانَ الرَّجْمُ مِمَّا أَخْفَوْا. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَيُسْتَنْبَطُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] [الْمَائِدَةِ: 44 - 49] وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ رَجَمَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنِّي أَحْكُمُ بِمَا فِي التَّوْارَةِ " وَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قِصَّةَ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] [الِمَائِدَةِ: 41] وَأَنْزَلَ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] [الْمَائِدَةِ: 44] فِي الْكُفَّارِ كُلُّهَا. وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَعِنْدَهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] إِلَى قَوْلِهِ: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41] [الْمَائِدَةِ: 41] يَقُولُونَ: ائْتُوا مُحَمَّدًا، فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالتَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ، فَخُذُوهُ، وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا، إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] [الْمَائِدَةِ: 44] قَالَ: فِي الْيَهُودِ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قِصَّةُ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنَ، وَفِي حَدِيثِهِ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ:

{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] [الْمَائِدَةِ: 42] . وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ أَوَّلًا بِحَبْسِ النِّسَاءِ الزَّوَانِي إِلَى أَنْ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، فَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عُبَادَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» . وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَوْجَبُوا جَلْدَ الثَّيِّبِ مِائَةً، ثُمَّ رَجْمَهُ كَمَا فَعَلَ عَلِيٌّ بِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ، وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يُشِيرُ إِلَى أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ فِيهِ جَلْدُ الزَّانِيَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ ثَيِّبٍ وَبِكْرٍ، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِرَجْمِ الثَّيِّبِ خَاصَّةً مَعَ اسْتِنْبَاطِهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَيْضًا،

وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ، عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِسْحَاقَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَطَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إِنْ كَانَ الثَّيِّبَانِ شَيْخَيْنِ رُجِمًا وَجُلِدًا، وَإِنْ كَانَا شَابَّيْنِ، رُجِمًا بِغَيْرِ جَلْدٍ، لِأَنَّ ذَنْبَ الشَّيْخِ أَقْبَحُ، لَا سِيَّمَا بِالزِّنَا، وَهَذَا قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا، وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَيْضًا. وَأَمَّا النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ عَمْدًا، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهَا، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] [الْمَائِدَةِ: 45] وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178] [الْبَقَرَةِ: 78] . وَيُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] صُوَرٌ: مِنْهَا أَنْ يَقْتُلَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي أَسَانِيدِهَا، وَقَالَ

مَالِكٌ: إِنْ تَعَمَّدَ قَتْلَهُ تَعَمُّدًا لَا يَشُكُّ فِيهِ، مِثْلَ أَنْ يَذْبَحَهُ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ، وَإِنْ حَذَفَهُ بِسَيْفٍ أَوْ عَصَا، لَمْ يُقْتَلْ: وَقَالَ الْبَتِّيُّ: يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ بِجَمِيعِ وُجُوهِ الْعَمْدِ لِلْعُمُومَاتِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَقْتُلَ الْحُرُّ عَبْدًا، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ فِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ وَقِيلَ: يُقْتَلُ بِعَبْدِ غَيْرِهِ دُونَ عَبْدِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَقِيلَ يُقْتَلُ بِعَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَهُ جَدَعْنَاهُ» " وَقَدْ طَعَنَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فِي الْأَطْرَافِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُطَّرَحٌ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] [الْمَائِدَةِ: 45] الْأَحْرَارُ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَهُ الْقِصَاصَ فِي الْأَطْرَافِ، وَهُوَ يَخْتَصُّ بِالْأَحْرَارِ.

وَمِنْهَا أَنْ يَقْتُلَ الْمُسْلِمُ كَافِرًا، فَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا، لَمْ يُقْتَلْ بِهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّ قَتْلَ الْحَرْبِيِّ مُبَاحٌ بِلَا رَيْبٍ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ مُعَاهَدًا، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ أَيْضًا، وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ: يُقْتَلُ بِهِ، وَقَدْ رَوَى رَبِيعَةُ عَنْ أَبِي الْبَيْلَمَانِيِّ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَقَالَ: " أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ» " وَهَذَا مُرْسَلٌ ضَعِيفٌ قَدْ ضَعَّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَالْجَوْزَجَانِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْبَيْلَمَانِيُّ: ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ إِذَا وَصَلَ الْحَدِيثَ، فَكَيْفَ بِمَا يُرْسِلُهُ؟ وَقَالَ الْجَوْزَجَانِيُّ: إِنَّمَا أَخَذَهُ رَبِيعَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، وَابْنُ أَبِي يَحْيَى مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَفِي " مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُدَ " حَدِيثٌ آخَرُ مُرْسَلٌ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ قَتَلَهُ غِيلَةً، وَقَالَ: " أَنَا أَوْلَى وَأَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ» " وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ الْقَتْلَ غِيلَةً لَا تُشْتَرَطُ لَهُ الْمُكَافَأَةُ، فَيُقْتَلُ فِيهِ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ، وَعَلَى هَذَا حَمَلُوا حَدِيثَ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ أَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ امْرَأَةً، فَيُقْتَلُ بِهَا بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ. وَصَحَّ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ يَهُودِيًّا قَتَلَ

جَارِيَةً» وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُدْفَعُ إِلَى أَوْلِيَاءِ الرَّجُلِ شَيْءٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ. وَأَمَّا التَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ، فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ تَرَكَ الْإِسْلَامَ، وَارْتَدَّ عَنْهُ، وَفَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا جَاءَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَاهُ مَعَ مَنْ يَحِلُّ دَمُهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ لَازِمٌ لَهُ بَعْدَهَا، وَلِهَذَا يُسْتَتَابُ، وَيُطْلَبُ مِنْهُ الْعَوْدُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَفِي إِلْزَامِهِ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ فِي زَمَنِ الرِّدَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ اخْتِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَأَيْضًا فَقَدْ يَتْرُكُ دِينَهُ، وَيُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَيَدَّعِي الْإِسْلَامَ، كَمَا إِذَا جَحَدَ شَيْئًا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، أَوْ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أَوْ كَفَرَ بِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ النَّبِيِّينَ أَوِ الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ مَعَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ إِذَا ارْتَدَّتْ كَمَا لَا تُقْتَلُ نِسَاءُ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا تُقْتَلُ رِجَالُهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَجَعَلُوا الْكُفْرَ الطَّارِئَ كَالْأَصْلِيِّ، وَالْجُمْهُورُ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، وَجَعَلُوا الطَّارِئَ أَغْلَظَ لِمَا سَبَقَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا يُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ عَنْهُ مَنْ لَا يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْأَعْمَى، وَلَا يُقْتَلُونَ فِي الْحَرْبِ.

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «التَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَابَ وَرَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، لَمْ يُقْتَلْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَارِكٍ لِدِينِهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ، وَلَا مَفَارِقٍ لِلْجَمَاعَةِ. فَإِنْ قِيلَ: بَلِ اسْتِثْنَاءُ هَذَا مِمَّنْ يَعْصِمُ دَمَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَلَوْ كَانَ مُقِرًّا بِالشَّهَادَتَيْنِ، كَمَا يُقْتَلُ الزَّانِي الْمُحْصَنُ، وَقَاتِلُ النَّفْسِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، كَمَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ، أَوْ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَنِ ارْتَدَّ مِمَّنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ مَنْ كَانَ كَافِرًا، ثُمَّ أَسْلَمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ: اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَإِسْحَاقُ، قِيلَ: إِنَّمَا اسْتَثْنَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ مُفَارَقَةِ دِينِهِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَلَيْسَ هَذَا كَالثَّيِّبِ الزَّانِي، وَقَاتِلِ النَّفْسِ، لِأَنَّ قَتْلَهُمَا وَجَبَ عُقُوبَةً لِجَرِيمَتِهِمَا الْمَاضِيَةِ، وَلَا يُمْكِنُ تَلَافِي ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ، فَإِنَّمَا قُتِلَ لِوَصْفٍ قَائِمٍ بِهِ فِي الْحَالِ، وَهُوَ تَرْكُ دِينِهِ وَمُفَارَقَةُ الْجَمَاعَةِ، فَإِذَا عَادَ إِلَى دِينِهِ، وَإِلَى مُوَافَقَةِ الْجَمَاعَةِ، فَالْوَصْفُ الَّذِي أُبِيحَ بِهِ دَمُهُ قَدِ انْتَفَى، فَتَزُولُ إِبَاحَةُ دَمِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ خَرَّجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٍ يُرْجَمُ، وَرَجُلٍ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا فَيُقْتَلُ، وَرَجُلٍ يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الرِّدَّةِ وَالْمُحَارَبَةِ. قِيلَ: قَدْ خَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ

إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاثٍ: زِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ، وَرَجُلٍ خَرَجَ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ، أَوْ يَقْتُلُ نَفْسًا فَيُقْتَلُ بِهَا» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْحِرَابُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، خُيِّرَ الْإِمَامُ فِيهِ مُطْلَقًا، كَمَا يَقُولُهُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ، وَالرِّوَايَةُ الْأَوْلَى قَدْ تُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِخُرُوجِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ خُرُوجُهُ عَنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ تُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَيَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ آيَةَ الْمُحَارَبَةِ تَخْتَصُّ بِالْمُرْتَدِّينَ، فَمَنِ ارْتَدَّ وَحَارَبَ، فُعِلَ بِهِ مَا فِي الْآيَةِ، وَمَنْ حَارَبَ مِنْ غَيْرِ رِدَّةٍ، أُقِيمَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْقِصَاصِ وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ لَكِنَّهَا غَيْرُ مَشْهُورَةٍ عَنْهُ، وَكَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ آيَةَ الْمُحَارَبَةِ تُخْتَصُّ بِالْمُرْتَدِّينَ، مِنْهُمْ أَبُو قِلَابَةَ وَغَيْرُهُ. وَبِكُلِّ حَالٍ، فَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَلْفَاظُهُ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهَا مَرْفُوعًا، وَرُوِيَ عَنْهَا مَوْقُوفًا، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَفْظُهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَهُوَ ثَابِتٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلَكِنْ يُقَالُ عَلَى هَذَا: إِنَّهُ قَدْ وَرَدَ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ إِحْدَى هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ: فَمِنْهَا فِي اللِّوَاطِ، وَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» وَأَخَذَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَقَالُوا: إِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ بِكُلِّ حَالٍ، مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِأَرْبَعٍ، فَذَكَرَ الثَّلَاثَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَزَادَ: وَرَجُلٍ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ.

وَمِنْهَا مَنْ أَتَى ذَاتَ مَحْرَمٍ، وَقَدْ رُوِيَ الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ مَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ» ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَوْجَبُوا قَتْلَهُ مُطْلَقًا مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ. وَمِنْهَا السَّاحِرُ، وَفِي " التِّرْمِذِيِّ " مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبٍ مَرْفُوعًا: " «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ» " وَذَكَرَ أَنَّ الصَّحِيحَ وَقْفُهُ عَلَى جُنْدُبٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُرْتَدِّينَ. وَمِنْهَا قَتْلُ مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، وَقَالَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ.

وَمِنْهَا مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعَ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى. وَمِنْهَا قَتْلُ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَغَيْرُهُ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ انْتُسِخَ، وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِالشَّارِبِ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَقْتُلْهُ» وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُؤْتَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ، فَلَعَنَهُ رَجُلٌ، وَقَالَ: مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَلْعَنْهُ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " وَلَمْ يَقْتُلْهُ بِذَلِكَ» . وَقَدْ رُوِيَ قَتْلُ السَّارِقِ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ ذَهَبَ إِلَيْهِ.

وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا» " خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَدْ ضَعَّفَ الْعُقَيْلِيُّ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ كُلَّهَا. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ " وَفِي رِوَايَةٍ: " فَاضْرِبُوا رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ» وَقَدْ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَرْفَجَةَ. وَمِنْهَا: مَنْ شَهَرَ السِّلَاحَ، فَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ شَهَرَ السِّلَاحَ ثُمَّ وَضَعَهُ، فَدَمُهُ هَدَرٌ» " وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: إِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: إِنَّمَا يُرِيدُ مَنْ شَهَرَ سِلَاحَهُ ثُمَّ وَضَعَهُ فِي النَّاسِ حَتَّى اسْتَعْرَضَ النَّاسُ، فَقَدْ حَلَّ قَتْلُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَرُورِيَّةِ يَسْتَعْرِضُونَ الرِّجَالَ

وَالنِّسَاءَ وَالذُّرِّيَّةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مَا يُخَالِفُ تَفْسِيرَ إِسْحَاقَ، فَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ أَنَّ غُلَامًا شَهَرَ السَّيْفَ عَلَى مَوْلَاهُ فِي إِمْرَةِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَتَفَلَّتَ بِهِ عَلَيْهِ، فَأَمْسَكَهُ النَّاسُ عَنْهُ، فَدَخَلَ الْمَوْلَى عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَنْ أَشَارَ بِحَدِيدَةٍ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَقَدْ وَجَبَ دَمُهُ» " فَأَخَذَهُ مَوْلَاهُ فَقَتَلَهُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» . فَإِذَا أُرِيدَ مَالُ الْمَرْءِ أَوْ دَمُهُ، دَافَعَ عَنْهُ بِالْأَسْهَلِ. هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ قَتْلَهُ أَمْ لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ مَالَهُ أَوْ دَمَهُ، أُبِيحَ لَهُ قَتْلُهُ ابْتِدَاءً، وَدَخَلَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ لِصٌّ، فَقَامَ إِلَيْهِ بِالسَّيْفِ صَلْتًا، فَلَوْلَا أَنَّهُمْ حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، لَقَتَلَهُ. وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ لِصٍّ دَخَلَ بَيْتَ رَجُلٍ وَمَعَهُ حَدِيدَةٌ، قَالَ: اقْتُلْهُ بِأَيِّ قَتْلَةٍ قَدَرْتَ عَلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ أَبَاحُوا قَتْلَهُ وَإِنْ وَلَّى هَارِبًا مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ، مِنْهُمْ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الدَّارُ

حَرَمُكَ، فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْكَ حَرَمَكَ، فَاقْتُلْهُ» " وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. وَمِنْهَا قَتْلُ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ إِذَا تَجَسَّسَ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ تَوَقَّفَ فِيهِ أَحْمَدُ، وَأَبَاحَ قَتْلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَابْنُ عَقِيلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ قَالَ: إِنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ أُبِيحَ قَتْلُهُ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَبَاحَ قَتْلَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ «حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ لَمَّا كَتَبَ الْكِتَابَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِسَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ بِأَخْذِ حِذْرِهِمْ فَاسْتَأْذَنَ عُمَرُ فِي قَتْلِهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا» فَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا يُبِيحُ دَمَهُ، وَإِنَّمَا عَلَّلَ بِوُجُودِ مَانِعٍ مِنْ قَتْلِهِ، وَهُوَ شُهُودُهُ بَدْرًا وَمَغْفِرَةُ اللَّهِ لِأَهْلِ بَدْرٍ، وَهَذَا الْمَانِعُ مُنْتَفٍ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُ. وَمِنْهَا مَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " الْمَرَاسِيلِ " مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ ضَرَبَ أَبَاهُ فَاقْتُلُوهُ» " وَرُوِيَ مُسْنَدًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَا يَصِحُّ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ مَا لَا يَصِحُّ وَلَا يُعْرَفُ بِهِ قَائِلٌ مُعْتَبَرٌ، كَحَدِيثِ " «مَنْ ضَرَبَ أَبَاهُ فَاقْتُلُوهُ» "، وَحَدِيثِ: " «قَتْلُ السَّارِقِ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ» " وَبَاقِي النُّصُوصِ كُلُّهَا يُمْكِنُ رَدُّهَا إِلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَذَلِكَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ تَضَمَّنَ أَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ دَمُ الْمُسْلِمِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ

خِصَالٍ: إِمَّا أَنْ يَتْرُكَ دِينَهُ وَيُفَارِقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَزْنِيَ وَهُوَ مُحْصَنٌ، وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ. فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ لَا يُسْتَبَاحُ إِلَّا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: تَرْكُ الدِّينِ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ الْمُحَرَّمِ، وَانْتِهَاكُ الْفَرْجِ الْمُحَرَّمِ، فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةِ هِيَ الَّتِي تُبِيحُ دَمَ الْمُسْلِمِ دُونَ غَيْرِهَا. فَأَمَّا انْتِهَاكُ الْفَرْجِ الْمُحَرَّمِ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ الزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ، وَهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ، فَإِنَّ الْمُحْصَنَ قَدْ تَمَّتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ بِنَيْلِ هَذِهِ الشَّهْوَةِ بِالنِّكَاحِ، فَإِذَا أَتَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ فَرْجٍ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ، أُبِيحَ دَمُهُ، وَقَدْ يَنْتَفِي شَرْطُ الْإِحْصَانِ، فَيَخْلُفُهُ شَرْطٌ آخَرُ، وَهُوَ كَوْنُ الْفَرْجِ لَا يُسْتَبَاحُ بِحَالٍ، إِمَّا مُطْلَقًا كَاللِّوَاطِ، أَوْ فِي حَقِّ الْوَاطِئِ، كَمَنْ وَطِئَ ذَاتَ مَحْرَمٍ بِعَقْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهَذَا الْوَصْفُ هَلْ يَكُونُ قَائِمًا مَقَامَ الْإِحْصَانِ وَخَلَفًا عَنْهُ؟ هَذَا هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ خَلَفًا عَنْهُ، وَيُكْتَفَى بِهِ فِي إِبَاحَةِ الدَّمِ. وَأَمَّا سَفْكُ الدَّمِ الْحَرَامِ، فَهَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ إِثَارَةُ الْفِتَنِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ، كَتَفْرِيقِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَشَقِّ الْعَصَا، وَالْمُبَايَعَةِ لِإِمَامٍ ثَانٍ، وَدَلَّ الْكُفَّارُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ؟ هَذَا هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الْقَتْلِ بِمِثْلِ هَذَا. وَكَذَلِكَ شَهْرُ السِّلَاحِ لِطَلَبِ الْقَتْلِ: هَلْ يَقُومُ مَقَامَ الْقَتْلِ فِي إِبَاحَةِ الدَّمِ أَمْ لَا؟ فَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةُ رَأَيَاهُ قَائِمًا مَقَامَ الْقَتْلِ الْحَقِيقِيِّ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَطْعُ الطَّرِيقِ بِمُجَرَّدِهِ: هَلْ يُبِيحُ الْقَتْلَ أَمْ لَا؟ لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ لِسَفْكِ الدِّمَاءِ الْمُحَرَّمَةِ، وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] [الْمَائِدَةِ: 32] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُبَاحُ قَتْلُ

النَّفْسِ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِالنَّفْسِ، وَالثَّانِي: بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَيَدْخُلُ فِي الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ: الْحِرَابُ وَالرِّدَّةُ، وَالزِّنَا، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ تَكَرُّرُ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ هُوَ مَظِنَّةُ سَفْكِ الدِّمَاءِ الْمُحَرَّمَةِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ الصَّحَابَةُ فِي عَهْدِ عُمَرَ عَلَى حَدِّهِ ثَمَانِينَ، وَجَعَلُوا السُّكْرَ مَظِنَّةَ الِافْتِرَاءِ وَالْقَذْفِ الْمُوجِبِ لِجَلْدِ الثَّمَانِينَ، «وَلَمَّا قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ وَالِانْتِبَاذِ فِي الظُّرُوفِ قَالَ: " إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَقُومَ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ: - يَعْنِي إِذَا شَرِبَ - فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ» "، وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ قَدْ أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ يُخْبِؤُهَا حَيَاءً مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا كُلُّهُ يَرْجِعُ إِلَى إِبَاحَةِ الدَّمِ بِالْقَتْلِ إِقَامَةً لِمَظَانِّ الْقَتْلِ مَقَامَ حَقِيقَتِهِ، لَكِنْ هَلْ نَسْخُ ذَلِكَ أَمْ حُكْمُهُ بَاقٍ هَذَا هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَأَمَّا تَرْكُ الدِّينِ، وَمُفَارَقَةُ الْجَمَاعَةِ، فَمَعْنَاهُ الِارْتِدَادُ عَنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَلَوْ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُقِرٌّ بِالشَّهَادَتَيْنِ، أُبِيحَ دَمُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ بِذَلِكَ دِينَهُ. وَكَذَلِكَ لَوِ اسْتَهَانَ بِالْمُصْحَفِ، وَأَلْقَاهُ فِي الْقَاذُورَاتِ، أَوْ جَحَدَ مَا يُعْلَمُ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَالصَّلَاةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُخْرِجُ مِنَ الدِّينِ. وَهَلْ يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ؟ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَخْرُجُ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَمَنْ رَآهُ خُرُوجًا عَنِ الدِّينِ، كَانَ عِنْدَهُ كَتَرْكِ الشَّهَادَتَيْنِ وَإِنْكَارِهِمَا، وَمَنْ لَمْ يَرَهُ خُرُوجًا عَنِ الدِّينِ، فَاخْتَلَفُوا هَلْ

يَلْحَقُ بِتَارِكِ الدِّينِ فِي الْقَتْلِ، لِكَوْنِهِ تَرَكَ أَحَدَ مَبَانِي الْإِسْلَامِ أَمْ لَا؟ لِكَوْنِهِ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الدِّينِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي قَتْلِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْبِدَعِ، فَإِنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ شَبِيهٌ بِالْخُرُوجِ عَنِ الدِّينِ، وَهُوَ ذَرِيعَةٌ وَوَسِيلَةٌ إِلَيْهِ، فَإِنِ اسْتَخْفَى بِذَلِكَ وَلَمْ يَدْعُ غَيْرَهُ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُنَافِقِينَ إِذَا اسْتَخَفُّوا، وَإِذَا دَعَا إِلَى ذَلِكَ، تَغَلَّظَ جُرْمُهُ بِإِفْسَادِ دِينِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ وَقَتْلِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهِمْ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُمْ كُفَّارٌ، فَيَكُونُ قَتْلُهُمْ لِكُفْرِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا يُقْتَلُونَ لِفَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ بِسَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَتَكْفِيرِهِمْ لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَأَجَازُوا الِابْتِدَاءَ بِقِتَالِهِمْ، وَالْإِجْهَازَ عَلَى جَرِيحِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ دَعَوْا إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، قُوتِلُوا، وَإِنْ أَظْهَرُوهُ وَلَمْ يَدْعُوا إِلَيْهِ لَمْ يُقَاتَلُوا، وَهُوَ نَصُّ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قِتَالِ مَنْ دَعَا إِلَى بِدْعَةٍ مُغَلَّظَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَ الْبَدَاءَةَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يَبْدَءُوا بِقِتَالٍ يُبِيحُ قِتَالَهُمْ مِنْ سَفْكِ دِمَاءٍ وَنَحْوِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا.

وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ رَجُلٍ كَانَ يُصَلِّي، وَقَالَ: " لَوْ قُتِلَ، لَكَانَ أَوَّلَ فِتْنَةٍ وَآخِرَهَا "، وَفِي رِوَايَةٍ: " لَوْ قُتِلَ، لَمْ يَخْتَلِفْ رَجُلَانِ مِنْ أُمَّتِي حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ» " خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ فَيُسْتَدَلُّ بِهَذَا عَلَى قَتْلِ الْمُبْتَدِعِ إِذَا كَانَ قَتْلُهُ يَكُفُّ شَرَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَحْسِمُ مَادَّةَ الْفِتَنِ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَوَازَ قَتْلِ الدَّاعِي إِلَى الْبِدْعَةِ. فَرَجَعَتْ نُصُوصُ الْقَتْلِ كُلُّهَا إِلَى مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا هَاهُنَا: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ تِلْكَ النُّصُوصِ كُلِّهَا، لَا سِيَّمَا وَابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ قُدَمَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَكَثِيرٌ مِنْ تِلْكَ النُّصُوصِ يَرْوِيهَا مَنْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُعَاوِيَةَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ رَوَوْا حَدِيثَ قَتْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَاصَّ لَا يُنْسَخُ بِالْعَامِّ، وَلَوْ كَانَ الْعَامُّ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْخَاصِّ عَلَى مَعْنَاهُ بِالنَّصِّ، وَدَلَالَةُ الْعَامِّ عَلَيْهِ بِالظَّاهِرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، فَلَا يُبْطِلُ الظَّاهِرُ حُكْمَ النَّصِّ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ رَجُلٍ كَذَبَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، وَقَالَ لِحَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَنِي وَأَمَرَنِي أَنْ أَحْكُمَ فِي دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ» ، وَهَذَا رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ قَدْ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،

فَأَبَوْا أَنَّ يُزَوِّجُوهُ، وَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ صَدَّقُوهُ، وَنَزَلَ عَلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ، وَحِينَئِذٍ فَهَذَا الرَّجُلُ قَدْ زَنَا، وَنَسَبَ إِبَاحَةَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا كُفْرٌ وَرِدَّةٌ عَنِ الدِّينِ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عَلِيًّا بِقَتْلِ الْقِبْطِيِّ الَّذِي كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ وَلَدِهِ مَارِيَةَ، وَكَانَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا وَجَدَهُ عَلِيٌّ مَجْبُوبًا تَرَكَهُ» وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْقِبْطِيَّ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ بَعْدُ، وَأَنَّ الْمُعَاهَدَ إِذَا فَعَلَ مَا يُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ، انْتَقَضَ عَهْدُهُ، فَكَيْفَ إِذَا آذَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَ مُسْلِمًا، وَلَكِنَّهُ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَنْتَهِ، حَتَّى تَكَلَّمَ النَّاسُ بِسَبَبِهِ فِي فِرَاشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِرَاشِهِ مُبِيحٌ لِلدَّمِ، لَكِنْ لَمَّا ظَهَرَتْ بَرَاءَتُهُ بِالْعِيَانِ، تَبَيَّنَ لِلنَّاسِ بَرَاءَةُ مَارِيَةَ، فَزَالَ السَّبَبُ الْمُبِيحُ لِلْقَتْلِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَغَيْرِهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ أَنْ يُعَزِّرَ بِالْقَتْلِ إِذَا رَأَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنَ التَّعَدِّي وَالْحَيْفِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ التَّعَدِّي بِالْهَوَى قَالَ أَبُو دَاوُدَ. سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِلَ، عَنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ مَا كَانَتْ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ لِأَبِي بَكْرٍ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَقْتُلَ، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ أَنَّ رَجُلًا كَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فَأَغْلَظَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَرْزَةَ: أَلَا أَقْتُلُهُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَتْ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ حَدِيثُ الْأَمْرِ بِقَتْلِ هَذَا الْقِبْطِيِّ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ الْأَمْرِ بِقَتْلِ السَّارِقِ إِنْ كَانَ صَحِيحًا، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِهِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، فَرَاجَعُوهُ فِيهِ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَهُوَ يَأْمُرُ بِقَتْلِهِ، فَيُرَاجَعُ فِيهِ، فَيَقْطَعُ حَتَّى قُطِعَتْ أَطْرَافُهُ الْأَرْبَعُ، ثُمَّ قُتِلَ فِي الْخَامِسَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

[الحديث الخامس عشر من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت]

[الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ]

الْحَدِيثُ الْخَامِسَ عَشَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَاهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا: " فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ " وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا: " فَلْيُحْسِنْ قِرَى ضَيْفِهِ " وَفِي بَعْضِهَا: " فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " بَدَلَ ذِكْرِ الْجَارِ. وَخَرَّجَاهُ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ،

وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» " فَلْيَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ، وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ بِالصَّبْرِ وَالسَّمَاحَةِ، قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ: الصَّبْرُ عَنِ الْمَعَاصِي، وَالسَّمَاحَةُ بِالطَّاعَةِ. وَأَعْمَالُ الْإِيمَانِ تَارَةً تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ، كَأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْخَيْرِ، وَالصَّمْتُ عَنْ غَيْرِهِ. وَتَارَةً تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ عِبَادِهِ كَإِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَإِكْرَامِ الْجَارِ، وَالْكَفِّ عَنْ أَذَاهُ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ يُؤْمَرُ بِهَا الْمُؤْمِنُ: أَحَدُهُمَا قَوْلُ الْخَيْرِ وَالصَّمْتُ عَمَّا سِوَاهُ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَسْوَدَ بْنِ أَصْرَمَ الْمُحَارِبِيِّ، قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: " هَلْ تَمْلِكُ لِسَانَكَ؟ " قُلْتُ: مَا أَمْلِكُ إِذَا لَمْ أَمْلِكْ لِسَانِي؟ قَالَ: " فَهَلْ تَمْلِكُ يَدَكَ؟ " قُلْتُ: فَمَا أَمْلِكُ إِذَا لَمْ أَمْلِكْ يَدِي؟ قَالَ: " فَلَا تَقُلْ بِلِسَانِكَ إِلَّا مَعْرُوفًا، وَلَا تَبْسُطْ يَدَكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ» ".

وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ اسْتِقَامَةَ اللِّسَانِ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ، كَمَا فِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ» . وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَخْزِنَ مِنْ لِسَانِهِ» وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تَزَالَ سَالِمًا مَا سَكَتَّ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ، كُتِبَ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ» . وَفِي " مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَمَتَ نَجَا» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ،، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ» .

وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لِيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنْ أُمِّهِ، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَدْنُو مِنَ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، فَيَتَبَاعَدُ بِهَا أَبْعَدَ مِنْ صَنْعَاءَ» ". وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لِيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ بِهَا سُخْطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ» . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ حَدِيثَ أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَلَامُ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ، إِلَّا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ أُمِرَ بِقَوْلِ الْخَيْرِ، وَبِالصَّمْتِ عَمَّا عَدَاهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ كَلَامٌ يَسْتَوِي قَوْلُهُ وَالصَّمْتُ عَنْهُ، بَلْ إِمَّا

أَنْ يَكُونَ خَيْرًا، فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِقَوْلِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ خَيْرٍ، فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِالصَّمْتِ عَنْهُ، وَحَدِيثُ مُعَاذٍ وَأُمِّ حَبِيبَةَ يَدُلَّانِ عَلَى هَذَا. وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «يَا مُعَاذُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَهَلْ تَقُولُ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ» . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] ، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] [ق: 17 - 18] وَقَدْ أَجْمَعَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى أَنَّ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَالَّذِي عَنْ شِمَالِهِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ وَالْمَلَكُ عَنْ يَمِينِهِ» . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ عَنْ يَمِينِهِ كَاتِبَ الْحَسَنَاتِ» ". وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَكْتُبُ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ، أَوْ لَا يَكْتُبُ إِلَّا مَا فِيهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَكْتُبُ كُلَّ مَا

تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ حَتَّى إِنَّهُ لَيَكْتُبُ قَوْلَهُ: أَكَلْتُ وَشَرِبْتُ ذَهَبْتُ وَجِئْتُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ عَرَضَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ فَأَقَرَّ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَأَلْقَى سَائِرَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] [الرَّعْدِ: 39] . وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: رَكِبَ رَجُلٌ الْحِمَارَ، فَعَثَرَ بِهِ، فَقَالَ: تَعِسَ الْحِمَارُ، فَقَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ: مَا هِيَ حَسَنَةٌ أَكْتُبُهَا، وَقَالَ صَاحِبُ الشِّمَالِ: مَا هِيَ سَيِّئَةٌ فَأَكْتُبُهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى صَاحِبِ الشِّمَالِ: مَا تَرَكَ صَاحِبُ الْيَمِينِ مِنْ شَيْءٍ، فَاكْتُبْهُ، فَأَثْبَتَ فِي السَّيِّئَاتِ " تَعِسَ الْحِمَارُ ". وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ مَا لَيْسَ بِحَسَنَةٍ، فَهُوَ سَيِّئَةٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ قَدْ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَعُ مُكَفِّرَةً بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَلَكِنَّ زَمَانَهَا قَدْ خَسِرَهُ صَاحِبُهَا حَيْثُ ذَهَبَتْ بَاطِلًا، فَيَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ حَسْرَةٌ فِي الْقِيَامَةِ وَأَسَفٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَوْعُ عُقُوبَةٍ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ، إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً» . وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ

يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: «مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةً، وَمَنِ اضْطَجَعَ مُضْطَجَعًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ، كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةً» زَادَ النَّسَائِيُّ: «وَمَنْ قَامَ مَقَامًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ، كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةً» وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَجْلِسُونَ مَجْلِسًا لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا، فَتَفَرَّقُوا قَبْلَ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ، إِلَّا تَفَرَّقُوا عَنْ أَنْتَنِ مِنْ رِيحِ الْجِيفَةِ، وَكَانَ مَجْلِسُهُمْ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِغَفْلَتِهِمْ، وَمَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا، فَذَكَرُوا اللَّهَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا، إِلَّا أَنْ يَتَفَرَّقُوا عَنْ أَطْيَبِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَكَانَ مَجْلِسُهُمْ يَشْهَدُ لَهُمْ بِذِكْرِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يُعْرَضُ عَلَى ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَاتُ عُمُرِهِ، فَكُلُّ سَاعَةٍ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهَا تَتَقَطَّعُ نَفْسُهُ عَلَيْهَا حَسَرَاتٍ. وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «مَا مِنْ سَاعَةٍ تَمُرُّ بِابْنِ آدَمَ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهَا بِخَيْرٍ، إِلَّا حَسِرَ عِنْدَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

فَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ مَا لَيْسَ بِخَيْرٍ مِنَ الْكَلَامِ، فَالسُّكُوتُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنَ التَّكَلُّمِ بِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مُمَا لَابُدَّ مِنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَفُضُولَ الْكَلَامِ، حَسْبُ امْرِئٍ مَا بَلَغَ حَاجَتَهُ. وَعَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ: يَهْلَكُ النَّاسُ فِي فُضُولِ الْمَالِ وَالْكَلَامِ. وَأَيْضًا قَالَ فَإِنَّ الْإِكْثَارَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ يُوجِبُ قَسَاوَةَ الْقَلْبِ كَمَا فِي " التِّرْمِذِيِّ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ يُقَسِّي الْقَلْبَ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي» ". وَقَالَ عُمَرُ: مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ، كَثُرَ سَقْطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقْطُهُ، كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ وَخَرَّجَهُ الْعُقَيْلِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ

مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ: إِنَّمَا الْكَلَامُ أَرْبَعَةٌ: أَنْ تَذْكُرَ اللَّهَ، وَتَقْرَأَ الْقُرْآنَ، وَتُسْأَلَ عَنْ عِلْمٍ فَتُخْبِرَ بِهِ، أَوْ تَكَلَّمَ فِيمَا يَعْنِيكَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكَ. وَقَالَ رَجُلٌ لِسَلْمَانَ: أَوْصِنِي، قَالَ: لَا تَكَلَّمْ، قَالَ: مَا يَسْتَطِيعُ مَنْ عَاشَ فِي النَّاسِ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ، قَالَ: فَإِنْ تَكَلَّمْتَ، فَتَكَلَّمْ بِحَقٍّ أَوِ اسْكُتْ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْخُذُ بِلِسَانِهِ وَيَقُولُ: هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مَا عَلَى الْأَرْضِ أَحَقُّ بِطُولِ سِجْنٍ مِنَ اللِّسَانِ وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَجْمَعَتِ الْحُكَمَاءُ عَلَى أَنَّ رَأْسَ الْحُكْمِ الصَّمْتُ. وَقَالَ شُمَيْطُ بْنُ عَجْلَانَ: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا سَكَتَّ، فَأَنْتَ سَالِمٌ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ، فَخُذْ حِذْرَكَ، إِمَّا لَكَ وَإِمَّا عَلَيْكَ وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْكَلَامِ بِالْخَيْرِ، وَالسُّكُوتِ عَمَّا لَيْسَ بِخَيْرٍ، وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ «رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ قَالَ: فَأَطْعِمِ الْجَائِعَ،

وَاسْقِ الظَّمْآنَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ، فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ» . فَلَيْسَ الْكَلَامُ مَأْمُورًا بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا السُّكُوتُ كَذَلِكَ، بَلْ لَابُدَّ مِنَ الْكَلَامِ بِالْخَيْرِ وَالسُّكُوتِ عَنِ الشَّرِّ، وَكَانَ السَّلَفُ كَثِيرًا يَمْدَحُونَ الصَّمْتَ عَنِ الشَّرِّ، وَعَمَّا لَا يُعْنِي لِشِدَّتِهِ عَلَى النَّفْسِ، وَذَلِكَ يَقَعُ فِيهِ النَّاسُ كَثِيرًا، فَكَانُوا يُعَالِجُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَيُجَاهِدُونَهَا عَلَى السُّكُوتِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِمْ. قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: مَا حَجٌّ وَلَا رِبَاطٌ وَلَا جِهَادٌ أَشَدُّ مِنْ حَبْسِ اللِّسَانِ، وَلَوْ أَصْبَحْتَ يَهُمُّكَ لِسَانُكَ، أَصْبَحْتَ فِي غَمٍّ شَدِيدٍ، وَقَالَ: سِجْنُ اللِّسَانِ سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَلَوْ أَصْبَحْتَ يَهُمُّكَ لِسَانُكَ، أَصْبَحْتَ فِي غَمٍّ شَدِيدٍ. وَسُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: إِنْ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ فِضَّةٍ، فَإِنَّ الصَّمْتَ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ: لَوْ كَانَ الْكَلَامُ بِطَاعَةِ اللَّهِ مِنْ فِضَّةٍ، فَإِنَّ الصَّمْتَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ مِنْ ذَهَبٍ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْكَفَّ عَنِ الْمَعَاصِي أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ الطَّاعَاتِ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى. وَتَذَاكَرُوا عِنْدَ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، أَيُّهُمَا أَفْضَلُ الصَّمْتُ أَوِ النُّطْقُ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: الصَّمْتُ أَفْضَلُ، فَقَالَ الْأَحْنَفُ: النُّطْقُ أَفْضَلُ، لِأَنَّ فَضْلَ الصَّمْتِ لَا يَعْدُو صَاحِبَهُ، وَالْمَنْطِقُ الْحَسَنُ يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ. وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّامِتُ عَلَى عِلْمٍ كَالْمُتَكَلِّمِ عَلَى عِلْمٍ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى عِلْمٍ

أَفْضَلَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَالًا، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْفَعَتَهُ لِلنَّاسِ، وَهَذَا صَمْتُهُ لِنَفْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَيْفَ بِفِتْنَةِ النُّطْقِ؟ فَبَكَى عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ بُكَاءً شَدِيدًا. وَلَقَدْ خَطَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمًا فَرَقَّ النَّاسُ، وَبَكَوْا، فَقَطَعَ خُطْبَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ أَتْمَمْتَ كَلَامَكَ رَجَوْنَا أَنْ يَنْفَعَ اللَّهُ بِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ الْقَوْلَ فِتْنَةٌ وَالْفِعْلُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِ مِنَ الْقَوْلِ. وَكُنْتُ مِنْ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ قَدْ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسَمِعْتُهُ يَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَظُنُّ أَنِّي فَاوَضْتُهُ فِيهَا وَفَهِمْتُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْخَيْرِ أَفْضَلُ مِنَ السُّكُوتِ، وَأَظُنُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ ذِكْرُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ لَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ قَالَ: الصَّمْتُ مَنَامُ الْعَقْلِ، وَالنُّطْقُ يَقَظَتُهُ، وَلَا يَتِمُّ حَالٌ إِلَّا بِحَالٍ، يَعْنِي: لَابُدَّ مِنَ الصَّمْتِ وَالْكَلَامِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ فَقِيهُ أَهْلِ مِصْرَ فِي وَقْتِهِ، وَكَانَ أَحَدَ الْحُكَمَاءِ: إِذَا كَانَ الْمَرْءُ يُحَدِّثُ فِي مَجْلِسٍ، فَأَعْجَبَهُ الْحَدِيثُ فَلْيَسْكُتْ، وَإِنْ كَانَ سَاكِتًا، فَأَعْجَبَهُ السُّكُوتُ، فَلْيُحَدِّثْ، وَهَذَا حَسَنٌ فَإِنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ سُكُوتُهُ وَحَدِيثُهُ لِمُخَالَفَةِ هَوَاهُ وَإِعْجَابِهِ بِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ جَدِيرًا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَتَسْدِيدِهِ فِي نُطْقِهِ وَسُكُوتِهِ، لِأَنَّ كَلَامَهُ وَسُكُوتَهُ يَكُونُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: " «عَلَامَةُ الطُّهْرِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُ الْعَبْدِ عِنْدِي مُعَلَّقًا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَنْسَنِي عَلَى حَالٍ، وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ، مَنَنْتُ عَلَيْهِ بِالِاشْتِغَالِ بِي كَيْ لَا يَنْسَانِي، فَإِذَا نَسِيَنِي، حَرَّكْتُ قَلْبَهُ، فَإِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ لِي، وَإِنْ سَكَتَ، سَكَتَ لِي، فَذَلِكَ الَّذِي تَأْتِيهِ الْمَعُونَةُ مِنْ عِنْدِي» " خَرَّجَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْجُنَيْدِ.

وَبِكُلِّ حَالٍ، فَالْتِزَامُ الصَّمْتِ مُطْلَقًا، وَاعْتِقَادُهُ قُرْبَةً إِمَّا مُطْلَقًا، أَوْ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ، كَالْحَجِّ وَالِاعْتِكَافِ وَالصِّيَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ صِيَامِ الصَّمْتِ. وَخَرَّجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّمْتِ فِي الْعُكُوفِ» ، وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ» . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِامْرَأَةٍ حَجَّتْ مُصْمَتَةً: إِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ أَنَّهُ قَالَ: صَوْمُ الصَّمْتِ حَرَامٌ. الثَّانِي مِمَّا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُؤْمِنِينَ إِكْرَامُ الْجَارِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: " النَّهْيُ عَنْ أَذَى الْجَارِ " فَأَمَّا أَذَى الْجَارِ، فَمُحَرَّمٌ فَإِنَّ الْأَذَى بِغَيْرِ حَقٍّ مُحَرَّمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْجَارِ هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «سُئِلَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يُطْعَمَ مَعَكَ قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» وَفِي " مُسْنَدِ

الْإِمَامِ أَحْمَدَ "، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا؟ قَالُوا: حَرَامٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ، قَالَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟ قَالُوا: حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهِيَ حَرَامٌ، قَالَ: لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ» . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» ، وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةً تُصَلِّي بِاللَّيْلِ، وَتَصُومُ النَّهَارَ وَفِي لِسَانِهَا شَيْءٌ تُؤْذِي جِيرَانَهَا سَلِيطَةً، قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ فِي النَّارِ» «وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانَةً تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَتَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ، وَلَيْسَ لَهَا شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ» وَلَفْظُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: " «وَلَا تُؤْذِي بِلِسَانِهَا جِيرَانَهَا» ".

وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ لَهُ: اطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ قَالَ: فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ بِهِ فَيَلْعَنُونَهُ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: وَمَا لَقِيتَ مِنْهُمْ؟ قَالَ يَلْعَنُونِي، قَالَ: فَقَدْ لَعَنَكَ اللَّهُ قَبْلَ النَّاسِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِّي لَا أَعُودُ» . وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ: " فَقَدْ لَعَنَكَ اللَّهُ قَبْلَ النَّاسِ ". وَخَرَّجَ الْخَرَائِطِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: «دَخَلَتْ شَاةٌ لِجَارَةٍ لَنَا، فَأَخَذَتْ قُرْصَةً لَنَا، فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَأَجْتَذَبْتُهَا مِنْ بَيْنِ لِحْيَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَا قَلِيلَ مِنْ أَذَى الْجَارِ» . فَأَمَّا إِكْرَامُ الْجَارِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِ، فَمَأْمُورٌ بِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى

وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36] [النِّسَاءِ: 36] ، فَجَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ ذِكْرِ حَقِّهِ عَلَى الْعَبْدِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى الْعِبَادِ أَيْضًا، وَجَعَلَ الْعِبَادَ الَّذِينَ أُمِرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ قَرَابَةٌ، وَخُصَّ مِنْهُمُ الْوَالِدَيْنِ بِالذِّكْرِ؛ لِامْتِيَازِهِمَا عَنْ سَائِرِ الْأَقَارِبِ بِمَا لَا يُشْرِكُونَهُمَا فِيهِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا السَّبَبَ فِي وُجُودِ الْوَلَدِ وَلَهُمَا حَقُّ التَّرْبِيَةِ وَالتَّأْدِيبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. الثَّانِي: مَنْ هُوَ ضَعِيفٌ مُحْتَاجٌ إِلَى الْإِحْسَانِ وَهُوَ نَوْعَانِ: مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ لِضَعْفِ بَدَنِهِ، وَهُوَ الْيَتِيمُ، وَمَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ لِقِلَّةِ مَالِهِ، وَهُوَ الْمِسْكِينُ. وَالثَّالِثُ: مَنْ لَهُ حَقُّ الْقُرْبِ وَالْمُخَالَطَةِ، وَجَعَلَهُمْ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: جَارٌ ذُو قُرْبَى، وَجَارٌ جُنُبٌ، وَصَاحِبٌ بِالْجَنْبِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْجَارُ ذُو الْقُرْبَى: الْجَارُ الَّذِي لَهُ قَرَابَةٌ، وَالْجَارُ الْجُنُبُ: الْأَجْنَبِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَ الْمَرْأَةَ فِي الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَهَا فِي الْجَارِ الْجُنُبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَ الرَّفِيقَ فِي السَّفَرِ فِي الْجَارِ الْجُنُبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْإِقَامَةِ، فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ» . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْجَارُ ذُو الْقُرْبَى: الْجَارُ الْمُسْلِمُ، وَالْجَارُ الْجُنُبُ: الْكَافِرُ، وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزَّارِ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: " الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَدْنَى الْجِيرَانِ حَقًّا، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْجِيرَانِ حَقًّا، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، فَجَارٌ مُشْرِكٌ، لَا رَحِمَ لَهُ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَأَمَّا

الَّذِي لَهُ حَقَّانِ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ، لَهُ حَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ، فَلَهُ حَقُّ الْإِسْلَامِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الرَّحِمِ "، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى مُتَّصِلَةٍ وَمُرْسَلَةٍ، وَلَا تَخْلُو كُلُّهَا مِنْ مَقَالٍ. وَقِيلَ: الْجَارُ ذُو الْقُرْبَى: هُوَ الْقَرِيبُ الْجِوَارِ الْمُلَاصِقُ، وَالْجَارُ الْجُنُبُ: الْبَعِيدُ الْجِوَارِ. وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " «عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا بَابًا» . وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: حَدُّ الْجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا، وَقِيلَ: مُسْتَدَارُ أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَفِي مَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ «رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارًا لَهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَنْ يُنَادِيَ: " أَلَا إِنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جَارٌ» " وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَرْبَعُونَ هَكَذَا، وَأَرْبَعُونَ هَكَذَا، وَأَرْبَعُونَ هَكَذَا، وَأَرْبَعُونَ هَكَذَا، يَعْنِي مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ.

وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَمَّنْ يَطْبُخُ قَدْرًا وَهُوَ فِي دَارِ السَّبِيلِ، وَمَعَهُ فِي الدَّارِ نَحْوُ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ نَفْسًا: يَعْنِي أَنَّهُمْ سُكَّانٌ مَعَهُ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ، وَبِمَنْ يَعُولُ، فَإِنْ فَضَلَ فَضْلٌ، أُعْطِيَ الْأَقْرَبُ إِلَيْهِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ كُلَّهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: لَعَلَّ الَّذِي هُوَ جَارُهُ يَتَهَاوَنُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ مَوْقِعٌ؟ فَرَأَى أَنَّهُ لَا يُبْعَثُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الصَّاحِبُ بِالْجَنْبِ، فَفَسَّرَهُ طَائِفَةٌ بِالزَّوْجَةِ، وَفَسَّرَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالرَّفِيقِ فِي السَّفَرِ، وَلَمْ يُرِيدُوا إِخْرَاجَ الصَّاحِبِ الْمُلَازِمِ فِي الْحَضَرِ وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ صُحْبَةَ السَّفَرِ تَكْفِي، فَالصُّحْبَةُ الدَّائِمَةُ فِي الْحَضَرِ أَوْلَى، وَلِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرَّفِيقُ الصَّالِحُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ جَلِيسُكَ فِي الْحَضَرِ، وَرَفِيقُكَ فِي السَّفَرِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَعْتَرِيكَ وَيَلُمُّ بِكَ لِتَنْفَعَهُ. وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ» . الرَّابِعُ: مَنْ هُوَ وَارِدٌ عَلَى الْإِنْسَانِ، غَيْرَ مُقِيمٍ عِنْدَهُ، وَهُوَ ابْنُ السَّبِيلِ، يَعْنِي الْمُسَافِرَ إِذَا وَرَدَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالضَّيْفِ: يَعْنِي بِهِ ابْنَ السَّبِيلِ إِذَا نَزَلَ ضَيْفًا عَلَى أَحَدٍ. وَالْخَامِسُ: مِلْكُ الْيَمِينِ، وَقَدْ وَصَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ كَثِيرًا وَأَمَرَ بِالْإِحْسَانِ

إِلَيْهِمْ، وَرُوِيَ أَنَّ آخِرَ مَا وَصَّى بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: " «الصَّلَاةُ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» "، وَأَدْخَلَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْبَهَائِمِ. وَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي إِكْرَامِ الْجَارِ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» . فَمِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ مُوَاسَاتُهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ، وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَشْبَعُ الْمُؤْمِنُ دُونَ جَارِهِ» وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا آمَنَ مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ طَاوِيًا» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ جَارَانِ» . وَفِي كِتَابِ " الْأَدَبِ " لِلْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «كَمْ مِنْ جَارٍ مُتَعَلِّقٌ بِجَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ هَذَا أَغْلَقَ بَابَهُ دُونِي فَمَنَعَ مَعْرُوفَهُ» ". وَخَرَّجَ الْخَرَائِطِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ دُونَ جَارِهِ مَخَافَةً عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُؤْمِنٍ، وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ. أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْجَارِ؟ إِذَا اسْتَعَانَكَ أَعَنْتَهُ، وَإِذَا اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ، وَإِذَا افْتَقَرَ، عُدْتَ عَلَيْهِ، وَإِذَا مَرِضَ عُدْتَهُ، وَإِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأْتَهُ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْتَهُ، وَإِذَا مَاتَ اتَّبَعْتَ جِنَازَتَهُ، وَلَا تَسْتَطِلْ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ، فَتَحْجُبُ عَنْهُ الرِّيحَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تُؤْذِهِ بِقُتَارِ قَدْرِكَ إِلَّا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا، وَإِنِ اشْتَرَيْتَ فَاكِهَةً، فَاهْدِ لَهُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَأَدْخِلْهَا سِرًّا، وَلَا يَخْرُجْ بِهَا وَلَدُكَ لِيَغِيظَ بِهَا وَلَدَهُ» "

وَرَفْعُ هَذَا الْكَلَامِ مُنْكَرٌ، وَلَعَلَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ. وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: " «أَدْنَى حَقِّ الْجِوَارِ أَنْ لَا تُؤْذِي جَارَكَ بِقُتَارِ قَدْرِكَ إِلَّا أَنْ تَقْدَحَ لَهُ مِنْهَا» ". وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: " «أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا طَبَخْتُ مَرَقًا، فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى أَهْلِ بَيْتِ جِيرَانِكَ، فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ» ". وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ» ". وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَالتِّرْمِذِيِّ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةً، فَقَالَ: هَلْ أَهْدَيْتُمْ مِنْهَا لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» ". وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ،

وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ» . وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْجَارَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُمَكِّنَ جَارَهُ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَى جِدَارِهِ إِذَا احْتَاجَ الْجَارُ إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَضُرَّ بِجِدَارِهِ، لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَاسِيَهُ مِنْ فَضْلِ مَا عِنْدَهُ بِمَا لَا يَضُرُّ بِهِ إِذَا عَلِمَ حَاجَتَهُ قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إِنِّي أَسْمَعُ السَّائِلَ فِي الطَّرِيقِ يَقُولُ: إِنِّي جَائِعٌ، فَقَالَ: قَدْ يَصْدُقُ وَقَدْ يَكْذِبُ. قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ لِي جَارٌ أَعْلَمُ أَنَّهُ يَجُوعُ؟ قَالَ: تُوَاسِيهِ، قُلْتُ: إِذَا كَانَ قُوَّتِي رَغِيفَيْنِ؟ قَالَ: تُطْعِمُهُ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ الْجَارُ. وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الْأَغْنِيَاءُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْمُوَاسَاةُ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ قَوْمٌ يَضَعُونَ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ كَيْفَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، قُلْتُ: إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ قَمِيصَانِ، أَوْ قُلْتُ: جُبَّتَانِ، يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُوَاسَاةُ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ فَضْلًا. وَهَذَا نَصٌّ مِنْهُ فِي وُجُوبِ الْمُوَاسَاةِ مِنَ الْفَاضِلِ، وَلَمْ يَخُصَّهُ بِالْجَارِ، وَنَصُّهُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِالْجَارِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ فِي السُّؤَالِ يَكْذِبُونَ أَحَبُّ إِلَيْنَا لَوْ صَدَقُوا مَا وَسِعَنَا إِلَّا مُوَاسَاتَهُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مُوَاسَاةِ الْجَائِعِ مِنَ الْجِيرَانِ، وَغَيْرِهِمْ. وَفِي " الصَّحِيحِ "، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ»

وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَ " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " عَنِ [ابْنِ] عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ أَنَّهُ يَمْنَعُ الْجَارَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي خَاصِّ مِلْكِهِ بِمَا يَضُرُّ بِجَارِهِ، فَيَجِبُ عِنْدَهُمَا كَفُّ الْأَذَى عَنِ الْجَارِ بِمَنْعِ إِحْدَاثِ الِانْتِفَاعِ الْمُضِرِّ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُنْتَفِعُ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِخَاصِّ مِلْكِهِ، وَيَجِبُ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنْ يَبْذُلَ لِجَارِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي بَذْلِهِ، وَأَعْلَى مِنْ هَذَيْنِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى أَذَى جَارِهِ، وَلَا يُقَابِلَهُ بِالْأَذَى قَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ حُسْنُ الْجِوَارِ كَفَّ الْأَذَى، وَلَكِنَّ حُسْنَ الْجِوَارِ احْتِمَالُ الْأَذَى، وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ يَرْفَعُهُ: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ الْجَارُ يُؤْذِيهِ جِوَارُهُ، فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ ظَعْنٌ» " خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ أَنَّ «رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو إِلَيْهِ جَارَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُفَّ أَذَاكَ عَنْهُ، وَاصْبِرْ لِأَذَاهُ، فَكَفَى بِالْمَوْتِ مُفَرِّقًا» " خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.

الثَّالِثُ مِمَّا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنِينَ: إِكْرَامُ الضَّيْفِ، وَالْمُرَادُ إِحْسَانِ ضِيَافَتِهِ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ، قَالَ: «أَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ قَالُوا: وَمَا جَائِزُتُهُ؟ قَالَ: " يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ " قَالَ: وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ صَدَقَةٌ» ". وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُؤْثِمَهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُؤْثِمُهُ؟ قَالَ: يُقِيمُ وَلَا شَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ بِهِ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ. قَالَهَا ثَلَاثًا، قَالُوا: وَمَا إِكْرَامَةُ الضَّيْفِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا جَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ» .

فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ جَائِزَةَ الضَّيْفِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَأَنَّ الضِّيَافَةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَائِزَةِ وَالضِّيَافَةِ، وَكَذَا الْجَائِزَةُ قَدْ وَرَدَ فِي تَأْكِيدِهَا أَحَادِيثُ أُخَرُ، فَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعَدِّ يَكْرِبَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ، فَهُوَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، إِنْ شَاءَ اقْتَضَى، وَإِنْ شَاءَ تُرِكَ» ". وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ: " «لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» ". وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «أَيُّمَا رَجُلٍ أَضَافَ قَوْمًا، فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا، فَإِنَّ نَصْرَهُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَتَّى يَأْخُذَ بِقِرَى لَيْلَةٍ مِنْ زَرْعِهِ وَمَالِهِ» ". وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: «قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لَا يُقْرُونَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ، فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ، فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ» .

وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ، فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ، وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ» . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: مَنْ لَمْ يُضِفْ، فَلَيْسَ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلَا مِنْ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ: مَنْ لَمْ يُكْرِمْ ضَيْفَهُ، فَلَيْسَ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلَا مِنْ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لِقَوْمٍ نَزَلَ عَلَيْهِمْ، فَاسْتَضَافَهُمْ، فَلَمْ يُضِيفُوهُ، فَتَنَحَّى وَنَزَلَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى طَعَامِهِ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تُنْزِلُونَ الضَّيْفَ وَلَا تُجِيبُونَ الدَّعْوَةَ مَا أَنْتُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ عَلَى شَيْءٍ، فَعَرَفَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ: انْزِلْ عَافَاكَ اللَّهُ، قَالَ: هَذَا شَرٌّ وَشَرٌّ، لَا تُنْزِلُونَ إِلَّا مَنْ تَعْرِفُونَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: مَا أَنْتُمْ مِنَ الدِّينِ إِلَّا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَى هُدْبَةٍ فِي ثَوْبِهِ. وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الضِّيَافَةِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَأَحْمَدَ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِذَلِكَ إِذَا مَنَعَهُ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ وَاجِبٌ، وَهَلْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ مِنْ مَالِهِ إِذَا مَنَعَهُ، أَوْ يَرْفَعُهُ إِلَى الْحَاكِمِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ عَنْهُ. وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ: لَيْلَةُ الضَّيْفِ وَاجِبَةٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ قِرَاهُ مِنْهُمْ قَهْرًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ دُونَ مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ.

وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لَوْ نَزَلَ الضَّيْفُ بِالْعَبْدِ أَضَافَهُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي بِيَدِهِ، وَلِلضَّيْفِ أَنْ يَأْكُلَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ سَيِّدَهُ أَذِنَ لَهُ، لِأَنَّ الضِّيَافَةَ وَاجِبَةٌ. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِجَابَةُ دَعْوَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَجَابُوا دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا، فَإِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ ابْتِدَاءً جَازَ إِجَابَةُ دَعْوَتِهِ، فَإِضَافَتُهُ لِمَنْ نَزَلَ بِهِ أَوْلَى. وَمَنَعَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ دَعْوَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِدُونِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَنَقَلَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الضِّيَافَةِ لِلْغُزَاةِ خَاصَّةً بِمَنْ مَرُّوا بِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ وُجُوبُهَا لِكُلِّ ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ. وَاخْتُلِفَ قَوْلُهُ: هَلْ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى أَمْ تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْقُرَى وَمَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقٍ يَمُرُّ بِهِمُ الْمُسَافِرُونَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ عَنْهُ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ: أَنَّهَا تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَخَصَّ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْوُجُوبَ لِلْمُسْلِمِ، كَمَا لَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. فَأَمَّا الْيَوْمَانِ الْآخَرَانِ، وَهُمَا الثَّانِي وَالثَّالِثُ، فَهُمَا تَمَامُ الضِّيَافَةِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا الْجَائِزَةُ الْأُولَى، وَقَالَ: قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْجَائِزَةِ، وَالضِّيَافَةِ، وَالْجَائِزَةُ أَوْكَدُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَوْجَبَ الضِّيَافَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: مِنْهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى، وَالْآمِدِيُّ، وَمَا بَعْدَ الثَّلَاثِ، فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الضِّيَافَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ الْأُولَى، وَرَدَّهُ أَحْمَدُ بِقَوْلِهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ» ، وَلَوْ كَانَ كَمَا ظَنَّ هَذَا، لَكَانَ أَرْبَعَةً. قُلْتُ: وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] إِلَى قَوْلِهِ: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 10] [فُصِّلَتْ: 9 - 10] وَالْمُرَادُ فِي تَمَامِ الْأَرْبَعَةِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ، وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيُحْسِنْ قِرَى ضَيْفِهِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا قِرَى الضَّيْفِ؟ قَالَ: ثَلَاثٌ، فَمَا كَانَ بَعْدُ، فَهُوَ صَدَقَةٌ» . قَالَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ: عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّفَ لَهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنَ الطَّعَامِ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُهُ هُوَ وَعِيَالُهُ، وَفِي تَمَامِ الثَّلَاثِ يُطْعِمُهُمْ مِنْ طَعَامِهِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ سَلْمَانَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّكَلُّفِ لِلضَّيْفِ، وَنَقَلَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ يُكْرِمُهُ وَيُتْحِفُهُ وَيَخُصُّهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ضِيَافَةً، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمْتَنِعُ مِنَ الْأَكْلِ مِنْ مَالِ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَيَأْمُرُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ. وَلِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ أَنْ يَأْمُرَ الضَّيْفَ بِالتَّحَوُّلِ عَنْهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ، لِأَنَّهُ قَضَى مَا عَلَيْهِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُخْرِجَهُ» يَعْنِي يُقِيمَ عِنْدَهُ حَتَّى يُضَيِّقَ عَلَيْهِ، لَكِنْ هَلْ هَذَا فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ أَمْ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا؟ فَأَمَّا فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ، وَأَمَّا فِي مَا هُوَ وَاجِبٌ وَهُوَ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ فَيَنْبَنِى عَلَى أَنَّهُ هَلْ تَجِبُ الضِّيَافَةُ عَلَى مَنْ لَا يَجِدُ شَيْئًا أَمْ لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ وَجَدَ مَا يُضِيفُ بِهِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَجِدُ مَا يُضِيفُ بِهِ - وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، مِنْهُمْ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ - لَمْ يَحِلَّ لِلضَّيْفِ أَنْ يَسْتَضِيفَ مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ ضِيَافَتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَكَلَّفَ لِلضَّيْفِ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا» فَإِذَا نُهِيَ الْمُضِيفُ أَنْ يَتَكَلَّفَ لِلضَّيْفِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْمُوَاسَاةُ لِلضَّيْفِ إِلَّا بِمَا عِنْدَهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَضْلٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا إِذَا آثَرَ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا فَعَلَ الْأَنْصَارِيُّ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] [الْحَشْرِ: 9] فَذَلِكَ مَقَامُ فَضْلٍ وَإِحْسَانٍ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.

وَلَوْ عَلِمَ الضَّيْفُ أَنَّهُمْ لَا يُضِيفُونَهُ إِلَّا بِقُوَّتِهِمْ وَقُوتِ صِبْيَانِهِمْ، وَأَنَّ الصِّبْيَةَ يَتَأَذَّوْنَ بِذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لَهُ اسْتِضَافَتُهُمْ حِينَئِذٍ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ حَتَّى يُخْرِجَهُ» . وَأَيْضًا فَالضِّيَافَةُ نَفَقَةٌ وَاجِبَةٌ، فَلَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ عِنْدَهُ فَضْلٌ، عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ، كَنَفَقِهِ الْأَقَارِبِ، وَزَكَاةِ الْفِطْرِ. وَقَدْ أَنْكَرَ الْخَطَّابِيُّ تَفْسِيرَ تَأْثِيمِهِ بِأَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ، وَقَالَ: أَرَاهُ غَلَطًا، وَكَيْفَ يَأْثَمُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَتَّسِعُ لِقِرَاهُ، وَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إِلَيْهِ؟ وَإِنَّمَا الْكُلْفَةُ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ، قَالَ: وَإِنَّمَا وَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَرِهَ لَهُ الْمُقَامَ عِنْدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ لِئَلَّا يَضِيقَ صَدْرُهُ بِمَكَانِهِ، فَتَكُونُ الصَّدَقَةُ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْمَنِّ وَالْأَذَى فَيَبْطُلُ أَجْرَهُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ تَفْسِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ بِمَا أَنْكَرَهُ، وَإِنَّمَا وَجْهُهُ أَنَّهُ أَقَامَ عِنْدَهُ وَلَاشَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ بِهِ، فَرُبَّمَا دَعَاهُ ضِيقُ صَدْرِهِ بِهِ، وَحَرَّجَهُ إِلَى مَا يَأْثَمُ بِهِ فِي قَوْلٍ، أَوْ فِعْلٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِتَرْكِ قِرَاهُ مَعَ عَجْزِهِ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[الحديث السادس عشر أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني قال لا تغضب]

[الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصِنِي قَالَ لَا تَغْضَبْ]

الْحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصِنِي، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: لَا تَغْضَبْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْحُصَيْنِ الْأَسَدِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ مُسْلِمٌ، لِأَنَّ الْأَعْمَشَ رَوَاهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِهِ فَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، كَقَوْلِ أَبِي حُصَيْنٍ، وَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعِنْدَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ، وَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ جَابِرٍ، وَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرِ مُسَمًّى. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حُصَيْنٍ أَيْضًا وَلَفْظُهُ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا وَلَا تُكْثِرْ عَلَيَّ لَعَلِّي أَعِيهِ، قَالَ: لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ ذَلِكَ مِرَارًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا تَغْضَبْ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِغَيْرِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَلَا تُكْثِرْ عَلَيَّ قَالَ: لَا تَغْضَبْ» . فَهَذَا الرَّجُلُ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوصِيَهُ وَصِيَّةً وَجِيزَةً جَامِعَةً لِخِصَالِ

الْخَيْرِ، لِيَحْفَظَهَا عَنْهُ خَشْيَةَ أَنْ لَا يَحْفَظَهَا لِكَثْرَتِهَا، فَوَصَّاهُ النَّبِيُّ أَنْ لَا يَغْضَبُ، ثُمَّ رَدَّدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَيْهِ مِرَارًا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَدِّدُ عَلَيْهِ هَذَا الْجَوَابَ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَضَبَ جِمَاعُ الشَّرِّ، وَأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ جِمَاعُ الْخَيْرِ. وَلَعَلَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَقَدْ خَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: لَا تَغْضَبْ وَلَكَ الْجَنَّةُ» . وَقَدْ رَوَى الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ عَمِّهِ جَارِيَةَ بْنِ قُدَامَةَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي قَوْلًا، وَأَقْلِلْ عَلَيَّ لَعَلِّي أَعْقِلُهُ، " قَالَ لَا تَغْضَبْ " فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِرَارًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: " لَا تَغْضَبْ» خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَنَّ جَارِيَةَ بْنَ قُدَامَةَ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. فَهَذَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ السَّائِلَ هُوَ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ، وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ أَنَّهُ قَالَ: هَكَذَا قَالَ هِشَامٌ، يَعْنِي: أَنَّ هِشَامًا ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ جَارِيَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ يَحْيَى: وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَا قَالَ الْعِجْلِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ تَابِعِيٌّ وَلَيْسَ بِصَحَابِيٍّ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ

رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: لَا تَغْضَبْ قَالَ الرَّجُلُ: فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ، فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ» وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ مُرْسَلًا. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: لَا تَغْضَبْ» . وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ: فَفَكَّرْتُ فِيمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْغَضَبَ جِمَاعُ الشَّرِّ، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: الْغَضَبُ مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ. وَقِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: اجْمَعْ لَنَا حُسْنَ الْخُلُقِ فِي كَلِمَةٍ، قَالَ: تَرْكُ الْغَضَبِ. وَكَذَا فَسَّرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ حُسْنَ الْخُلُقِ بِتَرْكِ الْغَضَبِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا، خَرَّجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ " الصَّلَاةِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ الشِّخِّيرِ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: " حُسْنُ الْخُلُقِ " ثُمَّ أَتَاهُ عَنْ يَمِينِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ فَقَالَ: " حُسْنُ الْخُلُقِ "، ثُمَّ أَتَاهُ عَنْ شِمَالِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: حُسْنُ الْخُلُقِ ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ بَعْدِهِ، يَعْنِي: مِنْ خَلْفِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَالَكَ لَا تَفْقَهُ! حُسْنُ الْخُلُقِ هُوَ أَنْ لَا تَغْضَبَ إِنِ اسْتَطَعْتَ» . وَهَذَا مُرْسَلٌ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنِ اسْتَوْصَاهُ: لَا تَغْضَبْ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْأَمْرَ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تُوجِبُ حُسْنَ الْخُلُقِ مِنَ الْكَرَمِ وَالسَّخَاءِ وَالْحِلْمِ وَالْحَيَاءِ وَالتَّوَاضُعِ وَالِاحْتِمَالِ وَكَفِّ الْأَذَى، وَالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَالطَّلَاقَةِ وَالْبِشْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا تَخَلَّقَتْ بِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ، وَصَارَتْ لَهَا عَادَةً أَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ دَفْعَ الْغَضَبِ عِنْدَ حُصُولِ أَسْبَابِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا تَعْمَلْ بِمُقْتَضَى الْغَضَبِ إِذَا حَصَلَ لَكَ، بَلْ جَاهِدْ نَفْسَكَ عَلَى تَرْكِ تَنْفِيذِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، فَإِنَّ الْغَضَبَ إِذَا مَلَكَ ابْنَ آدَمَ كَانَ الْآمِرَ وَالنَّاهِيَ لَهُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف: 154] [الْأَعْرَافِ: 154] فَإِذَا لَمْ يَمْتَثِلِ الْإِنْسَانُ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ غَضَبُهُ، وَجَاهَدَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، انْدَفَعَ عَنْهُ شَرُّ الْغَضَبِ، وَرُبَّمَا سَكَنَ غَضَبُهُ، وَذَهَبَ عَاجِلًا، فَكَأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَغْضَبْ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] [الشُّورَى: 37] ، وَبِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] [آلِ عِمْرَانَ: 134] . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ مَنْ غَضِبَ بِتَعَاطِي أَسْبَابٍ تَدْفَعُ عَنْهُ الْغَضَبَ، وَتُسَكِّنُهُ، وَيَمْدَحُ مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ عِنْدَ غَضَبِهِ فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ قَالَ: «اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا، لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «أَلَّا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَفَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ، وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ، فَمَنْ أَحَسَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَلْزَقْ بِالْأَرْضِ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ، فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ» . وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى فِي هَذَا أَنَّ الْقَائِمَ مُتَهَيِّئٌ، لِلِانْتِقَامِ، وَالْجَالِسُ دُونَهُ فِي ذَلِكَ، وَالْمُضْطَجِعُ أَبْعَدُ عَنْهُ، فَأَمَرَهُ بِالتَّبَاعُدِ عَنْ حَالَةِ الِانْتِقَامِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ سِنَانِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الْغَضَبُ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ تَوَقَّدُ أَلَا تَرَى إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ، فَإِذَا أَحَسَّ أَحَدُكُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَلْيَجْلِسْ، وَلَا يَعْدُوَنَّهُ الْغَضَبُ» ". وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يَحْبِسُهُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُعَدِّيهِ إِلَى غَيْرِهِ بِالْأَذَى بِالْفِعْلِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتَنِ: " «إِنَّ الْمُضْطَجِعَ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَاعِدِ، وَالْقَاعِدَ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمَ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي» " وَإِنْ

كَانَ هَذَا عَلَى وَجْهِ ضَرْبِ الْمِثَالِ فِي الْإِسْرَاعِ فِي الْفِتَنِ، إِلَّا أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْإِسْرَاعِ فِيهَا، فَهُوَ شَرٌّ مِمَّنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنْ ذَلِكَ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْكُتْ، قَالَهَا ثَلَاثًا» . وَهَذَا أَيْضًا دَوَاءٌ عَظِيمٌ لِلْغَضَبِ، لِأَنَّ الْغَضْبَانَ يَصْدُرُ مِنْهُ فِي حَالِ غَضَبِهِ مِنَ الْقَوْلِ مَا يَنْدَمُ عَلَيْهِ فِي حَالِ زَوَالِ غَضَبِهِ كَثِيرًا مِنَ السِّبَابِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَعْظُمُ ضَرَرُهُ، فَإِذَا سَكَتَ زَالَ هَذَا الشَّرُّ كُلُّهُ عَنْهُ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا امْتَلَأْتُ غَيْظًا قَطُّ وَلَا تَكَلَّمْتُ فِي غَضَبٍ قَطُّ بِمَا أَنْدَمُ عَلَيْهِ إِذَا رَضِيتُ. وَغَضِبَ يَوْمًا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ مَا أَعْطَاكَ اللَّهُ وَفَضَّلَكَ بِهِ تَغْضَبُ هَذَا الْغَضَبَ؟ فَقَالَ لَهُ: أَوَمَا تَغْضَبُ يَا عَبْدَ الْمَلِكِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَمَا يُغْنِي عَنِّي سَعَةُ جَوْفِي إِذَا لَمْ أُرَدِّدْ فِيهِ الْغَضَبُ حَتَّى لَا يَظْهَرَ؟ فَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ مَلَكُوا أَنْفُسَهُمْ عِنْدَ الْغَضَبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّعْدِيِّ أَنَّهُ كَلَّمَهُ رَجُلٌ فَأَغْضَبَهُ، فَقَامَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي عَطِيَّةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَتَوَضَّأْ» ".

وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ أَنَّهُ كَلَّمَ مُعَاوِيَةَ بِشَيْءٍ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَغَضِبَ ثُمَّ نَزَلَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ، وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَالشَّيْطَانُ مِنَ النَّارِ، وَالْمَاءُ يُطْفِئُ النَّارَ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَغْتَسِلْ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَإِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟ قُلْنَا: الَّذِي لَا تَصْرَعُهُ الرِّجَالُ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ

جُرْعَةً أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ، مَا كَظَمَ عَبْدٌ لِلَّهِ إِلَّا مَلَأَ اللَّهُ جَوْفَهُ إِيمَانًا» وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " «مَلَأَهُ اللَّهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا» ". وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى سَلْمَانَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: لَا تَغْضَبْ، قَالَ أَمَرْتَنِي أَنْ لَا أَغْضَبَ وَإِنَّهُ لَيَغْشَانِي مَا لَا أَمْلِكُ، قَالَ: فَإِنْ غَضِبْتَ، فَامْلِكْ لِسَانَكَ وَيَدَكَ خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَمِلْكُ لِسَانِهِ وَيَدِهِ هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ لِمَنْ غَضِبَ أَنْ يَجْلِسَ، وَيَضْطَجِعَ وَبِأَمْرِهِ لَهُ أَنْ يَسْكُتَ. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ عُصِمَ مِنَ الْهَوَى، وَالْغَضَبِ، وَالطَّمَعِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَحَرَّمَهُ عَلَى النَّارِ: مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ عِنْدَ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ. وَهَذِهِ الْأَرْبَعُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَسَنُ هِيَ مَبْدَأُ الشَّرِّ كُلِّهِ، فَإِنَّ الرَّغْبَةَ فِي الشَّيْءِ هِيَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَيْهِ لِاعْتِقَادِ نَفْعِهِ، فَمَنْ حَصَلَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي شَيْءٍ، حَمَلَتْهُ تِلْكَ

الرَّغْبَةُ عَلَى طَلَبِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَظُنُّهُ مُوَصِّلًا إِلَيْهِ؛ وَقَدْ يَكُونُ كَثِيرٌ مِنْهَا مُحَرَّمًا؛ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ الْمَرْغُوبُ فِيهِ مُحَرَّمًا. وَالرَّهْبَةُ: هِيَ الْخَوْفُ مِنَ الشَّيْءِ، وَإِذَا خَافَ الْإِنْسَانُ مِنْ شَيْءٍ تَسَبَّبَ فِي دَفْعِهِ عَنْهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ يَظُنُّهُ دَافِعًا لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ كَثِيرٌ مِنْهَا مُحَرَّمًا. وَالشَّهْوَةُ: هِيَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى مَا يُلَائِمُهَا، وَتَلْتَذُّ بِهِ، وَقَدْ تَمِيلُ كَثِيرًا إِلَى مَا هُوَ مُحَرَّمٌ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَإِلَى الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ وَالنِّفَاقِ وَالْبِدَعِ. وَالْغَضَبُ: هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ طَلَبًا لِدَفْعِ الْمُؤْذِي عِنْدَ خَشْيَةِ وُقُوعِهِ، أَوْ طَلَبًا لِلِانْتِقَامِ مِمَّنْ حَصَلَ لَهُ مِنْهُ الْأَذَى بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَيَنْشَأُ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ وَأَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ؛ وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْقَذْفِ وَالسَّبِّ وَالْفُحْشِ، وَرُبَّمَا ارْتَقَى إِلَى دَرَجَةِ الْكُفْرِ، كَمَا جَرَى لِجَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ، وَكَالْأَيْمَانِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الْتِزَامُهَا شَرْعًا، وَكَطَلَاقِ الزَّوْجَةِ الَّذِي يُعْقِبُ النَّدَمَ. وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ تَكُونَ شَهْوَتُهُ مَقْصُورَةً عَلَى طَلَبِ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ، وَرُبَّمَا تَنَاوَلَهَا بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ، فَأُثِيبَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يَكُونَ غَضَبُهُ دَفْعًا لِلْأَذَى فِي الدِّينِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ وَانْتِقَامًا مِمَّنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ - وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14 - 15] [التَّوْبَةِ: 14 - 15] . وَهَذِهِ كَانَتْ حَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ إِذَا انْتُهِكَتْ

حُرُمَاتُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ وَلَمْ يَضْرِبْ بِيَدِهِ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. «وَخَدَمَهُ أَنَسٌ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لَهُ: " أُفٍّ " قَطُّ، وَلَا قَالَ لَهُ لِشَيْءٍ فَعَلَهُ: " لِمَ فَعَلْتَ كَذَا "، وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ يَفْعَلْهُ: " أَلَا فَعَلْتَ كَذَا» وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا لَامَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «دَعُوهُ فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ كَانَ» " وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ قَالَ أَنَسٌ: «خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا دَرَيْتُ شَيْئًا قَطُّ وَافَقَهُ، وَلَا شَيْئًا خَالَفَهُ رَضًى مِنَ اللَّهِ بِمَا كَانَ» . «وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» ، تَعْنِي: أَنَّهُ تَأَدَّبَ بِآدَابِهِ، وَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِهِ، فَمَا مَدَحَهُ الْقُرْآنُ، كَانَ فِيهِ رِضَاهُ، وَمَا ذَمَّهُ الْقُرْآنُ، كَانَ فِيهِ سُخْطُهُ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ يَرْضَى لِرِضَاهُ وَيَسْخَطُ لِسُخْطِهِ» . وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشِدَّةِ حَيَائِهِ لَا يُوَاجِهُ أَحَدًا بِمَا يَكْرَهُ، بَلْ تَعْرِفُ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ، كَمَا فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ، عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ» . وَلَمَّا بَلَّغَهُ ابْنُ

مَسْعُودٍ قَوْلَ الْقَائِلِ: «هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، شَقَّ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، وَغَضِبَ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ: لَقَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» . وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى، أَوْ سَمِعَ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، غَضِبَ لِذَلِكَ، وَقَالَ فِيهِ، وَلَمْ يَسْكُتْ، وَقَدْ «دَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ فَرَأَى سِتْرًا فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ وَهَتَكَهُ، وَقَالَ: إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ» . وَلَمَّا شُكِيَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ الَّذِي يُطِيلُ بِالنَّاسِ صِلَاتَهُ حَتَّى يَتَأَخَّرَ بَعْضُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ مَعَهُ، غَضِبَ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، وَوَعَظَ النَّاسَ، وَأَمَرَ بِالتَّخْفِيفِ. «وَلَمَّا رَأَى النُّخَامَةَ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، تَغَيَّظَ، وَحَكَّهَا، وَقَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللَّهَ حِيَالَ وَجْهِهِ، فَلَا يَتَنَخَّمَنَ حِيَالَ وَجْهِهِ فِي الصَّلَاةِ» .

وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «أَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا» " وَهَذَا عَزِيزٌ جِدًّا، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقُولُ سِوَى الْحَقِّ سَوَاءً غَضِبَ أَوْ رَضِيَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ إِذَا غَضِبَ لَا يَتَوَقَّفُ فِيمَا يَقُولُ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْإِيمَانِ: مَنْ إِذَا غَضِبَ لَمْ يُدْخِلْهُ غَضَبُهُ فِي بَاطِلٍ، وَمَنْ إِذَا رَضِيَ، لَمْ يُخْرِجْهُ رِضَاهُ مِنْ حَقٍّ، وَمَنْ إِذَا قَدَرَ، لَمْ يَتَعَاطَ مَا لَيْسَ لَهُ» ". وَقَدْ رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَنَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَابِدًا، وَكَانَ الْآخَرُ مُسْرِفًا عَلَى نَفْسِهِ، وَكَانَ الْعَابِدُ يَعِظُهُ، فَلَا يَنْتَهِي، فَرَآهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، فَغَفَرَ لِلْمُذْنِبِ، وَأَحْبَطَ عَمَلَ الْعَابِدِ» . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَقَدْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَذِّرُ النَّاسَ أَنَّ يَقُولُوا مِثْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي غَضَبٍ وَقَدْ خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ

وَأَبُو دَاوُدَ، فَهَذَا غَضِبَ لِلَّهِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فِي حَالِ غَضَبِهِ لِلَّهِ بِمَا لَا يَجُوزُ، وَحَتَّمَ عَلَى اللَّهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ، فَأَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ تَكَلَّمَ فِي غَضَبِهِ لِنَفْسِهِ، وَمُتَابَعَةِ هَوَاهُ بِمَا لَا يَجُوزُ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " «عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ، فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: خُذُوا مَتَاعَهَا وَدَعُوهَا» . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاضِحٍ لَهُ، فَتَلَّدَنَ عَلَيْهِ بَعْضَ التَّلَدُّنِ، فَقَالَ لَهُ: سِرْ، لَعَنَكَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْزِلْ عَنْهُ، فَلَا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ، لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ» . فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دُعَاءَ الْغَضْبَانِ قَدْ يُجَابُ إِذَا صَادَفَ سَاعَةَ إِجَابَةٍ، وَأَنَّهُ يُنْهَى عَنِ الدُّعَاءِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ فِي الْغَضَبِ. وَأَمَّا مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] [يُونُسَ: 11] ، قَالَ: هُوَ الْوَاصِلُ لِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ إِذَا غَضِبَ عَلَيْهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُبَارِكْ فِيهِ، اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، يَقُولُ: لَوْ عُجِّلَ لَهُ ذَلِكَ، لَأَهْلَكَ مَنْ دَعَا عَلَيْهِ، فَأَمَاتَهُ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَجَابُ

جَمِيعُ مَا يَدْعُو بِهِ الْغَضْبَانُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُسْتَجَابُ لِمُصَادَفَتِهِ سَاعَةَ إِجَابَةٍ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ: ثَلَاثَةٌ لَا يُلَامُونَ عَلَى غَضَبٍ: الصَّائِمُ وَالْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ، وَعَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: يُوحِي اللَّهُ إِلَى الْحَافِظَيْنِ اللَّذَيْنِ مَعَ ابْنِ آدَمَ: لَا تَكْتُبَا عَلَى عَبْدِي فِي ضَجَرِهِ شَيْئًا، وَعَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ: إِنَّ الْمَرِيضَ إِذَا جَزِعَ فَأَذْنَبَ، قَالَ الْمَلَكُ الَّذِي عَلَى الْيَمِينِ لِلْمَلَكِ الَّذِي عَلَى الشِّمَالِ: لَا تَكْتُبْ، خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، فَهَذَا كُلُّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ صَحِيحٌ مِنَ الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ قَبْلُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَضْبَانَ مُكَلَّفٌ فِي حَالِ غَضَبِهِ بِالسُّكُوتِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مُؤَاخَذًا بِالْكَلَامِ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ مَنْ غَضِبَ أَنْ يَتَلَافَى غَضَبَهُ بِمَا يُسَكِّنُهُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ التَّكْلِيفِ لَهُ بِقَطْعِ الْغَضَبِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فِي حَالِ غَضَبِهِ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: مَا أَبْكَى الْعُلَمَاءَ بُكَاءٌ آخِرَ الْعُمُرِ مِنْ غَضْبَةٍ يَغْضَبُهَا أَحَدُهُمْ فَتَهْدِمُ عُمُرَ خَمْسِينَ سَنَةً، أَوْ سِتِّينَ سَنَةً، أَوْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَرُبَّ غَضْبَةٍ قَدْ أَقْحَمَتْ صَاحِبَهَا مُقْحَمًا مَا اسْتَقَالَهُ. خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. ثُمَّ إِنَّ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ الْغَضْبَانَ إِذَا كَانَ سَبَبُ غَضَبِهِ مُبَاحًا، كَالْمَرَضِ، أَوِ السَّفَرِ، أَوْ طَاعَةً كَالصَّوْمِ، لَا يُلَامُ عَلَيْهِ إِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِمَّا يَقَعُ مِنْهُ فِي حَالِ الْغَضَبِ كَثِيرًا مِنْ كَلَامٍ يُوجِبُ تَضَجُّرًا أَوْ سَبًّا وَنَحْوَهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ

الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَبَبْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَةً» . فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ كُفْرٍ، أَوْ رِدَّةٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ، أَوْ أَخْذِ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا لَا يَشُكُّ مُسْلِمٌ أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا أَنَّ الْغَضْبَانَ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَا يَقَعُ مِنَ الْغَضْبَانِ مِنْ طَلَاقٍ وَعِتَاقٍ، أَوْ يَمِينٍ، فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِذَلِكَ كُلِّهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ "، «عَنْ خُوَيْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهَا رَاجَعَتْ زَوْجَهَا، فَغَضِبَ، فَظَاهَرَ مِنْهَا وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ وَضَجِرَ، وَأَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَتْ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الظِّهَارِ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ» فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَخَرَّجَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: «أَنْ خُوَيْلَةَ غَضِبَ زَوْجُهَا فَظَاهَرَ مِنْهَا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ، وَقَالَتْ: إِنَّهُ لَمْ يُرِدِ الطَّلَاقَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَرَاكِ إِلَّا حَرُمْتِ عَلَيْهِ» ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا، وَفِي آخِرِهَا، قَالَ: فَحَوَّلَ اللَّهُ الطَّلَاقَ، فَجَعَلَهُ ظِهَارًا. فَهَذَا الرَّجُلُ ظَاهَرَ فِي حَالِ غَضَبِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى حِينَئِذٍ أَنَّ الظِّهَارَ طَلَاقٌ، وَقَدْ قَالَ: إِنَّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، يَعْنِي: لَزِمَهُ الطَّلَاقُ، فَلَمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ ظِهَارًا مُكَفَّرًا أَلْزَمَهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَلَمْ يَلْغِهِ. وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي ثَلَاثًا وَأَنَا

غَضْبَانُ، فَقَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحِلَّ لَكَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، عَصَيْتَ رَبَّكَ وَحَرُمَتْ عَلَيْكَ امْرَأَتُكَ خَرَّجَهُ الْجَوْزَجَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَخَرَّجَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اللَّغْوُ فِي الْأَيْمَانِ مَا كَانَ فِي الْمِرَاءِ وَالْهَزْلِ وَالْمُزَاحَةِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي لَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ، وَأَيْمَانُ الْكَفَّارَةِ عَلَى كُلِّ يَمِينٍ حَلَفْتَ عَلَيْهَا عَلَى جِدٍّ مِنَ الْأَمْرِ فِي غَضَبٍ أَوْ غَيْرِهِ: لَتَفْعَلَنَّ أَوْ لَتَتْرُكَنَّ، فَذَلِكَ عَقْدُ الْأَيْمَانِ فِيهَا الْكَفَّارَةُ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ الْأَسَانِيدِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنْهَا مَرْفُوعًا: " «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» " إِمَّا أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، أَوْ أَنَّ تَفْسِيرَهُ

بِالْغَضَبِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَقَدْ صَحَّ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَفْتَوْا أَنَّ يَمِينَ الْغَضْبَانِ مُنْعَقِدَةٌ وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ، قَالَ الْحَسَنُ: طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ، فَإِنْ بِدَا لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا كَانَ أَمْلَكَ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ غَضْبَانَ، فَفِي ثَلَاثِ حِيَضٍ، أَوْ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ مَا يُذْهِبُ غَضَبَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: لَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لِئَلَّا يَنْدَمَ أَحَدٌ فِي طَلَاقٍ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ. خَرَّجَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ

وَقَدْ جَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْكِنَايَاتِ مَعَ الْغَضَبِ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ ظَاهِرًا؛ وَلَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهَا مَعَ الْغَضَبِ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْغَضَبَ مَعَ الْكِنَايَاتِ كَالنِّيَّةِ، فَأَوْقَعَ بِذَلِكَ الطَّلَاقَ فِي الْبَاطِنِ أَيْضًا، فَكَيْفَ يَجْعَلُ الْغَضَبَ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ صَرِيحِ الطَّلَاقِ.

[الحديث السابع عشر إن الله كتب الإحسان على كل شيء]

[الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرِ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ]

الْحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرِ عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ دُونَ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَتَرَكَهُ الْبُخَارِيُّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخَرِّجْ فِي " صَحِيحِهِ " لِأَبِي الْأَشْعَثِ شَيْئًا وَهُوَ شَامِيٌّ ثِقَةٌ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُحْسِنٌ فَأَحْسِنُوا، فَإِذَا قَتَلَ أَحَدُكُمْ، فَلْيُحْسِنْ مَقْتُولَهُ، وَإِذَا ذَبَحَ، فَلْيُحِدَّ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» خَرَّجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا حَكَمْتُمْ فَاعْدِلُوا، وَإِذَا قُلْتُمْ فَأَحْسِنُوا، فَإِنَّ اللَّهَ مُحْسِنٌ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» .

فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ فِي كِتَابِ " السِّيَرِ " عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» أَوْ قَالَ: " عَلَى كُلِّ خَلْقٍ " هَكَذَا خَرَّجَهَا مُرْسَلَةً، وَبِالشَّكِّ فِي " كُلِّ شَيْءٍ " أَوْ " كُلِّ خَلْقٍ " وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ الْإِحْسَانَ، فَيَكُونُ كُلُّ شَيْءٍ أَوْ كُلُّ مَخْلُوقٍ هُوَ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهِ، وَالْمَكْتُوبُ هُوَ الْإِحْسَانُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ كَتَبَ الْإِحْسَانَ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَيَكُونُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَذْكُورٍ، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ الْمُحْسَنُ إِلَيْهِ. وَلَفْظُ " الْكِتَابَةِ " يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ خِلَافًا لَبِعَضْهِمْ، وَإِنَّمَا اسْتِعْمَالُ لَفْظَةِ الْكِتَابَةِ فِي الْقُرْآنِ فِيمَا هُوَ وَاجِبٌ حَتْمٌ إِمَّا شَرْعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] [النِّسَاءِ: 103] ، وَقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] [الْبَقَرَةِ: 182] ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] [الْبَقَرَةِ: 216] ، أَوْ فِيمَا هُوَ وَاقِعٌ قَدَرًا لَا مَحَالَةَ، كَقَوْلِهِ: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] [الْمُجَادَلَةِ: 21] ، وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] [الْأَنْبِيَاءِ: 105] ، وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22]

[الْمُجَادَلَةِ: 22] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ: «إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ» وَقَالَ: " «أُمِرْتُ بِالسِّوَاكِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيَّ» "، وَقَالَ: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنَ الزِّنَا، فَهُوَ مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ» . وَحِينَئِذٍ فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي وُجُوبِ الْإِحْسَانِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] [النَّحْلِ: 90] وَقَالَ: {أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] [الْبَقَرَةِ: 195] . وَهَذَا الْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ تَارَةً يَكُونُ لِلْوُجُوبِ كَالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَرْحَامِ بِمِقْدَارِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْبِرُّ وَالصِّلَةُ وَالْإِحْسَانُ إِلَى الضَّيْفِ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ قِرَاهُ عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ. وَتَارَةً يَكُونُ لِلنَّدْبِ كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَنَحْوِهَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِحْسَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، لَكِنَّ إِحْسَانَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، فَالْإِحْسَانُ فِي الْإِتْيَانِ بِالْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ: الْإِتْيَانُ بِهَا عَلَى وَجْهِ كَمَالِ وَاجِبَاتِهَا، فَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْإِحْسَانِ فِيهَا وَاجِبٌ، وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فِيهَا بِإِكْمَالِ مُسْتَحَبَّاتِهَا فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.

وَالْإِحْسَانُ فِي تَرْكِ الْحُرُمَاتِ: الِانْتِهَاءُ عَنْهَا، وَتَرْكُ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120] [الْأَنْعَامِ: 120] . فَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْإِحْسَانِ فِيهَا وَاجِبٌ. وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ، فَأَنْ يَأْتِيَ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهِهِ مِنْ غَيْرِ تَسَخُّطٍ وَلَا جَزَعٍ. وَالْإِحْسَانُ الْوَاجِبُ فِي مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ وَمُعَاشَرَتِهِمْ: الْقِيَامُ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ حُقُوقِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْإِحْسَانُ الْوَاجِبُ فِي وِلَايَةِ الْخَلْقِ وَسِيَاسَتِهِمْ، الْقِيَامُ بِوَاجِبَاتِ الْوِلَايَةِ كُلِّهَا، وَالْقَدْرُ الزَّائِدُ عَلَى الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِحْسَانٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَالْإِحْسَانُ فِي قَتْلِ مَا يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ: إِزْهَاقُ نَفْسِهِ عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ وَأَسْهَلِهَا وَأَوْحَاهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي التَّعْذِيبِ، فَإِنَّهُ إِيلَامٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَعَلَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، أَوْ لِحَاجَتِهِ إِلَى بَيَانِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَقَالَ: «إِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ» وَالْقِتْلَةُ وَالذِّبْحَةُ بِالْكَسْرِ، أَيِ الْهَيْئَةُ، وَالْمَعْنَى: أَحْسِنُوا هَيْئَةَ الذَّبْحِ، وَهَيْئَةَ الْقَتْلِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِسْرَاعِ فِي إِزْهَاقِ النُّفُوسِ الَّتِي يُبَاحُ إِزْهَاقُهَا عَلَى أَسْهَلِ الْوُجُوهِ وَقَدْ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الْإِحْسَانِ فِي الذَّبِيحَةِ، وَأَسْهَلُ وُجُوهِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ عَلَى الْعُنُقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] [مُحَمَّدٍ: 4] ، وَقَالَ تَعَالَى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] [الْأَنْفَالِ: 12] وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ عَيَّنَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَكُونُ الضَّرْبُ فِيهِ أَسْهَلَ عَلَى الْمَقْتُولِ وَهُوَ فَوْقَ الْعِظَامِ وَدُونَ الدِّمَاغِ، وَوَصَّى دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ قَاتِلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ كَذَلِكَ.

«وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً تَغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ لَهُمْ: لَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَعَفُّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ» . وَخَرَّجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ» .

وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تُمَثِّلُوا بِعِبَادِي» . وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَثَّلٍ بِذِي رُوحٍ، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ، مَثَّلَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَتْلَ الْمُبَاحَ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا قِصَاصٌ، فَلَا يَجُوزُ التَّمْثِيلُ فِيهِ بِالْمُقْتَصِّ مِنْهُ، بَلْ يُقْتَلُ كَمَا قَتَلَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ مَثَّلَ بِالْمَقْتُولِ، فَهَلْ يُمَثَّلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ أَمْ لَا يُقْتَلُ إِلَّا بِالسَّيْفِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ

عَنْهُ وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ أَنْ قَالَ: «خَرَجَتْ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا أَوْضَاحٌ بِالْمَدِينَةِ، فَرَمَاهَا يَهُودِيٌّ بِحَجَرٍ، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَا رَمَقٌ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فُلَانٌ قَتَلَكِ؟ فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا، فَقَالَ لَهَا فِي الثَّالِثَةِ: فُلَانٌ قَتَلَكِ؟ فَخَفَضَتْ رَأْسَهَا، فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَضَخَ رَأْسَهُ بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: فَأُخِذَ فَاعْتَرَفَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَتَلَ جَارِيَةً مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى حُلِيٍّ لَهَا، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي الْقَلِيبِ، وَرَضَخَ رَأْسَهَا بِالْحِجَارَةِ، فَأُخِذَ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ حَتَّى يَمُوتَ، فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ» . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: يَفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَرَقَهُ بِالنَّارِ أَوْ مَثَّلَ بِهِ، فَيُقْتَلُ بِالسَّيْفِ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ وَعَنِ التَّحْرِيقِ بِالنَّارِ نَقَلَهَا عَنْهُ الْأَثْرَمُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ» " خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَإِسْنَادُهُ

ضَعِيفٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يُرْوَى " «لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ» " وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِجَيِّدٍ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ، يَعْنِي: فِي قَتْلِ الْيَهُودِيِّ بِالْحِجَارَةِ أَسْنَدُ مِنْهُ وَأَجْوَدُ. وَلَوْ مَثَّلَ بِهِ، ثُمَّ قَتَلَهُ مِثْلَ أَنْ قَطَعَ أَطْرَافَهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ، فَهَلْ يُكْتَفَى بِقَتْلِهِ أَمْ يُصْنَعُ بِهِ كَمَا صَنَعَ، فَيُقْطَعُ أَطْرَافُهُ ثُمَّ يُقْتَلُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ سَوَاءً، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ وَالثَّانِي: يُكْتَفَى بِقَتْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّعْذِيبِ، فُعِلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اكْتُفِيَ بِقَتْلِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ لِلْكُفْرِ، إِمَّا لِكُفْرٍ أَصْلِيٍّ، أَوْ لِرِدَّةٍ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ الْمُثْلَةِ فِيهِ أَيْضًا، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ فِيهِ بِالسَّيْفِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ جَوَازُ التَّمْثِيلِ فِيهِ بِالتَّحْرِيقِ بِالنَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا فَعَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَغَيْرُهُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ حَرَقَ الْفُجَاءَةَ بِالنَّارِ. وَرُوِيَ أَنَّ أُمَّ فَرْقَدٍ الْفَزَارِيَّةَ ارْتَدَّتْ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَأَمَرَ بِهَا، فَشُدَّتْ ذَوَائِبُهَا فِي أَذْنَابِ قَلُوصَيْنِ أَوْ فَرَسَيْنِ، ثُمَّ صَاحَ بِهِمَا فَتَقَطَّعَتِ الْمَرْأَةُ، وَأَسَانِيدُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مُتَقَطِّعَةٌ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي " طَبَقَاتِهِ " بِغَيْرِ إِسْنَادٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ قَتَلَهَا هَذِهِ الْقِتْلَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. وَصَحَّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ حَرَقَ الْمُرْتَدِّينَ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَحْرِقْهُمْ، وَإِنَّمَا دَخَّنَ عَلَيْهِمْ حَتَّى مَاتُوا، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ حَرَقَهُمْ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جِيءَ بِمُرْتَدٍّ، فَأُمِرَ بِهِ فَوُطِئَ بِالْأَرْجُلِ حَتَّى مَاتَ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ - مِنْ أَصْحَابِنَا - جَوَازَ الْقَتْلِ بِالتَّمْثِيلِ لِلْكُفْرِ لَا سِيَّمَا إِذَا

تَغَلَّظَ، وَحَمَلَ النَّهْيَ عَنِ الْمُثْلَةِ عَلَى الْقَتْلِ بِالْقِصَاصِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ، وَقَدْ خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «أَنَّ أُنَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَافْعَلُوا فَفَعَلُوا فَصَحُّوًا، ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرِّعَاءِ، فَقَتَلُوهُمْ، وَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَسَاقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَبَعَثَ فِي أَثَرِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ نُبِذُوا فِي الشَّمْسِ حَتَّى مَاتُوا» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَسُمِّرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: «قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسائِيِّ: وَصَلَبَهُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِ عُقُوبَةِ هَؤُلَاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ فَارْتَدَّ، وَحَارَبَ، وَأَخَذَ الْمَالَ، صُنِعَ بِهِ كَمَا صُنِعَ بِهَؤُلَاءِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ طَائِفَةٍ، مِنْهُمْ أَبُو قِلَابَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّمْثِيلِ مِمَّنْ تَغَلَّظَتْ جَرَائِمُهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنِ التَّمْثِيلِ فِي الْقِصَاصِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ نُسِخَ مَا فَعَلَ بِالْعُرَنِيِّينَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْحُدُودِ وَآيَةِ الْمُحَارَبَةِ، ثُمَّ نُسِخَ بِذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمُ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ إِنَّمَا كَانَ بِآيَةِ الْمُحَارَبَةِ، وَلَمْ يُنْسَخْ

شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ وَقَالُوا: إِنَّمَا قَتَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ، لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا الْمَالَ؛ وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ، قُطِعَ وَقُتِلَ، وَصُلِبَ حَتْمًا؛ فَيُقْتَلُ لِقَتْلِهِ وَيُقْطَعُ لِأَخْذِهِ الْمَالَ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَيُصْلَبُ لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْجِنَايَتَيْنِ وَهُمَا الْقَتْلُ وَأَخْذُ الْمَالِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَإِنَّمَا سَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ كَذَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ أَنَّهُمْ قَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَمَثَّلُوا بِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنَّهُمْ قَطَعُوا يَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَغَرَسُوا الشَّوْكَ فِي لِسَانِهِ وَعَيْنَيْهِ حَتَّى مَاتَ، وَحِينَئِذٍ، فَقَدْ يَكُونُ قَطْعُهُمْ، وَسَمْلُ أَعْيُنِهِمْ، وَتَعْطِيشُهُمْ قِصَاصًا، وَهَذَا يَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمُحَارِبَ إِذَا جَنَى جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ اسْتُوْفِيَتْ مِنْهُ قَبْلَ قَتْلِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ. لَكِنْ هَلْ يُسْتَوْفَى مِنْهُ تَحَتُّمًا كَقَتْلِهِ أَمْ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ، فَيَسْقُطُ بِعَفْوِ الْوَلِيِّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَلَكِنَّ رِوَايَةَ التِّرْمِذِيَّ أَنَّ قَطْعَهُمْ مِنْ خِلَافٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَطْعَهُمْ لِلْمُحَارَبَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَطَعُوا يَدَ الرَّاعِي وَرِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ أَذِنَ فِي التَّحْرِيقِ بِالنَّارِ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ» كَمَا فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْثٍ فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا - لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ - فَاحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ: إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تَحْرِقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا» . وَفِيهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» .

وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَرْنَا بِقَرْيَةِ نَمْلٍ قَدْ أُحْرِقَتْ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَقَدْ حَرَّقَ خَالِدُ جَمَاعَةً فِي الرِّدَّةِ، وَرُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ تَحْرِيقُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أَشَارَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَقْتُلَهُ ثُمَّ يَحْرِقَهُ بِالنَّارِ، وَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ لِئَلَّا يَكُونَ تَعْذِيبًا بِالنَّارِ. وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا ضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجِمٍ قَالَ: افْعَلُوا بِهِ كَمَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَلَ بِرَجُلٍ أَرَادَ قَتْلَهُ، قَالَ: «اقْتُلُوهُ ثُمَّ حَرِّقُوهُ» . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّحْرِيقِ بِالنَّارِ حَتَّى لِلْهَوَامِّ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: تَحْرِيقُ الْعَقْرَبِ بِالنَّارِ مُثْلَةٌ. وَنَهَتْ أَمُّ الدَّرْدَاءِ عَنْ تَحْرِيقِ الْبُرْغُوثِ بِالنَّارِ. وَقَالَ أَحْمَدُ لَا يُشْوَى السَّمَكُ فِي النَّارِ وَهُوَ حَيٌّ، وَقَالَ: الْجَرَادُ أَهْوَنُ، لِأَنَّهُ لَا دَمَ لَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَبْرِ الْبَهَائِمِ» ، وَهُوَ: أَنْ تُحْبَسَ الْبَهِيمَةُ ثُمَّ تُضْرَبَ بِالنَّبْلِ وَنَحْوِهِ حَتَّى تَمُوتَ، فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ» . وَفِيهِمَا أَيْضًا، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا» .

وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُتَّخَذَ شَيْءٌ فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا» ، وَالْغَرَضُ: هُوَ الَّذِي يُرْمَى فِيهِ بِالسِّهَامِ. وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الرَّمِيَّةِ: أَنْ تُرْمَى الدَّابَّةُ ثُمَّ تُؤْكَلُ " وَلَكِنْ تُذْبَحُ، ثُمَّ لِيَرْمُوا إِنْ شَاءُوا» وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. فَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِحْسَانِ الْقَتْلِ وَالذَّبْحِ، وَأَمَرَ أَنْ تُحَدَّ الشَّفْرَةُ، وَأَنْ تُرَاحَ الذَّبِيحَةُ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الذَّبْحَ بِالْآلَةِ الْحَادَّةِ يُرِيحُ الذَّبِيحَةَ بِتَعْجِيلِ زُهُوقِ نَفْسِهَا. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِّ الشِّفَارِ، وَأَنْ تُوَارَى عَنِ الْبَهَائِمِ، وَقَالَ: إِذَا ذَبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجْهِزْ» يَعْنِي: فَلْيُسْرِعِ الذَّبْحَ. وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالرِّفْقِ بِالذَّبِيحَةِ عِنْدَ ذَبْحِهَا. وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ وَهُوَ يَجُرُّ شَاةً بِأُذُنِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْ أُذُنَهَا وَخُذْ بِسَالِفَتِهَا» وَالسَّالِفَةُ: مُقَدَّمُ الْعُنُقِ. وَخَرَّجَ الْخَلَّالُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ وَاضِعٍ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَةِ شَاةٍ وَهُوَ يَحُدُّ شَفْرَتَهُ وَهِيَ تَلْحَظُ إِلَيْهِ بِبَصَرِهَا، فَقَالَ: أَفَلَا قَبْلَ هَذَا؟ تُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ؟» وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ

مُرْسَلًا خَرَّجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ: " «هَلَّا حَدَدْتَ شَفْرَتَكَ قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا» ". وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: تُقَادُ إِلَى الذَّبْحِ قَوْدًا رَفِيقًا، وَتُوَارَى السِّكِّينُ عَنْهَا، وَلَا تُظْهَرُ السِّكِّينُ إِلَّا عِنْدَ الذَّبْحِ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ أَنْ تُوَارَى الشِّفَارُ. وَقَالَ: مَا أُبْهِمَتْ عَلَيْهِ الْبَهَائِمُ فَلَمْ تُبْهَمْ أَنَّهَا تَعْرِفُ رَبَّهَا، وَتَعْرِفُ أَنَّهَا تَمُوتُ. وَقَالَ يُرْوَى عَنِ ابْنِ سَابِطٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْبَهَائِمَ جُبِلَتْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا أَنَّهَا تَعْرِفُ رَبَّهَا، وَتَخَافُ الْمَوْتَ. وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ عِنْدَ الذَّبْحِ، كَمَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ وَهِيَ الَّتِي تَذْبَحُ فَتَقْطَعُ الْجِلْدَ، وَلَا تَفْرِي الْأَوْدَاجَ» ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " وَعِنْدَهُ قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانُوا يَقْطَعُونَ مِنْهَا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ، ثُمَّ يَدَعُونَهَا حَتَّى تَمُوتَ، وَلَا يَقْطَعُونَ الْوَدَجَ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي كِتَابِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ: «إِنَّ جَزَّارًا فَتَحَ بَابًا عَلَى شَاةٍ لِيَذْبَحَهَا فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ حَتَّى جَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاتَّبَعَهَا فَأَخَذَ يَسْحَبُهَا بِرِجْلِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْبِرِي لِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَنْتَ يَا جَزَّارُ فَسُقْهَا إِلَى الْمَوْتِ سَوْقًا رَفِيقًا» . وَبِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ عُمَرَ رَأَى رَجُلًا يَسْحَبُ شَاةً بِرِجْلِهَا لِيَذْبَحَهَا،

فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ قُدْهَا إِلَى الْمَوْتِ قَوْدًا جَمِيلًا. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى قَصَّابًا يَجُرُّ شَاةً، فَقَالَ: سُقْهَا إِلَى الْمَوْتِ سَوْقًا جَمِيلًا، فَأَخْرَجَ الْقَصَّابُ شَفْرَتَهُ فَقَالَ: مَا أَسُوقُهَا سَوْقًا جَمِيلًا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَذْبَحَهَا السَّاعَةَ، فَقَالَ: سُقْهَا سَوْقًا جَمِيلًا. وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَذْبَحَ الشَّاةَ وَأَنَا أَرْحَمُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالشَّاةَ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ» . وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْحَمُ بِرَحْمَةِ الْعُصْفُورِ. وَقَالَ نَوْفٌ الْبَكَالِيُّ: إِنَّ رَجُلًا ذَبَحَ عِجَّوْلًا بَيْنَ يَدَيْ أُمِّهِ، فَخُبِّلَ، فَبَيْنَا هُوَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فِيهَا وَكْرٌ فِيهِ فَرْخٌ، فَوَقَعَ الْفَرْخُ إِلَى الْأَرْضِ، فَرَحِمَهُ فَأَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ قُوَّتَهُ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُوَلَّهَ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا» ، وَهُوَ عَامٌّ فِي بَنِي آدَمَ وَغَيْرِهِمْ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْفَرَعِ، فَقَالَ: " هُوَ حَقٌّ وَأَنْ تَتْرُكُوهُ حَتَّى يَكُونَ بِكْرًا ابْنَ مَخَاضٍ، أَوِ ابْنَ لَبُونٍ، فَتُعْطِيَهِ أَرْمَلَةً، أَوْ تَحْمِلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذْبَحَهُ فَيُلْصَقَ لَحْمُهُ بِوَبَرِهِ، وَتُكْفِئَ إِنَاءَكَ وَتُوَلِّهَ نَاقَتَكَ» .

وَالْمَعْنَى: أَنَّ وَلَدَ النَّاقَةِ إِذَا ذُبِحَ وَهُوَ صَغِيرٌ عِنْدَ وِلَادَتِهِ لَمْ يُنْتَفَعْ بِلَحْمِهِ، وَتَضَرَّرَ صَاحِبُهُ بِانْقِطَاعِ لَبَنِ نَاقَتِهِ، فَتُكْفِئُ إِنَاءَهُ وَهُوَ الْمَحْلَبُ الَّذِي تَحْلِبُ فِيهِ النَّاقَةُ، وَتُوَلَّهُ النَّاقَةُ عَلَى وَلَدِهَا بِفَقْدِهَا إِيَّاهُ.

[الحديث الثامن عشر اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها]

[الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا]

الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَخَرَّجَهُ أَيْضًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ مَيْمُونٍ، عَنْ مُعَاذٍ، وَذَكَرَ عَنْ شَيْخِهِ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ أَصَحُّ. فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ وَقِيلَ فِيهِ: عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ مَيْمُونٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَّى بِذَلِكَ، مُرْسَلًا، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ هَذَا الْمُرْسَلَ. وَقَدْ حَسَّنَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ، وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ تَصْحِيحِهِ، فَبَعِيدٌ، وَلَكِنَّ الْحَاكِمَ خَرَّجَهُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَهُوَ وَهَمٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَيْمُونَ بْنَ أَبِي شَبِيبٍ، وَيُقَالُ: ابْنُ شَبِيبٍ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " شَيْئًا، وَلَا مُسْلِمٌ إِلَّا فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ حَدِيثًا عَنِ

الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَيْمُونَ بْنَ أَبِي شَبِيبٍ لَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ الْفَلَّاسُ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ " سَمِعْتُ " وَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّ أَحَدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعَائِشَةَ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ، وَلَمْ يَرَ عَلِيًّا، وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يُدْرِكْ مُعَاذًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَشَيْخُهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَتَّصِلُ إِلَّا بِصِحَّةِ اللُّقِيِّ، وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ رَأْيِ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَصَّى بِهَذِهِ الْوَصِيَّةَ مُعَاذًا وَأَبَا ذَرٍّ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، فَخَرَّجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، «عَنْ مُعَاذٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى قَوْمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: أَفْشِ السَّلَامَ، وَابْذُلِ الطَّعَامَ، وَاسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ اسْتِحْيَاءَ رَجُلٍ ذِي هَيْئَةٍ مِنْ أَهْلِكَ، وَإِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ، وَلْيَحْسُنْ خُلُقُكَ مَا اسْتَطَعْتَ» . وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «أَنَّ

مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَرَادَ سَفَرًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي قَالَ: اعْبُدِ اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: " إِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: " اسْتَقِمْ وَلْتُحْسِنْ خُلُقَكَ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، «عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِهِ، وَإِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ، وَلَا تَسْأَلَنَّ أَحَدًا شَيْئًا وَإِنْ سَقَطَ سَوْطُكَ، وَلَا تَقْبِضْ أَمَانَةً، وَلَا تَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ» . وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ «عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً، فَاعْمَلْ حَسَنَةً، فَإِنَّهَا عَشْرُ أَمْثَالِهَا قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنَ الْحَسَنَاتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: هِيَ أَحْسَنُ الْحَسَنَاتِ» . وَخَرَّجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: " يَا مُعَاذُ اتَّقِ اللَّهَ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً، فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً " فَقَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ؟ قَالَ: " هِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْحَسَنَاتِ» . وَقَدْ رُوِيَتْ وَصِيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ بِسِيَاقٍ مُطَوَّلٍ مِنْ وُجُوهٍ فِيهَا ضَعْفٌ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ: مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ ".

فَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ وَصِيَّةٌ عَظِيمَةٌ جَامِعَةٌ لِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَالتَّقْوَى وَصِيَّةُ اللَّهِ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] [النِّسَاءِ: 131] . وَأَصْلُ التَّقْوَى أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَخَافُهُ وَيَحْذَرُهُ وِقَايَةً تَقِيهِ مِنْهُ، فَتَقْوَى الْعَبْدِ لِرَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَخْشَاهُ مِنْ رَبِّهِ مِنْ غَضَبِهِ وَسُخْطِهِ وَعِقَابِهِ وِقَايَةً تَقِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ فِعْلُ طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابُ مَعَاصِيهِ. وَتَارَةً تُضَافُ التَّقْوَى إِلَى اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96] [الْمَائِدَةِ: 96] ، وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] [الْحَشْرِ: 18] ، فَإِذَا أُضِيفَتِ التَّقْوَى إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَالْمَعْنَى: اتَّقُوا سُخْطَهُ وَغَضَبَهُ، وَهُوَ أَعْظَمُ مَا يُتَّقَى، وَعَنْ ذَلِكَ يَنْشَأُ عِقَابُهُ الدُّنْيَوِيُّ وَالْأُخْرَوِيُّ، قَالَ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] [آلِ عِمْرَانَ: 28] ، وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] [الْمُدَّثِّرِ: 56] ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَهْلٌ أَنْ يُخْشَى وَيُهَابَ وَيُجَلَّ وَيُعَظَّمَ فِي صُدُورِ عِبَادِهِ حَتَّى يَعْبُدُوهُ وَيُطِيعُوهُ، لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَصِفَاتِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ وَقُوَّةِ الْبَطْشِ، وَشِدَّةِ الْبَأْسِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] [الْمُدَّثِّرِ: 56] قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى، فَمَنِ اتَّقَانِي فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إِلَهًا آخَرَ، فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ» .

وَتَارَةً تُضَافُ التَّقْوَى إِلَى عِقَابِ اللَّهِ وَإِلَى مَكَانِهِ، كَالنَّارِ، أَوْ إِلَى زَمَانِهِ، كَيَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] [آلِ عِمْرَانَ: 131] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] [الْبَقَرَةِ: 24] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ - وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 281 - 123] [الْبَقَرَةِ: 48، 123] . وَيَدْخُلُ فِي التَّقْوَى الْكَامِلَةِ فَعْلُ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، وَرُبَّمَا دَخَلَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِعْلُ الْمَنْدُوبَاتِ، وَتَرْكُ الْمَكْرُوهَاتِ، وَهِيَ أَعْلَى دَرَجَاتِ التَّقْوَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الم - ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 1 - 4] [الْبَقَرَةِ: 1 - 4] .

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] [الْبَقَرَةِ: 177] . قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَّقُونَ؟ فَيَقُومُونَ فِي كَنَفٍ مِنَ الرَّحْمَنِ لَا يَحْتَجِبُ مِنْهُمْ وَلَا يَسْتَتِرُ، قَالُوا لَهُ: مَنِ الْمُتَّقُونَ؟ قَالَ: قَوْمٌ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَأَخْلَصُوا لِلَّهِ بِالْعِبَادَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْهُدَى، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ فِي التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُتَّقُونَ اتَّقَوْا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَدَّوْا مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَيْسَ تَقْوَى اللَّهِ بِصِيَامِ النَّهَارِ، وَلَا بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَالتَّخْلِيطِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ تَقْوَى اللَّهِ تَرْكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَأَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ، فَمَنْ رُزِقَ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرًا، فَهُوَ خَيْرٌ إِلَى خَيْرٍ. وَقَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: التَّقْوَى أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ تَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ تَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: تَمَامُ التَّقْوَى أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ الْعَبْدُ حَتَّى يَتَّقِيَهُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَحَتَّى يَتْرُكَ بَعْضَ مَا يَرَى أَنَّهُ حَلَالٌ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا يَكُونُ حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ لِلْعِبَادِ الَّذِي يُصَيِّرُهُمْ إِلَيْهِ فَقَالَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7، 8] ، فَلَا تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ أَنْ تَفْعَلَهُ، وَلَا شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ أَنْ تَتَّقِيَهُ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا زَالَتِ التَّقْوَى بِالْمُتَّقِينَ حَتَّى تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الْحَرَامِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِنَّمَا سُمُّوا مُتَّقِينَ، لِأَنَّهُمُ اتَّقَوْا مَا لَا يُتَّقَى. وَقَالَ مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ: الْمُتَّقُونَ تَنَزَّهُوا عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعُوا فِي الْحَرَامِ، فَسَمَّاهُمُ اللَّهُ مُتَّقِينَ. وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ " «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بِأْسٌ» ". وَحَدِيثُ: " «مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» ". وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: الْمُتَّقِي أَشَدُّ مُحَاسَبَةً لِنَفْسِهِ مِنَ الشَّرِيكِ الشَّحِيحِ لِشَرِيكِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] [آلِ عِمْرَانَ: 102] ، قَالَ: أَنْ يُطَاعَ، فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ، فَلَا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَرَ، فَلَا يُكْفَرَ. وَخَرَّجَهُ الْحَاكِمُ مَرْفُوعًا وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَشُكْرُهُ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ فِعْلِ الطَّاعَاتِ.

وَمَعْنَى ذِكْرِهِ فَلَا يُنْسَى: ذِكْرُ الْعَبْدِ بِقَلْبِهِ لِأَوَامِرِ اللَّهِ فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ فَيَمْتَثِلُهَا، وَلِنَوَاهِيهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَيَجْتَنِبُهَا. وَقَدْ يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُ التَّقْوَى عَلَى اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَسُئِلَ عَنِ التَّقْوَى، فَقَالَ: هَلْ أَخَذْتَ طَرِيقًا ذَا شَوْكٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ صَنَعْتَ؟ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُ الشَّوْكَ عَدَلْتُ عَنْهُ، أَوْ جَاوَزْتُهُ، أَوْ قَصَّرْتُ عَنْهُ، قَالَ: ذَاكَ التَّقْوَى. وَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ الْمُعْتَزِّ فَقَالَ: خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا ... وَكَبِيرَهَا فَهُوَ التُّقَى وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ ... ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً ... إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى وَأَصْلُ التَّقْوَى: أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ مَا يُتَّقَى ثُمَّ يَتَّقِي، قَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: تَمَامُ التَّقْوَى أَنْ تَبْتَغِيَ عِلْمَ مَا لَمْ يُعْلَمُ مِنْهَا إِلَى مَا عُلِمَ مِنْهَا. وَذَكَرَ مَعْرُوفٌ الْكَرْخِيُّ عَنْ بَكْرِ بْنِ خُنَيْسٍ، قَالَ: كَيْفَ يَكُونُ مُتَّقِيًا مَنْ لَا يَدْرِي مَا يَتَّقِي؟ ثُمَّ قَالَ مَعْرُوفٌ: إِذَا كُنْتَ لَا تُحْسِنُ تَتَّقِي أَكَلْتَ الرِّبَا، وَإِذَا كُنْتَ لَا تُحْسِنُ تَتَّقِي لَقِيَتْكَ امْرَأَةٌ فَلَمْ تَغُضَّ بَصَرَكَ، وَإِذَا كُنْتَ لَا تُحْسِنُ تَتَّقِي وَضَعْتَ سَيْفَكَ عَلَى عَاتِقِكَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ: «إِذَا رَأَيْتَ أُمَّتِي قَدِ اخْتَلَفَتْ، فَاعْمَدْ إِلَى سَيْفِكَ فَاضْرِبْ بِهِ أُحُدًا» ثُمَّ قَالَ مَعْرُوفٌ: وَمَجْلِسِي هَذَا لَعَلَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّقِيَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَمَجِيئُكُمْ مَعِي مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى هَاهُنَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّقِيَهُ، أَلَيْسَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " «إِنَّهُ فِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ مَذَلَّةٌ لِلتَّابِعِ» "؟ يَعْنِي: مَشْيَ النَّاسِ خَلْفَ الرَّجُلِ.

وَفِي الْجُمْلَةِ، فَالتَّقْوَى هِيَ وَصِيَّةُ اللَّهِ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَوَصِيَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا. وَلَمَّا خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ وَصَّى النَّاسَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَبِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِأَئِمَّتِهِمْ. وَلَمَّا وَعَظَ النَّاسَ، قَالُوا لَهُ: كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا، قَالَ: «أُوصِيكُمْ

بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلِ الَّذِي خَرَّجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ رَأْسُ الْأَمْرِ كُلِّهِ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ «أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ، فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْإِسْلَامِ» ، وَخَرَّجَهُ غَيْرُهُ وَلَفْظُهُ: قَالَ: " «عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ» ". وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ سَلَمَةَ: أَنَّهُ «سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَمِعْتُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا فَأَخَافُ أَنْ يُنْسِيَنِي أَوَّلَهُ آخِرُهُ، فَحَدِّثْنِي بِكَلِمَةٍ تَكُونُ جِمَاعًا، قَالَ: اتَّقِ اللَّهَ فِيمَا تَعْلَمُ» . وَلَمْ يَزَلِ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَتَوَاصَوْنَ بِهَا، كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأَنْ تُثْنُوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ،

وَأَنْ تَخْلِطُوا الرَّغْبَةَ بِالرَّهْبَةِ، وَتَجْمَعُوا الْإِلْحَافَ بِالْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَثْنَى عَلَى زَكَرِيَّا وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] [الْأَنْبِيَاءِ: 90] . وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَعَهِدَ إِلَى عُمَرَ، دَعَاهُ، فَوَصَّاهُ بِوَصِيَّتِهِ، وَأَوَّلُ مَا قَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عُمَرُ. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّقَاهُ وَقَاهُ، وَمَنْ أَقْرَضَهُ جَزَاهُ، وَمَنْ شَكَرَهُ زَادَهُ، وَاجْعَلِ التَّقْوَى نُصْبَ عَيْنَيْكَ وَجَلَاءَ قَلْبِكَ. وَاسْتَعْمَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، فَقَالَ لَهُ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي لَابُدَّ لَكَ مِنْ لِقَائِهِ، وَلَا مُنْتَهَى لَكَ دُونَهُ وَهُوَ يَمْلِكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى رَجُلٍ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهَا، وَلَا يَرْحَمُ إِلَّا أَهْلَهَا، وَلَا يُثِيبُ إِلَّا عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْوَاعِظِينَ بِهَا كَثِيرٌ، وَالْعَامِلِينَ بِهَا قَلِيلٌ، جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَلَمَّا وُلِّىَ خَطَبَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَلَفٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ خَلَفٌ. وَقَالَ رَجُلٌ لِيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ: أَوْصِنِي، فَقَالَ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالْإِحْسَانِ. فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يُرِيدُ الْحَجَّ: أَوْصِنِي، فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ، فَمَنِ اتَّقَى اللَّهَ، فَلَا وَحْشَةَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ لِرَجُلٍ مِنَ التَّابِعِينَ عِنْدَ مَوْتِهِ: أَوْصِنَا، فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِخَاتِمَةِ سُورَةِ

النَّحْلِ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] [النَّحْلِ: 128] . وَكَتَبَ رَجُلٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَخٍ لَهُ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهَا أَكْرَمُ مَا أَسْرَرْتَ، وَأَزْيَنُ مَا أَظْهَرْتَ، وَأَفْضَلُ مَا ادَّخَرْتَ، أَعَانَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ عَلَيْهَا، وَأَوْجَبَ لَنَا وَلَكَ ثَوَابَهَا. وَكَتَبَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَى أَخٍ لَهُ: أُوصِيكَ وَأَنْفُسَنَا، بِالتَّقْوَى فَإِنَّهَا خَيْرُ زَادِ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، وَاجْعَلْهَا إِلَى كُلِّ خَيْرٍ سَبِيلَكَ، وَمِنْ كُلِّ شَرٍّ مَهْرَبَكَ، فَقَدْ تَوَكَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَهْلِهَا بِالنَّجَاةِ مِمَّا يَحْذَرُونَ، وَالرِّزْقِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ. وَقَالَ شُعْبَةُ: كُنْتُ إِذَا أَرَدْتُ الْخُرُوجَ، قُلْتُ لِلْحَكَمِ: أَلَكَ حَاجَةٌ، فَقَالَ: أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ.» وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى» . وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] [الطَّلَاقِ: 2] ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ " لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَخَذُوا بِهَا لَكَفَتْهُمْ» . فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ» مُرَادُهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَحَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَى سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِهِ» ، «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: " أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ» وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هِيَ مِنَ الْمُنْجِيَاتِ.

وَقَدْ سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ «عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: اسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ اسْتِحْيَاءَ رَجُلٍ ذِي هَيْبَةٍ مِنْ أَهْلِكَ» وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِخَشْيَةِ اللَّهِ فِي السِّرِّ، فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ حَيْثُ كَانَ، وَأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ، وَسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَاسْتَحْضَرَ ذَلِكَ فِي خَلَوَاتِهِ، أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ تَرْكَ الْمَعَاصِيَ فِي السِّرِّ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى الْإِشَارَةُ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] [النِّسَاءِ: 1] . كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: زَهَّدَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ فِي الْحَرَامِ زُهْدَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ فِي الْخَلْوَةِ، فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ، فَتَرَكَهُ مِنْ خَشْيَتِهِ، أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ ثَلَاثَةٌ: الْجُودُ مِنْ قِلَّةٍ، وَالْوَرَعُ فِي خَلْوَةٍ، وَكَلِمَةُ الْحَقِّ عِنْدَ مَنْ يُرْجَى أَوْ يُخَافُ. وَكَتَبَ ابْنُ السِّمَاكِ الْوَاعِظُ إِلَى أَخٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ، أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ نَجِيُّكَ فِي سَرِيرَتِكَ وَرَقِيبُكَ فِي عَلَانِيَتِكَ، فَاجْعَلِ اللَّهَ مِنْ بَالِكَ عَلَى كُلِّ حَالِكَ فِي لَيْلِكَ وَنَهَارِكَ، وَخَفِ اللَّهَ بِقَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ، وَقُدْرَتِهِ عَلَيْكَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ بِعَيْنِهِ لَيْسَ تَخْرُجُ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى سُلْطَانِ غَيْرِهِ وَلَا مِنْ مِلْكِهِ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، فَلْيَعْظُمْ مِنْهُ حَذَرُكَ، وَلْيَكْثُرْ مِنْهُ وَجَلُكَ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ أَبُو الْجِلْدِ: أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: قُلْ لِقَوْمِكَ: مَا بَالُكُمْ تَسْتُرُونَ الذُّنُوبَ مِنْ خَلْقِي، وَتُظْهِرُونَهَا لِي؛ إِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنِّي لَا أَرَاكُمْ، فَأَنْتُمْ مُشْرِكُونَ بِي، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنِّي أَرَاكُمْ فَلِمَ جَعَلْتُمُونِي أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكُمْ؟ وَكَانَ وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ يَقُولُ: خَفِ اللَّهَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ، وَاسْتَحْيِ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ، وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: عِظْنِي، فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكَ وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ: أَتُرَاكَ تَرْحَمُ مَنْ لَمْ تُقِرَّ عَيْنَيْهِ بِمَعْصِيَتِكَ حَتَّى عَلِمَ أَنْ لَا عَيْنَ تَرَاهُ غَيْرَكَ؟

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ابْنَ آدَمَ إِنْ كُنْتَ حَيْثُ رَكِبْتَ الْمَعْصِيَةَ لَمْ تَصْفُ لَكَ مِنْ عَيْنٍ نَاظِرَةٍ إِلَيْكَ، فَلَمَّا خَلَوْتَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ صَفَتْ لَكَ مَعْصِيَتُهُ، وَلَمْ تَسْتَحْيِ مِنْهُ حَيَاءَكَ مِنْ بَعْضِ خَلْقِهِ، مَا أَنْتَ إِلَّا أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِنْ كُنْتَ ظَنَنْتَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ، فَقَدْ كَفَرْتَ، وَإِنْ كُنْتَ عَلِمْتَ أَنَّهُ يَرَاكَ فَلَمْ يَمْنَعْكَ مِنْهُ مَا مَنَعَكَ مِنْ أَضْعَفِ خَلْقِهِ لَقَدِ اجْتَرَأْتَ عَلَيْهِ. دَخَلَ بَعْضُهُمْ غَيْضَةً ذَاتَ شَجَرٍ، فَقَالَ: لَوْ خَلَوْتُ هَاهُنَا بِمَعْصِيَةِ مَنْ كَانَ يَرَانِي؟ فَسَمِعَ هَاتِفًا بِصَوْتٍ مَلَأَ الْغَيْضَةَ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] [الْمُلْكِ: 14] . رَاوَدَ بَعْضُهُمْ أَعْرَابِيَّةً، وَقَالَ لَهَا: مَا يَرَانَا إِلَّا الْكَوَاكِبُ، قَالَتْ: أَيْنَ مُكَوْكِبُهَا؟ . رَأَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ رَجُلًا وَاقِفًا مَعَ امْرَأَةٍ يُكَلِّمُهَا فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَرَاكُمَا سَتَرَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمَا. وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ: الْمُرَاقَبَةُ عِلْمُ الْقَلْبِ بِقُرْبِ الرَّبِّ. وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ بِمَ يُسْتَعَانُ عَلَى غَضِّ الْبَصَرِ، قَالَ بِعِلْمِكَ أَنَّ نَظَرَ اللَّهِ إِلَيْكَ أَسْبَقُ مِنْ نَظَرِكَ إِلَى مَا تَنْظُرُهُ. وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يُنْشِدُ: إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا تَقُلْ ... خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاعَةً ... وَلَا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ وَكَانَ ابْنُ السَّمَّاكِ يُنْشِدُ

يَا مُدْمِنَ الذَّنْبِ أَمَا تَسْتَحْيِي ... وَاللَّهُ فِي الْخَلْوَةِ ثَانِيكَا غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إِمْهَالُهُ ... وَسَتْرُهُ طُولَ مَسَاوِيكَا وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَصَّى مُعَاذًا بِتَقْوَى اللَّهِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، أَرْشَدَهُ إِلَى مَا يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنَ اللَّهِ كَمَا يَسْتَحْيِي مِنْ رَجُلٍ ذِي هَيْبَةٍ مِنْ قَوْمِهِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَسْتَشْعِرَ دَائِمًا بِقَلْبِهِ قُرْبَ اللَّهِ مِنْهُ وَاطِّلَاعَهُ عَلَيْهِ فَيَسْتَحْيِي مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْهِ. وَقَدِ امْتَثَلَ مُعَاذٌ مَا وَصَّاهُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عُمَرُ قَدْ بَعَثَهُ عَلَى عَمَلٍ، فَقَدِمَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ، فَعَاتَبَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَقَالَ: كَانَ مَعِي ضَاغِطٌ، يَعْنِي: مَنْ يُضَيِّقُ عَلَيَّ وَيَمْنَعُنِي مِنْ أَخْذِ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مُعَاذٌ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَظَنَّتِ امْرَأَتُهُ أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ مَعَهُ رَقِيبًا، فَقَامَتْ تَشْكُوهُ إِلَى النَّاسِ. وَمَنْ صَارَ لَهُ هَذَا الْمَقَامُ حَالًا دَائِمًا أَوْ غَالِبًا، فَهُوَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ، وَمِنَ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ. وَفِي الْجُمْلَةِ فَتَقْوَى اللَّهِ فِي السِّرِّ هُوَ عَلَامَةُ كَمَالِ الْإِيمَانِ، وَلَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي إِلْقَاءِ اللَّهِ لِصَاحِبِهِ الثَّنَاءَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ: " «مَا أَسَرَّ عَبْدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا عَلَانِيَةً إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا، وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا» " رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ.

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ تَلْعَنَهُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، يَخْلُو بِمَعَاصِي اللَّهِ، فَيُلْقِي اللَّهُ لَهُ الْبُغْضَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُ الذَّنْبَ فِي السِّرِّ فَيُصْبِحُ وَعَلَيْهِ مَذَلَّتُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ الْعَبْدَ لِيُذْنِبُ الذَّنْبَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، ثُمَّ يَجِيءُ إِلَى إِخْوَانِهِ، فَيَرَوْنَ أَثَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْحَقِّ الْمُجَازِي بِذَرَّاتِ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَلَا يَضِيعُ عِنْدَهُ عَمَلُ عَامِلٍ، وَلَا يَنْفَعُ مِنْ قُدْرَتِهِ حِجَابٌ وَلَا اسْتِتَارٌ، فَالسَّعِيدُ مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَصْلَحَ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، وَمَنِ الْتَمَسَ مَحَامِدَ النَّاسِ بِسُخْطِ اللَّهِ، عَادَ حَامِدُهُ مِنَ النَّاسِ ذَامًّا لَهُ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: إِنَّ الْخَاسِرَ مَنْ أَبْدَى لِلنَّاسِ صَالِحَ عَمَلِهِ، وَبَارَزَ بِالْقَبِيحِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. وَمِنْ أَعْجَبِ مَا رُوِيَ فِي هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ السَّائِحِ قَالَ: كَانَ حَبِيبٌ أَبُو مُحَمَّدٍ تَاجِرًا يَكْرِي الدَّرَاهِمَ، فَمَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا هُوَ بِصِبْيَانٍ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَدْ جَاءَ آكِلُ الرِّبَا، فَنَكَّسَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: يَا رَبِّ، أَفْشَيْتَ سِرِّي إِلَى الصِّبْيَانِ، فَرَجَعَ فَجَمَعَ مَالَهُ كُلَّهُ، وَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي أَسِيرٌ، وَإِنِّي قَدِ اشْتَرَيْتُ نَفْسِي مِنْكَ بِهَذَا الْمَالِ فَأَعْتِقْنِي، فَلَمَّا أَصْبَحَ تَصَدَّقَ بِالْمَالِ كُلِّهِ وَأَخَذَ فِي الْعِبَادَةِ، ثُمَّ مَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ بِأُولَئِكَ الصِّبْيَانِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اسْكُتُوا فَقَدْ جَاءَ حَبِيبٌ الْعَابِدُ، فَبَكَى وَقَالَ: يَا رَبِّ أَنْتَ تَذُمُّ مَرَّةً وَتَحْمَدُ مَرَّةً، وَكُلُّهُ مِنْ عِنْدِكَ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» " لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ مَأْمُورًا بِالتَّقْوَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ مَعَ أَنَّهُ لَابُدَّ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ أَحْيَانًا تَفْرِيطٌ فِي التَّقْوَى، إِمَّا بِتَرْكِ بَعْضِ الْمَأْمُورَاتِ، أَوْ بِارْتِكَابِ بَعْضِ الْمَحْظُورَاتِ، فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا يَمْحُو بِهِ هَذِهِ

السَّيِّئَةَ وَهُوَ أَنْ يُتْبِعَهَا بِالْحَسَنَةِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] [هُودٍ: 114] . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَدَعَاهُ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ قَالَ: " بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً» . وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْمُتَّقِينَ فِي كِتَابِهِ بِمِثْلِ مَا وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ - وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ - أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 - 136] [آلِ عِمْرَانَ: 133 - 136] . فَوَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِمُعَامَلَةِ الْخَلْقِ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِالْإِنْفَاقِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ، فَجَمَعَ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِبَذْلِ النَّدَى، وَاحْتِمَالِ الْأَذَى، وَهَذَا هُوَ غَايَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ الَّذِي وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ: {إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَيْهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ قَدْ يَقَعُ مِنْهُمْ أَحْيَانًا كَبَائِرُ وَهِيَ الْفَوَاحِشُ، وَصَغَائِرُ وَهِيَ ظُلْمُ النَّفْسِ، لَكِنَّهُمْ لَا يُصِرُّونَ عَلَيْهَا، بَلْ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَقِبَ وُقُوعِهَا، فَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَيَتُوبُونَ إِلَيْهِ مِنْهَا، وَالتَّوْبَةُ: هِيَ تَرْكُ الْإِصْرَارِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران: 135] أَيْ: ذَكَرُوا عَظَمَتَهُ وَشِدَّةَ بَطْشِهِ وَانْتِقَامِهِ، وَمَا

تَوَعَّدَ بِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْعِقَابِ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ لَهُمُ الرُّجُوعَ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِغْفَارَ وَتَرْكَ الْإِصْرَارِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] [الْأَعْرَافِ: 201] . وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ اللَّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ - إِلَى أَنْ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: - فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ» يَعْنِي مَا دَامَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ كُلَّمَا أَذْنَبَ ذَنْبًا اسْتَغْفَرْ مِنْهُ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» . وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدُنَا يُذْنِبُ، قَالَ: " يُكْتَبُ عَلَيْهِ " قَالَ: ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ، قَالَ: " يُغْفَرُ لَهُ وَيُتَابُ عَلَيْهِ " قَالَ: فَيَعُودُ فَيُذْنِبُ، قَالَ: " يُكْتَبُ عَلَيْهِ " قَالَ: ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ وَيَتُوبُ، قَالَ: " يُغْفَرُ لَهُ، وَيُتَابُ عَلَيْهِ، وَلَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا» . وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «جَاءَ حَبِيبُ بْنُ الْحَارِثِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ مِقْرَافٌ لِلذُّنُوبِ، قَالَ: " فَتُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "، قَالَ: أَتُوبُ، ثُمَّ أَعُودُ، قَالَ: " فَكُلَّمَا أَذْنَبْتَ، فَتُبْ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا تَكْثُرُ ذُنُوبِي، قَالَ: " فَعَفْوُ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ ذُنُوبِكَ يَا

حَبِيبُ بْنَ الْحَارِثِ» وَخَرَّجَهُ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَنْ ذَكَرَ خَطِيئَةً عَمِلَهَا، فَوَجِلَ قَلْبُهُ مِنْهَا، وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ، لَمْ يَحْبِسْهَا شَيْءٌ حَتَّى يَمْحَاهَا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: خِيَارُكُمْ كُلُّ مُفَتَّنٍ تَوَّابٍ، قِيلَ: فَإِذَا عَادَ؟ قَالَ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ، قِيلَ: فَإِنْ عَادَ؟ قَالَ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ، قِيلَ: فَإِنْ عَادَ؟ قَالَ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ، قِيلَ حَتَّى مَتَى؟ قَالَ: حَتَّى يَكُونَ الشَّيْطَانُ هُوَ الْمَحْسُورُ. وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» ".

وَقِيلَ لِلْحَسَنِ: أَلَا يَسْتَحْيِي أَحَدُنَا مِنْ رَبِّهِ يَسْتَغْفِرُ مِنْ ذُنُوبِهِ، ثُمَّ يَعُودُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ، ثُمَّ يَعُودُ، فَقَالَ: وَدَّ الشَّيْطَانُ لَوْ ظَفِرَ مِنْكُمْ بِهَذِهِ، فَلَا تَمَلُّوا الِاسْتِغْفَارَ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَرَى هَذَا إِلَّا مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي: أَنَّ الْمُؤْمِنَ كُلَّمَا أَذْنَبَ تَابَ، وَقَدْ رُوِيَ " «الْمُؤْمِنُ مُفَتَّنٌ تَوَّابٌ» " وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مَرْفُوعًا " «الْمُؤْمِنُ وَاهٍ رَاقِعٌ فَسَعِيدٌ مَنْ هَلَكَ عَلَى رَقْعِهِ» ". وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي خُطْبَتِهِ: مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ أَسَاءَ، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَلْيَتُبْ، فَإِنَّهُ لَابُدَّ مِنْ أَقْوَامٍ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوا أَعْمَالًا وَظَّفَهَا اللَّهُ فِي رِقَابِهِمْ، وَكَتَبَهَا عَلَيْهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَلَمَّ بِذَنْبٍ، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلْيَتُبْ، فَإِنْ عَادَ، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلْيَتُبْ، فَإِنْ عَادَ فَلْيَسْتَغْفِرْ وَلْيَتُبْ، فَإِنَّمَا هِيَ خَطَايَا مُطَوَّقَةٌ فِي أَعْنَاقِ الرِّجَالِ، وَإِنَّ الْهَلَاكَ كُلَّ الْهَلَاكِ فِي الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْعَبْدَ لَابُدَّ أَنْ يَفْعَلَ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنَ الزِّنَا، فَهُوَ مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ.» وَلَكِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعَبْدِ مَخْرَجًا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمَحَاهُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، فَإِنْ فَعَلَ، فَقَدْ تَخَلَّصَ مِنْ شَرِّ الذُّنُوبِ، وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ، هَلَكَ. وَفِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو،، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «

ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ، وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» وَفُسِّرَ أَقْمَاعُ الْقَوْلِ بِمَنْ كَانَتْ أُذُنَاهُ كَالْقَمْعِ لِمَا يَسْمَعُ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فَإِذَا دَخَلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أُذُنِهِ خَرَجَ فِي الْأُخْرَى، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْءٍ مِمَّا سَمِعَ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ» " قَدْ يُرَادُ بِالْحَسَنَةِ التَّوْبَةُ مِنْ تِلْكَ السَّيِّئَةِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ مَرَاسِيلِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: " «يَا مُعَاذُ اتَّقِ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتَ، وَاعْمَلْ بِقُوَّتِكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَطَقْتَ، وَاذْكُرِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ كُلِّ شَجَرَةٍ وَحَجَرٍ، وَإِنْ أَحْدَثْتَ ذَنْبًا، فَأَحْدِثْ عِنْدَهُ تَوْبَةً، إِنْ سِرًّا فَسِرٌّ وَإِنْ عَلَانِيَةً فَعَلَانِيَةٌ» " وَخَرَّجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ بِمَعْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ عَنْ مُعَاذٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ سَلْمَانُ: إِذَا أَسَأْتَ سَيِّئَةً فِي سَرِيرَةٍ، فَأَحْسِنْ حَسَنَةً فِي سَرِيرَةٍ، وَإِذَا أَسَأْتَ سَيِّئَةً فِي عَلَانِيَةٍ، فَأَحْسِنْ حَسَنَةً فِي عَلَانِيَةٍ، لِكَيْ تَكُونَ هَذِهِ بِهَذِهِ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْحَسَنَةِ التَّوْبَةَ أَوْ أَعَمَّ مِنْهَا. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّ مَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ ذَنْبُهُ أَوْ يُتَابُ عَلَيْهِ

فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 17] [النِّسَاءِ: 17] ، وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119] [النَّحْلِ: 119] وَقَوْلِهِ {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] [الْفُرْقَانِ: 70] وَقَوْلِهِ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] [طه: 82] وَقَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 60] [مَرْيَمَ: 60] وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135] [آلِ عِمْرَانَ: 135] الْآيَتَيْنِ. قَالَ عَبْدُ الرَّازَّقِ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ بَلَغَنِي أَنَّ إِبْلِيسَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] [آلِ عِمْرَانَ: 135] الْآيَةَ، بَكَى وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ خَيْرٌ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: أَعْطَانَا اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ مَكَانَ مَا جَعَلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي كَفَّارَاتِ ذُنُوبِهِمْ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ كَانَتْ كَفَّارَاتُنَا كَكَفَّارَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اللَّهُمَّ لَا نَبْغِيهَا - ثَلَاثًا - مَا أَعْطَاكُمُ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمُ الْخَطِيئَةَ، وَجَدَهَا مَكْتُوبَةً عَلَى بَابِهِ وَكَفَّارَتَهَا، فَإِنْ كَفَّرَهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْهَا كَانَتْ خِزْيًا فِي الْآخِرَةِ، فَمَا

أَعْطَاكُمُ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] [النِّسَاءِ: 110] » ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] [الْحَجِّ: 78] ، قَالَ: هُوَ سَعَةُ الْإِسْلَامِ، وَمَا جَعَلَ اللَّهُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَةِ. وَظَاهِرُ هَذِهِ النُّصُوصِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا، وَاجْتَمَعَتْ شُرُوطُ التَّوْبَةِ فِي حَقِّهِ، فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِقَبُولِ اللَّهِ تَوْبَتَهُ، كَمَا يُقْطَعُ بِقَبُولِ إِسْلَامِ الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ إِسْلَامًا صَحِيحًا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَكَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا يُقْطَعُ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ، بَلْ يُرْجَى وَصَاحِبُهَا تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَإِنْ تَابَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] [النِّسَاءِ: 48] فَجَعَلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا تَحْتَ مَشِيئَتِهِ، وَرُبَّمَا اسْتَدَلَّ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: 8] [التَّحْرِيمِ: 8] ، وَبِقَوْلِهِ: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67] [الْقَصَصِ: 67] ، وَقَوْلِهِ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] [النُّورِ: 31] ، وَقَوْلِهِ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] [التَّوْبَةِ: 102] .

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِ، لِأَنَّ الِاعْتِرَافَ يَقْتَضِي النَّدَمَ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ تَابَ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ لَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْقَطْعِ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا أَطْمَعَ، لَمْ يُقْطَعْ مِنْ رَجَائِهِ الْمَطْمَعُ، وَمِنْ هُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ " عَسَى " مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ، نَقَلَهُ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ. وَقَدْ وَرَدَ جَزَاءُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِلَفْظِ: " عَسَى " أَيْضًا، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18] [التَّوْبَةِ: 18] . وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] [النِّسَاءِ: 48] ، فَإِنَّ التَّائِبَ مِمَّنْ شَاءَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. وَقَدْ يُرَادُ بِالْحَسَنَةِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ» " مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّوْبَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] [هُودٍ: 114] ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي نَزَلَتْ بِسَبَبِهِ هَذِهِ الْآيَةُ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ

وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَطَهَّرُ ثُمَّ يُصَلِّي، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] [آلِ عِمْرَانَ: 135] . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " «عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا يُحْسِنُ فِيهِمَا الرُّكُوعَ وَالْخُشُوعَ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ،

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ قَالَ: وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللَّهِ، قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ - أَوْ قَالَ - حَدَّكَ» وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَفِي حَدِيثِهِ قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ خَطِيئَتِكَ كَمَا وَلَدَتْكَ أُمُّكَ فَلَا تَعُدْ " فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] [هُودٍ: 114] » . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُوَا اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عُثْمَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ» . وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» .

وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَإِنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» . وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ: أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» ، وَقَالَ فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ: «أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالَّتِي بَعْدَهُ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ، ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ قَدْ خَنَقَتْهُ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً أُخْرَى، فَانْفَكَّتْ أُخْرَى حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْأَرْضِ» . وَمِمَّا يُكَفِّرُ الْخَطَايَا ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ

عَنْ قَوْلِ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " أَمِنَ الْحَسَنَاتِ هِيَ؟ قَالَ: " مِنْ أَحْسَنِ الْحَسَنَاتِ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . وَفِيهِمَا عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عِدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَكِتَابِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا تَتْرُكُ ذَنْبًا، وَلَا يَسْبِقُهَا عَمَلٌ» . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ بِشَجَرَةٍ يَابِسَةِ الْوَرَقِ، فَضَرَبَهَا بِعَصَاهُ، فَتَنَاثَرَ الْوَرَقُ، فَقَالَ: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ لَتُسَاقِطُ مِنْ ذُنُوبِ الْعَبْدِ كَمَا يَتَسَاقَطُ وَرَقُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» . وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

«إِنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ تَنْفُضُ الْخَطَايَا كَمَا تَنْفُضُ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا. وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ رَجُلٍ لَا يَتَحَاشَى مِنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا أَنَّ لِسَانَهُ لَا يَفْتُرُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَوْنٌ حَسَنٌ. وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ اكْتَسَبَ مَالًا مِنْ شُبْهَةٍ: صَلَاتُهُ وَتَسْبِيحُهُ يَحُطُّ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِنْ صَلَّى وَسَبَّحَ يُرِيدُ بِهِ ذَلِكَ، فَأَرْجُو، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] [التَّوْبَةِ: 102] . وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: الْبُكَاءُ عَلَى الْخَطِيئَةِ يَحُطُّ الْخَطَايَا كَمَا يَحُطُّ الرِّيحُ الْوَرَقَ الْيَابِسَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ، كَفَّرَ بِهِ عَشَرَةَ مَجَالِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْبَاطِلِ. وَقَالَ شُوَيْسٌ الْعَدَوِيُّ - وَكَانَ مِنْ قُدَمَاءِ التَّابِعِينَ - إِنَّ صَاحِبَ الْيَمِينِ أَمِيرٌ - أَوْ قَالَ: أَمِينٌ - عَلَى صَاحِبِ الشِّمَالِ، فَإِذَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ سَيِّئَةً، فَأَرَادَ صَاحِبُ الشِّمَالِ أَنْ يَكْتُبَهَا، قَالَ لَهُ صَاحِبُ الْيَمِينِ: لَا تَعْجَلْ لَعَلَّهُ يَعْمَلُ حَسَنَةً، فَإِنْ

عَمِلَ حَسَنَةً، أَلْقَى وَاحِدَةً بِوَاحِدَةٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ تِسْعُ حَسَنَاتٍ، فَيَقُولُ الشَّيْطَانُ: يَا وَيْلَهُ مَنْ يُدْرِكْ تَضْعِيفَ ابْنِ آدَمَ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا نَامَ ابْنُ آدَمَ قَالَ الْمَلِكُ لِلشَّيْطَانِ: أَعْطِنِي صَحِيفَتَكَ، فَيُعْطِيهِ إِيَّاهَا، فَمَا وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ مِنْ حَسَنَةٍ، مَحَى بِهَا عَشْرَ سَيِّئَاتٍ مِنْ صَحِيفَةِ الشَّيْطَانِ، وَكَتَبَهُنَّ حَسَنَاتٍ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ أَحَدُكُمْ، فَلْيُكَبِّرْ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً وَيَحْمَدْ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ تَحْمِيدَةً، وَيُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً، فَتِلْكَ مِائَةٌ» وَهَذَا غَرِيبٌ مُنْكَرٌ. وَرَوَى وَكِيعٌ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ: وَدِدْتُ أَنِّي صُولِحْتُ عَلَى أَنْ أَعْمَلَ كُلَّ يَوْمٍ تِسْعَ خَطِيئَاتٍ وَحَسَنَةً. وَهَذَا إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْحَسَنَةَ يُمْحَى بِهَا التِّسْعُ خَطِيئَاتٍ، وَيُفَضَّلُ لَهُ ضِعْفٌ وَاحِدٌ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ، فَيَكْتَفِي بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: هَلْ تُكَفِّرُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ أَمْ لَا تُكَفِّرُ سِوَى الصَّغَائِرِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تُكَفِّرْ سِوَى الصَّغَائِرِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ فِي الْوُضُوءِ أَنَّهُ يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ فِي الْوُضُوءِ: إِنَّهُ يُكَفِّرُ الْجِرَاحَاتِ الصِّغَارَ، وَالْمَشْيُ إِلَى الْمَسَاجِدِ يُكَفِّرُ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَالصَّلَاةُ تُكَفِّرُ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ. خَرَّجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ. وَأَمَّا الْكَبَائِرُ، فَلَابُدَّ لَهَا مِنَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ بِالتَّوْبَةِ، وَجَعَلَ مَنْ

لَمْ يَتُبْ ظَالِمًا، وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ فَرْضٌ، وَالْفَرَائِضُ لَا تُؤَدَّى إِلَّا بِنِيَّةٍ وَقَصْدٍ، وَلَوْ كَانَتِ الْكَبَائِرُ تَقَعُ مُكَفَّرَةً بِالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، وَأَدَاءِ بَقِيَّةِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَيْضًا فَلَوْ كُفِّرَتِ الْكَبَائِرُ بِفِعْلِ الْفَرَائِضِ، لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ ذَنْبٌ يَدْخُلُ بِهِ النَّارَ إِذَا أَتَى بِالْفَرَائِضِ، وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ " التَّمْهِيدِ " وَحَكَى إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَحَادِيثَ: مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» وَهُوَ مُخَرَّجٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا تُكَفِّرُهَا هَذِهِ الْفَرَائِضُ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا - عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ - أَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ شَرْطٌ لِتَكْفِيرِ هَذِهِ الْفَرَائِضِ لِلصَّغَائِرِ، فَإِنْ لَمْ تُجْتَنَبْ، لَمْ تُكَفِّرْ هَذِهِ الْفَرَائِضُ شَيْئًا بِالْكُلِّيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ مُطْلَقًا، وَلَا تُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ وَإِنْ وُجِدَتْ، لَكِنْ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ، وَحَكَاهُ عَنِ الْحُذَّاقِ. وَقَوْلُهُ: بِشَرْطِ التَّوْبَةِ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، مُرَادُهُ أَنَّهُ إِذَا أَصَرَّ عَلَيْهَا، صَارَتْ كَبِيرَةً، فَلَمْ تُكَفِّرْهَا الْأَعْمَالُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي حَكَاهُ غَرِيبٌ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ حُكِيَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جَعْفَرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مِثْلُهُ.

فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عُثْمَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» . وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ سَلْمَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَتَطَهَّرُ الرَّجُلُ - يَعْنِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ - فَيُحْسِنُ طَهُورَهُ، ثُمَّ يَأْتِي الْجُمُعَةَ فَيُنْصِتُ حَتَّى يَقْضِيَ الْإِمَامُ صَلَاتَهُ، إِلَّا كَانَ كَفَّارَةَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ مَا اجْتُنِبَتِ الْمَقْتَلَةُ» . وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ، وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: ادْخُلْ بِسَلَامٍ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَاهُ أَيْضًا. وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ابْنَ آدَمَ اذْكُرْنِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ سَاعَةً وَمِنْ آخِرِ النَّهَارِ سَاعَةً، أَغْفِرُ لَكَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، إِلَّا الْكَبَائِرَ، أَوْ تَتُوبُ مِنْهَا» ".

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ. وَقَالَ سَلْمَانُ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَإِنَّهُنَّ كَفَّارَاتٌ لِهَذِهِ الْجِرَاحِ مَا لَمْ تُصِبِ الْمَقْتَلَةَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِرَجُلٍ: أَتَخَافُ النَّارَ أَنْ تَدْخُلَهَا، وَتُحِبُّ الْجَنَّةَ أَنْ تَدْخُلَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ بِرَّ أُمَّكَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ أَلَنْتَ لَهَا الْكَلَامَ وَأَطْعَمْتَهَا الطَّعَامَ، لَتَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مَا اجْتَنَبْتَ الْمُوجِبَاتِ وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ الْمَغْفِرَةَ لِمَنِ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ، وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «اجْتَنِبُوا الْكَبَائِرَ وَسَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا» ". وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ تُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ، وَمِنْهُمُ ابْنُ حَزْمِ الظَّاهِرِيُّ، وَإِيَّاهُ عَنَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ " التَّمْهِيدِ " بِالرَّدِّ عَلَيْهِ وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَرْغَبُ بِنَفْسِي عَنِ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ، لَوْلَا قَوْلُ ذَلِكَ الْقَائِلِ، وَخَشِيتُ أَنْ يَغْتَرَّ بِهِ جَاهِلٌ، فَيَنْهَمِكَ فِي الْمُوبِقَاتِ، اتِّكَالًا عَلَى أَنَّهَا تُكَفِّرُهَا الصَّلَوَاتُ دُونَ النَّدَمِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ، وَاللَّهَ نَسْأَلُ الْعِصْمَةَ وَالتَّوْفِيقَ. قُلْتُ: وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي الْوُضُوءِ وَنَحْوِهِ، وَوَقَعَ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْمُنْذِرِ فِي قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، قَالَ: يُرْجَى لِمَنْ قَامَهَا

أَنْ يُغْفَرَ لَهُ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا. فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُمْ أَنَّ مَنْ أَتَى بِفَرَائِضِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْكَبَائِرِ تُغْفَرُ لَهُ الْكَبَائِرُ قَطْعًا، فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا، يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ بُطْلَانُهُ، وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ» " يَعْنِي: بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى بَيَانٍ، وَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْإِصْرَارَ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَحَافَظَ عَلَى الْفَرَائِضِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَلَا نَدَمٍ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ، كُفِّرَتْ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا بِذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] [النِّسَاءِ: 31] وَقَالَ: السَّيِّئَاتُ تَشْمَلُ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ، وَكَمَا أَنَّ الصَّغَائِرَ تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا نِيَّةٍ، فَكَذَلِكَ الْكَبَائِرُ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ بِالْمَغْفِرَةِ وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ صَارَ هَذَا مِنَ الْمُتَّقِينَ، فَإِنَّهُ فَعَلَ الْفَرَائِضَ، وَاجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ، وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ وَقَصْدٍ، فَهَذَا الْقَوْلُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْجُمْلَةِ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا تُكَفَّرُ بِدُونِ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ فَرْضٌ عَلَى الْعِبَادِ، وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] [الْحُجُرَاتِ: 11] وَقَدْ فَسَّرَتِ الصَّحَابَةُ كَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ التَّوْبَةَ بِالنَّدَمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهٍ فِيهِ ضَعْفٌ، لَكِنْ لَا يُعْلَمُ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا، وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، كَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمَا. وَأَمَّا النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ، وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ لِلْمُتَّقِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 29]

[الْأَنْفَالِ: 29] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التغابن: 9] [التَّغَابُنِ: 9] ، وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5] [الطَّلَاقِ: 5] ، فَإِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ خِصَالَ التَّقْوَى، وَلَا الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ، فَمَنْ لَمْ يَتُبْ، فَهُوَ ظَالِمٌ، غَيْرُ مُتَّقٍ. وَقَدْ بَيَّنَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ خِصَالَ التَّقْوَى الَّتِي يَغْفِرُ لِأَهْلِهَا وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، فَذَكَرَ مِنْهَا الِاسْتِغْفَارَ، وَعَدَمَ الْإِصْرَارِ، فَلَمْ يَضْمَنْ تَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ وَمَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ إِلَّا لِمَنْ كَانَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا تُكَفَّرُ بِدُونِ التَّوْبَةِ مِنْهَا، أَوِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْآيَةَ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ، فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَعُوقِبَ بِهِ، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «مَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدًّا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ» ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ أَسْمَعْ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْحَدَّ يَكُونُ كَفَّارَةً لِأَهْلِهِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. وَقَوْلُهُ: " فَعُوقِبَ بِهِ " يَعُمُّ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةَ، وَهِيَ الْحُدُودُ الْمُقَدَّرَةُ أَوْ غَيْرُ الْمُقَدَّرَةِ، كَالتَّعْزِيرَاتِ، وَيَشْمَلُ الْعُقُوبَاتِ الْقَدَرِيَّةَ، كَالْمَصَائِبِ وَالْأَسْقَامِ وَالْآلَامِ، فَإِنَّهُ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصِيبُ الْمُسْلِمُ نَصَبٌ وَلَا وَصَبٌ

وَلَا هَمٌّ وَلَا حُزْنٌ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا خَطَايَاهُ» . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ لِمَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافًا بَيْنَ النَّاسِ، وَرَجَّحَ أَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ بِمُجَرَّدِهِ كَفَّارَةٌ، وَوَهَّنَ الْقَوْلَ بِخِلَافِ ذَلِكَ جِدًّا. قُلْتُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَصَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ لَيْسَ بِكَفَّارَةٍ، وَلَابُدَّ مَعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ، وَرَجَّحَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ تَيْمِيَةَ فِي " تَفْسِيرَيْهِمَا "، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ

الظَّاهِرِيِّ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعُ: " «لَا أَدْرِي: الْحُدُودُ طِهَارَةٌ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا؟» " فَقَدْ خَرَّجَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، وَأَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ: لَا يَثْبُتُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، وَغَلَطَ عَبْدُ الرَّازَّقِ فَوَصَلَهُ، قَالَ: وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَةٌ. وَمِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ قَالَ: الْحَدُّ لَيْسَ بِكَفَّارَةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُحَارِبِينَ: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 33 - 34] [الْمَائِدَةِ: 33 - 34] وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَجْتَمِعُ لَهُمْ عُقُوبَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ ذَكَرَ عُقُوبَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَتَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُهُمَا، وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ " مَنْ تَابَ " فَإِنَّمَا اسْتَثْنَاهُ مِنْ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا خَاصَّةً، فَإِنَّ عُقُوبَةَ الْآخِرَةِ تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ وَبَعْدَهَا. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» " صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْكَبَائِرَ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِهَا، كَانَتْ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ الْفَرَائِضِ لَا تُكَفِّرُهَا وَلَا تَمْحُوهَا، فَإِنَّ عُمُومَ الْمُسْلِمِينَ يُحَافِظُونَ عَلَى الْفَرَائِضِ، لَا سِيَّمَا مَنْ بَايَعَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ وَقَدْ تَابَ عَنْهَا بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ

مَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَغَفَرَ لَهُ، فَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَتُبْ دَاخِلًا تَحْتَ الْمَشِيئَةِ. وَأَيْضًا، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا تُكَفِّرُهَا الْأَعْمَالُ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْكَبَائِرِ فِي الدُّنْيَا كَفَّارَةً وَاجِبَةً، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْكَفَّارَةَ لِلصَّغَائِرِ كَكَفَّارَةِ وَطْءِ الْمُظَاهِرِ، وَوَطْءِ الْمَرْأَةِ فِي الْحَيْضِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَكَفَّارَةُ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ، أَوِ ارْتِكَابِ بَعْضِ مَحْظُورَاتِهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ: هَدْيٌ، وَعِتْقٌ، وَصَدَقَةٌ، وَصِيَامٌ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ الْقَاتِلُ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ اسْتِحْبَابًا، كَمَا فِي حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّهُمْ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَهُمْ قَدْ أَوْجَبَ، فَقَالَ " «اعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً يُعْتِقْهُ اللَّهُ بِهَا مِنَ النَّارِ» " وَمَعْنَى أَوْجَبَ: عَمِلَ عَمَلًا يَجِبُ لَهُ بِهِ النَّارُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ قَتَلَ قَتِيلًا. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ ضَرَبَ عَبْدًا لَهُ، فَأَعْتَقَهُ وَقَالَ:

لَيْسَ لِي فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ هَذَا - وَأَخَذَ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ - إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ، أَوْ ضَرَبَهُ، فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ يَعْتِقَهُ» ". فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَجَامِعُ فِي رَمَضَانَ يُؤْمَرُ بِالْكَفَّارَةِ، وَالْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْكَبَائِرِ، قِيلَ: لَيْسَتِ الْكَفَّارَةُ لِلْفِطْرِ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ عَلَى كُلِّ مُفْطِرٍ فِي رَمَضَانَ عَمْدًا، وَإِنَّمَا هِيَ لِهَتْكِ حُرْمَةِ رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مُفْطِرًا فِطْرًا لَا يَجُوزُ لَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، ثُمَّ جَامَعَ، لَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِمَا ذَكَرْنَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَكْفِيرَ الْوَاجِبَاتِ مُخْتَصٌّ بِالصَّغَائِرِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ عُمَرَ، إِذْ قَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ؟ قَالَ: قُلْتُ: " فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ " قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ، وَظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ يَقْتَضِي رَفْعَهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " فِتْنَةُ الرَّجُلِ " فَذَكَرَهُ، وَهَذَا كَالصَّرِيحِ فِي رَفْعِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ عُمَرَ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي قَالَ لَهُ: «أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَتَرَكَهُ حَتَّى صَلَّى، ثُمَّ قَالَ لَهُ: " إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ» ، فَلَيْسَ صَرِيحًا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، لِأَنَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى مَحَارِمُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] [الطَّلَاقِ: 1] ، وَقَوْلِهِ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] [الْبَقَرَةِ: 229] ، وَقَوْلِهِ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13]

الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] [النِّسَاءِ: 13 - 14] . وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضَرْبِ مَثَلِ الْإِسْلَامِ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ عَلَى جَنْبَيْهِ سُورَانِ، قَالَ: " السُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ» . وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ بِتَمَامِهِ. فَكُلُّ مَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، فَقَدْ أَصَابَ حُدُودَهُ، وَرَكِبَهَا، وَتَعَدَّاهَا وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَهُ كَبِيرَةً، فَهَذَا الرَّجُلُ جَاءَ نَادِمًا تَائِبًا، وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ، وَالتَّوْبَةُ تُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَقَدْ رُوِيَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ تُكَفَّرُ بِبَعْضِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: " هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ " فَهَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَبِرَّهَا» ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، لَكِنْ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلًا، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُرْسَلَ أَصَحُّ مِنَ الْمَوْصُولِ، وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: قَتَلْتُ نَفْسًا، قَالَ: أُمُّكَ حَيَّةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَأَبُوكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَبِرَّهُ وَأَحْسِنْ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: لَوْ كَانَتْ أُمُّهُ حَيَّةً فَبَرَّهَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، رَجَوْتُ أَنْ لَا تَطْعَمَهُ النَّارُ أَبَدًا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ أَيْضًا.

وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي عَمِلَتْ بِالسِّحْرِ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَقَدِمَتِ الْمَدِينَةَ تَسْأَلُ عَنْ تَوْبَتِهَا، فَوَجَدَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تُوُفِّيَ، فَقَالَ لَهَا أَصْحَابُهُ: لَوْ كَانَ أَبَوَاكَ حَيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا كَانَا يَكْفِيَانِكَ. خَرَّجَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: فِيهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حِدْثَانَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ بِرَّ الْأَبَوَيْنِ الْوَالِدَيْنِ يَكْفِيَانِهَا. وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ كَفَّارَةٌ لِلْكَبَائِرِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي حَمْلِ الْجَنَائِزِ أَنَّهُ يُحْبِطُ الْكَبَائِرَ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ وُجُوهٍ لَا تَصِحُّ. وَقَدْ صَحَّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّ أَبَا مُوسَى لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: يَا بَنِيَّ، اذْكُرُوا صَاحِبَ الرَّغِيفِ: كَانَ رَجُلٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ أُرَاهُ سَبْعِينَ سَنَةً، فَشَبَّهَ الشَّيْطَانُ فِي عَيْنِهِ امْرَأَةً، فَكَانَ مَعَهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَسَبْعَ لَيَالٍ، ثُمَّ كُشِفَ عَنِ الرَّجُلِ غِطَاؤُهُ، فَخَرَجَ تَائِبًا، ثُمَّ ذُكِرَ أَنَّهُ بَاتَ بَيْنَ مَسَاكِينَ، فَتُصُدِّقَ عَلَيْهِمْ بِرَغِيفٍ

رَغِيفٍ، فَأَعْطَوْهُ رَغِيفًا، فَفَقَدَهُ صَاحِبُهُ الَّذِي كَانَ يُعْطَاهُ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ، أَعْطَاهُ الرَّغِيفَ وَأَصْبَحَ مَيِّتًا، فَوُزِنَتِ السَّبْعُونَ سَنَةً بِالسَّبْعِ لَيَالٍ، فَرَجَحَتِ اللَّيَالِي وَوُزِنَ الرَّغِيفُ بِالسَّبْعِ لَيَالٍ، فَرَجَحَ الرَّغِيفُ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ بِإِسْنَادِهِ فِي كِتَابِ " الْبِرِّ وَالصِّلَةِ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: عَبَدَ اللَّهَ رَجُلٌ سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ أَصَابَ فَاحِشَةً، فَأَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ زَمَانَةٌ وَأُقْعِدَ، فَرَأَى رَجُلًا يَتَصَدَّقُ عَلَى مَسَاكِينَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ مِنْهُ رَغِيفًا، فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ عَمَلَ سَبْعِينَ سَنَةً. وَهَذِهِ كُلُّهَا لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى تَكْفِيرِ الْكَبَائِرِ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ ذُكِرَ فِيهَا كَانَ نَادِمًا تَائِبًا مِنْ ذَنْبِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ سُؤَالُهُ عَنْ عَمَلٍ صَالِحٍ يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ حَتَّى يَمْحُوَ بِهِ أَثَرَ الذَّنْبِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ شَرَطَ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ بِهَا الْعَمَلَ الصَّالِحَ، كَقَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم: 60] [مَرْيَمَ: 60] ، وَقَوْلِهِ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [طه: 82] [طَهَ: 82] وَقَوْلِهِ: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67] [الْقَصَصِ: 67] ، وَفِي هَذَا مُتَعَلَّقٌ لِمَنْ يَقُولُ: إِنَّ التَّائِبَ بَعْدَ التَّوْبَةِ فِي الْمَشِيئَةِ، وَكَانَ هَذَا حَالَ كَثِيرٍ مِنَ الْخَائِفِينَ مِنَ السَّلَفِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِرَجُلٍ: هَلْ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَعَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَهُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاعْمَلْ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ مَحَاهُ. وَمِنْهُ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ طَارَ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ بِهِ هَكَذَا. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَكَانُوا يَتَّهِمُونَ أَعْمَالَهُمْ وَتَوْبَاتِهِمْ، وَيَخَافُونَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ قُبِلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ لَهُمْ شِدَّةَ الْخَوْفِ، وَكَثْرَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُهُمْ مِلْءَ الْأَرْضِ مَا أَمِنَ لَعِظَمِ الذَّنْبِ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: لَا تَثِقْ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُقْبَلُ مِنْكَ أَمْ لَا، وَلَا تَأْمَنْ ذُنُوبَكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي كُفِّرَتْ عَنْكَ أَمْ لَا، إِنَّ عَمَلَكَ مَغِيبٌ عَنْكَ كُلَّهُ. وَالْأَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - أَعْنِي مَسْأَلَةَ تَكْفِيرِ الْكَبَائِرِ بِالْأَعْمَالِ - أَنَّهُ أُرِيدَ أَنَّ الْكَبَائِرَ تُمْحَى بِمُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِالْفَرَائِضِ، وَتَقَعُ الْكَبَائِرُ مُكَفَّرَةً بِذَلِكَ كَمَا تُكَفَّرُ الصَّغَائِرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، فَهَذَا بَاطِلٌ. وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ قَدْ يُوَازِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَبَيْنَ بَعْضِ الْأَعْمَالِ، فَتُمْحَى الْكَبِيرَةُ بِمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْعَمَلِ، وَيَسْقُطُ الْعَمَلُ، فَلَا يَبْقَى لَهُ ثَوَابٌ، فَهَذَا قَدْ يَقَعُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَمَّا أَعْتَقَ مَمْلُوكَهُ الَّذِي ضَرَبَهُ قَالَ: لَيْسَ لِي فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ شَيْءٌ، حَيْثُ كَانَ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَنْبُهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَكَيْفَ بِمَا كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ مُكَفِّرًا لِلْكَبَائِرِ؟ وَسَبَقَ أَيْضًا قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ السَّيِّئَةَ تُمْحَى وَيُسْقَطُ نَظِيرَهَا حَسَنَةٌ مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي هِيَ ثَوَابُ الْعَمَلِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الصَّغَائِرِ، فَكَيْفَ بِالْكَبَائِرِ؟ فَإِنَّ بَعْضَ الْكَبَائِرِ قَدْ يُحْبِطُ بَعْضَ الْأَعْمَالِ الْمُنَافِيَةِ لَهَا، كَمَا يُبْطِلُ الْمَنُّ وَالْأَذَى الصَّدَقَةَ، وَتُبْطِلُ الْمُعَامَلَةُ بِالرِّبَا الْجِهَادَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ. وَقَالَ

حُذَيْفَةُ: قَذْفُ الْمُحْصَنَةِ يَهْدِمُ عَمَلَ مِائَةِ سَنَةٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا خَرَّجَهُ الْبَزَّارُ، وَكَمَا يُبْطِلُ تَرْكُ صَلَاةِ الْعَصْرِ الْعَمَلَ، فَلَا يُسْتَنْكَرُ أَنْ يُبْطِلَ ثَوَابَ الْعَمَلِ الَّذِي يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ. وَقَدْ خَرَّجَ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يُؤْتَى بِحَسَنَاتِ الْعَبْدِ وَسَيِّئَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَصُّ أَوْ يُقْضَى بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَإِنْ بَقِيَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، وُسِّعَ لَهُ بِهَا فِي الْجَنَّةِ» . وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ، قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] [الزَّلْزَلَةِ: 7] ، قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْجَرُونَ عَلَى الشَّيْءِ الْقَلِيلِ إِذَا أَعْطَوْهُ، فَيَجِيءُ الْمِسْكِينُ، فَيَسْتَقِلُّونَ أَنْ يُعْطُوهُ تَمْرَةً وَكَسْرَةً وَجَوْزَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَيَرُدُّونَهُ، وَيَقُولُونَ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ، إِنَّمَا نُؤْجَرُ عَلَى مَا نُعْطِي وَنَحْنُ نُحِبُّهُ، وَكَانَ آخَرُونَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ لَا يُلَامُونَ عَلَى الذَّنْبِ الْيَسِيرِ مِثْلَ الْكِذْبَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالْغِيبَةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ النَّارَ عَلَى الْكَبَائِرِ، فَرَغَّبَهُمُ اللَّهُ فِي الْقَلِيلِ مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَعْمَلُوهُ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ، وَحَذَّرَهُمُ الْيَسِيرَ مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ، فَنَزَلَتْ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة: 7] ، يَعْنِي وَزْنَ أَصْغَرِ النَّمْلِ خَيْرًا يَرَهُ يَعْنِي فِي كِتَابِهِ، وَيَسُرُّهُ ذَلِكَ قَالَ: يُكْتَبُ لِكُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ بِكُلِّ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ، وَبِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ضَاعَفَ اللَّهُ حَسَنَاتِ

الْمُؤْمِنِ أَيْضًا بِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَشْرًا، فَيَمْحُو عَنْهُ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، فَمَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ تَسْقُطُ الْحَسَنَاتُ الْمُقَابِلَةُ لِلسَّيِّئَاتِ، وَيَنْظُرُ إِلَى مَا يَفْضُلُ مِنْهَا بَعْدَ الْمُقَاصَّةِ، وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ بِحَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ أُثِيبَ بِتِلْكَ الْحَسَنَةِ خَاصَّةً، وَسَقَطَ بَاقِي حَسَنَاتِهِ فِي مُقَابَلَةِ سَيِّئَاتِهِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يُثَابُ بِالْجَمِيعِ، وَتَسْقُطُ سَيِّئَاتُهُ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَهَذَا فِي الْكَبَائِرِ، أَمَّا الصَّغَائِرُ، فَإِنَّهُ قَدْ تُمْحَى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَعَ بَقَاءِ ثَوَابِهَا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ» فَأَثْبَتَ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ تَكْفِيرَ الْخَطَايَا وَرَفْعَ الدَّرَجَاتِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِائَةَ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ يَمْحُو السَّيِّئَاتِ، وَيَبْقَى ثَوَابُهُ لِعَامِلِهِ مُضَاعَفًا. وَكَذَلِكَ سَيِّئَاتُ التَّائِبِ تَوْبَةً نَصُوحًا تُكَفَّرُ عَنْهُ، وَتَبْقَى لَهُ حَسَنَاتُهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ - أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 15 - 16] [الْأَحْقَافِ: 15 - 16] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ - لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ - لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33 - 35] [الزُّمَرِ: 33 - 35] ، فَلَمَّا وَصَفَ هَؤُلَاءِ بِالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُصِرِّينَ عَلَى الذُّنُوبِ، بَلْ تَائِبُونَ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر: 35] يَدْخُلُ فِيهِ الْكَبَائِرُ، لِأَنَّهَا أَسْوَأُ الْأَعْمَالِ، وَقَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5] [الطَّلَاقِ: 5] ، فَرَتَّبَ عَلَى التَّقْوَى الْمُتَضَمِّنَةِ لِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ تَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ وَتَعْظِيمَ الْأَجْرِ، وَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُمْ قَالُوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193] [آلِ عِمْرَانَ: 193] ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهُمْ، وَأَدْخَلَهُمُ الْجَنَّاتِ. وَقَوْلُهُ: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران: 193] فَخَصَّ اللَّهُ الذُّنُوبَ بِالْمَغْفِرَةِ، وَالسَّيِّئَاتِ بِالتَّكْفِيرِ. فَقَدْ يُقَالُ: السَّيِّئَاتُ تَخُصُّ الصَّغَائِرَ، وَالذُّنُوبُ يُرَادُ بِهَا الْكَبَائِرُ، فَالسَّيِّئَاتُ تُكَفَّرُ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهَا كَفَّارَاتٍ فِي الدُّنْيَا شَرْعِيَّةً وَقَدَرِيَّةً، وَالذُّنُوبُ تَحْتَاجُ إِلَى مَغْفِرَةٍ تَقِي صَاحِبَهَا مِنْ شَرِّهَا وَالْمَغْفِرَةُ وَالتَّكْفِيرُ مُتَقَارِبَانِ، فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا سَتْرُ الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: وِقَايَةُ شَرِّ الذُّنُوبِ مَعَ سَتْرِهِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى مَا سَتَرَ الرَّأْسَ وَوَقَاهُ فِي الْحَرْبِ مِغْفَرًا، وَلَا يُسَمَّى كُلُّ سَاتِرٍ لِلرَّأْسِ مِغْفَرًا، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ التَّائِبِينَ بِالْمَغْفِرَةِ وَوِقَايَةِ السَّيِّئَاتِ

وَالتَّكْفِيرُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، لِأَنَّ أَصْلَ الْكُفْرِ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ أَيْضًا. وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ التَّكْفِيرَ مَحْوُ أَثَرِ الذَّنْبِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَالْمَغْفِرَةُ تَتَضَمَّنُ - مَعَ ذَلِكَ - إِفْضَالَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ وَإِكْرَامَهُ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَقَدْ يُفَسَّرُ بِأَنَّ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تَقْلِبُهَا حَسَنَاتٍ، وَتَكْفِيرُهَا بِالْمُكَفِّرَاتِ تَمْحُوهَا فَقَطْ، وَفِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ الذُّنُوبَ الْمُعَاقَبَ عَلَيْهَا بِدُخُولِ النَّارِ تُبَدَّلُ حَسَنَاتٍ فَالْمُكَفِّرَةُ بِعَمَلٍ صَالِحٍ يَكُونُ كَفَّارَةً لَهَا أَوْلَى. وَيَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَغْفِرَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مَعَ عَدَمِ الْعُقُوبَةِ وَالْمُؤَاخَذَةِ، لِأَنَّهَا وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالتَّكْفِيرُ قَدْ يَقَعُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ، فَإِنَّ الْمَصَائِبَ الدُّنْيَوِيَّةَ كُلَّهَا مُكَفِّرَاتٌ لِلْخَطَايَا، وَهِيَ عُقُوبَاتٌ، وَكَذَلِكَ الْعَفْوُ يَقَعُ مَعَ الْعُقُوبَةِ وَبِدُونِهَا، وَكَذَلِكَ الرَّحْمَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَفَّارَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا جَعَلَهَا اللَّهُ لِمَحْوِ الذُّنُوبِ الْمُكَفَّرَةِ بِهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ هُوَ ثَوَابَهَا، لَيْسَ لَهَا ثَوَابٌ غَيْرُهُ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ مُخَالَفَةِ هَوَى النُّفُوسِ، وَتَجَشُّمِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ كَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ كَفَّارَةً لِلصَّغَائِرِ. وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الَّتِي تُغْفَرُ بِهَا الذُّنُوبُ، فَهِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ، وَيَجْتَمِعُ فِيهَا الْمَغْفِرَةُ وَالثَّوَابُ عَلَيْهَا، كَالذِّكْرِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْحَسَنَاتُ وَيُمْحَى بِهِ السَّيِّئَاتُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْكَفَّارَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ وَمَغْفِرَتُهَا إِذَا أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ أَيْضًا. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لَمَّا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الَّذِي ضَرَبَهُ: لَيْسَ لِي فِي عِتْقِهِ مِنَ الْأَجْرِ شَيْءٌ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ كَفَّارَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَصَائِبَ الدُّنْيَوِيَّةَ كُلَّهَا مُكَفِّرَاتٌ لِلذُّنُوبِ، وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ، إِنَّهُ لَا ثَوَابَ فِيهَا مَعَ التَّكْفِيرِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُقَالُ: فَقَدْ فَسَّرَ الْكَفَّارَاتِ فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ بِإِسْبَاغِ الْوُضُوءِ فِي الْمَكْرُوهَاتِ، وَنَقْلِ الْأَقْدَامِ إِلَى الصَّلَوَاتِ، وَقَالَ: مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، عَاشَ بِخَيْرٍ، وَمَاتَ بِخَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَ تَكْفِيرِهَا لِلسَّيِّئَاتِ تَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ، وَيَحْصُلُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ، لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ يَجْتَمِعُ فِي الْعَمَلِ الْوَاحِدِ شَيْئَانِ يَرْفَعُ بِأَحَدِهِمَا الدَّرَجَاتِ، وَيُكَفِّرُ بِالْآخَرِ السَّيِّئَاتِ، فَالْوُضُوءُ نَفْسُهُ يُثَابُ عَلَيْهِ لَكِنَّ إِسْبَاغَهُ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ مِنْ جِنْسِ الْآلَامِ الَّتِي تَحْصُلُ لِلنُّفُوسِ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ كَفَّارَةً فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ، فَتُغْفَرُ بِهِ الْخَطَايَا، كَمَا تُغْفَرُ بِالذِّكْرِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَشْيُ إِلَى الْجَمَاعَاتِ هُوَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، وَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ مَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ بِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْأَلَمِ بِالتَّعَبِ وَالنَّصَبِ هُوَ كَفَّارَةٌ، وَكَذَلِكَ حَبْسُ النَّفْسَ فِي الْمَسْجِدِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَقَطْعِهَا عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَمِيلُ النُّفُوسُ إِلَيْهَا، إِمَّا لِكَسْبِ الدُّنْيَا أَوْ لِلتَّنَزُّهِ، هُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُؤْلِمٌ لِلنَّفْسِ، فَيَكُونُ كَفَّارَةً. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ إِحْدَى خُطْوَتَيِ الْمَاشِي إِلَى الْمَسْجِدِ تَرْفَعُ لَهُ دَرَجَةً، وَالْأُخْرَى تَحُطُّ عَنْهُ خَطِيئَةً. وَهَذَا يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ مَا حَصَلَ بِهِ

التَّكْفِيرُ غَيْرُ مَا حَصَلَ بِهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا، فَيَجْتَمِعُ فِي الْعَمَلِ الْوَاحِدِ تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ، وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَيُوصَفُ فِي كُلِّ حَالٍ بِكِلَا الْوَصْفَيْنِ، فَلَا تَنَافِي بَيْنَ تَسْمِيَتِهِ كَفَّارَةً وَبَيْنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ بِهِ، أَوْ وَصْفِهِ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» . فَإِنَّ فِي حَبْسِ النَّفْسِ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْفَرَائِضِ مِنْ مُخَالَفَةِ هَوَاهَا وَكَفِّهَا عَمَّا تَمِيلُ إِلَيْهِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَكْفِيرَ الصَّغَائِرِ. وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ بِمَا يَحْصُلُ بِهَا مِنَ الْأَلَمِ، وَتَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ بِمَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ يَجْتَمِعُ فِيهَا مَا يُوجِبُ رَفْعَ الدَّرَجَاتِ وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةً، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الذُّنُوبِ الصَّغَائِرِ بِلَا رَيْبٍ، وَأَمَّا الْكَبَائِرُ، فَقَدْ تُكَفَّرُ بِالشَّهَادَةِ مَعَ حُصُولِ الْأَجْرِ لِلشَّهِيدِ، لَكِنَّ الشَّهِيدَ ذَا الْخَطَايَا فِي رَابِعِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِ الشُّهَدَاءِ، كَذَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ فُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَأَمَّا مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ بِبَعْضِ الْأَعْمَالِ مَعَ تَوْفِيرِ أَجْرِهَا وَثَوَابِهَا، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي الذِّكْرِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ تُكْتَبُ حَسَنَاتٍ أَيْضًا، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَذَكَرْنَا أَيْضًا عَنْ

بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يُمْحَى بِإِزَاءِ السَّيِّئَةِ الْوَاحِدَةِ ضِعْفٌ وَاحِدٌ مِنْ أَضْعَافِ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ، وَتَبْقَى لَهُ تِسْعُ حَسَنَاتٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِالصَّغَائِرِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ، فَيُوَازَنُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَيُقَصُّ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، فَقَدْ نَجَا وَدَخَلَ الْجَنَّةَ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الصَّغَائِرُ وَالْكَبَائِرُ، وَهَكَذَا مَنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ وَعَلَيْهِ مَظَالِمُ، فَاسْتَوْفَى الْمَظْلُومُونَ حُقُوقَهُمْ مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَبَقِيَ لَهُ حَسَنَةٌ، دَخَلَ بِهَا الْجَنَّةَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ فَفَضَلَ لَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، ضَاعَفَهَا اللَّهُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا قَالَ الْمَلَكَ: رَبِّ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، وَبَقِيَ لَهُ طَالِبُونَ كَثِيرٌ، قَالَ: خُذُوا مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ، فَأَضْعِفُوهَا إِلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ صُكُّوا لَهُ صَكًّا إِلَى النَّارِ، خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ. وَالْمُرَادُ أَنَّ تَفْضِيلَ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ إِنَّمَا هُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِمُضَاعَفَتِهِ لِحَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِ وَبَرَكَتِهِ فِيهَا، وَهَكَذَا حَالُ مَنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، وَأَرَادَ اللَّهُ رَحْمَتَهُ، فَضَلَ لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا يُدْخِلُهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَكُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. وَخَرَّجَ أَبُو نُعَيْمٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: " «أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: قُلْ لِأَهْلِ طَاعَتِي مِنْ أُمَّتِكَ: لَا يَتَّكِلُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَإِنِّي لَا أُقَاصُّ عَبْدًا الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَاءُ أَنْ أُعَذِّبَهُ إِلَّا عَذَّبْتُهُ، وَقُلْ لِأَهْلِ مَعْصِيَتِي مِنْ أُمَّتِكَ: لَا يُلْقُوا بِأَيْدِيهِمْ، فَإِنِّي أَغْفِرُ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ وَلَا أُبَالِي» "، وَمِصْدَاقُ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» وَفِي رِوَايَةٍ " هَلَكَ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الصَّغَائِرَ هَلْ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا كَالْكَبَائِرِ أَمْ لَا؟ لِأَنَّهَا تَقَعُ مُكَفِّرَةً بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] [النِّسَاءِ: 31] . هَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ التَّوْبَةَ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ عُقَيْبَ ذِكْرِ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ - وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30 - 31] إِلَى قَوْلِهِ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] [النُّورِ: 3 - 31] . وَأَمَرَ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الصَّغَائِرِ بِخُصُوصِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] [الْحُجُرَاتِ: 11] . وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يُوجِبِ التَّوْبَةَ مِنْهَا، وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ قَالَ: يَجِبُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، إِمَّا التَّوْبَةُ مِنْهَا، أَوِ الْإِتْيَانُ بِبَعْضِ الْمُكَفِّرَاتِ لِلذُّنُوبِ مِنَ الْحَسَنَاتِ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ فِي " تَفْسِيرِهِ " فِي تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ بِامْتِثَالِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا - وَحَكَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ -: أَنَّهُ يُقْطَعُ بِتَكْفِيرِهَا بِذَلِكَ قَطْعًا لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ. وَالثَّانِي - وَحَكَاهُ عَنِ الْأُصُولِيِّينَ -: أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِذَلِكَ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَقُوَّةِ الرَّجَاءِ، وَهُوَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِذْ لَوْ قُطِعَ بِتَكْفِيرِهَا، لَكَانَتِ

الصَّغَائِرُ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ الَّذِي لَا تَبِعَةَ فِيهِ، وَذَلِكَ نَقْضٌ لِعُرَى الشَّرِيعَةِ. قُلْتُ: قَدْ يُقَالُ: لَا يُقْطَعُ بِتَكْفِيرِهَا، لِأَنَّ أَحَادِيثَ التَّكْفِيرِ الْمُطْلَقَةَ بِالْأَعْمَالِ جَاءَتْ مُقَيَّدَةً بِتَحْسِينِ الْعَمَلِ، كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ حُسْنِ الْعَمَلِ الَّذِي يُوجِبُ التَّكْفِيرَ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ يَنْبَنِي الِاخْتِلَافُ فِي وُجُوبِ التَّوْبَةِ مِنَ الصَّغَائِرِ. وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ قَوْمًا أَتَوْا عُمَرَ، فَقَالُوا: نَرَى أَشْيَاءَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا يُعْمَلُ بِهَا، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ: أَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ أَحْصَيْتَهُ فِي نَفْسِكَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا، قَالَ: فَهَلْ أَحْصَيْتَهُ فِي بَصَرِكَ؟ فَهَلْ أَحْصَيْتَهُ فِي لَفْظِكَ؟ هَلْ أَحْصَيْتَهُ فِي أَثَرِكَ؟ ثُمَّ تَتَبَّعَهُمْ حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: ثَكِلَتْ عُمْرَ أُمُّهُ، أَتُكَلِّفُونَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى النَّاسِ كِتَابَ اللَّهِ؟ قَدْ عَلِمَ رَبُّنَا أَنَّهُ سَيَكُونُ لَنَا سَيِّئَاتٌ، قَالَ: وَتَلَا {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] [النِّسَاءِ: 31] . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ أَرَ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَنَا عَنْ رَبِّنَا تَعَالَى، لَمْ نُخَرِّجْ لَهُ عَنْ كُلِّ أَهْلٍ وَمَالٍ، ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّفَنَا

رَبُّنَا أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، لَقَدْ تَجَاوَزَ لَنَا عَمَّا دُونَ الْكَبَائِرِ، فَمَالَنَا وَلَهَا، ثُمَّ تَلَا {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] . وَخَرَّجَهُ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " مَرْفُوعًا، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْمُحْسِنِينَ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ قَالَ تَعَالَى: {وَيَجْزِي الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 31] [النَّجْمِ: 32] . وَفِي تَفْسِيرِ اللَّمَمِ قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُقَدِّمَاتُ الْفَوَاحِشِ كَاللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ مَا دُونَ الْحَدِّ مِنْ وَعِيدِ الْآخِرَةِ بِالنَّارِ وَحَدِّ الدُّنْيَا.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْكَبَائِرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِالشَّكِّ فِي رَفْعِهِ، قَالَ: اللَّمَّةُ مِنَ الزِّنَا ثُمَّ يَتُوبُ فَلَا يَعُودُ، وَاللَّمَّةُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ ثُمَّ يَتُوبُ فَلَا يَعُودُ، وَاللَّمَّةُ مِنَ السَّرِقَةِ ثُمَّ يَتُوبُ فَلَا يَعُودُ. وَمَنْ فَسَّرَ الْآيَةَ بِهَذَا قَالَ: لَابُدَّ أَنْ يَتُوبَ مِنْهُ بِخِلَافِ مَنْ فَسَّرَهُ بِالْمُقَدِّمَاتِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ تَوْبَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ صَحِيحَانِ، وَأَنَّ كِلَيْهِمَا مُرَادٌ مِنَ الْآيَةِ، وَحِينَئِذٍ فَالْمُحْسِنُ: هُوَ مَنْ لَا يَأْتِي بِكَبِيرَةٍ إِلَّا نَادِرًا ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهَا، وَمَنْ إِذَا أَتَى بِصَغِيرَةٍ كَانَتْ مَغْمُورَةً فِي حَسَنَاتِهِ الْمُكَفِّرَةِ لَهَا، وَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ مُصِرًّا عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] [آلِ عِمْرَانَ: 135] وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ وُجُوهٍ ضَعِيفَةٍ.

وَإِذَا صَارَتِ الصَّغَائِرُ كَبَائِرَ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا، فَلَابُدَّ لِلْمُحْسِنِينَ مِنِ اجْتِنَابِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الصَّغَائِرِ حَتَّى يَكُونُوا مُجْتَنِبِينَ لِكَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ - وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ - وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 36 - 40] [الشُّورَى: 36 - 40] . فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَضَمَّنَتْ وَصْفَ الْمُؤْمِنِينَ بِقِيَامِهِمْ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّوَكُّلِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَالِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ فِي جَمِيعِ طَاعَاتِهِ، وَمَعَ هَذَا، فَهُمْ مُجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ، فَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ التَّقْوَى، وَوَصَفَهُمْ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلْخَلْقِ بِالْمَغْفِرَةِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَنَدَبَهُمْ إِلَى الْعَفْوِ وَالْإِصْلَاحِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] فَلَيْسَ مُنَافِيًا لِلْعَفْوِ، فَإِنَّ الِانْتِصَارَ يَكُونُ بِإِظْهَارِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِقَامِ، ثُمَّ يَقَعُ الْعَفْوُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ. قَالَ النَّخَعِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فَإِذَا قَدِرُوا عَفَوْا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يَكْرَهُونَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ،

فَيَجْتَرِئُ عَلَيْهِ الْفُسَّاقُ، فَالْمُؤْمِنُ إِذَا بُغِيَ عَلَيْهِ، يُظْهِرُ الْقُدْرَةَ عَلَى الِانْتِقَامِ، ثُمَّ يَعْفُو بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ جَرَى مِثْلُ هَذَا لِكَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَتَضَمَّنُ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَصِيَّتِهِ لِمُعَاذٍ، فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ حُصُولَ خِصَالِ التَّقْوَى بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَالِانْتِهَاءِ عَنْ كَبَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمُعَامَلَةِ الْخَلْقِ بِالْإِحْسَانِ وَالْعَفْوِ، وَلَازِمُ هَذَا أَنَّهُمْ إِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْإِثْمِ مِنْ غَيْرِ الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ، يَكُونُ مَغْمُورًا بِخِصَالِ التَّقْوَى الْمُقْتَضِيَةِ لِتَكْفِيرِهَا وَمَحْوِهَا. وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فَوَصَفَ فِيهَا الْمُتَّقِينَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، وَبِالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَظُلْمِ النَّفْسِ، وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْأَكْمَلُ، وَهُوَ إِحْدَاثُ التَّوْبَةِ، وَالِاسْتِغْفَارُ عُقَيْبَ كُلِّ ذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، كَمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَّى بِذَلِكَ مُعَاذًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ. وَإِنَّمَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا، لِأَنَّ حَاجَةَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ شَدِيدَةٌ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا، ثُمَّ إِلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» ظَاهِرُهُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ تُمْحَى بِالْحَسَنَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْآثَارِ الَّتِي فِيهَا أَنَّ السَّيِّئَةَ تُمْحَى مِنْ صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ بِالْحَسَنَةِ إِذَا عُمِلَتْ بَعْدَهَا. قَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّهُ مَنْ بَكَى عَلَى خَطِيئَةٍ مُحِيَتْ عَنْهُ، وَكُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَنْ ذَكَرَ خَطِيئَةً عَمِلَهَا، فَوَجِلَ قَلْبُهُ مِنْهَا، فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَحْبِسْهَا شَيْءٌ حَتَّى يَمْحُوَهَا

عَنْهُ الرَّحْمَنُ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ: بَلَغَنِي عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ: بُكَاءُ النَّهَارِ يَمْحُو ذُنُوبَ الْعَلَانِيَةِ، وَبُكَاءُ اللَّيْلِ يَمْحُو ذُنُوبَ السِّرِّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» الْحَدِيثَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تُمْحَى الذُّنُوبُ مِنْ صَحَائِفِ الْأَعْمَالِ بِتَوْبَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، بَلْ لَابُدَّ أَنْ يُوقِفَ عَلَيْهَا صَاحَبَهَا وَيَقْرَأَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] [الْكَهْفِ: 49] ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ فِيهَا حَالَ الْمُجْرِمِينَ، وَهُمْ أَهْلُ الْجَرَائِمِ وَالذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ التَّائِبُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، أَوِ الْمَغْمُورَةُ ذُنُوبُهُمْ بِحَسَنَاتِهِمْ. وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] [الزَّلْزَلَةِ: 7 - 8] ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَبِلَالِ بْنِ سَعْدٍ الدِّمَشْقِيِّ، قَالَ الْحَسَنُ: فَالْعَبْدُ يُذْنِبُ، ثُمَّ يَتُوبُ، وَيَسْتَغْفِرُ: يُغْفَرُ لَهُ، وَلَكِنْ لَا يُمْحَاهُ مِنْ كِتَابِهِ دُونَ أَنْ يَقِفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْأَلُهُ عَنْهُ، ثُمَّ بَكَى الْحَسَنُ بُكَاءً شَدِيدًا، وَقَالَ: وَلَوْ لَمْ نَبْكِ إِلَّا لِلْحَيَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْمَقَامِ، لَكَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَبْكِيَ. وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ، وَلَكِنْ لَا يَمْحُوهَا مِنَ الصَّحِيفَةِ حَتَّى يُوقِفَهُ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ تَابَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يُدْنِي اللَّهُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيَسْتُرُهُ مِنَ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا، وَيَدْفَعُ إِلَيْهِ كِتَابَهُ فِي ذَلِكَ السَّتْرِ، فَيَقُولُ: اقْرَأْ يَا ابْنَ آدَمَ كِتَابَكَ، فَيَقْرَأُ، فَيَمُرُّ بِالْحَسَنَةِ فَيَبْيَضُّ لَهَا وَجْهُهُ، وَيُسَرُّ بِهَا قَلْبُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: أَتَعْرِفُ يَا

عَبْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: إِنِّي قَبِلْتُهَا مِنْكَ، فَيَسْجُدُ، فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَعُدْ فِي كِتَابِكَ، فَيَمُرُّ بِالسَّيِّئَةِ، فَيَسْوَدُّ لَهَا وَجْهُهُ، وَيَوْجَلُ لَهَا قَلْبُهُ، وَتَرْتَعِدُ مِنْهَا فَرَائِصُهُ، وَيَأْخُذُهُ مِنَ الْحَيَاءِ مِنْ رَبِّهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ يَا عَبْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ، فَيَسْجُدُ، فَلَا يَرَى مِنْهُ الْخَلَائِقُ إِلَّا السُّجُودَ حَتَّى يُنَادِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: طُوبَى لِهَذَا الْعَبْدِ الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهَ قَطُّ، وَلَا يَدْرُونَ مَا قَدْ لَقِيَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِمَّا قَدْ وَقَفَهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنْ سَلْمَانَ: يُعْطَى الرَّجُلُ صَحِيفَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقْرَأُ أَعْلَاهَا، فَإِذَا سَيِّئَاتُهُ، فَإِذَا كَادَ يَسُوءُ ظَنُّهُ، نَظَرَ فِي أَسْفَلِهَا، فَإِذَا حَسَنَاتُهُ، ثُمَّ نَظَرَ فِي أَعْلَاهَا، فَإِذَا هِيَ قَدْ بُدِّلَتْ حَسَنَاتٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ أَصَحُّ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ: الْمُتَّقِينَ، ثُمَّ الشَّاكِرِينَ، ثُمَّ الْخَائِفِينَ،

ثُمَّ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. قِيلَ: لِمَ سُمُّوا أَصْحَابَ الْيَمِينِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ عَمِلُوا الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَأَعْطُوا كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، فَقَرَءُوا سَيِّئَاتِهِمْ حَرْفًا حَرْفًا قَالُوا: يَا رَبَّنَا هَذِهِ سَيِّئَاتُنَا فَأَيْنَ حَسَنَاتُنَا؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ مَحَا اللَّهُ السَّيِّئَاتِ، وَجَعَلَهَا حَسَنَاتٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] [الْحَاقَّةِ: 19] فَهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَأَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ قَدْ يَحْمِلُونَ أَحَادِيثَ مَحْوِ السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ عَلَى مَحْوِ عُقُوبَاتِهَا دُونَ مَحْوِ كِتَابَتِهَا مِنَ الصُّحُفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» " هَذَا مِنْ خِصَالِ التَّقْوَى، وَلَا تَتِمُّ التَّقْوَى إِلَّا بِهِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ لِلْحَاجَةِ إِلَى بَيَانِهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ التَّقْوَى هِيَ الْقِيَامُ بِحَقِّ اللَّهِ دُونَ حُقُوقِ عِبَادِهِ، فَنَصَّ لَهُ عَلَى الْأَمْرِ بِإِحْسَانِ الْعِشْرَةِ لِلنَّاسِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ مُعَلِّمًا لَهُمْ وَمُفَقِّهًا وَقَاضِيًا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مُخَالَقَةِ النَّاسِ بِخُلُقٍ حَسَنٍ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّا لَا حَاجَةَ لِلنَّاسِ بِهِ وَلَا يُخَالِطُهُمْ، وَكَثِيرًا مَا يَغْلِبُ عَلَى مَنْ يَعْتَنِي بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ، وَالِانْعِكَافِ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَخَشْيَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَإِهْمَالِ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوِ التَّقْصِيرِ فِيهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ عَزِيزٌ جِدًّا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ إِلَّا الْكُمَّلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ عَزِيزَةٌ أَوْ مَعْدُومَةٌ: حُسْنُ الْوَجْهِ مَعَ الصِّيَانَةِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ مَعَ الدِّيَانَةِ، وَحُسْنُ الْإِخَاءِ مَعَ الْأَمَانَةِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: جَلَسَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَالِيًا، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَالِي أَرَاكَ خَالِيًا؟ قَالَ: هَجَرْتُ النَّاسَ فِيكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: يَا دَاوُدُ أَلَا أَدُلَّكَ عَلَى مَا تَسْتَبْقِي بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ، وَتَبْلُغُ فِيهِ رِضَايَ؟ خَالِقِ النَّاسَ بِأَخْلَاقِهِمْ، وَاحْتَجِزِ الْإِيمَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. وَقَدْ عَدَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مُخَالَقَةَ النَّاسِ بِخُلُقٍ حَسَنٍ مِنْ خِصَالِ التَّقْوَى، بَلْ

بَدَأَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134] [آلِ عِمْرَانَ: 133 - 134] . وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ، كَيْفَ أَكُونُ تَقِيًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ؟ قَالَ: بِيَسِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ: تُحِبُّ اللَّهَ بِقَلْبِكَ كُلِّهِ، وَتَعْمَلُ بِكَدْحِكَ وَقُوَّتِكَ مَا اسْتَطَعْتَ، وَتَرْحَمُ ابْنَ جِنْسِكَ كَمَا تَرْحَمُ نَفْسَكَ، قَالَ: مَنِ ابْنُ جِنْسِي يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ؟ قَالَ: وَلَدُ آدَمَ كُلُّهُمْ، وَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ، فَلَا تَأْتِهِ لِأَحَدٍ وَأَنْتَ تَتَّقِي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ. وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُسْنَ الْخُلُقِ أَكْمَلَ خِصَالَ الْإِيمَانِ، كَمَا خَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» وَخَرَّجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَزَادَ فِيهِ: " «إِنَّ الْمَرْءَ لَيَكُونُ مُؤْمِنًا وَإِنَّ فِي خُلُقِهِ شَيْئًا فَيَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ إِيمَانِهِ» ". وَخَرَّجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَفْضَلُ مَا أُعْطِيَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ؟ قَالَ: " الْخُلُقُ الْحَسَنُ» . وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ صَاحِبَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ يَبْلُغُ بِخُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ

لِئَلَّا يَشْتَغِلَ الْمُرِيدُ لِلتَّقْوَى عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَيَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُهُ عَنْ فَضْلِهِمَا، فَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ الصَّائِمِ وَالْقَائِمِ» . وَأَخْبَرَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ وَأَقْرَبُهُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مَجْلِسًا، فَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي مِيزَانِ الْعَبْدِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ» . وَخَرَّجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَى اللَّهِ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا» وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ» ، وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ تَفْسِيرُ حُسْنِ الْخُلُقِ فَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: حُسْنُ الْخُلُقِ: الْكَرَمُ وَالْبِذْلَةُ وَالِاحْتِمَالُ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: حُسْنُ الْخُلُقِ: الْبِذْلَةُ وَالْعَطِيَّةُ وَالْبِشْرُ الْحَسَنُ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ كَذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: هُوَ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى. وَسُئِلَ سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، فَأَنْشَدَ: تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلًا ... كَأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي كَفِّهِ غَيْرُ رُوحِهِ ... لَجَادَ بِهَا فَلْيَتَّقِ اللَّهَ سَائِلُهُ هُوَ الْبَحْرُ مِنْ أَيِّ النَّوَاحِي أَتَيْتَهُ ... فَلُجَّتُهُ الْمَعْرُوفُ وَالْجُودُ سَاحِلُهُ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حُسْنُ الْخُلُقِ أَنْ لَا تَغْضَبَ وَلَا تَحْتَدَّ، وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: حُسْنُ الْخُلُقِ أَنْ تَحْتَمِلَ مَا يَكُونُ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: هُوَ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَأَنْ لَا تَغْضَبَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: حُسْنُ الْخُلُقِ كَظْمُ الْغَيْظِ لِلَّهِ، وَإِظْهَارُ الطَّلَاقَةِ وَالْبِشْرُ إِلَّا لِلْمُبْتَدِعِ وَالْفَاجِرِ، وَالْعَفْوُ عَنِ الزَّالِّينَ إِلَّا تَأْدِيبًا وَإِقَامَةُ الْحَدِّ وَكَفُّ الْأَذَى عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَوَمُعَاهَدٍ إِلَّا تَغْيِيرَ مُنْكَرٍ وَأَخْذًا بِمَظْلَمَةٍ لِمَظْلُومٍ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ. وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَفْضَلُ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصْفَحَ عَمَّنْ شَتَمَكَ» . وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ «عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عُقْبَةُ، أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ أَخْلَاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ» . وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَكْرَمِ أَخْلَاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ.»

[الحديث التاسع عشر احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله]

[الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ]

الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ التِّرْمِذِيِّ: «احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» . ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حَنَشِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ مَعَ إِسْنَادَيْنِ آخَرَيْنِ مُنْقَطِعَيْنِ وَلَمْ يُمَيِّزْ لَفْظَ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَلَفْظُ حَدِيثِهِ: «يَا غُلَامُ أَوْ يَا غُلَيْمُ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ

يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: " احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» . وَهَذَا اللَّفْظُ أَتَمُّ مِنَ اللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَزَاهُ إِلَى غَيْرِ التِّرْمِذِيِّ، وَاللَّفْظُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي " مُسْنَدِهِ " بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَلِكَ عَزَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي " الْأَحَادِيثِ الْكُلِّيَّةِ " الَّتِي هِيَ أَصْلُ أَرْبَعِينَ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِهِ عَلِيٍّ وَمَوْلَاهُ عِكْرِمَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ

اللَّهِ، وَعُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَأَصَحُّ الطُّرُقِ كُلِّهَا طَرِيقُ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ الَّتِي خَرَّجَهَا التِّرْمِذِيُّ، كَذَا قَالَ ابْنُ مِنْدَهْ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَصَّى ابْنَ عَبَّاسٍ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَفِي أَسَانِيدِهَا كُلِّهَا ضَعْفٌ.

وَذَكَرَ الْعُقَيْلِيُّ أَنَّ أَسَانِيدَ الْحَدِيثِ كُلَّهَا لَيِّنَةٌ، وَبَعْضَهَا أَصْلَحُ مِنْ بَعْضٍ، وَبِكُلِّ حَالٍ، فَطَرِيقُ حَنَشٍ الَّتِي خَرَّجَهَا التِّرْمِذِيُّ حَسَنَةٌ جَيِّدَةٌ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَتَضَمَّنُ وَصَايَا عَظِيمَةً وَقَوَاعِدَ كُلِّيَّةً مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَدَبَّرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَأَدْهَشَنِي وَكِدْتُ أَطِيشُ، فَوَا أَسَفَا مِنَ الْجَهْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقِلَّةِ التَّفَهُّمِ لِمَعْنَاهُ. قُلْتُ: وَقَدْ أَفْرَدْتُ لِشَرْحِهِ جُزْءًا كَبِيرًا وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَاهُنَا مَقَاصِدَهُ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْفَظِ اللَّهَ " يَعْنِي: احْفَظْ حُدُودَهُ، وَحُقُوقَهُ، وَأَوَامِرَهُ، وَنَوَاهِيَهُ، وَحِفْظُ ذَلِكَ: هُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَ أَوَامِرِهِ بِالِامْتِثَالِ، وَعِنْدَ نَوَاهِيهِ بِالِاجْتِنَابِ، وَعِنْدَ حُدُودِهِ، فَلَا يَتَجَاوَزُ مَا أَمَرَ بِهِ، وَأَذِنَ فِيهِ إِلَى مَا نَهَى عَنْهُ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنَ الْحَافِظِينَ لِحُدُودِ اللَّهِ الَّذِينَ مَدَحَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ - مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 32 - 33] [ق: 32 - 33] وَفُسِّرَ الْحَفِيظُ هَاهُنَا بِالْحَافِظِ لِأَوَامِرِ اللَّهِ، وَبِالْحَافِظِ لِذُنُوبِهِ لِيَتُوبَ مِنْهَا. وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ الصَّلَاةُ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، فَقَالَ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] [الْبَقَرَةِ: 238] ، وَمَدَحَ الْمُحَافِظِينَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34] [الْمَعَارِجِ: 34] .

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ، فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» . وَمِمَّا يُؤْمَرُ بِحِفْظِهِ الْأَيْمَانُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] [الْمَائِدَةِ: 89] ، فَإِنَّ الْأَيْمَانَ يَقَعُ النَّاسُ فِيهَا كَثِيرًا، وَيُهْمِلُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَا يَجِبُ بِهَا، فَلَا يَحْفَظُهُ، وَلَا يَلْتَزِمُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ حِفْظُ الرَّأْسِ وَالْبَطْنِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَرْفُوعِ: " «الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى» " خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَحِفْظُ الرَّأْسِ وَمَا وَعَى يَدْخُلُ فِيهِ حِفْظُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَحِفْظُ الْبَطْنِ وَمَا حَوَى يَتَضَمَّنُ حِفْظَ الْقَلْبِ عَنِ الْإِصْرَارِ عَلَى مُحَرَّمٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]

[الْبَقَرَةِ: 235] ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] [الْإِسْرَاءِ: 36] . وَيَتَضَمَّنُ أَيْضًا حِفْظَ الْبَطْنِ مِنْ إِدْخَالِ الْحَرَامِ إِلَيْهِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ. وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ مِنْ نَوَاهِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: اللِّسَانُ وَالْفَرْجُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَفِظَ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ» خَرَّجَهُ الْحَاكِمُ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَفِظَ مَا بَيْنَ فَقْمَيْهِ وَفَرْجِهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ، وَمَدَحَ الْحَافِظِينَ لَهَا، فَقَالَ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] [النُّورِ: 30] ، وَقَالَ:

{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] [الْأَحْزَابِ: 35] ، وَقَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6] [الْمُؤْمِنُونَ: 1 - 6] . وَقَالَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ: أَوَّلُ مَا وَصَّى اللَّهُ بِهِ آدَمَ عِنْدَ إِهْبَاطِهِ إِلَى الْأَرْضِ: حَفِظُ فَرْجِهِ، وَقَالَ لَا تَضَعْهُ إِلَّا فِي حَلَالٍ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَحْفَظْكَ " يَعْنِي: أَنَّ مَنْ حَفِظَ حُدُودَ اللَّهِ، وَرَاعَى حُقُوقَهُ، حَفِظَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] [الْبَقَرَةِ: 40] ، وَقَالَ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] [الْبَقَرَةِ: 152] ، وَقَالَ: إِنَّ {تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] [مُحَمَّدٍ: 7] . وَحِفْظُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ يَدْخُلُ فِيهِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: حِفْظُهُ لَهُ فِي مَصَالِحِ دُنْيَاهُ، كَحِفْظِهِ فِي بَدَنِهِ وَوَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] [الرَّعْدِ: 11] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّوْا عَنْهُ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ مِمَّا لَمْ يُقَدَّرْ فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّيَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَإِنَّ الْأَجَلَّ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا لَهُ مَلَكٌ يَحْفَظُهُ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ، فَمَا مِنْ شَيْءٍ يَأْتِيهِ إِلَّا قَالَ: وَرَاءَكَ، إِلَّا شَيْئًا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ فَيُصِيبُهُ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي، وَآمِنْ رَوْعَتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» ". وَمَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ فِي صِبَاهُ وَقُوَّتِهِ، حَفِظَهُ اللَّهُ فِي حَالِ كِبَرِهِ وَضَعْفِ قُوَّتِهِ، وَمَتَّعَهُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَعَقْلِهِ. كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ سَنَةً وَهُوَ مُمَتَّعٌ بِقُوَّتِهِ وَعَقْلِهِ، فَوَثَبَ يَوْمًا وَثْبَةً شَدِيدَةً، فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذِهِ جَوَارِحٌ حَفِظْنَاهَا عَنِ الْمَعَاصِي فِي الصِّغَرِ، فَحَفِظَهَا اللَّهُ عَلَيْنَا فِي الْكِبَرِ. وَعَكْسُ هَذَا أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ رَأَى شَيْخًا يَسْأَلُ النَّاسَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ ضَيَّعَ اللَّهَ فِي صِغَرِهِ، فَضَيَّعَهُ اللَّهُ فِي كِبَرِهِ.

وَقَدْ يَحْفَظُ اللَّهُ الْعَبْدَ بِصَلَاحِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي ذُرِّيَّتِهِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] [الْكَهْفِ: 82] : أَنَّهُمَا حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لِابْنِهِ: لَأَزِيدَنَّ فِي صَلَاتِي مِنْ أَجْلِكَ، رَجَاءَ أَنْ أُحْفَظَ فِيكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ إِلَّا حَفِظَهُ اللَّهُ فِي عَقِبِهِ وَعَقِبِ عَقِبِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّ اللَّهَ لَيَحْفَظُ بِالرَّجُلِ الصَّالِحِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَالدُّوَيْرَاتِ الَّتِي حَوْلَهُ فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظٍ مِنَ اللَّهِ وَسِتْرٍ. وَمَتَى كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَغِلًا بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كَانَتِ امْرَأَةٌ فِي بَيْتٍ، فَخَرَجَتْ فِي سَرِيَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَرَكَتْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ عَنَزَةً وَصِيصِيَتَهَا كَانَتْ تَنْسِجُ بِهَا، قَالَ: فَفَقَدَتْ عَنْزًا لَهَا وَصِيصِيَتَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ إِنَّكَ قَدْ ضَمِنْتَ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِكَ أَنْ تَحْفَظَ عَلَيْهِ، وَإِنِّي قَدْ فَقَدْتُ عَنْزًا مِنْ غَنَمِي وَصِيصِيَتِي، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ عَنْزِي وَصِيصِيَتِي قَالَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شِدَّةَ مُنَاشَدَتِهَا رَبَّهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَصْبَحَتْ عَنْزُهَا وَمِثْلُهَا، وَصَيْصِيَتُهَا وَمِثْلُهَا» . وَالصِّيصِيَةُ: هِيَ الصِّنَّارَةُ الَّتِي يُغْزَلُ بِهَا وَيُنْسَجُ. فَمَنْ حَفِظَ اللَّهَ حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ أَذًى قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنِ اتَّقَى اللَّهَ فَقَدْ حَفِظَ نَفْسَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَ تَقْوَاهُ، فَقَدْ ضَيَّعَ نَفْسَهُ، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عَنْهُ.

وَمِنْ عَجِيبِ حِفْظِ اللَّهِ لِمَنْ حَفِظَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُؤْذِيَةَ بِالطَّبْعِ حَافِظَةً لَهُ مِنَ الْأَذَى، كَمَا جَرَى لِسَفِينَةَ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كُسِرَ بِهِ الْمَرْكِبُ، وَخَرَجَ إِلَى جَزِيرَةٍ، فَرَأَى الْأَسَدَ، فَجَعَلَ يَمْشِي مَعَهُ حَتَّى دَلَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَلَمَّا أَوْقَفَهُ عَلَيْهَا، جَعَلَ يُهَمْهِمْ كَأَنَّهُ يُوَدِّعُهُ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وَرُئِيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ نَائِمًا فِي بُسْتَانٍ وَعِنْدَهُ حَيَّةٌ فِي فَمِهَا طَاقَةُ نَرْجِسٍ، فَمَا زَالَتْ تَذُبُّ عَنْهُ حَتَّى اسْتَيْقَظَ. وَعَكْسُ هَذَا أَنَّ مَنْ ضَيَّعَ اللَّهَ، ضَيَّعَهُ اللَّهُ، فَضَاعَ بَيْنَ خَلْقِهِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ الضَّرَرُ وَالْأَذَى مِمَّنْ كَانَ يَرْجُو نَفْعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ فَأَعْرِفُ ذَلِكَ فِي خُلُقِ خَادِمِي وَدَابَّتِي. النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْحِفْظِ، وَهُوَ أَشْرَفُ النَّوْعَيْنِ: حِفْظُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ فِي دِينِهِ وَإِيمَانِهِ، فَيَحْفَظُهُ فِي حَيَاتِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ الْمُضِلَّةِ، وَمِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، وَيَحْفَظُ عَلَيْهِ دِينَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَيَتَوَفَّاهُ عَلَى الْإِيمَانِ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا حَضَرَ الرَّجُلَ الْمَوْتُ يُقَالُ لِلْمَلَكِ: شَمَّ رَأْسَهُ، قَالَ: أَجِدُ فِي رَأْسِهِ الْقُرْآنَ، قَالَ: شَمَّ قَلْبَهُ، قَالَ: أَجِدُ فِي قَلْبِهِ الصِّيَامَ، قَالَ: شَمَّ قَدَمَيْهِ قَالَ: أَجِدُ فِي قَدَمَيْهِ الْقِيَامَ قَالَ: حَفِظَ نَفْسَهُ، فَحَفِظَهُ اللَّهُ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " «عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ

مَنَامِهِ: إِنْ قَبَضْتَ نَفْسِي، فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا، فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ» . وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ احْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ قَائِمًا، وَاحْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ قَاعِدًا، وَاحْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ رَاقِدًا، وَلَا تُطِعْ فِيَّ عَدُوًّا وَلَا حَاسِدًا» خَرَّجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ ". «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَدِّعُ مَنْ أَرَادَ سَفَرًا، فَيَقُولُ: " أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ " وَكَانَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ إِذَا اسْتُوْدِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ» ". خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ. وَفِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَحْفَظُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْحَافِظِ لِحُدُودِ دِينِهِ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِفْظِ، وَقَدْ لَا يَشْعُرُ الْعَبْدُ بِبَعْضِهَا، وَقَدْ يَكُونُ كَارِهًا لَهُ، كَمَا قَالَ فِي حَقِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] [يُوسُفَ: 24] .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] [الْأَنْفَالِ: 24] ، قَالَ يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي تَجُرُّهُ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ - وَذَكَرَ أَهْلَ الْمَعَاصِي -: هَانُوا عَلَيْهِ، فَعَصَوْهُ، وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَهُمُّ بِالْأَمْرِ مِنَ التِّجَارَةِ وَالْإِمَارَةِ حَتَّى يُيَسَّرَ لَهُ، فَيَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: اصْرِفُوهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ إِنْ يَسَّرْتُهُ لَهُ أَدْخَلْتُهُ النَّارَ، فَيَصْرِفُهُ اللَّهُ عَنْهُ، فَيَظَلُّ يَتَطَيَّرُ يَقُولُ: سَبَقَنِي فَلَانٌ دَهَانِي فُلَانٌ، وَمَا هُوَ إِلَّا فَضْلُ اللَّهِ عَزَّ جَلَّ. وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ، وَإِنْ بَسَطْتُ عَلَيْهِ أَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ، لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الصِّحَّةُ، وَلَوْ أَسْقَمْتُهُ، لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا السَّقَمُ، وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ يَطْلُبُ بَابًا مِنَ الْعِبَادَةِ، فَأَكُفُّهُ عَنْهُ، لِكَيْلَا يَدْخُلَهُ الْعُجْبُ، إِنِّي أُدَبِّرُ عِبَادِي بِعِلْمِي بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، إِنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ» .

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ» وَفِي رِوَايَةٍ: " أَمَامَكَ " مَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ حَفِظَ حُدُودَ اللَّهِ، وَرَاعَى حُقُوقَهُ، وَجَدَ اللَّهَ مَعَهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَ يَحُوطُهُ وَيَنْصُرُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيُوَفِّقُهُ وَيُسَدِّدُهُ فِـ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] [النَّحْلِ: 128] قَالَ قَتَادَةُ: مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَكُنْ مَعَهُ، وَمَنْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ، فَمَعَهُ الْفِئَةُ الَّتِي لَا تُغْلَبُ، وَالْحَارِسُ الَّذِي لَا يَنَامُ، وَالْهَادِي الَّذِي لَا يَضِلُّ. كَتَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَخٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنْ كَانَ اللَّهُ مَعَكَ فَمَنْ تَخَافُ؟ وَإِنْ كَانَ عَلَيْكَ فَمَنْ تَرْجُو؟ وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] [طَهَ: 46] ، وَقَوْلُ مُوسَى: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] [الشُّعَرَاءِ: 62] وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَهُمَا فِي الْغَارِ «مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنٍ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» . فَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ تَقْتَضِي النَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ، وَالْحِفْظَ وَالْإِعَانَةَ بِخِلَافِ الْمَعِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا} [المجادلة: 7] [الْمُجَادَلَةِ: 7] ، وَقَوْلِهِ: {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108] [الْبَقَرَةِ: 108] ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعِيَّةَ تَقْتَضِي عِلْمَهُ وَاطِّلَاعَهُ وَمُرَاقَبَتَهُ لِأَعْمَالِهِمْ، فَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِتَخْوِيفِ الْعِبَادِ مِنْهُ. وَالْمَعِيَّةُ الْأُولَى تَقْتَضِي حِفْظَ الْعَبْدِ وَحِيَاطَتَهُ وَنَصْرَهُ، فَمَنْ حَفِظَ اللَّهَ، وَرَاعَى حُقُوقَهُ، وَجَدَهُ أَمَامَهُ وَتُجَاهَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَاسْتَأْنَسَ بِهِ، وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ خَلْقِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ " «أَفْضَلُ الْإِيمَانِ

أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ» " وَقَدْ سَبَقَ. وَرُوِيَ عَنْ بُنَانَ الْحَمَّالِ أَنَّهُ دَخَلَ الْبَرِّيَّةَ وَحْدَهُ عَلَى طَرِيقِ تَبُوكَ، فَاسْتَوْحَشَ، فَهَتَفَ بِهِ هَاتِفٌ: لِمَ تَسْتَوْحِشُ؟ أَلَيْسَ حَبِيبُكَ مَعَكَ؟ وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: أَلَّا تَسْتَوْحِشُ وَحْدَكَ؟ فَقَالَ: كَيْفَ أَسْتَوْحِشُ، وَهُوَ يَقُولُ: " أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي " وَقِيلَ لِآخَرَ: نَرَاكَ وَحْدَكَ؟ فَقَالَ: مَنْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ، كَيْفَ يَكُونُ وَحْدَهُ؟ وَقِيلَ لِآخَرَ: أَمَا مَعَكَ مُؤْنِسٌ؟ قَالَ: بَلَى، قِيلَ لَهُ: أَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: أَمَامِي، وَمَعِي، وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَفَوْقِي وَكَانَ الشِّبْلِيُّ يُنْشِدُ: إِذَا نَحْنُ أَدْلَجْنَا وَأَنْتَ أَمَامَنَا ... كَفَى لِمَطَايَانَا بِذِكْرِكَ هَادِيَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ» " يَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا

اتَّقَى اللَّهَ، وَحَفِظَ حُدُودَهُ، وَرَاعَى حُقُوقَهُ فِي حَالِ رَخَائِهِ، فَقَدْ تَعَرَّفَ بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، وَصَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ، فَعَرَفَهُ رَبُّهُ فِي الشِّدَّةِ، وَرَعَى لَهُ تَعَرُّفَهُ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، فَنَجَّاهُ مِنَ الشَّدَائِدِ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ، وَهَذِهِ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ تَقْتَضِي قُرْبَ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَمَحَبَّتَهُ لَهُ، وَإِجَابَتَهُ لِدُعَائِهِ. فَمَعْرِفَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَعْرِفَةُ الْعَامَّةُ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ الْإِقْرَارِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ، وَهَذِهِ عَامَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالثَّانِي: مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ تَقْتَضِي مَيْلَ الْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالِانْقِطَاعَ إِلَيْهِ، وَالْأُنْسَ بِهِ، وَالطُّمَأْنِينَةَ بِذِكْرِهِ، وَالْحَيَاءَ مِنْهُ، وَالْهَيْبَةَ لَهُ، وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ الْخَاصَّةُ هِيَ الَّتِي يَدُورُ حَوْلَهَا الْعَارِفُونَ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَسَاكِينُ أَهْلِ الدُّنْيَا، خَرَجُوا مِنْهَا وَمَا ذَاقُوا أَطْيَبَ مَا فِيهَا، قِيلَ لَهُ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيُّ: أُحِبُّ أَنْ لَا أَمُوتَ حَتَّى أَعْرِفَ مَوْلَايَ، وَلَيْسَ مَعْرِفَتُهُ الْإِقْرَارَ بِهِ، وَلَكِنَّ الْمَعْرِفَةَ إِذَا عَرَفْتَهُ اسْتَحْيَيْتَ مِنْهُ. وَمَعْرِفَةُ اللَّهِ أَيْضًا لِعَبْدِهِ نَوْعَانِ: مَعْرِفَةٌ عَامَّةٌ، وَهِيَ عِلْمُهُ سُبْحَانَهُ بِعِبَادِهِ، وَاطِّلَاعُهُ عَلَى مَا أَسَرُّوهُ وَمَا أَعْلَنُوهُ، كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] [ق: 16] ، قَالَ: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] [النَّجْمِ: 32] . وَالثَّانِي: مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ تَقْتَضِي مَحَبَّتَهُ لِعَبْدِهِ، وَتَقْرِيبَهُ إِلَيْهِ، وَإِجَابَةَ دُعَائِهِ، وَإِنْجَاءَهُ مِنَ الشَّدَائِدِ، وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُحْكَى عَنْ رَبِّهِ " «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي

يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي، لِأُعِيذَنَّهُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ: " «وَلَئِنْ دَعَانِي لِأُجِيبَنَّهُ» ". وَلَمَّا هَرَبَ الْحَسَنُ مِنَ الْحَجَّاجِ دَخَلَ إِلَى بَيْتِ حَبِيبٍ أَبِي مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ حَبِيبٌ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، أَلَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَبِّكَ مَا تَدْعُوهُ، فَيَسْتُرُكَ مِنْ هَؤُلَاءِ؟ ادْخُلِ الْبَيْتَ، فَدَخَلَ، وَدَخَلَ الشُّرَطُ عَلَى أَثَرِهِ، فَلَمْ يَرَوْهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلْحَجَّاجِ، فَقَالَ: بَلْ كَانَ فِي الْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ طَمَسَ أَعْيُنَهُمْ فَلَمْ يَرَوْهُ. وَاجْتَمَعَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ بِشَعْوَانَةَ الْعَابِدَةِ، فَسَأَلَهَا الدُّعَاءَ، فَقَالَتْ: يَا فُضَيْلُ، وَمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَا إِنْ دَعَوْتَهُ أَجَابَكَ، فَغُشِيَ عَلَى الْفُضَيْلِ. وَقِيلَ لِمَعْرُوفٍ: وَمَا الَّذِي هَيَّجَكَ إِلَى الِانْقِطَاعِ وَالْعِبَادَةِ؟ وَذَكَرَ لَهُ الْمَوْتَ وَالْبَرْزَخَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ - فَقَالَ مَعْرُوفٌ: إِنَّ مَلِكًا هَذَا كُلُّهُ بِيَدِهِ إِنْ كَانَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ كَفَاكَ جَمِيعَ هَذَا. وَفِي الْجُمْلَةِ، فَمَنْ عَامَلَ اللَّهَ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ فِي حَالِ رَخَائِهِ، عَامَلَهُ اللَّهُ بِاللُّطْفِ وَالْإِعَانَةِ فِي حَالِ شِدَّتِهِ. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ» . وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ «أَنَّ يُونُسَ

عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَا فِي بَطْنِ الْحُوتِ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ هَذَا صَوْتٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادٍ غَرِيبَةٍ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَمَا تَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: عَبْدِي يُونُسُ، قَالُوا: عَبْدُكَ يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ وَدَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: يَا رَبِّ، أَفَلَا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنْجِيَهِ مِنَ الْبَلَاءِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَأَمَرَ اللَّهُ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ بِالْعَرَاءِ» . وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ: اذْكُرُوا اللَّهَ فِي الرَّخَاءِ، يَذْكُرْكُمْ فِي الشِّدَّةِ، إِنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى، فَلَمَّا وَقَعَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ - لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144] [الصَّافَّاتِ: 143 - 144] وَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ طَاغِيًا نَاسِيًا لِذِكْرِ اللَّهِ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ، قَالَ: آمَنْتُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] [يُونُسَ: 91] . وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ دَعَّاءً فِي السَّرَّاءِ، فَنَزَلَتْ بِهِ ضَرَّاءُ، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: صَوْتٌ مَعْرُوفٌ فَشَفَعُوا لَهُ، وَإِذَا كَانَ لَيْسَ بِدَعَّاءٍ فِي السَّرَّاءِ، فَنَزَلَتْ بِهِ ضَرَّاءُ، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: صَوْتٌ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، فَلَا يَشْفَعُونَ لَهُ. وَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ: أَوْصِنِي، فَقَالَ: اذْكُرِ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ يَذْكُرْكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الضَّرَّاءِ.

وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ادْعُ اللَّهَ فِي يَوْمِ سَرَّائِكَ لَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكَ فِي يَوْمِ ضَرَّائِكَ. وَأَعْظَمُ الشَّدَائِدِ الَّتِي تَنْزِلُ بِالْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا الْمَوْتُ، وَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَصِيرُ الْعَبْدِ إِلَى خَيْرٍ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ بِالتَّقْوَى وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ - وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 18 - 19] [الْحَشْرِ: 18 - 19] . فَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَرَخَائِهِ، وَاسْتَعَدَّ حِينَئِذٍ لِلِقَاءِ اللَّهِ بِالْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ، ذَكَرَهُ اللَّهُ عِنْدَ هَذِهِ الشَّدَائِدِ، فَكَانَ مَعَهُ فِيهَا، وَلَطَفَ بِهِ، وَأَعَانَهُ، وَتَوَلَّاهُ، وَثَبَّتَهُ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَلَقِيَهُ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَمَنْ نَسِيَ اللَّهَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَرَخَائِهِ، وَلَمْ يَسْتَعِدَّ حِينَئِذٍ لِلِقَائِهِ، نَسِيَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الشَّدَائِدِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَأَهْمَلَهُ فَإِذَا نَزَلَ الْمَوْتُ بِالْمُؤْمِنِ الْمُسْتَعِدِّ لَهُ، أَحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ، وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى مِنَ اللَّهِ، فَأَحَبَ لِقَاءَ اللَّهِ، وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَالْفَاجِرُ بِعَكْسِ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَبْشِرُ بِمَا قَدَّمَهُ مِمَّا هُوَ قَادِمٌ عَلَيْهِ، وَيَنْدَمُ الْمُفْرِّطُ، وَيَقُولُ: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] [الزُّمَرِ: 56. ] قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَبْلَ مَوْتِهِ: كَيْفَ لَا أَرْجُو رَبِّي وَقَدْ صُمْتُ لَهُ ثَمَانِينَ رَمَضَانَ؟ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ لِابْنِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: أَتَرَى اللَّهَ يُضَيِّعُ لِأَبِيكَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَخْتِمُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ؟ .

وَخَتَمَ آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ الْقُرْآنَ وَهُوَ مُسَجَّى لِلْمَوْتِ، ثُمَّ قَالَ: بِحُبِّي لَكَ، إِلَّا رَفَقْتَ بِي فِي هَذَا الْمَصْرَعِ؟ كُنْتُ أُؤَمِّلُكَ لِهَذَا الْيَوْمِ، كُنْتُ أَرْجُوكَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَضَى. وَلَمَّا احْتُضِرَ زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، رَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي إِلَيْكَ لَمُشْتَاقٌ. وَقَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ الزَّاهِدُ عِنْدَ مَوْتِهِ: سَيِّدِي لِهَذِهِ السَّاعَةِ خَبَّأْتُكَ، وَلِهَذَا الْيَوْمِ اقْتَنَيْتُكَ، حَقِّقْ حُسْنَ ظَنِّي بِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] [الطَّلَاقِ: 2] قَالَ: مِنَ الْكَرْبِ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يُنْجِيهِ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَنْ لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [فصلت: 30] الْآيَةَ [فُصِّلَتْ: 30] قَالَ: يُبَشَّرُ بِذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَفِي قَبْرِهِ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ، فَإِنَّهُ لَفِي الْجَنَّةِ، وَمَا ذَهَبَتْ فَرْحَةُ الْبِشَارَةِ مِنْ قَلْبِهِ.

وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: بَلَغَنَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ حَيْثُ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مِنْ قَبْرِهِ، وَيَتَلَقَّاهُ مَلَكَاهُ اللَّذَانِ كَانَا مَعَهُ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ لَهُ: لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ، فَيُؤَمِّنُ اللَّهُ خَوْفَهُ، وَيُقِرُّ اللَّهُ عَيْنَهُ، فَمَا مِنْ عَظِيمَةٍ تَغْشَى النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هِيَ لِلْمُؤْمِنِ قُرَّةُ عَيْنٍ لِمَا هَدَاهُ اللَّهُ، وَلِمَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ» هَذَا مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، فَإِنَّ السُّؤَالَ هُوَ دُعَاؤُهُ وَالرَّغْبَةُ إِلَيْهِ. وَالدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ، كَذَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] [غَافِرٍ: 60] خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» فَتَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ أَنْ يُسْأَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يُسْأَلَ غَيْرُهُ، وَأَنْ يُسْتَعَانَ بِاللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ، فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِمَسْأَلَتِهِ، فَقَالَ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] [النِّسَاءِ: 32] وَفِي " التِّرْمِذِيِّ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ» ".

وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " مَنْ لَا يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ ". وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: " «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ» ". وَفِي النَّهْيِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمَخْلُوقِينَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى أَنْ لَا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا: مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَثَوْبَانُ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَسْقُطُ سَوْطُهُ أَوْ خِطَامُ نَاقَتِهِ، فَلَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ.

وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ «رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَنِي فُلَانٍ أَغَارُوا عَلَيَّ فَذَهَبُوا بِابْنِي وَإِبِلِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ آلَ مُحَمَّدٍ كَذَا وَكَذَا أَهْلُ بَيْتٍ، مَا لَهُمْ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعٍ، فَاسْأَلِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَرَجَعَ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَتْ: مَا قَالَ لَكَ؟ فَأَخْبَرَهَا، فَقَالَتْ: نِعْمَ مَا رَدَّ عَلَيْكَ، فَمَا لَبِثَ أَنْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ ابْنَهُ وَإِبِلَهُ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِمَسْأَلَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ، وَقَرَأَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] [الطَّلَاقِ: 2] » . وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ، فَأَسْتَجِيبُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟» . وَخَرَّجَ الْمُحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي دَعَانِي فَلَمْ أُجِبْهُ؟ وَسَأَلَنِي فَلَمْ أُعْطِهِ؟ وَاسْتَغْفَرَنِي، فَلَمْ أَغْفِرْ لَهُ وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ؟» .

وَاعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ خَلْقِهِ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ، لِأَنَّ السُّؤَالَ فِيهِ إِظْهَارُ الذُّلِّ مِنَ السَّائِلِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ، وَفِيهِ الِاعْتِرَافُ بِقُدْرَةِ الْمَسْئُولِ عَلَى دَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ، وَنَيْلِ الْمَطْلُوبِ، وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ، وَدَرْءِ الْمَضَارِّ، وَلَا يَصْلُحُ الذُّلُّ وَالِافْتِقَارُ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَدْعُو وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجْهِي عَنِ السُّجُودِ لِغَيْرِكَ فَصُنْهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ لِغَيْرِكَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ سِوَاهُ. كَمَا قَالَ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] [يُونُسَ: 107] ، وَقَالَ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] [فَاطِرٍ: 2] . وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ وَيُرْغَبَ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ، وَيُلَحَّ فِي سُؤَالِهِ وَدُعَائِهِ، وَيَغْضَبَ عَلَى مَنْ لَا يَسْأَلُهُ، وَيَسْتَدْعِي مِنْ عِبَادِهِ سُؤَالَهُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعْطَاءِ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ سُؤْلَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ مُلْكِهِ شَيْءٌ، وَالْمَخْلُوقُ بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ: يَكْرَهُ أَنْ يَسْأَلَ، وَيُحِبُّ أَنْ لَا يُسْأَلَ، لِعَجْزِهِ وَفَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ لِرَجُلٍ كَانَ يَأْتِي الْمُلُوكَ: وَيْحَكَ، تَأْتِي مَنْ يُغْلِقُ عَنْكَ بَابَهُ، وَيُظْهِرُ لَكَ فَقْرَهُ، وَيُوَارِي عَنْكَ غِنَاهُ، وَتَدَعُ مَنْ يَفْتَحُ لَكَ بَابَهُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَنِصْفَ النَّهَارِ، وَيُظْهِرُ لَكَ غِنَاهُ، وَيَقُولُ ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ؟ ! . وَقَالَ طَاوُسٌ لِعَطَاءٍ: إِيَّاكَ أَنْ تَطْلُبَ حَوَائِجَكَ إِلَى مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ دُونَكَ وَيَجْعَلُ دُونَهَا حُجَّابَهُ، وَعَلَيْكَ بِمَنْ بَابُهُ مَفْتُوحٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ، وَوَعَدَكَ أَنْ يُجِيبَكَ. وَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْخَلْقِ، فَلِأَنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِجَلْبِ مَصَالِحِهِ، وَدَفْعِ مَضَارِّهِ، وَلَا مُعِينَ لَهُ عَلَى مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ

إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ أَعَانَهُ اللَّهُ، فَهُوَ الْمُعَانُ، وَمَنْ خَذَلَهُ فَهُوَ الْمَخْذُولُ، وَهَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى قَوْلِ: " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " فَإِنَّ الْمَعْنَى لَا تَحَوُّلَ لِلْعَبْدِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَلَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، فَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ فِي فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ كُلِّهَا فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ مِنْ أَهْوَالِ الْبَرْزَخِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ حَقَّقَ الِاسْتِعَانَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَعَانَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ» . وَمَنْ تَرَكَ الِاسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ، وَاسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ، وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى مَنِ اسْتَعَانَ بِهِ فَصَارَ مَخْذُولًا. كَتَبَ الْحَسَنُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَا تَسْتَعِنْ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَيَكِلُكَ اللَّهُ إِلَيْهِ. وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ: يَا رَبِّ عَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفُكَ كَيْفَ يَرْجُو غَيْرَكَ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفُكَ كَيْفَ يَسْتَعِينُ بِغَيْرِكَ. قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ» "، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " «رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» " هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَقَدُّمِ كِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ كُلِّهَا، وَالْفَرَاغِ مِنْهَا مِنْ أَمَدٍ بَعِيدٍ، فَإِنَّ الْكِتَابَ إِذَا فُرِغَ مِنْ كِتَابَتِهِ، وَرُفِعَتِ الْأَقْلَامُ عَنْهُ، وَطَالَ عَهْدُهُ، فَقَدْ رُفِعَتْ عَنْهُ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ الَّتِي كُتِبَ بِهَا مِنْ مِدَادِهَا، وَجَفَّتِ الصَّحِيفَةُ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا بِالْمِدَادِ الْمَكْتُوبِ بِهِ فِيهَا، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكِنَايَاتِ وَأَبْلَغِهَا.

وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَنُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] [الْحَدِيدِ: 22] وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ أَنَّ «رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِيمَ الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ، وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، أَمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا يَطُولُ ذِكْرُهَا. قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ» . هَذِهِ رِوَايَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَرِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَالْمُرَادُ: أَنَّ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ فِي دُنْيَاهُ مِمَّا يَضُرُّهُ أَوْ يَنْفَعُهُ، فَكُلُّهُ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ، وَلَا يُصِيبُ الْعَبْدَ

إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ مِنْ مَقَادِيرِ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ، وَلَوِ اجْتَهَدَ عَلَى ذَلِكَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ جَمِيعًا. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] [التَّوْبَةِ: 51] ، وَقَوْلِهِ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] [الْحَدِيدِ: 22] ، وَقَوْلِهِ: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154] [آلِ عِمْرَانَ: 154] . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ» . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى ذَلِكَ أَيْضًا. وَاعْلَمْ أَنَّ مَدَارَ جَمِيعِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، فَهُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ، وَرَاجِعٌ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَلِمَ أَنْ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَأَنَّ اجْتِهَادَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ عَلَى خِلَافِ الْمَقْدُورِ غَيْرُ مُفِيدٍ الْبَتَّةَ، عَلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ، الْمُعْطِي الْمَانِعُ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ لِلْعَبْدِ تَوْحِيدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِفْرَادَهُ بِالطَّاعَةِ، وَحِفْظَ حُدُودِهِ، فَإِنَّ الْمَعْبُودَ إِنَّمَا يَقْصِدُ بِعِبَادَتِهِ جَلْبَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعَ الْمَضَارِّ، وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ مَنْ يَعْبُدُ مَنْ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يُغْنِي عَنْ عَابِدِهِ شَيْئًا، فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ غَيْرُ اللَّهِ، أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ إِفْرَادَهُ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْمَحَبَّةِ وَالسُّؤَالِ

وَالتَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ، وَتَقْدِيمِ طَاعَتِهِ عَلَى طَاعَةِ الْخَلْقِ جَمِيعًا، وَأَنْ يَتَّقِيَ سُخْطَهُ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ سُخْطُ الْخَلْقِ جَمِيعًا، وَإِفْرَادُهُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالسُّؤَالِ لَهُ، وَإِخْلَاصِ الدُّعَاءِ لَهُ فِي حَالِ الشِّدَّةِ وَحَالِ الرَّخَاءِ، بِخِلَافِ مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ مِنْ إِخْلَاصِ الدُّعَاءِ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَنِسْيَانِهِ فِي الرَّخَاءِ، وَدُعَاءِ مَنْ يَرْجُونَ نَفْعَهُ مِنْ دُونِهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] [الزُّمَرِ: 38] . قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا» يَعْنِي: أَنَّ مَا أَصَابَ الْعَبْدَ مِنَ الْمَصَائِبِ الْمُؤْلِمَةِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَيْهِ إِذَا صَبَرَ عَلَيْهَا، كَانَ لَهُ فِي الصَّبْرِ خَيْرٌ كَثِيرٌ. وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ زِيَادَةٌ أُخْرَى قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ، وَهِيَ " «فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضَا فِي الْيَقِينِ، فَافْعَلْ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ، فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا» ". وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ، لَكِنَّ إِسْنَادَهَا ضَعِيفٌ، زِيَادَةٌ أُخْرَى بَعْدَ هَذَا، وَهِيَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْيَقِينِ؟ قَالَ: " أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، فَإِذَا أَنْتَ أَحْكَمْتَ بَابَ الْيَقِينِ» " وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ حُصُولَ الْيَقِينِ لِلْقَلْبِ بِالْقَضَاءِ السَّابِقِ وَالتَّقْدِيرِ الْمَاضِي يُعِينُ الْعَبْدَ عَلَى أَنْ تَرْضَى نَفْسُهُ بِمَا أَصَابَهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْيَقِينِ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ عَلَى الرِّضَا بِالْمَقْدُورِ، فَلْيَفْعَلْ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الرِّضَا، فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ خَيْرًا كَثِيرًا.

فَهَاتَانِ دَرَجَتَانِ لِلْمُؤْمِنِ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي الْمَصَائِبِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْضَى بِذَلِكَ، وَهِيَ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ رَفِيعَةٌ جِدًّا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] [التَّغَابُنِ: 11] قَالَ عَلْقَمَةُ: هِيَ الْمُصِيبَةُ تُصِيبُ الرَّجُلَ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُسَلِّمُ لَهَا وَيَرْضَى. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ، فَلَهُ الرِّضَا، وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ» ، «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: " أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ» . وَمِمَّا يَدْعُو الْمُؤْمِنَ إِلَى الرِّضَا بِالْقَضَاءِ تَحْقِيقُ إِيمَانِهِ بِمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ» . «وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُوصِيَهُ وَصِيَّةً جَامِعَةً مُوجَزَةً، فَقَالَ: " لَا تَتَّهِمِ اللَّهَ فِي قَضَائِهِ» ". قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى قَضَاءً أَحَبَّ أَنْ يُرْضَى بِهِ، وَقَالَ ابْنُ

مَسْعُودٍ: إِنَّ اللَّهَ بِقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ جَعَلَ الرُّوحَ وَالْفَرَحَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضَا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ؛ فَالرَّاضِي لَا يَتَمَنَّى غَيْرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةٍ وَرَخَاءٍ كَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَصْبَحْتُ وَمَالِي سُرُورٌ إِلَّا فِي مَوَاضِعِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. فَمَنْ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ، كَانَ عَيْشُهُ كُلُّهُ فِي نَعِيمٍ وَسُرُورٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] [النَّحْلِ: 97] قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ: هِيَ الرِّضَا وَالْقَنَاعَةُ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ: الرِّضَا بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ وَجَنَّةُ الدُّنْيَا وَمُسْتَرَاحُ الْعَابِدِينَ. وَأَهْلُ الرِّضَا تَارَةً يُلَاحِظُونَ حِكْمَةَ الْمُبْتَلِي وَخَيْرَتَهُ لِعَبْدِهِ فِي الْبَلَاءِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي قَضَائِهِ، وَتَارَةً يُلَاحِظُونَ ثَوَابَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، فَيُنْسِيهِمْ أَلَمَ الْمَقْضِيِّ بِهِ، وَتَارَةً يُلَاحِظُونَ عَظَمَةَ الْمُبْتَلِي وَجَلَالَهُ وَكَمَالَهُ، فَيَسْتَغْرِقُونَ فِي مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ، حَتَّى لَا يَشْعُرُونَ بِالْأَلَمِ، وَهَذَا يَصِلُ إِلَيْهِ خَوَاصُّ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، حَتَّى رُبَّمَا تَلَذَّذُوا بِمَا أَصَابَهُمْ لِمُلَاحَظَتِهِمْ صُدُورَهُ عَنْ حَبِيبِهِمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَوَجَدَهُمْ فِي عَذَابِهِ عُذُوبَةً. وَسُئِلَ بَعْضُ التَّابِعِينَ عَنْ حَالِهِ فِي مَرَضِهِ، فَقَالَ: أَحَبُّهُ إِلَيْهِ أَحَبُّهُ إِلَيَّ. وَسُئِلَ السَّرِيُّ: هَلْ يَجِدُ الْمُحِبُّ أَلَمَ الْبَلَاءِ؟ فَقَالَ: لَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَذَابُهُ فِيكَ عَذْبٌ ... وَبُعْدُهُ فِيكَ قُرْبُ وَأَنْتَ عِنْدِي كَرُوحِي ... بَلْ أَنْتَ مِنْهَا أَحَبُّ

حَسْبِي مِنَ الْحُبِّ أَنِّي لِمَا تُحِبُّ أُحِبُّ وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْبَلَاءِ، وَهَذِهِ لِمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، فَالرِّضَا فَضْلٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، مُسْتَحَبٌّ، وَالصَّبْرُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتْمٌ، وَفِي الصَّبْرِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ، وَوَعَدَ عَلَيْهِ جَزِيلَ الْأَجْرِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] [الزُّمَرِ: 10] ، وَقَالَ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157] [الْبَقَرَةِ: 155 - 157] قَالَ الْحَسَنُ: الرِّضَا عَزِيزٌ، وَلَكِنَّ الصَّبْرَ مُعَوَّلُ الْمُؤْمِنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّضَا وَالصَّبْرِ: أَنَّ الصَّبْرَ كَفُّ النَّفْسِ وَحَبْسُهَا عَنِ التَّسَخُّطِ مَعَ وُجُودِ الْأَلَمِ، وَتَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ، وَكَفُّ الْجَوَارِحِ عَنِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْجَزَعِ، وَالرِّضَا: انْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَسَعَتُهُ بِالْقَضَاءِ، وَتَرْكُ تَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ الْمُؤْلِمِ، وَإِنْ وُجِدَ الْإِحْسَاسُ بِالْأَلَمِ، لَكِنَّ الرِّضَا يُخَفِّفُهُ لِمَا يُبَاشِرُ الْقَلْبَ مِنْ رُوحِ الْيَقِينِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَإِذَا قَوِيَ الرِّضَا، فَقَدْ يُزِيلُ الْإِحْسَاسَ بِالْأَلَمِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا سَبَقَ. قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ» ". هَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] [الْبَقَرَةِ: 249] وَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] [الْأَنْفَالِ: 66] وَقَالَ عُمَرُ لِأَشْيَاخٍ مِنْ بَنِي عَبْسٍ: بِمَ قَاتَلْتُمُ النَّاسَ؟ قَالُوا: بِالصَّبْرِ، لَمْ نَلْقَ قَوْمًا إِلَّا صَبَرْنَا لَهُمْ كَمَا صَبَرُوا لَنَا. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّنَا يَكْرَهُ الْمَوْتَ

وَأَلَمَ الْجِرَاحِ، وَلَكِنْ نَتَفَاضَلُ بِالصَّبْرِ. وَقَالَ الْبَطَّالُ: الشَّجَاعَةُ صَبْرُ سَاعَةٍ. وَهَذَا فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ الظَّاهِرِ، وَهُوَ جِهَادُ الْكُفَّارِ، وَكَذَلِكَ جِهَادُ الْعَدُوِّ الْبَاطِنِ، هُوَ جِهَادُ النَّفْسِ وَالْهَوَى، فَإِنَّ جِهَادَهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ» . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْجِهَادِ: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ، فَجَاهِدْهَا، وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ، فَاغْزُهَا. وَقَالَ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، حَدَّثَنَا الثِّقَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَا تُنْكِرُونَ مِنْ جِهَادِكُمْ أَنْفُسَكُمْ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ لِقَوْمٍ جَاءُوا مِنَ الْغَزْوِ: قَدْ جِئْتُمْ مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ، فَمَا فَعَلْتُمْ فِي الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ؟ قَالُوا: وَمَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ؟ قَالَ: جِهَادُ الْقَلْبِ. وَيُرْوَى هَذَا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَلَفْظُهُ: «قَدِمْتُمْ مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ " قَالُوا: وَمَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ؟ قَالَ: " مُجَاهَدَةُ الْعَبْدِ لِهَوَاهُ» .

وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «لَيْسَ عَدَوُّكَ الَّذِي إِذَا قَتَلَكَ أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ، وَإِذَا قَتَلْتَهُ كَانَ لَكَ نُورًا، أَعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ» ". وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ اسْتَخْلَفَهُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا أُحَذِّرُكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ. فَهَذَا الْجِهَادُ يَحْتَاجُ أَيْضًا إِلَى صَبْرٍ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ وَشَيْطَانِهِ، غَلَبَهُ وَحَصَلَ لَهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ، وَمَلَكَ نَفْسَهُ، فَصَارَ عَزِيزًا مَلِكًا، وَمَنْ جَزَعَ وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى مُجَاهَدَةِ ذَلِكَ، غُلِبَ وَقُهِرَ وَأُسِرَ، وَصَارَ عَبْدًا ذَلِيلًا أَسِيرًا فِي يَدَيْ شَيْطَانِهِ وَهَوَاهُ، كَمَا قِيلَ: إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَغْلِبْ هَوَاهُ أَقَامَهُ ... بِمَنْزِلَةٍ فِيهَا الْعَزِيزُ ذَلِيلُ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَنْ صَبَرَ، فَمَا أَقَلَّ مَا يَصْبِرُ، وَمَنْ جَزَعَ فَمَا أَقَلَّ مَا يَتَمَتَّعُ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ» " يَشْمَلُ النَّصْرَ فِي الْجِهَادَيْنِ: جِهَادِ الْعَدُوِّ الظَّاهِرِ، وَجِهَادِ الْعَدُوِّ الْبَاطِنِ، فَمَنْ صَبَرَ فِيهِمَا، نُصِرَ وَظَفِرَ بِعَدُوِّهِ، وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ فِيهِمَا وَجَزِعَ، قُهِرَ وَصَارَ أَسِيرًا لِعَدُوِّهِ أَوْ قَتِيلًا لَهُ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ» " وَهَذَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28] [الشُّورَى: 28] وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ» خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَخَرَّجَهُ ابْنُهُ عَبْدُ

اللَّهِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ، وَفِيهِ: " «عَلِمَ اللَّهُ يَوْمَ الْغَيْثِ أَنَّهُ لَيُشْرِفُ عَلَيْكُمْ أَزِلِينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ غِيَرَكُمْ إِلَى قُرْبٍ» " وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْجَبُ مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ عِنْدَ احْتِبَاسِ الْقَطْرِ عَنْهُمْ وَقُنُوطِهِمْ وَيَأْسِهِمْ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقَدِ اقْتَرَبَ وَقْتُ فَرَجِهِ وَرَحْمَتِهِ لِعِبَادِهِ، بِإِنْزَالِ الْغَيْثِ عَلَيْهِمْ، وَتَغْيِيرِهِ لِحَالِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ - وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم: 48 - 49] [الرُّومِ: 48 - 49] وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110] [يُوسُفَ: 110] وَقَالَ: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] [الْبَقَرَةِ: 214] وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ يَعْقُوبَ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِيهِ: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] [يُوسُفَ: 87] ، ثُمَّ قَصَّ قِصَّةَ اجْتِمَاعِهِمْ عَقِبَ ذَلِكَ. وَكَمْ قَصَّ سُبْحَانَهُ مِنْ قِصَصِ تَفْرِيجِ كُرُبَاتِ أَنْبِيَائِهِ عِنْدَ تَنَاهِي الْكَرْبِ كَإِنْجَاءِ نُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَإِنْجَاءِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ النَّارِ، وَفِدَائِهِ لِوَلَدِهِ الَّذِي أُمِرَ بِذَبْحِهِ، وَإِنْجَاءِ مُوسَى وَقَوْمِهِ مِنَ الْيَمِّ، وَإِغْرَاقِ عَدُوِّهِمْ، وَقِصَّةِ أَيُّوبَ وَيُونُسَ، وَقِصَصِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَعْدَائِهِ، وَإِنْجَائِهِ مِنْهُمْ، كَقِصَّتِهِ فِي الْغَارِ، وَيَوْمِ بَدْرٍ، وَيَوْمِ أُحُدٍ، وَيَوْمِ الْأَحْزَابِ، وَيَوْمِ حُنَيْنٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» " هُوَ مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]

[الطَّلَاقِ: 7] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا - إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6] [الشَّرْحِ: 5 - 6] . وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «لَوْ جَاءَ الْعُسْرُ، فَدَخَلَ هَذَا الْجُحْرَ، لَجَاءَ الْيُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ فَيُخْرِجَهُ " فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا - إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6] » . وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا نَحْوَهُ، وَفِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ الْعُسْرَ دَخَلَ فِي جُحْرٍ لَجَاءَ الْيُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا - إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6] وَبِإِسْنَادِهِ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ حُصِرَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ

يَقُولُ: مَهْمَا يَنْزِلْ بِامْرِئٍ شِدَّةٌ يَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَهَا فَرَجًا، وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، وَإِنَّهُ يَقُولُ: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] [آلِ عِمْرَانَ: 200] . وَمِنْ لَطَائِفِ أَسْرَارِ اقْتِرَانِ الْفَرَجِ بِالْكَرْبِ وَالْيُسْرِ بِالْعُسْرِ: أَنَّ الْكَرْبَ إِذَا اشْتَدَّ وَعَظُمَ وَتَنَاهَى، وَحَصَلَ لِلْعَبْدِ الْإِيَاسُ مِنْ كَشْفِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَخْلُوقِينَ، وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُطْلَبُ بِهَا الْحَوَائِجُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَكْفِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] [الطَّلَاقِ: 3] . وَرَوَى آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: «جَاءَ مَالِكٌ الْأَشْجَعِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أُسِرَ ابْنِي عَوْفٌ، فَقَالَ لَهُ: أَرْسِلْ إِلَيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ، فَأَكَبَّ عَوْفٌ يَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَكَانُوا قَدْ شَدُّوهُ بِالْقِدِّ فَسَقَطَ الْقِدُّ عَنْهُ، فَخَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِنَاقَةٍ لَهُمْ فَرَكِبَهَا، فَأَقْبَلَ فَإِذَا هُوَ بِسَرْحِ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ شَدُّوهُ، فَصَاحَ بِهِمْ، فَاتَّبَعَ آخِرُهَا أَوَّلَهَا، فَلَمْ يَفْجَأْ أَبَوَيْهِ إِلَّا وَهُوَ يُنَادِي

بِالْبَابِ، فَقَالَ أَبُوهُ: عَوْفٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: وَاسَوْأَتَاهُ، وَعَوْفٌ كَئِيبٌ يَأْلَمُ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْقِدِّ، فَاسْتَبَقَ الْأَبُ وَالْخَادِمُ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَوْفٌ قَدْ مَلَأَ الْفِنَاءَ إِبِلًا، فَقَصَّ عَلَى أَبِيهِ أَمْرَهُ وَأَمَرَ الْإِبِلَ، فَأَتَى أَبُوهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ بِخَبَرِ عَوْفٍ وَخَبَرِ الْإِبِلِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْنَعْ بِهَا مَا أَحْبَبْتَ، وَمَا كُنْتَ صَانِعًا بِإِبِلِكَ، وَنَزَلَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 - 3] [الطَّلَاقِ: 2 - 3] الْآيَةِ» . قَالَ الْفُضَيْلُ: لَوْ يَئِسْتَ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى لَا تُرِيدَ مِنْهُمْ شَيْئًا، لَأَعْطَاكَ مَوْلَاكَ كُلَّ مَا تُرِيدُ. وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ عَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: مَا سَأَلَ السَّائِلُونَ مَسْأَلَةً هِيَ أَلْحَفُ مِنْ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: يَعْنِي بِذَلِكَ التَّفْوِيضَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ: بَلَغَنِي أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ، فَطَلَبَهَا، فَأَبْطَأَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا حَاجَتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَجِبَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَكَ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْجَحُ مَا طُلِبَتْ بِهِ الْحَوَائِجُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا اسْتَبْطَأَ الْفَرَجَ، وَأَيِسَ مِنْهُ بَعْدَ كَثْرَةِ دُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ أَثَرُ الْإِجَابَةِ فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ بِاللَّائِمَةِ، وَقَالَ لَهَا: إِنَّمَا أُتِيتُ مِنْ قِبَلِكِ، وَلَوْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ لَأُجِبْتُ، وَهَذَا اللَّوْمُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ انْكِسَارَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ وَاعْتِرَافَهُ لَهُ بِأَنَّهُ أَهْلٌ لِمَا نَزَلَ مِنَ الْبَلَاءِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، فَلِذَلِكَ تُسْرِعُ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَتَفْرِيجُ الْكُرَبِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِهِ.

قَالَ وَهْبٌ: تَعَبَّدَ رَجُلٌ زَمَانًا، ثُمَّ بَدَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ، فَصَامَ سَبْعِينَ سَبْتًا، يَأْكُلُ فِي كُلِّ سَبْتٍ إِحْدَى عَشْرَةَ تَمْرَةً، ثُمَّ سَأَلَ اللَّهَ حَاجَتَهُ فَلَمْ يُعْطِهَا، فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: مِنْكِ أُتِيتُ، لَوْ كَانَ فِيكِ خَيْرٌ، أُعْطِيتِ حَاجَتَكِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ مَلَكٌ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ سَاعَتُكَ هَذِهِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَتِكَ الَّتِي مَضَتْ، وَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَاجَتَكَ. خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. وَلِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي هَذَا الْمَعْنَى: عَسَى مَا تَرَى أَنْ لَا يَدُومَ وَإِنْ تَرَى ... لَهُ فَرَجًا مِمَّا أَلَحَّ بِهِ الدَّهْرُ عَسَى فَرَجٌ يَأْتِي بِهِ اللَّهُ إِنَّهُ ... لَهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي خَلِيقَتِهِ أَمْرُ إِذَا لَاحَ عُسْرٌ فَارْجُ الْيُسْرَ فَإِنَّهُ ... قَضَى اللَّهُ أَنَّ الْعُسْرَ يَتْبَعُهُ الْيُسْرُ

[الحديث العشرون إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت]

[الْحَدِيثُ الْعِشْرُونَ إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ]

الْحَدِيثُ الْعِشْرُونَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ خِرَاشٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَظُنُّ مُسْلِمًا لَمْ يُخَرِّجْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ قَوْمٌ، فَقَالُوا: عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ، لَكِنَّ أَكْثَرَ الْحُفَّاظِ حَكَمُوا بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، مِنْهُمُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ

أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ مِنْ رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ عَنْهُ. وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ هَذَا مَأْثُورٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَنَّ النَّاسَ تَدَاوَلُوهُ بَيْنَهُمْ، وَتَوَارَثُوهُ عَنْهُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ جَاءَتْ بِهَذَا الْكَلَامِ، وَأَنَّهُ اشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ: " «لَمْ يُدْرِكِ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إِلَّا هَذَا» ". خَرَّجَهَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ وَغَيْرُهُ. وَقَوْلُهُ " «إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» " فِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَنَّ يَصْنَعَ مَا شَاءَ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى الذَّمِّ وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَأَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَهُمْ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمْرٌ بِمَعْنَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْمَعْنَى: إِذَا لَمْ يَكُنْ حَيَاءٌ، فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ، فَاللَّهُ يُجَازِيكَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40] [فُصِّلَتْ: 40] ، وَقَوْلِهِ: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] [الزُّمَرِ: 15] ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ بَاعَ الْخَمْرَ، فَلْيُشَقِّصِ الْخَنَازِيرَ» " يَعْنِي لِيَقْطَعْهَا إِمَّا لِبَيْعِهَا

أَوْ لِأَكْلِهَا، وَأَمْثِلَتُهُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَهَذَا اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ ثَعْلَبٍ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَمْرٌ، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَحْيِ، صَنَعَ مَا شَاءَ، فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنْ فِعْلِ الْقَبَائِحِ هُوَ الْحَيَاءُ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَيَاءٌ، انْهَمَكَ فِي كُلِّ فَحْشَاءَ وَمُنْكَرٍ، وَمَا يَمْتَنِعُ مِنْ مِثْلِهِ مَنْ لَهُ حَيَاءٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ، فَإِنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَأَنَّ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَابْنِ قُتَيْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي قَبِيلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِذَا أَبْغَضَ اللَّهُ عَبْدًا، نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ، فَإِذَا نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ، لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا بَغِيضًا مُتَبَغِّضًا، وَنَزَعَ مِنْهُ الْأَمَانَةَ، فَإِذَا نَزَعَ مِنْهُ الْأَمَانَةَ، نَزَعَ مِنْهُ الرَّحْمَةَ، وَإِذَا نَزَعَ مِنْهُ الرَّحْمَةَ، نَزَعَ مِنْهُ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا نَزَعَ مِنْهُ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ، لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا» ". خَرَّجَهُ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أَيْضًا. وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ هَلَاكًا، نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ، فَإِذَا

نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ، لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا مَقِيتًا مُمَقَّتًا، فَإِذَا كَانَ مَقِيتًا مُمَقَّتًا، نَزَعَ مِنْهُ الْأَمَانَةَ، فَلَمْ تَلْقَهُ إِلَّا خَائِنًا مُخَوَّنًا، فَإِذَا كَانَ خَائِنًا مُخَوَّنًا، نَزَعَ مِنْهُ الرَّحْمَةَ، فَلَمْ تَلْقَهُ إِلَّا فَظًّا غَلِيظًا، فَإِذَا كَانَ فَظًّا غَلِيظًا، نَزَعَ رِبْقَ الْإِيمَانِ مِنْ عُنُقِهِ، فَإِذَا نَزَعَ رِبْقَ الْإِيمَانِ مِنْ عُنُقِهِ لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا شَيْطَانًا لَعِينًا مُلَعَّنًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ فِي قَرَنٍ، فَإِذَا نُزِعَ الْحَيَاءُ، تَبِعَهُ الْآخَرُ. خَرَّجَهُ كُلَّهُ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأَدَبِ ". وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ» .

وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " «الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» ". وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: " «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» "، أَوْ قَالَ: " «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ» ". وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ «حَدِيثِ الْأَشَجِّ الْعَصْرِيِّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ فِيكَ لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ "، قُلْتُ: مَا هُمَا؟ قَالَ: " الْحِلْمُ وَالْحَيَاءُ " قُلْتُ: أَقَدِيمًا كَانَ أَوْ حَدِيثًا؟ قَالَ " بَلْ قَدِيمًا " قُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ» . وَقَالَ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ «دَخَلَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ فَاسْتَسْقَى، فَأَتَى بِمَاءٍ فَشَرِبَ، فَسَتَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ:

" الْحَيَاءُ خُلَّةٌ أُوتُوهَا وَمُنِعْتُمُوهَا» ". وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَيَاءَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ خُلُقًا وَجِبِلَّةً غَيْرَ مُكْتَسَبٍ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْأَخْلَاقِ الَّتِي يَمْنَحُهَا اللَّهُ الْعَبْدَ وَيَجْبُلُهُ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ» " فَإِنَّهُ يَكُفُّ عَنِ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ وَدَنَاءَةِ الْأَخْلَاقِ، وَيَحُثُّ عَلَى اسْتِعْمَالِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَعَالِيهَا، فَهُوَ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنِ اسْتَحْيَا، اخْتَفَى، وَمَنِ اخْتَفَى، اتَّقَى، وَمَنِ اتَّقَى وُقِيَ. وَقَالَ الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ - وَكَانَ فَارِسَ أَهْلِ الشَّامِ -: تَرَكْتُ الذُّنُوبَ حَيَاءً أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ أَدْرَكَنِي الْوَرَعُ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: رَأَيْتُ الْمَعَاصِي نَذَالَةً، فَتَرَكْتُهَا مُرُوءَةً فَاسْتَحَالَتْ دِيَانَةً. النَّوْعُ الثَّانِي: مَا كَانَ مُكْتَسَبًا مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَمَعْرِفَةِ عَظَمَتِهِ وَقُرْبِهِ مِنْ عِبَادِهِ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِمْ، وَعِلْمِهِ بِخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، فَهَذَا مِنْ أَعْلَى خِصَالِ الْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ مِنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: " اسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ كَمَا تَسْتَحْيِي رَجُلًا مِنْ صَالِحِ عَشِيرَتِكَ» ". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " «الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللَّهِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَأَنْ تَذْكُرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى؛ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ» " خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا.

وَقَدْ يَتَوَلَّدُ مِنَ اللَّهِ الْحَيَاءُ مِنْ مُطَالَعَةِ نِعَمِهِ وَرُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ فِي شُكْرِهَا، فَإِذَا سُلِبَ الْعَبْدُ الْحَيَاءَ الْمُكْتَسَبَ وَالْغَرِيزِيَّ، لَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنِ ارْتِكَابِ الْقَبِيحِ، وَالْأَخْلَاقِ الدَّنِيئَةِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَا إِيمَانَ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الْحَيَاءُ حَيَاءَانِ: طَرَفٌ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْآخَرُ عَجْزٌ» " وَلَعَلَّهُ مِنْ كَلَامِ الْحَسَنِ، وَكَذَلِكَ قَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ الْعَدَوِيُّ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: إِنَّا نَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ، وَمِنْهُ ضَعْفٌ، فَغَضِبَ عِمْرَانُ وَقَالَ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُعَارِضُ فِيهِ؟ وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ عِمْرَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ الْمَمْدُوحَ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الْخُلُقَ الَّذِي يَحُثُّ عَلَى فِعْلِ الْجَمِيلِ، وَتَرْكِ الْقَبِيحِ، فَأَمَّا الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ الَّذِي يُوجِبُ التَّقْصِيرَ فِي شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَوْ حُقُوقِ عِبَادِهِ، فَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْحَيَاءِ، إِنَّمَا هُوَ ضَعْفٌ وَخَوَرٌ، وَعَجْزٌ وَمَهَانَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: " «إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» " أَنَّهُ أَمْرٌ بِفِعْلِ مَا يَشَاءُ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: إِذَا كَانَ الَّذِي تُرِيدُ فِعْلَهُ مِمَّا لَا يُسْتَحْيَا مِنْ فِعْلِهِ لَا مِنَ اللَّهِ وَلَا مِنَ النَّاسِ، لِكَوْنِهِ مِنْ أَفْعَالِ الطَّاعَاتِ، أَوْ مِنْ جَمِيلِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، فَاصْنَعْ مِنْهُ حِينَئِذٍ مَا شِئْتَ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمْ إِسْحَاقُ الْمَرْوَزِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَحُكِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ نُسَخِ " مَسَائِلِ أَبِي دَاوُدَ " الْمُخْتَصَرَةِ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الَّذِي فِي النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ التَّامَّةِ كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْهُ مِنْ قَبْلُ، وَكَذَلِكَ حَكَاهُ عَنْهُ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ " الْأَدَبِ "، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ السَّلَفِ - وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْمُرُوءَةِ - فَقَالَ: أَنْ لَا تَعْمَلَ فِي السِّرِّ شَيْئًا تَسْتَحْيِي مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَسَيَأْتِي قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنَّ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَى عَبْدُ الرَّازِقِ فِي كِتَابِهِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَفْضَلُ مَا أُوتِيَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ؟ قَالَ: " الْخُلُقُ الْحَسَنُ " قَالَ: فَمَا شَرُّ مَا أُوتِيَ الْمُسْلِمُ؟ قَالَ: " إِذَا كَرِهْتَ أَنْ يُرَى عَلَيْكَ شَيْءٌ فِي نَادِي الْقَوْمِ، فَلَا تَفْعَلْهُ إِذَا خَلَوْتَ» ". وَفِي " صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ " عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَا كَرِهَ مِنْكَ شَيْئًا، فَلَا تَفْعَلْهُ إِذَا خَلَوْتَ» ". وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ «حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ

مَا تَمَامُ الْبِرِّ؟ قَالَ: " أَنْ تَعْمَلَ فِي السِّرِّ عَمَلَ الْعَلَانِيَةِ ". وَخَرَّجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَامِرٍ السُّكُونِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَكَرَهُ» . وَرَوَى عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ فِي كِتَابِ " أَدَبِ الْمُحَدِّثِ " بِإِسْنَادِهِ «عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَزْدَادَ مِنَ الْعِلْمِ، فَقُمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَعْمَلَ بِهِ؟ قَالَ: " ائْتِ الْمَعْرُوفَ، وَاجْتَنِبِ الْمُنْكَرَ، وَانْظُرِ الَّذِي سَمِعَتْهُ أُذُنُكَ مِنَ الْخَيْرِ يَقُولُهُ الْقَوْمُ لَكَ إِذَا قُمْتَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَأْتِهِ، وَانْظُرِ الَّذِي تَكْرَهُ أَنْ يَقُولَهُ الْقَوْمُ لَكَ إِذَا قُمْتَ مِنْ عِنْدِهِمْ، فَاجْتَنِبْهُ " قَالَ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُمَا أَمْرَانِ لَمْ يَتْرُكَا شَيْئًا: إِتْيَانُ الْمَعْرُوفِ، وَاجْتِنَابُ الْمُنْكَرِ» . وَخَرَّجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي " طَبَقَاتِهِ " بِمَعْنَاهُ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ قَوْلًا آخَرَ حَكَاهُ عَنْ جَرِيرٍ: قَالَ مَعْنَاهُ أَنْ يُرِيدَ الرَّجُلُ أَنْ يَعْمَلَ الْخَيْرَ، فَيَدَعُهُ حَيَاءً مِنَ النَّاسِ كَأَنَّهُ يَخَافُ الرِّيَاءَ، يَقُولُ: فَلَا يَمْنَعَنَّكَ الْحَيَاءُ مِنَ الْمُضِيِّ لِمَا أَرَدْتَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " «إِذَا جَاءَكَ الشَّيْطَانُ وَأَنْتَ تُصَلِّي، فَقَالَ: إِنَّكَ تُرَائِي، فَزِدْهَا طُولًا» " ثُمَّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا

الْحَدِيثُ لَيْسَ يَجِيءُ سِيَاقُهُ وَلَا لَفْظُهُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، وَلَا عَلَى هَذَا يَحْمِلُهُ النَّاسُ. قُلْتُ: لَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالَهُ جَرِيرٌ، لَكَانَ لَفْظُ الْحَدِيثِ: إِذَا اسْتَحْيَيْتَ مِمَّا لَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ، فَافْعَلْ مَا شِئْتَ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ وَمَعْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[الحديث الحادي والعشرون قل آمنت بالله ثم استقم]

[الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ]

الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ. «عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ، قَالَ: قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُفْيَانَ وَسُفْيَانُ: هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ الطَّائِفِيُّ لَهُ صُحْبَةٌ، وَكَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى الطَّائِفِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ بِزِيَادَاتٍ، فَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَاعِزٍ، وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَاعِزٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، قَالَ هَذَا» ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْنِي بِأَمْرٍ فِي الْإِسْلَامِ لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ

قَالَ: قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ قُلْتُ: فَمَا أَتَّقِي؟ فَأَوْمَأَ إِلَى لِسَانِهِ» . «قَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ " طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعْلِمَهُ كَلَامًا جَامِعًا لِأَمْرِ الْإِسْلَامِ كَافِيًا حَتَّى لَا يَحْتَاجَ بَعْدَهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ» وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: " قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ " هَذَا مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَنْ لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] [فُصِّلَتْ: 30] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13 - 14] [الْأَحْقَافِ: 13 - 14] . وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي حَزْمٍ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف: 13] فَقَالَ: " قَدْ قَالَهَا النَّاسُ، ثُمَّ كَفَرُوا، فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ» ". وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَفْظُهُ: فَقَالَ: " «قَدْ قَالَهَا النَّاسُ، ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ، فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ مِمَّنِ اسْتَقَامَ» "، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَسُهَيْلٌ تُكُلِّمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي تَفْسِيرِ ثُمَّ اسْتَقَامُوا قَالَ: لَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا. وَعَنْهُ قَالَ: لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَهٍ غَيْرِهِ. وَعَنْهُ قَالَ: ثُمَّ اسْتَقَامُوا عَلَى أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ قَالَ: هَذِهِ أَرْخَصُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَنَسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْأُسُودِ بْنِ هِلَالٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَالسُّدِّيِّ وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] ، فَقَالَ: لَمْ يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثَّعْلَبِ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] قَالَ: اسْتَقَامُوا عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِهِ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: ثُمَّ أَخْلَصُوا لَهُ الدِّينَ وَالْعَمَلَ. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: اسْتَقَامُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ

قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّنَا فَارْزُقْنَا الِاسْتِقَامَةَ. وَلَعَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى التَّوْحِيدِ إِنَّمَا أَرَادَ التَّوْحِيدَ الْكَامِلَ الَّذِي يُحَرِّمُ صَاحِبَهُ عَلَى النَّارِ، وَهُوَ تَحْقِيقُ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي يُطَاعُ، فَلَا يُعْصَى خَشْيَةً وَإِجْلَالًا وَمَهَابَةً وَمَحَبَّةً وَرَجَاءً وَتَوَكُّلًا وَدُعَاءً، وَالْمَعَاصِي كُلُّهَا قَادِحَةٌ فِي هَذَا التَّوْحِيدِ، لِأَنَّهَا إِجَابَةٌ لِدَاعِي الْهَوَى وَهُوَ الشَّيْطَانُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] [الْجَاثِيَةِ: 23] قَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: هُوَ الَّذِي لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا رَكِبَهُ، فَهَذَا يُنَافِي الِاسْتِقَامَةَ عَلَى التَّوْحِيدِ. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى: " قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ " فَالْمَعْنَى أَظْهَرُ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَدْخُلُ فِيهِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ عِنْدَ السَّلَفِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] [هُودٍ: 112] ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَقِيمَ هُوَ وَمَنْ تَابَ مَعَهُ، وَأَنْ لَا يُجَاوِزُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، وَهُوَ الطُّغْيَانُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ بَصِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهَا، قَالَ تَعَالَى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى: 15] [الشُّورَى: 15] قَالَ قَتَادَةُ: أُمِرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَقِيمَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَلَى الْقُرْآنِ، وَعَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا رُئِيَ ضَاحِكًا خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ: " شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا " فَمَا شَيَّبَكَ

مِنْهَا؟ قَالَ: " قَوْلُهُ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6] [فُصِّلَتْ: 6] . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الدِّينِ عُمُومًا كَمَا قَالَ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] [الشُّورَى: 13] ، وَأَمَرَ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَمَا أَمَرَ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ فِي تِلْكَ الْآيَتَيْنِ. وَالِاسْتِقَامَةُ: هِيَ سُلُوكُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيجٍ عَنْهُ يُمْنَةً وَلَا يُسْرَةً، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ فِعْلَ الطَّاعَاتِ كُلِّهَا، الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَتَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ كُلِّهَا كَذَلِكَ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ جَامِعَةً لِخِصَالِ الدِّينِ كُلِّهَا. وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6] إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ تَقْصِيرٍ فِي الِاسْتِقَامَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، فَيُجْبَرُ ذَلِكَ بِالِاسْتِغْفَارِ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ، فَهُوَ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ " «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» ". وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّاسَ لَنْ يُطِيقُوا

الِاسْتِقَامَةَ حَقَّ الِاسْتِقَامَةِ، كَمَا خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا» . فَالسَّدَادُ: هُوَ حَقِيقَةُ الِاسْتِقَامَةِ، وَهُوَ الْإِصَابَةُ فِي جَمِيعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالْمَقَاصِدِ، كَالَّذِي يَرْمِي إِلَى غَرَضٍ، فَيُصِيبُهُ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ السَّدَادَ وَالْهُدَى، وَقَالَ لَهُ: «اذْكُرْ بِالسَّدَادِ تَسْدِيدَكَ السَّهْمَ، وَبِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ» . وَالْمُقَارَبَةُ: أَنْ يُصِيبَ مَا قَرُبَ مِنَ الْغَرَضِ إِذَا لَمْ يُصِبِ الْغَرَضَ نَفْسَهُ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُصَمِّمًا عَلَى قَصْدِ السَّدَادِ وَإِصَابَةِ الْغَرَضِ، فَتَكُونُ مُقَارَبَتُهُ عَنْ غَيْرِ عَمْدٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْحَكَمِ بْنِ حُزْنٍ الْكُلَفِيِّ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ لَنْ تَعْمَلُوا - أَوْ لَنْ تُطِيقُوا - كُلَّ مَا أَمَرْتُكُمْ، وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا» وَالْمَعْنَى: اقْصِدُوا التَّسْدِيدَ وَالْإِصَابَةَ وَالِاسْتِقَامَةَ، فَإِنَّهُمْ لَوْ سَدَّدُوا فِي الْعَمَلِ كُلِّهِ، لَكَانُوا قَدْ فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ كُلِّهِ. فَأَصْلُ الِاسْتِقَامَةِ اسْتِقَامَةُ الْقَلْبِ عَلَى التَّوْحِيدِ، كَمَا فَسَّرَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَغَيْرُهُ قَوْلَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف: 13] [الْأَحْقَافِ: 13] بِأَنَّهُمْ لَمْ

يَلْتَفِتُوا إِلَى غَيْرِهِ، فَمَتَى اسْتَقَامَ الْقَلْبُ عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَعَلَى خَشْيَتِهِ، وَإِجْلَالِهِ، وَمَهَابَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَرَجَائِهِ، وَدُعَائِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ، اسْتَقَامَتِ الْجَوَارِحُ كُلُّهَا عَلَى طَاعَتِهِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ هُوَ مَلِكُ الْأَعْضَاءِ، وَهِيَ جُنُودُهُ، فَإِذَا اسْتَقَامَ الْمَلِكُ، اسْتَقَامَتْ جُنُودُهُ وَرَعَايَاهُ، وَكَذَلِكَ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم: 30] [الرُّومِ: 30] بِإِخْلَاصِ الْقَصْدِ لِلَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَأَعْظَمُ مَا يُرَاعَى اسْتِقَامَتُهُ بَعْدَ الْقَلْبِ مِنَ الْجَوَارِحِ اللِّسَانُ، فَإِنَّهُ تُرْجُمَانُ الْقَلْبِ وَالْمُعَبِّرُ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِقَامَةِ، وَصَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحِفْظِ لِسَانِهِ، وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ» وَفِي " التِّرْمِذِيِّ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: " «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ، فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا» ".

[الحديث الثاني والعشرون أرأيت إذا صليت المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام]

[الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَاتِ وَصُمْتُ رَمَضَانَ وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ]

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ. عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ «عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَاتِ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا. وَخَرَّجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَأَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَةَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ» . وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ تَحْلِيلَ الْحَلَالِ بِاعْتِقَادِ حِلِّهِ، وَتَحْرِيمَ الْحَرَامِ بِاعْتِقَادِ حُرْمَتِهِ مَعَ اجْتِنَابِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِتَحْلِيلِ الْحَلَالِ إِتْيَانُهُ، وَيَكُونُ الْحَلَالُ هَاهُنَا عِبَارَةً عَمَّا لَيْسَ بِحَرَامٍ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ وَالْمُبَاحُ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَعَدَّى مَا أُبِيحَ لَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَيَجْتَنِبُ الْمُحَرَّمَاتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121] [الْبَقَرَةِ: 121] ، قَالُوا: يُحِلُّونَ حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ، وَلَا يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ.

وَالْمُرَادُ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ: فِعْلُ الْحَلَالِ وَاجْتِنَابُ الْحَرَامِ كَمَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يُغَيِّرُونَ تَحْرِيمَ الشُّهُورِ الْحُرُمِ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يَحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] [التَّوْبَةِ: 37] وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ عَامًا، فَيُحِلُّونَهُ بِذَلِكَ، وَيَمْتَنِعُونَ مِنَ الْقِتَالِ فِيهِ عَامًا، فَيُحَرِّمُونَهُ بِذَلِكَ. وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة: 87 - 88] [الْمَائِدَةِ: 87 - 88] وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ امْتَنَعُوا مِنْ تَنَاوُلِ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ زُهْدًا فِي الدُّنْيَا وَتَقَشُّفًا، وَبَعْضُهُمْ حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، إِمَّا بِيَمِينٍ حَلِفَ بِهَا، أَوْ بِتَحْرِيمِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَبَعْضُهُمُ امْتَنَعَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ وَلَا تَحْرِيمٍ، فَسَمَّى الْجَمِيعَ تَحْرِيمًا، حَيْثُ قَصَدَ الِامْتِنَاعَ مِنْهُ إِضْرَارًا بِالنَّفْسِ، وَكَفًّا لَهَا عَنْ شَهَوَاتِهَا. وَيُقَالُ فِي الْأَمْثَالِ: فُلَانٌ لَا يُحَلِّلُ وَلَا يُحَرِّمُ، إِذَا كَانَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ حَرَامٍ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَ مَا أُبِيحَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الْحَرَامِ، فَيَجْعَلُونَ مَنْ فَعَلَ الْحَرَامَ وَلَا يَتَحَاشَى مِنْهُ مُحَلِّلًا لَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ حِلَّهُ. وَبِكُلِّ حَالٍ، فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَامَ بِالْوَاجِبَاتِ، وَانْتَهَى عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْمَعْنَى، أَوْ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ، كَمَا خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ،

وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ، وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ ثُمَّ تَلَا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] [النِّسَاءِ: 31] » . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ عَبَدَ اللَّهَ، لَا يُشْرِكُ بِهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَآتَى الزَّكَاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، وَاجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ، فَلَهُ الْجَنَّةُ - أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ» -. وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ لَهُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَالصِّيَامَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ، وَشَرَائِعَ الْإِسْلَامِ كُلَّهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَسَأُؤَدِّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ، وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ، لَا أَزِيدُ وَلَا أُنْقِصُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ صَدَقَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِي حَدِيثِهِ قَالَ: وَالْخَامِسَةُ لَا أَرَبَ لِي فِيهَا يَعْنِي الْفَوَاحِشَ ثُمَّ قَالَ: لَأَعْمَلَنَّ بِهَا، وَمَنْ أَطَاعَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ» ".

وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ «رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ» وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ إِلَّا أَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْنِينِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ. وَعِنْدَهُ فِي رِوَايَةٍ: فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ» ". وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ قَالَ: تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا أَبَدًا وَلَا أُنْقِصُ مِنْهُ، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَرَّهُ أَنَّ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ؟ فَقَالَ: شَهْرُ رَمَضَانَ إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الزَّكَاةِ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ بِالْحَقِّ، لَا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا وَلَا أُنْقِصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ - أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ» - وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ.

وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ، وَزَادَ فِيهِ " حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا " فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أُنْقِصُ مِنْهُنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ» ". وَمُرَادُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ شَيْئًا مِنَ التَّطَوُّعِ، لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَوَاجِبَاتِهِ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ، لِأَنَّ السَّائِلَ إِنَّمَا سَأَلَهُ عَنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَدْخُلُ بِهَا عَامِلُهَا الْجَنَّةَ. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللَّهَ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَعِنْدَهُ " اعْبُدُوا رَبَّكُمْ " بَدَلَ قَوْلِهِ " اتَّقُوا اللَّهَ ". وَخَرَّجَهُ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَلَفْظُ حَدِيثِهِ: " «صَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَحُجُّوا بَيْتَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» ". وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ «عَنِ ابْنِ الْمُنْتَفِقِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِعَرَفَاتٍ، فَقُلْتُ: ثِنْتَانِ أَسْأَلُكَ عَنْهُمَا: مَا يُنْجِينِي مِنَ النَّارِ، وَمَا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ أَوْجَزْتَ فِي الْمَسْأَلَةِ، لَقَدْ أَعْظَمْتَ وَأَطْوَلْتَ، فَاعْقِلْ عَنِّي إِذَنْ: اعْبُدِ اللَّهَ لَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَأَدِّ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَصُمْ

رَمَضَانَ، وَمَا تُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَهُ بِكَ النَّاسُ، فَافْعَلْهُ بِهِمْ، وَمَا تَكْرَهُ أَنْ يَأَتِيَ إِلَيْكَ النَّاسُ، فَذَرِ النَّاسَ مِنْهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا قَالَ: " «اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَلَمْ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ» " وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الصَّحَابِيَّ هُوَ وَافِدُ بْنُ الْمُنْتَفِقِ، وَاسْمُهُ لَقِيطٌ. فَهَذِهِ الْأَعْمَالُ أَسْبَابٌ مُقْتَضِيَةٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمَاتِ مَوَانِعَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَصَلَّيْتُ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ زَكَاةَ مَالِي، وَصُمْتُ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَكَذَا - وَنَصَبَ أُصْبُعَيْهِ - مَا لَمْ يَعُقَّ وَالِدَيْهِ» ".

وَقَدْ وَرَدَ تَرَتُّبُ دُخُولِ الْجَنَّةِ عَلَى فِعْلِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ كَالصَّلَاةِ، فَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: «مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ لِوَقْتِهَا، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي الَّذِي لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ إِلَّا بِاسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهِ، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ؛ وَيَدُلُّ هَذَا عَلَى مَا خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ، قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَايِعَهُ، فَشَرَطَ عَلَيَّ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ أُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَأَنْ أُوتِيَ الزَّكَاةَ، وَأَنْ أَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ أَصُومَ رَمَضَانَ، وَأَنْ أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَمَّا اثْنَتَانِ فَوَاللَّهِ مَا أُطِيقُهُمَا: الْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ، فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ، ثُمَّ حَرَّكَهَا، وَقَالَ: " فَلَا جِهَادَ وَلَا صَدَقَةَ؟ فَبِمَ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِذًا؟ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبَايِعُكَ، فَبَايَعْتُهُ عَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ» فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ هَذِهِ

الْخِصَالُ بِدُونِ الزَّكَاةِ وَالْجِهَادِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ ارْتِكَابَ بَعْضِ الْكَبَائِرِ يَمْنَعُ دُخُولَ الْجَنَّةِ، كَقَوْلِهِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ» ، وَقَوْلِهِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» ، وَقَوْلِهِ: «لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا» وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي جَاءَتْ فِي مَنْعِ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِالدَّيْنِ حَتَّى يُقْضَى، وَفِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا جَازُوا الصِّرَاطَ، حُبِسُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ يُقْتَصُّ مِنْهُمْ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا» .

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْبَسُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مِائَةَ عَامٍ بِالذَّنْبِ كَانَ يَعْمَلُهُ فِي الدُّنْيَا. فَهَذِهِ كُلُّهَا مَوَانِعُ. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ مَعْنَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ فِي تَرَتُّبِ دُخُولِ الْجَنَّةِ عَلَى مُجَرَّدِ التَّوْحِيدِ، فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ ! قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قَالَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ فَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ وَهُوَ يَقُولُ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ» . وَفِيهِمَا عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ أَبِي سَعِيدٍ - بِالشَّكِّ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرُ شَاكٍّ، فَيُحْجَبُ عَنِ الْجَنَّةَ» . وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ يَوْمًا: «مَنْ لَقِيتَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ، فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» وَفِي الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا لِمُعَاذٍ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . وَفِيهِمَا عَنْ عُتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ:» . وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ سَبَبٌ مُقْتَضٍ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَلِلنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، لَكِنْ لَهُ شُرُوطٌ، وَهِيَ الْإِتْيَانُ بِالْفَرَائِضِ، وَمَوَانِعُ وَهِيَ إِتْيَانُ الْكَبَائِرِ. قَالَ الْحَسَنُ لِلْفَرَزْدَقِ: إِنَّ لِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شُرُوطًا، فَإِيَّاكَ وَقَذْفَ الْمُحْصَنَةِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْعَمُودُ، فَأَيْنَ الطُّنُبُ، يَعْنِي أَنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ عَمُودُ الْفُسْطَاطِ، وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ الْفُسْطَاطُ بِدُونِ أَطْنَابِهِ، وَهِيَ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ. وَقِيلَ لِلْحَسَنِ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَأَدَّى حَقَّهَا وَفَرْضَهَا، دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَقِيلَ لَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَلَيْسَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِفْتَاحَ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنْ مَا مِنْ مِفْتَاحٍ إِلَّا وَلَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ، فُتِحَ لَكَ، وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحْ لَكَ. وَيُشْبِهُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: هَلْ يَضُرُّ مَعَهَا

عَمَلٌ، كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ تَرْكِهَا عَمَلٌ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: عِشْ وَلَا تَغْتَرَّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ - مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ وَالزُّهْرِيُّ -: كَانَ هَذَا قَبْلَ الْفَرَائِضِ وَالْحُدُودِ، فَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا نُسِخَتْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ ضُمَّ إِلَيْهَا شُرُوطٌ زِيدَتْ عَلَيْهَا، وَزِيَادَةُ الشُّرُوطِ هَلْ هِيَ نَسْخٌ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَفِي هَذَا كُلِّهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مُتَأَخِّرٌ بَعْدَ الْفَرَائِضِ وَالْحُدُودِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: نَسَخَتْهَا الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَا أَرَادَهُ هَؤُلَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ وُجُوبَ الْفَرَائِضِ وَالْحُدُودِ تُبَيِّنُ بِهَا أَنَّ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا لَا تَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَتَيْنِ، فَكَذَلِكَ عُقُوبَاتُ الْآخِرَةِ، وَمِثْلُ هَذَا الْبَيَانِ وَإِزَالَةُ الْإِيهَامِ كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَهُ نَسْخًا، وَلَيْسَ هُوَ بِنَسْخٍ فِي الِاصْطِلَاحِ الْمَشْهُورِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هَذِهِ النُّصُوصُ الْمُطْلَقَةُ جَاءَتْ مُقَيَّدَةً بِأَنْ يَقُولَهَا بِصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ، وَإِخْلَاصُهَا وَصِدْقُهَا يَمْنَعُ الْإِصْرَارَ عَلَى مَعْصِيَةٍ. وَجَاءَ مِنْ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا دَخَلَ الْجَنَّةَ " قِيلَ: وَمَا إِخْلَاصُهَا؟ قَالَ: " أَنْ تَحْجِزَكَ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ» ". وَرُوِيَ ذَلِكَ مُسْنَدًا مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ ضَعِيفَةٍ.

وَلَعَلَّ الْحَسَنَ أَشَارَ بِكَلَامِهِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُ مِنْ قَبْلُ إِلَى هَذَا فَإِنَّ تَحَقُّقَ الْقَلْبِ بِمَعْنَى " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَصِدْقَهُ فِيهَا، وَإِخْلَاصَهُ بِهَا يَقْتَضِي أَنْ يُرَسِّخَ فِيهِ تَأَلُّهَ اللَّهِ وَحْدَهُ، إِجْلَالًا، وَهَيْبَةً، وَمَخَافَةً، وَمَحَبَّةً، وَرَجَاءً، وَتَعْظِيمًا، وَتَوَكُّلًا، وَيَمْتَلِئَ بِذَلِكَ، وَيَنْتَفِيَ عَنْهُ تَأْلُّهُ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَحَبَّةٌ، وَلَا إِرَادَةٌ، وَلَا طَلَبٌ لِغَيْرِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ وَيُحِبُّهُ وَيَطْلُبُهُ، وَيَنْتَفِي بِذَلِكَ مِنَ الْقَلْبِ جَمِيعُ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ وَإِرَادَاتِهَا، وَوَسَاوِسُ الشَّيْطَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا وَأَطَاعَهُ، وَأَحَبَّ عَلَيْهِ وَأَبْغَضَ عَلَيْهِ، فَهُوَ إِلَهُهُ، فَمَنْ كَانَ لَا يُحِبُّ وَلَا يُبْغِضُ إِلَّا لِلَّهِ، وَلَا يُوَالِي وَلَا يُعَادِي إِلَّا لَهُ، فَاللَّهُ إِلَهُهُ حَقًّا، وَمَنْ أَحَبَّ لِهَوَاهُ، وَأَبْغَضَ لَهُ، وَوَالَى عَلَيْهِ، وَعَادَى عَلَيْهِ، فَإِلَهُهُ هَوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] [الْجَاثِيَةِ: 23] قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الَّذِي لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا رَكِبَهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الَّذِي كُلَّمَا هَوَى شَيْئًا رَكِبَهُ، وَكُلَّمَا اشْتَهَى شَيْئًا، أَتَاهُ لَا يَحْجِزُهُ عَنْ ذَلِكَ وَرَعٌ وَلَا تَقْوَى. وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا " «مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ إِلَهٌ يُعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ» ". وَكَذَلِكَ مَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَقَدْ عَبَدَهُ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس: 60] [يس: 60] . فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَحْقِيقُ مَعْنَى قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ إِصْرَارٌ عَلَى مَحَبَّةِ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، وَلَا عَلَى إِرَادَةِ مَا لَا يُرِيدُهُ اللَّهُ، وَمَتَى

كَانَ فِي الْقَلْبِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا فِي التَّوْحِيدِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ. وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] [الْأَنْعَامِ: 151] قَالَ: لَا تُحِبُّوا غَيْرِي. وَفِي " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَأَدْنَاهُ أَنْ تُحِبَّ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْجَوْرِ، وَتُبْغِضَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعَدْلِ، وَهَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ؟ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] » [آلِ عِمْرَانَ: 31] وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ مَحَبَّةَ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، وَبُغْضَ مَا يُحِبُّهُ مُتَابَعَةٌ لِلْهَوَى، وَالْمُوَالَاةُ عَلَى ذَلِكَ وَالْمُعَادَاةُ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ. وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «لَا تَزَالُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَمْنَعُ الْعِبَادَ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ، مَا لَمْ يُؤْثِرُوا دُنْيَاهُمْ عَلَى صَفْقَةِ دِينِهِمْ، فَإِذَا آثَرُوا صَفْقَةَ دُنْيَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، ثُمَّ قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رُدَّتْ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ اللَّهُ: كَذَبْتُمْ» ".

فَتَبَيَّنَ بِهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» "، وَأَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَلِقِلَّةِ صِدْقِهِ فِي قَوْلِهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ إِذَا صَدَقَتْ طَهَّرَتْ مِنَ الْقَلْبِ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ، فَمَنْ صَدَقَ فِي قَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَمْ يُحِبَّ سِوَاهُ، وَلَمْ يَرْجُ إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَمْ يَخْشَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ، وَلَمْ يَتَوَكَّلْ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَلَمْ تَبْقَ لَهُ بَقِيَّةٌ مِنْ إِيثَارِ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ، وَمَتَى بَقِيَ فِي الْقَلْبِ أَثَرٌ لِسِوَى اللَّهِ، فَمِنْ قِلَّةِ الصِّدْقِ فِي قَوْلِهَا. نَارُ جَهَنَّمَ تَنْطَفِئُ بِنُورِ إِيمَانِ الْمُوَحِّدِينَ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ " «تَقُولُ النَّارُ لِلْمُؤْمِنِ: جُزْ يَا مُؤْمِنُ، فَقَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي» ". وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ» .

فَهَذَا مِيرَاثٌ وَرِثَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ حَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَنَارُ الْمَحَبَّةِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ تَخَافُ مِنْهَا نَارُ جَهَنَّمَ. قَالَ الْجُنَيْدُ: قَالَتِ النَّارُ: يَا رَبِّ، لَوْ لَمْ أُطِعْكَ، هَلْ كُنْتَ تُعَذِّبُنِي بِشَيْءٍ هُوَ أَشَدُّ مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ كُنْتُ أُسَلِّطُ عَلَيْكِ نَارِي الْكُبْرَى، قَالَتْ: وَهَلْ نَارٌ أَعْظَمُ مِنِّي وَأَشَدُّ؟ قَالَ: نَعَمْ نَارُ مَحَبَّتِي أَسْكَنْتُهَا قُلُوبَ أَوْلِيَائِي الْمُؤْمِنِينَ وَفِي هَذَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ: فَفِي فُؤَادِ الْمُحِبِّ نَارُ هَوًى ... أَحَرُّ نَارِ الْجَحِيمِ أَبْرَدُهَا وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى حَدِيثُ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ، فَإِنَّ الْمُحْتَضَرَ لَا يَكَادُ يَقُولُهَا إِلَّا بِإِخْلَاصٍ، وَتَوْبَةٍ، وَنَدَمٍ عَلَى مَا مَضَى، وَعَزْمٍ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مِثْلِهِ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ الْخَطَّابِيُّ فِي مُصَنَّفٍ لَهُ مُفْرَدٍ فِي التَّوْحِيدِ، وَهُوَ حَسَنٌ.

[الحديث الثالث والعشرون الطهور شطر الإيمان]

[الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ]

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ سَلَّامٍ حَدَّثَهُ أَنَّ سَلَّامًا حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ» ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ " «وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ» " وَفِي بَعْضِهَا: " «وَالصِّيَامُ ضِيَاءٌ» ". وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ مِنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ، فَأَنْكَرَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَثْبَتَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِهِ مِنْهُ. وَخَرَّجَ هَذَا الْحَدِيثَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ أَخِيهِ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي سَلَّامٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي

مَالِكٍ، فَزَادَ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ غَنْمٍ، وَرَجَّحَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ، وَقَالَ: مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ أَعْلَمُ بِحَدِيثِ أَخِيهِ زَيْدٍ مِنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مُنْقَطِعَةً. وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بَعْضُ الْمُخَالَفَةِ لِحَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، فَإِنَّ لَفْظَ حَدِيثِهِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءُ الْمِيزَانِ، وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ مِلْءُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالزَّكَاةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، أَوْ مُوبِقُهَا» ". وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَلَفْظُ حَدِيثِهِ: " «الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» " وَبَاقِي حَدِيثِهِ مِثْلُ سِيَاقِ مُسْلِمٍ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ «رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، قَالَ: عَدَّهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِي أَوْ فِي يَدِهِ: " التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَؤُهُ، وَالتَّكْبِيرُ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ، وَالطُّهُورُ نِصْفُ الْإِيمَانِ» ".

فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» " فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الطُّهُورَ هَاهُنَا بِتَرْكِ الذُّنُوبِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82] [الْأَعْرَافِ: 82] ، وَقَوْلِهِ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] [الْمُدَّثِّرِ: 4] ، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] [الْبَقَرَةِ: 222] . وَقَالَ الْإِيمَانُ نَوْعَانِ: فِعْلٌ وَتَرْكٌ، فَنِصْفُهُ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ، وَنِصْفُهُ تَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ، وَهُوَ تَطْهِيرُ النَّفْسِ بِتَرْكِ الْمَعَاصِي، وَهَذَا الْقَوْلُ مُحْتَمَلٌ لَوْلَا أَنَّ رِوَايَةَ " «الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» " تَرُدُّهُ، وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ. وَأَيْضًا فَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَعْمَالِ تُطَهِّرُ النَّفْسَ مِنَ الذُّنُوبِ السَّابِقَةِ، كَالصَّلَاةِ، فَكَيْفَ لَا تَدْخُلُ فِي اسْمِ الطُّهُورِ، وَمَتَى دَخَلَتِ الْأَعْمَالُ، أَوْ بَعْضُهَا، فِي اسْمِ الطُّهُورِ، لَمْ يَتَحَقَّقْ كَوْنُ تَرْكِ الذُّنُوبِ شَطْرَ الْإِيمَانِ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالطُّهُورِ هَاهُنَا: التَّطْهِيرُ بِالْمَاءِ مِنَ الْإِحْدَاثِ، وَكَذَلِكَ بَدَأَ مُسْلِمٌ بِتَخْرِيجِهِ فِي أَبْوَابِ الْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا، وَعَلَى هَذَا فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى كَوْنِ الطُّهُورِ بِالْمَاءِ شَطْرَ الْإِيمَانِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالشَّطْرِ الْجُزْءُ، لَا أَنَّهُ النِّصْفُ بِعَيْنِهِ، فَيَكُونُ الطُّهُورُ جُزْءًا مِنَ الْإِيمَانِ، وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ، لِأَنَّ الشَّطْرَ إِنَّمَا يُعْرَفُ اسْتِعْمَالُهُ لُغَةً فِي النِّصْفِ، وَلِأَنَّ فِي حَدِيثِ الرَّجُلِ مِنْ سُلَيْمٍ: " «الطُّهُورُ نِصْفُ الْإِيمَانِ» " كَمَا سَبَقَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يُضَاعِفُ ثَوَابَ الْوُضُوءِ إِلَى نِصْفِ ثَوَابِ الْإِيمَانِ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَضْعِيفٍ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ وَبُعْدٌ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ كُلَّهَا، وَالْوُضُوءُ يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، فَهُوَ شَطْرُ الْإِيمَانِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَهَذَا يَرُدُّهُ حَدِيثُ: " «مَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» " وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ. مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْوُضُوءُ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ مَعَ الْإِيمَانِ، فَصَارَ نِصْفَ الْإِيمَانِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ هَاهُنَا: الصَّلَاةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] [الْبَقَرَةِ: 143] ، وَالْمُرَادُ صَلَاتُكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ الصَّلَاةَ، فَالصَّلَاةُ لَا تُقْبَلُ إِلَّا بِطُهُورٍ، فَصَارَ الطُّهُورُ شَطْرَ الصَّلَاةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، حَكَى هَذَا التَّفْسِيرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ

الْمَرْوَزِيُّ فِي " كِتَابِ الصَّلَاةِ " عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوْيَهْ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، وَأَنَّهُ قَالَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ " لَا أَدْرِي " نِصْفُ الْعِلْمِ: إِنَّ الْعِلْمَ إِنَّمَا هُوَ " أَدْرِي وَلَا أَدْرِي "، فَأَحَدُهُمَا نِصْفُ الْآخَرِ. قُلْتُ: كُلُّ شَيْءٍ كَانَ تَحْتَهُ نَوْعَانِ: فَأَحَدُهُمَا نِصْفٌ لَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَدَدُ النَّوْعَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ، أَوْ أَحَدُهُمَا أَزِيدَ مِنَ الْآخَرِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا حَدِيثُ " «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» " وَالْمُرَادُ: قِرَاءَةُ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا فَسَرَّهَا بِالْفَاتِحَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا مَقْسُومَةٌ لِلْعِبَادَةِ وَالْمَسْأَلَةِ، فَالْعِبَادَةُ حَقُّ الرَّبِّ وَالْمَسْأَلَةُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ قِسْمَةَ كَلِمَاتِهَا عَلَى السَّوَاءِ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْخَطَّابِيُّ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الْعَرَبِ: نِصْفُ السَّنَةِ سَفَرٌ، وَنِصْفُهَا حَضَرٌ، قَالَ: وَلَيْسَ عَلَى تَسَاوِي الزَّمَانَيْنِ فِيهِمَا، لَكِنْ عَلَى انْقِسَامِ الزَّمَانَيْنِ لَهُمَا، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ مُدَّتَاهُمَا، وَبِقَوْلِ شُرَيْحٍ - وَقَدْ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ - قَالَ: أَصْبَحْتُ وَنِصْفُ النَّاسِ عَلَيَّ غَضْبَانُ، يُرِيدُ أَنَّ النَّاسَ بَيْنَ مَحْكُومٍ لَهُ وَمَحْكُومٍ عَلَيْهِ، فَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، وَالْمَحْكُومُ لَهُ رَاضٍ عَنْهُ، فَهُمَا حِزْبَانِ مُخْتَلِفَانِ. وَيَقُولُ الشَّاعِرُ: إِذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ نِصْفَيْنِ شَامِتٌ ... بِمَوْتِي وَمُثْنٍ بِالَّذِي كُنْتُ أَفْعَلُ وَمُرَادُهُ أَنَّهُمْ يَنْقَسِمُونَ قِسْمَيْنِ.

قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعُ فِي الْفَرَائِضِ " أَنَّهَا نِصْفُ الْعِلْمِ " خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الْمُكَلَّفِينَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِالْحَيَاةِ، وَنَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا هُوَ الْفَرَائِضُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْفَرَائِضُ ثُلُثُ الْعِلْمِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: " «الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ» . وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ نِصْفُ الْوُضُوءِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْوُضُوءَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالثَّانِي مَأْخُوذٌ مِنَ السُّنَّةِ، وَهُوَ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ، أَوْ أَرَادَ أَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ يُطَهِّرَانِ بَاطِنَ الْجَسَدِ، وَغَسْلَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ يُطَهِّرُ ظَاهِرَهُ، فَهُمَا نِصْفَانِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينُ الْإِيمَانُ كُلُّهُ. وَجَاءَ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ

الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «الْإِيمَانُ نِصْفَانِ: نِصْفٌ فِي الصَّبْرِ، وَنِصْفٌ فِي الشُّكْرِ» " فَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ يَشْمَلُ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَا يُنَالُ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَّا بِالصَّبْرِ، كَانَ الصَّبْرُ نِصْفَ الْإِيمَانِ، فَهَكَذَا يُقَالُ فِي الْوُضُوءِ: إِنَّهُ نِصْفُ الصَّلَاةِ. وَأَيْضًا فَالصَّلَاةُ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ وَالْخَطَايَا بِشَرْطِ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ وَإِحْسَانِهِ، فَصَارَ شَطْرَ الصَّلَاةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَيْضًا، كَمَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٍ يَتَطَهَّرُ فَيُتِمُّ الطُّهُورَ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِ، فَيُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهُنَّ» . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «مَنْ أَتَمَّ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، فَالصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ»

وَأَيْضًا، فَالصَّلَاةُ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ، وَالْوُضُوءُ مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ، كَمَا خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَكُلٌّ مِنَ الصَّلَاةِ وَالْوُضُوءِ مُوجِبٌ لِفَتْحِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ كَمَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وَضَوْءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» وَعَنْ عُقْبَةَ، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيَبْلُغُ أَوْ يُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عُبَادَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ» . فَإِذَا كَانَ الْوُضُوءُ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ مُوجِبًا لِفَتْحِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، صَارَ الْوُضُوءُ نِصْفَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

وَأَيْضًا، فَالْوُضُوءُ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَا يُحَافِظُ عَلَيْهَا إِلَّا مُؤْمِنٌ، كَمَا فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ وَغَيْرِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» . وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ قَدْ وَرَدَ أَنَّهُ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ، كَمَا خَرَّجَهُ الْعُقَيْلِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمَانٍ، دَخَلَ الْجَنَّةَ: مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وُضُوئِهِنَّ وَرُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ وَمَوَاقِيتِهِنَّ، وَأَعْطَى الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ طَيِّبَ النَّفْسِ بِهَا - قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: - وَايْمُ اللَّهِ، لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَصَامَ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتَ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ قَالُوا: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، وَمَا أَدَاءُ الْأَمَانَةِ؟ قَالَ: الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْتَمِنِ ابْنَ آدَمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ غَيْرَهَا» . وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصَّلَوَاتُ

الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ. قِيلَ: وَمَا أَدَاءُ الْأَمَانَةِ؟ قَالَ: الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً» وَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ الَّذِي قَبْلَهُ جُعِلَ فِيهِ الْوُضُوءُ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ. وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ خَرَّجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ شَبَابَةَ بْنِ سَوَّارٍ: حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «الصَّلَاةُ ثَلَاثَةُ أَثْلَاثٍ: الطُّهُورُ ثُلُثٌ: وَالرُّكُوعُ ثُلُثٌ، وَالسُّجُودُ ثُلُثٌ، فَمَنْ أَدَّاهَا بِحَقِّهَا، قُبِلَتْ مِنْهُ، وَقُبِلَ مِنْهُ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَمَنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ، رُدَّ عَلَيْهِ سَائِرُ عَمَلِهِ» " وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ الْمُغِيرَةُ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ كَعْبٍ مِنْ قَوْلِهِ. فَعَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ الْوُضُوءُ ثُلُثُ الصَّلَاةِ، إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، لِتَقَارُبِهِمَا فِي الصُّورَةِ، فَيَكُونُ الْوُضُوءُ نِصْفَ الصَّلَاةِ أَيْضًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: خِصَالُ الْإِيمَانِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ كُلُّهَا تُطَهِّرُ الْقَلْبَ وَتُزَكِّيهِ، وَأَمَّا الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ، فَهِيَ تَخْتَصُّ بِتَطْهِيرِ الْجَسَدِ وَتَنْظِيفِهِ، فَصَارَتْ خِصَالُ الْإِيمَانِ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُطَهِّرُ الظَّاهِرَ، وَالْآخَرُ يُطَهِّرُ الْبَاطِنَ، فَهُمَا نِصْفَانِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ وَمُرَادِ رَسُولِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» فَهَذَا شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي فِي لَفْظِهِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ: " «وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ مِلْءُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» ". وَفِي حَدِيثِ الرَّجُلِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ: " «التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَؤُهُ، وَالتَّكْبِيرُ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» ". وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْرِيقِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَؤُهُ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَيْسَ لَهَا دُونَ اللَّهِ حِجَابٌ حَتَّى تَصِلَ إِلَيْهِ،» وَقَالَ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ. قُلْتُ: اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ عَلَى الْإِفْرِيقِيِّ، فَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ زِيَادَةُ " «وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» ". رَوَى جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي كِتَابِ " الذِّكْرِ " وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءُ الْمِيزَانِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُنَّ» . وَخَرَّجَ الْفِرْيَابِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَلِمَتَانِ إِحْدَاهُمَا مَنْ قَالَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَاهِيَةٌ دُونَ الْعَرْشِ وَالْأُخْرَى تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» .

فَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فَضْلَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْكَلَامِ، وَهِيَ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ. فَأَمَّا الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَاتَّفَقَتِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّهُ يَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ ضَرْبُ مَثَلٍ، وَإِنَّ الْمَعْنَى: لَوْ كَانَ الْحَمْدُ جِسْمًا لَمَلَأَ الْمِيزَانَ، وَقِيلَ: بَلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُمَثِّلُ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَأَقْوَالَهُمْ صُوَرًا تُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتُوزَنُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَقْدُمُهُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ» . وَقَالَ: " «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» . وَقَالَ: «أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ الْخُلُقُ الْحَسَنُ» ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يَأْتِيهِ

عَمَلُهُ الصَّالِحُ فِي قَبْرِهِ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَالْكَافِرُ يَأْتِيهِ عَمَلُهُ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ، وَرُوِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَأَعْمَالَ الْبِرِّ تَكُونُ حَوْلَ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ تُدَافِعُ عَنْهُ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ يَصْعَدُ فَيَشْفَعُ لَهُ. وَأَمَّا سُبْحَانَ اللَّهِ، فَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: " «سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ - أَوْ تَمْلَآنِ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» " فَشَكَّ الرَّاوِي فِي الَّذِي يَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ: هَلْ هُوَ الْكَلِمَتَانِ أَوْ إِحْدَاهُمَا؟ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ: " «التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ مِلْءُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» " وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَشْبَهُ، وَهَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا مَعًا يَمْلَآنِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَوْ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَمْلَأُ ذَلِكَ؟ هَذَا مُحْتَمَلٌ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالرَّجُلِ الْآخَرِ أَنَّ التَّكْبِيرَ وَحْدَهُ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَبِكُلِّ حَالٍ فَالتَّسْبِيحُ دُونَ التَّحْمِيدِ فِي الْفَضْلِ كَمَا جَاءَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، «وَالرَّجُلِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ أَنَّ التَّسْبِيحَ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَؤُهُ» ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ التَّحْمِيدَ إِثْبَاتُ الْمَحَامِدِ كُلِّهَا لِلَّهِ،

فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ كُلِّهَا، وَالتَّسْبِيحُ هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ وَالْآفَاتِ، وَالْإِثْبَاتُ أَكْمَلُ مِنَ السَّلْبِ، وَلِهَذَا لَمْ يَرِدِ التَّسْبِيحُ مُجَرَّدًا، لَكِنْ مَقْرُونًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْكَمَالِ، فَتَارَةً يُقْرَنُ بِالْحَمْدِ، كَقَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَتَارَةً بِاسْمٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ، كَقَوْلِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، فَإِنْ كَانَ حَدِيثُ أَبِي مَالِكٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ هُوَ مَجْمُوعُ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَمْلَأُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمِيزَانَ أَوْسَعُ مِمَّا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَمَا يَمْلَأُ الْمِيزَانَ فَهُوَ أَكْبَرُ مِمَّا يَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَحَّ عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يُوضَعُ الْمِيزَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَوْ وُزِنَ فِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ لَوَسِعَتْ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبُّ لِمَنْ تَزِنُ هَذَا؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لِمَنْ شِئْتُ مِنْ خَلْقِي، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ. وَخَرَّجَهُ الْحَاكِمُ مَرْفُوعًا وَصَحَّحَهُ، وَلَكِنَّ الْمَوْقُوفَ هُوَ الْمَشْهُورُ. وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالرَّجُلِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ أَنَّهُ وَحْدَهُ يَمْلَأُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّ «التَّكْبِيرَ مَعَ التَّهْلِيلِ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُنَّ» . وَأَمَّا التَّهْلِيلُ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا قَالَ عَبْدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، حَتَّى تُفْضِيَ إِلَى الْعَرْشِ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» .

وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: مَا مِنْ عَبْدٍ يُهَلِّلُ تَهْلِيلَةً، فَيُنَهْنِهُهَا شَيْءٌ دُونَ الْعَرْشِ. وَوَرَدَ أَنَّهُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ فِي الْمِيزَانِ فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ الْمَشْهُورِ، وَقَدْ خَرَّجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي آخِرِهِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: " وَلَا يَثْقُلُ شَيْءٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ لِابْنِهِ: آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،

فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ، رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ وَأَدْعُوكَ بِهِ، قَالَ: يَا مُوسَى، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُ هَذَا، إِنَّمَا أُرِيدُ شَيْئًا تَخُصُّنِي بِهِ، قَالَ: يَا مُوسَى، لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي، وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ مَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . وَقَدِ اخْتُلِفَ أَيُّ الْكَلِمَتَيْنِ أَفْضَلُ؟ أَكَلِمَةُ الْحَمْدِ أَمْ كَلِمَةُ التَّهْلِيلِ؟ وَقَدْ حَكَى هَذَا الِاخْتِلَافَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْحَمْدَ أَكْثَرُ الْكَلَامِ تَضْعِيفًا، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَيْسَ يُضَاعَفُ مِنَ الْكَلَامِ مِثْلُ الْحَمْدِ لِلَّهِ. وَالْحَمْدُ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكَمَالِ لِلَّهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ التَّوْحِيدُ. وَفِي " مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنَ الْكَلَامِ أَرْبَعًا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ،

فَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كُتِبَتْ لَهُ عِشْرُونَ حَسَنَةً، وَحُطَّتْ عَنْهُ عِشْرُونَ سَيِّئَةً، وَمَنْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، كُتِبَتْ لَهُ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً، وَحُطَّتْ عَنْهُ ثَلَاثُونَ سَيِّئَةً.» وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ كَعْبٍ مِنْ قَوْلِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَصَحُّ مِنَ الْمَرْفُوعِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ» "، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ " صَحِيحِ مُسْلِمٍ ": " «وَالصِّيَامُ ضِيَاءٌ» " فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ مِنَ الْأَعْمَالِ أَنْوَارٌ كُلُّهَا، لَكِنَّ مِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ النُّورِ، فَالصَّلَاةُ نُورٌ مُطْلَقٌ، وَيُرْوَى بِإِسْنَادَيْنِ فِيهِمَا نَظَرٌ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الصَّلَاةُ نُورُ الْمُؤْمِنِ» "، فَهِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا نُورٌ فِي قُلُوبِهِمْ وَبَصَائِرِهِمْ، تُشْرِقُ بِهَا قُلُوبُهُمْ، وَتَسْتَنِيرُ بَصَائِرُهُمْ وَلِهَذَا كَانَتْ قُرَّةَ عَيْنِ الْمُتَّقِينَ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» " خَرَّجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ: " «الْجَائِعُ يَشْبَعُ، وَالظَّمْآنُ يَرْوَى، وَأَنَا لَا أَشْبَعُ مِنْ حُبِّ

الصَّلَاةِ» " وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَبَّبَ إِلَيْكَ الصَّلَاةَ، فَخُذْ مِنْهَا مَا شِئْتَ» . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ رَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «يَا بِلَالُ، أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأَرِحْنَا بِهَا» ". قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ: يَابْنَ آدَمَ، لَا تَعْجِزْ أَنْ تَقُومَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي صَلَاتِكَ بَاكِيًا، فَأَنَا الَّذِي اقْتَرَبْتُ بِقَلْبِكَ وَبِالْغَيْبِ رَأَيْتَ نُورِي، يَعْنِي: مَا يُفْتَحُ لِلْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ مِنَ الرِّقَّةِ وَالْبُكَاءِ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا: " «إِذَا حَافَظَ الْعَبْدُ عَلَى صَلَاتِهِ، فَأَقَامَ وُضُوءَهَا، وَرُكُوعَهَا، وَسُجُودَهَا، وَالْقِرَاءَةَ فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: حَفِظَكَ اللَّهُ كَمَا حَفِظْتَنِي، وَصُعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَلَهَا نُورٌ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَشْفَعُ لِصَاحِبِهَا» ". وَهِيَ نُورٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قُبُورِهِمْ، وَلَاسِيَّمَا صَلَاةُ اللَّيْلِ كَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: صَلُّوا رَكْعَتَيْنِ فِي ظُلَمِ اللَّيْلِ لِظُلْمَةِ الْقُبُورِ. وَكَانَتْ رَابِعَةُ قَدْ فَتَرَتْ عَنْ وِرْدِهَا بِاللَّيْلِ مُدَّةً، فَأَتَاهَا آتٍ فِي مَنَامِهَا فَأَنْشَدَهَا:

صَلَاتُكِ نُورٌ وَالْعِبَادُ رُقُودُ ... وَنَوْمُكِ ضِدٌّ لِلصَّلَاةِ عَنِيدُ وَهِيَ فِي الْآخِرَةِ نُورٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي ظُلُمَاتِ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى الصِّرَاطِ، فَإِنَّ الْأَنْوَارَ تُقَسَّمُ لَهُمْ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ. وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَ " صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا نَجَاةٌ وَلَا بُرْهَانٌ» . وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي جَمَاعَةٍ، جَازَ عَلَى الصِّرَاطِ كَالْبَرْقِ اللَّامِعِ فِي أَوَّلِ زُمْرَةٍ مِنَ السَّابِقِينَ، وَجَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» ". وَأَمَّا الصَّدَقَةُ، فَهِيَ بُرْهَانٌ، وَالْبُرْهَانُ: هُوَ الشُّعَاعُ الَّذِي يَلِي وَجْهَ الشَّمْسِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى أَنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تَخْرُجُ مِنْ جَسَدِهِ لَهَا بُرْهَانٌ كَبُرْهَانِ الشَّمْسِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ بُرْهَانًا، لِوُضُوحِ دِلَالَاتِهَا عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ عَلَى صِحَّةِ الْإِيمَانِ، وَطِيبُ النَّفْسِ بِهَا عَلَامَةٌ عَلَى وُجُودِ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَطَعْمِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْغَاضِرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ رَافِدَةً عَلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ» " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا قَرِيبًا حَدِيثَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِيمَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ. وَسَبَبُ هَذَا أَنَّ الْمَالَ تُحِبُّهُ النُّفُوسُ وَتَبْخَلُ بِهِ، فَإِذَا سَمَحَتْ بِإِخْرَاجِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ إِيمَانِهَا بِاللَّهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَلِهَذَا مَنَعَتِ الْعَرَبُ الزَّكَاةَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَاتَلَهُمُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَنْعِهَا، وَالصَّلَاةُ أَيْضًا بُرْهَانٌ عَلَى صِحَّةِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ خَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصَّلَاةُ بُرْهَانٌ» . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ حَدِيثِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ» أَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيْضًا أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْمَرْءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِيمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا أَنَّهَا تَكُونُ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا الصَّبْرُ فَإِنَّهُ ضِيَاءٌ، وَالضِّيَاءُ: هُوَ النُّورُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ نَوْعُ حَرَارَةٍ وَإِحْرَاقٍ كَضِيَاءِ الشَّمْسِ بِخِلَافِ الْقَمَرِ، فَإِنَّهُ نُورٌ مَحْضٌ، فِيهِ إِشْرَاقٌ بِغَيْرِ إِحْرَاقٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5] [يُونُسَ: 5] وَمِنْ هُنَا وَصَفَ اللَّهُ شَرِيعَةَ مُوسَى بِأَنَّهَا ضِيَاءٌ، كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48] [الْأَنْبِيَاءِ: 48]

وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ نُورًا كَمَا قَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44] [الْمَائِدَةِ: 44] ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ عَلَى شَرِيعَتِهِمِ الضِّيَاءُ لِمَا فِيهَا مِنَ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَالْأَثْقَالِ. وَوَصَفَ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا نُورٌ لِمَا فِيهَا مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] [الْمَائِدَةِ: 15] وَقَالَ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] [الْأَعْرَافِ: 157] . وَلَمَّا كَانَ الصَّبْرُ شَاقًّا عَلَى النُّفُوسِ، يَحْتَاجُ إِلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَحَبْسِهَا وَكَفِّهَا عَمَّا تَهْوَاهُ، كَانَ ضِيَاءً، فَإِنَّ مَعْنَى الصَّبْرِ فِي اللُّغَةِ الْحَبْسُ، وَمِنْهُ قَتْلُ الصَّبْرِ: وَهُوَ أَنْ يُحْبَسَ الرَّجُلُ حَتَّى يُقْتَلَ. وَالصَّبْرُ الْمَحْمُودُ أَنْوَاعٌ: مِنْهُ صَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهُ صَبْرٌ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهُ صَبْرٌ عَلَى أَقْدَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعَنِ الْمُحَرَّمَاتِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَقْدَارِ الْمُؤْلِمَةِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ السَّلَفُ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَغَيْرُهُمَا. وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا " «إِنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ يُكْتَبُ بِهِ لِلْعَبْدِ ثَلَاثُمِائَةِ دَرَجَةٍ، وَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى الطَّاعَةِ تُكْتَبُ بِهِ سِتُّمِائَةِ دَرَجَةٍ، وَإِنَّ الصَّبْرَ عَنِ الْمَعَاصِي يُكْتَبُ لَهُ بِهِ تِسْعُمِائَةِ دَرَجَةٍ» "، وَقَدْ خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ.

وَمِنْ أَفْضَلِ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ: الصِّيَامُ، فَإِنَّهُ يَجْمَعُ الصَّبْرَ عَلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّهُ صَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَصَبْرٌ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ يَتْرُكُ شَهَوَاتِهِ لِلَّهِ وَنَفْسُهُ قَدْ تُنَازِعُهُ إِلَيْهَا، وَلِهَذَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، إِنَّهُ تَرَكَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي» ، وَفِيهِ أَيْضًا صَبْرٌ عَلَى الْأَقْدَارِ الْمُؤْلِمَةِ بِمَا قَدْ يَحْصُلُ لِلصَّائِمِ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّي شَهْرَ الصِّيَامِ شَهْرَ الصَّبْرِ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الرَّجُلِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الصَّوْمَ نِصْفُ الصَّبْرِ» ، وَرُبَّمَا عُسْرُ الْوُقُوفُ عَلَى سِرِّ كَوْنِهِ نِصْفَ الصَّبْرِ أَكْثَرُ مِنْ عُسْرِ الْوُقُوفِ عَلَى سِرِّ كَوْنِ الطُّهُورِ شَطْرَ الْإِيمَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ حُجَّةٌ عَلَيْكَ» ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] [الْإِسْرَاءِ: 82] . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا جَالَسَ أَحَدٌ الْقُرْآنَ، فَقَامَ عَنْهُ سَالِمًا؛ بَلْ إِمَّا أَنْ يَرْبَحَ أَوْ أَنْ يَخْسَرَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُمَثَّلُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلًا، فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ قَدْ حَمَلَهُ، فَخَالَفَ أَمْرَهُ، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ خَصْمًا، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ حَمَّلْتَهُ إِيَّايَ فَشَرُّ حَامِلٍ تَعَدَّى حُدُودِي، وَضَيَّعَ فَرَائِضِي، وَرَكِبَ مَعْصِيَتِي، وَتَرَكَ طَاعَتِي، فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ عَلَيْهِ بِالْحُجَجِ حَتَّى يُقَالَ: شَأْنَكَ بِهِ، فَيَأْخُذُهُ بِيَدِهِ، فَمَا يُرْسِلُهُ حَتَّى يَكُبَّهُ عَلَى مَنْخَرِهِ فِي النَّارِ، وَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ الصَّالِحِ كَانَ قَدْ حَمَلَهُ وَحَفِظَ أَمْرَهُ، فَيَمْتَثِلُ خَصْمًا دُونَهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ حَمَّلْتَهُ إِيَّايَ، فَخَيْرُ حَامِلٍ: حِفِظَ حُدُودِي، وَعَمِلَ بِفَرَائِضِي، وَاجْتَنَبَ مَعْصِيَتِي، وَاتَّبَعَ طَاعَتِي، فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ لَهُ بِالْحُجَجِ حَتَّى يُقَالَ: شَأْنَكَ بِهِ، فَيَأْخُذُهُ بِيَدِهِ، فَمَا يُرْسِلُهُ حَتَّى يُلْبِسَهُ حُلَّةَ الْإِسْتَبْرَقِ، وَيَعْقِدَ عَلَيْهِ تَاجَ الْمُلْكِ، وَيَسْقِيَهُ كَأْسَ الْخَمْرِ» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ، فَمَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ، قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمِنْ جَعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، قَادَهُ إِلَى النَّارِ. وَعَنْهُ قَالَ: يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَشْفَعُ لِصَاحِبِهِ، فَيَكُونُ قَائِدًا إِلَى الْجَنَّةِ، أَوْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ سَائِقًا إِلَى النَّارِ.

وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ كَائِنٌ لَكُمْ أَجْرًا، وَكَائِنٌ عَلَيْكُمْ وِزْرًا، فَاتَّبَعُوا الْقُرْآنَ، وَلَا يَتْبَعُكُمُ الْقُرْآنُ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ هَبَطَ بِهِ عَلَى رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمَنِ اتَّبَعَهُ الْقُرْآنُ زَجَّ فِي قَفَاهُ، فَقَذَفَهُ فِي النَّارِ. قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» " وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «النَّاسُ غَادِيَانِ، فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقٌ نَفْسَهُ وَمُوبِقُهَا» ". وَفِي رِوَايَةٍ خَرَّجَهَا الطَّبَرَانِيُّ. " «النَّاسُ غَادِيَانِ: فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا، وَفَادٍ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا» ". وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا - فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا - قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا - وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10] [الشَّمْسِ: 7 - 10.] ، وَالْمَعْنَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَخَابَ مَنْ دَسَّاهَا بِالْمَعَاصِي، فَالطَّاعَةُ تُزَكِّي النَّفْسَ وَتُطَهِّرُهَا فَتَرْتَفِعُ، وَالْمَعَاصِي تَدُسِّي النَّفْسَ وَتَقْمَعُهَا فَتَنْخَفِضُ، وَتَصِيرُ كَالَّذِي يُدَسُّ فِي التُّرَابِ. وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ فَهُوَ سَاعٍ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي فَكَاكِهَا، فَمَنْ سَعَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَقَدْ بَاعَ نَفْسَهُ لِلَّهِ، وَأَعْتَقَهَا مِنْ عَذَابِهِ، وَمَنْ سَعَى فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَقَدْ بَاعَ نَفْسَهُ بِالْهَوَانِ، وَأَوْبَقَهَا بِالْآثَامِ الْمُوجِبَةِ لِغَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] إِلَى قَوْلِهِ: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] [التَّوْبَةِ: 111] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207] [الْبَقَرَةِ: 207]

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15] [الزُّمَرِ: 15] وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] [الشُّعَرَاءِ: 214] يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، يَا عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، يَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، اشْتَرِيَا أَنْفُسَكُمَا مِنَ اللَّهِ، لَا أَمْلِكُ لَكُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ دَعَا قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا، فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ: «يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» . وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْخَرَائِطِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " «مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَلْفَ مَرَّةٍ، فَقَدِ اشْتَرَى نَفْسَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ عَتِيقًا مِنَ النَّارِ» ". وَقَدِ اشْتَرَى جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ أَنْفُسَهُمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَمْوَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ

مَنْ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ كَحَبِيبٍ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَصَدَّقَ بِوَزْنِهِ فِضَّةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوْ أَرْبَعًا، كَخَالِدٍ الطَّحَاوِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَيَقُولُ: إِنَّمَا أَنَا أَسِيرٌ أَسْعَى فِي فَكَاكِ رَقَبَتِي، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ بِقَدْرِ دِيَتِهِ، كَأَنَّهُ قَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ يَفْتَكُّهَا بِدِيَتِهَا. قَالَ الْحَسَنُ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالْأَسِيرِ، يَسْعَى فِي فَكَاكِ رَقَبَتِهِ، لَا يَأْمَنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ: ابْنُ آدَمَ، إِنَّكَ تَغْدُو وَتَرُوحُ فِي طَلَبِ الْأَرْبَاحِ، فَلْيَكُنْ هَمُّكَ نَفْسَكَ، فَإِنَّكَ لَنْ تَرْبَحَ مِثْلَهَا أَبَدًا. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: قَالَ لِي رَجُلٌ مَرَّةً وَأَنَا شَابٌّ: خَلِّصْ رَقَبَتَكَ مَا اسْتَطَعْتَ فِي الدُّنْيَا مِنْ رِقِّ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ أَسِيرَ الْآخِرَةِ غَيْرُ مَفْكُوكٍ أَبَدًا، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا نَسِيتُهَا بَعْدُ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَبْكِي، وَيَقُولُ: لَيْسَ لِي نَفْسَانِ، إِنَّمَا لِي نَفْسٌ وَاحِدَةٌ، إِذَا ذَهَبَتْ لَمْ أَجِدْ أُخْرَى. وَقَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ الْجَنَّةَ ثَمَنًا لِأَنْفُسِكُمْ، فَلَا تَبِيعُوهَا بِغَيْرِهَا. وَقَالَ: أَيْضًا مَنْ كَرُمَتْ نَفْسُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِلدُّنْيَا عِنْدَهُ قَدْرٌ. وَقِيلَ لَهُ: مَنْ أَعْظَمُ النَّاسِ قَدْرًا؟ قَالَ: مَنْ لَمْ يَرَ الدُّنْيَا كُلَّهَا لِنَفْسِهِ خَطَرًا. وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ:

أُثَامِنُ بِالنَّفْسِ النَّفِيسَةِ رَبَّهَا ... وَلَيْسَ لَهَا فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمْ ثَمَنُ بِهَا تُمْلَكُ الْأُخْرَى فَإِنْ أَنَا بِعْتُهَا ... بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَذَاكَ هُوَ الْغَبَنُ لَئِنْ ذَهَبَتْ نَفْسِي بِدُنْيَا أُصِيبُهَا ... لَقَدْ ذَهَبَتْ نَفْسِي وَقَدْ ذَهَبَ الثَّمَنُ

[الحديث الرابع والعشرون قال الله تعالى يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا]

[الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا]

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ. عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا دَخَلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ: أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَفِي آخِرِهِ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ. وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَسُقْهُ بِلَفْظِهِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ سِيَاقِ أَبِي إِدْرِيسَ، وَحَدِيثُ أَبِي إِدْرِيسَ أَتَمُّ. وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ رِوَايَةِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُ، فَسَلُونِي الْهُدَى أَهْدِكُمْ، وَكُلُّكُمْ فَقِيرٌ إِلَّا مَنْ أَغْنَيْتُ فَسَلُونِي أُرْزَقْكُمْ، وَكُلُّكُمْ مُذْنِبٌ إِلَّا مَنْ عَافَيْتُ، فَمَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الْمَغْفِرَةِ وَاسْتَغْفَرَنِي، غَفَرْتُ لَهُ وَلَا أُبَالِي، وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ، وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمْ، اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَّتُهُ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ سَائِلٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي إِلَّا كَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ مَرَّ بِالْبَحْرِ، فَغَمَسَ فِيهِ إِبْرَةً ثُمَّ رَفَعَهَا إِلَيْهِ، ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ وَاجِدٌ مَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أُرِيدَ، عَطَائِي كَلَامٌ، وَعَذَابِي كَلَامٌ، إِنَّمَا أَمْرِي لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتُهُ أَنْ أَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ» وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ.

وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هُوَ أَشْرَفُ حَدِيثٍ لِأَهْلِ الشَّامِ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ: " «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» " يَعْنِي: أَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنَ الظُّلْمِ لِعِبَادِهِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29] [ق: 29] ، وَقَالَ: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] [غَافِرٍ 31] ، وَقَالَ {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108] [آلِ عِمْرَانَ: 108] ، وَقَالَ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] [فُصِّلَتْ: 46] ، وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس: 44] [يُونُسَ: 44] ، وَقَالَ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] [النِّسَاءِ: 40] ، وَقَالَ:

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112] [طه: 112] ، وَالْهَضْمُ: أَنْ يُنْقَصَ مِنْ جَزَاءِ حَسَنَاتِهِ، وَالظُّلْمُ: أَنْ يُعَاقَبَ بِذُنُوبِ غَيْرِهِ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَهُوَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ، وَلَكِنْ لَا يَفْعَلُهُ فَضْلًا مِنْهُ وَجُودًا وَكَرَمًا وَإِحْسَانًا إِلَى عِبَادِهِ. وَقَدْ فَسَّرَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الظُّلْمَ بِأَنَّهُ وَضْعُ الْأَشْيَاءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ - وَقَدْ نُقِلَ نَحْوُهُ عَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِ - فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الظُّلْمَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ، وَغَيْرُهُ مُتَصَوَّرٌ فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ فَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ، وَبِنَحْوِ ذَلِكَ أَجَابَ أَبُو الْأُسُودِ الدُّؤَلِيُّ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الْقَدَرِ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سِنَانٍ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ خَالِدٍ الْحِمْصِيِّ، «عَنِ ابْنِ الدَّيْلِمِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ، لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُ أَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَى زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَحَدَّثَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ» . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ، وَوَهْبُ بْنُ خَالِدٍ لَيْسَ بِذَلِكَ الْمَشْهُورِ بِالْعِلْمِ. وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ تَعْذِيبَهُمْ، لَقَدَّرَ لَهُمْ مَا يُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ حِينَئِذٍ.

وَكَوْنُهُ خَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَفِيهَا الظُّلْمُ لَا يَقْتَضِي وَصْفَهُ بِالظُّلْمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِسَائِرِ الْقَبَائِحِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْعِبَادُ، وَهِيَ خَلْقُهُ وَتَقْدِيرُهُ، فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ إِلَّا بِأَفْعَالِهِ لَا يُوصَفُ بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ، فَإِنَّ أَفْعَالَ عِبَادِهِ مَخْلُوقَاتُهُ وَمَفْعُولَاتُهُ، وَهُوَ لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، إِنَّمَا يُوصَفُ بِمَا قَامَ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ " «وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا» " يَعْنِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى عِبَادِهِ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَتَظَالَمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَحَرَامٌ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ، مَعَ أَنَّ الظُّلْمَ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: ظُلْمُ النَّفْسِ، وَأَعْظَمُهُ الشِّرْكُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] [لُقْمَانَ: 13] ، فَإِنَّ الْمُشْرِكَ جَعَلَ الْمَخْلُوقَ فِي مَنْزِلَةِ الْخَالِقِ، فَعَبَدَهُ وَتَأَلَّهَهُ، فَهُوَ وَضْعُ الْأَشْيَاءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَأَكْثَرُ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَعِيدِ الظَّالِمِينَ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] [الْبَقَرَةِ: 254] ثُمَّ يَلِيهِ الْمَعَاصِي عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا مِنْ كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ. وَالثَّانِي: ظُلْمُ الْعَبْدِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» . وَرُوِيَ عَنْهُ «أَنَّهُ خَطَبَ بِذَلِكَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ قَالَ: " اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا؛ إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبٍ نَفْسٍ مِنْهُ» ". وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ «النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي للظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] » [هُودٍ: 102] . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ» . قَوْلُهُ " «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ» ". هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ الْخَلَقِ مُفْتَقِرُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي جَلْبِ مَصَالِحِهِمْ، وَدَفْعِ مَضَارِّهِمْ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَأَنَّ الْعِبَادَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَتَفَضَّلِ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْهُدَى وَالرِّزْقِ، فَإِنَّهُ يُحْرَمُهُمَا فِي الدُّنْيَا،

وَمَنْ لَمْ يَتَفَضَّلِ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ أَوْبَقَتْهُ خَطَايَاهُ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] [الْكَهْفِ: 17] ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] [فَاطِرٍ: 2] ، وَقَالَ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] [الذَّارِيَاتِ: 58] ، وَقَالَ: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت: 17] [الْعَنْكَبُوتِ: 17] ، وَقَالَ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] [هُودٍ: 6] . وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ آدَمَ وَزَوْجِهِ أَنَّهُمَا قَالَا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] [الْأَعْرَافِ: 23] ، وَعَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] [هُودٍ: 47] . وَقَدِ اسْتَدَلَّ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَفَرُّدِ اللَّهِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَأَنَّ كُلَّ مَا أَشْرَكَ مَعَهُ فَبَاطِلٌ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ - أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ - فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ - الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ - وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ - وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ - وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ - وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 75 - 82] [الشُّعَرَاءِ: 75 - 82] ، فَإِنَّ مَنْ تَفَرَّدَ بِخَلْقِ الْعَبْدِ وَبِهِدَايَتِهِ وَبِرِزْقِهِ وَإِحْيَائِهِ وَإِمَاتَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَبِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ فِي الْآخِرَةِ، مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُفْرَدَ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ وَالسُّؤَالِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ وَالِاسْتِكَانَةِ لَهُ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم: 40] [الرُّومِ: 40] . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَسْأَلَهُ الْعِبَادُ جَمِيعَ مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكُسْوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا يَسْأَلُونَهُ الْهِدَايَةَ

وَالْمَغْفِرَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ: " «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ» ". وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَسْأَلُ اللَّهَ فِي صَلَاتِهِ كُلَّ حَوَائِجِهِ حَتَّى مِلْحَ عَجِينِهِ وَعَلَفَ شَاتِهِ. وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّهُ لَتَعْرِضُ لِيَ الْحَاجَةُ مِنَ الدُّنْيَا، فَأَسْتَحِي أَنْ أَسْأَلَكَ، قَالَ: سَلْنِي حَتَّى مِلْحَ عَجِينِكَ وَعَلَفَ حِمَارِكَ. فَإِنَّ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إِلَيْهِ إِذَا سَأَلَهُ مِنَ اللَّهِ فَقَدْ أَظْهَرَ حَاجَتَهُ فِيهِ، وَافْتِقَارَهُ إِلَى اللَّهِ، وَذَاكَ يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ يَسْأَلَهُ شَيْئًا مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَالِاقْتِدَاءُ بِالسُّنَّةِ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ " «كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ» " قَدْ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ» " وَفِي رِوَايَةٍ: " «مُسْلِمِينَ فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ» " وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ بَنِي آدَمَ، وَفَطَرَهُمْ عَلَى قَبُولِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالتَّهَيُّؤِ لِذَلِكَ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ بِالْقُوَّةِ، لَكِنْ لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ تَعْلِيمِ الْإِسْلَامِ بِالْفِعْلِ، فَإِنَّهُ قَبْلَ التَّعْلِيمِ جَاهِلٌ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] [النَّحْلِ: 78] وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7] [الضُّحَى: 7] ، وَالْمُرَادُ: وَجَدَكَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا عَلَّمَكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] [الشُّورَى: 52] فَالْإِنْسَانُ يُوَلَدُ مَفْطُورًا عَلَى قَبُولِ الْحَقِّ، فَإِنْ هَدَاهُ اللَّهُ سَبَّبَ لَهُ مَنْ يُعَلِّمُهُ الْهُدَى، فَصَارَ مُهْتَدِيًا بِالْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُهْتَدِيًا بِالْقُوَّةِ، وَإِنْ خَذَلَهُ اللَّهُ، قَيَّضَ لَهُ مَنْ يُعَلِّمُهُ مَا يُغَيِّرُ فِطْرَتَهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ،

فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ» . وَأَمَّا سُؤَالُ الْمُؤْمِنِ مِنَ اللَّهِ الْهِدَايَةَ، فَإِنَّ الْهِدَايَةَ نَوْعَانِ: هِدَايَةٌ مُجْمَلَةٌ وَهِيَ الْهِدَايَةُ لِلْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَهِيَ حَاصِلَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَهِدَايَةٌ مُفَصَّلَةٌ، وَهِيَ هِدَايَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِ أَجْزَاءِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَإِعَانَتِهِ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ مُؤْمِنٍ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ أَنْ يَقْرَءُوا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاتِهِمْ قَوْلَهُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] [الْفَاتِحَةِ: 6] ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ بِاللَّيْلِ: " «اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» " وَلِهَذَا يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ، فَيُقَالُ لَهُ: " يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ " فَيَقُولُ: " يَهْدِيكُمُ اللَّهُ " كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُدْعَى لَهُ بِالْهُدَى، وَخَالَفَهُمْ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ «أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ السَّدَّادَ وَالْهُدَى» ، «وَعَلَّمَ الْحَسَنَ أَنْ يَقُولَ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: " اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ» .

وَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ مِنَ الذُّنُوبِ، فَهُوَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، وَالْعَبْدُ أَحْوَجُ شَيْءٍ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ يُخْطِئُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْأَمْرُ بِهِمَا، وَالْحَثُّ عَلَيْهِمَا، وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» . وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً» وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ، وَلَفْظُهُ «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» . وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ وَلَفْظُهُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ «حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ فِي لِسَانِي ذَرَبٌ عَلَى أَهْلِي لَمْ أَعْدُهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ يَا حُذَيْفَةُ، إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» . وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِائَةَ مَرَّةٍ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ» . وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا أَصْبَحْتُ غَدَاةً قَطُّ إِلَّا اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ مِائَةَ مَرَّةٍ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» . وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ «أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمْ أَرَ أَحَدًا أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الَّذِينَ إِذَا أَحْسَنُوا اسْتَبْشَرُوا، وَإِذَا أَسَاءُوا اسْتَغْفَرُوا» ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ

الْكَلَامِ فِي الِاسْتِغْفَارِ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: " «يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي» " يَعْنِي أَنَّ الْعِبَادَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُوصِلُوا إِلَى اللَّهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي نَفْسِهِ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، لَا حَاجَةَ لَهُ بِطَاعَاتِ الْعِبَادِ، وَلَا يَعُودُ نَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَا، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِمَعَاصِيهِمْ، وَإِنَّمَا هُمْ يَتَضَرَّرُونَ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 176] [آلِ عِمْرَانَ: 176] . وَقَالَ {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 144] [آلِ عِمْرَانَ: 144] . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: " «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ غَوَى، وَلَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا» ". قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131] [النِّسَاءِ: 131] ، وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ مُوسَى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8] [إِبْرَاهِيمَ: 8] ، وَقَالَ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] [آلِ عِمْرَانَ: 97] ، وَقَالَ: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] [الْحَجِّ: 37] . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَتَّقُوهُ وَيُطِيعُوهُ، كَمَا أَنَّهُ يَكْرَهُ مِنْهُمْ أَنْ يَعْصُوهُ، وَلِهَذَا يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ أَشَدَّ مِنْ فَرَحِ مَنْ ضَلَّتْ رَاحِلَتُهُ الَّتِي عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَطَلَبَهَا حَتَّى أَعْيَى وَأَيِسَ مِنْهَا، وَاسْتَسْلَمَ لِلْمَوْتِ، وَأَيِسَ مِنَ الْحَيَاةِ، ثُمَّ غَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ وَهِيَ قَائِمَةٌ عِنْدَهُ وَهَذَا أَعْلَى مَا يَتَصَوَّرُهُ الْمَخْلُوقُ مِنَ الْفَرَحِ، هَذَا كُلُّهُ مَعَ غِنَاهُ عَنْ طَاعَاتِ عِبَادِهِ

وَتَوْبَاتِهِمْ إِلَيْهِ، وَإِنَّهُ إِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُهَا إِلَيْهِمْ دُونَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ كَمَالِ جُودِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى عِبَادِهِ، وَمَحَبَّتِهِ لِنَفْعِهِمْ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهْمْ، فَهُوَ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَعْرِفُوهُ وَيُحِبُّوهُ وَيَخَافُوهُ وَيَتَّقُوهُ وَيُطِيعُوهُ وَيَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ، وَيُحِبُّ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَغْفِرَةِ ذُنُوبِ عِبَادِهِ، كَمَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ لِهَذَا الْحَدِيثِ: «مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الْمَغْفِرَةِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُ لَهُ وَلَا أُبَالِي» ". وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا، فَاغْفِرْ لِي؛ فَقَالَ اللَّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي» ". وَفِي حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَ دَابَّتَهُ، حَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا، وَكَبَّرَ ثَلَاثًا، وَقَالَ: سُبْحَانَكَ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ، وَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي» ، خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «وَاللَّهِ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا» . كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ ذِي النُّونِ يَطُوفُ وَيُنَادِي: آهْ أَيْنَ قَلْبِي، مَنْ وَجَدَ قَلْبِي؟ فَدَخَلَ يَوْمًا بَعْضَ السِّكَكِ، فَوَجَدَ صَبِيًّا يَبْكِي وَأُمُّهُ تَضْرِبُهُ، ثُمَّ أَخْرَجَتْهُ مِنَ الدَّارِ، وَأَغْلَقَتِ الْبَابَ دُونَهُ، فَجَعَلَ الصَّبِيَّ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ وَلَا

أَيْنَ يَقْصِدُ، فَرَجَعَ إِلَى بَابِ الدَّارِ، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا أُمَّاهُ مَنْ يَفْتَحُ لِيَ الْبَابَ إِذَا أَغْلَقْتِ عَنِّي بَابَكِ؟ وَمَنْ يُدْنِينِي إِذَا طَرَدْتِينِي؟ وَمَنِ الَّذِي يُدْنِينِي إِذَا غَضِبْتِ عَلَيَّ؟ فَرَحِمَتْهُ أُمُّهُ، فَنَظَرَتْ مِنْ خَلَلِ الْبَابِ، فَوَجَدَتْ وَلَدَهَا تَجْرِي الدُّمُوعُ عَلَى خَدَّيْهِ مُتَمَعِّكًا فِي التُّرَابِ، فَفَتَحَتِ الْبَابَ، وَأَخَذَتْهُ حَتَّى وَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا وَجَعَلَتْ تُقَبِّلُهُ، وَتَقُولُ: يَا قُرَّةَ عَيْنِي، وَيَا عَزِيزَ نَفْسِي، أَنْتَ الَّذِي حَمَلْتَنِي عَلَى نَفْسِكَ، وَأَنْتَ الَّذِي تَعَرَّضْتَ لِمَا حَلَّ بِكَ، لَوْ كُنْتَ أَطَعْتَنِي لَمْ تَلْقَ مِنِّي مَكْرُوهًا، فَتَوَاجَدَ الْفَتَى، ثُمَّ قَامَ فَصَاحَ، وَقَالَ: قَدْ وَجَدْتُ قَلْبِي، قَدْ وَجَدْتُ قَلْبِي. وَتَفَكَّرُوا فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135] [آلِ عِمْرَانَ: 135] ، فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُذْنِبِينَ لَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ، وَيُعَوِّلُونَ عَلَيْهِ فِي مَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِمْ - غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَقِّ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118] [التَّوْبَةِ: 118] ، فَرَتَّبَ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِمْ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا خَافَ مِنْ مَخْلُوقٍ، هَرَبَ مِنْهُ، وَفَرَّ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مِنَ اللَّهِ، فَمَا لَهُ مِنْ مَلْجَأٍ يَلْجَأُ إِلَيْهِ، وَلَا مَهْرَبٍ يَهْرُبُ إِلَيْهِ إِلَّا هُوَ، فَيَهْرُبُ مِنْهُ إِلَيْهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ «لَا مَلْجَأَ، وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ» " وَكَانَ يَقُولُ: " «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ» ".

قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا مِنْ لَيْلَةٍ اخْتَلَطَ ظَلَامُهَا، وَأَرْخَى اللَّيْلُ سِرْبَالَ سِتْرِهَا، إِلَّا نَادَى الْجَلِيلُ جَلَّ جَلَالُهُ: مَنْ أَعْظَمُ مِنِّي جُودًا، وَالْخَلَائِقُ لِي عَاصُونَ، وَأَنَا لَهُمْ مُرَاقِبٌ، أَكْلَؤُهُمْ فِي مَضَاجِعِهِمْ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْصُونِي، وَأَتَوَلَّى حِفْظَهُمْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُذْنِبُوا فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، أَجُودُ بِالْفَضْلِ عَلَى الْعَاصِي، وَأَتَفَضَّلُ عَلَى الْمُسِيءِ، مَنْ ذَا الَّذِي دَعَانِي فَلَمْ أُلَبِّهِ؟ أَمْ مَنْ ذَا الَّذِي سَأَلَنِي فَلَمْ أُعْطِهِ؟ أَمْ مَنِ الَّذِي أَنَاخَ بِبَابِي فَنَحَّيْتُهُ؟ أَنَا الْفَضْلُ، وَمِنِّي الْفَضْلُ، أَنَا الْجَوَادُ، وَمِنِّي الْجُودُ، وَأَنَا الْكَرِيمُ، وَمِنِّي الْكَرَمُ، وَمِنْ كَرَمِي أَنْ أَغْفِرَ لِلْعَاصِينَ بَعْدَ الْمَعَاصِي، وَمِنْ كَرَمِي أَنْ أُعْطِيَ الْعَبْدَ مَا سَأَلَنِي، وَأُعْطِيَهُ مَا لَمْ يَسْأَلْنِي، وَمِنْ كَرَمِي أَنْ أُعْطِيَ التَّائِبَ كَأَنَّهُ لَمْ يَعْصِنِي، فَأَيْنَ عَنِّي يَهْرُبُ الْخَلَائِقُ؟ وَأَيْنَ عَنْ بَابِي يَتَنَحَّى الْعَاصُونَ؟ خَرَّجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ. وَلِبَعْضِهِمْ فِي الْمَعْنَى. أَسَأْتُ وَلَمْ أُحْسِنْ وَجِئْتُكَ تَائِبًا ... وَأَنَّى لِعَبْدٍ عَنْ مَوَالِيهِ مَهْرَبُ يُؤَمِّلُ غُفْرَانًا فَإِنْ خَابَ ظَنُّهُ ... فَمَا أَحَدٌ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ أَخْيَبُ فَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: " «يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، وَلَوْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا» ": هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مُلْكَهُ لَا يَزِيدُ بِطَاعَةِ الْخَلْقِ، وَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ بَرَرَةً أَتْقِيَاءَ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ أَتْقَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، وَلَا يَنْقُصُ مُلْكُهُ بِمَعْصِيَةِ الْعَاصِينَ، وَلَوْ كَانَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ كُلُّهُمْ عُصَاةً فَجَرَةً قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ أَفْجَرِ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ، وَلَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَمُلْكُهُ مُلْكٌ كَامِلٌ لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ

مِنَ الْوُجُوهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ إِيجَادَهُ لِخَلْقِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمَوْجُودِ أَكْمَلُ مِنْ إِيجَادِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ وُجُودِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الشَّرِّ فَهُوَ شَرٌّ إِضَافِيٌّ نِسْبِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ، وَلَيْسَ شَرًّا مُطْلَقًا بِحَيْثُ يَكُونُ عَدَمُهُ خَيْرًا مِنْ وُجُودِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ وَجُودُهُ خَيْرٌ مِنْ عَدِمِهِ، وَقَالَ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: " بِيَدِهِ الْخَيْرُ " وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» " يَعْنِي: أَنَّ الشَّرَّ الْمَحْضَ الَّذِي عَدِمَهُ خَيْرٌ مِنْ وُجُودِهِ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي مُلْكِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَدَ خَلْقَهُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ وَعَدْلُهُ، وَخَصَّ قَوْمًا مِنْ خَلْقِهِ بِالْفَضْلِ، وَتَرَكَ آخَرِينَ مِنْهُمْ فِي الْعَدْلِ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَهُوَ يُخَالِفُ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ لَوْ كَانُوا عَلَى صِفَةِ أَكْمَلِ خَلْقِهِ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، لَمْ يَزِدْ ذَلِكَ فِي مُلْكِهِ شَيْئًا، وَلَا قَدْرَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ، وَلَوْ كَانُوا عَلَى صِفَةِ أَنْقَصِ خَلْقِهِ مِنَ الْفُجُورِ، لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُلْكَهُ كَامِلٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ لَا يَزْدَادُ وَلَا يَكْمُلُ بِالطَّاعَاتِ وَلَا يَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ شَيْءٌ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّقْوَى وَالْفُجُورِ هُوَ الْقَلْبُ، فَإِذَا بَرَّ الْقَلْبُ وَاتَّقَى بَرَّتِ الْجَوَارِحُ، وَإِذَا فَجَرَ الْقَلْبُ، فَجَرَتِ الْجَوَارِحُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «التَّقْوَى هَاهُنَا " وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ» . قَوْلُهُ: " «يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» " الْمُرَادُ بِهَذَا ذِكْرُ كَمَالِ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَكَمَالِ

مُلْكِهِ، وَأَنَّ مُلْكَهُ وَخَزَائِنَهُ لَا تَنْفَدُ، وَلَا تَنْقُصُ بِالْعَطَاءِ، وَلَوْ أَعْطَى الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ جَمِيعَ مَا سَأَلُوهُ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ، وَفِي ذَلِكَ حَثٌّ لِلْخَلْقِ عَلَى سُؤَالِهِ وَإِنْزَالِ حَوَائِجِهِمْ بِهِ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ، فَلَا يَقُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ» . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: إِذَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ، فَارْفَعُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ مَا عِنْدَهُ لَا يَنْفَدُهُ شَيْءٌ، وَإِذَا دَعَوْتُمْ فَاعْزِمُوا، فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَيُؤَمَّلُ غَيْرِي لِلشَّدَائِدِ وَالشَّدَائِدُ بِيَدِي وَأَنَا الْحَيُّ الْقَيُّومُ؟ وَيُرْجَى غَيْرِي، وَيُطْرَقُ بَابُهُ بِالْبَكَرَاتِ، وَبِيَدِي مَفَاتِيحُ الْخَزَائِنِ، وَبَابِي مَفْتُوحٌ لِمَنْ دَعَانِي؟ مَنْ ذَا الَّذِي أَمَّلَنِي لِنَائِبَةٍ فَقَطَعْتُ بِهِ؟ أَوْ مَنْ ذَا الَّذِي رَجَانِي لِعَظِيمٍ، فَقَطَعْتُ رَجَاءَهُ؟ أَوْ مَنْ ذَا الَّذِي طَرَقَ بَابِي، فَلَمْ أَفْتَحْهُ لَهُ؟ أَنَا غَايَةُ الْآمَالِ، فَكَيْفَ تَنْقَطِعُ الْآمَالُ دُونِي؟ أَبِخَيْلٌ أَنَا فَيُبَخِّلُنِي عَبْدِي؟ أَلَيْسَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَالْكَرْمُ وَالْفَضْلُ كُلُّهُ لِي؟ فَمَا يَمْنَعُ الْمُؤَمِّلِينَ أَنْ يُؤَمِّلُونِي؟ لَوْ جَمَعْتُ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ أَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا أَعْطَيْتُ الْجَمِيعَ، وَبَلَّغْتُ كُلَّ وَاحِدٍ أَمَلَهُ، لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي عُضْوَ ذَرَّةٍ، كَيْفَ يَنْقُصُ مُلْكٌ أَنَا قَيِّمُهُ؟ فَيَا بُؤْسًا لِلْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي، وَيَا بُؤْسًا لِمَنْ عَصَانِي وَتَوَثَّبَ عَلَى مَحَارِمِي.

وَقَوْلُهُ: " «لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» " تَحْقِيقٌ لِأَنَّ مَا عِنْدَهُ لَا يَنْقُصُ الْبَتَّةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] [النَّحْلِ: 96] ، فَإِنَّ الْبَحْرَ إِذَا غُمِسَ فِيهِ إِبْرَةٌ، ثُمَّ أُخْرِجَتْ لَمْ يَنْقُصْ مِنَ الْبَحْرِ بِذَلِكَ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ شَرِبَ مِنْهُ عُصْفُورٌ مَثَلًا، فَإِنَّهُ لَا يَنْقُصُ الْبَحْرَ الْبَتَّةَ، وَلِهَذَا ضَرَبَ الْخَضِرُ لِمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ هَذَا الْمَثَلَ فِي نِسْبَةِ عِلْمِهِمَا إِلَى عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَحْرَ لَا يَزَالُ تَمُدُّهُ مِيَاهُ الدُّنْيَا وَأَنْهَارُهَا الْجَارِيَةُ، فَمَهْمَا أُخِذَ مِنْهُ لَمْ يَنْقُصْهُ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ يَمُدُّهُ مَا هُوَ أَزْيَدُ مِمَّا أُخِذَ مِنْهُ، وَهَكَذَا طَعَامُ الْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَدُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ - لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 32 - 33] [الْوَاقِعَةِ: 32 - 33] ، وَقَدْ جَاءَ: " أَنَّهُ كُلَّمَا نُزِعَتْ ثَمَرَةٌ، عَادَ مَكَانَهَا مِثْلُهَا " وَرُوِيَ " مِثْلَاهَا "، فَهِيَ لَا تَنْقُصُ أَبَدًا وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ «قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ الْكُسُوفِ: " وَأُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ، لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا» " خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَلَفْظُهُ: " «وَلَوْ أَتَيْتُكُمْ

بِهِ لَأَكَلَ مِنْهُ مَنْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لَا يَنْقُصُونَهُ شَيْئًا» ". وَهَكَذَا لَحْمُ الطَّيْرِ الَّذِي يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَسْتَخْلِفُ وَيَعُودُ كَمَا كَانَ حَيًّا لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ فِيهَا ضَعْفٌ، وَقَالَهُ كَعْبٌ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ مِنْ قَوْلِهِ، قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: وَكَذَلِكَ الشَّرَابُ يَشْرَبُ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ نَفَسُهُ، ثُمَّ يَعُودُ مَكَانَهُ. وَرُئِيَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمُدَّةٍ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: مَا أَكَلْتُ مُنْذُ فَارَقْتُكُمْ إِلَّا بَعْضَ فَرْخٍ، أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ طَعَامَ الْجَنَّةِ لَا يَنْفَدُ؟ . وَقَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا يَنْقُصُ مَا عِنْدَ اللَّهِ بِالْعَطَاءِ بِقَوْلِهِ: " «ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ وَاجِدٌ مَاجِدٌ، أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ، عَطَائِي كَلَامٌ، وَعَذَابِي كَلَامٌ، إِنَّمَا أَمْرِي لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ» " وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] [يس: 82] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] [النَّحْلِ: 40] .

وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزَّارِ " بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «خَزَائِنُ اللَّهِ الْكَلَامُ، فَإِذَا أَرَادَ شَيْئًا، قَالَ لَهُ: كُنْ، فَكَانَ» " فَهُوَ سُبْحَانُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا مِنْ عَطَاءٍ أَوْ عَذَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ لَهُ: كُنْ، فَكَانَ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْقُصَ هَذَا؟ وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا، قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، كَمَا قَالَ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] [آلِ عِمْرَانَ: 59] . وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ: أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مُوسَى، لَا تَخَافَنَّ غَيْرِي مَا دَامَ لِيَ السُّلْطَانُ، وَسُلْطَانِي دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ، يَا مُوسَى، لَا تَهْتَمَّنَّ بِرِزْقِي أَبَدًا مَا دَامَتْ خَزَائِنِي مَمْلُوءَةً، وَخَزَائِنِي مَمْلُوءَةٌ لَا تَفْنَى أَبَدًا، يَا مُوسَى لَا تَأْنَسْ بِغَيْرِي مَا وَجَدْتَنِي أَنِيسًا لَكَ، وَمَتَى طَلَبْتَنِي وَجَدْتَنِي، يَا مُوسَى، لَا تَأْمَنْ مَكْرِي مَا لَمْ تَجُزِ الصِّرَاطَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَخْضَعَنَّ لِمَخْلُوقٍ عَلَى طَمَعٍ ... فَإِنَّ ذَاكَ مُضِرٌّ مِنْكَ بِالدِّينِ وَاسْتَرْزِقِ اللَّهَ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ ... فَإِنَّمَا هِيَ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ وَقَوْلُهُ: " «يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا» " يَعْنِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحْصِي أَعْمَالَ عِبَادِهِ، ثُمَّ يُوَفِّيهِمْ إِيَّاهَا بِالْجَزَاءِ عَلَيْهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] [الزَّلْزَلَةِ: 7 - 8] ، وَقَوْلِهِ: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] [الْكَهْفِ: 49] ، وَقَوْلِهِ {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]

[آلِ عِمْرَانَ: 30] ، وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] [الْمُجَادَلَةِ: 6] . وَقَوْلِهِ: " ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا " الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ تَوْفِيَتُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185] [آلِ عِمْرَانَ: 185] وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ: يُوَفِّي عِبَادَهُ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] [النِّسَاءِ: 123] . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُجَازَوْنَ بِسَيِّئَاتِهِمْ فِي الدِّينَا، وَتُدَّخَرُ لَهُمْ حَسَنَاتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَيُوَفَّوْنَ أُجُورَهَا. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يُعَجَّلُ لَهُ فِي الدُّنْيَا ثَوَابُ حَسَنَاتِهِ، وَتُدَّخَرُ لَهُ سَيِّئَاتُهُ، فَيُعَاقَبُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَتَوْفِيَةُ الْأَعْمَالِ هِيَ تَوْفِيَةُ جَزَائِهَا مَنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَالشَّرُّ يُجَازَى بِهِ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْخَيْرُ تُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ مِنْهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ لَا يَعْلَمُ قَدْرَهَا إِلَّا اللَّهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] [الزُّمَرِ: 10] . وَقَوْلُهُ: " «فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» " إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ مِنَ اللَّهِ فَضْلٌ مِنْهُ عَلَى عَبْدِهِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لَهُ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ مِنْ عِنْدِ ابْنِ آدَمَ مِنَ اتِّبَاعِ هَوَى نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] [النِّسَاءِ: 79] ، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إِلَّا رَبَّهُ، وَلَا يَخَافَنَّ إِلَّا ذَنْبَهُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا أَرَادَ تَوْفِيقَ عَبْدٍ وَهِدَايَتَهُ أَعَانَهُ وَوَفَّقَهُ لِطَاعَتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ فَضْلًا مِنْهُ، وَإِذَا أَرَادَ خِذْلَانَ عَبْدٍ، وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَأَغْوَاهُ الشَّيْطَانُ لِغَفْلَتِهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، وَكَانَ ذَلِكَ عَدْلًا مِنْهُ، فَإِنَّ الْحُجَّةَ قَائِمَةٌ عَلَى الْعَبْدِ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ، وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ، فَمَا بَقِيَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ. فَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: " «فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمِنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا

يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» " إِنْ كَانَ الْمُرَادُ: مَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ مَأْمُورًا بِالْحَمْدِ لِلَّهِ عَلَى مَا وَجَدَهُ مِنْ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّذِي عَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] [النَّحْلِ: 97] ، وَيَكُونُ مَأْمُورًا بِلَوْمِ نَفْسِهِ عَلَى مَا فَعَلَتْ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي وَجَدَ عَاقِبَتَهَا فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21] [السَّجْدَةِ: 21] ، فَالْمُؤْمِنُ إِذَا أَصَابَهُ فِي الدُّنْيَا بَلَاءٌ، رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ بِاللَّوْمِ، وَدَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَفِي " الْمُسْنَدِ " " وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ سَقَمٌ، ثُمَّ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْهُ، كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ، وَمَوْعِظَةً لَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عُمُرِهِ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ وَعُوفِيَ، كَانَ كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ وَأَطْلَقُوهُ، لَا يَدْرِي لِمَ عَقَلُوهُ وَلَا لِمَ أَطْلَقُوهُ» ". وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ الْمُسْلِمَ لَيُبْتَلَى، فَيَكُونُ كَفَارَّةً لِمَا مَضَى وَمُسْتَعْتَبًا فِيمَا بَقِيَ، وَإِنَّ الْكَافِرَ يُبْتَلَى، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْبَعِيرِ أُطْلِقَ، فَلَمْ يَدْرِ لِمَ أُطْلِقَ، وَعُقِلَ فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عُقِلَ؟ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَنْ وَجَدَ خَيْرًا أَوْ غَيْرَهُ فِي الْآخِرَةِ، كَانَ إِخْبَارًا مِنْهُ بِأَنَّ الَّذِينَ يَجِدُونَ الْخَيْرَ فِي الْآخِرَةِ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ يَلُومُ نَفْسَهُ حِينَ لَا يَنْفَعُهُ اللَّوْمُ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ لَفْظَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرَ، كَقَوْلِهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَاذِبَ عَلَيْهِ يَتَبَوَّأُ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، فَقَالَ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] [الْأَعْرَافِ: 43] وَقَالَ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74] [الزُّمَرِ: 74] ، وَقَالَ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ - الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 34 - 35] [فَاطِرٍ: 34 - 35] ، وَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ أَنَّهُمْ يَلُومُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَيَمْقُتُونَهَا أَشَدَّ الْمَقْتِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] [إِبْرَاهِيمَ: 22] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 10] [غَافِرٍ: 10] . وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَجْتَهِدُونَ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ حَذَرًا مِنْ لَوْمِ النَّفْسِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْأَعْمَالِ عَلَى التَّقْصِيرِ. وَفِي " التِّرْمِذِيِّ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ، إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ اسْتُعْتِبَ» ". وَقِيلَ لِمَسْرُوقٍ: لَوْ قَصَّرْتَ عَنْ بَعْضِ مَا تَصْنَعُ مِنَ الِاجْتِهَادِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ

لَوْ أَتَانِي آتٍ، فَأَخْبَرَنِي أَنْ لَا يُعَذِّبَنِي، لَاجْتَهَدْتُ فِي الْعِبَادَةِ، قِيلَ: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: حَتَّى تَعْذِرَنِي نَفْسِي إِنْ دَخَلْتُ النَّارَ أَنْ لَا أَلُومَهَا، أَمَا بَلَغَكَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2] ؟ [الْقِيَامَةِ: 2] إِنَّمَا لَامُوا أَنْفُسَهُمْ حِينَ صَارُوا إِلَى جَهَنَّمَ، فَاعْتَنَقَتْهُمُ الزَّبَانِيَةُ، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ، وَانْقَطَعَتْ عَنْهُمُ الْأَمَانِيُّ، وَرُفِعَتْ عَنْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَأَقْبَلَ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَلُومُ نَفْسَهُ. وَكَانَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قِيسٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَجْتَهِدَنَّ ثُمَّ وَاللَّهِ لَأَجْتَهِدَنَّ، فَإِنْ نَجَوْتُ فَبِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَإِلَّا لَمْ أَلُمْ نَفْسِي. وَكَانَ زِيَادٌ مَوْلَى ابْنِ عَيَّاشٍ يَقُولُ لِابْنِ الْمُنْكَدِرِ وَلِصَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ: الْجِدَّ الْجِدَّ وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ، فَإِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ عَلَى مَا نَرْجُو كَانَ مَا عَمِلْتُمَا فَضْلًا، وَإِلَّا لَمْ تَلُومَا أَنْفُسَكُمَا. وَكَانَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: اجْتَهَدُوا فِي الْعَمَلِ، فَإِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا نَرْجُو مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ، كَانَتْ لَنَا دَرَجَاتٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ شَدِيدًا كَمَا نَخَافُ وَنُحَاذِرُ، لَمْ نَقُلْ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] [فَاطِرٍ: 37] ، نَقُولُ: قَدْ عَمِلْنَا فَلَمْ يَنْفَعْنَا ذَلِكَ.

[الحديث الخامس والعشرون إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة]

[الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً]

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ. عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: أَوَلَيَسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنْ أَبِي الْأُسُودِ الدِّيلِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ بِزِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، وَسَنَذْكُرُ بَعْضَهَا فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِشِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقُوَّةِ رَغْبَتِهِمْ فِي الْخَيْرِ كَانُوا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ مِنَ الْخَيْرِ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، فَكَانَ الْفُقَرَاءُ يَحْزَنُونَ عَلَى فَوَاتِ الصَّدَقَةِ بِالْأَمْوَالِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْأَغْنِيَاءُ، وَيَحْزَنُونَ عَلَى التَّخَلُّفِ عَنِ الْخُرُوجِ

فِي الْجِهَادِ، لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى آلَتِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] [التَّوْبَةِ: 92] . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ الْفُقَرَاءَ غَبَطُوا أَهْلَ الدُّثُورِ - وَالدُّثُورُ: هِيَ الْأَمْوَالُ - مِمَّا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ أَجْرِ الصَّدَقَةِ بِأَمْوَالِهِمْ، فَدَلَّهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَدَقَاتٍ يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: " وَمَا ذَاكَ؟ " قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيَعْتِقُونَ وَلَا نَعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ قَدْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً "، قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] [الْمَائِدَةِ: 54] .» وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ،

وَأَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْفُقَرَاءَ ظَنُّوا أَنْ لَا صَدَقَةَ إِلَّا بِالْمَالِ، وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ صَدَقَةٌ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ.» وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالصَّدَقَةُ تُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ، حَتَّى إِنْ فَضَلَّ اللَّهِ الْوَاصِلَ مِنْهُ إِلَى عِبَادِهِ صَدَقَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ إِنَّمَا الصَّدَقَةُ مِمَّنْ يَطْلُبُ جَزَاءَهَا وَأَجْرَهَا، وَالصَّحِيحُ خِلَافُ ذَلِكَ، وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ: " «مَنْ كَانَتْ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ نَوْمٌ فَنَامَ عَنْهَا، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ،

وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً مِنَ اللَّهِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ» " خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَفِي " مُسْنَدَيْ " بَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: " «مَا مِنْ يَوْمٍ وَلَا لَيْلَةٍ وَلَا سَاعَةٍ إِلَّا لِلَّهِ فِيهَا صَدَقَةٌ يَمُنُّ بِهَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ مِثْلَ أَنْ يُلْهِمَهُ ذِكْرَهُ» ". وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: إِنَّ اللَّهَ يَتَصَدَّقُ كُلَّ يَوْمٍ بِصَدَقَةٍ، وَمَا تَصَدَّقَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ بِشَيْءٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِذِكْرِهِ. وَالصَّدَقَةُ بِغَيْرِ الْمَالِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا فِيهِ تَعْدِيَةُ الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، فَيَكُونُ صَدَقَةً عَلَيْهِمْ، وَرُبَّمَا كَانَ أَفْضَلَ مِنَ الصَّدَقَةِ بِالْمَالِ، وَهَذَا كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنَّهُ دُعَاءٌ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَكَفٌّ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ النَّفْعِ بِالْمَالِ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَإِقْرَاءُ الْقُرْآنِ، وَإِزَالَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالسَّعْيُ فِي جَلْبِ النَّفْعِ لِلنَّاسِ، وَدَفْعُ الْأَذَى عَنْهُمْ. وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ. وَخَرَّجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَلْيَتَصَدَّقْ مِنْ مَالِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ قُوَّةٌ، فَلْيَتَصَدَّقْ مِنْ قُوَّتِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ، فَلْيَتَصَدَّقْ مِنْ عِلْمِهِ» " وَلَعَلَّهُ مَوْقُوفٌ.

وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ صَدَقَةُ اللِّسَانِ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا صَدَقَةُ اللِّسَانِ؟ قَالَ: " الشَّفَاعَةُ تَفُكُّ بِهَا الْأَسِيرَ، وَتَحْقِنُ بِهَا الدَّمَ، وَتَجُرُّ بِهَا الْمَعْرُوفَ وَالْإِحْسَانَ إِلَى أَخِيكَ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ الْكَرِيهَةَ» ". وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَا مِنْ صَدَقَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَوْلٍ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263] » [الْبَقَرَةِ: 263] " خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مِنَ الصَّدَقَةِ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى النَّاسِ وَأَنْتَ طَلِيقُ الْوَجْهِ» " خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. وَقَالَ مُعَاذٌ: تَعْلِيمُ الْعِلْمِ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا. وَمِنْ أَنْوَاعِ الصَّدَقَةِ كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ، فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " «عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ " قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا " قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: " تُعِينُ صَانِعًا، وَتَصْنَعُ لِأَخْرَقَ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: " تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ» .

وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ زِيَادَاتٌ أُخْرَى، فَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ» ". وَخَرَّجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ مِنْ نَفْسِ ابْنِ آدَمَ إِلَّا عَلَيْهَا صَدَقَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنْ أَيْنَ لَنَا صَدَقَةٌ نَتَصَدَّقُ بِهَا؟ قَالَ: إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ لَكَثِيرَةٌ: التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَالتَّحْمِيدُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَتُسْمِعُ الْأَصَمَّ، وَتَهْدِي الْأَعْمَى، وَتَدُلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَتِهِ، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ مَعَ اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَحْمِلُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، فَهَذَا كُلُّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ الْأَغْنِيَاءُ بِالْأَجْرِ، يَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، قَالَ: " وَأَنْتَ فِيكَ صَدَقَةٌ: رَفْعُكَ الْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَهِدَايَتُكَ الطَّرِيقَ صَدَقَةٌ، وَعَوْنُكُ الضَّعِيفَ بِفَضْلِ قُوَّتِكَ صَدَقَةٌ، وَبَيَانُكَ عَنِ الْأَغْتَمِ صَدَقَةٌ، وَمُبَاضَعَتُكَ امْرَأَتَكَ صَدَقَةٌ "، قُلْتُ: يَا

رَسُولَ اللَّهِ، نَأْتِي شَهْوَتَنَا وَنُؤْجَرُ؟ ! قَالَ: " أَرَأَيْتَ لَوْ جَعَلَهُ فِي حَرَامٍ، أَكَانَ يَأْثَمُ؟ " قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: " أَفَتَحْتَسِبُونَ بِالشَّرِّ وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْخَيْرِ» ؟ " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنْ فِيكَ صَدَقَةً كَثِيرَةً، فَذَكَرَ فَضْلَ سَمْعِكَ وَفَضْلَ بَصَرِكَ» " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: قَالَ: " «إِنَّ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ التَّكْبِيرَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدَ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْزِلُ الشَّوْكَةَ عَنِ الطَّرِيقِ وَالْعَظْمَ وَالْحَجَرِ، وَتَهْدِي الْأَعْمَى، وَتُسْمِعُ الْأَصَمَّ وَالْأَبْكَمَ حَتَّى يَفْقَهَ، وَتُدِلُّ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى حَاجَةٍ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ مَكَانَهَا، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ إِلَى اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَرْفَعُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَكَ فِي جِمَاعِكَ زَوْجَتَكَ أَجْرٌ " قُلْتُ: كَيْفَ يَكُونُ لِي أَجْرٌ فِي شَهْوَتِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ وَلَدٌ، فَأَدْرَكَ وَرَجَوْتَ خَيْرَهُ، فَمَاتَ، أَكُنْتَ تَحْتَسِبُ بِهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْتَ خَلَقْتَهُ؟ قُلْتُ: بَلِ اللَّهُ خَلَقَهُ، قَالَ: أَفَأَنْتَ هَدَيْتَهُ؟ قُلْتُ: بَلِ اللَّهُ هَدَاهُ، قَالَ: أَفَأَنْتَ كُنْتَ تَرْزُقُهُ؟ قُلْتُ: بَلِ اللَّهُ كَانَ يَرْزُقُهُ، قَالَ: كَذَلِكَ فَضَعْهُ فِي حَلَالِهِ وَجَنِّبْهُ حَرَامَهُ، فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحْيَاهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمَاتَهُ، وَلَكَ أَجْرٌ» ". وَظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى جِمَاعِهِ لِأَهْلِهِ بِنِيَّةِ طَلَبِ الْوَلَدِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ الْأَجْرُ عَلَى تَرْبِيَتِهِ وَتَأْدِيبِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَيَحْتَسِبُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا بِقَضَاءِ شَهْوَتِهِ، فَهَذَا قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي دُخُولِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِأَنَّ نَفَقَةَ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ، فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا "، وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: " «إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» "، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُؤْجَرُ فِيهَا إِذَا احْتَسَبَهَا عِنْدَ اللَّهِ كَمَا فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ» خَرَّجَاهُ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَفْضَلُ الدَّنَانِيرِ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قَالَ أَبُو قِلَابَةَ عِنْدَ رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ: بَدَأَ بِالْعِيَالِ، وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ لَهُ صِغَارٍ يُعِفُّهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَيُغْنِيهِمُ اللَّهُ بِهِ. وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ نَفَقَتَكَ عَلَى عِيَالِكَ صَدَقَةً، وَإِنَّ مَا تَأْكُلُ امْرَأَتُكَ مِنْ مَالِكَ صَدَقَةً» وَهَذَا قَدْ وَرَدَ مُقَيَّدًا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى

مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَفْضَلُهَا الدِّينَارُ الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقُوا فَقَالَ رَجُلٌ: عِنْدِي دِينَارٌ، فَقَالَ: " تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ " قَالَ عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ، قَالَ: " تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ " قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ، قَالَ: " تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ " قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ، قَالَ: " تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ " قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ، قَالَ: أَنْتَ أَبْصَرُ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ، فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ، فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ زَوْجَتَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ خَادِمَكَ، فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ» وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ طَيْرٌ أَوْ دَابَّةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ، فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ» . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: " «فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ، وَلَا دَابَّةٌ، وَلَا طَائِرٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ".

وَفِي " الْمُسْنَدِ " بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَنْ بَنَى بُنْيَانًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا اعْتِدَاءٍ، أَوْ غَرَسَ غِرَاسًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا اعْتِدَاءٍ، إِلَّا كَانَ لَهُ أَجْرًا جَارِيًا مَا انْتَفَعَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ الرَّحْمَنِ» ". وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي " تَارِيخِهِ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: " «مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ تَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى مَنْ جِنٍّ وَلَا إِنْسٍ وَلَا سَبُعٍ وَلَا طَائِرٍ إِلَّا آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". وَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَكُونُ صَدَقَةً يُثَابُ عَلَيْهَا الزَّارِعُ وَالْغَارِسُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا نِيَّةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» " يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّهُ يُؤَجَرُ فِي إِتْيَانِ أَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، فَإِنَّ الْمُبَاضِعَ لِأَهْلِهِ كَالزَّارِعِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يَحْرُثُ وَيَبْذُرُ فِيهَا، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَمَالَ إِلَيْهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي اللُّقْمَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى فِيهِ» . وَهَذَا اللَّفْظُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، إِنَّمَا الْمَعْرُوفُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ: " «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ» "، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ لِلَّهِ، فَتُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الْمُطْلَقَةُ عَلَيْهِ؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] [النِّسَاءِ: 114] ،

فَجَعَلَ ذَلِكَ خَيْرًا، وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ الْأَجْرَ إِلَّا مَعَ نِيَّةِ الْإِخْلَاصِ. وَأَمَّا إِذَا فَعَلَهُ رِيَاءً، فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَحَلُّ التَّرَدُّدِ إِذَا فَعَلَهُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَلَا فَاسِدَةٍ. وَقَدْ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: مَنْ عَمِلَ عَمَلَ خَيْرٍ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ كَفَاهُ نِيَّةَ اخْتِيَارِهِ لِلْإِسْلَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّهُ بِدُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ مُخْتَارٌ لِأَعْمَالِ الْخَيْرِ فِي الْجُمْلَةِ، فَيُثَابُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ مِنْهَا بِتِلْكَ النِّيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: " «أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ، كَانَ لَهُ أَجْرٌ» ". هَذَا يُسَمَّى عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ قِيَاسُ الْعَكْسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً وَقُلْتُ أَنَا أُخْرَى، قَالَ: مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ، وَقُلْتُ: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الصَّدَقَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مَالِيَّةً: مَا نَفْعُهُ قَاصِرٌ عَلَى فَاعِلِهِ، كَأَنْوَاعِ الذِّكْرِ: مِنَ التَّكْبِيرِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَكَذَلِكَ الْمَشْيُ إِلَى الْمَسَاجِدِ صَدَقَةٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ وَالْجِهَادَ أَنَّهُ صَدَقَةٌ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَاتِ الْمَالِيَّةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذُكِرَ جَوَابًا لِسُؤَالِ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ سَأَلُوهُ عَمَّا يُقَاوِمُ تَطَوُّعَ الْأَغْنِيَاءِ بِأَمْوَالِهِمْ، وَأَمَّا الْفَرَائِضُ، فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا كُلُّهُمْ مُشْتَرِكِينَ فِيهَا. وَقَدْ تَكَاثَرَتِ النُّصُوصُ بِتَفْضِيلِ الذِّكْرِ عَلَى الصَّدَقَةِ بِالْمَالِ وَغَيْرِهَا مِنَ

الْأَعْمَالِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» " خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ» . وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ، كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلِدَ إِسْمَاعِيلَ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الْعِبَادِ أَفْضَلُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا " قُلْتُ:

يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: " لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَخْتَضِبَ دَمًا، لَكَانَ الذَّاكِرُونَ لِلَّهِ أَفْضَلَ مِنْهُ دَرَجَةً» . وَيُرْوَى نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ وَجَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَالصَّوَابُ وَقْفُهُ عَلَى مُعَاذٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْوَازِعِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «لَوْ أَنَّ رَجُلًا فِي حَجْرِهِ دَرَاهِمُ يُقَسِّمُهَا، وَآخَرَ يَذْكُرُ اللَّهَ، كَانَ الذَّاكِرُ أَفْضَلَ» ". قُلْتُ: الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي الْوَازِعِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ مِنْ قَوْلِهِ. خَرَّجَهُ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ. وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " «مَنْ كَبَّرَ مِائَةً، وَسَبَّحَ

مِائَةً، وَهَلَّلَ مِائَةً، كَانَتْ خَيْرًا لَهُ مِنْ عَشْرِ رِقَابٍ يُعْتِقُهَا، وَمِنْ سَبْعِ بَدَنَاتٍ يَنْحَرُهَا» ". وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ مِائَةَ نَسَمَةٍ، فَقَالَ: إِنَّ مِائَةَ نَسَمَةٍ مِنْ مَالِ رَجُلٍ كَثِيرٌ، وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ إِيمَانٌ مَلْزُومٌ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنْ لَا يَزَالَ لِسَانُ أَحَدِكُمْ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَيْضًا، قَالَ: لَأَنْ أَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ مِائَةَ مَرَّةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ دِينَارٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: إِنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِعَدَدِهِ مِنَ الْمَالِ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: «سَبِّحِي اللَّهَ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَإِنَّهَا تَعْدِلُ مِائَةَ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاحْمَدِي اللَّهَ مِائَةَ تَحْمِيدَةٍ، فَإِنَّهَا تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ فَرَسٍ مُلْجَمَةٍ مُسْرَجَةٍ تَحْمِلِينَ عَلَيْهِنَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَبِّرِي اللَّهَ مِائَةَ تَكْبِيرَةٍ، فَإِنَّهَا تَعْدِلُ مِائَةَ بَدَنَةٍ مُقَلَّدَةٍ مُتَقَبَّلَةٍ، وَهَلِّلِي اللَّهَ مِائَةَ تَهْلِيلَةٍ - لَا أَحْسَبُهُ إِلَّا قَالَ: - تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَا يُرْفَعُ يَوْمَئِذٍ لِأَحَدٍ مِثْلُ عَمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ مَا أَتَيْتِ» وَخَرَّجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ، وَعِنْدَهُمَا: " «وَقُولِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِائَةَ مَرَّةٍ، لَا تَذَرُ ذَنْبًا، وَلَا يَسْبِقُهَا الْعَمَلُ» ".

وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: قَالَ: " «مَا مِنْ صَدَقَةٍ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ". وَخَرَّجَ الْفِرْيَابِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ فَاتَهُ اللَّيْلُ أَنْ يُكَابِدَهُ، وَيَبْخَلُ بِمَالِهِ أَنْ يُنْفِقَهُ، وَجُبُنَ مِنَ الْعَدْوِ أَنْ يُقَاتِلَهُ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ سُبْحَانِ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فَإِنَّهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ جَبَلِ ذَهَبٍ، أَوْ جَبَلِ فِضَّةٍ يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ". وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ مُقَارِبٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ فِي حَدِيثِهِ: " «فَلْيُكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ» "، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي الْمَعْنَى أَحَادِيثُ أُخَرُ مُتَعَدِّدَةٌ.

[الحديث السادس والعشرون كل سلامى من الناس عليه صدقة]

[الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ]

الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ: تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ، فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَاهُ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَخَرَّجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لِلْإِنْسَانِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ عَظْمًا، أَوْ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ سُلَامَى، عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ " قَالُوا: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: " يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ " قَالُوا: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: " يَرْفَعُ عَظْمًا عَنِ الطَّرِيقِ " قَالُوا: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: " فَلْيُعِنْ ضَعِيفًا " قَالُوا: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَلْيَدَعِ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» . وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُلِقَ ابْنُ آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مِفْصَلٍ، فَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ، وَحَمِدَ اللَّهَ، وَهَلَّلَ اللَّهَ، وَسَبَّحَ اللَّهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ عَزَلَ شَوْكَةً، أَوْ عَزَلَ عَظْمًا، أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِمِائَةِ السُّلَامَى أَمْسَى مِنْ يَوْمِهِ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ» .

وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكَعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فِي الْإِنْسَانِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مَفْصِلًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهُ بِصَدَقَةٍ قَالُوا: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: النُّخَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ تَدْفِنُهَا، وَالشَّيْءُ تُنَحِّيهِ عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ، فَرَكَعَتَا الضُّحَى تُجْزِئُكَ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: فَيَعْمَلُ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، أَوْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفِ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: فَلْيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ صَدَقَةٌ» . وَخَرَّجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «عَلَى كُلِّ مَنْسِمٍ مِنَ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَمَنْ

يُطِيقُ هَذَا؟ قَالَ: أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَالْحَمْلُ عَلَى الضَّعِيفِ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ» . وَخَرَّجَهُ الْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: «عَلَى كُلِّ مِيسَمٍ مِنَ الْإِنْسَانِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ فَقَالَ رَجُلٌ: هَذَا مِنْ أَشَدِّ مَا أَتَيْتَنَا بِهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيًا عَنِ الْمُنْكَرِ صَلَاةٌ أَوْ صَدَقَةٌ، وَحَمْلُكَ عَنِ الضَّعِيفِ صَلَاةٌ، وَإِنْحَاؤُكَ الْقَذَرَ عَنِ الطَّرِيقِ صَلَاةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَلَاةٌ» . وَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ: «وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» أَوْ قَالَ: " صَلَاةٌ ". قَالَ بَعْضُهُمْ: يُرِيدُ بِالْمِيسَمِ كُلَّ عُضْوٍ عَلَى حِدَةٍ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَسْمِ: وَهُوَ الْعَلَامَةُ، إِذْ مَا مِنْ عَظْمٍ وَلَا عَرْقٍ وَلَا عَصَبٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ أَثَرُ صُنْعِ اللَّهِ، فَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الشُّكْرُ عَلَى ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى خَلْقِهِ سَوِيًّا صَحِيحًا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ صَلَاةٌ كُلَّ يَوْمٍ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَحْتَوِي عَلَى الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفْعَ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «عَلَى كُلِّ سُلَامَى، أَوْ عَلَى كُلِّ عُضْوٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَا الضُّحَى» . وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «عَلَى كُلِّ نَفْسٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ شَيْئًا؟ قَالَ: أَلَيْسَ بَصِيرًا شَهْمًا فَصِيحًا صَحِيحًا؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: يُعْطِي مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَإِنَّ بَصَرَكَ لِلْمَنْقُوصِ بَصَرُهُ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ سَمْعَكَ لِلْمَنْقُوصِ سَمْعُهُ صَدَقَةٌ» . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَاضِي - حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ - الَّذِي خَرَّجَهُ ابْنُ

حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ مِنْ نَفْسِ ابْنِ آدَمَ إِلَّا عَلَيْهَا صَدَقَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنْ أَيْنَ لَنَا صَدَقَةٌ نَتَصَدَّقُ بِهَا؟ قَالَ: إِنَّ أَبْوَابَ الْخَيْرِ لَكَثِيرَةٌ: التَّسْبِيحُ، وَالتَّحْمِيدُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَالتَّهْلِيلُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَتُسْمِعُ الْأَصَمَّ، وَتَهْدِي الْأَعْمَى، وَتَدُلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَتِهِ، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ مَعَ اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَحْمِلُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، فَهَذَا كُلُّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ» . فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ» قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: السُّلَامَى فِي الْأَصْلِ عَظْمٌ يَكُونُ فِي فِرْسِنِ الْبَعِيرِ، قَالَ: فَكَأَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ: عَلَى كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ، يُشِيرُ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ السُّلَامَى اسْمٌ لِبَعْضِ الْعِظَامِ الصِّغَارِ الَّتِي فِي الْإِبِلِ، ثُمَّ عَبَّرَ بِهَا عَنِ الْعِظَامِ فِي الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ. فَمَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدَهُ: عَلَى كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: السُّلَامَى: عَظْمٌ فِي طَرْفِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ عِظَامِ الْجَسَدِ، وَالسُّلَامَى جَمْعٌ، وَقِيلَ: هُوَ مُفْرَدٌ. وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ الطِّبِّ أَنَّ جَمِيعَ عِظَامِ الْبَدَنِ مِائَتَانِ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ عَظْمًا سِوَى السِّمْسِمَانِيَّاتِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ عَظْمًا، يَظْهَرُ مِنْهَا لِلْحِسِّ مِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ عَظْمًا، وَالْبَاقِيَةُ صِغَارٌ لَا تَظْهَرُ تُسَمَّى السِّمْسِمَانِيَّةَ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُصَدِّقُ هَذَا الْقَوْلَ، وَلَعَلَّ السُّلَامَى عُبِّرَ بِهَا عَنْ هَذِهِ الْعِظَامِ الصِّغَارِ، كَمَا أَنَّهَا فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِأَصْغَرِ مَا فِي الْبَعِيرِ مِنَ الْعِظَامِ، وَرِوَايَةُ الْبَزَّارِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَشْهَدُ لِهَذَا، حَيْثُ قَالَ فِيهَا: " أَوْ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ سُلَامَى " وَقَدْ

خَرَّجَهُ غَيْرُ الْبَزَّارِ، وَقَالَ فِيهِ: " «إِنَّ فِي ابْنِ آدَمَ سِتَّمِائَةٍ وَسِتِّينَ عَظْمًا» " وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ غَلَطٌ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَبُرَيْدَةَ ذَكَرَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَفْصِلًا. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: «أَنَّ تَرْكِيبَ هَذِهِ الْعِظَامِ وَسَلَامَتَهَا مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ، فَيَحْتَاجُ كُلُّ عَظْمٍ مِنْهَا إِلَى صَدَقَةٍ يَتَصَدَّقُ ابْنُ آدَمَ عَنْهُ، لِيَكُونَ ذَلِكَ شُكْرًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ» . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ - الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ - فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 - 8] [الِانْفِطَارِ: 6 - 8] . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23] [الْمُلْكِ: 23] ، وَقَالَ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] [النَّحْلِ: 78] وَقَالَ: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ - وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 8 - 9] [الْبَلَدِ: 8 - 9] ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ نِعَمٌ مِنَ اللَّهِ مُتَظَاهِرَةٌ يُقَرِّرُكَ بِهَا كَيْمَا تَشْكُرَ، وَقَرَأَ الْفَضْلُ لَيْلَةً هَذِهِ الْآيَةَ، فَبَكَى فَسُئِلَ عَنْ بُكَائِهِ، فَقَالَ: هَلْ بَتَّ لَيْلَةً شَاكِرًا لِلَّهِ أَنْ جَعَلَ لَكَ عَيْنَيْنِ تُبْصِرُ بِهِمَا؟ هَلْ بَتَّ لَيْلَةً شَاكِرًا لِلَّهِ أَنْ جَعَلَ لَكَ لِسَانًا تَنْطِقُ بِهِ؟ وَجَعَلَ يُعَدِّدُ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: إِنَّ رَجُلًا بُسِطَ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا، فَانْتُزِعَ مَا فِي يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ فِرَاشٌ إِلَّا بُورِيَّ، فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَبُسِطَ لِلْآخَرِ مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ لِصَاحِبِ الْبُورِيِّ: أَرَأَيْتُكَ أَنْتَ عَلَى مَا تَحْمَدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: أَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى مَا لَوْ أُعْطِيتُ بِهِ مَا أُعْطِيَ الْخَلْقُ لَمْ أُعْطِهِمْ إِيَّاهُ، قَالَ:

وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ بَصَرَكَ؟ أَرَأَيْتَ لِسَانَكَ؟ أَرَأَيْتَ يَدَيْكَ؟ أَرَأَيْتَ رِجْلَيْكَ؟ وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الصِّحَّةُ غِنَى الْجَسَدِ. وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَيْهِ ضِيقَ حَالِهِ، فَقَالَ لَهُ يُونُسُ: أَيَسُرُّكَ أَنَّ لَكَ بِبَصَرِكَ هَذَا الَّذِي تُبْصِرُ بِهِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ؟ قَالَ الرَّجُلُ: لَا، قَالَ: فَبِيَدِكَ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَرِجْلَيْكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَذَكَّرَهُ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ يُونُسُ: أَرَى عِنْدَكَ مِئِينَ أُلُوفٍ وَأَنْتَ تَشْكُو الْحَاجَةَ. وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ: الْعَافِيَةُ الْمُلْكُ الْخَفِيُّ. وَعَنْ بَكْرٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ قَدْرَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَغَمِّضْ عَيْنَيْكَ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: كَمْ مِنْ نِعْمَةٍ لِلَّهِ فِي عِرْقٍ سَاكِنٍ. وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» . فَهَذِهِ النِّعَمُ مِمَّا يُسْأَلُ الْإِنْسَانُ عَنْ شُكْرِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُطَالَبُ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] [التَّكَاثُرِ: 8] وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ

مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ، فَيَقُولُ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَنُرْوِيكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: النَّعِيمُ الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ. وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] [التَّكَاثُرِ: 8] ، قَالَ: النَّعِيمُ: صِحَّةُ الْأَبْدَانِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، يَسْأَلُ اللَّهُ الْعِبَادَ فِيمَا اسْتَعْمَلُوهَا؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] [الْإِسْرَاءِ: 36] . وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ بْنِ عُتْبَةَ - وَفِيهِ ضَعْفٌ - عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَانَ لَهُ بِهَا عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، كُتِبَ لَهُ بِهَا مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ حَسَنَةٍ فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ نَهْلَكُ بَعْدَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَمَلِ، لَوْ وُضِعَ عَلَى جَبَلٍ لِأَثْقَلَهُ، فَتَقُومُ النِّعْمَةُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ، فَتَكَادُ أَنْ تَسْتَنْفِدَ ذَلِكَ كُلَّهُ، إِلَّا أَنْ يَتَطَاوَلَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» .

وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُؤْتَى بِالنِّعَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِنِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِهِ: خُذِي حَقَّكِ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَمَا تَتْرُكُ لَهُ حَسَنَةً إِلَّا ذَهَبَتْ بِهَا» . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: عَبَدَ اللَّهَ عَابِدٌ خَمْسِينَ عَامًا، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكَ، قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا تَغْفِرُ لِي وَلَمْ أُذْنِبْ؟ فَأَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِعِرْقٍ فِي عُنُقِهِ، فَضُرِبَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَنَمْ، وَلَمْ يُصَلِّ، ثُمَّ سَكَنَ وَقَامَ، فَأَتَاهُ مَلَكٌ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ ضَرَبَانِ الْعِرْقِ، فَقَالَ الْمَلَكُ: إِنَّ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: عِبَادَتُكَ خَمْسِينَ سَنَةً تَعْدِلُ سُكُونَ ذَلِكَ الْعِرْقِ. وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا مِنْ رِوَايَةِ سَلْمَانَ بْنِ هَرِمٍ الْقُرَشِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَابِدًا عَبَدَ اللَّهَ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ فِي الْبَحْرِ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَقْبِضَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، قَالَ: فَنَحْنُ نَمُرُّ عَلَيْهِ إِذَا هَبَطْنَا وَإِذَا عَرَجْنَا، وَنَجِدُ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ، فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَدَخِلُو عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُ الْعَبْدُ: يَا رَبِّ، بِعَمَلِي، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ: قَايِسُوا عَبْدِي بِنِعْمَتِي عَلَيْهِ وَبِعَمَلِهِ، فَيَجِدُونَ نِعْمَةَ الْبَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَقِيَتْ نِعَمُ الْجَسَدِ لَهُ، فَيَقُولُ: أَدْخَلُوا عَبْدِي النَّارَ، فَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ، فَيُنَادِي رَبَّهُ: بِرَحْمَتِكَ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، بِرَحْمَتِكَ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ، قَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّمَا الْأَشْيَاءُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ» . وَسَلْمَانُ بْنُ هَرِمٍ، قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: هُوَ مَجْهُولٌ وَحَدِيثُهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَرَوَى الْخَرَائِطِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: «يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: انْظُرُوا فِي عَمَلِ عَبْدِي وَنِعْمَتِي عَلَيْهِ، فَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُونَ: وَلَا بِقَدْرِ نِعْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ نِعَمِكَ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا فِي عَمَلِهِ سَيِّئِهِ وَصَالِحِهِ، فَيَنْظُرُونَ فَيَجِدُونَهُ كَفَافًا، فَيَقُولُ: عَبْدِي، قَدْ قَبِلْتُ حَسَنَاتِكَ، وَغَفَرْتُ لَكَ سَيِّئَاتِكَ، وَقَدْ وَهَبْتُ لَكَ نِعْمَتِي فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ» . وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا لَا يُحْصُونَهُ كَمَا قَالَ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] [إِبْرَاهِيمَ: 34] وَطَلَبَ مِنْهُمُ الشُّكْرَ، وَرَضِيَ بِهِ مِنْهُمْ. قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إِنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَى الْعِبَادِ عَلَى قَدْرِهِ، وَكَلَّفَهُمُ الشُّكْرَ عَلَى قَدْرِهِمْ حَتَّى رَضِيَ مِنْهُمْ مِنَ الشُّكْرِ بِالِاعْتِرَافِ بِقُلُوبِهِمْ بِنِعَمِهِ، وَبِالْحَمْدِ بِأَلْسِنَتِهِمْ عَلَيْهَا، كَمَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنِّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَنَّامٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ «مَنْ قَالَ: حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ، فَقَدَ

أَدَّى شُكْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ» . وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً، فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ شُكْرَهَا قَبْلَ أَنْ يَشْكُرَهَا، وَمَا أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَنَدِمَ عَلَيْهِ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مَغْفِرَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ» . وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الطُّورِ: يَا رَبِّ، إِنْ أَنَا صَلَّيْتُ فَمِنْ قِبَلِكَ، وَإِنْ أَنَا تَصَدَّقْتُ فَمِنْ قِبَلِكَ، وَإِنْ أَنَا بَلَّغْتُ رِسَالَتَكَ فَمِنْ قِبَلِكَ، فَكَيْفَ أَشْكُرُكَ؟ قَالَ: الْآنَ شَكَرْتَنِي. وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ، كَيْفَ يَسْتَطِيعُ آدَمُ أَنْ يُؤَدِّيَ شُكْرَ مَا صَنَعْتَ إِلَيْهِ؟ خَلَقْتَهُ بِيَدِكَ، وَنَفَخْتَ فِيهِ مِنْ رُوحِكَ، وَأَسْكَنْتَهُ جَنَّتَكَ، وَأَمَرْتَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَهُ، فَقَالَ: يَا مُوسَى، عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنِّي، فَحَمِدَنِي عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ شُكْرًا لِمَا صَنَعْتُهُ.

وَعَنْ أَبِي الْجِلْدِ قَالَ: قَرَأْتُ فِي مَسْأَلَةِ دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ: أَيْ رَبِّ كَيْفَ لِي أَنْ أَشْكُرَكَ وَأَنَا لَا أَصِلُ إِلَى شُكْرِكَ إِلَّا بِنِعْمَتِكَ؟ قَالَ: فَأَتَاهُ الْوَحْيُ: أَنْ يَا دَاوُدُ، أَلَيْسَ تَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي بِكَ مِنَ النِّعَمِ مِنِّي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَإِنِّي أَرْضَى بِذَلِكَ مِنْكَ شُكْرًا. قَالَ: وَقَرَأْتُ فِي مَسْأَلَةِ مُوسَى: يَا رَبِّ، كَيْفَ لِي أَنْ أَشْكُرَكَ وَأَصْغَرُ نِعْمَةٍ وَضَعْتَهَا عِنْدِي مِنْ نِعَمِكَ لَا يُجَازِي بِهَا عَمَلِي كُلُّهُ؟ قَالَ: فَأَتَاهُ الْوَحْيُ: أَنْ يَا مُوسَى، الْآنَ شَكَرْتَنِي. وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَا قَالَ: عَبْدٌ قَطُّ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَرَّةً، إِلَّا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ بِقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَمَا جَزَاءُ تِلْكَ النِّعْمَةِ؟ جَزَاؤُهَا أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَجَاءَتْ نِعْمَةٌ أُخْرَى، فَلَا تَنْفَدُ نَعْمَاءُ اللَّهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إِلَّا كَانَ الَّذِي أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ» . وَرُوِّينَا نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا أَيْضًا. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِنْ قَوْلِهِ.

وَكَتَبَ بَعْضُ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَيْهِ: إِنِّي بِأَرْضٍ قَدْ كَثُرَتْ فِيهَا النِّعَمُ، حَتَّى لَقَدْ أَشْفَقْتُ عَلَى أَهْلِهَا مِنْ ضَعْفِ الشُّكْرِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَرَاكَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِمَّا أَنْتَ، إِنِ اللَّهَ لَمْ يُنْعِمْ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَيْهَا، إِلَّا كَانَ حَمْدُهُ أَفْضَلَ مِنْ نِعْمَتِهِ، لَوْ كُنْتَ لَا تَعْرِفُ ذَلِكَ إِلَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنْزَلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15] [النَّمْلِ: 15] ، وَقَالَ اللَّهُ: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} [الزمر: 73] إِلَى قَوْلِهِ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الزمر: 74] [الزُّمَرِ: 73] وَأَيُّ نِعْمَةٍ أَفْضَلُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ؟ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي " كِتَابِ الشُّكْرِ " عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ صَوَّبَ هَذَا الْقَوْلَ، أَعْنِي قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَمْدَ أَفْضَلُ مِنَ النِّعَمِ، وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ خَطَّأَ قَائِلَهُ، وَقَالَ: لَا يَكُونُ فِعْلُ الْعَبْدِ أَفْضَلَ مِنْ فِعْلِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَكِنَّ الصَّوَابَ قَوْلُ مَنْ صَوَّبَهُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالنِّعَمِ: النِّعَمُ الدُّنْيَوِيَّةُ، كَالْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ وَالصِّحَّةِ، وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ هُوَ مِنَ النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ، وَكُلَاهُمَا نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ، لَكِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ بِهِدَايَتِهِ لِشُكْرِ نِعَمِهِ بِالْحَمْدِ عَلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ نِعَمِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى عَبْدِهِ، فَإِنَّ النِّعَمَ الدُّنْيَوِيَّةَ إِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا الشُّكْرُ، كَانَتْ بَلِيَّةً كَمَا قَالَ أَبُو حَازِمٍ: كُلُّ نِعْمَةٍ لَا تُقَرِّبُ مِنَ اللَّهِ فَهِيَ بَلِيَّةٌ، فَإِذَا وَفَّقَ اللَّهُ عَبْدَهُ لِلشُّكْرِ عَلَى نِعَمِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِالْحَمْدِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الشُّكْرِ، كَانَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ خَيْرًا مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ وَأَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ

يُحِبُّ الْمَحَامِدَ، وَيَرْضَى عَنْ عَبْدِهِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، وَالثَّنَاءُ بِالنِّعَمِ وَالْحَمْدُ عَلَيْهَا وَشُكْرُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْجُودِ وَالْكَرَمِ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَهُمْ يَبْذُلُونَهَا طَلَبًا لِلثَّنَاءِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَأَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، فَهُوَ يَبْذُلُ نِعَمَهُ لِعِبَادِهِ، وَيَطْلُبُ مِنْهُمُ الثَّنَاءَ بِهَا وَذِكْرَهَا، وَالْحَمْدَ عَلَيْهَا، وَيَرْضَى مِنْهُمْ بِذَلِكَ شُكْرًا عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى شُكْرِهِمْ، لَكِنَّهُ يُحِبُّ ذَلِكَ مِنْ عِبَادِهِ، حَيْثُ كَانَ صَلَاحُ الْعَبْدِ وَفَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ فِيهِ. وَمِنْ فَضْلِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ نَسَبَ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ مَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ اسْتَقْرَضَ مِنْهُمْ بَعْضَهُ، وَمَدَحَهُمْ بِإِعْطَائِهِ، وَالْكُلُّ مِلْكُهُ وَمِنْ فَضْلِهِ، وَلَكِنَّ كَرَمَهُ اقْتَضَى ذَلِكَ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ مَعْنَى الْأَثَرِ الَّذِي جَاءَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: " «الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ، وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ» ". وَلْنَرْجِعِ الْآنَ إِلَى تَفْسِيرِ حَدِيثِ: «كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ» . يَعْنِي: أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى ابْنِ آدَمَ عَنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ مُدَّةٍ أَزِيدَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا يُقَالُ: يَوْمَ صِفِّينَ، وَكَانَ مُدَّةَ أَيَّامٍ، وَعَنْ مُطْلَقِ الْوَقْتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} [هود: 8] [هُودٍ: 8] ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَإِذَا قِيلَ: كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، عُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ عَلَى ابْنِ آدَمَ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَعِيشُ فِيهِ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الشُّكْرَ بِهَذِهِ الصَّدَقَةِ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِ كُلَّ يَوْمٍ، وَلَكِنَّ الشُّكْرَ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: وَاجِبٌ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْوَاجِبَاتِ، وَيَتَجَنَّبَ الْمَحَارِمَ، فَهَذَا لَا بُدَّ

مِنْهُ، وَيَكْفِي فِي شُكْرِ هَذِهِ النِّعَمِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ، قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، فَقَالَ: يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ، فَلَهُ بِكُلِّ صَلَاةٍ صَدَقَةٌ، وَصِيَامٍ صَدَقَةٌ، وَحَجٍّ صَدَقَةٌ، وَتَسْبِيحٍ صَدَقَةٌ، وَتَكْبِيرٍ صَدَقَةٌ، وَتَحْمِيدٍ صَدَقَةٌ، فَعَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ قَالَ: يُجْزِئُ أَحَدُكُمْ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَا الضُّحَى» وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْمُخَرَّجِ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": «فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِيهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُجْتَنِبًا لِلشَّرِّ إِذَا قَامَ بِالْفَرَائِضِ، وَاجْتَنَبَ الْمَحَارِمَ، فَإِنَّ أَعْظَمَ الشَّرِّ تَرْكُ الْفَرَائِضِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الشُّكْرُ تَرْكُ الْمَعَاصِي. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الشُّكْرُ أَنْ لَا يُسْتَعَانَ بِشَيْءٍ مِنَ النِّعَمِ عَلَى مَعْصِيَةٍ. وَذَكَرَ أَبُو حَازِمٍ الزَّاهِدُ شُكْرَ الْجَوَارِحِ كُلِّهَا وَأَنْ تُكَفَّ عَنِ الْمَعَاصِي، وَتُسْتَعْمَلَ فِي الطَّاعَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا مَنْ شَكَرَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَشْكُرْ بِجَمِيعِ أَعْضَائِهِ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ لَهُ كِسَاءٌ، فَأَخَذَ بِطَرَفِهِ، فَلَمْ يَلْبَسْهُ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالثَّلْجِ وَالْمَطَرِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لِيَنْظُرِ الْعَبْدُ فِي نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي بَدَنِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَيْسَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ إِلَّا وَفِيهِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَقٌّ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْمَلَ بِالنِّعَمِ اللَّاتِي هِيَ فِي بَدَنِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ

فِي طَاعَتِهِ، وَنِعْمَةٌ أُخْرَى فِي الرِّزْقِ، حَقٌّ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنَ الرِّزْقِ فِي طَاعَتِهِ، فَمَنْ عَمِلَ بِهَذَا، كَانَ قَدْ أَخَذَ بِحَزْمِ الشُّكْرِ وَأَصْلِهِ وَفَرْعِهِ. وَرَأَى الْحَسَنُ رَجُلًا يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ، فَقَالَ: لِلَّهِ فِي كُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ نِعْمَةٌ، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنَا مِمَّنْ يَتَقَوَّى بِنِعَمِكَ عَلَى مَعْصِيَتِكَ. الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الشُّكْرِ: الشُّكْرُ الْمُسْتَحَبُّ، وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ بِنَوَافِلِ الطَّاعَاتِ، وَهَذِهِ دَرَجَةُ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ، وَهِيَ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَكَذَلِكَ «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُومُ حَتَّى تَنْفَطِرَ قَدَمَاهُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: أَتَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَيَقُولُ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13] [سَبَأٍ: 13] ، لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِمْ سَاعَةٌ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَّا وَفِيهِمْ مُصَلٍّ يُصَلِّي. وَهَذَا مَعَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبٌ: إِمَّا عَلَى الْأَعْيَانِ، كَالْمَشْيِ إِلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ مَنْ يَرَى وُجُوبَ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَإِمَّا عَلَى الْكِفَايَةِ، كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَالْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ، إِمَّا فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، أَوْ فِي الْإِصْلَاحِ. وَقَدْ

رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ» . وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّدَقَةِ، مِنْهَا مَا نَفْعُهُ مُتَعَدٍّ كَالْإِصْلَاحِ، وَإِعَانَةِ الرَّجُلِ عَلَى دَابَّتِهِ يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ مَتَاعَهُ عَلَيْهَا، وَالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا السَّلَامُ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإِزَالَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَدَفْنُ النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِعَانَةُ ذِي الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفِ، وَإِسْمَاعُ الْأَصَمِّ وَالْبَصَرِ لِلْمَنْقُوصِ بَصَرُهُ، وَهِدَايَةُ الْأَعْمَى، أَوْ غَيْرِهِ الطَّرِيقَ. وَجَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ «وَبَيَانُكَ عَنِ الْأَرْتَمِ صَدَقَةٌ» يَعْنِي: مَنْ لَا يُطِيقُ الْكَلَامَ، إِمَّا لِآفَةٍ فِي لِسَانِهِ، أَوْ لِعُجْمَةٍ فِي لُغَتِهِ، فَيُبَيِّنُ عَنْهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ. وَمِنْهُ مَا هُوَ قَاصِرُ النَّفْعِ: كَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالْمَشْيِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَصَلَاةِ رَكْعَتِيِ الضُّحَى، وَإِنَّمَا كَانَتَا مُجْزِئَتَيْنِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، لِأَنَّ فِي الصَّلَاةِ اسْتِعْمَالًا لِلْأَعْضَاءِ كُلِّهَا فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، فَتَكُونُ كَافِيَةً فِي شُكْرِ نِعْمَةِ سَلَامَةِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ. وَبَقِيَّةُ هَذِهِ الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ أَكْثَرُهَا اسْتِعْمَالٌ لِبَعْضِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ خَاصَّةً، فَلَا تَكْمُلُ الصَّدَقَةُ بِهَا حَتَّى يَأْتِيَ مِنْهَا بِعَدَدِ سُلَامَى الْبَدَنِ، وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَتُدْرُونَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ وَخَيْرٌ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: الْمِنْحَةُ أَنْ تَمْنَحَ أَخَاكَ الدَّرَاهِمَ، أَوْ ظَهْرَ الدَّابَّةِ، أَوْ لَبَنَ الشَّاةِ أَوْ لَبَنَ الْبَقَرَةِ» . وَالْمُرَادُ بِمِنْحَةِ الدَّرَاهِمِ: قَرْضُهَا، وَبِمِنْحَةِ ظَهْرِ الدَّابَّةِ إِفْقَارُهَا، وَهُوَ إِعَارَتُهَا لِمَنْ يَرْكَبُهَا، وَبِمِنْحَةِ لَبَنِ الشَّاةِ أَوِ الْبَقَرَةِ أَنْ يَمْنَحَهُ بَقَرَةً أَوْ شَاةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا ثُمَّ يُعِيدَهَا إِلَيْهِ، وَإِذَا أُطْلِقَتِ الْمَنِيحَةُ، لَمْ تَنْصَرِفْ إِلَّا إِلَى هَذَا. وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ لَبَنٍ، أَوْ وَرِقٍ، أَوْ أَهْدَى زُقَاقًا، كَانَ لَهُ مِثْلُ عِتْقِ رَقَبَةٍ» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: «مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ وَرِقٍ» إِنَّمَا يَعْنِي بِهِ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ، وَقَوْلُهُ: وَأَهْدَى زُقَاقًا إِنَّمَا يَعْنِي بِهِ هِدَايَةَ الطَّرِيقِ، وَهُوَ إِرْشَادُ السَّبِيلِ. وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعُونَ خَصْلَةً، أَعْلَاهَا مَنِيحَةُ الْعَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا، وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ» قَالَ حَسَّانُ: فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ، فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً.

وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «حَقُّ الْإِبِلِ حَلْبُهَا عَلَى الْمَاءِ وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا، وَإِعَارَةُ فَحْلِهَا، وَمَنِيحَتُهَا، وَحِمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَائِهِ» . وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ بِزِيَادَةٍ، وَهِيَ: «وَمَا أَنْفَقَ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، كُتِبَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ، وَمَا وَقَى بِهِ عِرْضَهُ كُتِبَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ نَفَقَةٍ أَنْفَقَهَا مُؤْمِنٌ، فَعَلَى اللَّهِ خَلَفُهَا ضَامِنٌ، إِلَّا نَفَقَةً فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ بُنْيَانٍ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " «عَنْ أَبِي جَرْيٍ الْهُجَيْمِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، فَقَالَ: لَا تُحَقِّرَنَ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ صِلَةَ الْحَبْلِ، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ شِسْعَ النَّعْلِ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْطَلِقٌ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الْوَحْشَانِ فِي الْأَرْضِ» . وَمِنْ أَنْوَاعِ الصَّدَقَةِ: كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ، كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي ذَرٍّ، «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: تُعِينُ صَانِعًا، أَوْ

تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ» . وَفِي " صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانِ " «عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ، إِذَا عَمِلَ بِهِ الْعَبْدُ دَخَلَ بِهِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مَعَ الْإِيمَانِ عَمَلًا؟ قَالَ: يَرْضَخُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ مُعْدَمًا لَا شَيْءَ لَهُ؟ قَالَ: يَقُولُ مَعْرُوفًا بِلِسَانِهِ، قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ عَيِيًّا لَا يُبْلِغُ عَنْهُ لِسَانُهُ؟ قَالَ: فَيُعِينُ مَغْلُوبًا، قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا قُدْرَةَ لَهُ؟ قَالَ: فَلْيَصْنَعْ لِأَخْرَقَ، قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ أَخْرَقَ؟ فَالْتَفَتَ إِلَيَّ، فَقَالَ: مَا تُرِيدُ أَنْ تَدَعَ فِي صَاحِبِكَ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ؟ فَلْيَدْعِ النَّاسَ مِنْ أَذَاهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا كُلُّهُ لَيَسِيرٌ، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا يُرِيدُ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ، إِلَّا أَخَذَتْ بِيَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ» . فَاشْتَرَطَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا إِخْلَاصَ النِّيَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الْأَرْبَعِينَ خَصْلَةً، وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] [النِّسَاءِ: 114] . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّ فِعْلَ الْمَعْرُوفِ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ نِيَّةٌ. سُئِلَ الْحَسَنُ عَنِ الرَّجُلِ يَسْأَلُهُ آخَرُ حَاجَةً وَهُوَ يُبْغِضُهُ، فَيُعْطِيهُ حَيَاءً: هَلْ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ؟ فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَمِنَ الْمَعْرُوفِ، وَإِنَّ فِي الْمَعْرُوفِ لَأَجْرًا. خَرَّجَهُ حُمَيْدُ بْنُ زِنْجَوَيْهِ. وَسُئِلَ ابْنُ سِيرِينَ عَنِ الرَّجُلِ يَتْبَعُ الْجِنَازَةَ، لَا يَتْبَعُهَا حِسْبَةً، يَتْبَعُهَا حَيَاءً مِنْ

أَهْلِهَا: أَلَهُ فِي ذَلِكَ أَجْرٌ؟ فَقَالَ: أَجْرٌ وَاحِدٌ؟ بَلْ لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرٌ لِصَلَاتِهِ عَلَى أَخِيهِ، وَأَجْرٌ لِصِلَتِهِ الْحَيَّ. خَرَّجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " الْحِلْيَةِ ". وَمِنْ أَنْوَاعِ الصَّدَقَةِ: أَدَاءُ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَبَعْضُهَا مَذْكُورٌ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَاضِيَةِ، فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا لَقِيتَهُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ، فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَإِرْشَادُ الضَّالِّ، بَدَلَ إِبْرَارِ الْقَسَمِ. وَمِنْ أَنْوَاعِ الصَّدَقَةِ: الْمَشْيُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْوَاجِبَةِ إِلَيْهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ مَشَى بِحَقِّ أَخِيهِ إِلَيْهِ لِيَقْضِيَهُ، فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ صَدَقَةٌ. وَمِنْهَا إِنْظَارُ الْمُعْسِرِ، وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَ " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا:

«مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ، قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ، فَأَنْظَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ» . وَمِنْهَا الْإِحْسَانُ إِلَى الْبَهَائِمِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ سَقْيِهَا: فَقَالَ: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» ، وَأَخْبَرَ أَنَّ «بَغِيًّا سَقَتْ كَلْبًا يَلْهَثُ مِنَ الْعَطَشِ، فَغُفِرَ لَهَا» . وَأَمَّا الصَّدَقَةُ الْقَاصِرَةُ عَلَى نَفْسِ الْعَامِلِ بِهَا، فَمِثْلُ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ مِنَ التَّسْبِيحِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَالْمَشْيُ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَالْجُلُوسُ فِيهَا لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ، أَوْ لِاسْتِمَاعِ الذِّكْرِ. وَمِنْ ذَلِكَ: التَّوَاضُعُ فِي اللِّبَاسِ، وَالْمَشْيُ، وَالْهَدْيُ، وَالتَّبَذُّلُ فِي الْمِهْنَةِ، وَاكْتِسَابُ الْحَلَالِ، وَالتَّحَرِّي فِيهِ. وَمِنْهَا أَيْضًا: مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ أَعْمَالِهَا، وَالنَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ مِنَ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ، وَالْحُزْنُ عَلَيْهَا، وَاحْتِقَارُ النَّفْسِ، وَالِازْدِرَاءُ عَلَيْهَا، وَمَقْتُهَا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّفَكُّرُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَفِي أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُزِيدُ الْإِيمَانَ فِي الْقَلْبِ، وَيَنْشَأُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ؛ كَالْخَشْيَةِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالرَّجَاءِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا التَّفَكُّرَ أَفْضَلُ مِنْ نَوَافِلِ الْأَعْمَالِ

الْبَدَنِيَّةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ كَعْبٌ: لَأَنْ أَبْكِيَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِوَزْنِي ذَهَبًا.

[الحديث السابع والعشرون البر حسن الخلق]

[الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ]

الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ. عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، فَقَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبَرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَيْنَاهُ فِي " مُسْنَدَيِ " الْإِمَامَيْنِ أَحْمَدَ وَالدَّارِمِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. أَمَّا حَدِيثُ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، فَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّوَّاسِ، وَمُعَاوِيَةِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُوهُ تَفَرَّدَ بِتَخْرِيجِ حَدِيثِهِمْ مُسْلِمٌ دُونَ الْبُخَارِيِّ. وَأَمَّا حَدِيثُ وَابِصَةَ فَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِكْرَزٍ، «عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ،

قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لَا أَدْعَ شَيْئًا مِنَ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ إِلَّا سَأَلْتُ عَنْهُ، فَقَالَ لِي: ادْنُ يَا وَابِصَةُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ، فَقَالَ: يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ مَا جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْهُ أَوْ تَسْأَلُنِي؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي، قَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ قُلْتُ: نَعَمْ، فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهَا فِي صَدْرِي، وَيَقُولُ: يَا وَابِصَةُ، اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الزُّبَيْرَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَيُّوبَ، وَقَالَ: وَحَدَّثَنِي جُلَسَاؤُهُ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ، فَفِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ أَمْرَانِ يُوجِبُ كُلٌّ مِنْهُمَا ضَعْفَهُ: أَحَدُهُمَا: انْقِطَاعُهُ بَيْنَ الزُّبَيْرِ وَأَيُّوبَ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنْ قَوْمٍ لَمْ يَسْمَعْهُمْ. وَالثَّانِي: ضَعْفُ الزُّبَيْرِ هَذَا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رَوَى أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا، لَكِنَّهُ سَمَّاهُ أَيُّوبَ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ، فَأَخْطَأَ فِي اسْمِهِ، وَلَهُ طَرِيقٌ آخَرُ عَنْ وَابِصَةَ خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ وَابِصَةَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا، وَلَفْظُهُ: قَالَ: «الْبِرُّ مَا انْشَرَحَ لَهُ صَدْرُكَ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَإِنْ أَفْتَاكَ عَنْهُ النَّاسُ» . وَالسُّلَمِيُّ هَذَا، قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: هُوَ مَجْهُولٌ. وَخَرَّجَهُ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَعِنْدَهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيُّ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا سَمَّاهُ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ سُمِّيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مُحَمَّدًا. قَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَصْلُوبُ، لَمَا دَفَعْتُ ذَلِكَ، وَالْمَصْلُوبُ هَذَا صَلَبَهُ الْمَنْصُورُ فِي الزَّنْدَقَةِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِالْكَذِبِ وَالْوَضْعِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ وَابِصَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَبَعْضُ طُرُقِهِ جَيِّدَةٌ، فَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ جَدِّهِ مَمْطُورٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِثْمُ؟ قَالَ: إِذَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ خَرَّجَ حَدِيثَ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ، وَأَثْبَتَ أَحْمَدُ سَمَاعَهُ مِنْهُ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ ابْنُ مَعِينٍ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ مِشْكَمٍ قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ يَقُولُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مَا يَحِلُّ لِي وَمَا يَحْرُمُ عَلَيَّ، فَقَالَ: الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَلَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ» ، وَهَذَا أَيْضًا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ مِشْكَمٍ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ أَيْضًا. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: «قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْتِنِي عَنْ أَمْرٍ لَا أَسْأَلُكَ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قَالَ: اسْتَفْتِ نَفْسَكَ قُلْتُ: كَيْفَ لِي بِذَاكَ؟ قَالَ: تَدَعُ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ، قُلْتُ: وَكَيْفَ بِذَاكَ؟ قَالَ: تَضَعُ يَدَكَ عَلَى قَلْبِكَ، فَإِنَّ الْفُؤَادَ يَسْكُنُ لِلْحَلَالِ وَلَا يَسْكُنُ لِلْحَرَامِ» . وَيُرْوَى نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ أَيْضًا.

وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ سُوِيدَ بْنَ قَيْسٍ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَحِلُّ لِي مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيَّ؟ وَرَدَّدَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَسْكُتُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ بِأَصَابِعِهِ: مَا أَنْكَرَ قَلْبُكُ فَدَعْهُ» . خَرَّجَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ فِي " مُعْجَمِهِ " وَقَالَ: لَا أَدْرِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا؟ وَلَا أَعْلَمُ لَهُ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ. قُلْتُ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ جَاءَ مَنْسُوبًا فِي كِتَابِ " الزُّهْدِ " لِابْنِ الْمُبَارَكِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ، فَحَدِيثُهُ مُرْسَلٌ. وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " الْإِثْمُ حَوَازُّ الْقُلُوبِ ". وَاحْتَجَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِيَّاكُمْ وَحَزَّازَ الْقُلُوبِ، وَمَا حَزَّ فِي قَلْبِكِ مِنْ شَيْءٍ فَدَعْهُ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: الْخَيْرُ فِي طُمَأْنِينَةٍ وَالشَّرُّ فِي رِيبَةٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ وَجْهٍ مُنْقَطِعٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ شَيْئًا يَحِيكُ فِي صُدُورِنَا، لَا نَدْرِي أَحَلَالٌ هُوَ أَمْ حَرَامٌ؟ فَقَالَ: وَإِيَّاكُمْ وَالْحَكَّاكَاتِ، فَإِنَّهُنَّ الْإِثْمُ، وَالْحَزُّ وَالْحَكُّ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، وَالْمُرَادُ: مَا أَثَّرَ فِي الْقَلْبِ ضِيقًا

وَحَرَجًا، وَنُفُورًا وَكَرَاهَةً. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، وَبَعْضُهَا فِي تَفْسِيرِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَحَدِيثُ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ فَسَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ الْبَرَّ بِحُسْنِ الْخُلُقِ، وَفَسَّرَهُ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ وَغَيْرِهِ بِمَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَالنَّفْسُ، كَمَا فَسَّرَ الْحَلَالَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ تَفْسِيرُهُ لِلْبَرِّ، لِأَنَّ الْبَرَّ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِاعْتِبَارِ مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَرُبَّمَا خُصَّ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، فَيُقَالُ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَيُطْلَقُ كَثِيرًا عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ عُمُومًا، وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْمُبَارَكِ كِتَابًا سَمَّاهُ " كِتَابَ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ "، وَكَذَلِكَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وَ " جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ ": " كِتَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ "، وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْكِتَابُ الْإِحْسَانَ إِلَى الْخَلْقِ عُمُومًا، وَيُقَدِّمُ فِيهِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى غَيْرِهِمَا. وَفِي حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِرُّ؟ قَالَ: أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبَاكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ» . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ بِرِّ الْحَجِّ، فَقَالَ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ،

وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَطَيِّبُ الْكَلَامِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: الْبَرُّ شَيْءٌ هَيِّنٌ: وَجْهٌ طَلِيقٌ وَكَلَامٌ لَيِّنٌ. وَإِذَا قُرِنَ الْبَرُّ بِالتَّقْوَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [الْمَائِدَةِ: 2] ، فَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبِرِّ مُعَامَلَةَ الْخَلْقِ بِالْإِحْسَانِ، وَبِالتَّقْوَى: مُعَامَلَةَ الْحَقِّ بِفِعْلِ طَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مُحَرَّمَاتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ أُرِيدَ بِالْبَرِّ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ، وَبِالتَّقْوَى: اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] [الْمَائِدَةِ: 2] قَدْ يُرَادُ بِالْإِثْمِ: الْمَعَاصِي، وَبِالْعُدْوَانِ: ظُلْمُ الْخَلْقِ، وَقَدْ يُرَادُ بِالْإِثْمِ: مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَبِالْعُدْوَانِ: تَجَاوُزُ مَا أُذِنَ فِيهِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِمَّا جِنْسُهُ مَأْذُونٌ فِيهِ، كَقَتْلِ مَا أُبِيحَ قَتْلُهُ لِقِصَاصٍ وَمَنْ لَا يُبَاحُ، وَأَخْذِ زِيَادَةٍ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ النَّاسِ فِي الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَمُجَاوَزَةِ الْجَلْدِ فِي الَّذِي أُمِرَ بِهِ فِي الْحُدُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعْنَى الْبِرِّ: أَنْ يُرَادَ بِهِ فِعْلُ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] [الْبَقَرَةِ: 177] ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْإِيمَانِ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.

فَالْبِرُّ بِهَذَا الْمَعْنَى يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ الْبَاطِنَةِ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالطَّاعَاتُ الظَّاهِرَةُ كَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَقْدَارِ، كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ، وَعَلَى الطَّاعَاتِ، كَالصَّبْرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ. وَقَدْ يَكُونُ جَوَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ شَامِلًا لِهَذِهِ الْخِصَالِ كُلِّهَا، لِأَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ الشَّرِيعَةِ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِ اللَّهِ الَّتِي أَدَبَّ بِهَا عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] [الْقَلَمِ: 4] ، «وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ خُلُقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ» ، يَعْنِي أَنَّهُ يَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِ، فَيَفْعَلُ أَوَامِرَهُ، وَيَتَجَنَّبُ نَوَاهِيَهُ، فَصَارَ الْعَمَلُ بِالْقُرْآنِ لَهُ خُلُقًا كَالْجِبِلَّةِ وَالطَّبِيعَةِ لَا يُفَارِقُهُ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَخْلَاقِ وَأَشْرَفُهَا وَأَجْمَلُهَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الدِّينَ كُلُّهُ خُلُقٌ. وَأَمَّا فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ، فَقَالَ: «الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «مَا انْشَرَحَ إِلَيْهِ الصَّدْرُ» ، وَفُسِّرَ الْحَلَالُ بِنَحْوِ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَالسُّكُونِ إِلَيْهِ وَقَبُولِهِ، وَرَكَّزَ فِي الطِّبَاعِ مَحَبَّةَ ذَلِكَ، وَالنُّفُورَ عَنْ ضِدِّهِ. وَقَدْ يَدْخُلُ هَذَا فِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ، فَأَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا» .

وَقَوْلُهُ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] » . وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ مَا أَمَرَ بِهِ مَعْرُوفًا، وَمَا نَهَى عَنْهُ مُنْكَرًا، فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] [النَّحْلِ: 90] ، وَقَالَ فِي صِفَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] [الْأَعْرَافِ: 157] وَأَخْبَرَ أَنَّ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ تَطْمَئِنُّ بِذِكْرِهِ، فَالْقَلْبُ الَّذِي دَخَلَهُ نُورُ الْإِيمَانِ، وَانْشَرَحَ بِهِ وَانْفَسَحَ، يَسْكُنُ لِلْحَقِّ، وَيَطْمَئِنُّ بِهِ وَيَقْبَلُهُ، وَيَنْفُرُ عَنِ الْبَاطِلِ وَيَكْرَهُهُ وَلَا يَقْبَلُهُ. وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: أُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ، فَقِيلَ لِمُعَاذٍ: مَا يُدْرِينِي أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: اجْتَنِبْ مِنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ الْمُشْتَهِرَاتِ الَّتِي يُقَالُ: مَا هَذِهِ؟ وَلَا يَثْنِيكَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ، وَتَلْقَ الْحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ، فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةِ لَهُ قَالَ: بَلْ مَا تَشَابَهَ عَلَيْكَ مِنْ قَوْلِ الْحَكِيمِ حَتَّى تَقُولَ: مَا أَرَادَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ؟ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ لَا يَلْتَبِسُ أَمْرُهُمَا عَلَى الْمُؤْمِنِ الْبَصِيرِ، بَلْ يَعْرِفُ الْحَقَّ بِالنُّورِ عَلَيْهِ، فَيَقْبَلُهُ قَلْبُهُ، وَيَنْفِرُ عَنِ الْبَاطِلِ، فَيُنْكِرُهُ وَلَا يَعْرِفُهُ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ

تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ» يَعْنِي: أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِمَا تَسْتَنْكِرُهُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا تَعْرِفُهُ، وَفِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا اسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَتَطَاوُلِ الزَّمَانِ، فَهُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ مَا أُحْدِثَ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَنْكَرُ فَلَا خَيْرَ فِيهِ. فَدَلَّ حَدِيثُ وَابِصَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْقُلُوبِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، فَمَا إِلَيْهِ سَكَنَ الْقَلْبُ، وَانْشَرَحَ إِلَيْهِ الصَّدْرُ، فَهُوَ الْبِرُّ وَالْحَلَالُ، وَمَا كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ، فَهُوَ الْإِثْمُ وَالْحَرَامُ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ: «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِثْمَ مَا أَثَّرَ فِي الصَّدْرِ حَرَجًا، وَضِيقًا، وَقَلَقًا، وَاضْطِرَابًا، فَلَمْ يَنْشَرِحْ لَهُ الصَّدْرُ، وَمَعَ هَذَا، فَهُوَ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَنْكَرٌ، بِحَيْثُ يُنْكِرُونَهُ عِنْدَ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَعْلَى مَرَاتِبِ مَعْرِفَةِ الْإِثْمِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَهُوَ مَا اسْتَنْكَرَهُ النَّاسُ عَلَى فَاعِلِهِ وَغَيْرِ فَاعِلِهِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُومِنُونَ قَبِيحًا، فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ قَبِيحٌ.

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ: «وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ» يَعْنِي: أَنَّ مَا حَاكَ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ فَهُوَ إِثْمٌ، وَإِنْ أَفْتَاهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ، بِإِثْمٍ فَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ ثَانِيَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُسْتَنْكَرًا عِنْدَ فَاعِلِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ جَعَلَهُ أَيْضًا إِثْمًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ مِمَّنْ شُرِحَ صَدْرُهُ بِالْإِيمَانِ، وَكَانَ الْمُفْتِي يُفْتِي لَهُ بِمُجَرَّدِ ظَنٍّ أَوْ مَيْلٍ إِلَى هَوًى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَأَمَّا مَا كَانَ مَعَ الْمُفْتِي بِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْشَرِحْ لَهُ صَدْرُهُ، وَهَذَا كَالرُّخْصَةِ الشَّرْعِيَّةِ، مِثْلُ: الْفِطْرِ فِي السِّفْرِ، وَالْمَرَضِ، وَقَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْشَرِحُ بِهِ صُدُورُ كَثِيرٍ مِنَ الْجُهَّالِ، فَهَذَا لَا عِبْرَةَ بِهِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَانًا يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِمَا لَا تَنْشَرِحُ بِهِ صُدُورُ بَعْضِهِمْ، فَيَمْتَنِعُونَ مِنْ فِعْلِهِ، فَيَغْضَبُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، فَكَرِهَهُ مِنْ كَرِهَهُ مِنْهُمْ، وَكَمَا أَمَرَهُمْ بِنَحْرِ هَدْيِهِمْ، وَالتَّحَلُّلِ مِنْ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَكَرِهُوهُ، وَكَرِهُوا مُقَاضَاتَهُ لِقُرَيْشٍ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ مِنْ عَامِهِ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنْهُمْ يَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ. وَفِي الْجُمْلَةِ، فَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ، فَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ إِلَّا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] [الْأَحْزَابِ: 36] .

وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَلَقَّى ذَلِكَ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَالرِّضَا، فَإِنَّ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ وَالرِّضَا بِهِ، وَالتَّسْلِيمُ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] [النِّسَاءِ: 65] . وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا عَمَّنْ يُقْتَدَى بِقَوْلِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ، فَإِذَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ الْمُطْمَئِنِّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ، الْمُنْشَرِحِ صَدْرُهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَحَكَّ فِي صَدْرِهِ لِشُبْهَةٍ مَوْجُودَةٍ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُفْتِي فِيهِ بِالرُّخْصَةِ إِلَّا مَنْ يُخْبِرُ عَنْ رَأْيِهِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَبِدِينِهِ، بَلْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى، فَهُنَا يَرْجِعُ الْمُؤْمِنُ إِلَى مَا حَكَّ فِي صَدْرِهِ، وَإِنْ أَفْتَاهُ هَؤُلَاءِ الْمُفْتُونَ. وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى مِثْلِ هَذَا، أَيْضًا قَالَ الْمَرْوَزِيُّ فِي " كِتَابِ الْوَرَعِ " قُلْتُ: لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ الْقَطِيعَةَ أَرْفَقُ بِي مِنْ سَائِرِ الْأَسْوَاقِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي قَلْبِي مِنْ أَمْرِهَا شَيْءٌ، فَقَالَ: أَمْرُهَا أَمْرٌ قَذِرٌ مُتَلَوِّثٌ، قُلْتُ: فَتَكْرَهُ الْعَمَلَ فِيهَا؟ قَالَ: دَعْ ذَا عَنْكَ إِنْ كَانَ لَا يَقَعُ فِي قَلْبِكَ شَيْءٌ، قُلْتُ: قَدْ وَقَعَ فِي قَلْبِي مِنْهَا، فَقَالَ: قَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ: الْإِثْمُ حَوَازُّ الْقُلُوبِ. قُلْتُ: إِنَّمَا هَذَا عَلَى الْمُشَاوَرَةِ؟ قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ يَقَعُ فِي قَلْبِكَ؟ قُلْتُ: قَدِ اضْطَرَبَ عَلَيَّ قَلْبِي، قَالَ: الْإِثْمُ هُوَ حَوَازُّ الْقُلُوبِ. وَقَدْ سَبَقَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ» ، وَفِي شَرْحِ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» ، وَشَرْحِ حَدِيثِ: «إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ هَاهُنَا. وَقَدْ ذَكَرَ طَوَائِفُ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ

مَسْأَلَةَ الْإِلْهَامِ: هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ وَذَكَرُوا فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَهُمْ، وَذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْكَشْفَ لَيْسَ بِطَرِيقٍ لِلْأَحْكَامِ، وَأَخَذَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي ذَمِّ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْوَسَاوِسِ وَالْخَطَرَاتِ، وَخَالَفَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا نَصَّ أَحْمَدَ هَاهُنَا بِالرُّجُوعِ إِلَى حَوَازِّ الْقُلُوبِ، وَإِنَّمَا ذَمَّ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الْوَسَاوِسِ وَالْخَطَرَاتِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ حَيْثُ كَانَ كَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، بَلْ إِلَى مُجَرَّدِ رَأْيٍ وَذَوْقٍ، كَمَا كَانَ يُنْكِرُ الْكَلَامَ فِي مَسَائِلِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ. فَأَمَّا الرُّجُوعُ إِلَى الْأُمُورِ الْمُشْتَبِهَةِ إِلَى حَوَازِّ الْقُلُوبِ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ، وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ، فَكَيْفَ يُنْكِرُهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ لَا سِيَّمَا وَقَدْ نَصَّ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ مُوَافَقَةً لَهُمْ. وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ: «إِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ» ، فَالصِّدْقُ يَتَمَيَّزُ مِنَ الْكَذِبِ بِسُكُونِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، وَمَعْرِفَتِهِ، وَبِنُفُورِهِ عَنِ الْكَذِبِ وَإِنْكَارِهِ، كَمَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: إِنَّ لِلْحَدِيثِ ضَوْءًا كَضَوْءِ النَّهَارِ تَعْرِفُهُ، وَظُلْمَةً كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ تُنْكِرُهُ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سُوِيدٍ، وَأَبِي أُسَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ، فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمِ الْحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَنْفِرُ عَنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ بَعِيدٌ، فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ» . وَإِسْنَادُهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ عَلَى

شَرْطِ مُسْلِمٍ، لِأَنَّهُ خَرَّجَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ حَدِيثًا، لَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَعْلُولٌ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مِنْ قَوْلِهِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ. وَرَوَى يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تَعْرِفُونَهُ، وَلَا تُنْكِرُونَهُ، فَصَدِّقُوا بِهِ، فَإِنِّي أَقُولُ مَا يُعْرَفُ وَلَا يُنْكَرُ، وَإِذَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي حَدِيثًا تُنْكِرُونَهُ وَلَا تَعْرِفُونَهُ، فَلَا تُصَدِّقُوا بِهِ، فَإِنِّي لَا أَقُولُ مَا يُنْكَرُ وَلَا يُعْرَفُ» ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْلُولٌ أَيْضًا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ عَلَى ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَرَوَاهُ الْحُفَّاظُ عَنْهُ عَنْ سَعِيدٍ مُرْسَلًا، وَالْمُرْسَلُ أَصَحُّ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ، مِنْهُمُ ابْنُ مَعِينٍ وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ يُثْبِتُ وَصْلَهُ. وَإِنَّمَا تُحْمَلُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ - عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا - عَلَى مَعْرِفَةِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْجَهَابِذَةِ النُّقَّادِ، الَّذِينَ كَثُرَتْ مُمَارَسَتُهُمْ لِكَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِكَلَامِ غَيْرِهِ، وَلِحَالِ رُوَاةِ الْأَحَادِيثِ، وَنَقَلَةِ الْأَخْبَارِ، وَمَعْرِفَتِهِمْ بِصِدْقِهِمْ وَكَذِبِهِمْ وَحِفْظِهِمْ وَضَبْطِهِمْ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ نَقْدٌ خَاصٌّ فِي الْحَدِيثِ يَخْتَصُّونَ بِمَعْرِفَتِهِ، كَمَا يَخْتَصُّ الصَّيْرَفِيُّ الْحَاذِقُ بِمَعْرِفَةِ النُّقُودِ جَيِّدِهَا وَرَدِيئِهَا، وَخَالَصِهَا

< > وَمَشُوبِهَا، وَالْجَوْهَرِيُّ الْحَاذِقُ فِي مَعْرِفَةِ الْجَوْهَرِ بِانْتِقَادِ الْجَوَاهِرِ، وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ سَبَبِ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا يُقِيمُ عَلَيْهِ دَلِيلًا لِغَيْرِهِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُعْرَضُ الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِمَّنْ يَعْلَمُ هَذَا الْعِلْمَ، فَيَتَّفِقُونَ عَلَى الْجَوَابِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ. وَقَدِ امْتُحِنَ هَذَا مِنْهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي زَمَنِ أَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ، فَوُجِدَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ السَّائِلُ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ إِلْهَامٌ. قَالَ الْأَعْمَشُ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ النَّخْعِيُّ صَيْرَفِيًّا فِي الْحَدِيثِ، كُنْتُ أَسْمَعُ مِنَ الرِّجَالِ فَأَعْرِضُ عَلَيْهِ مَا سَمِعْتُهُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ: يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الصَّيْرَفِيِّ الَّذِي يَنْقُدُ الدَّرَاهِمَ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ فِيهَا الزَّائِفُ وَالْبَهْرَجُ وَكَذَا الْحَدِيثُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كُنَّا نَسْمَعُ الْحَدِيثَ فَنَعْرِضُهُ عَلَى أَصْحَابِنَا كَمَا نَعْرِضُ الدِّرْهَمَ الزَّائِفَ عَلَى الصَّيَارِفَةِ، فَمَا عَرَفُوا أَخَذْنَا، وَمَا أَنْكَرُوا تَرَكْنَا. وَقِيلَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ: إِنَّكَ تَقُولُ لِلشَّيْءِ: هَذَا صَحِيحٌ وَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ، فَعَمَّنْ تَقُولُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَتَيْتَ النَّاقِدَ فَأَرَيْتَهُ دَرَاهِمَكَ، فَقَالَ: هَذَا جِيدٌ، وَهَذَا بَهْرَجٌ أَكُنْتَ تَسْأَلُهُ عَمَّنْ ذَلِكَ، أَوْ تُسْلِمُ الْأَمْرَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ كُنْتُ أُسْلِمُ الْأَمْرَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَهَذَا كَذَلِكَ لِطُولِ الْمُجَالَسَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ وَالْخُبْرِ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَيْضًا، وَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تَقُولُ: هَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ، فَكَيْفَ عَلِمْتَ وَلَمْ تَكْتُبِ الْحَدِيثَ كُلَّهُ؟ قَالَ:

مَثَلُنَا كَمَثَلِ نَاقِدِ الْعَيْنِ لَمْ تَقَعْ بِيَدِهِ الْعَيْنُ كُلُّهَا، فَإِذَا وَقَعَ بِيَدِهِ الدِّينَارُ يَعْلَمُ بِأَنَّهُ جَيِّدٌ، أَوْ أَنَّهُ رَدِيءٌ. وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: مَعْرِفَةُ الْحَدِيثِ إِلْهَامٌ. وَقَالَ: إِنْكَارُنَا الْحَدِيثَ عِنْدَ الْجُهَّالِ كِهَانَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: مَثَلُ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ كَمَثَلِ فَصٍّ ثَمَنُهُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَآخَرَ مِثْلِهِ عَلَى لَوْنِهِ ثَمَنُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، قَالَ: وَكَمَا لَا يَتَهَيَّأُ لِلنَّاقِدِ أَنْ يُخْبِرَ بِسَبَبِ نَقْدِهِ، فَكَذَلِكَ نَحْنُ رُزِقْنَا عِلْمًا لَا يَتَهَيَّأُ لَنَا أَنَّ نُخْبِرَ كَيْفَ عَلِمْنَا بِأَنَّ هَذَا حَدِيثٌ كَذِبٌ، وَأَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ إِلَّا بِمَا نَعْرِفُهُ، قَالَ: وَتُعْرَفُ جَوْدَةُ الدِّينَارِ بِالْقِيَاسِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي الْحُمْرَةِ وَالصَّفَاءِ عُلِمَ أَنَّهُ مَغْشُوشٌ، وَيُعْلَمُ جِنْسُ الْجَوْهَرِ بِالْقِيَاسِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْمَائِيَّةِ وَالصَّلَابَةِ، عُلِمَ أَنَّهُ زُجَاجٌ، وَيُعْلَمُ صِحَّةُ الْحَدِيثِ بِعَدَالَةِ نَاقِلِيهِ وَأَنْ يَكُونَ كَلَامًا يَصْلُحُ مِثْلُهُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ النُّبُوَّةِ، وَيُعْرَفُ سُقُمُهُ وَإِنْكَارُهُ بِتَفَرُّدِ مَنْ لَمْ تَصِحُّ عَدَالَتُهُ بِرِوَايَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِكُلِّ حَالٍ فَالْجَهَابِذَةُ النُّقَّادُ الْعَارِفُونَ بِعِلَلِ الْحَدِيثِ أَفْرَادٌ قَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ جِدًّا، وَأَوَّلُ مَنِ اشْتُهِرَ فِي الْكَلَامِ فِي نَقْدِ الْحَدِيثِ ابْنُ سِيرِينَ، ثُمَّ خَلَفَهُ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَأَخَذَ ذَلِكَ عَنْهُ شُعْبَةُ، وَأَخَذَ عَنْ شُعْبَةَ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَابْنُ مَهْدِيٍّ، وَأَخَذَ عَنْهُمَا أَحْمَدُ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَأَخَذَ عَنْهُمْ مِثْلُ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ. وَكَانَ أَبُو زُرْعَةَ فِي زَمَانِهِ يَقُولُ: قَلَّ مَنْ يَفْهَمُ هَذَا، وَمَا أَعَزَّهُ إِذَا دَفَعْتَ هَذَا عَنْ وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ، فَمَا أَقَلَّ مَنْ تَجِدُ مَنْ يُحْسِنُ هَذَا! وَلَمَّا مَاتَ أَبُو زُرْعَةَ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ذَهَبَ الَّذِي كَانَ يُحْسِنُ هَذَا - يَعْنِي أَبَا زُرْعَةَ - مَا بَقِيَ بِمِصْرَ وَلَا

بِالْعِرَاقِ وَاحِدٌ يُحْسِنُ هَذَا. وَقِيلَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي زُرْعَةَ: تَعْرِفُ الْيَوْمَ وَاحِدًا يَعْرِفُ هَذَا؟ قَالَ: لَا. وَجَاءَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ النَّسَائِيُّ وَالْعُقَيْلِيُّ وَابْنُ عُدَيٍّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَلَّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مَنْ هُوَ بَارِعٌ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ " الْمَوْضُوعَاتُ ": قَدْ قَلَّ مَنْ يَفْهَمُ هَذَا بَلْ عُدِمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[الحديث الثامن والعشرون أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد]

[الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ]

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ. عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً، وَجَلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا، قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مِعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ، زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ لَهُ، وَأَبُو دَاوُدَ: وَحُجْرِ بْنِ حُجْرٍ الْكَلَاعِيِّ، كِلَاهُمَا عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: هُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ مِنْ صَحِيحِ حَدِيثِ الشَّامِيِّينَ، قَالَ: وَلَمْ يَتْرُكْهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ جِهَةِ إِنْكَارٍ مِنْهُمَا لَهُ، وَزَعَمَ الْحَاكِمُ أَنَّ سَبَبَ تَرْكِهِمَا لَهُ أَنَّهُمَا تَوَهَّمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ

رَاوٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مِعْدَانَ غَيْرَ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ أَيْضًا بُحَيْرُ بْنُ سَعْدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ وَغَيْرُهُمَا. قُلْتُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّهُ، وَلَيْسَ الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِهِمَا، فَإِنَّهُمَا لَمْ يُخَرِّجَا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ، وَلَا لِحُجْرٍ الْكَلَاعِيِّ شَيْئًا، وَلَيْسَا مِمَّنِ اشْتُهِرَ بِالْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ. وَأَيْضًا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى خَالِدِ بْنِ مِعْدَانَ، فَرُوِيَ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ أَبِي بِلَالٍ عَنِ الْعِرْبَاضِ، وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ، عَنِ الْعِرْبَاضِ، خَرَّجَهُ مِنْ طَرِيقِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ فِي حَدِيثِهِ: «فَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالَكٌ» وَزَادَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ، حَيْثُمَا قُيِّدَ انْقَادَ» . وَقَدْ أَنْكَرَ طَائِفَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، وَقَالُوا: هِيَ مُدْرَجَةٌ فِيهِ، وَلَيْسَتْ مِنْهُ، قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ خَرَّجَهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: وَكَانَ أَسَدُ بْنُ وَدَاعَةَ يَزِيدُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ، حَيْثُمَا قُيِّدَ انْقَادَ» . وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي الْمُطَاعِ، سَمِعْتُ الْعِرْبَاضَ فَذَكَرَهُ، وَهَذَا فِي الظَّاهِرِ إِسْنَادٌ جَيِّدٌ مُتَّصِلٌ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مَشْهُورُونَ، وَقَدْ صُرِّحَ فِيهِ بِالسَّمَاعِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي " تَارِيخِهِ " أَنَّ يَحْيَى بْنَ أَبِي الْمُطَاعِ سَمِعَ مِنَ الْعِرْبَاضِ اعْتِمَادًا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، إِلَّا أَنَّ حُفَّاظَ أَهْلِ الشَّامِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: يَحْيَى بْنُ أَبِي الْمُطَاعِ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْعِرْبَاضِ، وَلَمْ يَلْقَهُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ غَلَطٌ، وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو زُرْعَةَ

الدِّمَشْقِيُّ، وَحَكَاهُ عَنْ دُحَيْمٍ، وَهَؤُلَاءِ أَعْرَفُ بِشُيُوخِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَالْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقَعُ لَهُ فِي تَارِيخِهِ أَوْهَامٌ فِي أَخْبَارِ أَهْلِ الشَّامِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْعِرْبَاضِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنَّ إِسْنَادَ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ لَا يَثْبُتُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَقَوْلُ الْعِرْبَاضِ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً» ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: " بَلِيغَةٌ "، وَفِي رِوَايَتِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مَا يَعِظُ أَصْحَابَهُ فِي غَيْرِ الْخُطَبِ الرَّاتِبَةِ، كَخُطَبِ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، وَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، فَقَالَ: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63] [النِّسَاءِ: 63] ، وَقَالَ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] [النَّحْلِ: 125] ، وَلَكِنَّهُ كَانَ لَا يُدِيمُ وَعْظَهُمْ، بَلْ يَتَخَوَّلُهُمْ بِهِ أَحْيَانًا، كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يُذَكِّرُنَا كُلَّ يَوْمِ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّا نُحِبُّ حَدِيثَكَ وَنَشْتَهِيهِ، وَلَوَدِدْنَا أَنَّكَ حَدَّثْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ: مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ إِلَّا كَرَاهَةَ أَنْ أُمِلَّكُمْ، «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا» . وَالْبَلَاغَةُ فِي الْمَوْعِظَةِ مُسْتَحْسَنَةٌ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى قَبُولِ الْقُلُوبِ وَاسْتِجْلَابِهَا، وَالْبَلَاغَةُ: هِيَ التَّوَصُّلُ إِلَى إِفْهَامِ الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ، وَإِيصَالُهَا إِلَى قُلُوبِ السَّامِعِينَ بِأَحْسَنِ صُورَةٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا، وَأَفْصَحِهَا وَأَحْلَاهَا لِلْأَسْمَاعِ، وَأَوْقَعِهَا فِي الْقُلُوبِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصُرُ خُطْبَتَهَا، وَلَا يُطِيلُهَا، بَلْ كَانَ يُبْلِغُ وَيُوجِزُ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا» . وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَلَفْظُهُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُطِيلُ الْمَوْعِظَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِنَّمَا هُوَ كَلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ» . وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ، قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَأَقْصِرُوا الْخُطْبَةَ، فَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْحَاكِمِ بْنِ حَزْنٍ، قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ» . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَجُلًا قَامَ يَوْمًا، فَأَكْثَرَ الْقَوْلَ، فَقَالَ عَمْرٌو: لَوْ قَصَدَ فِي قَوْلِهِ، لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَقَدْ رَأَيْتُ - أَوْ أُمِرْتُ - أَنْ أَتَجَوَّزَ فِي الْقَوْلِ، فَإِنَّ الْجَوَازَ هُوَ خَيْرٌ» . وَقَوْلُهُ: " «ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ» " هَذَانِ الْوَصْفَانِ بِهِمَا مَدَحَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ سَمَاعِ الذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] [الْأَنْفَالِ: 2] وَقَالَ: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ - الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 34 - 35] [الْحَجِّ: 34 - 35] وَقَالَ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] [الْحَدِيدِ: 16] ، وَقَالَ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] [الزُّمَرِ: 23] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] [الْمَائِدَةِ: 83] . وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ عِنْدَ الْمَوْعِظَةِ، كَمَا قَالَ جَابِرٌ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ، وَذَكَرَ السَّاعَةَ، اشْتَدَّ غَضَبُهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاحْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ» . خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ السَّاعَةَ، وَذَكَرَ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا أُمُورًا عِظَامًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ فِي مَقَامِي هَذَا، قَالَ أَنَسٌ: فَأَكْثَرَ النَّاسُ الْبُكَاءَ وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْنَ مُدْخَلِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: النَّارُ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي " مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ «عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ خَطَبَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَقُولُ: أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ، حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ بِالسُّوقِ لَسَمِعَهِ مِنْ مَقَامِي هَذَا، قَالَ: حَتَّى وَقَعَتْ خَمِيصَةٌ عَلَى عَاتِقِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا

النَّارَ، قَالَ: ثُمَّ وَأَشَاحَ، ثُمَّ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلَاثًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: اتَّقُوْا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» . وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيٍّ، أَوْ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا، فَيُذَكِّرُنَا بِأَيَّامِ اللَّهِ، حَتَّى يُعْرَفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَكَأَنَّهُ نَذِيرُ قَوْمٍ يُصَبِّحُهُمُ الْأَمْرُ غُدْوَةً، وَكَانَ إِذَا كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِجِبْرِيلَ لَمْ يَتَبَسَّمْ ضَاحِكًا حَتَّى يَرْتَفِعَ عَنْهُ» . وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ الْوَحْيُ، أَوْ وُعِظَ، قُلْتُ: نَذِيرُ قَوْمٍ أَتَاهُمُ الْعَذَابُ، فَإِذَا ذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ، رَأَيْتُهُ أَطْلَقَ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَكْثَرَهُمْ ضَحِكًا، وَأَحْسَنَهُمْ بِشْرًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَقَوْلُهُمْ: " «يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا» " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَبْلَغَ فِي تِلْكَ الْمَوْعِظَةِ مَا لَمْ يُبْلِغْ فِي غَيْرِهَا، فَلِذَلِكَ فَهِمُوا أَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَإِنَّ الْمُوَدِّعَ يَسْتَقْصِي مَا لَمْ يَسْتَقْصِ غَيْرُهُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، لِأَنَّهُ مَنِ اسْتَشْعَرَ أَنَّهُ مُوَدِّعٌ بِصَلَاتِهِ، أَتْقَنَهَا عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا. وَلَرُبَّمَا كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضٌ فِي تِلْكَ الْخُطْبَةِ بِالتَّوْدِيعِ، كَمَا عَرَّضَ بِذَلِكَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَالَ: «لَا أَدْرِي، لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ

بَعْدَ عَامِي هَذَا وَطَفِقَ يُوَدِّعُ النَّاسَ، فَقَالُوا: هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ، وَلَمَّا رَجَعَ مِنْ حَجِّهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، جَمَعَ النَّاسَ بِمَاءٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ يُسَمَّى خُمًّا، وَخَطَبَهُمْ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ ثُمَّ حَضَّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَوَصَّى بِأَهْلِ بَيْتِهِ» ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، فَقَالَ: إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَإِنَّ عَرْضَهُ، كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى الْجُحْفَةِ، وَإِنِّي لَسْتُ

أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تُنَافِسُوا فِيهَا، وَتَقْتَتِلُوا، فَتَهْلَكُوا كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، قَالَ عُقْبَةُ: فَكَانَتْ آخِرَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَخَرَّجَ» الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: إِنِّي فَرَطُكُمْ، وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ، وَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْحَوْضُ، وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَلَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْكُفْرَ، وَلَكِنِ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالْمُوَدِّعِ، فَقَالَ: أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ - قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ. وَجَوَامِعَهُ، وَعَلِمْتُ كَمْ خَزَنَةُ النَّارِ، وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَتَجَوَّزَ لِي رَبِّي وَعُوفِيتُ وَعُوفِيَتْ أُمَّتِي، فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا مَا دُمْتُ فِيكُمْ، فَإِذَا ذَهَبَ بِي، فَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، أَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ» . فَلَعَلَّ الْخُطْبَةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ فِي حَدِيثِهِ كَانَتْ بَعْضَ هَذِهِ الْخُطَبِ، أَوْ شَبِيهًا بِهَا مِمَّا يُشْعِرُ بِالتَّوْدِيعِ. وَقَوْلُهُمْ: " فَأَوْصِنَا " يَعْنُونَ وَصِيَّةً جَامِعَةً كَافِيَةً، فَإِنَّهُمْ لَمَّا فَهِمُوا أَنَّهُ مُوَدِّعٌ، اسْتَوْصُوهُ وَصِيَّةً يَنْفَعُهُمْ بِهَا التَّمَسُّكُ بَعْدَهُ، وَيَكُونُ فِيهَا كِفَايَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا، وَسَعَادَةٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ» ، فَهَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ

تَجْمَعَانِ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. أَمَّا التَّقْوَى فَهِيَ كَافِلَةٌ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا، وَهِيَ وَصِيَّةُ اللَّهِ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] [النِّسَاءِ: 131] ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ التَّقْوَى بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي شَرْحِ حَدِيثِ وَصِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ. وَأَمَّا السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِوُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَفِيهَا سَعَادَةُ الدُّنْيَا، وَبِهَا تَنْتَظِمُ مَصَالِحُ الْعِبَادِ فِي مَعَايِشِهِمْ، وَبِهَا يَسْتَعِينُونَ عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِمْ وَطَاعَةِ رَبِّهِمْ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ النَّاسَ لَا يُصْلِحُهُمْ إِلَّا إِمَامٌ بَرٌّ أَوْ فَاجِرٌ، إِنْ كَانَ فَاجِرًا عَبَدَ الْمُؤْمِنُ فِيهِ رَبَّهُ، وَحُمِلَ الْفَاجِرُ فِيهَا إِلَى أَجَلِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي الْأُمَرَاءِ: هُمْ يَلُونَ مِنْ أُمُورِنَا خَمْسًا: الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَالْعِيدَ وَالثُّغُورَ وَالْحُدُودَ، وَاللَّهِ مَا يَسْتَقِيمُ الدِّينُ إِلَّا بِهِمْ، وَإِنْ جَارُوا وَظَلَمُوا، وَاللَّهِ لَمَا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِمْ أَكْثَرُ مِمَّا يُفْسِدُونَ، مَعَ أَنَّ - وَاللَّهِ - إِنَّ طَاعَتَهُمْ لَغَيْظٌ، وَإِنَّ فُرْقَتَهُمْ لَكُفْرٌ. وَخَرَّجَ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ الْإِمَارَةِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ حِينَ صَلُّوا الْعِشَاءَ أَنِ احْشُدُوا، فَإِنَّ لِي إِلَيْكُمْ حَاجَةً فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، قَالَ: هَلْ حَشَدْتُمْ كَمَا أَمَرْتُكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: اعْبُدُوا اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، هَلْ عَقَلْتُمْ هَذِهِ؟ ثَلَاثًا، قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: أَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَآتُوا الزَّكَاةَ، هَلْ عَقَلْتُمْ هَذِهِ؟ ثَلَاثًا، قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ثَلَاثًا، هَلْ عَقَلْتُمْ هَذِهِ؟ ثَلَاثًا، قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: فَكُنَّا نَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَتَكَلَّمُ كَلَامًا طَوِيلًا، ثُمَّ نَظَرْنَا فِي كَلَامِهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ جَمَعَ لَنَا الْأَمْرَ كُلَّهُ» .

وَبِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَصَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَيْضًا، كَمَا خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أُمِّ الْحُصَيْنِ الْأَحْمَسِيَّةِ، قَالَتْ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللَّهَ، وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ» وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْهُ ذِكْرَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، يَقُولُ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَلَا أُمَّةَ بَعْدَكُمْ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ. وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ مُحْتَسِبًا، وَسَمِعَ وَأَطَاعَ، فَلَهُ الْجَنَّةُ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ وَفِي رِوَايَةٍ حَبَشِيٌّ» هَذَا مِمَّا تَكَاثَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مِمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِهِ بَعْدَهُ،

وَوِلَايَةِ الْعَبِيدِ عَلَيْهِمْ، وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «إِنَّ خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ» . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ فِي النَّاسِ اثْنَانِ» ، وَقَوْلُهُ: «النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ» ، وَقَوْلُهُ: «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» ، لِأَنَّ وِلَايَةَ الْعَبِيدِ قَدْ تَكُونُ مِنْ جِهَةِ إِمَامٍ قُرَشِيٍّ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ أَبْرَارُهَا أُمَرَاءُ أَبْرَارِهَا، وَفُجَّارُهَا أُمَرَاءُ فُجَّارِهَا، وَلِكُلٍّ حَقٌّ، فَآتُوا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَإِنْ أَمَّرَتْ عَلَيْكُمْ قُرَيْشٌ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعًا، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا» ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَلَكِنَّهُ

رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ أَشْبَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْحَبَشِيَّ إِنَّمَا ذُكِرَ عَلَى وَجْهِ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ وُقُوعُهُ، كَمَا قَالَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ» . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمِنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي، فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» . هَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا وَقَعَ فِي أُمَّتِهِ بَعْدَهُ مِنْ كَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَفِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ افْتِرَاقِ أُمَّتِهِ عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَأَنَّهَا كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ مَنْ كَانَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ، وَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَمْرٌ عِنْدَ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ بِالتَّمَسُّكِ بِسُنَّتِهِ وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَالسُّنَّةُ: هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ، فَيَشْمَلُ ذَلِكَ التَّمَسُّكَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَهَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ الْكَامِلَةُ، وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ قَدِيمًا لَا يُطْلِقُونَ اسْمَ السُّنَّةِ إِلَّا عَلَى مَا يَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَخُصُّ اسْمَ السُّنَّةِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادَاتِ، لِأَنَّهَا أَصْلُ الدِّينِ، وَالْمُخَالِفُ فِيهَا عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، وَفِي ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِأُولِي الْأَمْرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِأُولِي الْأَمْرِ فِي طَاعَةِ

اللَّهِ، كَمَا صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ أَنَسٍ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ لَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِكَ، وَلَا يَأْخُذُونَ بِأَمْرِكَ، فَمَا تَأْمُرُ فِي أَمْرِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا طَاعَةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» . وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَيَلِي أُمُورَكُمْ بَعْدِي رِجَالٌ يُطْفِئُونَ مِنَ السُّنَّةِ وَيَعْمَلُونَ بِالْبِدْعَةِ، وَيُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُهُمْ، كَيْفَ أَفْعَلُ؟ قَالَ: لَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ» . وَفِي أَمَرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَ أَمْرِهِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ عُمُومًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مُتَّبَعَةٌ، كَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ. وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " وَ " جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ " عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسًا، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَدْرِي مَا قُدِّرَ بَقَائِي فِيكُمْ، فَاقْتَدُوا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي - وَأَشَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ عَمَّارٍ، وَمَا حَدَّثَكُمُ ابْنُ

مَسْعُودٍ فَصَدِّقُوهُ وَفِي رِوَايَةٍ: تَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ» فَنَصَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ عَلَى مَنْ يُقْتَدَى بِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الَّذِينَ أَمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ سَفِينَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا» ، وَقَدْ صَحَّحَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَاحْتَجَّ بِهِ عَلَى خِلَافَةِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَنَصَّ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ خَلِيفَةٌ رَاشِدٌ أَيْضًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَكُونُ فِيكُمُ النُّبُوَّةُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ. فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَحَدَّثَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَسُّرَ بِهِ، وَأَعْجَبَهُ» . وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَحْيَانًا يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْرِبَةِ، فَيَقُولُ: نَهَى

عَنْهُ إِمَامُ هُدًى: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ: هَلْ هُوَ إِجْمَاعٌ، أَوْ حَجَّةٌ، مَعَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَحَكَمَ أَبُو خَازِمٍ الْحَنَفِيُّ فِي زَمَنِ الْمُعْتَضِدِ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَلَمْ يَعْتَدَّ بِمَنْ خَالَفَ الْخُلَفَاءَ، وَنَفَذَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ فِي الْآفَاقِ. وَلَوْ قَالَ بَعْضُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ قَوْلًا، وَلَمْ يُخَالِفْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، بَلْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَهَلْ يُقَدَّمُ قَوْلُهُ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أَيْضًا لِلْعُلَمَاءِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ قَوْلُهُ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَلَامُ أَكْثَرِ السَّلَفِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، خُصُوصًا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَتْبَعُ أَحْكَامَهُ، وَيَسْتَدِلُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» . وَقَالَ مَالِكٌ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا، الْأَخْذُ بِهَا اعْتِصَامٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ تَبْدِيلُهَا، وَلَا تَغْيِيرُهَا، وَلَا النَّظَرُ فِي أَمْرٍ خَالَفَهَا، مَنِ اهْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ، وَمَنِ اسْتَنْصَرَ بِهَا فَهُوَ مَنْصُورٌ، وَمَنْ تَرَكَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ، وَسَاءَتْ مَصِيرًا. وَحَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ

مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَعْجَبَنِي عَزْمُ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ، يَعْنِي هَذَا الْكَلَامَ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ هَذَا الْكَلَامَ عَنْ مَالِكٍ، وَلَمْ يَحْكِهِ عَنْ عُمَرَ. وَقَالَ خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ: شَهِدْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ خَلِيفَةٌ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا إِنَّ مَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحَبَاهُ، فَهُوَ وَظِيفَةُ دِينٍ، نَأْخُذُ بِهِ وَنَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ عَرْزَبٍ الْكِنْدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ سَيَحْدُثُ بَعْدِي أَشْيَاءُ، فَأَحَبُّهَا إِلَيَّ أَنْ تَلْزَمُوا مَا أَحْدَثَ عُمَرُ» . وَكَانَ عَلِيٌّ يَتْبَعُ أَحْكَامَهُ وَقَضَايَاهُ، وَيَقُولُ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ رَشِيدَ الْأَمْرِ. وَرَوَى أَشْعَثُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ، فَانْظُرْ كَيْفَ قَضَى فِيهِ عُمَرُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْضِي عُمَرُ فِي أَمْرٍ لَمْ يُقْضَ فِيهِ قَبْلَهُ حَتَّى يُشَاوِرَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ، فَانْظُرُوا مَا صَنَعَ عُمَرُ، فَخُذُوا بِهِ. وَقَالَ أَيُّوبُ عَنِ الشَّعْبِيِّ: انْظُرُوا مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْمَعَهَا عَلَى ضَلَالَةٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ فَانْظُرُوا مَا صَنَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَخُذُوا بِهِ. وَسُئِلَ عِكْرِمَةُ عَنْ أُمِّ الْوَلَدِ، فَقَالَ تُعْتَقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا، فَقِيلَ لَهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ؟ قَالَ: بِالْقُرْآنِ، قَالَ: بِأَيِّ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] [النِّسَاءِ: 59] ، وَعُمَرُ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ

وَقَالَ وَكِيعٌ: إِذَا اجْتَمَعَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ الْأَمْرُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ: إِنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ عُمَرُ حَتَّى دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَبِكُلِّ حَالٍ، فَمَا جَمَعَ عُمَرُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فِي عَصْرِهِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَلَوْ خَالَفَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ خَالَفَ، كَقَضَائِهِ فِي مَسَائِلَ مِنَ الْفَرَائِضِ كَالْعَوْلِ، وَفِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَزَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ أَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ الْبَاقِي، وَكَقَضَائِهِ فِيمَنْ جَامَعَ فِي إِحْرَامِهِ أَنَّهُ يَمْضِي فِي نُسُكِهِ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْهَدْيُ، وَمِثْلُ مَا قَضَى بِهِ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ، وَوَافَقَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ أَيْضًا، وَمِثْلُ مَا جَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسَ فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَفِي تَحْرِيمِ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَمِثْلُ مَا فَعَلَهُ مِنْ وَضْعِ الدِّيوَانِ، وَوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى أَرْضِ الْعَنْوَةِ، وَعَقْدِ الذِّمَّةِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ بِالشُّرُوطِ الَّتِي شَرَطَهَا عَلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ مَا جَمَعَ عَلَيْهِ عُمَرُ الصَّحَابَةَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُخَالَفْ فِي وَقْتِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُنِي فِي الْمَنَامِ أَنْزِعُ عَلَى قَلِيبٍ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَفْرِي فَرْيَهُ حَتَّى رَوِيَ النَّاسُ، وَضَرَبُوا بِعَطَنٍ وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ ابْنِ الْخَطَّابِ وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى تَوَلَّى وَالْحَوْضُ يَتَفَجَّرُ» .

وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى وَضَعَ الْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا، وَاسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ، وَذَلِكَ لِطُولِ مُدَّتِهِ، وَتَفَرُّغِهِ لِلْحَوَادِثِ، وَاهْتِمَامِهِ بِهَا، بِخِلَافِ مُدَّةِ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهَا كَانَتْ قَصِيرَةً، وَكَانَ مَشْغُولًا فِيهَا بِالْفُتُوحِ، وَبَعْثِ الْبُعُوثِ لِلْقِتَالِ، فَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِكَثِيرٍ مِنَ الْحَوَادِثِ، وَرُبَّمَا كَانَ يَقَعُ فِي زَمَنِهِ مَا لَا يَبْلُغُهُ، وَلَا يُرْفَعُ إِلَيْهِ، حَتَّى رُفِعَتْ تِلْكَ الْحَوَادِثُ إِلَى عُمَرَ، فَرَدَّ النَّاسَ فِيهَا إِلَى الْحَقِّ وَحَمَلَهُمْ عَلَى الصَّوَابِ. وَأَمَّا مَا لَمْ يَجْمَعْ عُمَرُ النَّاسَ عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ لَهُ فِيهِ رَأْيٌ، وَهُوَ يُسَوِّغُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَرَى رَأْيًا يُخَالِفُ رَأْيَهُ، كَمَسَائِلِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ، وَمَسْأَلَةِ طَلَاقِ الْبَتَّةِ، فَلَا يَكُونُ قَوْلُ عُمَرَ فِيهِ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا وُصِفَ الْخُلَفَاءُ بِالرَّاشِدِينَ، لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا الْحَقَّ، وَقَضَوْا بِهِ، فَالرَّاشِدُ ضِدُّ الْغَاوِي، وَالْغَاوِي مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَعَمِلَ بِخِلَافِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " الْمَهْدِيِّينَ " يَعْنِي: أَنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِمْ لِلْحَقِّ، وَلَا يُضِلُّهُمْ عَنْهُ، فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ: رَاشِدٌ وَغَاوٍ وَضَالٌّ، فَالرَّاشِدُ عَرَفَ الْحَقَّ وَاتَّبَعَهُ، وَالْغَاوِي: عَرَفَهُ وَلَمْ يَتْبَعْهُ، وَالضَّالُّ: لَمْ يَعْرِفْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَكُلُّ رَاشِدٍ فَهُوَ مُهْتَدٍ، وَكُلُّ مُهْتَدٍ هِدَايَةً تَامَّةً فَهُوَ رَاشِدٌ، لِأَنَّ الْهِدَايَةَ إِنَّمَا تَتِمُّ بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِهِ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: «عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» كِنَايَةٌ عَنْ شَدَّةِ التَّمَسُّكِ بِهَا، وَالنَّوَاجِذُ: الْأَضْرَاسُ.

قَوْلُهُ: «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» تَحْذِيرٌ لِلْأَمَةِ مِنَ اتِّبَاعِ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَالْمُرَادُ بِالْبِدْعَةِ: مَا أُحْدِثَ مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ مِنَ الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً لُغَةً، وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ - وَفِيهِ ضَعْفٌ - عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ الثُّمَالِي قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، فَقَالَ: إِنَّا قَدْ جَمَعْنَا النَّاسَ عَلَى أَمْرَيْنِ: رَفْعِ الْأَيْدِي عَلَى الْمَنَابِرِ يَوْمَ الْجُمُعَةَ، وَالْقَصَصِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُمَا أَمْثَلُ بِدْعَتِكُمْ عِنْدِي، وَلَسْتُ بِمُجِيبِكُمْ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً إِلَّا رُفِعَ مِثْلُهَا مِنَ السُّنَّةِ» فَتَمَسُّكٌ بِسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ إِحْدَاثِ بِدَعَةٍ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ نَحْوُ هَذَا. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» ، فَكُلُّ مَنْ أَحْدَثَ شَيْئًا، وَنَسَبَهُ إِلَى الدِّينِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ مِنَ الدِّينِ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَهُوَ ضَلَالَةٌ، وَالِدَيْنُ بَرِيءٌ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَسَائِلُ الِاعْتِقَادَاتِ، أَوِ الْأَعْمَالُ، أَوِ الْأَقْوَالُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ السَّلَفِ مِنَ اسْتِحْسَانِ بَعْضِ الْبِدَعِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْبِدَعِ اللُّغَوِيَّةِ، لَا الشَّرْعِيَّةِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا جَمَعَ النَّاسَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَخَرَجَ وَرَآهُمْ يُصَلُّونَ كَذَلِكَ فَقَالَ: نِعْمَتُ الْبِدْعَةُ هَذِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ بِدْعَةٌ، فَنِعْمَتُ الْبِدْعَةُ. وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمْتُ، وَلَكِنَّهُ حَسَنٌ، وَمُرَادُهُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ، وَلَكِنَّ لَهُ أُصُولٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا، فَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحُثُّ عَلَى قِيَامِ رَمَضَانَ، وَيُرَغِّبُ فِيهِ، وَكَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِهِ يَقُومُونَ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَةً وَوُحْدَانًا، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي رَمَضَانَ غَيْرَ لَيْلَةٍ، ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُعَلِّلًا بِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِمْ، فَيَعْجِزُوا عَنِ الْقِيَامِ بِهِ، وَهَذَا قَدْ أُمِنَ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ بِأَصْحَابِهِ لَيَالِيَ الْأَفْرَادِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ.

وَمِنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ سُنَّةَ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَهَذَا قَدْ صَارَ مِنْ سُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، فَإِنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ. وَمِنْ ذَلِكَ: أَذَانُ الْجُمُعَةِ الْأَوَّلُ، زَادَهُ عُثْمَانُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَأَقَرَّهُ عَلِيٌّ، وَاسْتَمَرَّ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ بِدْعَةٌ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَا أَرَادَ أَبُوهُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ. وَمِنْ ذَلِكَ جَمْعُ الْمُصْحَفِ فِي كِتَابٍ وَاحِدٍ، تَوَقَّفَ فِيهِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلَانِ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ، فَوَافَقَ عَلَى جَمْعِهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِكِتَابَةِ الْوَحْيِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُكْتَبَ مُفَرَّقًا أَوْ مَجْمُوعًا، بَلْ جَمْعُهُ صَارَ أَصْلَحَ. وَكَذَلِكَ جَمْعُ عُثْمَانَ الْأُمَّةَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ وَإِعْدَامُهُ لِمَا خَالَفَهُ خَشْيَةَ تَفَرُّقِ الْأُمَّةِ، وَقَدِ اسْتَحْسَنَهُ عَلِيٌّ وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَيْنَ الْمَصْلَحَةِ. وَكَذَلِكَ قِتَالُ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ تَوَقَّفَ فِيهِ عُمَرُ وَغَيْرُهُ حَتَّى بَيَّنَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ أَصْلَهُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ، فَوَافَقَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْ ذَلِكَ الْقَصَصِ، وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ: إِنَّهُ بِدْعَةٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْقَصَصُ بِدْعَةٌ، وَنِعْمَتِ الْبِدْعَةُ، كَمْ مِنْ دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ، وَحَاجَةٍ مَقْضِيَّةٍ، وَأَخٍ مُسْتَفَادٍ. وَإِنَّمَا عَنَى هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ بِدْعَةٌ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ

مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ يَقُصُّ عَلَى أَصْحَابِهِ فِيهِ غَيْرَ خُطْبَتِهِ الرَّاتِبَةِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُذَكِّرُهُمْ أَحْيَانًا، أَوْ عِنْدَ حُدُوثِ أَمْرٍ يَحْتَاجُ إِلَى التَّذْكِيرِ عِنْدَهُ، ثُمَّ إِنَّ الصَّحَابَةَ اجْتَمَعُوا عَلَى تَعْيِينِ وَقْتٍ لَهُ كَمَا سَبَقَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُذَكِّرُ أَصْحَابَهُ كُلَّ يَوْمِ خَمِيسٍ. وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدِّثِ النَّاسَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ، فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلَاثًا، وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ. وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا وَصَّتْ قَاصَّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: حَدِّثِ النَّاسَ يَوْمًا، وَدَعِ النَّاسَ يَوْمًا، لَا تُمِلُّهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ أَمَرَ الْقَاصَّ أَنْ يَقُصَّ كُلَّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَرَّةً. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ أَمَرَ الْقَاصَّ أَنْ يَقُصَّ كُلَّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَرَّةً. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَوِّحِ النَّاسَ وَلَا تُثْقِلْ عَلَيْهِمْ، وَدَعِ الْقَصَصَ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ.

وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ بِإِسْنَادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْجُنَيْدِ، [حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى] قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقُولُ: الْبِدْعَةُ بِدْعَتَانِ: بِدْعَةٌ مَحْمُودَةٌ، وَبِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ، فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ فَهُوَ مَحْمُودٌ، وَمَا خَالَفَ السُّنَّةَ فَهُوَ مَذْمُومٌ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عُمَرَ: نِعْمَتُ الْبِدْعَةُ هِيَ. وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ: أَنَّ الْبِدْعَةَ الْمَذْمُومَةَ مَا لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَهِيَ الْبِدْعَةُ فِي إِطْلَاقِ الشَّرْعِ، وَأَمَّا الْبِدْعَةُ الْمَحْمُودَةُ فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ، يَعْنِي: مَا كَانَ لَهَا أَصْلٌ مِنَ السُّنَّةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِدْعَةٌ لُغَةً لَا شَرْعًا، لِمُوَافَقَتِهَا السُّنَّةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ كَلَامٌ آخَرُ يُفَسِّرُ هَذَا، وَأَنَّهُ قَالَ: وَالْمُحْدَثَاتُ ضَرْبَانِ: مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابًا، أَوْ سُنَّةً، أَوْ أَثَرًا، أَوْ إِجْمَاعًا، فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الضَّلَالُ، وَمَا أُحْدِثَ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ، لَا خِلَافَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذَا، وَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي حَدَثَتْ وَلَمْ يَكُنْ قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّهَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى السُّنَّةِ أَمْ لَا؟ فَمِنْهَا كِتَابَةُ الْحَدِيثِ، نَهَى عَنْهُ عُمَرُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرَخَّصَ فِيهَا الْأَكْثَرُونَ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِأَحَادِيثَ مِنَ السُّنَّةِ. وَمِنْهَا كِتَابَةُ تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ وَالْقُرْآنِ، كَرِهَهُ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَرَخَّصَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي كِتَابَةِ الرَّأْيِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَنَحْوِهِ، وَفِي تَوْسِعَةِ الْكَلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي لَمْ تُنْقَلْ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَكْرَهُ أَكْثَرَ ذَلِكَ.

وَفِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الَّتِي بَعُدَ الْعَهْدُ فِيهَا بِعُلُومِ السَّلَفِ يَتَعَيَّنُ ضَبْطُ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، لِيَتَمَيَّزَ بِهِ مَا كَانَ مِنَ الْعِلْمِ مَوْجُودًا فِي زَمَانِهِمْ، وَمَا حَدَثَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَهُمْ، فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ السُّنَّةُ مِنَ الْبِدْعَةِ. وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ قَدْ أَصْبَحْتُمُ الْيَوْمَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَإِنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مُحْدَثَةً، فَعَلَيْكُمْ بِالْهَدْيِ الْأَوَّلِ. وَابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ هَذَا فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. وَرَوَى ابْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ. وَكَأَنَّ مَالِكًا يُشِيرُ بِالْأَهْوَاءِ إِلَى مَا حَدَثَ مِنَ التَّفَرُّقِ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ مِنْ أَمْرِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُرْجِئَةِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِبَاحَةِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، أَوْ فِي تَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ، أَوْ فِي تَفْسِيقِ خَوَاصِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَوْ عَكْسِ ذَلِكَ، فَزَعَمَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تَضُرُّ أَهْلَهَا، أَوْ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ. وَأَصْعَبُ مِنْ ذَلِكَ مَا أُحْدِثَ مِنَ الْكَلَامِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَكَذَبَ بِذَلِكَ مَنْ كَذَبَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ نَزَّهَ اللَّهَ بِذَلِكَ عَنِ الظُّلْمِ. وَأَصْعَبُ مِنْ ذَلِكَ مَا أُحْدِثَ مِنَ الْكَلَامِ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، مِمَّا سَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَقَوْمٌ نَفَوْا كَثِيرًا مِمَّا أُورِدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ تَنْزِيهًا لِلَّهِ عَمَّا تَقْتَضِي الْعُقُولُ تَنْزِيهَهُ عَنْهُ، وَزَعَمُوا أَنَّ لَازِمَ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَوْمٌ لَمْ يَكْتَفُوا بِإِثْبَاتِهِ، حَتَّى أَثْبَتُوا بِإِثْبَاتِهِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ لَازِمٌ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، وَهَذِهِ اللَّوَازِمُ نَفْيًا

وَإِثْبَاتًا دَرَجَ صَدْرُ الْأُمَّةِ عَلَى السُّكُوتِ عَنْهَا. وَمِمَّا أُحْدِثَ فِي الْأُمَّةِ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الْكَلَامُ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ، وَرَدُّ كَثِيرٍ مِمَّا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِ لِلرَّأْيِ وَالْأَقْيِسَةِ الْعَقْلِيَّةِ. وَمِمَّا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الْحَقِيقَةِ بِالذَّوْقِ وَالْكَشْفِ، وَزَعْمُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ تُنَافِي الشَّرِيعَةَ، وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ وَحْدَهَا تَكْفِي مَعَ الْمَحَبَّةِ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى الْأَعْمَالِ، وَأَنَّهَا حِجَابٌ، أَوْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْعَوَامُّ، وَرُبَّمَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ بِمَا يُعْلَمُ قَطْعًا مُخَالَفَتُهُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

[الحديث التاسع والعشرون يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار]

[الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ]

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ. «عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَلَا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] حَتَّى بَلَغَ: يَعْلَمُونَ [السَّجْدَةِ: 16 - 17] ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِيمَا قَالَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ سَمَاعُ أَبِي وَائِلٍ مِنْ مُعَاذٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدْرَكَهُ بِالسِّنِّ وَكَانَ مُعَاذٌ بِالشَّامِ، وَأَبُو وَائِلٍ بِالْكُوفَةِ، وَمَا زَالَ الْأَئِمَّةُ - كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - يَسْتَدِلُّونَ عَلَى انْتِفَاءِ السَّمَاعِ بِمِثْلِ هَذَا، وَقَدْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ فِي سَمَاعِ أَبِي وَائِلٍ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: قَدْ أَدْرَكَهُ، وَكَانَ بِالْكُوفَةِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ بِالشَّامِ، يَعْنِي: أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ لَهُ سَمَاعٌ مِنْهُ. وَقَدْ حَكَى أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ تَوَقَّفُوا فِي سَمَاعِ أَبِي وَائِلٍ مِنْ عُمَرَ، أَوْ نَفَوْهُ، فَسَمَاعُهُ مِنْ مَعَاذٍ أَبْعَدُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ مُعَاذٍ، خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُخْتَصَرًا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَعْرُوفٌ مِنْ رِوَايَةِ شَهْرٍ عَلَى اخْتِلَافٍ عَلَيْهِ فِيهِ. قُلْتُ: رِوَايَةُ شَهْرٍ عَنْ مُعَاذٍ مُرْسَلَةٌ يَقِينًا، وَشَهْرٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهِ وَتَضْعِيفِهِ، وَقَدْ خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ شَهْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ مُعَاذٍ، وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ بْنِ النَّزَّالِ أَوِ النَّزَّالِ بْنِ عُرْوَةَ، وَمَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مُعَاذٍ، وَلَمْ يَسْمَعْ عُرْوَةُ وَلَا مَيْمُونٌ مِنْ مُعَاذٍ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى عَنْ مُعَاذٍ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ. وَقَوْلُهُ: " «أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ» " وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ وُجُوهٍ ثَابِتَةٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي أَيُّوبَ

وَغَيْرِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَجَابَ بِنَحْوِ مَا أَجَابَ بِهِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ. وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي «حَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ كَلِمَةٍ قَدْ أَمْرَضَتْنِي وَأَسْقَمَتْنِي وَأَحْزَنَتْنِي، قَالَ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ، قَالَ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ اهْتِمَامِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] [الزُّخْرُفِ: 72] . وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَدْخَلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ» فَالْمُرَادُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ أَحَدٌ الْجَنَّةَ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ - بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ - سَبَبًا لِذَلِكَ وَالْعَمَلُ بِنَفْسِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ عَلَى عَبْدِهِ، فَالْجَنَّةُ وَأَسْبَابُهَا كُلٌّ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. وَقَوْلُهُ: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ» قَدْ سَبَقَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا: «لَئِنْ كُنْتَ أَوْجَزْتَ الْمَسْأَلَةَ، لَقَدْ أَعْظَمْتَ وَأَطْوَلْتَ» ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ أَمْرٌ عَظِيمٌ جِدًّا، وَلِأَجْلِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ الْكُتُبَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ، «وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ: كَيْفَ تَقُولُ إِذَا صَلَّيْتَ؟ قَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَلَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، يُشِيرُ إِلَى كَثْرَةِ دُعَائِهِمَا وَاجْتِهَادِهِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ وَفِي رِوَايَةٍ: هَلْ تَصِيرُ دَنْدَنَتِي وَدَنْدَنَةُ مُعَاذٍ إِلَّا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ،

وَنَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ» . وَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّوْفِيقَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْهُدَى اهْتَدَى، وَمَنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ عَلَيْهِ، لَمْ يُيَسَّرْ لَهُ ذَلِكَ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى - وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10] [اللَّيْلِ: 5 - 10] ، «وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ تَلَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ» . «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي» ، وَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ فِي دُعَائِهِ: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي - وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه: 25 - 26] [طه: 25 - 26] ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْعُو: اللَّهُمَّ يَسِّرْنِي لِلْيُسْرَى، وَجَنِّبْنِي الْعُسْرَى. وَقَدْ سَبَقَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ تَوْجِيهُ تَرْتِيبِ دُخُولِ الْجَنَّةِ عَلَى

الْإِتْيَانِ بِأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ، وَهِيَ: التَّوْحِيدُ، وَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ. وَقَوْلُهُ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ» : لَمَّا رَتَّبَ دُخُولَ الْجَنَّةِ عَلَى وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ، دَلَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ مِنَ النَّوَافِلِ، فَإِنَّ أَفْضَلَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ، الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ. وَقَوْلُهُ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ» هَذَا الْكَلَامُ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَخَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِزِيَادَةٍ، وَهِيَ «الصِّيَامُ جُنَّةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ» . وَخَرَّجَ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ، كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ» . وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرُقْهَا» ، وَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يَخْرُقْهَا يَعْنِي: بِالْكَلَامِ السَّيِّئِ وَنَحْوِهِ، وَلِهَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُخَرَّجِ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصِّيَامُ

جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَفْسُقْ، وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ سَابَّهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْغِيبَةُ تَخْرُقُ الصِّيَامَ، وَالِاسْتِغْفَارُ يَرْفَعُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِصَوْمٍ مُخَرَّقٍ فَلْيَفْعَلْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: الصَّائِمُ إِذَا اغْتَابَ خُرِقَ، وَإِذَا اسْتَغْفَرَ رُقِّعَ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرُقْهَا، قِيلَ: بِمَ يَخْرُقْهُ؟ قَالَ: بِكَذِبٍ أَوْ غِيبَةٍ» . فَالْجُنَّةُ: هِيَ مَا يَسْتَجِنُّ بِهِ الْعَبْدُ، كَالْمِجَنِّ الَّذِي يَقِيهِ عِنْدَ الْقِتَالِ مِنَ الضَّرْبِ، فَكَذَلِكَ الصِّيَامُ يَقِي صَاحِبَهُ مِنَ الْمَعَاصِي فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] [الْبَقَرَةِ: 183] ، فَإِذَا كَانَ لَهُ جُنَّةٌ مِنَ الْمَعَاصِي، كَانَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ جُنَّةٌ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَعَاصِي، لَمْ يَكُنْ لَهُ جُنَّةٌ فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّارِ. وَخَرَّجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا، قَالَ: «بَعَثَ اللَّهِ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ: وَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَصُومُوا، وَمَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَشَى إِلَى عَدُّوِهِ، وَقَدْ أَخَذَ لِلْقِتَالِ جُنَّةً، فَلَا يَخَافُ مِنْ حَيْثُ مَا أُتِيَ» . وَخَرَّجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا، وَفِيهِ قَالَ: الصِّيَامُ مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ انْتَصَرَهُ النَّاسُ، فَاسْتَحَدَّ فِي السِّلَاحِ، حَتَّى ظَنَّ أَنْ لَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سِلَاحُ الْعَدُوِّ، فَكَذَلِكَ الصِّيَامُ جَنَّةٌ.

وَقَوْلُهُ: «وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ» هَذَا الْكَلَامُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، فَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ» . وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِمَعْنَاهُ. وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ صَدَقَةَ السَّرِّ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَدْفَعُ مَيْتَةَ السُّوءِ» . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ الْخُبْزَ عَلَى ظَهْرِهِ بِاللَّيْلِ يَتْبَعُ بِهِ الْمَسَاكِينَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَيَقُولُ: إِنَّ الصَّدَقَةَ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] [الْبَقَرَةِ: 271] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ يُكَفَّرُ بِهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ: إِمَّا مُطْلَقًا، أَوْ صَدَقَةُ السِّرِّ.

وَقَوْلُهُ: «وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» يَعْنِي أَنَّهَا تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ أَيْضًا كَالصَّدَقَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ بْنِ النَّزَّالِ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: «أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: إِنَّ الصَّوْمَ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ وَقِيَامُ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ يُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ قِيَامُ اللَّيْلِ» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: أَنَّ النَّاسَ يَحْتَرِقُونَ بِالنَّهَارِ بِالذُّنُوبِ، وَكُلَّمَا قَامُوا إِلَى صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ أَطْفَئُوا ذُنُوبَهُمْ، وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا مِنْ وُجُوهٍ فِيهَا نَظَرٌ. وَكَذَلِكَ قِيَامُ اللَّيْلِ يُكَفِّرُ الْخَطَايَا، لِأَنَّهُ أَفْضَلُ نَوَافِلِ الصَّلَاةِ، وَفِي " التِّرْمِذِيِّ " مِنْ حَدِيثِ بِلَالٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الْجَسَدِ» . وَخَرَّجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، وَقَالَ: هُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ بِلَالٍ. وَخَرَّجَهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي " صَحِيحِيهِمَا " مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَيْضًا.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَضْلُ صَلَاةِ اللَّيْلِ عَلَى صَلَاةِ النَّهَارِ كَفَضْلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ. وَخَرَّجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ صَدَقَةَ السِّرِ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، فَكَذَلِكَ صَلَاةُ اللَّيْلِ. وَقَوْلُهُ: " «ثُمَّ تَلَا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17] [السَّجْدَةِ: 16 - 17] » يَعْنِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عِنْدَ ذِكْرِهِ فَضْلَ صَلَاةِ اللَّيْلِ، لِيُبَيِّنَ بِذَلِكَ فَضْلَ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي انْتِظَارِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَانُوا يَتَنَفَّلُونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ بِلَالٍ، وَخَرَّجَهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَكُلُّ هَذَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ لَفْظِ الْآيَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَدَحَ الَّذِينَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ لِدُعَائِهِ، فَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّ مَنْ تَرَكَ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ لِذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ،

فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ صَلَّى بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، وَمَنِ انْتَظَرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فَلَمْ يَنَمْ حَتَّى يُصَلِّيَهَا لَا سِيَّمَا مَعَ حَاجَتِهِ إِلَى النَّوْمِ، وَمُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ عَلَى تَرْكِهِ لِأَدَاءِ الْفَرِيضَةِ، وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنِ انْتَظَرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ: إِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ» . وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ نَامَ ثُمَّ قَامَ مِنْ نَوْمِهِ بِاللَّيْلِ لِلتَّهَجُّدِ، وَهُوَ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ التَّطَوُّعِ بِالصَّلَاةِ مُطْلَقًا. وَرُبَّمَا دَخَلَ فِيهِ مَنْ تَرَكَ النَّوْمَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَقَامَ إِلَى أَدَاءِ صَلَاةِ الصُّبْحِ، لَا سِيَّمَا مَعَ غَلَبَةِ النَّوْمِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يُشْرَعُ لِلْمُؤَذِّنِ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ أَنْ يَقُولَ فِي أَذَانِهِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» ذَكَرَ أَفْضَلَ أَوْقَاتِ التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ، وَهُوَ جَوْفُ اللَّيْلِ، وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ» . وَخَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَلَفْظُهُ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيُّ الصَّلَاةِ

أَفْضَلُ؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْأَوْسَطُ قَالَ: أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: دُبُرُ الْمَكْتُوبَاتِ» . وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ اللَّيْلِ خَيْرٌ؟ قَالَ: خَيْرُ اللَّيْلِ جَوْفُهُ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ: «قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ: أَيُّ قِيَامِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَأَلْتَنِي، فَقَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْغَابِرُ أَوْ نِصْفُ اللَّيْلِ، وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ» . وَخَرَّجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ اللَّيْلِ أَجْوَبُ دَعْوَةً؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ زَادَ الْبَزَّارُ فِي رِوَايَتِهِ: " الْآخِرُ» . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ تِلْكَ السَّاعَةَ فَكُنْ» ، وَصَحَّحَهُ، وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَلَفْظُهُ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ السَّاعَاتِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ أَجْوَبُهُ دَعْوَةً، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ مِنْ سَاعَةٍ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أُخْرَى؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ» . وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَعِنْدَهُ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْأَوْسَطُ وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ مِنْ سَاعَةٍ أَفْضَلُ مِنْ سَاعَةٍ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَتَدَلَّى فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَيَغْفِرُ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الشِّرْكِ» .

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ جَوْفَ اللَّيْلِ إِذَا أُطْلِقَ، فَالْمُرَادُ بِهِ وَسَطُهُ، وَإِنْ قِيلَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَالْمُرَادُ وَسَطُ النِّصْفِ الثَّانِي، وَهُوَ السُّدُسُ الْخَامِسُ مِنْ أَسْدَاسِ اللَّيْلِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ النُّزُولُ الْإِلَهِيُّ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ» وَفِي رِوَايَةٍ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةٍ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ غَنْمٍ، «عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: قَالَ لِي نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ بِرَأْسِ هَذَا الْأَمْرِ وَقِوَامِ هَذَا الْأَمْرِ وَذُرْوَةِ السَّنَامِ، قُلْتُ بَلَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ رَأْسَ هَذَا الْأَمْرِ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِنَّ قِوَامَ هَذَا الْأَمْرِ إِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَإِنَّ ذُرْوَةَ السَّنَامِ مِنْهُ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَيَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، فَقَدِ اعْتَصَمُوا وَعَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا شَحَبَ وَجْهٌ، وَلَا اغْبَرَّتْ قَدَمٌ فِي عَمَلٍ يُبْتَغَى فِيهِ دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ كَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا ثَقُلَ مِيزَانُ عَبْدٍ كَدَابَّةٍ تَنْفُقُ لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ يَحْمِلُ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَأَخْبَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: رَأَسِ الْأَمْرِ، وَعَمُودِهِ، وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ» . فَأَمَّا رَأْسُ الْأَمْرِ، وَيَعْنِي بِالْأَمْرِ الدِّينَ الَّذِي بُعِثَ بِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَدْ جَاءَ تَفْسِيرُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِمَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَلَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ.

وَأَمَّا قِوَامُ الدِّينِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الدِّينُ كَمَا يَقُومُ الْفُسْطَاطُ عَلَى عَمُودِهِ، فَهِيَ الصَّلَاةُ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِي أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. وَأَمَّا ذُرْوَةُ سَنَامِهِ - وَهُوَ أَعْلَى مَا فِيهِ وَأَرْفَعُهُ - فَهُوَ الْجِهَادُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا شَحَبَ وَجْهٌ وَلَا اغْبَرَّتْ قَدَمٌ فِي عَمَلٍ يُبْتَغَى بِهِ دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ كَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صَرِيحًا. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " «عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ» . وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إِيمَانٌ بِاللَّهِ، ثُمَّ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَوْلُهُ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ فَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَفَّ اللِّسَانِ وَضَبْطَهُ وَحَبْسَهُ هُوَ أَصْلُ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَأَنَّ مَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ، فَقَدْ مَلَكَ أَمْرَهُ وَأَحْكَمَهُ وَضَبَطَهُ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي شَرْحِ حَدِيثِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ

وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ. وَفِي شَرْحِ حَدِيثِ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ» . وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْيَسَرِ أَنَّ «رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: أَمْسِكْ هَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، هَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» وَقَالَ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَالْمُرَادُ بِحَصَائِدِ الْأَلْسِنَةِ: جَزَاءُ الْكَلَامِ الْمُحَرَّمِ وَعُقُوبَاتُهُ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَزْرَعُ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ يَحْصُدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا زَرَعَ، فَمَنْ زَرَعَ خَيْرًا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، حَصَدَ الْكَرَامَةَ، وَمَنْ زَرَعَ شَرًّا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، حَصَدَ غَدًا النَّدَامَةَ. وَظَاهِرُ حَدِيثِ مُعَاذٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ بِهِ النَّاسُ النَّارَ النُّطْقُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النُّطْقِ يَدْخُلُ فِيهَا الشِّرْكُ وَهِيَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَهُوَ قَرِينُ الشِّرْكِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا شَهَادَةُ الزُّورِ الَّتِي عَدَلَتِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَدْخُلُ فِيهَا السِّحْرُ وَالْقَذْفُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ؛ كَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَسَائِرِ الْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ لَا يَخْلُو غَالِبًا مِنْ قَوْلٍ يَقْتَرِنُ بِهَا يَكُونُ مُعِينًا عَلَيْهَا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ الْأَجْوَفَانِ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ» خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ

بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَفْظُهُ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ» . وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: مَهْ، غَفَرَ اللَّهُ لَكَ! فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ» . وَقَالَ ابْنُ بُرَيْدَةَ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ آخِذٌ بِلِسَانِهِ وَهُوَ يَقُولُ: وَيْحَكَ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ، أَوِ اسْكُتْ عَنْ سُوءٍ تَسْلَمْ، وَإِلَّا فَاعْلَمْ أَنَّكَ سَتَنْدَمُ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، لِمَ تَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ - أَرَاهُ قَالَ - لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ أَشَدُّ حَنَقًا أَوْ غَيْظًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْهُ عَلَى لِسَانِهِ إِلَّا مَا قَالَ بِهِ خَيْرًا، أَوْ أَمْلَى بِهِ خَيْرًا. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَحْلِفُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ: مَا عَلَى الْأَرْضِ شَيْءٌ أَحْوَجُ إِلَى طُولِ سَجْنٍ مِنْ لِسَانٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: اللِّسَانُ أَمِيرُ الْبَدَنِ، فَإِذَا جَنَى عَلَى الْأَعْضَاءِ شَيْئًا، جَنَتْ، وَإِذَا عَفَّ عَفَّتْ.

وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا لِسَانُهُ مِنْهُ عَلَى بَالٍ إِلَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ صَلَاحًا فِي سَائِرِ عَمَلِهِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: مَا صَلُحَ مَنْطِقُ رَجُلٍ إِلَّا عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ عَمَلِهِ، وَلَا فَسَدَ مَنْطِقُ رَجُلٍ قَطُّ، إِلَّا عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ عَمَلِهِ. وَقَالَ الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ: لَا تَجِدُ شَيْئًا مِنَ الْبِرِّ وَاحِدًا يَتْبَعُهُ الْبِرُّ كُلُّهُ غَيْرَ اللِّسَانِ، فَإِنَّكَ تَجِدُ الرَّجُلَ يَصُومُ النَّهَارَ، وَيُفْطِرُ عَلَى حَرَامٍ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ وَيَشْهَدُ بِالزُّورِ بِالنَّهَارِ - وَذَكَرَ أَشْيَاءَ نَحْوَ هَذَا - وَلَكِنْ لَا تَجِدُهُ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِحَقٍّ فَيُخَالِفُ ذَلِكَ عَمَلُهُ أَبَدًا.

[الحديث الثلاثون إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها]

[الْحَدِيثُ الثَّلَاثُونَ إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا]

الْحَدِيثُ الثَّلَاثُونَ «عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ، فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» . حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، وَلَهُ عِلَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ مَكْحُولًا لَمْ يَصِحَّ لَهُ السَّمَاعُ مِنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ، كَذَلِكَ قَالَ أَبُو مُسْهِرٍ الدِّمَشْقِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ وَغَيْرُهُمَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ عَلَى أَبِي ثَعْلَبَةَ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ مَكْحُولٍ مِنْ قَوْلِهِ، لَكِنْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الْأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ الْمَرْفُوعُ، قَالَ: وَهُوَ أَشْهَرُ. وَقَدْ حَسَّنَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَكَذَلِكَ حَسَّنَ قَبْلَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " أَمَالِيهِ ". وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، خَرَّجَهُ الْبَزَّارُ فِي

" مُسْنَدِهِ " وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] » [مَرْيَمَ: 64] ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: إِسْنَادُهُ صَالِحٌ. وَقَدْ خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: «رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ فَاقْبَلُوهَا» وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ. وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ سَيْفِ بْنِ هَارُونَ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ، فَقَالَ: الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَاهُ سُفْيَانُ - يَعْنِي ابْنَ عُيَيْنَةَ - عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ مِنْ قَوْلِهِ، قَالَ: وَكَأَنَّهُ أَصَحُّ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ " الْعِلَلِ " عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: مَا أَرَاهُ مَحْفُوظًا، وَقَالَ أَحْمَدُ: هُوَ مُنْكَرٌ،

وَأَنْكَرَهُ ابْنُ مَعِينٍ أَيْضًا، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: هُوَ خَطَأٌ، رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا لَيْسَ فِيهِ سَلْمَانُ. قُلْتُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. وَخَرَّجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَضَعَّفَ إِسْنَادَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ الْمُرِّيُّ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا وَأَخْطَأَ فِي إِسْنَادِهِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ، وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا، فَبَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ، وَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، فَمَا أَحَلَّ، فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، وَتَلَا: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] [الْأَنْعَامِ: 145] الْآيَةَ، وَهَذَا مَوْقُوفٌ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَلَّ حَلَالًا وَحَرَّمَ حَرَامًا، وَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ، فَهُوَ عَفْوٌ. فَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ قَسَّمَ فِيهِ أَحْكَامَ اللَّهِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: فَرَائِضُ، وَمَحَارِمُ، وَحُدُودٌ، وَمَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَجْمَعُ أَحْكَامَ الدِّينِ كُلَّهَا.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ السَّمْعَانِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، قَالَ: وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ أَجْمَعُ بِانْفِرَادِهِ لِأُصُولِ الْعِلْمِ وَفُرُوعِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ، قَالَ: وَحُكِيَ عَنْ أَبِي وَاثِلَةَ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدِّينَ فِي أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي ثَعْلَبَةَ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: فَمَنْ عَمِلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَدْ حَازَ الثَّوَابَ، وَأَمِنَ الْعِقَابَ؛ لِأَنَّ مَنْ أَدَّى الْفَرَائِضَ، وَاجْتَنَبَ الْمَحَارِمَ، وَوَقَفَ عِنْدَ الْحُدُودِ، وَتَرَكَ الْبَحْثَ عَمَّا غَابَ عَنْهُ، فَقَدِ اسْتَوْفَى أَقْسَامَ الْفَضْلِ، وَأَوْفَى حُقُوقَ الدِّينِ، لِأَنَّ الشَّرَائِعَ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ انْتَهَى. فَأَمَّا الْفَرَائِضُ فَمَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَأَلْزَمَهُمُ الْقِيَامَ بِهِ، كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلِ الْوَاجِبُ وَالْفَرْضُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَمْ لَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُمَا سَوَاءٌ، وَكُلُّ وَاجِبٍ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ بِكِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَهُوَ فَرْضٌ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَحُكِيَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ فَرْضٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْفَرْضُ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَالْوَاجِبُ مَا ثَبَتَ بِغَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَأَكْثَرُ النُّصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، فَنَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُسَمَّى فَرْضًا إِلَّا مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: مَا أَجْتَرِئُ أَنْ أَقُولَ: إِنَّهَا فَرْضٌ، مَعَ أَنَّهُ يَقُولُ بِوُجُوبِهَا، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: مُرَادُهُ أَنَّ الْفَرْضَ مَا يَثْبُتُ بِالْكِتَابِ، وَالْوَاجِبَ مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَرَادَ أَنَّ الْفَرْضَ مَا ثَبَتَ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَالْوَاجِبَ مَا ثَبَتَ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ، وَسَاغَ الْخِلَافُ فِي وُجُوبِهِ.

وَيُشْكِلُ عَلَى هَذَا أَنْ أَحْمَدَ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ: لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَلَكِنْ أَقُولُ: وَاجِبٌ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ مُجْمَعٌ عَلَى وُجُوبِهِ، وَقَدْ كَثُرَتِ الْأَوَامِرُ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَقُولُ: فَرْضٌ، إِلَّا مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرْضًا. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: هَلْ يُسَمَّى فَرِيضَةً أَمْ لَا؟ فَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ: هُمَا مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَرَوَى عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ؛ فَقَالَ: لَيْسَ بِفَرِيضَةٍ، كَانَ فَرِيضَةً عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَحِمَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ لِضَعْفِهِمْ، فَجَعَلَهُ عَلَيْهِمْ نَافِلَةً. وَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبْرُمَةَ إِلَى عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ أَبْيَاتًا مَشْهُورَةً أَوَّلُهَا: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ يَا عَمْرُو نَافِلَةٌ ... وَالْقَائِمُونَ بِهِ لِلَّهِ أَنْصَارُ وَاخْتَلَفَ كَلَامُ أَحْمَدَ فِيهِ: هَلْ يُسَمَّى وَاجِبًا أَمْ لَا؟ فَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ، وَرَوَاهُ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الرَّجُلِ يَرَى الطُّنْبُورَ وَنَحْوَهُ: أَوَاجِبٌ عَلَيْهِ تَغْيِيرُهُ؟ قَالَ: مَا أَدْرِي مَا وَاجِبٌ إِنْ غَيَّرَ فَهُوَ فَضْلٌ. وَقَالَ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ: هُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إِلَّا أَنْ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ، وَلَعَلَّ أَحْمَدَ يَتَوَقَّفُ فِي إِطْلَاقِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْأَعْيَانِ، بَلْ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجِهَادِ: هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا؟ فَأَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ وُجُوبَهُ، مِنْهُمْ: عَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا هَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ وَاجِبٌ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمَكْحُولٌ، وَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا وُجُوبَهُ عَلَى الْكِفَايَةِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: الْغَزْوُ وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ كَوُجُوبِ الْحَجِّ، فَإِذَا غَزَا بَعْضُهُمْ أَجَزَأَ عَنْهُمْ، وَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنَ الْغَزْوِ. وَسَأَلَهُ الْمَرْوَزِيُّ عَنِ الْجِهَادِ: أَفَرْضٌ هُوَ؟ قَالَ: قَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْحَجِّ، وَمُرَادُهُ: أَنَّ الْحَجَّ لَا يَسْقُطُ عَمَّنْ لَمْ يَحُجَّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ بِحَجِّ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْجِهَادِ. وَسُئِلَ عَنِ النَّفِيرِ: مَتَى يَجِبُ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِيجَابٌ فَلَا أَدْرِي، وَلَكِنْ إِذَا خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَخْرُجُوا. وَظَاهِرُ هَذَا التَّوَقُّفِ فِي إِطْلَاقِ لِفْظِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا لَمْ يَأْتِ فِيهِ لَفْظُ الْإِيجَابِ تَوَرُّعًا، وَلِذَلِكَ تَوَقَّفَ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْحَرَامِ عَلَى مَا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَتَعَارَضَتْ أَدِلَّتُهُ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، فَقَالَ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ: لَا أَقُولُ: هِيَ حَرَامٌ، وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ فِي مَعْنَى التَّحْرِيمِ، وَلَكِنْ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِهِ، لِاخْتِلَافِ النُّصُوصِ وَالصَّحَابَةِ فِيهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ: لَا أَقُولُ: حَرَامٌ، وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ، وَالصَّحِيحُ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي إِطْلَاقِ لَفْظَةِ الْحَرَامِ دُونَ مَعْنَاهَا، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ فِي الْكَلَامِ؛ حَذَرًا مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116] [النَّحْلِ: 116] . قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُولَ: أَحَلَّ اللَّهُ كَذَا، وَحَرَّمَ كَذَا، فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْتَ، لَمْ أُحِلَّ كَذَا وَلَمْ أُحَرِّمْ كَذَا. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: أَدْرَكْتُ عُلَمَاءَنَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ إِذَا سُئِلَ: أَكْرَهُ هَذَا، وَلَا أُحِبُّهُ، وَلَا يَقُولُ: حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ.

وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ فَرْضٌ فَلَيْسَ كَلَامُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا نَقَلَ عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا وَكَّدَهُ اللَّهُ فَهُوَ فَرْضٌ، وَهَذَا يَعُودُ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَا فَرْضَ إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ وَالَّذِي وَكَّدَهُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ: الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَإِنَّمَا قَالَ أَحْمَدُ هَذَا لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ يَقُولُ: الصَّلَاةُ فَرْضٌ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ لَا أَقُولُ إِنَّهُ فَرْضٌ، وَلَكِنَّهُ سُنَّةٌ. وَقَدْ سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَمَّنْ يَقُولُ ذَلِكَ، فَكَفَّرَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ يَتَأَوَّلُ، فَلَعَنَهُ، فَقَالَ: لَقَدْ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا. وَقَدْ نَقَلَهُ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي كِتَابِ " مَنَاقِبِ مَالِكٍ " مِنْ وُجُوهٍ عَنْهُ. وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونِ بْنِ الرَّمَّاحِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ فَرِيضَةٍ وَمَا فِيهَا مِنْ سُنَّةٍ، أَوْ قَالَ: نَافِلَةٍ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: كَلَامُ الزَّنَادِقَةِ أَخْرِجُوهُ. وَنَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُ أَنْكَرَ تَقْسِيمَ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ إِلَى سُنَّةٍ وَوَاجِبٍ، فَقَالَ: كُلُّ مَا فِي الصَّلَاةِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ مِنْهُ مَا تُعَادُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ، وَمِنْهُ مَا لَا تُعَادُ. وَسَبَبُ هَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ السُّنَّةِ قَدْ يُفْضِي إِلَى التَّهَاوُنِ بِفِعْلِ ذَلِكَ، وَإِلَى الزُّهْدِ فِيهِ وَتَرْكِهِ، وَهَذَا خِلَافُ مَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنَ الْحَثِّ عَلَيْهِ، وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ بِالطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى فِعْلِهِ وَتَحْصِيلِهِ، فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْوَاجِبِ أَدْعَى إِلَى الْإِتْيَانِ بِهِ وَالرَّغْبَةِ فِيهِ.

وَقَدْ وَرَدَ إِطْلَاقُ الْوَاجِبِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى مَا لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ لَيْلَةُ الضَّيْفِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْحَثِّ عَلَى فِعْلِهِ وَتَأْكِيدِهِ. وَأَمَّا الْمَحَارِمُ فَهِيَ الَّتِي حَمَاهَا اللَّهُ تَعَالَى وَمَنَعَ مِنْ قُرْبَانِهَا وَارْتِكَابِهَا وَانْتِهَاكِهَا. وَالْمُحَرَّمَاتُ الْمَقْطُوعُ بِهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] [الْأَنْعَامِ: 51] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] [الْأَعْرَافِ: 33] . وَقَدْ ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُخْتَصَّةَ بِنَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ كَمَا ذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْمَطَاعِمِ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] [الْأَنْعَامِ: 145] ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] [الْبَقَرَةِ: 173] ، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [النحل: 115] [النَّحْلِ: 115] ، وَقَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} [المائدة: 3] [الْمَائِدَةِ: 3] . وَذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ فِي قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] [النِّسَاءِ: 23] الْآيَةَ. وَذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْمَكَاسِبِ فِي قَوْلِهِ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] [الْبَقَرَةِ: 275] .

وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَفِيهَا ذِكْرُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ» . وَقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ» ، وَقَوْلِهِ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . وَقَوْلِهِ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» . فَمَا وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِتَحْرِيمِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ. وَقَدْ يُسْتَفَادُ التَّحْرِيمُ مِنَ النَّهْيِ مَعَ الْوَعِيدِ وَالتَّشْدِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90 - 91] [الْمَائِدَةِ: 90 - 91] . وَأَمَّا النَّهْيُ الْمُجَرَّدُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ يُسْتَفَادُ مِنْهُ التَّحْرِيمُ أَمْ لَا؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ إِنْكَارُ اسْتِفَادَةِ التَّحْرِيمِ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَخْبَرَنَا سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي دَخِيلَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، يَعْنِي: أَنْ يُخْلَطَا» ، فَقَالَ لِي رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي: مَا قَالَ؟ فَقُلْتُ: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: كَذَبْتَ، فَقُلْتُ: أَلَمْ تَقُلْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، فَهُوَ حَرَامٌ؟ فَقَالَ: أَنْتَ تَشْهَدُ

بِذَاكَ؟ قَالَ سَلَّامٌ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: مِنْ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ أَدَبٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْعُلَمَاءِ الْوَرِعِينَ كَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ تَوَقِّي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْحَرَامِ عَلَى مَا لَمْ يُتَيَقَّنْ تَحْرِيمُهُ مِمَّا فِيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ أَوِ اخْتِلَافٍ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَشْيَاءَ لَا يُحَرِّمُونَهَا، وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: قَالَ لِي مَكْحُولٌ: مَا تَقُولُونَ فِي الْفَاكِهَةِ تُلْقَى بَيْنَ الْقَوْمِ فَيَنْتَهِبُونَهَا؟ قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا لَمَكْرُوهٌ، قَالَ: حَرَامٌ هِيَ؟ قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: فَاسْتَجْفَيْنَا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ مَكْحُولٍ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ: الْغِنَاءُ أَحْرَامٌ هُوَ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ الْقَاسِمُ، ثُمَّ عَادَ، فَسَكَتَ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ؟ أَرَأَيْتَ إِذَا أُتِيَ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلَى اللَّهِ، فَأَيُّهُمَا يَكُونُ الْغِنَاءُ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: فِي الْبَاطِلِ، فَقَالَ: فَأَنْتَ، فَأَفْتِ نَفْسَكَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: أَمَّا مَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمِنْهَا أَشْيَاءُ حَرَامٌ، مِثْلَ قَوْلِهِ: «نَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، أَوْ عَلَى خَالَتِهَا» فَهَذَا حَرَامٌ، «وَنَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ» ، فَهَذَا حَرَامٌ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ نَحْوِ هَذَا.

وَمِنْهَا أَشْيَاءُ نَهَى عَنْهَا فَهِيَ أَدَبٌ. وَأَمَّا حُدُودُ اللَّهِ الَّتِي نَهَى عَنِ اعْتِدَائِهَا، فَالْمُرَادُ بِهَا جُمْلَةُ مَا أَذِنَ فِي فِعْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ، أَوِ النَّدْبِ، أَوِ الْإِبَاحَةِ، وَاعْتِدَاؤُهَا: هُوَ تُجَاوُزُ ذَلِكَ إِلَى ارْتِكَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] [الطَّلَاقِ: 1] وَالْمُرَادُ: مَنْ طَلَّقَ عَلَى غَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَذِنَ فِيهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] [الْبَقَرَةِ: 229] ، وَالْمُرَادُ مَنْ أَمْسَكَ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَ بِغَيْرِ مَعْرُوفٍ، أَوْ سَرَّحَ بِغَيْرِ إِحْسَانٍ، أَوْ أَخَذَ مِمَّا أَعْطَى الْمَرْأَةَ شَيْئًا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْفِدْيَةِ الَّتِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} [النساء: 13] إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] [النِّسَاءِ: 13 - 14] ، وَالْمُرَادُ مِنْ تَجَاوُزِ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ لِلْوَرَثَةِ، فَفَضَّلَ وَارِثًا، وَزَادَ عَلَى حَقِّهِ، أَوْ نَقَصَهُ مِنْهُ، وَلِهَذَا «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» .

وَرَوَى النَّوَّاسُ بْنُ سَمْعَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا، وَلَا تَعْرُجُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ، قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، وَالصِّرَاطُ: الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللَّهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقَ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ» خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَالنَّسَائِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلَ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِصِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهُوَ الطَّرِيقُ السَّهْلُ الْوَاسِعُ، الْمُوَصِّلُ سَالِكَهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ، وَهُوَ - مَعَ هَذَا - مُسْتَقِيمٌ، لَا عِوَجَ فِيهِ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ قُرْبَهُ وَسُهُولَتَهُ، وَعَلَى جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً سُورَانِ، وَهُمَا حُدُودُ اللَّهِ، وَكَمَا أَنَّ السُّورَ يَمْنَعُ مَنْ كَانَ دَاخِلَهُ مِنْ تَعَدِّيهِ وَمُجَاوَزَتِهِ، فَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ يَمْنَعُ مَنْ دَخَلَهُ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْ حُدُودِهِ وَمُجَاوَزَتِهَا، وَلَيْسَ وَرَاءَ مَا حَدَّ اللَّهُ مِنَ الْمَأْذُونِ فِيهِ إِلَّا مَا نَهَى عَنْهُ، وَلِهَذَا مَدَحَ سُبْحَانَهُ الْحَافِظِينَ لِحُدُودِهِ، وَذَمَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَدَّ الْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] [التَّوْبَةِ: 97] وَقَدْ تَقَدَّمَ «حَدِيثُ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ يَقُولُ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ: حَفِظَ حُدُودِي، وَلِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ: تَعَدَّى حُدُودِي» . وَالْمُرَادُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يُجَاوِزْ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ، فَقَدْ حَفِظَ حُدُودَ

اللَّهِ، وَمَنْ تَعَدَّى ذَلِكَ، فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ. وَقَدْ تُطْلَقُ الْحُدُودُ، وَيُرَادُ بِهَا نَفْسُ الْمَحَارِمِ، وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ: لَا تَقْرَبُوا حُدُودَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] [الْبَقَرَةِ: 187] ، وَالْمُرَادُ: النَّهْيُ عَنِ ارْتِكَابِ مَا نَهَى عَنْهُ فِي الْآيَةِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى - وَهُوَ تَسْمِيَةُ الْمَحَارِمِ حُدُودًا - قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْمُدْهِنِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اقْتَسَمُوا سَفِينَةً» الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ، وَأَرَادَ بِالْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ الْمُنْكِرَ لِلْمُحَرَّمَاتِ وَالنَّاهِيَ عَنْهَا. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ [أَقُولُ:] اتَّقُوا النَّارَ، اتَّقُوا الْحُدُودَ قَالَهَا ثَلَاثًا» ، خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ، وَأَرَادَ بِالْحُدُودِ مَحَارِمَ اللَّهِ وَمَعَاصِيَهُ، وَمِنْهُ «قَوْلُ الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ» . وَقَدْ تُسَمَّى الْعُقُوبَاتُ الْمُقَدَّرَةُ الرَّادِعَةُ عَنِ الْمَحَارِمِ الْمُغَلَّظَةِ حُدُودًا، كَمَا يُقَالُ: حَدُّ الزِّنَا، وَحَدُّ السَّرِقَةِ، وَحَدُّ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنْهُ «قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَةَ:

أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟» يَعْنِي: فِي الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنَ اسْمِ الْحُدُودِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» فَهَذَا قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَاهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ الْحُدُودَ هَاهُنَا بِهَذِهِ الْحُدُودِ الْمُقَدَّرَةِ، وَقَالَ: إِنَّ التَّعْزِيرَ لَا يُزَادُ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ، وَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا إِلَّا فِي هَذِهِ الْحُدُودِ الْمُقَدَّرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ الْحُدُودَ هَاهُنَا بِجِنْسِ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ مُجَاوَزَةَ الْعَشْرِ الْجَلَدَاتِ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ارْتِكَابِ مَحْرَمٍ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، فَأَمَّا ضَرْبُ التَّأْدِيبِ عَلَى غَيْرِ مَحْرَمٍ، فَلَا يَتَجَاوَزُ بِهِ عَشْرَ جَلَدَاتٍ. وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا» عَلَى هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ الزَّاجِرَةِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقَالَ: الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ تَجَاوُزِ هَذِهِ الْحُدُودِ وَتَعَدِّيهَا عِنْدَ إِقَامَتِهَا عَلَى أَهْلِ الْجَرَائِمِ. وَرَجَّحَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْحُدُودِ الْوُقُوفَ عِنْدَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، لَكَانَ تَكْرِيرًا لِقَوْلِهِ: «فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ، فَلَا تَنْتَهِكُوهَا» وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَلَى مَا قَالَهُ، فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الْحُدُودِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَمَّا أَذِنَ فِيهِ إِلَّا مَا نَهَى عَنْهُ، وَذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَرْضًا أَوْ نَدْبًا أَوْ مُبَاحًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَحِينَئِذٍ فَلَا تَكْرِيرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمَسْكُوتُ عَنْهُ، فَهُوَ مَا لَمْ يُذْكَرْ حُكْمُهُ بِتَحْلِيلٍ، وَلَا إِيجَابٍ، وَلَا تَحْرِيمٍ، فَيَكُونُ مَعْفُوًّا عَنْهُ، لَا حَرَجَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَعَلَى هَذَا دَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ هَاهُنَا، كَحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ وَغَيْرِهِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ، فَرُوِيَ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ، وَرُوِيَ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَهُوَ: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» خَرَّجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ. وَرُوِيَ بِلَفْظٍ آخَرَ وَهُوَ: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَسَنَّ لَكُمْ سُنَنًا فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ أَشْيَاءَ فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَتَرَكَ بَيْنَ ذَلِكَ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ رَحْمَةً مِنْهُ، فَاقْبَلُوهَا وَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ الْمَعْفُوَّ عَنْهُ مَا تُرِكَ ذِكْرُهُ، فَلَمْ يُحَرَّمْ وَلَمْ يُحَلَّلْ. وَلَكِنْ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ مِمَّا قَدْ يَخْفَى فَهْمُهُ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ النُّصُوصِ قَدْ تَكُونُ بِطَرِيقِ النَّصِّ وَالتَّصْرِيحِ، وَقَدْ تَكُونُ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ وَالشُّمُولِ، وَقَدْ تَكُونُ دَلَالَتُهُ بِطَرِيقِ الْفَحْوَى وَالتَّنْبِيهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] [الْإِسْرَاءِ: 23] ، فَإِنَّ دُخُولَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ التَّأْفِيفِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى يَكُونُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَيُسَمَّى ذَلِكَ مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ. وَقَدْ تَكُونُ دَلَالَتُهُ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، كَقَوْلِهِ: «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ، وَقَدْ أَخَذَ الْأَكْثَرُونَ بِذَلِكَ، وَاعْتَبَرُوا بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَجَعَلُوهُ حُجَّةً.

وَقَدْ تَكُونُ دَلَالَتُهُ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ، فَإِذَا نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى حُكْمٍ فِي شَيْءٍ لِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَوْجُودًا فِي غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى الْحُكْمَ إِلَى كُلِّ مَا وُجِدَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ وَالْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ، وَأَمَرَ بِالِاعْتِبَارِ بِهِ، فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ دَلَالَةُ النُّصُوصِ عَلَى التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. فَأَمَّا مَا انْتَفَى فِيهِ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَهُنَا يُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ ذِكْرِهِ بِإِيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ عَلَى أَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَهَاهُنَا مَسْلَكَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ لَا إِيجَابَ وَلَا تَحْرِيمَ إِلَّا بِالشَّرْعِ، وَمَا لَمْ يُوجِبِ الشَّرْعُ كَذَا، أَوْ لَمْ يُحَرِّمْهُ، فَيَكُونُ غَيْرَ وَاجِبٍ، أَوْ غَيْرَ حَرَامٍ، كَمَا يُقَالُ مِثْلُ هَذَا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الْوِتْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ، أَوْ نَفْيِ تَحْرِيمِ الضَّبِّ وَنَحْوِهِ، أَوْ نَفْيِ تَحْرِيمِ بَعْضِ الْعُقُودِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، كَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَرْجِعُ هَذَا إِلَى اسْتِصْحَابِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ حَيْثُ لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِغَالِهَا، وَلَا يَصْلُحُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ إِلَّا لِمَنْ عَرَفَ أَنْوَاعَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَسَبَرَهَا، فَإِنْ قَطَعَ - مَعَ ذَلِكَ - بِانْتِفَاءِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، قَطَعَ بِنَفْيِ الْوُجُوبِ أَوِ التَّحْرِيمِ، كَمَا يَقْطَعُ بِانْتِفَاءِ فَرِيضَةِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ، أَوْ صِيَامِ شَهْرٍ غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ، أَوْ حَجَّةٍ غَيْرَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا كُلُّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِنُصُوصٍ مُصَرَّحَةٍ بِذَلِكَ، وَإِنْ ظَنَّ انْتِفَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، ظَنَّ انْتِفَاءَ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ قِطْعٍ. وَالْمَسْلَكُ الثَّانِي: أَنْ يُذْكَرَ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ الْعَامَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا لَمْ يُوجِبْهُ الشَّرْعُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهُ، فَإِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، كَحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ هَذَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ مَعَهُ، وَمِثْلِ «قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْحَجِّ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَقَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ

عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَمِثْلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» . وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى مِثْلِ هَذَا أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] [الْأَنْعَامِ: 145] ، فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ تَحْرِيمُهُ، فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] [الْأَنْعَامِ: 119] ، فَعَنَّفَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، مُعَلِّلًا بِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ لَهُمُ الْحَرَامَ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَإِلَّا لَمَا أَلْحَقَ اللَّوْمَ بِمَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ مِمَّا لَمْ يَنُصَّ لَهُ عَلَى حِلِّهِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ لَمْ يَنُصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ مَسْأَلَةِ حُكْمِ الْأَعْيَانِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ: هَلْ هُوَ الْحَظْرُ أَوِ الْإِبَاحَةُ، أَوْ لَا حُكْمَ فِيهَا؟ فَإِنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، فَأَمَّا بَعْدَ وُرُودِهِ، فَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ النُّصُوصُ وَأَشْبَاهُهَا عَلَى أَنَّ حُكْمَ ذَاكَ الْأَصْلِ زَالَ وَاسْتَقَرَّ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ. وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَغَلَّطُوا مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَجَعَلَ حُكْمَهُمَا وَاحِدًا. وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَدْخُلُ فِي نُصُوصِ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُ

مَعْفُوٌّ عَنْهُ. قَالَ أَبُو الْحَارِثِ: قُلْتُ: لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي أَحْمَدَ -: إِنَّ أَصْحَابَ الطَّيْرِ يَذْبَحُونَ مِنَ الطَّيْرِ شَيْئًا لَا نَعْرِفُهُ، فَمَا تَرَى فِي أَكْلِهِ؟ فَقَالَ: كُلْ مَا لَمْ يَكُنْ ذَا مِخْلَبٍ أَوْ يَأْكُلُ الْجِيَفَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَحَصَرَ تَحْرِيمَ الطَّيْرِ فِي ذِي الْمِخْلَبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَمَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْغُرَابِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَحَكَمَ بِإِبَاحَةِ مَا عَدَاهُمَا. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا، وَحَدِيثُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ فِيهِ النَّهْيُ عَنِ السُّؤَالِ عَنِ الْجُبْنِ وَالسَّمْنِ وَالْفِرَاءِ، فَإِنَّ الْجُبْنَ كَانَ يُصْنَعُ بِأَرْضِ الْمَجُوسِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَذَلِكَ السَّمْنُ، وَكَذَلِكَ الْفِرَاءُ تُجْلَبُ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ، وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إِبَاحَةِ لَبَنِ الْمَيْتَةِ وَأَنْفِحَتِهَا، وَعَلَى إِبَاحَةِ طَعَامِ الْمَجُوسِ، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اشْتَبَهَ الْأَمْرُ، لَمْ يَجِبِ السُّؤَالُ وَالْبَحْثُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ لِمَّا سُئِلَ عَنِ الْجُبْنِ الَّذِي يَصْنَعُهُ الْمَجُوسُ، فَقَالَ: مَا وَجَدْتُهُ فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ اشْتَرَيْتُهُ وَلَمْ أَسْأَلْ عَنْهُ، وَذُكِرَ عِنْدَ عُمَرَ الْجُبْنَ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ يُصْنَعُ بِأَنَافِحَ الْمَيْتَةِ، فَقَالَ: سَمُّوا اللَّهَ وَكُلُوا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَصَحُّ حَدِيثٍ فِيهِ هَذَا الْحَدِيثُ، يَعْنِي: جَبُنَ الْمَجُوسِ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِجُبْنَةٍ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُصْنَعُ هَذِهِ؟ قَالُوا: بِفَارِسَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ضَعُوا فِيهَا السِّكِّينَ وَاقْطَعُوا، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا» خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَسُئِلَ عَنْهُ، فَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ.

وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ مُنْكَرٌ أَيْضًا. وَخَرَّجَهُ عَبْدُ الرَّازِقِ فِي كِتَابِهِ مُرْسَلًا، وَهُوَ أَشْبَهُ، وَعِنْدَهُ زِيَادَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ «قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَخْشَى أَنْ تَكُونَ مَيْتَةً؟ قَالَ: سَمُّوا عَلَيْهِ وَكُلُوهُ» . وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، لَكِنَّهُ غَرِيبٌ جِدًّا. وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ «قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوا قُلْتُ: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ» . وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنِ الْحَسَنِ «أَنَّ عُمَرَ أَرَادَ أَنْ يَنْهَى عَنْ حُلَلِ الْحِبَرَةِ، لِأَنَّهَا تُصْبَغُ بِالْبَوْلِ، فَقَالَ لَهُ أُبَيٌّ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، قَدْ لَبِسَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَبِسْنَاهُنَّ فِي عَهْدِهِ» ، وَخَرَّجَهُ الْخَلَّالُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَعِنْدَهُ: «أَنَّ أُبَيًّا قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ لَبِسَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَأَى اللَّهُ مَكَانَهَا، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهَا حَرَامٌ لَنَهَى عَنْهَا، فَقَالَ: صَدَقْتَ» . وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ لُبْسِ مَا يَصْنَعُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ، فَقَالَ:

لِمَ تَسْأَلُ عَمَّا لَا تَعْلَمُ، لَمْ يَزَلِ النَّاسُ مُنْذُ أَدْرَكْنَاهُمْ لَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ. وَسُئِلَ عَنْ يَهُودَ يَصْبُغُونَ بِالْبَوْلِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَلَا تَسْأَلْ عَنْ هَذَا، وَلَا تَبْحَثْ عَنْهُ، وَقَالَ: إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا مَحَالَةَ يَصْبُغُ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَوْلِ، وَصَحَّ عِنْدَكَ، فَلَا تُصَلِّ فِيهِ حَتَّى تَغْسِلَهُ. وَخَرَّجَ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى إِلَيْهِ خُفَّانِ، فَلَبِسَهُمَا وَلَا يَعْلَمُ أَذَكِيٌّ هُمَا أَمْ لَا» . وَقَدْ وَرَدَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ، فَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ رَجُلٍ «عَنْ أُمِّ مُسْلِمٍ الْأَشْجَعِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهَا وَهِيَ فِي قُبَّةٍ فَقَالَ: مَا أَحْسَنَهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَيْتَةٌ قَالَتْ: فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهَا» . وَالرَّجُلُ مَجْهُولٌ. وَخَرَّجَ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بِأَذْرَبِيجَانَ: إِنَّكُمْ بِأَرْضٍ فِيهَا الْمَيْتَةُ، فَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الْفِرَاءِ حَتَّى تَعْلَمُوا حِلَّهُ مِنْ حَرَامِهِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى عَلَى رَجُلٍ فَرْوًا، فَمَسَّهُ، وَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ ذَكِيٌّ، لَسَرَّنِي أَنْ يَكُونَ لِي مِنْهُ ثَوْبٌ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَتَّخِذِي لِحَافًا مِنَ الْفِرَاءِ؟ قَالَتْ: كَرِهْتُ أَنْ أَلْبَسَ الْمَيْتَةَ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّازَّقِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ نَزَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِفَارِسَ: إِذَا اشْتَرَيْتُمْ لَحْمًا فَسَلُوا، إِنْ كَانَ ذَبِيحَةَ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ، فَكُلُوا. وَهَذَا لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَهْلِ فَارِسَ الْمَجُوسِ ذَبَائِحُهُمْ مُحَرَّمَةٌ.

وَالْخِلَافُ فِي هَذَا يُشْبِهُ الْخِلَافَ فِي إِبَاحَةِ طَعَامِ مَنْ لَا تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَفِي اسْتِعْمَالِ أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ وَثِيَابِهِمْ، وَالْخِلَافُ فِيهَا يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ» . وَقَوْلُهُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَكَتَ عَنْهَا: رَحْمَةً مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ يَعْنِي أَنَّهُ إِنَّمَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِهَا رَحْمَةً بِعِبَادِهِ، وَرِفْقًا، حَيْثُ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعَاقِبَهُمْ عَلَى فِعْلِهَا، وَلَمْ يُوجِبْهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعَاقِبَهُمْ عَلَى تَرْكِهَا، بَلْ جَعَلَهَا عَفْوًا، فَإِنْ فَعَلُوهَا، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ تَرَكُوهَا فَكَذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: ثُمَّ تَلَا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] [مَرْيَمَ: 64] وَمِثْلُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] [طه: 52] . وَقَوْلُهُ: فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا يَحْتَمِلُ اخْتِصَاصَ هَذَا النَّهْيِ بِزَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ عَمَّا لَمْ يُذْكَرْ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِنُزُولِ التَّشْدِيدِ فِيهِ بِإِيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، وَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَامًّا، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ سَلْمَانَ مِنْ قَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ عَنْ حُكْمِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْوَاجِبَاتِ وَلَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ، قَدْ يُوجِبُ اعْتِقَادَ تَحْرِيمِهِ، أَوْ إِيجَابِهِ، لِمُشَابَهَتِهِ لِبَعْضِ الْوَاجِبَاتِ أَوِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَقَبُولُ الْعَافِيَةِ فِيهِ، وَتَرْكُ الْبَحْثِ عَنْهُ وَالسُّؤَالِ خَيْرٌ، وَقَدْ يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلَكَ

الْمُتَنَطِّعُونَ، قَالَهَا ثَلَاثًا» . خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا، وَالْمُتَنَطِّعُ: هُوَ الْمُتَعَمِّقُ الْبَحَّاثُ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ، وَهَذَا قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَيَنْفِي الْمَعَانِيَ وَالْقِيَاسَ كَالظَّاهِرِيَّةِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْبَحْثَ عَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ نَصٌّ خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْحَثَ عَنْ دُخُولِهِ فِي دَلَالَاتِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْفَحْوَى وَالْمَفْهُومِ وَالْقِيَاسِ الظَّاهِرِ الصَّحِيحِ، فَهَذَا حَقٌّ، وَهُوَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ فِعْلُهُ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُدَقِّقَ النَّاظِرُ نَظَرَهُ وَفِكْرَهُ فِي وُجُوهِ الْفُرُوقِ الْمُسْتَبْعَدَةِ، فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ بِمُجَرَّدِ فَرْقٍ لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي الشَّرْعِ، مَعَ وُجُودِ الْأَوْصَافِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجَمْعِ، أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقَيْنِ بِمُجَرَّدِ الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُنَاسِبَةٍ، وَلَا يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى تَأْثِيرِهَا فِي الشَّرْعِ، فَهَذَا النَّظَرُ وَالْبَحْثُ غَيْرُ مَرَضِيٍّ وَلَا مَحْمُودٍ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا الْمَحْمُودُ النَّظَرُ الْمُوَافِقُ لِنَظَرِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِقَوْلِهِ: إِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، إِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ، يَعْنِي مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نَكْتَفِيَ بِالْخَيَالَاتِ فِي الْفُرُوقِ، كَدَأْبِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَالسِّرُّ فِي تِلْكَ أَنَّ مُتَعَلَّقَ الْأَحْكَامِ فِي الْحَالِ الظُّنُونُ وَغَلَبَاتُهَا، فَإِذَا كَانَ اجْتِمَاعُ مَسْأَلَتَيْنِ أَظْهَرَ فِي الظَّنِّ مِنَ افْتِرَاقِهِمَا، وَجَبَ الْقَضَاءُ بِاجْتِمَاعِهِمَا، وَإِنِ انْقَدَحَ فَرْقٌ عَلَى بُعْدٍ، فَافْهَمُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ. انْتَهَى.

وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّعَمُّقِ وَالْبَحْثِ عَنْهُ أُمُورُ الْغَيْبِ الْخَبَرِيَّةِ الَّتِي أُمِرَ بِالْإِيمَانِ بِهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهَا، وَبَعْضُهَا قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ شَاهِدٌ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْمَحْسُوسِ، فَالْبَحْثُ عَنْ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ هُوَ مِمَّا لَا يَعْنِي، وَهُوَ مِمَّا يَنْهَى عَنْهُ، وَقَدْ يُوجِبُ الْحَيْرَةَ وَالشَّكَّ، وَيَرْتَقِي إِلَى التَّكْذِيبِ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ يَسْأَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ يَسْأَلُونَكُمْ عَنِ الْعِلْمِ، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَلَقَنَا، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: «لَيَسْأَلَنَّكُمُ النَّاسُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى يَقُولُوا: اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَهُ؟» وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَفْظُهُ: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يَزَالُونَ يَقُولُونَ: مَا كَذَا مَا كَذَا، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟» . وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَفْظُهُ: «لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ: هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟» . قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: لَا يَجُوزُ التَّفَكُّرُ فِي الْخَالِقِ، وَيَجُوزُ لِلْعِبَادِ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي الْمَخْلُوقِينَ بِمَا سَمِعُوا فِيهِمْ، وَلَا يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا تَاهُوا، قَالَ: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] [الْإِسْرَاءِ: 44] ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ تَسَبِّحُ الْقِصَاعُ، وَالْأَخْوِنَةُ، وَالْخُبْزُ الْمَخْبُوزُ، وَالثِّيَابُ الْمَنْسُوجَةُ؟ وَكُلُّ هَذَا قَدْ صَحَّ الْعِلْمُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ، فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ تَسْبِيحَهُمْ كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ، وَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يَخُوضُوا فِي ذَلِكَ إِلَّا

بِمَا عَلِمُوا، وَلَا يَتَكَلَّمُوا فِي هَذَا وَشَبَهِهِ إِلَّا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ، وَلَا يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَلَا تَخُوضُوا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَشَابِهَةِ، فَإِنَّهُ يُرْدِيكُمُ الْخَوْضُ فِيهِ عَنْ سُنَنِ الْحَقِّ. نَقَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ حَرْبٌ عَنْ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ.

[الحديث الحادي والثلاثون ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس]

[الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ]

الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ. عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ، وَأَحَبَّنِي النَّاسُ، فَقَالَ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَشِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ إِسْنَادَهُ حَسَنٌ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، فَإِنَّ خَالِدَ بْنَ عَمْرٍو الْقُرَشِيَّ الْأُمَوِيَّ قَالَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ مَرَّةً: لَيْسَ بِثِقَةٍ، يَرْوِي أَحَادِيثَ بَوَاطِيلَ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ حَدِيثُهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ مَرَّةً: كَانَ كَذَّابًا يَكْذِبُ، حَدَّثَ عَنْ شُعْبَةَ

أَحَادِيثَ مَوْضُوعَةً، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو زُرْعَةَ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ ضَعِيفٌ، وَنَسَبَهُ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَابْنُ عَدِيٍّ إِلَى وَضْعِ الْحَدِيثِ، وَتَنَاقَضَ ابْنُ حِبَّانَ فِي أَمْرِهِ، فَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ " الثِّقَاتِ " وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ " الضُّعَفَاءِ " وَقَالَ: كَانَ يَنْفَرِدُ عَنِ الثِّقَاتِ بِالْمَوْضُوعَاتِ، لَا يَحِلُّ الِاحْتِجَاجُ بِخَبَرِهِ، وَخَرَّجَ الْعُقَيْلِيُّ حَدِيثَهُ هَذَا وَقَالَ: لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، قَالَ: وَقَدْ تَابَعَ خَالِدًا عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الصَّنْعَانِيُّ، وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ عَنْهُ وَدَلَّسَهُ، لِأَنَّ الْمَشْهُورَ بِهِ خَالِدٌ هَذَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: وَتَابَعَهُ أَيْضًا أَبُو قَتَادَةَ الْحَرَّانِيُّ وَمِهْرَانُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الرَّازِيُّ، فَرَوَوْهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ: وَأَشْهَرُهَا حَدِيثُ ابْنِ كَثِيرٍ. كَذَا قَالَ، وَهَذَا يُخَالِفُ قَوْلَ الْعُقَيْلِيِّ: إِنَّ أَشْهَرَهَا حَدِيثُ خَالِدِ بْنِ عَمْرٍو، وَهَذَا أَصَحُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الصَّنْعَانِيُّ هُوَ الْمِصِّيصِيُّ، ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ. وَأَبُو قَتَادَةَ وَمِهْرَانُ تَكَلَّمَ فِيهِمَا أَيْضًا، لَكِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ كَثِيرٍ خَيْرٌ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ ثِقَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْحُفَّاظِ. وَقَدْ تَعَجَّبَ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِهِ هَذَا، وَقَالَ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ فِيهِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَاهُ عَنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ، يَعْنِي بِهَذَا الْإِسْنَادِ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ. وَقَالَ ابْنُ مُشَيْشٍ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ - تَعَجُّبًا مِنْهُ - مَنْ يَرْوِي هَذَا؟ قُلْتُ:

خَالِدُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: وَقَعْنَا فِي خَالِدِ بْنِ عَمْرٍو، ثُمَّ سَكَتَ، وَمُرَادُهُ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ ذَكَرَ لَهُ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِ خَالِدٍ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَغَلُ بِهِ. وَخَرَّجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ " الْمَوَاعِظِ " لَهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ عَمْرٍو، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ مُنْكِرًا لِهَذَا الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَنِي هَذَا الشَّيْخُ يَعْنِي عَنْ وَكِيعٍ: أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْهُ، وَلَوْلَا مَقَالَتُهُ هَذِهِ لَتَرَكْتُهُ. وَخَرَّجَ ابْنُ عَدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَرْجَمَةِ خَالِدِ بْنِ عَمْرٍو، وَذَكَرَ رِوَايَةَ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ لَهُ أَيْضًا، وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ الثَّوْرِيِّ مُنْكَرٌ، وَقَالَ: وَرَوَاهُ زَافِرٌ - يَعْنِي ابْنَ سَلْمَانَ - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُيَيْنَةَ أَخِي سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. انْتَهَى، وَزَافِرٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا ضَعِيفٌ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلٌ: أَخْرَجَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ بْنُ زَبْرٍ الدِّمَشْقِيُّ فِي " مُسْنَدِ " إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ مِنْ جَمْعِهِ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُحِبُّنِي اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيُحِبُّنِي النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي يُحِبُّكَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَازْهَدْ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي يُحِبُّكَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَانْظُرْ هَذَا الْحُطَامَ، فَانْبِذْهُ إِلَيْهِمْ» .

وَخَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ " ذَمِّ الدُّنْيَا " مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ بِكَارٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي إِسْنَادِهِ مَنْصُورًا وَلَا رِبْعِيًّا، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: «فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ مَا فِي يَدَيْكَ مِنَ الْحُطَامِ» . وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى وَصِيَّتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ مُقْتَضٍ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِعَبْدِهِ. وَالثَّانِيَةُ: الزُّهْدُ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنَّهُ مُقْتَضٍ لِمَحَبَّةِ النَّاسِ. فَأَمَّا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَدْحِهِ، وَإِلَى ذَمِّ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 - 17] [الْأَعْلَى: 17] ، وَقَالَ تَعَالَى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67] [الْأَنْفَالِ: 67] وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَارُونَ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ - وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 79 - 80] إِلَى قَوْلِهِ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] [الْقَصَصِ: 79 - 83] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26] [الرَّعْدِ: 26] وَقَالَ {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77] [النِّسَاءِ: 77] . وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ:

{يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ - يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 38 - 39] [غَافِرٍ: 38 - 39] . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الدُّنْيَا بِعَمَلِهِ وَسَعْيِهِ وَنِيَّتِهِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ " الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ ". وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَمِّ الدُّنْيَا وَحَقَارَتِهَا عِنْدَ اللَّهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ جَابِرٍ عَنِ «النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالسُّوقِ وَالنَّاسُ كَنَفَيْهِ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ، فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ، لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ، لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ» . وَفِيهِ أَيْضًا عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ الْفِهْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ أُصْبُعَهُ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَاذَا تَرْجِعُ» . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» صَحَّحَهُ.

وَمَعْنَى الزُّهْدِ فِي الشَّيْءِ: الْإِعْرَاضُ عَنْهُ لِاسْتِقْلَالِهِ، وَاحْتِقَارِهِ، وَارْتِفَاعِ الْهِمَّةِ عَنْهُ، يُقَالُ: شَيْءٌ زَهِيدٌ، أَيْ: قَلِيلٌ حَقِيرٌ. وَقَدْ تَكَلَّمَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَتَنَوَّعَتْ عِبَارَاتُهُمْ عَنْهُ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ وَاقَدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ حَلْبَسٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَلَا إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا تَكُونَ بِمَا فِي يَدَيْكَ أَوْثَقُ مِمَّا فِي يَدِ اللَّهِ، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إِذَا أَنْتَ أُصِبْتَ بِهَا أَرْغَبَ فِيهَا لَوْ أَنَّهَا بَقِيَتْ لَكَ» . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَعَمْرُو بْنُ وَاقَدٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ وَقْفُهُ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ " الزُّهْدِ "، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ يَحْيَى الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ صُبَيْحٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَلْبَسَ قَالَ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ: لَيْسَ الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَلَا إِضَاعَةِ الْمَالِ، إِنَّمَا الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا أَنْ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْكَ بِمَا فِي يَدَيْكَ، وَإِذَا أُصِبْتَ بِمُصِيبَةٍ، كُنْتَ أَشَدَّ رَجَاءً لِأَجْرِهَا وَذُخْرِهَا مِنْ إِيَّاهَا لَوْ بَقِيَتْ لَكَ. وَخَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ رَاوِيَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ، قَالَ: لَيْسَ الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَلَا إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَنْ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْكَ بِمَا فِي يَدِكَ، وَأَنْ تَكُونَ حَالُكَ فِي

الْمُصِيبَةِ وَحَالُكَ إِذَا لَمْ تُصَبْ بِهَا سَوَاءً، وَأَنْ يَكُونَ مَادِحُكَ وَذَامُّكَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً. فَفَسَّرَ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ كُلُّهَا مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، لَا مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَلِهَذَا كَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ يَقُولُ: لَا تَشْهَدْ لِأَحَدٍ بِالزُّهْدِ، فَإِنَّ الزُّهْدَ فِي الْقَلْبِ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْهُ بِمَا فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَهَذَا يَنْشَأُ مِنْ صِحَّةِ الْيَقِينِ وَقُوَّتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ ضِمِنَ أَرْزَاقَ عِبَادِهِ، وَتَكَفَّلَ بِهَا، كَمَا قَالَ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] [هُودٍ: 6] ، وَقَالَ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] [الذَّارِيَاتِ: 22] ، وَقَالَ: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت: 17] [الْعَنْكَبُوتِ: 17] . وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ مِنْ ضَعْفِ يَقِينِكَ أَنْ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِكَ أَوْثَقَ مِنْكَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ أَرْجَى مَا أَكُونُ لِلرِّزْقِ إِذَا قَالُوا لَيْسَ فِي الْبَيْتِ دَقِيقٌ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا أَكُونُ ظَنًّا حِينَ يَقُولُ الْخَادِمُ: لَيْسَ فِي الْبَيْتِ قَفِيزٌ مِنْ قَمْحٍ وَلَا دِرْهَمٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَسَرُّ أَيَّامِي إِلَيَّ يَوْمٌ أُصْبِحُ وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ. وَقِيلَ لِأَبِي حَازِمٍ الزَّاهِدِ: مَا مَالُكَ؟ قَالَ: لِي مَالَانِ لَا أَخْشَى مَعَهُمَا الْفَقْرَ: الثِّقَةُ بِاللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ. وَقِيلَ لَهُ: أَمَا تَخَافُ الْفَقْرَ؟ فَقَالَ: أَنَا أَخَافُ الْفَقْرَ وَمَوْلَايَ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى؟ !

وَدُفِعَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْمُوَفَّقِ وَرَقَةً، فَقَرَأَهَا فَإِذَا فِيهَا: يَا عَلِيَّ بْنُ الْمُوَفَّقِ أَتَخَافُ الْفَقْرَ وَأَنَا رَبُّكَ؟ . وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: أَصْلُ الزُّهْدِ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ: الْقَنُوعُ هُوَ الزَّاهِدُ وَهُوَ الْغَنِيُّ. فَمَنْ حَقَّقَ الْيَقِينَ، وَثِقَ بِاللَّهِ فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا، وَرَضِيَ بِتَدْبِيرِهِ لَهُ، وَانْقَطَعَ عَنِ التَّعَلُّقِ بِالْمَخْلُوقِينَ رَجَاءً وَخَوْفًا، وَمَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ طَلَبِ الدُّنْيَا بِالْأَسْبَابِ الْمَكْرُوهَةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا حَقِيقَةً، وَكَانَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ عَمَّارٌ: كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا، وَكَفَى بِالْيَقِينِ غِنًى، وَكَفَى بِالْعِبَادَةِ شُغُلًا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْيَقِينُ أَنْ لَا تُرْضِيَ النَّاسَ بِسُخْطِ اللَّهِ، وَلَا تَحْمَدَ أَحَدًا عَلَى رِزْقِ اللَّهِ، وَلَا تَلُمْ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ، فَإِنَّ الرِّزْقَ لَا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كَرَاهَةُ كَارِهٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بِقِسْطِهِ وَعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ - جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضَا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ. وَفِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا يُبَاشِرُ قَلْبِي، وَيَقِينًا [صَادِقًا] حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُنِي رِزْقًا قَسَمْتَهُ لِي، وَرَضِّنِي مِنَ الْمَعِيشَةِ بِمَا قَسَمْتَ لِي» . وَكَانَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ لَا يَقُومُ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى يَقُولَ: اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا يَقِينًا مِنْكَ حَتَّى تُهَوِّنَ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، وَحَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُنَا إِلَّا مَا كَتَبْتَ

عَلَيْنَا، وَلَا يُصِيبُنَا مِنَ الرِّزْقِ إِلَّا مَا قَسَمْتَ لَنَا. رُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَغْنَى النَّاسِ، فَلْيَكُنْ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْهُ بِمَا فِي يَدِهِ» . وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ إِذَا أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فِي دُنْيَاهُ مِنْ ذَهَابِ مَالٍ، أَوْ وَلَدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - أَرْغَبَ فِي ثَوَابِ ذَلِكَ مِمَّا ذَهَبَ مِنْهُ مِنَ الدُّنْيَا أَنْ يَبْقَى لَهُ، وَهَذَا أَيْضًا يَنْشَأُ مِنْ كَمَالِ الْيَقِينِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَقِلَّةِ الرَّغْبَةِ فِيهَا» ، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ زَهِدَ الدُّنْيَا، هَانَتْ عَلَيْهِ الْمُصِيبَاتُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَ الْعَبْدِ حَامِدُهُ وَذَامُّهُ فِي الْحَقِّ، وَهَذَا مِنْ عَلَامَاتِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَاحْتِقَارِهَا، وَقِلَّةِ الرَّغْبَةِ فِيهَا، فَإِنَّ مَنْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا عِنْدَهُ أَحَبَّ

الْمَدْحَ وَكَرِهَ الذَّمَّ، فَرُبَّمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ كَثِيرٍ مِنَ الْحَقِّ خَشْيَةَ الذَّمِّ، وَعَلَى فِعْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْبَاطِلِ رَجَاءَ الْمَدْحِ، فَمَنِ اسْتَوَى عِنْدَهُ حَامِدُهُ وَذَامُّهُ فِي الْحَقِّ، دَلَّ عَلَى سُقُوطِ مَنْزِلَةِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ قَلْبِهِ، وَامْتِلَائِهِ مِنْ مَحَبَّةِ الْحَقِّ، وَمَا فِيهِ رِضَا مَوْلَاهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْيَقِينُ أَنْ لَا تُرْضِيَ النَّاسَ بِسُخْطِ اللَّهِ. وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ الَّذِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ عِبَارَاتٌ أُخَرُ فِي تَفْسِيرِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَكُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، كَقَوْلِ الْحَسَنِ: الزَّاهِدُ الَّذِي إِذَا رَأَى أَحَدًا قَالَ: هُوَ أَفْضَلُ مِنِّي، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الزَّاهِدَ حَقِيقَةً هُوَ الزَّاهِدُ فِي مَدْحِ نَفْسِهِ وَتَعْظِيمِهَا، وَلِهَذَا يُقَالُ: الزُّهْدُ فِي الرِّيَاسَةِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَمَنْ أَخْرَجَ مِنْ قَلْبِهِ حُبَّ الرِّيَاسَةِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّرَفُّعَ فِيهَا عَلَى النَّاسِ، فَهُوَ الزَّاهِدُ حَقًّا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَسْتَوِي عِنْدَهُ حَامِدُهُ وَذَامُّهُ فِي الْحَقِّ، وَكَقَوْلِ وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا تَأْسَى عَلَى مَا فَاتَ مِنْهَا، وَلَا تَفْرَحَ بِمَا آتَاكَ مِنْهَا، قَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ: هَذَا هُوَ الزَّاهِدُ الْمُبْرِزُ فِي زُهْدِهِ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَوِي عِنْدَ الْعَبْدِ إِدْبَارُهَا وَإِقْبَالُهَا وَزِيَادَتُهَا وَنَقْصُهَا، وَهُوَ مِثْلُ اسْتِوَاءِ حَالِ الْمُصِيبَةِ وَعَدَمِهَا كَمَا سَبَقَ. وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ - أَظُنُّهُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - عَمَّنْ مَعَهُ مَالٌ، هَلْ يَكُونُ زَاهِدًا؟ قَالَ: إِنْ كَانَ لَا يَفْرَحُ بِزِيَادَتِهِ وَلَا يَحْزَنُ بِنَقْصِهِ، أَوْ كَمَا قَالَ. وَسُئِلَ الزُّهْرِيُّ عَنِ الزَّاهِدِ فَقَالَ: مَنْ لَمْ يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبْرَهُ، وَلَمْ يَشْغَلِ الْحَلَالُ شُكْرَهُ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الزَّاهِدَ فِي الدُّنْيَا إِذَا قَدَرَ

مِنْهَا عَلَى حَرَامٍ، صَبَرَ عَنْهُ، فَلَمْ يَأْخُذْهُ، وَإِذَا حَصَلَ لَهُ مِنْهَا حَلَالٌ، لَمْ يَشْغَلْهُ عَنِ الشُّكْرِ، بَلْ قَامَ بِشُكْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحُوَارَى: قُلْتُ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: مَنِ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: مَنْ إِذَا أُنْعِمَ عَلَيْهِ شَكَرَ، وَإِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَدْ أُنْعِمَ عَلَيْهِ فَشَكَرَ، وَإِذَا ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَحُبِسَ النِّعْمَةَ، كَيْفَ يَكُونُ زَاهِدًا؟ فَقَالَ: اسْكُتْ، مَنْ لَمْ تَمْنَعْهُ النَّعْمَاءُ مِنَ الشُّكْرِ، وَلَا الْبَلْوَى مِنَ الصَّبْرِ، فَذَلِكَ الزَّاهِدُ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: رَأْسُ الزَّهَادَةِ جَمْعُ الْأَشْيَاءِ بِحَقِّهَا، وَوَضْعُهَا فِي حَقِّهَا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قِصَرُ الْأَمَلِ، لَيْسَ بِأَكْلِ الْغَلِيظِ، وَلَا بِلُبْسِ الْعَبَاءِ. وَقَالَ: كَانَ مِنْ دُعَائِهِمْ: اللَّهُمَّ زَهِّدْنَا فِي الدُّنْيَا، وَوَسِّعْ عَلَيْنَا مِنْهَا، وَلَا تَزْوِهَا عَنَّا، فَتُرَغِّبْنَا فِيهَا. وَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا: قِصَرُ الْأَمَلِ، وَقَالَ مَرَّةً: قِصَرُ الْأَمَلِ وَالْيَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ. وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ قِصَرَ الْأَمَلِ يُوجِبُ مَحَبَّةَ لِقَاءِ اللَّهِ، بِالْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا، وَطُولَ الْأَمَلِ يَقْتَضِي مَحَبَّةَ الْبَقَاءِ فِيهَا، فَمَنْ قَصُرَ أَمَلُهُ، فَقَدْ كَرِهَ الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا نِهَايَةُ الزُّهْدِ فِيهَا، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عُيَيْنَةَ لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] [الْبَقَرَةِ: 94 - 96] الْآيَةَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ: «أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَزْهَدُ النَّاسِ؟ فَقَالَ: مِنْ لَمْ يَنْسَ الْقَبْرَ وَالْبِلَى، وَتَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، وَآثَرَ مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، وَلَمْ يَعُدَّ غَدًا مِنْ أَيَّامِهِ وَعَدَّ

نَفْسَهُ مِنَ الْمَوْتَى» وَهَذَا مُرْسَلٌ. وَقَدْ قَسَّمَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ الزُّهْدَ أَقْسَامًا: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَفْضَلُ الزُّهْدِ الزُّهْدُ فِي الشِّرْكِ، وَفِي عِبَادَةِ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، ثُمَّ الزُّهْدُ فِي الْحَرَامِ كُلِّهِ مِنَ الْمَعَاصِي، ثُمَّ الزُّهْدُ فِي الْحَلَالِ، وَهُوَ أَقَلُّ أَقْسَامِ الزُّهْدِ، فَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ مِنْ هَذَا الزُّهْدِ، كِلَاهُمَا وَاجِبٌ، وَالثَّالِثُ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَإِنَّ أَعْظَمَ الْوَاجِبَاتِ الزُّهْدُ فِي الشِّرْكِ، ثُمَّ فِي الْمَعَاصِي كُلِّهَا. وَكَانَ بَكْرٌ الْمُزَنِيُّ يَدْعُو لِإِخْوَانِهِ: زَهَّدَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ زُهْدَ مَنْ أَمْكَنَهُ الْحَرَامَ وَالذُّنُوبَ فِي الْخَلَوَاتِ، فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ فَتَرَكَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: قَالَ سَلَامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ: الزُّهْدُ عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: وَاحِدٌ أَنْ يُخْلِصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْقَوْلَ، وَلَا يُرَادُ بِشَيْءٍ مِنْهُ الدُّنْيَا، وَالثَّانِي: تَرْكُ مَا لَا يَصْلُحُ، وَالْعَمَلُ بِمَا يَصْلُحُ، وَالثَّالِثُ: الْحَلَالُ أَنْ يَزْهَدَ فِيهِ وَهُوَ تَطَوُّعٌ، وَهُوَ أَدْنَاهَا. وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الدَّرَجَةَ الْأُولَى مِنَ الزُّهْدِ الزُّهْدَ فِي الرِّيَاءِ الْمُنَافِي لِلْإِخْلَاصِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَهُوَ الشَّرَكُ الْأَصْغَرُ، وَالْحَامِلُ عَلَيْهِ مَحَبَّةِ الْمَدْحِ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّقَدُّمِ عِنْدَ أَهْلِهَا، وَهُوَ مِنْ نَوْعِ مَحَبَّةِ الْعُلُوِّ فِيهَا وَالرِّيَاسَةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: الزُّهْدُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: فَزُهْدُ فَرْضٍ، وَزُهْدُ فَضْلٍ، وَزُهْدُ سَلَامَةٍ، فَالزُّهْدُ الْفَرْضُ: الزُّهْدُ فِي الْحَرَامِ، وَالزُّهْدُ الْفَضْلُ: الزُّهْدُ فِي الْحَلَالِ، وَالزُّهْدُ السَّلَامَةُ: الزُّهْدُ فِي الشُّبَهَاتِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ يَسْتَحِقُّ اسْمَ الزَّاهِدِ مَنْ زَهِدَ فِي الْحَرَامِ خَاصَّةً،

وَلَمْ يَزْهَدْ فِي فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ اسْمَ الزُّهْدِ بِذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِمَا. وَالثَّانِي: لَا يُسْتَحَقُّ اسْمُ الزُّهْدِ بِدُونِ الزُّهْدِ فِي فُضُولِ الْمُبَاحِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا زُهْدَ الْيَوْمَ لِفَقْدِ الْمُبَاحِ الْمَحْضِ، وَهُوَ قَوْلُ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ وَغَيْرِهِ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ. وَكَانَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ يَقُولُ: وَمَا قَدْرُ الدُّنْيَا حَتَّى يُمْدَحَ مَنْ زَهِدَ فِيهَا؟ وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: اخْتَلَفُوا عَلَيْنَا فِي الزُّهْدِ بِالْعِرَاقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الزُّهْدُ فِي تَرْكِ لِقَاءِ النَّاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي تَرْكِ الشَّهَوَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي تَرْكِ الشِّبَعِ، وَكَلَامُهُمْ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، قَالَ: وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الزُّهْدَ فِي تَرْكِ مَا يَشْغَلُكَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ حَسَنٌ، وَهُوَ يَجْمَعُ جَمِيعَ مَعَانِي الزُّهْدِ وَأَقْسَامِهِ وَأَنْوَاعِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الذَّمَّ الْوَارِدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِلدُّنْيَا لَيْسَ رَاجِعًا إِلَى زَمَانِهَا الَّذِي هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، الْمُتَعَاقِبَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمَا خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شَكُورًا. وَيُرْوَى عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِزَانَتَانِ، فَانْظُرُوا مَا تَصْنَعُونَ فِيهِمَا. وَكَانَ يَقُولُ: اعْمَلُوا اللَّيْلَ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَالنَّهَارَ لِمَا خُلِقَ لَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ يَوْمٍ إِلَّا يَقُولُ: ابْنَ آدَمَ قَدْ دَخَلْتُ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، وَلَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَانْظُرْ مَاذَا تَعْمَلُ فِيَّ، فَإِذَا انْقَضَى طُوِيَ، ثُمَّ يُخْتَمُ عَلَيْهِ، فَلَا يُفَكُّ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَفُضُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا لَيْلَةٍ إِلَّا تَقُولُ

كَذَلِكَ، وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّمَا الدُّنْيَا إِلَى الْجَنَّـ ... ـةِ وَالنَّارُ طَرِيقُ وَاللَّيَالِي مَتْجَرُ الْإِنْـ ... ـسَانِ وَالْأَيَّامُ سُوقُ وَلَيْسَ الذَّمُّ رَاجِعًا إِلَى مَكَانِ الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ الْأَرْضُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِبَنِي آدَمَ مِهَادًا وَسَكَنًا، وَلَا إِلَى مَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْمَعَادِنِ، وَلَا إِلَى مَا أَنْبَتَهُ فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ، وَلَا إِلَى مَا بَثَّ فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَلَهُمْ بِهِ مِنَ الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ صَانِعِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَإِنَّمَا الذَّمُّ رَاجِعٌ إِلَى أَفْعَالِ بَنِي آدَمَ الْوَاقِعَةِ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ غَالِبَهَا وَاقِعٌ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ، بَلْ يَقَعُ عَلَى مَا تَضُرُّ عَاقِبَتُهُ، أَوْ لَا تَنْفَعُ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد: 20] [الْحَدِيدِ: 20] . وَانْقَسَمَ بَنُو آدَمَ فِي الدُّنْيَا إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ لِلْعِبَادِ بَعْدَ الدُّنْيَا دَارٌ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ - أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7 - 8] [يُونُسَ: 7] ، وَهَؤُلَاءِ هَمُّهُمُ التَّمَتُّعُ بِالدُّنْيَا، وَاغْتِنَامُ لَذَّاتِهَا قَبْلَ الْمَوْتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12] [مُحَمَّدٍ: 12] 0 وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ يَأْمُرُ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْهَا مُوجِبٌ الْهَمَّ وَالْغَمَّ، وَيَقُولُ: كُلَّمَا كَثُرَ التَّعَلُّقُ بِهَا، تَأَلَّمَتِ النَّفْسُ بِمُفَارَقَتِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ، فَكَانَ هَذَا غَايَةَ زُهْدِهِمْ فِي الدُّنْيَا.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ يُقِرُّ بِدَارٍ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَهُمُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى شَرَائِعِ الْمُرْسَلِينَ، وَهُمْ مُنْقَسِمُونَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمُقْتَصِدٌ، وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: هُمُ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ، وَأَكْثَرُهُمْ وَقَفَ مَعَ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، فَأَخَذَهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا، وَاسْتَعْمَلَهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهَا، وَصَارَتِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّهِ، لَهَا يَغْضَبُ، وَبِهَا يَرْضَى، وَلَهَا يُوَالِي، وَعَلَيْهَا يُعَادِي، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالزِّينَةِ وَالتَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ، وَكُلُّهُمْ لَمْ يَعْرِفِ الْمَقْصُودَ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا أَنَّهَا مَنْزِلُ سَفَرٍ يُتَزَوَّدُ مِنْهَا لِمَا بَعْدَهَا مِنْ دَارِ الْإِقَامَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ يُؤْمِنُ بِذَلِكَ إِيمَانًا مُجْمَلًا، فَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ مُفَصَّلًا، وَلَا ذَاقَ مَا ذَاقَهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ فِي الدُّنْيَا مِمَّا هُوَ أُنْمُوذَجُ مَا ادُّخِرَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالْمُقْتَصِدُ مِنْهُمْ أَخَذَ الدُّنْيَا مِنْ وُجُوهِهَا الْمُبَاحَةِ، وَأَدَّى وَاجِبَاتِهَا، وَأَمْسَكَ لِنَفَسِهِ الزَّائِدَ عَلَى الْوَاجِبِ، يَتَوَسَّعُ بِهِ فِي التَّمَتُّعِ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا، وَهَؤُلَاءِ قَدِ اخْتُلِفَ فِي دُخُولِهِمْ فِي اسْمِ الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَلَا عِقَابَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ يُنْقَصُ مِنْ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِقَدْرِ تَوَسُّعِهِمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يُصِيبُ عَبْدٌ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا إِلَّا نَقَصَ مِنْ دَرَجَاتِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ كَرِيمًا، خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ " الزُّهْدِ " بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَكَسَاهُ، فَخَرَجَ فَمَرَّ عَلَى أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَرَجُلٍ آخَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لَهُ: خُذْهَا مِنْ حَسَنَاتِكَ، وَقَالَ الْآخَرُ: خُذْهَا مِنْ طَيِّبَاتِكَ.

وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تَنْقُصَ حَسَنَاتِي لَخَالَطْتُكُمْ فِي لِينِ عَيْشِكُمْ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ عَيَّرَ قَوْمًا فَقَالَ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] [الْأَحْقَافِ: 20] . وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: إِنْ شِئْتَ اسْتَقِلَّ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِنْ شِئْتَ اسْتَكْثِرْ مِنْهَا، فَإِنَّمَا تَأْخُذُ مِنْ كِيسِكَ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى عِبَادِهِ أَشْيَاءَ مِنْ فُضُولِ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَبَهْجَتِهَا، حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ، وَادَّخَرَهُ لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ} [الزخرف: 33] إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35] [الزُّخْرُفِ: 33 - 35] . وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» ، «وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ» . وَقَالَ: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» . وَقَالَ وَهْبٌ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي لَأَذُودُ أَوْلِيَائِي عَنْ

نَعِيمِ الدُّنْيَا وَرَخَائِهَا كَمَا يَذُودُ الرَّاعِي الشَّفِيقُ إِبِلَهُ عَنْ مَبَارِكِ الْعُرَّةِ، وَمَا ذَلِكَ لِهَوَانِهِمْ عَلَيَّ، وَلَكِنْ لِيَسْتَكْمِلُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ كَرَامَتِي سَالِمًا مُوَفَّرًا لَمْ تَكْلَمْهُ الدُّنْيَا. وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا حَمَاهُ عَنِ الدِّينَا، كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ الْمَاءَ» ، وَخَرَّجَهُ الْحَاكِمُ، وَلَفْظُهُ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَحْمِي عَبْدَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ، كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، تَخَافُونَ عَلَيْهِ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» . وَأَمَّا السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ فَهُمُ الَّذِينَ فَهِمُوا الْمُرَادَ مِنَ الدُّنْيَا، وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَى ذَلِكَ، فَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَسْكَنَ عِبَادَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا؟ كَمَا قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] [هُودٍ: 7] ، وَقَالَ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] [الْمُلْكِ: 2] . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَيَهُمُّ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا، وَأَرْغَبُ فِي الْآخِرَةِ، وَجَعَلَ مَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْبَهْجَةِ وَالنُّضْرَةِ مِحْنَةً، لِيَنْظُرَ مَنْ يَقِفُ مِنْهُمْ مَعَهُ، وَيَرْكَنُ إِلَيْهِ، وَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]

[الْكَهْفِ: 7] ثُمَّ بَيَّنَ انْقِطَاعَهُ وَنَفَادَهُ فَقَالَ: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8] [الْكَهْفِ: 8] ، فَلَمَّا فَهِمُوا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الدُّنْيَا، جَعَلُوا هَمَّهُمُ التَّزَوُّدَ مِنْهَا لِلْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، وَاكْتَفَوْا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يَكْتَفِي بِهِ الْمُسَافِرُ فِي سَفَرِهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» . وَوَصَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْ يَكُونَ بَلَاغُ أَحَدِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ مِنْهُمْ سَلْمَانُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَعَائِشَةَ، وَوَصَّى ابْنَ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّهُ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَأَنْ يَعُدَّ نَفْسَهُ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ.

وَأَهْلُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى قَدْرِ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ فَقَطْ، وَهُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِنَ الزُّهَّادِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُفْسِحُ لِنَفْسِهِ أَحْيَانًا فِي تَنَاوُلِ بَعْضِ شَهَوَاتِهَا الْمُبَاحَةِ، لِتَقْوَى النَّفْسُ بِذَلِكَ، وَتَنْشَطَ لِلْعَمَلِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وَالطَّعَامَ، فَأَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ، وَلَمْ يُصِبْ مِنَ الطَّعَامِ» . قَالَ وَهْبٌ: مَكْتُوبٌ فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ: سَاعَةٍ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٍ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٍ يَلْقَى فِيهَا إِخْوَانَهُ الَّذِينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ وَيَصْدِقُونَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَسَاعَةٍ يُخَلِّي بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّاتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ عَوْنًا عَلَى تِلْكَ السَّاعَاتِ، وَفَضْلَ بُلْغَةٍ وَاسْتِجْمَامًا لِلْقُلُوبِ، يَعْنِي تَرْوِيحًا لَهَا. وَمَتَى نَوَى الْمُؤْمِنُ بِتَنَاوُلِ شَهَوَاتِهِ الْمُبَاحَةِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ كَانَتْ شَهَوَاتُهُ لَهُ طَاعَةً يُثَابُ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: إِنِّي لَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ

قَوْمَتِي، يَعْنِي: أَنَّهُ يَنْوِي بِنَوْمِهِ التَّقَوِّي عَلَى الْقِيَامِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، فَيَحْتَسِبُ ثَوَابَ نَوْمِهِ كَمَا يَحْتَسِبُ ثَوَابَ قِيَامِهِ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ إِذَا تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ شَهَوَاتِهِ الْمُبَاحَةِ وَاسَى مِنْهَا إِخْوَانَهُ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا اشْتَهَى شَيْئًا لَمْ يَأْكُلْهُ حَتَّى يَشْتَهِيَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَيَأْكُلُهُ مَعَهُمْ، وَكَانَ إِذَا اشْتَهَى شَيْئًا، دَعَا ضَيْفًا لَهُ لِيَأْكُلَ مَعَهُ. وَكَانَ يُذْكَرُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثَةٌ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ فِي مَطْعَمِهِمْ: الْمُتَسَحِّرُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَطَعَامُ الضَّيْفِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ مِنْ حُبِّكَ الدُّنْيَا طَلَبُكَ مَا يُصْلِحُكَ فِيهَا، وَمِنْ زُهْدِكَ فِيهَا تَرْكُ الْحَاجَةِ يَسُدُّهَا عَنْكَ تَرْكُهَا، وَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا وَسَرَّتْهُ، ذَهَبَ خَوْفُ الْآخِرَةِ مِنْ قَلْبِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَتَاعُ الْغُرُورِ مَا يُلْهِيكَ عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ، وَمَا لَمْ يُلْهِكَ، فَلَيْسَ بِمَتَاعِ الْغُرُورِ وَلَكِنَّهُ مَتَاعُ بِلَاغٍ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: كَيْفَ لَا أُحِبُّ دُنْيَا قُدِّرَ لِي فِيهَا قُوتٌ أَكْتَسِبُ بِهَا حَيَاةً أُدْرِكُ بِهَا طَاعَةً أَنَالُ بِهَا الْآخِرَةَ. وَسُئِلَ أَبُو صَفْوَانَ الرُّعَيْنِيُّ - وَكَانَ مِنَ الْعَارِفِينَ -: مَا هِيَ الدُّنْيَا الَّتِي ذَمَّهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَجَنَّبَهَا؟ فَقَالَ: كُلُّ مَا أَصَبْتَ فِي الدُّنْيَا تُرِيدُ بِهِ الدُّنْيَا، فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَكُلُّ مَا أَصَبْتَ فِيهَا تُرِيدُ بِهِ الْآخِرَةَ، فَلَيْسَ مِنْهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: نِعْمَتُ الدَّارُ كَانَتِ الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَمِلَ قَلِيلًا، وَأَخَذَ زَادَهُ مِنْهَا إِلَى الْجَنَّةِ، وَبِئْسَتِ الدَّارُ كَانَتْ لِلْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ضَيَّعَ لَيَالِيَهُ، وَكَانَ زَادُهُ مِنْهَا إِلَى النَّارِ. وَقَالَ أَيْفَعُ بْنُ عَبْدٍ الْكَلَاعِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، قَالَ اللَّهُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟

قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قَالَ: نِعْمَ مَا اتَّجَرْتُمْ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضِ يَوْمٍ، رَحْمَتِي وَرِضْوَانِي وَجَنَّتِي، امْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ مُخَلَّدِينَ، ثُمَّ يَقُولُ لِأَهْلِ النَّارِ: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَيَقُولُ بِئْسَ مَا اتَّجَرْتُمْ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضِ يَوْمٍ، سُخْطِي وَمَعْصِيَتِي وَنَارِي، امْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ مُخَلَّدِينَ. وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَهْبٍ، أَنْبَأَنَا سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «نِعْمَتُ الدَّارُ الدُّنْيَا لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا لِآخِرَتِهِ حَتَّى يُرْضِيَ رَبَّهُ، وَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ صَدَّتْهُ عَنْ آخِرَتِهِ وَقَصُرَتْ بِهِ عَنْ رِضَا رَبِّهِ، وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: قَبَّحَ اللَّهُ الدُّنْيَا، قَالَتِ الدُّنْيَا: قَبَّحَ اللَّهُ أَعَصَانَا لِرَبِّهِ» وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَخَرَّجَهُ الْعُقَيْلِيُّ، وَقَالَ: عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ وَهْبٍ مَجْهُولٌ وَحَدِيثُهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، قَالَ: وَهَذَا الْكَلَامُ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ مِنْ قَوْلِهِ. وَقَوْلُ عَلِيٍّ خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْهُ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ: أَنَّ عَلِيًّا سَمِعَ رَجُلًا يَسُبُّ الدُّنْيَا، فَقَالَ: إِنَّهَا لَدَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَّقَهَا، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا، مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللَّهِ، وَمَهْبِطُ وَحْيِهِ، وَمُصَلَّى مَلَائِكَتِهِ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَائِهِ، اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ وَرَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ، فَمَنْ ذَا يَذُمُّ الدُّنْيَا وَقَدْ آذَنَتْ بِفِرَاقِهَا، وَنَادَتْ بِعَيْبِهَا، وَنَعَتَ نَفْسَهَا وَأَهْلَهَا، فَمَثَّلَتْ بِبَلَائِهَا الْبَلَاءَ

وَشَوَّقَتْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ، فَذَمَّهَا قَوْمٌ عِنْدَ النَّدَامَةِ، وَحَمِدَهَا آخَرُونَ، حَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا، وَذَكَّرَتْهُمْ فَذُكِّرُوا؟ فَيَا أَيُّهَا الْمُغْتَرُّ بِالدُّنْيَا، الْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا، مَتَى اسْتَلَامَتْ إِلَيْكَ الدُّنْيَا؟ بَلْ مَتَى غَرَّتْكَ؟ أَبِمَضَاجِعِ آبَائِكَ مِنَ الثَّرَى؟ أَمْ بِمَصَارِعِ أُمَّهَاتِكَ مِنَ الْبِلَى؟ كَمْ قَدْ قَلَّبْتَ بِكَفَّيْكَ، وَمَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ تَطْلُبُ لَهُ الشِّفَاءَ، وَتَسْأَلُ لَهُ الْأَطِبَّاءَ، فَلَمْ تَظْفَرْ بِحَاجَتِكَ، وَلَمْ تُسْعَفْ بِطَلِبَتِكَ، قَدْ مَثَّلَتْ لَكَ الدُّنْيَا بِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ غَدًا، وَلَا يُغْنِي عَنْكَ بُكَاؤُكَ، وَلَا يَنْفَعُكَ أَحِبَّاؤُكَ. فَبَيَّنَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الدُّنْيَا لَا تُذَمُّ مُطْلَقًا، وَأَنَّهَا تُحْمَدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، وَأَنَّ فِيهَا مَسَاجِدَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَهْبِطَ الْوَحْيِ، وَهِيَ دَارُ التِّجَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، اكْتَسَبُوا مِنْهَا الرَّحْمَةَ، وَرَبِحُوا بِهَا الْجَنَّةَ، فَهِيَ نِعْمَ الدَّارُ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهَا تَغُرُّ وَتَخْدَعُ، فَإِنَّهَا تُنَادِي بِمَوَاعِظِهَا، وَتَنْصَحَ بِعِبَرِهَا، وَتُبْدِي عُيُوبَهَا بِمَا تُرِي أَهْلَهَا مِنْ مُصَارِعِ الْهَلْكَى، وَتَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ مِنَ الصِّحَّةِ إِلَى السَّقَمِ، وَمِنَ الشَّبِيبَةِ إِلَى الْهَرَمِ، وَمِنَ الْغِنَى إِلَى الْفَقْرِ، وَمِنَ الْعِزِّ إِلَى الذُّلِّ، وَلَكِنَّ مُحِبَّهَا قَدْ أَصَمَّهُ وَأَعْمَاهُ حُبُّهَا، فَهُوَ لَا يَسْمَعُ نِدَاءَهَا، كَمَا قِيلَ: قَدْ نَادَتِ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا ... لَوْ كَانَ فِي الْعَالَمِ مَنْ يَسْمَعُ كَمْ وَاثِقٍ بِالْعُمْرِ أَفْنَيْتُهُ ... وَجَامِعٍ بَدَّدْتُ مَا يَجْمَعُ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: لَوْ يَسْمَعُ الْخَلَائِقَ صَوْتَ النِّيَاحَةِ عَلَى الدُّنْيَا فِي الْغَيْبِ مِنْ أَلْسِنَةِ الْفَنَاءِ، لَتَسَاقَطَتِ الْقُلُوبُ مِنْهُمْ حُزْنًا. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الدُّنْيَا أَمْثَالٌ تَضْرِبُهَا الْأَيَّامُ لِلْأَنَامِ، وَعِلْمُ الزَّمَانِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تُرْجُمَانِ، وَبِحُبِّ الدُّنْيَا صُمَّتْ أَسْمَاعُ الْقُلُوبِ عَنِ الْمَوَاعِظِ، وَمَا أَحَثَّ السَّائِقَ لَوْ شَعَرَ الْخَلَائِقُ. وَأَهْلُ الزُّهْدِ فِي فُضُولِ الدُّنْيَا أَقْسَامٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ، فَيُمْسِكُهُ

وَيَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ، كَمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: كَانَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ خَازِنَيْنِ مِنْ خُزَّانِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، يُنْفِقَانِ فِي طَاعَتِهِ، وَكَانَتْ مُعَامَلَتُهُمَا لِلَّهِ بِقُلُوبِهِمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُهُ مِنْ يَدِهِ وَلَا يُمْسِكُهُ: وَهَؤُلَاءِ نَوْعَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُهُ اخْتِيَارًا وَطَوَاعِيَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُهُ وَنَفْسُهُ تَأْبَى إِخْرَاجَهُ، وَلَكِنْ يُجَاهِدُهَا عَلَى ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ، فَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ وَالْجُنَيْدُ: الْأَوَّلُ أَفْضَلُ، لِتَحَقُّقِ نَفْسِهِ بِمَقَامِ السَّخَاءِ وَالزُّهْدِ، وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: الثَّانِي أَفْضَلُ لِأَنَّ لَهُ عَمَلًا وَمُجَاهَدَةً. وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْفُضُولِ، وَهُوَ زَاهِدٌ فِي تَحْصِيلِهِ، إِمَّا مَعَ قُدْرَتِهِ، أَوْ بِدُونِهَا، وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ أَزْهَدَ مِنْ أُوَيْسٍ وَنَحْوِهِ، كَذَا قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ وَغَيْرُهُ. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَقُولُ: النَّاسُ يَقُولُونَ: مَالِكٌ زَاهِدٌ، إِنَّمَا الزَّاهِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: أَيُّمَا أَفْضَلُ مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا مِنَ الْحَلَالِ، لِيَصِلَ رَحِمَهُ، وَيُقَدِّمُ مِنْهَا لِنَفْسِهِ، أَمْ مَنْ تَرَكَهَا فَلَمْ يَطْلُبْهَا بِالْكُلِّيَّةِ؟ فَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ مِنْ تَرْكِهَا وَجَانِبِهَا، مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ، وَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ مَنْ طَلَبَهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، مِنْهُمُ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْهُ نَحْوُهُ. وَالزَّاهِدُونَ فِي الدُّنْيَا بِقُلُوبِهِمْ لَهُمْ مَلَاحِظُ وَمَشَاهِدُ يُشْهِدُونَهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَشْهَدُ كَثْرَةَ التَّعَبِ بِالسَّعْيِ فِي تَحْصِيلِهَا، فَهُوَ يَزْهَدُ فِيهَا قَصْدًا لِرَاحَةِ نَفْسِهِ. قَالَ

الْحَسَنُ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرِيحُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَخَافُ أَنْ يَنْقُصَ حَظُّهُ مِنَ الْآخِرَةِ بِأَخْذِ فُضُولِ الدُّنْيَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَخَافُ مِنْ طُولِ الْحِسَابِ عَلَيْهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الدُّنْيَا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ طُولَ الْوُقُوفِ لِلْحِسَابِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْهَدُ كَثْرَةَ عُيُوبِ الدُّنْيَا، وَسُرْعَةَ تَقَلُّبِهَا وَفَنَائِهَا، وَمُزَاحَمَةَ الْأَرَاذِلِ فِي طَلَبِهَا، كَمَا قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: مَا الَّذِي زَهَّدَكَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: قِلَّةُ وَفَائِهَا، وَكَثْرَةُ جَفَائِهَا، وَخِسَّةُ شُرَكَائِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى حَقَارَةِ الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ، فَيُقَذِّرُهَا، كَمَا قَالَ الْفُضَيْلُ: لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا عُرِضَتْ عَلَيَّ حَلَالًا لَا أُحَاسَبُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، لَكُنْتُ أَتَقَذَّرُهَا كَمَا يَتَقَذَّرُ الرَّجُلُ الْجِيفَةَ إِذَا مَرَّ بِهَا أَنْ تُصِيبَ ثَوْبَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَخَافُ أَنْ تَشْغَلَهُ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ وَالتَّزَوُّدِ لَهَا، قَالَ الْحَسَنُ: إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَعِيشُ عُمُرَهُ مَجْهُودًا شَدِيدَ الْجُهْدِ، وَالْمَالُ الْحَلَالُ إِلَى جَنْبِهِ، يُقَالُ لَهُ: أَلَا تَأْتِي هَذَا فَتُصِيبَ مِنْهُ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ آتِيَهُ فَأُصِيبَ مِنْهُ فَيَكُونَ فَسَادُ قَلْبِي وَعَمَلِي. وَبُعِثَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْمُنْكَدِرِ بِمَالٍ، فَبَكَى وَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُ، وَقَالَ: خَشِيتُ أَنْ تَغْلِبَ الدُّنْيَا عَلَى قَلْبِي، فَلَا يَكُونُ لِلْآخِرَةِ فِيهِ نَصِيبٌ، فَذَلِكَ الَّذِي أَبْكَانِي ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَخَوَاصُّ هَؤُلَاءِ يَخْشَى أَنْ يَشْتَغِلَ بِهَا عَنِ اللَّهِ، كَمَا قَالَتْ رَابِعَةُ: مَا أُحِبُّ

أَنَّ لِيَ الدُّنْيَا كُلَّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا حَلَالًا، وَأَنَا أُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا شَغَلَتْنِي عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: الزُّهْدُ تَرْكُ مَا يَشْغَلُ عَنِ اللَّهِ. وَقَالَ: كُلُّ مَا شَغَلَكَ عَنِ اللَّهِ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ وَوَلَدٍ، فَهُوَ مَشْئُومٌ. وَقَالَ: أَهْلُ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا عَلَى طَبَقَتَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَفْتَحُ لَهُ فِيهَا رَوْحُ الْآخِرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِذَا زَهِدَ فِيهَا، فُتِحَ لَهُ فِيهَا رَوْحُ الْآخِرَةِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْبَقَاءِ لِيُطِيعَ اللَّهَ. وَقَالَ: لَيْسَ الزَّاهِدُ مَنْ أَلْقَى هُمُومَ الدُّنْيَا، وَاسْتَرَاحَ مِنْهَا، إِنَّمَا الزَّاهِدُ مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا، وَتَعِبَ فِيهَا لِلْآخِرَةِ. فَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرَادُ بِهِ تَفْرِيغُ الْقَلْبِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِهَا، لِيَتَفَرَّغَ لِطَلَبِ اللَّهِ، وَمَعْرِفَتِهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَيْسَتْ مِنَ الدُّنْيَا، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» ، وَلَمْ يَجْعَلِ الصَّلَاةَ مِمَّا حُبِّبَ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا، كَذَا فِي " الْمُسْنَدِ " وَ " النَّسَائِيِّ "، وَأَظُنُّهُ وَقَعَ فِي غَيْرِهِمَا: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ» فَأَدْخَلَ الصَّلَاةَ فِي الدُّنْيَا، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ،

مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ، أَوْ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا» خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. وَرُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ مُرْسَلًا وَمُتَّصِلًا. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا قَالَ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ» . وَخَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مَوْقُوفًا، وَخَرَّجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عُبَادَةَ، أَرَاهُ رَفَعَهُ، قَالَ: «يُؤْتَى بِالدُّنْيَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ مَيِّزُوا مِنْهَا مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَلْقُوا سَائِرَهَا فِي النَّارِ» . فَالدُّنْيَا وَكُلُّ مَا فِيهَا مَلْعُونَةٌ، أَيْ مَبْعَدَةٌ عَنِ اللَّهِ، لِأَنَّهَا تَشْغَلُ عَنْهُ، إِلَّا الْعِلْمَ النَّافِعَ الدَّالَّ عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَطَلَبِ قُرْبِهِ وَرِضَاهُ، وَذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ مِمَّا يُقَرِّبُ مِنَ اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَنْ يَتَّقُوهُ وَيُطِيعُوهُ، وَلَازِمُ ذَلِكَ دَوَامُ ذِكْرِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، تَقْوَى اللَّهِ حَقَّ تَقْوَاهُ أَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى. وَإِنَّمَا شَرَعَ اللَّهُ إِقَامَ الصَّلَاةِ لِذِكْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ وَالطَّوَافُ. وَأَفْضَلُ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلَّهِ فِيهَا، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ مِنَ الدُّنْيَا الْمَذْمُومَةِ

وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِيجَادِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] [الذَّارِيَاتِ: 56] . وَقَدْ ظَنَّ طَوَائِفُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ أَنَّ مَا يُوجَدُ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ أَفْضَلُ مِمَّا يُوجَدُ فِي الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ، قَالُوا: لِأَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ حَظُّ الْعَبْدِ، وَالْعِبَادَاتُ فِي الدُّنْيَا حَقُّ الرَّبِّ، وَحَقُّ الرَّبِّ أَفْضَلُ مِنْ حَظِّ الْعَبْدِ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَيُقَوِّي غَلَطَهُمْ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89] [النَّمْلِ: 89] قَالُوا: الْحَسَنَةُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْهَا. وَلَكِنَّ الْكَلَامَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالْمُرَادُ: فَلَهُ مِنْهَا خَيْرٌ، أَيْ: لَهُ خَيْرٌ بِسَبَبِهَا وَلِأَجْلِهَا. وَالصَّوَابُ إِطْلَاقُ مَا جَاءَتْ بِهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ مِنَ الْأُولَى مُطْلَقًا. وَفِي " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَذَكَّرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ لِلْآخِرَةِ، وَفِيهَا الْعَمَلُ، وَفِيهَا الصَّلَاةُ، وَفِيهَا الزَّكَاةُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: الْآخِرَةُ فِيهَا الْجَنَّةٌ، وَقَالُوا مَا شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ إِلَى الْيَمِّ، فَأَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِيهِ، فَمَا خَرَجَ مِنْهُ فَهُوَ الدُّنْيَا» فَهَذَا نَصٌّ بِتَفْضِيلِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَعْمَالِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ كَمَالَ الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَالْعِلْمُ مَقْصُودُ الْأَعْمَالِ، يَتَضَاعَفُ فِي الْآخِرَةِ بِمَا لَا نِسْبَةَ لِمَا فِي الدُّنْيَا إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ أَصْلُهُ الْعِلْمُ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَنْكَشِفُ الْغِطَاءُ، وَيَصِيرُ الْخَبَرُ عِيَانًا، وَيَصِيرُ عِلْمُ الْيَقِينِ عَيْنَ الْيَقِينِ، وَتَصِيرُ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ رُؤْيَةً لَهُ وَمُشَاهَدَةً، فَأَيْنَ هَذَا مِمَّا فِي الدُّنْيَا؟

وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْبَدَنِيَّةُ، فَإِنَّ لَهَا فِي الدُّنْيَا مَقْصِدَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اشْتِغَالُ الْجَوَارِحِ بِالطَّاعَةِ، وَكَدُّهَا بِالْعِبَادَةِ. وَالثَّانِي: اتِّصَالُ الْقُلُوبِ بِاللَّهِ وَتَنْوِيرُهَا بِذِكْرِهِ. فَالْأَوَّلُ قَدْ رُفِعَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّهُمْ إِذَا هَمُّوا بِالسُّجُودِ لِلَّهِ عِنْدَ تَجَلِّيهِ لَهُمْ يُقَالُ لَهُمْ: ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ فَإِنَّكُمْ لَسْتُمْ فِي دَارِ مُجَاهَدَةٍ. وَأَمَّا الْمَقْصُودُ الثَّانِي، فَحَاصِلٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَتَمِّهَا، وَلَا نِسْبَةَ لِمَا حَصَلَ لِقُلُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ لَطَائِفِ الْقُرْبُ وَالْأُنْسِ وَالِاتِّصَالِ إِلَى مَا يُشَاهِدُونَهُ فِي الْآخِرَةِ عِيَانًا، فَتَتَنَعَّمُ قُلُوبُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ بِقُرْبِ اللَّهِ وَرُؤْيَتِهِ، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فِي الدُّنْيَا، كَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، وَالْمُقَرَّبُونَ مِنْهُمْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا فِي وَقْتِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، حَضَّ عَقِيبَ ذَلِكَ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ وَقْتٌ لِرُؤْيَةِ خَوَاصِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ رَبَّهُمْ وَزِيَارَتِهِمْ لَهُ، وَكَذَلِكَ نَعِيمُ الذِّكْرِ وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ أَبَدًا، فَيُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، كَالْمَاءِ الْبَارِدِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا، فَأَيْنَ لَذَّةُ الذِّكْرِ لِلْعَارِفِينَ فِي الدُّنْيَا مِنْ لَذَّتِهِمْ بِهِ فِي الْجَنَّةِ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89] [النَّمْلِ: 89] عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنَّ ثَوَابَ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ فِي الدُّنْيَا أَنْ يَصِلَ صَاحِبُهَا إِلَى قَوْلِهَا فِي الْجَنَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ.

وَبِكُلِّ حَالٍ، فَالَّذِي يَحْصُلُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ تَفَاصِيلِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمِنْ قُرْبِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ وَلَذَّةِ ذِكْرِهِ، هُوَ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْ كُنْهِهِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ أَهْلَهَا لَمْ يُدْرِكُوهُ عَلَى وَجْهِهِ، بَلْ هُوَ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى الْمَسْئُولُ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا خَيْرَ مَا عِنْدَهُ بَشَرِّ مَا عِنْدَنَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ آمِينَ. وَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ حَدِيثِ: «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ» فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رُوحَ اللَّهِ، عَلِّمْنَا عَمَلًا وَاحِدًا يُحِبُّنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، قَالَ: أَبْغِضُوا الدُّنْيَا يُحِبُّكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يُحِبُّ الدُّنْيَا وَيُؤْثِرُهَا عَلَى الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ - وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة: 20 - 21] [الْقِيَامَةِ: 20 - 21] ، وَقَالَ: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20] [الْفَجْرِ: 20] ، وَقَالَ: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] [الْعَادِيَاتِ: 8] ، وَالْمُرَادُ حُبُّ الْمَالِ، فَإِذَا ذُمَّ مَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا دَلَّ عَلَى مَدْحِ مَنْ لَا يُحِبُّهَا، بَلْ يَرْفُضُهَا وَيَتْرُكُهَا. وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَ " صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ " عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ، أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَ " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي

قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» . وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِمَعْنَاهُ. وَمِنْ كَلَامِ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصَّحَابِيِّ: حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا وَسَرَّتْهُ، خَرَجَ حُبُّ الْآخِرَةِ مِنْ قَلْبِهِ. وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ فِي الْقَلْبِ كَكِفَّتَيِ الْمِيزَانِ بِقَدْرِ مَا تَرْجَحُ إِحْدَاهُمَا تَخِفُّ الْأُخْرَى. وَقَالَ وَهْبٌ: إِنَّمَا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ كَرَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ: إِنَّ أَرْضَى إِحْدَاهُمَا أَسْخَطَ الْأُخْرَى. وَبِكُلِّ حَالٍ، فَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا شِعَارُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: مَا أَبْعَدَ هَدْيَكُمْ مِنْ هَدْيِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّهُ كَانَ أَزْهَدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَأَنْتُمْ أَرْغَبُ النَّاسِ فِيهَا، خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِأَصْحَابِهِ: أَنْتُمْ أَكْثَرُ صَوْمًا وَصَلَاةً وَجِهَادًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ، قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: كَانُوا أَزْهَدَ مِنْكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَرْغَبَ مِنْكُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لَئِنْ حَلَفْتُمْ لِي عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَزْهَدُكُمْ، لَأَحْلِفَنَّ لَكُمْ أَنَّهُ خَيْرُكُمْ. وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ خَيْرُنَا؟ قَالَ: أَزْهَدُكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَرْغَبُكُمْ فِي الْآخِرَةِ» وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ جَدًّا. وَفِيمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ كِفَايَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ: الزُّهْدُ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَأَنَّهُ مُوجِبٌ لِمَحَبَّةِ النَّاسِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «وَصَّى رَجُلًا، فَقَالَ: ايْأَسْ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ تَكُنْ غَنِيًّا» خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا: «شَرَفُ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ» . وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا تَزَالُ كَرِيمًا عَلَى النَّاسِ، أَوْ لَا يَزَالُ النَّاسُ يُكْرِمُونَكَ مَا لَمْ

تَعَاطَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، اسْتَخَفُّوا بِكَ، وَكَرِهُوا حَدِيثَكَ، وَأَبْغَضُوكَ. وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: لَا يَنْبُلُ الرَّجُلُ حَتَّى تَكُونَ فِيهِ خَصْلَتَانِ: الْعِفَّةُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَالتَّجَاوُزُ عَمَّا يَكُونُ مِنْهُمْ. وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ: إِنَّ الطَّمَعَ فَقْرٌ، وَإِنَّ الْيَأْسَ غِنًى، وَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَيِسَ مِنَ الشَّيْءِ اسْتَغْنَى عَنْهُ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَّامٍ لَقِيَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا كَعْبُ، مَنْ أَرْبَابُ الْعِلْمِ؟ قَالَ: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِهِ، قَالَ: فَمَا يَذْهَبُ بِالْعِلْمِ مِنْ قُلُوبِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ أَنْ حَفِظُوهُ وَعَقَلُوهُ؟ قَالَ: يُذْهِبُهُ الطَّمَعُ، وَشَرَهُ النَّفْسِ، وَتَطَلُّبُ الْحَاجَاتِ إِلَى النَّاسِ، قَالَ: صَدَقْتَ. وَقَدْ تَكَاثَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمْرِ بِالِاسْتِعْفَافِ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ، فَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ مَا بِأَيْدِيهِمْ، كَرِهُوهُ وَأَبْغَضُوهُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ لِنُفُوسِ بَنِي آدَمَ، فَمَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ مَا يُحِبُّونَهُ، كَرِهُوهُ لِذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ يَرَى الْمِنَّةَ لِلسَّائِلِ عَلَيْهِ، وَيَرَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَهُ عَنْ مِلْكِهِ كُلِّهِ، لَمْ يَفِ لَهُ بِبَذْلِ سُؤَالِهِ لَهُ وَذِلَّتِهِ لَهُ، أَوْ كَانَ يَقُولُ لِأَهْلِهِ: ثِيَابُكُمْ عَلَى غَيْرِكُمْ أَحْسَنُ مِنْهَا عَلَيْكُمْ، وَدَوَابُّكُمْ تَحْتَ غَيْرِكُمْ أَحْسَنُ مِنْهَا تَحْتَكُمْ، فَهَذَا نَادِرٌ جِدًّا مِنْ طِبَاعِ بَنِي آدَمَ، وَقَدِ انْطَوَى بِسَاطُ ذَلِكَ مِنْ أَزْمَانٍ مُتَطَاوِلَةٍ. وَأَمَّا مَنْ زَهِدَ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَعَفَّ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَهُ وَيُكْرِمُونَهُ

لِذَلِكَ وَيَسُودُ بِهِ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ: مَنْ سَيِّدُ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ قَالُوا: الْحَسَنُ، قَالَ: بِمَا سَادَهُمْ؟ قَالُوا: احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى عِلْمِهِ، وَاسْتَغْنَى هُوَ عَنْ دُنْيَاهُمْ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ بَعْضِ السَّلَفِ فِي وَصْفِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا: وَمَا هِيَ إِلَّا جِيفَةٌ مُسْتَحْيِلَةٌ ... عَلَيْهَا كِلَابٌ هَمُّهُنَّ اجْتِذَابُهَا فَإِنْ تَجْتَنِبْهَا كُنْتَ سِلْمًا لِأَهْلِهَا ... وَإِنْ تَجْتَذِبْهَا نَازَعَتْكَ كِلَابُهَا

[الحديث الثاني والثلاثون لا ضرر ولا ضرار]

[الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ]

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا مُسْنَدًا، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّإِ " عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، فَأَسْقَطَ أَبَا سَعِيدٍ، وَلَهُ طُرُقٌ يَقْوَى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ لَمْ يُخْرِجْهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَإِنَّمَا خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، حَدَّثَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ، مَنْ ضَارَّ ضَرَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عُثْمَانُ عَنْ

الدَّرَاوَرْدِيِّ، وَخَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّإِ " عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يُخْتَلَفْ عَنْ مَالِكٍ فِي إِرْسَالِ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: وَلَا يُسْنَدُ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ، ثُمَّ خَرَّجَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُعَاذٍ النَّصِيبِيِّ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ مَوْصُولًا، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يُضَعِّفُ مَا حَدَّثَ بِهِ مِنْ حِفْظِهِ، وَلَا يَعْبَأُ بِهِ، وَلَا شَكَّ فِي تَقْدِيمِ قَوْلِ مَالِكٍ عَلَى قَوْلِهِ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْدَلُسِيُّ الْحَافِظُ: لَمْ يَصِحَّ حَدِيثُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» مُسْنَدًا. وَأَمَّا ابْنُ مَاجَهْ، فَخَرَّجَهُ مِنْ رِوَايَةِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنْ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ صَحِيفَةٍ تُرْوَى بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنْ كِتَابٍ، قَالَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَأَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُمَا، وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى قِيلَ: هُوَ ابْنُ طَلْحَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُبَادَةَ، قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي مَوْضِعٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَلَمْ يَسْمَعْ أَيْضًا مِنْ عُبَادَةَ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا.

وَذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ " الضُّعَفَاءِ "، وَقَالَ: عَامَّةُ أَحَادِيثِهِ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى بْنَ عُقْبَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَإِنَّمَا رَوَى هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ الْأَسَدِيِّ عَنْهُ، وَأَبُو عَيَّاشٍ لَا يُعْرَفُ. وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَجَابِرٌ الْجُعْفِيُّ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَخَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَإِبْرَاهِيمَ ضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ، وَرِوَايَاتُ دَاوُدَ عَنْ عِكْرِمَةَ مَنَاكِيرُ. وَخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْوَاقِدِيِّ، حَدَّثَنَا خَارِجَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ» وَالْوَاقِدِيُّ مَتْرُوكٌ، وَشَيْخُهُ مُخْتَلَفٌ فِي تَضْعِيفِهِ. وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهَيْنِ ضَعِيفَيْنِ أَيْضًا عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَهَذَا إِسْنَادٌ مُقَارِبٌ وَهُوَ غَرِيبٌ، لَكِنْ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " الْمَرَاسِيلِ " مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِغْرَاءَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ عَمِّهِ وَاسِعٍ مُرْسَلًا، وَهَذَا أَصَحُّ. وَخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، قَالَ: أَرَاهُ عَنِ ابْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضَرُورَةَ، وَلَا يَمْنَعَنَّ

أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَضَعَ خَشَبَهُ عَلَى حَائِطِهِ» ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ فِيهِ شَكٌّ، وَابْنُ عَطَاءٍ: هُوَ يَعْقُوبُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا إِضْرَارَ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِسْنَادُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ. قُلْتُ: كَثِيرٌ هَذَا يُصَحِّحُ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَيَقُولُ الْبُخَارِيُّ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ: هُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ، وَحَسَّنَ حَدِيثَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، وَقَالَ: هُوَ خَيْرٌ مِنْ مَرَاسِيلِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَكَذَلِكَ حَسَّنَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَتَرَكَ حَدِيثَهُ آخَرُونَ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، فَهَذَا مَا حَضَرْنَا مِنْ ذِكْرِ طُرُقِ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ بَعْضَ طُرُقِهِ تَقْوَى بِبَعْضٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي بَعْضِ أَحَادِيثِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ: إِذَا انْضَمَّتْ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَسَانِيدِ الَّتِي فِيهَا ضَعْفٌ قَوِيَتْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُرْسَلِ: إِنَّهُ إِذَا أُسْنِدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، أَوْ أَرْسَلَهُ مَنْ يَأْخُذُ الْعِلْمَ عَنْ غَيْرِ مَنْ يَأْخُذُ عَنْهُ الْمُرْسَلَ الْأَوَّلَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ. وَقَالَ الْجُوزَجَانِيُّ: إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ مِنْ رَجُلٍ غَيْرِ مُقْنِعٍ - يَعْنِي: لَا يُقْنِعُ بِرِوَايَاتِهِ - وَشَدَّ أَرْكَانَهُ الْمَرَاسِيلُ بِالطُّرُقِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ ذَوِي الِاخْتِيَارِ، اسْتُعْمِلَ وَاكْتُفِيَ بِهِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُعَارَضْ بِالْمُسْنَدِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْهُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» .

وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: هَذَا الْحَدِيثُ أَسْنَدَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ وُجُوهٍ، وَمَجْمُوعُهَا يُقَوِّي الْحَدِيثَ وَيُحَسِّنُهُ، وَقَدْ تَقَبَّلَهُ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاحْتَجُّوا بِهِ، وَقَوْلُ أَبِي دَاوُدَ: إِنَّهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَدُورُ الْفِقْهُ عَلَيْهَا يُشْعِرُ بِكَوْنِهِ غَيْرَ ضَعِيفٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْمَعْنَى أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي صِرْمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتَّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا أَوْ مَكَرَ بِهِ» . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . هَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ، ضِرَارٌ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ، وَرُوِيَ " إِضْرَارٌ " بِالْهَمْزَةِ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ ابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيِّ، بَلْ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُوَطَّإِ، وَقَدْ أَثْبَتَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَقَالَ: ضَرَّ وَأَضَرَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنْكَرَهَا آخَرُونَ، وَقَالُوا: لَا صِحَّةَ لَهَا.

وَاخْتَلَفُوا: هَلْ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ - أَعْنِي الضُّرَّ وَالضِّرَارَ - فَرْقٌ أَمْ لَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ الضَّرَرَ هُوَ الِاسْمُ، وَالضِّرَارَ الْفِعْلُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الضَّرَرَ نَفْسَهُ مُنْتَفٍ فِي الشَّرْعِ، وَإِدْخَالُ الضَّرَرِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَذَلِكَ. وَقِيلَ: الضَّرَرُ: أَنْ يُدْخِلَ عَلَى غَيْرِهِ ضَرَرًا بِمَا يَنْتَفِعُ هُوَ بِهِ، وَالضِّرَارُ: أَنْ يُدْخِلَ عَلَى غَيْرِهِ ضَرَرًا بِلَا مَنْفَعَةٍ لَهُ بِهِ، كَمَنْ مَنَعَ مَا لَا يَضُرُّهُ وَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَمْنُوعُ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ طَائِفَةٌ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ الصَّلَاحِ. وَقِيلَ: الضَّرَرُ: أَنْ يَضُرَّ بِمَنْ لَا يَضُرُّهُ، وَالضِّرَارُ: أَنْ يَضُرَّ بِمَنْ قَدْ أَضَرَّ بِهِ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ جَائِزٍ. وَبِكُلِّ حَالٍ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا نَفَى الضَّرَرَ وَالضِّرَارَ بِغَيْرِ حَقٍّ. فَأَمَّا إِدْخَالُ الضَّرَرِ عَلَى أَحَدٍ بِحَقٍّ، إِمَّا لِكَوْنِهِ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ، فَيُعَاقَبُ بِقَدْرِ جَرِيمَتِهِ، أَوْ كَوْنِهِ ظَلَمَ غَيْرَهُ، فَيَطْلُبُ الْمَظْلُومُ مُقَابَلَتَهُ بِالْعَدْلِ، فَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهَذَا عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ سِوَى الضَّرَرِ بِذَلِكَ الْغَيْرِ، فَهَذَا لَا رَيْبَ فِي قُبْحِهِ وَتَحْرِيمِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ النَّهْيُ عَنِ الْمُضَارَّةِ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا فِي الْوَصِيَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] [النِّسَاءِ: 12] ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعِ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً، ثُمَّ يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ، فَيُضَارُّ فِي الْوَصِيَّةِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ» ، ثُمَّ تَلَا: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [النساء: 13] إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] [النِّسَاءِ: 13 - 14] ، وَقَدْ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ بِمَعْنَاهُ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِضْرَارُ: فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَالْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ تَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ بِزِيَادَةٍ عَلَى فَرْضِهِ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ لَهُ، فَيَتَضَرَّرُ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ بِتَخْصِيصِهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . وَتَارَةً بِأَنْ يُوصِيَ لِأَجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، فَتَنْقُصُ حُقُوقُ الْوَرَثَةِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . وَمَتَى وَصَّى لِوَارِثٍ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، لَمْ يُنَفَّذْ مَا وَصَّى بِهِ إِلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ الْمُضَارَّةَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ، وَأَمَّا إِنْ قَصَدَ الْمُضَارَّةَ بِالْوَصِيَّةِ لِأَجْنَبِيٍّ بِالثُّلُثِ، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِقَصْدِهِ الْمُضَارَّةَ، وَهَلْ تُرَدَّ وَصِيَّتُهُ إِذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَمْ لَا؟ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تُرَدُّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَمِنْهَا: الرَّجْعَةُ فِي النِّكَاحِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231] [الْبَقَرَةِ: 231] ، وَقَالَ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228] [الْبَقَرَةِ: 228] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ قَصْدُهُ بِالرَّجْعَةِ الْمُضَارَّةَ، فَإِنَّهُ آثِمٌ بِذَلِكَ، وَهَذَا كَمَا كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ حَصْرِ الطَّلَاقِ فِي ثَلَاثٍ يُطَلِّقُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ يَتْرُكُهَا حَتَّى يُقَارِبَ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ أَبَدًا بِغَيْرِ نِهَايَةٍ، فَيَدَعُ الْمَرْأَةَ لَا مُطَلَّقَةً وَلَا مُمْسَكَةً، فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَحَصَرَ الطَّلَاقَ فِي ثَلَاثِ مَرَّاتٍ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ مَنْ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ أَنَّهُ إِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ مُضَارَّتَهَا بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، لَمْ تَسْتَأْنِفِ الْعِدَّةَ، وَبَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ، اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةً جَدِيدَةً، وَقِيلَ: تَبْنِي مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَقِيلَ: تَسْتَأْنِفُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، مِنْهُمْ أَبُو قِلَابَةَ وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ - فِي الْجَدِيدِ - وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ. وَمِنْهَا فِي الْإِيلَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُدَّةَ الْمُؤْلِي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ، فَإِنَّهُ يَضْرِبُ لَهُ مُدَّةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ فَاءَ وَرَجَعَ إِلَى الْوَطْءِ، كَانَ ذَلِكَ تَوْبَتُهُ، وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تُطَلَّقُ عَلَيْهِ بِمُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُوقَفْ، فَإِنْ فَاءَ، وَإِلَّا أُمِرَ بِالطَّلَاقِ، وَلَوْ تَرَكَ الْوَطْءَ لِقَصْدِ إِضْرَارٍ بِغَيْرِ يَمِينٍ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُؤْلِي فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا: هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَكَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: إِذَا تَرَكَ الْوَطْءَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لِغَيْرِ عُذْرٍ، ثُمَّ طَلَبَ الْفُرْقَةَ فُرِّقَ بَيْنِهِمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ عِنْدَنَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَاجِبٌ، وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يُعْتَبَرُ لِذَلِكَ قَصْدُ الْإِضْرَارَ أَمْ لَا يُعْتَبَرُ؟ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ إِذَا تَرَكَ الْوَطْءَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنَّهُ يُفْسَخُ نِكَاحُهُ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ. وَلَوْ أَطَالَ السَّفَرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَطَلَبَتِ امْرَأَتُهُ قُدُومَهُ، فَأَبَى، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُفَرِّقُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، وَقَدَّرَهُ أَحْمَدُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَإِسْحَاقُ بِمُضِيِّ سَنَتَيْنِ. وَمِنْهَا فِي الرَّضَاعِ، قَالَ تَعَالَى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] [الْبَقَرَةِ: 233] ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] [الْبَقَرَةِ: 233]

قَالَ: لَا يَمْنَعُ أُمَّهُ أَنْ تُرْضِعَهُ لِيُحْزِنَهَا، وَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَسُفْيَانُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ: إِذَا رَضِيَتْ مَا يَرْضَى بِهِ غَيْرُهَا، فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، وَلَوْ كَانَتِ الْأُمُّ فِي حِبَالِ الزَّوْجِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ فِي حِبَالِ الزَّوْجِ، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ إِرْضَاعِهِ، إِلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ ارْتِضَاعُهُ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِنَا، لَكِنَّ إِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ قَصْدُ الزَّوْجِ بِهِ تَوْفِيرَ الزَّوْجَةِ لِلِاسْتِمْتَاعِ، لَا مُجَرَّدِ إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] [الْبَقَرَةِ: 233] ، يُدْخِلُ فِيهِ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ إِذَا طَلَبَتْ إِرْضَاعَ وَلَدَهَا بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا، لَزِمَ الْأَبَ إِجَابَتُهَا إِلَى ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ وُجِدَ غَيْرُهَا أَوْ لَمْ يُوجَدْ. هَذَا مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَإِنْ طَلَبَتْ زِيَادَةً عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهَا زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَوَجَدَ الْأَبُ مَنْ يُرْضِعُهُ بِأُجْرَةٍ الْمِثْلِ، لَمْ يَلْزَمِ الْأَبَ إِجَابَتُهَا إِلَى مَا طَلَبَتْ، لِأَنَّهَا تَقْصِدُ الْمُضَارَّةَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَمِنْهَا فِي الْبَيْعِ قَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: إِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ

يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] [الْبَقَرَةِ: 137] وَيُبَايَعُ الْمُضْطَرُّونَ، وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ» . وَخَرَّجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَزَادَ فِيهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ تَعُودُ بِهِ عَلَى أَخِيكَ، وَإِلَّا فَلَا تَزِيدَنَّهُ هَلَاكًا إِلَى هَلَاكِهِ» وَخَرَّجَهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا أَيْضًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْقِلٍ: بَيْعُ الضَّرُورَةِ رِبًا. وَقَالَ حَرْبٌ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ، فَكَرِهَهُ، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: يَجِيئُكَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ، فَتَبِيعُهُ مَا يُسَاوِي عَشْرَةً بِعِشْرِينَ، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: قِيلَ لِأَحْمَدَ: إِنْ رَبِحَ بِالْعَشْرَةِ خَمْسَةً؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُسْتَرْسِلًا لَا يُحْسِنُ أَنْ يُمَاكِسَ، فَبَاعَهُ بِغَبْنٍ كَثِيرٍ، لَمْ يَجُزْ أَيْضًا. قَالَ أَحْمَدُ: الْخِلَابَةُ: الْخِدَاعُ، وَهُوَ أَنْ يَغْبِنَهُ فِيمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ؛ يَبِيعُهُ مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا بِخَمْسَةٍ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ بِذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى نَقْدٍ، فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُقْرِضُهُ، فَاشْتَرِي سِلْعَةً بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَقْصُودُهُ بَيْعُ تِلْكَ السِّلْعَةِ، لِيَأْخُذَ ثَمَنَهَا، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ، وَرَخَّصَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مُضْطَرًّا؛ فَإِنْ بَاعَ السِّلْعَةَ مِنْ بَائِعِهَا لَهُ، فَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ فِي الْبُيُوعِ: التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فِي الْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، حَرُمَ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، فَإِنْ رَضِيَتِ الْأُمُّ بِذَلِكَ، فَفِي

جَوَازِهِ اخْتِلَافٌ، وَمَسَائِلُ الضَّرَرِ فِي الْأَحْكَامِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا عَلَى وَجْهِ الْمَثَّالِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ غَرَضٌ آخَرُ صَحِيحٌ، مِثْلَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ بِمَا فِيهِ مُصْلِحَةٌ لَهُ، فَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى ضَرَرِ غَيْرِهِ، أَوْ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ تَوْفِيرًا لَهُ، فَيَتَضَرَّرُ الْمَمْنُوعُ بِذَلِكَ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي مُلْكِهِ بِمَا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إِلَى غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، مِثْلَ أَنْ يُؤَجِّجَ فِي أَرْضِهِ نَارًا فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، فَيَحْتَرِقُ مَا يَلِيهِ، فَإِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ، فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَوَافَقَهُ مَالِكٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ؛ فَمِنْ صُوَرِ ذَلِكَ: أَنْ يَفْتَحَ كُوَّةً فِي بِنَائِهِ الْعَالِي مُشْرِفَةً عَلَى جَارِهِ، أَوْ يَبْنِيَ بِنَاءً عَالِيًا يُشْرِفُ عَلَى جَارِهِ وَلَا يَسْتُرُهُ، فَإِنَّهُ يُلْزَمُ بِسِتْرِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَوَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ الرُّويَانِيُّ مِنْهُمْ فِي كِتَابِ " الْحِلْيَةِ ": يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ، وَيَمْنَعُ إِذَا ظَهَرَ لَهُ التَّعَنُّتُ، وَقَصْدُ الْفَسَادِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي إِطَالَةِ الْبَنَّاءِ وَمَنْعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَقَدْ خَرَّجَ الْخَرَائِطِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جِدِّهِ مَرْفُوعًا حَدِيثًا طَوِيلًا فِي حَقِّ الْجَارِ، وَفِيهِ: «وَلَا يَسْتَطِيلُ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ فَيَحْجُبُ عَنْهُ الرِّيحَ إِلَّا بِإِذْنِهِ» .

وَمِنْهَا أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا بِالْقُرْبِ مِنْ بِئْرِ جَارِهِ فَيَذْهَبُ مَاؤُهَا، فَإِنَّهَا تُطَمُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ فِي " الْمَرَاسِيلِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَضَارُّوا فِي الْحَفْرِ، وَذَلِكَ أَنْ يَحْفِرَ الرَّجُلُ إِلَى جَنْبِ الرَّجُلِ لِيَذْهَبَ بِمَائِهِ» . وَمِنْهَا أَنْ يُحْدِثَ فِي مِلْكِهِ مَا يَضُرُّ بِمِلْكِ جَارِهِ مِنْ هَزٍّ أَوْ دَقٍّ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَكَذَا إِذَا كَانَ يَضُرُّ بِالسُّكَّانِ، كَمَا إِذَا كَانَ لَهُ رَائِحَةٌ خَبِيثَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ مُلْكٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، وَيَتَضَرَّرُ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِدُخُولِهِ إِلَى أَرْضِهِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى إِزَالَتِهِ لِيَنْدَفِعَ بِهِ ضَرَرُ الدُّخُولِ، وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ «حَدَّثَ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ عَضُدٌ مِنْ نَخْلٍ فِي حَائِطِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَمَعَ الرَّجُلِ أَهْلُهُ، فَكَانَ سَمُرَةُ يُدْخِلُ إِلَى نَخْلِهِ، فَيَتَأَذَّى بِهِ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ، فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُنَاقِلَهُ، فَأَبَى فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَطَلَبَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَهُ، فَأَبَى، فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُنَاقِلَهُ، فَأَبَى، قَالَ: فَهَبْهُ لَهُ وَلَكَ كَذَا وَكَذَا أَمْرًا رَغَّبَهُ فِيهِ، فَأَبَى، فَقَالَ: أَنْتَ مُضَارٌّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِيِّ: اذْهَبْ فَاقْلَعْ نَخْلَهُ» ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُرْسَلًا. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ: كُلُّ مَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ وَفِيهِ ضَرَرٌ، يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَجَابَ وَإِلَّا أَجْبَرَهُ السُّلْطَانُ، وَلَا يَضُرُّ بِأَخِيهِ فِي ذَلِكَ، فِيهِ مِرْفَقٌ لَهُ.

وَخَرَّجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلِيطِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَتْ فِي حَائِطِهِ نَخْلَةٌ لِرَجُلٍ آخَرَ، وَكَانَ صَاحِبُ النَّخْلَةِ لَا يَرِيمُهَا غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِ النَّخْلَةِ: خُذْ مِنْهُ نَخْلَةً مِمَّا يَلِي الْحَائِطِ مَكَانَ نَخْلَتِكَ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: فَخُذْ مِنِّي ثِنْتَيْنِ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: فَهَبْهَا لِي، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: فَرَدَّدَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَى، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطِيَهُ نَخْلَةً مَكَانَ نَخْلَتِهِ» . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ فِي " الْمَرَاسِيلِ " مِنْ رِوَايَةِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ، قَالَ: «كَانَ لِأَبِي لُبَابَةَ عِذْقٌ فِي حَائِطِ رَجُلٍ، فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ: إِنَّكَ تَطَأُ حَائِطِي إِلَى عِذْقِكَ، فَأَنَا أُعْطِيكَ مِثْلَهُ فِي حَائِطِكَ، وَأَخْرِجْهُ عَنِّي، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا لُبَابَةَ، خُذْ مِثْلَ عِذْقِكَ، فَحُزْهَا إِلَى مَالِكَ، وَاكْفُفْ عَنْ صَاحِبِكَ مَا يَكْرَهُ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، فَقَالَ: اذْهَبْ، فَأَخْرِجْ لَهُ مِثْلَ عِذْقِهِ إِلَى حَائِطِهِ، ثُمَّ اضْرِبْ فَوْقَ ذَلِكَ بِجِدَارٍ، فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا ضِرَارَ» . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي قَبْلَهُ إِجْبَارُهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ حَيْثُ كَانَ عَلَى شَرِيكِهِ أَوْ جَارِهِ ضَرَرٌ فِي تَرْكِهِ، وَهَذَا مِثْلُ إِيجَابِ الشُّفْعَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الشَّرِيكِ الطَّارِئِ. وَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ الْعِمَارَةِ عَلَى الشَّرِيكِ الْمُمْتَنِعِ مِنَ الْعِمَارَةِ، وَعَلَى إِيجَابِ الْبَيْعِ إِذَا تَعَذَّرَتِ الْقِسْمَةُ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ،

عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: «لَا تَعْضِيَةَ فِي الْمِيرَاثِ إِلَّا مَا احْتَمَلَ الْقَسَمَ» وَأَبُو بَكْرٍ: هُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَالْحَدِيثُ حِينَئِذٍ مُرْسَلٌ، وَالتَّعْضِيَةُ: هِيَ الْقِسْمَةُ. وَمُتِيَ تَعَذَّرَتِ الْقِسْمَةُ، لِكَوْنِ الْمَقْسُومِ يَتَضَرَّرُ بِقِسْمَتِهِ، وَطَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْبَيْعَ، أُجْبِرَ الْآخَرُ، وَقُسِّمَ الثَّمَنُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَأَمَّا الثَّانِي - وَهُوَ مَنْعُ الْجَارِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ، وَالِارْتِفَاقِ بِهِ - فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِمَنِ انْتَفَعَ بِمِلْكِهِ، فَلَهُ الْمَنْعُ كَمَنْ لَهُ جِدَارٌ وَاهٍ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُطْرَحَ عَلَيْهِ خَشَبٌ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَضُرَّ بِهِ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّمْكِينُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ أَمْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: لَا يُمْنَعُ الْمَالِكُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ أَضَرَّ بِجَارِهِ، قَالَ هُنَا: لِلْجَارِ الْمَنْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَمَنْ قَالَ هُنَاكَ بِالْمَنْعِ، فَاخْتَلَفُوا هَاهُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ هَاهُنَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَنْعُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي طَرْحِ الْخَشَبِ عَلَى جِدَارِ دَارِ جَارِهِ، وَوَافَقَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ، وَحَكَاهُ مَالِكٌ عَنْ بَعْضِ قُضَاةِ الْمَدِينَةِ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ عَلَى جِدَارِهِ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ، وَاللَّهِ

لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ. وَقَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنْ يَجْرِيَ مَاءُ جَارِهِ فِي أَرْضِهِ، وَقَالَ: لَتَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِكَ. وَفِي الْإِجْبَارِ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ الْإِجْبَارُ عَلَى إِجْرَاءِ الْمَاءِ فِي أَرْضِ جَارِهِ إِذَا أَجْرَاهُ فِي قُنِيٍّ فِي بَاطِنِ أَرْضِهِ، نَقَلَهُ عَنْهُ حَرْبٌ الْكِرْمَانِيُّ. وَمِمَّا يُنْهَى عَنْ مَنْعِهِ للضَّرَرِ مَنْعُ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ الْكَلَأَ» . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: الْمَاءُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: الْمِلْحُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ» . وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالْكَلَأُ» .

وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ الْجَارِي وَالنَّابِعِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ الْمَاءَ لِمَالِكِ أَرْضِهِ أَمْ لَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وُجُوبُ بَذْلِهِ مَجَّانًا بِغَيْرِ عِوَضٍ لِلشُّرْبِ، وَسَقْيِ الْبَهَائِمِ، وَسَقْيِ الزُّرُوعِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ: لَا يَجِبُ بَذْلُهُ لِلزُّرُوعِ. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَجِبُ بَذْلُهُ مُطْلَقًا، أَوْ إِذَا كَانَ بِقُرْبِ الْكَلَأِ، وَكَانَ مَنْعُهُ مُفْضِيًا إِلَى مَنْعِ الْكَلَأِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَفِي كَلَامِ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمَنْعِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْكَلَأِ، وَأَمَّا مَالِكٌ، فَلَا يَجِبُ عِنْدَهُ بَذْلُ فَضْلِ الْمَاءِ الْمَمْلُوكِ بِمِلْكِ مِنْبَعِهِ وَمَجْرَاهُ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ كَالْمُحَازِ فِي الْأَوْعِيَةِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَهُ بَذْلُ فَضْلِ الْمَاءِ الَّذِي لَا يُمْلَكُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: حُكْمُ الْكَلَأِ كَذَلِكَ يَجُوزُ مَنْعُ فَضْلِهِ إِلَّا فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَأَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْكَلَأِ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَمْنَعُ أَحَدٌ الْمَاءَ وَالْكَلَأَ إِلَّا أَهْلَ الثُّغُورِ خَاصَّةً، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، لِأَنَّ أَهْلَ الثُّغُورِ إِذَا ذَهَبَ مَاؤُهُمْ وَكَلَؤُهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْ مَكَانِهِمْ مِنْ وَرَاءِ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ مَنْعِ النَّارِ، فَحَمَلَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الِاقْتِبَاسِ مِنْهَا دُونَ أَعْيَانِ الْجَمْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَنْعِ الْحِجَارَةِ الْمُورِيَةِ لِلنَّارِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى مَنْعِ الِاسْتِضَاءَةِ بِالنَّارِ، وَبَذْلِ مَا فَضُلَ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِهَا بِهَا لِمَنْ يَسْتَدْفِئُ بِهَا، أَوْ يُنْضِجُ عَلَيْهَا طَعَامًا وَنَحْوَهُ، لَمْ يَبْعُدْ.

وَأَمَّا الْمِلْحُ فَلَعَلَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَنْعِ أَخْذِهِ مِنَ الْمَعَادِنِ الْمُبَاحَةِ، فَإِنَّ الْمِلْحَ مِنَ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ، لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ وَلَا بِالْإِقْطَاعِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَفِي " سُنَنِ أَبِي دُوَادَ " «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ رَجُلًا الْمِلْحَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْعِدِّ، فَانْتَزَعَهُ مِنْهُ» . وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا ضَرَرَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْ عِبَادَهُ فِعْلَ مَا يَضُرُّهُمْ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ هُوَ عَيْنُ صَلَاحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ هُوَ عَيْنُ فَسَادِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، لَكِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ عِبَادَهُ بِشَيْءٍ هُوَ ضَارٌّ لَهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ أَيْضًا، وَلِهَذَا أَسْقَطَ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ عَنِ الْمَرِيضِ، وَقَالَ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] [الْمَائِدَةِ: 6] ، وَأَسْقَطَ الصِّيَامَ عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَقَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] [الْبَقَرَةِ: 185] ، وَأَسْقَطَ اجْتِنَابَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، كَالْحَلْقِ وَنَحْوِهِ عَمَّنْ كَانَ مَرِيضًا، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ، وَأَمَرَ بِالْفِدْيَةِ. وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» . وَمِنْ حَدِيثِ

عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ» . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَى رَجُلًا يَمْشِي، قِيلَ: إِنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِهِ فَلْيَرْكَبْ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ» . وَفِي " السُّنَنِ " «عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى الْبَيْتِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكِ شَيْئًا فَلْتَرْكَبْ» . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ، وَلَهُ الرُّكُوبُ بِكُلِّ حَالٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إِنْ أَطَاقَهُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ، فَقِيلَ: يَرْكَبُ عِنْدَ الْعَجْزِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.

وَقِيلَ: بَلْ عَلَيْهِ - مَعَ ذَلِكَ - كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ. وَقِيلَ: بَلْ عَلَيْهِ دَمٌ، قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ. وَقِيلَ: يَتَصَدَّقُ بِكِرَاءِ مَا رَكِبَ، وَرُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَحَكَاهُ عَنْ عَطَاءٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ: يَتَصَدَّقُ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ عِنْدَ الْبَيْتِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرُهُمْ: لَا يُجْزِئُهُ الرُّكُوبُ، بَلْ يَحُجُّ مِنْ قَابَلَ، فَيَمْشِي مَا رَكِبَ، وَيَرْكَبُ مَا مَشَى، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: وَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ إِذَا كَانَ مَا رَكِبَهُ كَثِيرًا. وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يُطَالِبُ بِهِ مَعَ إِعْسَارِهِ، بَلْ يُنْظَرُ إِلَى حَالِ إِيسَارِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] [الْبَقَرَةِ: 280] ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِشُرَيْحٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِدُيُونِ الرِّبَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْجُمْهُورُ أَخَذُوا بِاللَّفْظِ الْعَامِّ، وَلَا يُكَلَّفُ الْمَدِينُ أَنْ يَقْضِيَ مِمَّا عَلَيْهِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ ضَرَرٌ، كَثِيَابِهِ وَمَسْكَنِهِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، وَخَادِمِهِ كَذَلِكَ، وَلَا مَا يَحْتَاجُ إِلَى التِّجَارَةِ بِهِ لِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ هَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

[الحديث الثالث والثلاثون لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم]

[الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ]

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ هَكَذَا، وَبَعْضُهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ". ـــــــــــــــــــــــــــــ أَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَخَرَّجَاهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ الْجُمَحِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَاللَّفْظُ الَّذِي سَاقَهُ بِهِ الشَّيْخُ سَاقَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ قَبْلَهُ فِي الْأَحَادِيثِ الْكُلِّيَّاتِ، وَقَالَ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَخَرَّجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى رِجَالٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّالِبِ، وَالْيَمِينَ عَلَى الْمَطْلُوبِ» . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ: أَنْبَأَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَحْسَبُهُ - وَلَا أُثْبِتُهُ - أَنَّهُ قَالَ: «وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لُبَابَةَ الْفَقِيهُ الْأَنْدَلُسِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ الْأَنْدَلُسِيِّ - وَوَصَفَهُ بِالْفَضْلِ - عَنْ غَازِي بْنِ قَيْسٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، قَالَ: «لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَغَازِي بْنُ قَيْسٍ الْأَنْدَلُسِيُّ كَبِيرٌ صَالِحٌ، سَمِعَ مِنْ مَالِكٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَطَبَقَتِهِمَا، وَسَقَطَ مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ ابْنُ جُرَيْجٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ عِنْدَهُمَا صَحِيحٌ مُحْتَجٌّ بِهِ، وَفِي الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " «عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، قُلْتُ: إِذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ، ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 77] . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: " إِذًا يَحْلِفُ "، قَالَ: لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ» . وَخَرَّجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْعَرْزَمِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» ، وَقَالَ: فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَالْعَرْزَمِيُّ يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. وَخَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ - وَفِيهِ ضَعْفٌ عَنْ

ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ» . وَرَوَاهُ الْحَافِظُ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ، عَنْ عَمْرٍو مُرْسَلًا. وَخَرَّجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ: «الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْلَى بِالْيَمِينِ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ» ، وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَعِنْدَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَفِي إِسْنَادِهِ كَلَامٌ. وَخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ ضَعِيفَةٍ. وَرَوَى حَجَّاجٌ الصَّوَّافُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا رَجُلٍ طَلَبَ عِنْدَ رَجُلِ طَلِبَةً، فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ أَوْلَى بِالْيَمِينِ» . وَخَرَّجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ هِلَالٍ مَا أَظُنُّهُ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَخَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَزَادَ فِيهِ " بِغَيْرِ شُهَدَاءَ ". وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «جَاءَ خَصْمَانِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ حَقًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُدَّعِي: أَقِمْ بَيِّنَتَكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لِي بَيِّنَةٌ، فَقَالَ لِلْآخَرِ: احْلِفْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ: مَا لَهُ عَلَيْكَ أَوْ عِنْدَكَ شَيْءٌ» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى: أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي،

وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ. وَقَضَى بِذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى عُمَرَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَلَمْ يُنْكِرَاهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَصْلُ الْخِطَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هُوَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، قَالَ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» يَعْنِي: يَسْتَحِقُّ بِهَا مَا ادَّعَى، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ يُؤْخَذُ بِهَا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» أَيْ: يَبْرَأُ بِهَا، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، يُؤْخَذُ بِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ. انْتَهَى. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيَّةُ فِي تَفْسِيرِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُدَّعِي: هُوَ الَّذِي يُخَلَّى وَسُكُوتَهُ مِنَ الْخَصْمَيْنِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ: مَنْ لَا يُخْلَى وَسُكُوتَهُ مِنْهُمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُدَّعِي مَنْ يَطْلُبُ أَمْرًا خَفِيًّا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ أَوِ الظَّاهِرِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ. وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ مَسْأَلَةً، وَهِيَ إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ الْكَافِرَانِ قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الزَّوْجُ: أَسْلَمْنَا مَعًا، فَنِكَاحُنَا بَاقٍ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: بَلْ سَبَقَ

أَحَدُنَا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَالنِّكَاحُ مُنْفَسِخٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمُدَّعِي يُخَلَّى وَسُكُوتَهُ، فَالْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِي، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ، لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ؛ إِذْ لَا يُخَلَّى وَسُكُوتَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمُدَّعِي مَنْ يَدَّعِي أَمْرًا خَفِيًّا، فَالْمُدَّعِي هُنَا هُوَ الزَّوْجُ، إِذِ التَّقَارُنُ فِي الْإِسْلَامِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهَا. وَأَمَّا الْأَمِينُ إِذَا ادَّعَى التَّلَفَ، كَالْمُودِعِ إِذَا ادَّعَى تَلَفَ الْوَدِيعَةِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مُدَّعٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ يُخَالِفُ مَا ادَّعَاهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَيِّنَةٍ، لِأَنَّ الْمُودِعَ ائْتَمَنَهُ، وَالِائْتِمَانُ يَقْتَضِي قَبُولَ قَوْلِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُدَّعِيَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ هُوَ الْمُدَّعِي، لِيُعْطَى بِدَعْوَاهُ مَالَ قَوْمٍ أَوْ دِمَاءَهُمْ، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، فَأَمَّا الْأَمِينُ، فَلَا يَدَّعِي لِيُعْطَى شَيْئًا، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذَا سَكَتَ، لَمْ يُتْرَكْ، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رَدِّ الْجَوَابِ، وَالْمُودِعُ مُدَّعٍ، لِأَنَّهُ إِذَا سَكَتَ تُرِكَ؛ وَلَوِ ادَّعَى الْأَمِينُ رَدَّ الْأَمَانَةِ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ أَيْضًا كَدَعْوَى التَّلَفِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: إِنْ ثَبَتَ قَبْضُهُ لِلْأَمَانَةِ بِبَيِّنَةٍ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ، وَوَجَّهَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى دَفْعِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ بِالْبَيِّنَةِ وَاجِبٌ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ تَفْرِيطًا، فَيَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ، وَكَذَلِكَ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فِي دَفْعِ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ: لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَيِّنَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ وَاجِبًا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي أَبَدًا، وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَبَدًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَوَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ كَالْبُخَارِيِّ، وَطَرَدُوا ذَلِكَ فِي كُلِّ دَعْوَى، حَتَّى فِي الْقَسَامَةِ، وَقَالُوا: لَا يَحْلِفُ إِلَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَرَأَوْا أَنْ لَا يُقْضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَكُونُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَرَأَوْا أَنَّ الْيَمِينَ لَا تُرَدَّ عَلَى الْمُدَّعِي، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

وَاسْتَدَلُّوا فِي مَسْأَلَةِ الْقَسَامَةِ بِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ يَسَارٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ «نَفَرًا مِنْهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلًا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَأْتُونِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ، قَالُوا: مَا لَنَا بَيِّنَةٌ، قَالَ: فَيَحْلِفُونَ قَالُوا: لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ، فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطَلَّ دَمُهُ، فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ» . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مُخْتَصَرًا وَلَمْ يُتِمَّهُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ تُعَارِضُ رِوَايَةَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فَذَكَرَ قِصَّةَ الْقَتِيلِ، وَقَالَ فِيهِ: «فَذَكَرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْتَلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَيَدْفَعُ بِرُمَّتِهِ» ، وَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الثَّابِتَةُ الْمُخَرَّجَةُ بِلَفْظِهَا بِكَمَالِهَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ". وَقَدْ ذَكَرَ الْأَئِمَّةُ الْحُفَّاظُ أَنَّ رِوَايَةَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّائِيِّ، فَإِنَّهُ أَجَلُّ وَأَعْلَمُ وَأَحْفَظُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَدِيثِهِمْ مِنَ الْكُوفِيِّينَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُخَالَفَةَ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَنَفَضَ يَدَهُ، وَقَالَ: ذَاكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، رَوَاهُ عَلَى مَا يَقُولُ الْكُوفِيُّونَ، وَقَالَ: أَذْهَبُ إِلَى حَدِيثِ الْمَدِينِينَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ سَعِيدَ بْنَ عُبَيْدٍ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ " التَّمْيِيزِ " لَمْ يَحْفَظْهُ سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَلَى وَجْهِهِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَخْبَارِ فِيهَا سُؤَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ قَسَامَةَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

سَأَلَهُمُ الْبَيِّنَةَ، وَتَرَكَ سَعِيدٌ الْقَسَامَةَ، وَتَوَاطُؤُ الْأَخْبَارِ بِخِلَافِهِ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْغَلَطِ، وَقَدْ خَالَفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ: هَذِهِ رِوَايَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، وَرِوَايَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْهُ أَثْبَتُ، وَهُمْ بِهِ أَقْعَدُ، وَنَقْلُهُمْ أَصَحُّ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. قُلْتُ: وَسَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ اخْتَصَرَ قِصَّةَ الْقَسَامَةَ، وَهِيَ مَحْفُوظَةٌ فِي الْحَدِيثِ، فَقَدْ خَرَّجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ مِنْ وَلِيِّ الْقَتِيلِ شَاهِدَيْنِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ، فَقَالَ: وَمِنْ أَيْنَ أُصِيبُ شَاهِدَيْنِ؟ قَالَ: فَتَحْلِفُ خَمْسِينَ قَسَامَةً قَالَ: كَيْفَ أَحْلِفُ عَلَى مَا لَمْ أَعْلَمْ؟ قَالَ: فَتَسْتَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسِينَ قَسَامَةً» فَهَذَا الْحَدِيثُ يَجْمَعُ بَيْنَ رِوَايَتَيْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا تَرَكَ بَعْضِ الْقِصَّةِ، فَتَرَكَ سَعِيدٌ ذِكْرَ قَسَامَةِ الْمُدَّعِينَ، وَتَرَكَ يَحْيَى ذِكْرَ الْبَيِّنَةِ قَبْلَ طَلَبِ الْقَسَامَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ، فَاسْتَدَلَّ مَنْ أَنْكَرَ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ بِحَدِيثِ: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ» ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ الْمَالِكِيُّ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهَا مَنْصُورٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، وَخَالَفَهُ سَائِرُ الرُّوَاةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ سَأَلَهُ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ أَمْ لَا؟ وَالْبَيِّنَةُ لَا تَقِفُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ فَقَطْ، بَلْ تَعُمُّ سَائِرَ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِشَاهِدَيْهِ كُلَّ نَوْعَيْنِ يَشْهَدَانِ لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعَوَاهُ يَتَبَيَّنُ بِهِمَا الْحَقُّ، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ شَهَادَةُ الرَّجُلَيْنِ، وَشَهَادَةُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَتَيْنِ، وَشَهَادَةُ الْوَاحِدِ مَعَ الْيَمِينِ، وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَيْمَانَ الْمُدَّعِي مَقَامَ الشُّهُودِ فِي اللِّعَانِ.

وَقَوْلُهُ فِي تَمَامِ الْحَدِيثِ: «لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ» : لَمْ يُرِدْ بِهِ النَّفْيَ الْعَامَّ، بَلِ النَّفْيَ الْخَاصَّ، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الْمُدَّعِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» إِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا الْيَمِينُ الْمُجَرَّدَةُ عَنِ الشَّهَادَةِ، وَأَوَّلُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنَّمَا هِيَ الْيَمِينُ الْقَاطِعَةُ لِلْمُنَازَعَةِ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمُثْبِتَةُ لِلْحَقِّ، مَعَ وُجُودِ الشَّهَادَةِ، فَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِسُنَّةٍ أُخْرَى. وَأَمَّا رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، فَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ مُوَافَقَةُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَنَّهَا لَا تُرَدُّ، وَاسْتَدَلَّ أَحْمَدُ بِحَدِيثِ: الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ عَنْهُ: مَا هُوَ بِبَعِيدٍ أَنْ يُقَالَ لَهُ: تَحْلِفُ وَتَسْتَحِقُّ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأَصْحَابِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَرُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَيْسَ هَذَا إِزَالَةٌ لِلْيَمِينِ عَنْ مَوْضِعِهَا، فَإِنَّ الْإِزَالَةَ أَنْ لَا يَقْضِيَ بِالْيَمِينِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَأَمَّا إِذَا قُضِيَ بِهَا عَلَيْهِ، فَرَضِيَ بِيَمِينِ صَاحِبِهِ، كَانَ هُوَ الْحَاكِمُ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ، لَحَلَفَ وَبَرِئَ، وَبَطُلَتْ عَنْهُ الدَّعْوَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ يُرَجَّحُ جَانِبُ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَتُجْعَلُ الْيَمِينُ فِي جَانِبِهِ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي خِلَافِهِ أَنَّهُ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَعَلَى هَذَا تَتَوَجَّهُ الْمَسَائِلُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنَ الْحُكْمِ بِالْقَسَامَةِ وَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، فَإِنَّ جَانِبَ الْمُدَّعِي فِي الْقَسَامَةِ لَمَّا قَوِيَ بِاللَّوْثِ جُعِلَتِ

الْيَمِينُ فِي جَانِبِهِ، وَحُكِمَ لَهُ بِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُدَّعِي إِذَا أَقَامَ شَاهِدًا، فَإِنَّهُ قَوِيٌّ جَانِبُهُ، فَحَلَفَ مَعَهُ، وَقُضِيَ لَهُ. وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا خُصَّ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِدَلِيلٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي لَيْسَ بِعَامٍّ، لِأَنَّ الْمُرَادَ: عَلَى الْمُدَّعِي الْمَعْهُودِ، وَهُوَ مَنْ لَا حُجَّةَ لَهُ سِوَى الدَّعْوَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى رِجَالٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ» فَأَمَّا الْمُدَّعِي الَّذِي مَعَهُ حُجَّةٌ تُقَوِّي دَعْوَاهُ، فَلَيْسَ دَاخِلًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَطَرِيقٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ: كُلُّ مَا بَيَّنَ صِحَّةَ دَعْوَى الْمُدَّعِي، وَشَهِدَ بِصِدْقِهِ فَاللَّوْثُ مَعَ الْقَسَامَةِ بَيِّنَةٌ، وَالشَّاهِدُ مَعَ الْيَمِينِ بَيِّنَةٌ. وَطَرِيقٌ رَابِعٌ سَلَكَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ الطَّعْنُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» ، وَقَالُوا: إِنَّمَا الثَّابِتُ هُوَ قَوْلُهُ: «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَقَوْلُهُ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ» ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُدَّعِيَ الدَّمِ وَالْمَالِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَيِّنَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ ذَلِكَ أَنَّ مَنِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ مَوْرُوثَهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا قَوْلُ الْمَقْتُولِ عِنْدَ مَوْتِهِ: جَرَحَنِي فُلَانٌ، أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِهِ لَوْثًا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ، وَإِنَّهُمْ جَعَلُوهُ لَوْثًا يُقْسِمُ مَعَهُ الْأَوْلِيَاءُ، وَيَسْتَحِقُّونَ الدَّمَ. وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ أَيْضًا مَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَلَاعَنَهَا، فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ دَمُهَا بِمُجَرَّدِ لِعَانِهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَ قَوْلَهُ الْجُوزَجَانِيُّ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8] [النُّورِ: 8] ،

وَالْأَوَّلُونَ مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الْعَذَابَ عَلَى الْحَبْسِ، وَقَالُوا: إِنْ لَمْ تُلَاعِنْ، حُبِسَتْ حَتَّى تُقِرَّ أَوْ تُلَاعِنَ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَلَوِ ادَّعَتِ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا عَلَى الزِّنَا، فَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِدَعْوَاهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَقَالَ أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَهَا الصَّدَاقُ بِيَمِينِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْهُمْ: لَهَا الصَّدَاقُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ قَدْرٍ، وَادَّعَتْ ذَلِكَ عَلَى مُتَّهَمٍ تَلِيقُ بِهِ الدَّعْوَى، وَإِنْ كَانَ الْمَرْمِيُّ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، فَفِي حَدِّهَا لِلْقَذْفِ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ. وَقَدْ كَانَ شُرَيْحٌ وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ يَحْكُمَانِ فِي الْأَمْوَالِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا بِمُجَرَّدِ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ إِحْدَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَقَضَى شُرَيْحٌ فِي أَوْلَادِ هِرَّةٍ تَدَاعَاهَا امْرَأَتَانِ، كُلٌّ مِنْهُمَا تَقُولُ هِيَ وَلَدُ هِرَّتِي، قَالَ شُرَيْحٌ: أَلْقِهَا مَعَ هَذِهِ، فَإِنْ هِيَ قَرَّتْ وَدَرَّتْ وَاسْبَطَرَّتْ فَهِيَ لَهَا، وَإِنْ فَرَّتْ وَهَرَبَتْ وَازْبَأَرَّتْ، فَلَيْسَ لَهَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَوْلُهُ اسْبَطَرَّتْ، يُرِيدُ: امْتَدَّتْ لِلْإِرْضَاعِ، وَازْبَأَرَّتْ: اقْشَعَرَّتْ وَتَنَفَّشَتْ. وَكَانَ يَقْضِي بِنَحْوِ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الشَّامِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَجَّحَ قَوْلَهُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ اسْتِحْسَانُ قَوْلِ الْقَافَّةِ فِي سَرِقَةِ الْأَمْوَالِ، وَالْأَخْذِ بِذَلِكَ، وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِذَا قَالَ صَاحِبُ الزَّرْعِ: أَفْسَدَتْ غَنَمُكَ زَرْعِي بِاللَّيْلِ، يُنْظَرُ فِي الْأَثَرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَثَرُ غَنَمِهِ فِي الزَّرْعِ، لَا بُدَّ لِصَاحِبِ الزَّرْعِ مِنْ أَنْ يَجِيءَ بِالْبَيِّنَةِ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِرُؤْيَةِ أَثَرِ الْغَنَمِ، وَأَنَّ الْبَيِّنَةَ إِنَّمَا تُطْلَبُ عِنْدَ عَدَمِ الْأَثَرِ. وَقَوْلُهُ: «وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ

دَعْوَى، فَأَنْكَرَ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّمَا تَجِبُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكَرِ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ نَوْعُ مُخَالَطَةٍ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَبَذَّلَ السُّفَهَاءُ عَلَى الرُّؤَسَاءِ بِطَلَبِ أَيْمَانِهِمْ. وَعِنْدَهُ: وَلَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ غَصَبَهُ، أَوْ سَرَقَ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُتَّهَمًا بِذَلِكَ، لَمْ يَسْتَحْلِفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَحُكِيَ أَيْضًا عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ، أَوْ مِمَّنْ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، أُدِّبَ الْمُدَّعِي عِنْدَ مَالِكٍ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أَحَلَفَ الْمُدَّعِيَ مَعَ بَيِّنَتِهِ أَنَّ شُهُودَهُ شَهِدُوا بِحَقٍّ، وَفَعَلَهُ أَيْضًا شُرَيْحٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَسَوَّارٌ الْعَنْبَرِيُّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، وَرُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَيْضًا. وَقَالَ إِسْحَاقُ: إِذَا اسْتَرَابَ الْحَاكِمُ، وَجَبَ ذَلِكَ. وَسَأَلَ مُهَنَّا الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: قَدْ فَعَلَهُ عَلِيٌّ، فَقَالَ لَهُ: أَيَسْتَقِيمُ هَذَا؟ فَقَالَ: قَدْ فَعَلَهُ عَلِيٌّ، فَأَثْبَتَ الْقَاضِي هَذِهِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، لَكِنَّهُ حَمَلَهَا عَلَى الدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّبِيِّ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ عَلِيًّا إِنَّمَا حَلَّفَ الْمُدَّعِيَ مَعَ بَيِّنَتِهِ عَلَى الْحَاضِرِ مَعَهُ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: هَذِهِ الْيَمِينُ لِتَقْوِيَةِ الدَّعْوَى إِذَا ضَعُفَتْ بِاسْتِرَابَةِ الشُّهُودِ كَالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ. وَكَانَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ يُحَلِّفُ الشُّهُودَ إِذَا اسْتَرَابَهُمْ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ سَوَّارٌ الْعَنْبَرِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةَ، وَجَوَّزَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ أَصْحَابِنَا لِوَالِي الْمَظَالِمِ دُونَ الْقُضَاةِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمَرْأَةِ الشَّاهِدَةِ عَلَى الرَّضَاعِ: إِنَّهَا تُسْتَحْلَفُ وَأَخَذَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى اسْتِحْلَافِ الشُّهُودِ عِنْدَ الِارْتِيَابِ بِشَهَادَتِهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ

فِي السَّفَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] إِلَى قَوْلِهِ: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} [المائدة: 106] [الْمَائِدَةِ: 106] ، وَهَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يُنْسَخِ الْعَمَلُ بِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ السَّلَفِ، وَقَدْ عَمِلَ بِهَا أَبُو مُوسَى، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَفْتَى بِهَا عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ فِي وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ، وَيُسْتَحْلَفَانِ مَعَ شَهَادَتِهِمَا. وَهَلْ يَمِينُهُمَا مِنْ بَابِ تَكْمِيلِ الشَّهَادَةِ، فَلَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمَا بِدُونِ يَمِينٍ، أَمْ مِنْ بَابِ الِاسْتِظْهَارِ عِنْدَ الرِّيبَةِ؟ وَهَذَا مُحْتَمَلٌ، وَأَصْحَابُنَا جَعَلُوهَا شَرْطًا، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ. وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ هُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِظْهَارِ، فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ الِاكْتِفَاءَ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، لِبُرُوزِ عَدَالَتِهِ، وَظُهُورِ صِدْقِهِ، اكْتَفَى بِشَهَادَتِهِ بِدُونِ يَمِينِ الطَّالِبِ. وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107] [الْمَائِدَةِ: 107] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ خَلَلٌ فِي شَهَادَةِ الْكُفَّارِ، حَلَفَ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ عَلَى خِيَانَتِهِمَا وَكَذِبِهِمَا، وَاسْتَحَقُّوا مَا حَلَفُوا عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْيَمِينَ فِي جَانِبِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَقَدْ قَوِيَتْ هَاهُنَا دَعْوَى الْوَرَثَةِ بِظُهُورِ كَذِبِ الشُّهُودِ الْكُفَّارِ، فَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِينَ، وَيَحْلِفُونَ مَعَ اللَّوْثِ، وَيَسْتَحِقُّونَ مَا ادَّعَوْهُ، كَمَا يَحْلِفُ الْأَوْلِيَاءُ فِي الْقَسَامَةِ مَعَ اللَّوْثِ،

وَيَسْتَحِقُّونَ بِذَلِكَ الدِّيَةَ وَالدَّمَ أَيْضًا عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا. وَقَضَى ابْنُ مَسْعُودٍ فِي رَجُلٍ مُسْلِمٍ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَأَوْصَى إِلَى رَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ مَعَهُ، وَسَلَّمَهُمَا مَا مَعَهُ مِنَ الْمَالِ، وَأَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ كُفَّارًا، ثُمَّ قَدِمَ الْوَصِيَّانِ، فَدَفَعَا بَعْضَ الْمَالِ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَكَتَمَا بَعْضَهُ، ثُمَّ قَدِمَ الْكُفَّارَ، فَشَهِدُوا عَلَيْهِمْ بِمَا كَتَمُوهُ مِنَ الْمَالِ، فَدَعَا الْوَصِيَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ، فَاسْتَحْلَفَهُمَا: مَا دَفَعَ إِلَيْهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا دَفَعَاهُ، ثُمَّ دَعَا الْكُفَّارَ، فَشَهِدُوا وَحَلَفُوا عَلَى شَهَادَتِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ أَوْلِيَاءَ الْمَيِّتِ أَنْ يَحْلِفُوا أَنَّ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى حَقٌّ، فَحَلَفُوا، فَقَضَى عَلَى الْوَصِيَّيْنِ بِمَا حَلَفُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَتَأَوَّلَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قَابَلَ بَيْنَ يَمِينِ الْأَوْصِيَاءِ وَالشُّهُودِ الْكُفَّارِ فَأَسْقَطَهَا، وَبَقِيَ مَعَ الْوَرَثَةِ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ، فَحَلَفُوا مَعَهَا، وَاسْتَحَقُّوا، لِأَنَّ جَانِبَهُمْ تَرَجَّحَ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ لَهُمْ، فَجَعَلَ الْيَمِينَ مَعَ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَقَضَى بِهَا. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ: هَلْ يُسْتَحْلَفُ فِي جَمِيعِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَوْ لَا يُسْتَحْلَفُ إِلَّا فِيمَا يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ كَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ؟ أَوْ لَا يُسْتَحْلَفُ إِلَّا فِيمَا يَصِحُّ بَذْلُهُ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ؟ أَوْ لَا يُسْتَحْلَفُ إِلَّا فِي كُلِّ دَعْوَى لَا تَحْتَاجُ إِلَى شَاهِدَيْنِ كَمَا حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ؟ وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: لَا يُسْتَحْلَفُ فِيهَا بِحَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الزَّكَاةِ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ:

إِذَا اتُّهِمَ، فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ، وَكَذَا حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ تَزَوَّجَ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ، ثُمَّ ادَّعَى الْجَهْلَ، أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى دَعْوَاهُ، وَكَذَا قَالَ إِسْحَاقُ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ: يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْقِلُ، وَفِي طَلَاقِ النَّاسِي: يَحْلِفُ عَلَى نِسْيَانِهِ، وَكَذَا قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الثَّلَاثَ، وَتُرَدُّ إِلَيْهِ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «كَانَ أُنَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ يَأْتُونَ بِلَحْمٍ، فَكَانَ فِي أَنْفُسِنَا مِنْهُ شَيْءٌ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اجْهَدُوا أَيْمَانَهُمْ إِنَّهُمْ ذَبَحُوهَا، ثُمَّ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا» وَأَبُو هَارُونَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَأَمَّا الْمُؤْتَمَنُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ حَيْثُ قُبِلَ قَوْلُهُ، فَهَلْ عَلَيْهِ يَمِينٌ أَمْ لَا؟ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ بِائْتِمَانِهِ، وَلَا يَمِينَ مَعَ التَّصْدِيقِ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْحَاكِمِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ. وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْيَمِينُ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا. وَالثَّالِثُ: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُتَّهَمَ وَهُوَ نَصُّ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ ائْتِمَانِهِ. وَأَمَّا إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ تُنَافِي حَالَ الِائْتِمَانِ، فَقَدِ اخْتَلَّ مَعْنَى الِائْتِمَانُ.

وَقَوْلُهُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ إِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ، وَيُنْكِرُ أَنَّهُ لِمَنِ ادَّعَاهُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ» فَأَمَّا مَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ مُدَّعٍ لِنَفْسِهِ مُنْكِرٌ لِدَعْوَاهُ، فَهَذَا أَسْهَلُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَلَا بُدَّ لِلْمُدَّعِي هُنَا مِنْ بَيِّنَةٍ، وَلَكِنْ يُكْتَفَى مِنَ الْبَيِّنَةِ هُنَا بِمَا لَا يُكْتَفَى بِهَا فِي الدَّعْوَى عَلَى الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ الْمُنْكَرِ. وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَسَائِلُ: مِنْهَا: اللُّقَطَةُ إِذَا جَاءَ مَنْ وَصَفَهَا، فَإِنَّهَا تُدْفَعُ إِلَيْهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ بِالِاتِّفَاقِ، لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ الدَّفْعُ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ، وَلَا يَجِبُ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجِبُ دَفْعُهَا بِذِكْرِ الْوَصْفِ الْمُطَابِقِ، كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَمِنْهَا الْغَنِيمَةُ إِذَا جَاءَ مَنْ يَدَّعِي مِنْهَا شَيْئًا، وَأَنَّهُ كَانَ لَهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْكُفَّارُ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَهُ اكْتُفِيَ بِهِ، وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَحْمَدُ وَقِيلَ لَهُ: فَيُرِيدُ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً؟ قَالَ: لَا بُدَّ بِهِ مِنْ بَيَانِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَهُ، وَإِنْ عُلِمَ ذَلِكَ، دَفَعَهُ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ. وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَشَرَ لِأَخِي فَرَسٌ بِعَيْنِ التَّمْرِ، فَرَآهُ فِي مَرْبِطِ سَعْدٍ، فَقَالَ: فَرَسِي فَقَالَ سَعْدٌ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَدْعُوهُ، فَيُحَمْحِمُ، فَدَعَاهُ فَحَمْحَمَ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لَحِقَ بِالْعَدُوِّ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهُ ضَالٌّ، فَوُضِعَ بَيْنَ الدَّوَابِّ الضَّالَّةِ، فَيَكُونُ كَاللُّقَطَةِ. وَمِنْهَا الْغُصُوبُ إِذَا عُلِمَ ظُلْمُ الْوُلَاةِ، وَطُلِبَ رَدُّهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَرُدُّ الْمَظَالِمَ إِلَى أَهْلِهَا بِغَيْرِ الْبَيِّنَةِ الْقَاطِعَةِ، كَانَ

يَكْتَفِي بِالْيَسِيرِ، إِذَا عَرَفَ صَرْفَ وَجْهِ مَظْلَمَةِ الرَّجُلِ رَدَّهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُ تَحْقِيقَ الْبَيِّنَةِ، لِمَا يُعْرِفُ مِنْ غَشَمِ الْوُلَاةِ قَبْلَهُ عَلَى النَّاسِ، وَلَقَدْ أُنْفِدَ بَيْتُ مَالِ الْعِرَاقِ فِي رَدِّ الْمَظَالِمِ حَتَّى حُمِلَ إِلَيْهَا مِنَ الشَّامِ، وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الْأَمْوَالَ الْمَغْصُوبَةَ مَعَ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَاللُّصُوصِ يُكْتَفَى مِنْ مُدَّعِيهَا بِالصِّفَةِ كَاللُّقَطَةِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ، وَأَنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ.

[الحديث الرابع والثلاثون من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه]

[الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ]

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَمِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعِنْدَهُ فِي حَدِيثِ طَارِقٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ ثُمَّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ. وَقَدْ رَوَى مَعْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ، وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» .

وَرَوَى سَالِمٌ الْمُرَادِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «سَيُصِيبُ أُمَّتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ بَلَاءٌ شَدِيدٌ مِنْ سُلْطَانِهِمْ، لَا يَنْجُو مِنْهُ إِلَّا رَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ وَقَلْبِهِ، فَذَلِكَ الَّذِي سَبَقَتْ لَهُ السَّوَابِقُ، وَرَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ فَصَدَّقَ بِهِ، وَلِلْأَوَّلِ عَلَيْهِ سَابِقَةٌ، وَرَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ، فَسَكَتَ، فَإِنْ رَأَى مَنْ يَعْمَلُ بِخَيْرٍ أَحَبَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَأَى مَنْ يَعْمَلُ بِبَاطِلٍ أَبْغَضَهُ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَنْجُو عَلَى إِبْطَائِهِ» وَهَذَا غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ. وَخَرَّجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ - وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا - عَنْ مَوْلًى لِعُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تُوشِكُ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ تَهْلَكَ إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ: رَجُلٌ أَنْكَرَ بِيَدِهِ وَبِلِسَانِهِ وَبِقَلْبِهِ، فَإِنْ جَبُنَ بِيَدِهِ، فَبِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ، فَإِنْ جَبُنَ بِلِسَانِهِ وَبِيَدِهِ فَبِقَلْبِهِ» . وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَلِيٍّ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَيَكُونُ بَعْدِي فِتَنٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُؤْمِنُ فِيهَا أَنْ يُغَيِّرَ بِيَدٍ وَلَا بِلِسَانٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: يُنْكِرُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ يُنْقِصُ ذَلِكَ إِيمَانَهُمْ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا، إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْقَطْرُ مِنَ الصَّفَا، وَهَذَا الْإِسْنَادُ مُنْقَطِعٌ» . وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا عَلَى وُجُوبِ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِنْكَارُهُ بِالْقَلْبِ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَمَنْ لَمْ يُنْكِرْ قَلْبُهُ الْمُنْكَرَ، دَلَّ عَلَى ذَهَابِ الْإِيمَانِ مِنْ قَلْبِهِ. وَقَدْ رَوَى عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ أَوَّلَ مَا تُغْلَبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِهَادِ الْجِهَادُ بِأَيْدِيكُمْ، ثُمَّ الْجِهَادُ بِأَلْسِنَتِكُمْ، ثُمَّ الْجِهَادُ بِقُلُوبِكُمْ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَلْبُهُ الْمَعْرُوفَ، وَيُنْكِرْ قَلْبُهُ الْمُنْكَرَ، نُكِّسَ فَجُعِلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ. وَسَمِعَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا يَقُولُ: هَلَكَ مَنْ لَمْ يَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ هَلَكَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكِرَ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكِرِ بِالْقَلْبِ فَرْضٌ لَا يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ هَلَكَ. وَأَمَّا الْإِنْكَارُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ، فَإِنَّمَا يَجِبُ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُوشِكُ مَنْ عَاشَ مِنْكُمْ أَنْ يَرَى مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيعُ لَهُ غَيْرَ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ كَارِهٌ. وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنِ الْعُرْسِ بْنِ عُمَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ، كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا» ، فَمَنْ شَهِدَ الْخَطِيئَةَ، فَكَرِهَهَا قَلْبُهُ كَانَ كَمَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا إِذَا عَجَزَ عَنْ إِنْكَارِهَا بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا، كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا وَقَدَرَ عَلَى إِنْكَارِهَا وَلَمْ يُنْكِرْهَا لِأَنَّ الرِّضَا بِالْخَطَايَا مِنْ أَقْبَحِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَيَفُوتُ بِهِ إِنْكَارُ الْخَطِيئَةِ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، لَا يَسْقُطُ، عَنْ أَحَدٍ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.

وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ حَضَرَ مَعْصِيَةً فَكَرِهَهَا، فَكَأَنَّهُ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا، فَأَحَبَّهَا، فَكَأَنَّهُ حَضَرُهَا» وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي قَبْلَهُ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْإِنْكَارَ بِالْقَلْبِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. فِي كُلِّ حَالٍ، وَأَمَّا الْإِنْكَارُ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ فَبِحَسَبِ الْقُدْرَةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي، ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا فَلَا يُغَيِّرُوا، إِلَّا يُوشِكُ اللَّهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابٍ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَالَ: قَالَ شُعْبَةُ فِيهِ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ» . وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي، يَقْدِرُونَ أَنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ فَلَا يُغَيِّرُونَ، إِلَّا أَصَابَهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا» . وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَعَزُّ وَأَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ، فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ، إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» . وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ عُمَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكِرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ وَهُمْ

قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلَا يُنْكِرُونَهُ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ» . وَخَرَّجَ أَيْضًا هُوَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَسْأَلُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يَقُولَ: مَا مَنَعَكَ إِذَا رَأَيْتَ الْمُنْكِرَ أَنْ تُنْكِرَهُ، فَإِذَا لَقَّنَ اللَّهُ عَبْدًا حُجَّتَهُ، قَالَ: يَا رَبِّ رَجَوْتُكَ وَفَرِقْتُ النَّاسَ» . فَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ» ، وَبَكَى أَبُو سَعِيدٍ، وَقَالَ: قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْنَا أَشْيَاءَ فَهِبْنَا. وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَزَادَ فِيهِ: «فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجْلٍ، وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يُقَالَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكَّرَ بِعَظِيمٍ» . وَكَذَلِكَ خَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَحْقِرْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَحْقِرُ أَحَدُنَا نَفْسَهُ؟ قَالَ: يَرَى أَمْرَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالٌ، ثُمَّ لَا يَقُولُ فِيهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِيَّ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: خَشِيتُ النَّاسَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: إِيَّايَ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ تَخْشَى» .

فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ مَحْمُولَانِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُ لَهُ مِنَ الْإِنْكَارِ مُجَرَّدَ الْهَيْبَةِ، دُونَ الْخَوْفِ الْمُسْقِطِ لِلْإِنْكَارِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: آمُرُ السُّلْطَانَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: إِنْ خِفْتَ أَنْ يَقْتُلَكَ، فَلَا، ثُمَّ عُدْتُ، فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عُدْتُ، فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا، فَفِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. وَقَالَ طَاوُسٌ: أَتَى رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَلَا أَقُومُ إِلَى هَذَا السُّلْطَانِ فَآمُرُهُ وَأَنْهَاهُ؟ قَالَ: لَا تَكُنْ لَهُ فِتْنَةٌ، قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ أَمَرَنِي بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ؟ قَالَ: ذَلِكَ الَّذِي تُرِيدُ، فَكُنْ حِينَئِذٍ رَجُلًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي فِيهِ: «يَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ» الْحَدِيثَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جِهَادِ الْأُمَرَاءِ بِالْيَدِ. وَقَدِ اسْتَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَقَالَ: هُوَ خِلَافُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ التَّغْيِيرَ بِالْيَدِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقِتَالَ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، فَقَالَ: التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ لَيْسَ بِالسَّيْفِ وَالسِّلَاحِ، وَحِينَئِذٍ فَجِهَادُ الْأُمَرَاءِ بِالْيَدِ أَنْ يُزِيلَ بِيَدِهِ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، مِثْلُ

أَنْ يُرِيقَ خُمُورَهُمْ أَوْ يَكْسِرَ آلَاتِ الْمَلَاهِي الَّتِي لَهُمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ يُبْطِلَ بِيَدِهِ مَا أَمَرُوا بِهِ مِنَ الظُّلْمِ إِنْ كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَكُلُّ هَذَا جَائِزٌ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ قِتَالِهِمْ، وَلَا مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمِ الَّذِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ، فَإِنَّ هَذَا أَكْثَرُ مَا يُخْشَى مِنْهُ أَنْ يُقْتَلَ الْآمِرُ وَحْدَهُ. وَأَمَّا الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ، فَيُخْشَى مِنْهُ الْفِتَنُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى سَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. نَعَمْ، إِنْ خَشِيَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُلُوكِ أَنْ يُؤْذِيَ أَهْلَهُ أَوْ جِيرَانَهُ، لَمْ يَنْبَغِ لَهُ التَّعَرُّضُ لَهُمْ حِينَئِذٍ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعَدِّي الْأَذَى إِلَى غَيْرِهِ، كَذَلِكَ قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ وَغَيْرُهُ، وَمَعَ هَذَا، فَمَتَى خَافَ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ السَّيْفَ، أَوِ السَّوْطَ، أَوِ الْحَبْسَ، أَوِ الْقَيْدَ، أَوِ النَّفْيَ، أَوْ أَخْذَ الْمَالِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَذَى، سَقَطَ أَمْرُهُمْ وَنَهْيُهُمْ، وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى ذَلِكَ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَتَعَرَّضُ لِلسُّلْطَانِ، فَإِنَّ سَيْفَهُ مَسْلُولٌ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ كَالْجِهَادِ، يَجِبُ عَلَى الْوَاحِدِ أَنْ يُصَابِرَ فِيهِ الِاثْنَيْنِ، وَيَحْرُمَ عَلَيْهِ الْفِرَارُ مِنْهُمَا، وَلَا يَجِبَ عَلَيْهِ مُصَابَرَةٌ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ خَافَ السَّبَّ، أَوْ سَمَاعَ الْكَلَامِ السَّيِّئِ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْإِنْكَارُ بِذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِنِ احْتَمَلَ الْأَذَى، وَقَوِيَ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» أَنْ يُعَرِّضَهَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ، قَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ.

وَيَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ مَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» . وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ.

وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزَّارِ " بِإِسْنَادٍ فِيهِ جَهَالَةٌ «عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الشُّهَدَاءِ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ؟ قَالَ: رَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ، فَأَمَرَهُ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهَاهُ عَنْ مُنْكَرٍ فَقَتَلَهُ» . وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَاهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ كُلُّهَا فِيهَا ضَعْفٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» ، فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُطِيقُ الْأَذَى وَلَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ حِينَئِذٍ لِلْآمِرِ، وَهَذَا حَقٌّ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ، كَذَلِكَ قَالَهُ الْأَئِمَّةُ، كَسُفْيَانَ وَأَحْمَدَ وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْإِنْكَارِ بِالْقَلْبِ، قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: نَحْنُ نَرْجُو إِنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ، فَقَدْ سَلِمَ، وَإِنْ أَنْكَرَ بِيَدِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يَخَافُ كَمَا صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ فِي وُجُوبِ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَصَحَّ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ السَّلَفِ فِي هَذَا، فَقَالَ: يَكُونُ لَكَ مَعْذِرَةٌ، وَهَذَا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى الْمُعْتَدِينَ فِي السَّبْتِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِمَنْ قَالَ لَهُمْ: أَتَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الْأَعْرَافِ: 164] ،

وَقَدْ وَرَدَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى سُقُوطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَبُولِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، فَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيِّ «عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] [الْمَائِدَةِ: 105] ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَوَامِّ» . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ ذَكَرَ الْفِتْنَةَ، فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُ النَّاسَ مَرَجَتْ عُهُودُهُمْ، وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ، وَكَانُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ؟ فَقَالَ: الْزَمْ بَيْتَكَ، وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ» . وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] [الْمَائِدَةِ: 105] ، قَالُوا: لَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ، إِنَّمَا تَأْوِيلُهَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِذَا اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ وَالْأَهْوَاءُ، وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا، وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَيَأْمُرُ الْإِنْسَانُ حِينَئِذٍ نَفْسَهُ، حِينَئِذٍ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِأَقْوَامٍ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِنَا، إِنْ قَالُوا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ. وَقَالَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالُوا: إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ حِينَئِذٍ بِنَفْسِكَ، لَا يَضُرُّكَ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتَ. وَعَنْ مَكْحُولٍ، قَالَ: لَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ، إِذَا هَابَ الْوَاعِظُ، وَأَنْكَرَ الْمَوْعُوظُ، فَعَلَيْكَ حِينَئِذٍ بِنَفْسِكَ لَا يَضُرُّكَ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَ: يَا لَهَا مِنْ ثِقَةٍ مَا أَوْثَقَهَا! وَمِنْ سَعَةٍ مَا أَوْسَعَهَا! . وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ خَافَ الضَّرَرَ، سَقَطَ عَنْهُ، وَكَلَامُ ابْنِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، كَمَا حُكِيَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَكَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: مُرْ مَنْ تَرَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْكَ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يُنْكِرُ بِقَلْبِهِ: «وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ وَفَعَلَهَا، كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ تَرَكَهَا عَجْزًا عَنْهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ: «أَمَّا نُقْصَانُ دِينِهَا، فَإِنَّهَا تَمْكُثُ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ لَا تُصَلِّي يُشِيرُ إِلَى أَيَّامِ الْحَيْضِ» ، مَعَ أَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنَ الصَّلَاةِ

حِينَئِذٍ، وَقَدْ جُعِلَ ذَلِكَ نَقْصًا فِي دِينِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى وَاجِبٍ وَفَعَلَهُ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ عَجَزَ عَنْهُ وَتَرَكَهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فِي تَرْكِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ مُتَعَلِّقٌ بِالرُّؤْيَةِ، فَلَوْ كَانَ مَسْتُورًا فَلَمْ يَرَهُ، وَلَكِنْ عَلِمَ بِهِ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ لَا يَعْرِضُ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يُفَتِّشُ عَمَّا اسْتَرَابَ بِهِ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَكْشِفُ الْمُغَطَّى إِذَا تَحَقَّقَهُ، وَلَوْ سَمِعَ صَوْتَ غِنَاءٍ مُحَرَّمٍ أَوْ آلَاتِ الْمَلَاهِي، وَعَلِمَ الْمَكَانَ الَّتِي هِيَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُنْكِرُهَا، لِأَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ الْمُنْكَرَ، وَعَلِمَ مَوْضِعَهُ، فَهُوَ كَمَا رَآهُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَقَالَ: إِذَا لَمْ يَعْلَمْ مَكَانَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا تَسَوُّرُ الْجُدْرَانِ عَلَى مَنْ عَلِمَ اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى مُنْكَرٍ، فَقَدْ أَنْكَرَهُ الْأَئِمَّةُ مِثْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّجَسُّسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ فُلَانًا تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا، فَقَالَ: نَهَانَا اللَّهُ عَنِ التَّجَسُّسِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ " الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ ": إِنْ كَانَ فِي الْمُنْكَرِ الَّذِي غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الِاسْتِسْرَارُ بِهِ بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ عَنْهُ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا كَالزِّنَا وَالْقَتْلِ، فَلَهُ التَّجَسُّسُ وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنِ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الرُّتْبَةِ، لَمْ يَجُزِ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ، وَلَا الْكَشْفُ عَنْهُ. وَالْمُنْكَرُ الَّذِي يَجِبُ إِنْكَارُهُ: مَا كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَجِبُ إِنْكَارُهُ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ مُجْتَهِدًا فِيهِ، أَوْ مُقَلِّدًا لِمُجْتَهِدٍ تَقْلِيدًا سَائِغًا. وَاسْتَثْنَى الْقَاضِي فِي " الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ " مَا ضَعُفَ فِيهِ الْخِلَافُ وَكَانَ

ذَرِيعَةً إِلَى مَحْظُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، كَرِبَا النَّقْدِ الْخِلَافُ فِيهِ ضَعِيفٌ، وَهُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَى رِبَا النِّسَاءِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَكَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَإِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الزِّنَا. وَذُكِرَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ شَاقِلَا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْمُتْعَةَ هِيَ الزِّنَا صُرَاحًا. عَنِ ابْنِ بَطَّةَ قَالَ: لَا يُفْسَخُ نِكَاحٌ حَكَمَ بِهِ قَاضٍ إِنْ كَانَ قَدْ تَأَوَّلَ فِيهِ تَأْوِيلًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَضَى لِرَجُلٍ بِعَقْدِ مُتْعَةٍ، أَوْ طَلَّقَ ثَلَاثًا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَحَكَمَ بِالْمُرَاجَعَةِ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ، وَعَلَى فَاعِلِهِ الْعُقُوبَةُ وَالنَّكَالُ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ الْإِنْكَارُ عَلَى اللَّاعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ، وَتَأَوَّلَهُ الْقَاضِي عَلَى مَنْ لَعِبَ بِهَا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ، أَوْ تَقْلِيدٍ سَائِغٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ أَنَّهُ يُحَدُّ شَارِبُ النَّبِيذِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَإِقَامَةُ الْحَدِّ أَبْلَغُ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَفْسُقُ بِذَلِكَ عِنْدَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُنْكَرُ كُلُّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ضَعُفَ الْخِلَافُ فِيهِ، لِدَلَالَةِ السُّنَّةِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَلَا يَخْرُجُ فَاعِلُهُ الْمُتَأَوِّلُ مِنَ الْعَدَالَةِ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ لَا يُتِمُّ صَلَاتَهُ وَلَا يُقِيمُ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، مَعَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ تَارَةً يَحْمِلُ عَلَيْهِ رَجَاءُ ثَوَابِهِ، وَتَارَةً خَوْفُ الْعِقَابِ فِي تَرْكِهِ، وَتَارَةً الْغَضَبُ لِلَّهِ عَلَى انْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ، وَتَارَةً النَّصِيحَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالرَّحْمَةُ لَهُمْ وَرَجَاءُ إِنْقَاذِهِمْ مِمَّا أَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِغَضَبِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَارَةً يَحْمِلُ عَلَيْهِ إِجْلَالُ اللَّهِ وَإِعْظَامُهُ وَمَحَبَّتُهُ، وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرُ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرُ فَلَا يُكْفَرُ، وَأَنَّهُ يُفْتَدَى مِنِ انْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ بِالنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: وَدِدْتُ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ أَطَاعُوا اللَّهَ، وَأَنَّ لَحْمِي قُرِضَ بِالْمَقَارِيضِ. وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَقُولُ لِأَبِيهِ: وَدِدْتُ أَنِّي غَلَتْ بِي وَبِكَ الْقُدُورُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَمَنْ لَحَظَ هَذَا الْمَقَامَ وَالَّذِي قَبْلَهُ، هَانَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَلْقَى مِنَ الْأَذَى فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَرُبَّمَا دَعَا لِمَنْ آذَاهُ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا «ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» . وَبِكُلِّ حَالٍ يَتَعَيَّنُ الرِّفْقُ فِي الْإِنْكَارِ، قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ إِلَّا مَنْ كَانَ فِيهِ خِصَالٌ ثَلَاثٌ: رَفِيقٌ بِمَا يَأْمُرُ، رَفِيقٌ بِمَا يَنْهَى، عَدْلٌ بِمَا يَأْمُرُ، عَدْلٌ بِمَا يَنْهَى، عَالِمٌ بِمَا يَأْمُرُ، عَالِمٌ بِمَا يَنْهَى. وَقَالَ أَحْمَدُ: النَّاسُ مُحْتَاجُونَ إِلَى مُدَارَاةٍ وَرِفْقِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ بِلَا غِلْظَةٍ إِلَّا رَجُلًا مُعْلِنًا بِالْفِسْقِ، فَلَا حُرْمَةَ لَهُ، قَالَ: وَكَانَ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ إِذَا مَرُّوا بِقَوْمٍ يَرَوْنَ مِنْهُمْ مَا يَكْرَهُونَ، يَقُولُونَ مَهْلًا رَحِمَكُمُ اللَّهُ، مَهْلًا رَحِمَكُمُ اللَّهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يَأْمُرُ بِالرِّفْقِ وَالْخُضُوعِ، فَإِنْ أَسْمَعُوهُ مَا يَكْرَهُ، لَا يَغْضَبُ، فَيَكُونُ يُرِيدُ يَنْتَصِرُ لِنَفْسِهِ.

[الحديث الخامس والثلاثون لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض]

[الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ]

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا - وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ هَذَا لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " ثِقَاتِهِ " وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: هُوَ مَجْهُولٌ. وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، فَقَالَ فِيهِ: سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَوَهِمَ فِي قَوْلِهِ: " سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ " إِنَّمَا هُوَ: أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى ابْنِ كُرَيْزٍ، قَالَهُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَدْ رُوِيَ بَعْضُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَخُونُهُ وَلَا يَكْذِبُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى

الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: عِرْضُهُ وَمَالُهُ وَدَمُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ قَوْلِهِ: كُلُّ الْمُسْلِمِ إِلَى آخِرِهِ. وَخَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» . وَخَرَّجَاهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَعِرْضُهُ، وَمَالُهُ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَالتَّقْوَى هَاهُنَا - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْقَلْبِ - وَحَسْبُ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحَقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» .

وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ آخِرَهُ فَقَطْ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ» ". وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ " «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، وَبِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» . وَيُرْوَى مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا.

فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَحَاسَدُوا يَعْنِي: لَا يَحْسُدْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَالْحَسَدُ مَرْكُوزٌ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَفُوقَهُ أَحَدٌ مِنْ جِنْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفَضَائِلِ. ثُمَّ يَنْقَسِمُ النَّاسُ بَعْدَ هَذَا إِلَى أَقْسَامٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى فِي زَوَالِ نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ بِالْبَغْيِ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى فِي نَقْلِ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى فِي إِزَالَتِهِ عَنِ الْمَحْسُودِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ إِلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ شَرُّهُمَا وَأَخْبَثُهُمَا، وَهَذَا هُوَ الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ كَانَ ذَنْبَ إِبْلِيسَ حَيْثُ كَانَ حَسَدَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَآهُ قَدْ فَاقَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِأَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَسْكَنَهُ فِي جِوَارِهِ، فَمَا زَالَ يَسْعَى فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ حَتَّى أُخْرِجَ مِنْهَا، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ لِنُوحٍ: اثْنَتَانِ بِهِمَا أُهْلِكُ بَنِي آدَمَ: الْحَسَدُ، وَبِالْحَسَدِ لُعِنْتُ وَجُعِلْتُ شَيْطَانًا رَجِيمًا، وَالْحِرْصُ [وَبِالْحِرْصِ] أُبِيحَ آدَمُ الْجَنَّةَ كُلَّهَا، فَأَصَبْتُ حَاجَتِي مِنْهُ بِالْحِرْصِ. خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْيَهُودَ بِالْحَسَدِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] [الْبَقَرَةِ: 109] ، وَقَوْلِهِ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] [النِّسَاءِ: 54] . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعْرِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أُنْبِئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» .

وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ، أَوْ قَالَ: الْعُشْبَ» . وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الْأُمَمِ، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَا دَاءُ الْأُمَمِ؟ قَالَ: الْأَشَرُ وَالْبَطَرُ، وَالتَّكَاثُرُ وَالتَّنَافُسُ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّبَاغُضُ، وَالتَّحَاسُدُ حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ ثُمَّ الْهَرْجُ» .

وَقِسْمٌ آخَرُ مِنَ النَّاسِ إِذَا حَسَدَ غَيْرَهُ، لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى حَسَدِهِ، وَلَمْ يَبْغِ عَلَى الْمَحْسُودِ بِقَوْلٍ وَلَا بِفِعْلٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِذَلِكَ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ وُجُوهٍ ضَعِيفَةٍ، وَهَذَا عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُمْكِنَهُ إِزَالَةُ ذَلِكَ الْحَسَدِ مِنْ نَفْسِهِ، فَيَكُونَ مَغْلُوبًا عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يَأْثَمُ بِهِ. وَالثَّانِي: مَنْ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ اخْتِيَارًا، وَيُعِيدُهُ وَيُبْدِيهِ فِي نَفْسِهِ مُسْتَرْوِحًا إِلَى تَمَنِّي زَوَالِ نِعْمَةِ أَخِيهِ، فَهَذَا شَبِيهٌ بِالْعَزْمِ الْمُصَمِّمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَفِي الْعِقَابِ عَلَى ذَلِكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَرُبَّمَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَكِنَّ هَذَا يَبْعُدُ أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الْبَغْيِ عَلَى الْمَحْسُودِ، وَلَوْ بِالْقَوْلِ، فَيَأْثَمُ بِذَلِكَ. وَقِسْمٌ آخَرُ إِذَا حَسَدَ لَمْ يَتَمَنَّ زَوَالَ نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ، بَلْ يَسْعَى فِي اكْتِسَابِ مِثْلِ فَضَائِلِهِ، وَيَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، فَإِنْ كَانَتِ الْفَضَائِلُ دُنْيَوِيَّةً، فَلَا خَيْرَ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا: {يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص: 79] [الْقَصَصِ: 79] ، وَإِنْ كَانَتْ فَضَائِلَ دِينِيَّةً، فَهُوَ حَسَنٌ، وَقَدْ تَمَنَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ» ، وَهَذَا هُوَ الْغِبْطَةُ، وَسَمَّاهُ حَسَدًا مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ.

وَقِسْمٌ آخَرُ إِذَا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ الْحَسَدَ، سَعَى فِي إِزَالَتِهِ، وَفِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْمَحْسُودِ بِإِسْدَاءِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَالدُّعَاءِ لَهُ، وَنَشْرِ فَضَائِلِهِ، وَفِي إِزَالَةِ مَا وَجَدَ لَهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْحَسَدِ حَتَّى يُبَدِّلَهُ بِمَحَبَّةِ أَنْ يَكُونَ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ خَيْرًا مِنْهُ وَأَفْضَلَ، وَهَذَا مِنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ، وَصَاحِبُهُ هُوَ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ الَّذِي يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي تَفْسِيرِ حَدِيثِ: «لَا يُؤْمِنْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَا تَنَاجَشُوا: فَسَرَّهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالنَّجْشِ فِي الْبَيْعِ، وَهُوَ: أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ مَنْ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا، إِمَّا لِنَفْعِ الْبَائِعِ لِزِيَادَةِ الثَّمَنِ لَهُ، أَوْ بِإِضْرَارِ الْمُشْتَرِي بِتَكْثِيرِ الثَّمَنِ عَلَيْهِ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «نَهَى عَنِ النَّجْشِ» . وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: النَّاجِشُ: آكِلُ رِبًا خَائِنٌ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا كَانَ بِالنَّهْيِ عَالِمًا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَيْعِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ فَاسِدٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَ النَّاجِشُ هُوَ الْبَائِعُ أَوْ مَنْ وَاطَأَهُ الْبَائِعُ عَلَى النَّجْشِ فَسَدَ، لِأَنَّ النَّهْيَ هُنَا يَعُودُ إِلَى الْعَاقِدِ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَفْسُدْ، لِأَنَّهُ يَعُودُ إِلَى أَجْنَبِيٍّ. وَكَذَا حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَّلَ

صِحَّةَ الْبَيْعِ بِأَنَّ الْبَائِعَ غَيْرُ النَّاجِشِ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَأَحْمَدَ أَثْبَتَا لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْحَالِ، وَغُبِنَ غَبْنًا فَاحِشًا يَخْرُجُ عَنِ الْعَادَةِ، وَقَدَّرَهُ مَالِكٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بِثُلُثِ الثَّمَنِ، فَإِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ الْفَسْخَ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِمْسَاكَ، فَإِنَّهُ يَحُطُّ مَا غُبِنَ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ، ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَسَّرَ التَّنَاجُشُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَصْلَ النَّجْشِ فِي اللُّغَةِ: إِثَارَةُ الشَّيْءِ بِالْمَكْرِ وَالْحِيلَةِ وَالْمُخَادَعَةِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ النَّاجِشُ فِي الْبَيْعِ نَاجِشًا، وَيُسَمَّى الصَّائِدُ فِي اللُّغَةِ نَاجِشًا، لِأَنَّهُ يُثِيرُ الصَّيْدَ بِحِيلَتِهِ عَلَيْهِ، وَخِدَاعِهِ لَهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَا تَتَخَادَعُوا، وَلَا يُعَامِلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ. وَإِنَّمَا يُرَادُ بِالْمَكْرِ وَالْمُخَادَعَةِ إِيصَالُ الْأَذَى إِلَى الْمُسْلِمِ: إِمَّا بِطْرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَإِمَّا اجْتِلَابِ نَفْعِهِ بِذَلِكَ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ وُصُولُ الضَّرَرِ إِلَيْهِ، وَدُخُولُهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] [فَاطِرٍ: 43] . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ غَشَّنَا، فَلَيْسَ مِنَّا، وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ فِي النَّارِ» . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ حَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الْمَرْفُوعِ: «مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا أَوْ مَكَرَ بِهِ» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ. فَيَدْخُلُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي التَّنَاجُشِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْمُعَامَلَاتِ بِالْغِشِّ وَنَحْوِهِ، كَتَدْلِيسِ الْعُيُوبِ، وَكِتْمَانِهَا، وَغِشِّ الْمَبِيعِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ، وَغَبْنِ الْمُسْتَرْسِلِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْمُمَاكَسَةَ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْمَكْرِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ:

لَيْسَ دُنْيَا إِلَّا بِدِينٍ وَلَيْـ ... سَ الدِّينُ إِلَّا مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ إِنَّمَا الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّا ... رِ هُمَا مِنْ خِصَالِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْمَكْرُ بِمَنْ يَجُوزُ إِدْخَالُ الْأَذَى عَلَيْهِ، وَهُمُ الْكُفَّارُ وَالْمُحَارِبُونَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَبَاغَضُوا» : نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنِ التَّبَاغُضِ بَيْنَهُمْ فِي غَيْرِ اللَّهِ، بَلْ عَلَى أَهْوَاءِ النُّفُوسِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ جَعَلَهُمُ اللَّهُ إِخْوَةً، وَالْإِخْوَةُ يَتَحَابُّونَ بَيْنَهُمْ وَلَا يَتَبَاغَضُونَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَحَادِيثَ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّبَاغُضِ وَالتَّحَاسُدِ. وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَا يُوقِعُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، كَمَا قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] [الْمَائِدَةِ: 91] . وَامْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِالتَّأْلِيفِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] [آلِ عِمْرَانَ: 103] ، وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ - وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 62 - 63] [الْأَنْفَالِ: 62 - 63]

وَلِهَذَا الْمَعْنَى حَرَّمَ الْمَشْيَ بِالنَّمِيمَةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ إِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَرَخَّصَ فِي الْكَذِبِ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَرَغَّبَ اللَّهُ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] [النِّسَاءِ: 114] ، وَقَالَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] [الْحُجُرَاتِ: 9] ، وَقَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] [الْأَنْفَالِ: 1] . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتِ» . وَأَمَّا الْبُغْضُ فِي اللَّهِ، فَهُوَ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ، وَلَوْ ظَهَرَ لِرَجُلٍ مِنْ أَخِيهِ شَرٌّ، فَأَبْغَضَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ مَعْذُورًا فِيهِ فِي نَفْسِ

الْأَمْرِ، أُثِيبَ الْمُبْغِضُ لَهُ، وَإِنْ عُذِرَ أَخُوهُ، كَمَا قَالَ عُمَرُ: " إِنَّا كُنَّا نَعْرِفُكُمْ إِذْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَإِذْ يَنْزِلُ الْوَحْيُ، وَإِذْ يُنْبِئُنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ أَلَا وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ انْطُلِقَ بِهِ، وَانْقَطَعَ الْوَحْيُ، وَإِنَّمَا نُعَرِّفُكُمْ بِمَا نُخْبِرُكُمْ، أَلَا مَنْ أَظْهَرَ مِنْكُمْ لَنَا خَيْرًا ظَنَنَّا بِهِ خَيْرًا، وَأَحْبَبْنَاهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ مِنْكُمْ شَرًّا ظَنَنَّا بِهِ شَرًّا وَأَبْغَضْنَاهُ عَلَيْهِ، سَرَائِرُكُمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ ". وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا يُظْهِرُ خَيْرًا، وَيُسِرُّ شَرًّا، أَحْبَبْتَهُ عَلَيْهِ، آجَرَكَ اللَّهُ عَلَى حُبِّكَ الْخَيْرَ، وَلَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا يُظْهِرُ شَرًّا، وَيُسِرُّ خَيْرًا بَغَضْتَهُ عَلَيْهِ، آجَرَكَ اللَّهُ عَلَى بُغْضِكَ الشَّرَّ. وَلَمَّا كَثُرَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي مَسَائِلِ الدِّينِ، وَكَثُرَ تَفَرُّقُهُمْ، كَثُرَ بِسَبَبِ ذَلِكَ تَبَاغُضُهُمْ وَتَلَاعُنُهُمْ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يُظْهِرُ أَنَّهُ يُبْغِضُ لِلَّهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعْذُورًا، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَعْذُورًا، بَلْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ، مُقَصِّرًا فِي الْبَحْثِ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا يُبْغِضُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْبُغْضِ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَقَعُ لِمُخَالَفَةِ مَتْبُوعٍ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ، وَهَذَا الظَّنُّ خَطَأٌ قَطْعًا، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ فِيمَا خُولِفَ فِيهِ، فَهَذَا الظَّنُّ قَدْ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَامِلُ عَلَى الْمَيْلِ مُجَرَّدَ الْهَوَى، وَالْإِلْفَ، أَوِ الْعَادَةَ، وَكُلُّ هَذَا يَقْدَحُ فِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبُغْضُ لِلَّهِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَنْصَحَ نَفْسَهُ، وَيَتَحَرَّزَ فِي هَذَا غَايَةَ التَّحَرُّزِ، وَمَا أُشْكِلَ مِنْهُ، فَلَا يُدْخِلُ نَفْسَهُ فِيهِ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْبُغْضِ الْمُحَرَّمِ. وَهَاهُنَا أَمْرٌ خَفِيٌّ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ قَدْ يَقُولُ

قَوْلًا مَرْجُوحًا، وَيَكُونُ مُجْتَهِدًا فِيهِ، مَأْجُورًا عَلَى اجْتِهَادِهِ فِيهِ، مَوْضُوعًا عَنْهُ خَطَؤُهُ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ الْمُنْتَصِرُ لِمَقَالَتِهِ تِلْكَ بِمَنْزِلَتِهِ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَنْتَصِرُ لِهَذَا الْقَوْلِ إِلَّا لِكَوْنِ مَتْبُوعِهِ قَدْ قَالَهُ، بِحَيْثُ إِنَّهُ لَوْ قَالَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ، لَمَا قَبِلَهُ، وَلَا انْتَصَرَ لَهُ، وَلَا وَالَى مَنْ وَافَقَهُ، وَلَا عَادَى مَنْ خَالَفَهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا يَظُنُّ أَنَّهُ إِنَّمَا انْتَصَرَ لِلْحَقِّ بِمَنْزِلَةِ مَتْبُوعِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَتْبُوعَهُ إِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ الِانْتِصَارَ لِلْحَقِّ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ، وَأَمَّا هَذَا التَّابِعُ فَقَدْ شَابَ انْتِصَارَهُ لِمَا يَظُنُّهُ الْحَقَّ إِرَادَةُ عُلُوِّ مَتْبُوعِهِ، وَظُهُورُ كَلِمَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى الْخَطَأِ، وَهَذِهِ دَسِيسَةٌ تَقْدَحُ فِي قَصْدِ الِانْتِصَارِ لِلْحَقِّ، فَافْهَمْ هَذَا، فَإِنَّهُ فَهْمٌ عَظِيمٌ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَقَوْلُهُ: «وَلَا تَدَابَرُوا» قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: التَّدَابُرُ: الْمُصَارَمَةُ وَالْهُجْرَانُ، مَأْخُوذٌ مِنْ أَنْ يُوَلِّيَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ دُبُرَهُ، وَيُعْرِضَ عَنْهُ بِوَجْهِهِ، وَهُوَ التَّقَاطُعُ. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ» . وَخَرَّجَهُ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيَصُدُّ هَذَا، وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» .

وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً، فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ» . وَكُلُّ هَذَا فِي التَّقَاطُعِ لِلْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَأَمَّا لِأَجْلِ الدِّينِ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِجْرَانِهِمْ لَمَّا خَافَ مِنْهُمُ النِّفَاقَ، وَأَبَاحَ هِجْرَانَ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُغَلَّظَةِ وَالدُّعَاةِ إِلَى الْأَهْوَاءِ، وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ هِجْرَانَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَالزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ تَأْدِيبًا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ عَلَى الثَّلَاثِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَجَرَ نِسَاءَهُ شَهْرًا. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَنْقَطِعُ الْهِجْرَانُ بِالسَّلَامِ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَنْقَطِعُ بِذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةِ وَهْبٍ، وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلَاثٌ فَلْيَلْقَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِالْإِثْمِ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُ مِنَ الْهِجْرَةِ» . وَلَكِنَّ هَذَا فِيمَا إِذَا امْتَنَعَ الْآخَرُ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَعَ الرَّدِّ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْهَجْرِ مَوَدَّةٌ، وَلَمْ يَعُودُوا إِلَيْهَا، فَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَسُئِلَ عَنِ السَّلَامِ: يَقْطَعُ الْهِجْرَانَ؟ فَقَالَ: قَدْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَقَدْ صَدَّ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا» ، فَإِذَا كَانَ قَدْ عَوَّدَهُ

أَيْ أَنْ يُكَلِّمَهُ أَوْ يُصَافِحَهُ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ بِدُونِ الْعَوْدَةِ إِلَى الْمَوَدَّةِ. وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، فَقَالَ فِي الْأَجَانِبِ: يَزُولُ الْهِجْرَةُ بَيْنَهُمْ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ، بِخِلَافِ الْأَقَارِبِ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِوُجُوبِ صِلَةِ الرَّحِمِ. قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» قَدْ تَكَاثَرَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «لَا يَسُمِ الْمُسْلِمُ عَلَى سَوْمِ الْمُسْلِمِ، وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَتِهِ» . وَخَرَّجَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ» . وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَذَرَ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا حَقٌّ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَلَا يُسَاوِيهِ الْكَافِرُ فِي ذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ الْكَافِرِ، وَيَخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ، كَمَا لَا يَثْبُتُ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَقُّ الشُّفْعَةِ عِنْدَهُ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ.

وَاخْتَلَفُوا: هَلِ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ أَوِ التَّنْزِيهِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هُوَ لِلتَّنْزِيهِ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَصِحُّ الْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَالنِّكَاحُ عَلَى خُطْبَتِهِ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: يَصِحُّ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي النِّكَاحِ: إِنَّهُ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فُرِّقَ بَيْنِهِمَا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا لَا يُفَرَّقُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ: إِنَّهُ بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَحَكَاهُ عَنْ أَحْمَدَ. وَمَعْنَى الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ: أَنْ يَكُونَ قَدْ بَاعَ مِنْهُ شَيْئًا، فَيَبْذُلَ لِلْمُشْتَرِي سِلْعَتَهُ لِيَشْتَرِيَهَا، وَيَفْسَخَ بَيْعَ الْأَوَّلِ. وَهَلْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الْبَذْلُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْفَسْخِ فِيهِ، أَمْ هُوَ عَامٌّ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ وَبَعْدِهَا؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ حَكَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ، وَمَالَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ عَامٌّ فِي الْحَالَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِمَا إِذَا كَانَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مُشَيْشٍ وَمَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْفَسْخِ بِنَفْسِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ إِذَا رَغِبَ فِي رَدِّ السِّلْعَةِ الْأُولَى عَلَى بَائِعِهَا، فَإِنَّهُ يَتَسَبَّبُ إِلَى رَدِّهَا عَلَيْهِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الطُّرُقِ الْمُقْتَضِيَةِ لِضَرَرِهِ، وَلَوْ بِإِلْحَاحٍ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمَا أَدَّى إِلَى ضَرَرِ الْمُسْلِمِ، كَانَ مُحَرَّمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» : هَذَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالتَّعْلِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ إِذَا تَرَكُوا التَّحَاسُدَ، وَالتَّنَاجُشَ، وَالتَّبَاغُضَ، وَالتَّدَابُرَ، وَبَيْعَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، كَانُوا إِخْوَانًا. وَفِيهِ أَمْرٌ بِاكْتِسَابِ مَا يَصِيرُ الْمُسْلِمُونَ بِهِ إِخْوَانًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ أَدَاءُ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ، وَإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، وَالِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَالنُّصْحِ بِالْغَيْبِ.

وَفِي " التِّرْمِذِيَّ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَهَادَوْا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ» وَخَرَّجَهُ غَيْرُهُ، وَلَفْظُهُ: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» . وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزَّارِ " عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَهَادَوْا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تَسُلُّ السَّخِيمَةَ» . وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - يَرْفَعُ الْحَدِيثَ - قَالَ: «تَصَافَحُوا، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الشَّحْنَاءَ، وَتَهَادَوْا» . وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُصَافَحَةُ تَزِيدُ فِي الْوُدِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ إِذَا تَرَاءَى الْمُتَحَابَّانِ، فَضَحِكَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ، وَتَصَافَحَا تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَحَاتُّ الْوَرَقُ مِنَ الشَّجَرِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَذَا لَيَسِيرٌ مِنَ الْعَمَلِ، قَالَ: تَقُولُ يَسِيرٌ وَاللَّهُ يَقُولُ: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] ؟ [الْأَنْفَالِ: 63] .

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ» . هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] [الْحُجُرَاتِ: 10] ، فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةً، أُمِرُوا فِيمَا بَيْنَهُمَا بِمَا يُوجِبُ تَآلُفَ الْقُلُوبِ وَاجْتِمَاعَهَا، وَنُهُوا عَمَّا يُوجِبُ تَنَافُرَ الْقُلُوبِ وَاخْتِلَافَهَا، وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَخَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوصِلَ لِأَخِيهِ النَّفْعَ، وَيَكُفَّ عَنْهُ الضَّرَرَ، وَمِنْ أَعْظَمِ الضُّرِّ الَّذِي يَجِبُ كَفُّهُ عَنِ الْأَخِ الْمُسْلِمِ الظُّلْمُ، وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِ، بَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى الظُّلْمِ مُسْتَوْفًى عِنْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْإِلَهِيِّ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا» . وَمِنْ ذَلِكَ: خِذْلَانُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مَأْمُورٌ أَنْ يَنْصُرَ أَخَاهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَذَلِكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ» . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.

وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْضِعٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ، فَلَمْ يَنْصُرْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ، أَذَلَّهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ نَصَرَ أَخَاهُ بِالْغَيْبِ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ نَصْرَهُ، نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» .

وَمِنْ ذَلِكَ: كَذِبُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَهُ فَيَكْذِبَهُ، بَلْ لَا يُحَدِّثُهُ إِلَّا صِدْقًا، وَفِي " مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنِ النَّوَاسِ بْنِ سَمْعَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ بِهِ كَاذِبٌ» . وَمِنْ ذَلِكَ: احْتِقَارُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ نَاشِئٌ عَنِ الْكِبْرِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «الْكِبْرُ سَفَهُ الْحَقِّ وَازْدِرَاءُ النَّاسِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَغَمْصُ النَّاسِ» وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ: «فَلَا يَرَاهُمْ شَيْئًا» وَغَمْصُ النَّاسِ: الطَّعْنُ عَلَيْهِمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11] [الْحُجُرَاتِ: 11] ، فَالْمُتَكَبِّرُ يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ بِعَيْنِ الْكَمَالِ، وَإِلَى غَيْرِهِ بِعَيْنِ النَّقْصِ، فَيَحْتَقِرُهُمْ وَيَزْدَرِيهِمْ، وَلَا يَرَاهُمْ أَهْلًا لِأَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِهِمْ، وَلَا أَنْ يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمُ الْحَقَّ إِذَا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّقْوَى هَاهُنَا يُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَرَمَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ بِالتَّقْوَى، فَرُبَّ مَنْ يَحْقِرُهُ النَّاسُ لِضَعْفِهِ، وَقِلَّةِ حَظِّهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَهُوَ أَعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّنْ لَهُ قَدْرٌ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّمَا النَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ بِحَسَبِ التَّقْوَى، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]

[الْحُجُرَاتِ 13] ، «وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «الْكَرَمُ التَّقْوَى» ، وَالتَّقْوَى أَصْلُهَا فِي الْقَلْبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] [الْحَجِّ: 32] . وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْإِلَهِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ: «لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا» . وَإِذَا كَانَ أَصْلُ التَّقْوَى فِي الْقُلُوبِ، فَلَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ عَلَى حَقِيقَتِهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يَكُونُ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَهُ صُورَةٌ حَسَنَةٌ، أَوْ مَالٌ، أَوْ جَاهٌ، أَوْ رِيَاسَةٌ فِي الدُّنْيَا قَلْبُهُ خَرَابًا مِنَ التَّقْوَى، وَيَكُونُ مَنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَلْبُهُ مَمْلُوءًا مِنَ التَّقْوَى، فَيَكُونُ أَكْرَمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْأَكْثَرُ وُقُوعًا، كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ: كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ» .

وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَمَّا أَهْلُ الْجَنَّةِ، فَكُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، أَشْعَثَ، ذُو طِمْرَيْنِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ؛ وَأَمَّا أَهْلُ النَّارِ، فَكُلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ جَمَّاعٍ، مَنَّاعٍ، ذِي تَبَعٍ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتَ عَذَابِي، أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي» . وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «افْتَخَرَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: يَا رَبِّ، يَدْخُلُنِي الْجَبَابِرَةُ وَالْمُتَكَبِّرُونَ وَالْمُلُوكُ وَالْأَشْرَافُ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ يَا رَبِّ، يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ وَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالَسٍ: " مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ: هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ لَا يُسْمَعُ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا» . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ - لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ - خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة: 1 - 3] [الْوَاقِعَةِ: 1 - 3] ، قَالَ: تَخْفِضُ رِجَالًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعِينَ، وَتَرْفَعُ رِجَالًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مَخْفُوضِينَ. قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» ، يَعْنِي: يَكْفِيهِ مِنَ الشَّرِّ احْتِقَارُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَحْتَقِرُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لِتَكَبُّرِهِ عَلَيْهِ، وَالْكِبْرُ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الشَّرِّ، وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «الْعِزُّ إِزَارُهُ وَالْكِبْرُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ نَازَعَنِي عَذَّبْتُهُ»

فَمُنَازَعَةُ اللَّهِ فِي صِفَاتِهِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِ، كَفَى بِهَا شَرًّا. وَفِي " صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ " عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُسْأَلُ عَنْهُمْ: رَجُلٌ يُنَازِعُ اللَّهَ إِزَارَهُ، وَرَجُلٌ يُنَازِعُ اللَّهَ رِدَاءَهُ، فَإِنَّ رِدَاءَهُ الْكِبْرِيَاءُ، وَإِزَارَهُ الْعِزُّ، وَرَجُلٌ فِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ قَالَ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ» قَالَ مَالِكٌ: إِذَا قَالَ ذَلِكَ تَحَزُّنًا لِمَا يَرَى فِي النَّاسِ، يَعْنِي فِي دِينِهِمْ فَلَا أَرَى بِهِ بَأْسًا، وَإِذَا قَالَ ذَلِكَ عُجْبًا بِنَفْسِهِ، وَتَصَاغُرًا لِلنَّاسِ، فَهُوَ الْمَكْرُوهُ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ. ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ ". قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ» : دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ هَذَا مِمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِهِ فِي الْمَجَامِعِ الْعَظِيمَةِ، فَإِنَّهُ خَطَبَ بِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَالْيَوْمَ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَقَالَ: «إِنَّ أَمْوَالَكُمْ وَدِمَاءَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي

بَلَدِكُمْ هَذَا» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: وَأَبْشَارَكُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ: «فَأَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَغْتُ؟» . وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ قَالَ: «أَلَا لِيُبْلِغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا» . وَفِي رِوَايَةٍ: «دِمَاؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ وَأَعْرَاضُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، مِثْلُ هَذَا الْيَوْمِ، وَهَذَا الْبَلَدِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، حَتَّى دَفْعَةٌ يَدْفَعُهَا مُسْلِمٌ مُسْلِمًا يُرِيدُ بِهَا سُوءًا حَرَامٌ» . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ حَرَامٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ، كَحُرْمَةِ هَذَا الْيَوْمِ لَحْمُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَنْ يَأْكُلَهُ ويَغْتَابَهُ بِالْغَيْبِ، وَعِرْضُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَنْ يَخْرِقَهُ، وَوَجْهُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَنْ يَلْطِمَهُ، وَدَمُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَنْ يَسْفِكَهُ، وَحَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ دَفْعَةً تُعْنِتُهُ» .

وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " «عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبَلٍ مَعَهُ، فَأَخَذَهَا فَفَزِعَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا» . وَخَرَّجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ لَاعِبًا جَادًّا، فَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ، فَلْيَرُدَّهَا إِلَيْهِ» . قَالَ ابْنُ أَبِي عُبَيْدٍ يَعْنِي أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَهُ لَا يُرِيدُ سَرِقَتَهُ، إِنَّمَا يُرِيدُ إِدْخَالَ الْغَيْظِ عَلَيْهِ، فَهُوَ لَاعِبٌ فِي مَذْهَبِ السَّرِقَةِ، جَادٌّ فِي إِدْخَالِ الْأَذَى وَالرَّوْعِ عَلَيْهِ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً، فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ» وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ، وَاللَّهُ يَكْرَهُ أَذَى الْمُؤْمِنِ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَطْلُبُوا عَوْارَتِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ طَلَبَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ،

طَلَبَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بَيْتِهِ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْغِيبَةِ، فَقَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ» . فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ كُلُّهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَحِلُّ إِيصَالُ الْأَذَى إِلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] [الْأَحْزَابِ: 58] . وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةً لِيَتَعَاطَفُوا وَيَتَرَاحَمُوا، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مِثْلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ» .

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنِ اشْتَكَى رَأْسَهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ» . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: «الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى عَيْنَهُ، اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسَهُ، اشْتَكَى كُلُّهُ» . وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَنْهُ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ» . وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَفْظُهُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ مِرْآةُ أَخِيهِ، فَمَنْ رَأَى بِهِ أَذًى، فَلْيُمِطْهُ عَنْهُ» . قَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: اجْعَلْ كَبِيرَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَكَ أَبًا، وَصَغِيرَهُمُ ابْنًا، وَأَوْسَطُهُمْ أَخًا، فَأَيُّ أُولَئِكَ تُحِبُّ أَنْ تُسِيءَ إِلَيْهِ؟ وَمِنْ كَلَامِ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ: لِيَكُنْ حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنْكَ ثَلَاثَةً: إِنْ لَمْ تَنْفَعْهُ فَلَا تَضُرَّهُ، وَإِنْ لَمْ تُفْرِحْهُ فَلَا تَغُمَّهُ، وَإِنْ لَمْ تَمْدَحْهُ فَلَا تَذُمَّهُ.

[الحديث السادس والثلاثون من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا]

[الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا]

الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ، مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا جَلَسَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فَيَمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ فِي تَخْرِيجِهِ، مِنْهُمُ الْفَضْلُ الْهَرَوِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، فَإِنَّ أَسْبَاطَ بْنَ مُحَمَّدٍ رَوَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ؛ قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَعْمَشَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي صَالِحٍ وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ حَدَّثَهُ بِهِ عَنْهُ، وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَزَادَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ فِي

مَتْنِ الْحَدِيثِ: «وَمَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَخَرَّجَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِهِ، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُؤْمِنٍ عَوْرَتَهُ، سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَتَهُ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا فِي الدُّنْيَا، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ نَجَّى مَكْرُوبًا، فَكَّ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ» . فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» هَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَقَدْ تَكَاثَرَتِ النُّصُوصُ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» ،

وَقَوْلُهُ: «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا» . وَالْكُرْبَةُ: هِيَ الشِّدَّةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي تُوقِعُ صَاحِبَهَا فِي الْكَرْبِ، وَتَنْفِيسُهَا أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ مِنْهَا، مَأْخُوذٌ مِنْ تَنْفِيسِ الْخِنَاقِ، كَأَنَّهُ يُرْخَى لَهُ الْخِنَاقُ حَتَّى يَأْخُذَ نَفْسًا، وَالتَّفْرِيجُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُ الْكُرْبَةَ، فَتُفْرَجُ عَنْهُ كُرْبَتُهُ، وَيَزُولُ هَمُّهُ وَغَمُّهُ، فَجَزَاءُ التَّنْفِيسِ التَّنْفِيسُ، وَجَزَاءُ التَّفْرِيجِ التَّفْرِيجُ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ، أَطْعَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَإٍ، سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا عَلَى عُرْيٍ، كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ» . وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِالشَّكِّ فِي رَفْعِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الصَّحِيحَ وَقْفُهُ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْرَى مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَجْوَعُ مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَظْمَأُ مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَنْصَبُ مَا كَانُوا قَطُّ، فَمَنْ كَسَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَسَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَطْعَمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَطْعَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ سَقَى لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَقَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ عَفَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعْفَاهُ اللَّهُ. وَخَرَّجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُشْرِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، فَيُنَادِيهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ: يَا فُلَانُ، هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُكَ، مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي مَرَرْتَ بِي فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَاسْتَسْقَيْتَنِي شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ، فَسَقَيْتُكَ، قَالَ: قَدْ عَرَفْتُ، قَالَ: فَاشْفَعْ لِي بِهَا عِنْدَ رَبِّكَ، قَالَ: فَيَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَقُولُ: شَفِّعْنِي فِيهِ، فَيَأْمُرُ بِهِ، فَيُخْرِجُهُ مِنَ النَّارِ» . وَقَوْلُهُ: «كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قِيلَ فِي التَّيْسِيرِ وَالسِّتْرِ، وَقَدْ قِيلَ فِي مُنَاسَبَةِ ذَلِكَ: إِنَّ الْكُرَبَ هِيَ الشَّدَائِدُ الْعَظِيمَةُ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، بِخِلَافِ الْإِعْسَارِ وَالْعَوْرَاتِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى السِّتْرِ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَكَادُ يَخْلُو فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ بِتَعَسُّرِ الْحَاجَاتِ الْمُهِمَّةِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ كُرَبَ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُرَبِ الْآخِرَةِ كَلَا شَيْءٍ، فَادَّخَرَ اللَّهُ جَزَاءَ تَنْفِيسِ الْكُرَبِ عِنْدَهُ، لِيُنَفِّسَ بِهِ كُرَبَ الْآخِرَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيُنْفِذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ مِنْهُمْ، فَيَبْلُغُ النَّاسُ مِنَ الْغَمِّ

وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ؟» ، وَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ، خَرَّجَاهُ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَخَرَّجَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ قَالَ: الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَلِكَ» . وَخَرَّجَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] [الْمُطَفِّفِينَ: 6] ، قَالَ: يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي الرَّشْحِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ» . وَخَرَّجَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ» وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: «إِنَّ الْعَرَقَ لَيَذْهَبُ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ بَاعًا، وَإِنَّهُ لَيَبْلُغُ إِلَى أَفْوَاهِ النَّاسِ أَوْ إِلَى آذَانِهِمْ» . وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قَدْرَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ، فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ، فَيَكُونُونَ فِي

الْعَرَقِ قَدْرَ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حِقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْأَرْضُ كُلُّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارٌ، وَالْجَنَّةُ مِنْ وَرَائِهَا تَرَى أَكْوَابَهَا وَكَوَاعِبَهَا، فَيَعْرَقُ الرَّجُلُ حَتَّى يَرْشَحَ عَرَقُهُ فِي الْأَرْضِ قَدْرَ قَامَةٍ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ حَتَّى يَبْلُغَ أَنْفَهُ، وَمَا مَسَّهُ الْحِسَابُ، قَالَ: فَمِمَّ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: مِمَّا يَرَى النَّاسُ يُصْنَعُ بِهِمْ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: الشَّمْسُ فَوْقَ رُءُوسِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَعْمَالُهُمْ تُظِلُّهُمْ أَوْ تُضْحِيهِمْ. وَفِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ» . قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِعْسَارَ قَدْ يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّهُ عَسِيرٌ وَأَنَّهُ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَسِيرٌ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَقَالَ: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26] [الْفُرْقَانِ: 26] . وَالتَّيْسِيرُ عَلَى الْمُعْسِرِ فِي الدُّنْيَا مِنْ جِهَةِ الْمَالِ يَكُونُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِإِنْظَارِهِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] [الْبَقَرَةِ: 280] ، وَتَارَةً بِالْوَضْعِ عَنْهُ إِنْ كَانَ غَرِيمًا، وَإِلَّا فَبِإِعْطَائِهِ مَا يَزُولُ بِهِ إِعْسَارُهُ، وَكِلَاهُمَا لَهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ.

وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِصِبْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ» . وَفِيهِمَا عَنْ حُذَيْفَةَ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ سَمِعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَاتَ رَجُلٌ فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، فَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُوسِرِ، وَأُخَفِّفُ عَنِ الْمُعْسِرِ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: كُنْتُ أُنْظِرُ الْمُعْسِرَ، وَأَتَجَوَّزُ فِي السِّكَّةِ، أَوْ قَالَ: فِي النَّقْدِ، فَغُفِرَ لَهُ» . وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ اللَّهُ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ» . وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ» . وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْيَسَرِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلَّهُ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ تُسْتَجَابَ

دَعْوَتُهُ، أَوْ تُكْشَفَ كُرْبَتُهُ، فَلْيُفَرِّجْ عَنْ مُعْسِرٍ» . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . هَذَا مِمَّا تَكَاثَرَتِ النُّصُوصُ بِمَعْنَاهُ. وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، كَشَفَ اللَّهِ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا فِي بَيْتِهِ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى عَوْرَةٍ، سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ قَوْمًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُيُوبٌ، فَذَكَرُوا عُيُوبَ النَّاسِ، فَذَكَرَ النَّاسُ لَهُمْ عُيُوبًا، وَأَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانَتْ لَهُمْ عُيُوبٌ، فَكَفُّوا عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، فَنَسِيتُ عُيُوبَهُمْ أَوْ كَمَا قَالَ. وَشَاهِدُ هَذَا حَدِيثُ أَبِي بَرْزَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ، تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحُهُ فِي بَيْتِهِ» .

خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ كَانَ مَسْتُورًا لَا يَعْرِفُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي، فَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ هَفْوَةٌ، أَوْ زَلَّةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ كَشْفُهَا، وَلَا هَتْكُهَا، وَلَا التَّحَدُّثُ بِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ غِيبَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ النُّصُوصُ، وَفِي ذَلِكَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19] [النُّورِ: 19] . وَالْمُرَادُ: إِشَاعَةُ الْفَاحِشَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُسْتَتِرِ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ، أَوِ اتُّهِمَ بِهِ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ، كَمَا فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ. قَالَ بَعْضُ الْوُزَرَاءِ الصَّالِحِينَ لِبَعْضِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ: اجْتَهِدْ أَنْ تَسْتُرَ الْعُصَاةَ، فَإِنَّ ظُهُورَ مَعَاصِيهِمْ عَيْبٌ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَأَوْلَى الْأُمُورِ سَتْرُ الْعُيُوبِ، وَمِثْلُ هَذَا لَوْ جَاءَ تَائِبًا نَادِمًا وَأَقَرَّ بِحَدٍّ، وَلَمْ يُفَسِّرْهُ، لَمْ يُسْتَفْسَرْ، بَلْ يُؤْمَرُ بِأَنْ يَرْجِعَ وَيَسْتُرَ نَفْسَهُ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ، وَكَمَا لَمْ يُسْتَفْسَرِ الَّذِي قَالَ: " أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ ". وَمِثْلُ هَذَا لَوْ أُخِذَ بِجَرِيمَتِهِ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْإِمَامَ، فَإِنَّهُ يُشْفَعُ لَهُ حَتَّى لَا يَبْلُغَ الْإِمَامَ. وَفِي مِثْلِهِ جَاءَ الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ» . خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ.

وَالثَّانِي: مَنْ كَانَ مُشْتَهِرًا بِالْمَعَاصِي، مُعْلِنًا بِهَا لَا يُبَالِي بِمَا ارْتَكَبَ مِنْهَا، وَلَا بِمَا قِيلَ لَهُ فَهَذَا هُوَ الْفَاجِرُ الْمُعْلِنُ، وَلَيْسَ لَهُ غِيبَةٌ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا بَأْسَ بِالْبَحْثِ عَنْ أَمْرِهِ لِتُقَامَ عَلَيْهِ الْحُدُودُ. صَرَّحَ بِذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ، فَارْجُمْهَا» . وَمِثْلُ هَذَا لَا يُشْفَعُ لَهُ إِذَا أُخِذَ، وَلَوْ لَمْ يَبْلُغِ السُّلْطَانَ، بَلْ يُتْرَكُ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِيَنْكَفَّ شَرُّهُ، وَيَرْتَدِعَ بِهِ أَمْثَالُهُ. قَالَ مَالِكٌ: مَنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ أَذًى لِلنَّاسِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مِنْهُ زَلَّةٌ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُشْفَعَ لَهُ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْإِمَامَ، وَأَمَّا مَنْ عُرِفَ بِشَرٍّ أَوْ فَسَادٍ، فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ أَحَدٌ، وَلَكِنْ يُتْرَكُ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ. وَكَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَفْعَ الْفُسَّاقِ إِلَى السُّلْطَانِ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنَّمَا كَرِهَهُ لِأَنَّهُمْ غَالِبًا لَا يُقِيمُونَ الْحُدُودَ عَلَى وَجْهِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: إِنْ عَلِمْتَ أَنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ فَارْفَعْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ ضَرَبُوا رَجُلًا فَمَاتَ: يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَتْلُهُ جَائِزًا. وَلَوْ تَابَ أَحَدٌ مِنَ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، كَانَ الْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَتُوبَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي، فَقِيلَ: إِنَّهُ كَذَلِكَ، وَقِيلَ: بَلِ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الْإِمَامَ، وَيُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ حَتَّى يُطَهِّرَهُ. قَوْلُهُ: «وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ» . وَقَدْ سَبَقَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ وَالسَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ فَضْلُ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَالسَّعْيِ

فِيهَا. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ: كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً» . وَبَعَثَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي قَضَاءِ حَاجَةٍ لِرَجُلٍ وَقَالَ لَهُمْ: مُرُّوا بِثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، فَخُذُوهُ مَعَكُمْ، فَأَتَوْا ثَابِتًا، فَقَالَ: أَنَا مُعْتَكِفٌ، فَرَجَعُوا إِلَى الْحَسَنِ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُ: يَا أَعْمَشُ أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ مَشْيَكَ فِي حَاجَةِ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةٍ؟ فَرَجَعُوا إِلَى ثَابِتٍ، فَتَرَكَ اعْتِكَافَهُ، وَذَهَبَ مَعَهُمْ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنَةٍ لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، قَالَتْ: «خَرَجَ خَبَّابٌ فِي سَرِيَّةٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَاهَدُنَا حَتَّى يَحْلِبَ عَنَزَةً لَنَا فِي جَفْنَةٍ لَنَا، فَتَمْتَلِئَ حَتَّى تَفِيضَ، فَلَمَّا قَدِمَ خَبَّابٌ حَلَبَهَا، فَعَادَ حِلَابُهَا إِلَى مَا كَانَ» .

وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَحْلِبُ لِلْحَيِّ أَغْنَامَهُمْ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ، قَالَتْ جَارِيَةٌ مِنْهُمْ: الْآنَ لَا يَحْلِبُهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يُغَيِّرَنِي مَا دَخَلْتُ فِيهِ عَنْ شَيْءٍ كُنْتُ أَفْعَلُهُ، أَوْ كَمَا قَالَ. وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُومُونَ بِالْحِلَابِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَحْلِبُ النِّسَاءُ مِنْهُمْ، وَكَانُوا يَسْتَقْبِحُونَ ذَلِكَ، فَكَانَ الرِّجَالُ إِذَا غَابُوا، احْتَاجَ النِّسَاءُ إِلَى مَنْ يَحْلِبُ لَهُنَّ. وَقَدْ رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمٍ: لَا تَسْقُونِي حَلْبَ امْرَأَةٍ» . وَكَانَ عُمَرُ يَتَعَاهَدُ الْأَرَامِلَ يَسْتَقِي لَهُنَّ الْمَاءَ بِاللَّيْلِ، وَرَآهُ طَلْحَةُ بِاللَّيْلِ يَدْخُلُ بَيْتَ امْرَأَةٍ، فَدَخَلَ إِلَيْهَا طَلْحَةُ نَهَارًا، فَإِذَا هِيَ عَجُوزٌ عَمْيَاءُ مُقْعَدَةٌ، فَسَأَلَهَا: مَا يَصْنَعُ هَذَا الرَّجُلُ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: هَذَا مُذْ كَذَا وَكَذَا يَتَعَاهَدْنِي يَأْتِينِي بِمَا يُصْلِحُنِي، وَيُخْرِجُ عَنِّي الْأَذَى، فَقَالَ طَلْحَةُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ طَلْحَةُ، عَثَرَاتِ عُمَرَ تَتْبَعُ؟ ! وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ يَطُوفُ عَلَى نِسَاءِ الْحَيِّ وَعَجَائِزِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ، فَيَشْتَرِي لَهُنَّ حَوَائِجَهُنَّ وَمَا يُصْلِحُهُنَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي السَّفَرِ لِأَخْدُمَهُ، فَكَانَ يَخْدِمُنِي. وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّالِحِينَ يَشْتَرِطُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي السَّفَرِ أَنْ يَخْدِمَهُمْ.

وَصَحِبَ رَجُلٌ قَوْمًا فِي الْجِهَادِ، فَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَخْدِمَهُمْ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَغْسِلَ رَأْسَهُ أَوْ ثَوْبَهُ، قَالَ: هَذَا مِنْ شَرْطِي، فَيَفْعَلُهُ، فَمَاتَ فَجَرَّدُوهُ لِلْغُسْلِ، فَرَأَوْا عَلَى يَدِهِ مَكْتُوبًا: مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَنَظَرُوا، فَإِذَا هِيَ كِتَابَةٌ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " «عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ، فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ، أَكْثَرُنَا ظِلًّا صَاحِبُ الْكِسَاءِ، وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ، قَالَ: فَسَقَطَ الصُّوَّامُ وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ، وَضَرَبُوا الْأَبْنِيَةَ وَسَقُوا الرُّكَّابَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ» . وَيُرْوَى عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِطَعَامٍ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَأَكَلَ مِنْهُ وَأَكَلَ أَصْحَابُهُ، وَقَبَضَ الْأَسْلَمِيُّ يَدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: مَعِي ابْنَايَ يَرْحَلَانِ لِي وَيَخْدِمَانِي، فَقَالَ: مَا زَالَ لَهُمُ الْفَضْلُ عَلَيْكَ بَعْدُ» . وَفِي " مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمُوا يُثْنُونَ عَلَى صَاحِبٍ لَهُمْ خَيْرًا، قَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ فُلَانٍ قَطُّ، مَا كَانَ فِي مَسِيرٍ إِلَّا كَانَ فِي قِرَاءَةٍ، وَلَا نَزَلْنَا مَنْزِلًا إِلَّا كَانَ فِي صَلَاةٍ، قَالَ: فَمَنْ كَانَ يَكْفِيهِ ضَيْعَتُهُ؟ حَتَّى ذَكَرَ: مَنْ كَانَ يَعْلِفُ جَمَلَهُ أَوْ دَابَّتَهُ؟ قَالُوا: نَحْنُ، قَالَ: فَكُلُّكُمْ خَيْرٌ مِنْهُ. قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى

الْجَنَّةِ» ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْمَعْنَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسُلُوكُ الطَّرِيقِ لِالْتِمَاسِ الْعِلْمِ يَدْخُلُ فِيهِ سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ الْمَشْيُ بِالْأَقْدَامِ إِلَى مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ سُلُوكُ الطُّرُقِ الْمَعْنَوِيَّةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى حُصُولِ الْعِلْمِ، مِثْلُ حِفْظِهِ، وَدَارِسَتِهِ، وَمُذَاكَرَتِهِ، وَمُطَالَعَتِهِ، وَكِتَابَتِهِ، وَالتَّفَهُّمِ لَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الطُّرُقِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْعِلْمِ. وَقَوْلُهُ: «سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ» قَدْ يُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يُسَهِّلُ لَهُ الْعِلْمَ الَّذِي طَلَبَهُ، وَسَلَكَ طَرِيقَهُ، وَيُيَسِّرُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ طَرِيقٌ مُوَصِّلٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17] [الْقَمَرِ: 17] . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانُ عَلَيْهِ؟ . وَقَدْ يُرَادُ أَيْضًا: أَنَّ اللَّهَ يُيَسِّرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ إِذَا قَصَدَ بِطَلَبِهِ وَجْهَ اللَّهِ الِانْتِفَاعَ بِهِ وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ، فَيَكُونُ سَبَبًا لِهِدَايَتِهِ وَلِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ. وَقَدْ يُيَسِّرُ اللَّهُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ عُلُومًا أُخَرَ يَنْتَفِعُ بِهَا، وَتَكُونُ مُوَصِّلَةً لَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، كَمَا قِيلَ: مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، أَوْرَثَهُ اللَّهُ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَكَمَا قِيلَ: ثَوَابُ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] [مَرْيَمَ: 76] ، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] [مُحَمَّدٍ: 17] . وَقَدْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا تَسْهِيلُ طَرِيقِ الْجَنَّةِ الْحِسِّيِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - وَهُوَ الصِّرَاطُ - وَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَهْوَالِ، فَيُيَسِّرُ ذَلِكَ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ لِلِانْتِفَاعِ

بِهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَدُلُّ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَقْرَبِ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ، فَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُ، وَلَمْ يَعْرُجْ عَنْهُ، وَصَلَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْجَنَّةِ مِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ وَأَسْهَلِهَا فَسَهُلَتْ عَلَيْهِ الطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْجَنَّةِ كُلُّهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَإِلَى الْوُصُولِ إِلَى رِضْوَانِهِ وَالْفَوْزِ بِقُرْبِهِ وَمُجَاوَرَتِهِ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، فَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَبِهِ يُهْتَدَى فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهَ كِتَابَهُ نُورًا؛ لِأَنَّهُ يُهْتَدَى بِهِ فِي الظُّلُمَاتِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ - يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16] [الْمَائِدَةِ: 15 - 16] . وَمَثَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَةَ الْعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ بِالنُّجُومِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا فِي الظُّلُمَاتِ، فَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ، أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ» . وَمَا دَامَ الْعِلْمُ بَاقِيًا فِي الْأَرْضِ، فَالنَّاسُ فِي هُدًى، وَبَقَاءُ الْعِلْمِ بَقَاءُ حَمَلَتِهِ، فَإِذَا ذَهَبَ حَمَلَتُهُ وَمَنْ يَقُومُ بِهِ، وَقَعَ النَّاسُ فِي الضَّلَالِ، كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» . «وَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا رَفْعَ الْعِلْمِ، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ، وَأَقْرَأْنَاهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟» فَسُئِلَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ عَنْ هَذَا

الْحَدِيثِ، فَقَالَ: لَوْ شِئْتُ لَأَخْبَرْتُكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ: الْخُشُوعُ، وَإِنَّمَا قَالَ عُبَادَةُ هَذَا لِأَنَّ الْعِلْمَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ ثَمَرَتُهُ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ الْمُقْتَضِيَةِ لِخَشْيَتِهِ، وَمَهَابَتِهِ، وَإِجْلَالِهِ، وَالْخُضُوعِ لَهُ، وَمَحَبَّتِهِ، وَرَجَائِهِ، وَدُعَائِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ، فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ، فَذَاكَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى ابْنِ آدَمَ، وَعِلْمٌ فِي الْقَلْبِ، فَذَاكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الْعِلْمُ الَّذِي عَلَى اللِّسَانِ، وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ» ، فَأَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ: الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَهُوَ الْعِلْمُ الْبَاطِنُ الَّذِي يُخَالِطُ الْقُلُوبَ وَيُصْلِحُهَا، وَيَبْقَى عِلْمُ اللِّسَانِ حُجَّةً، فَيَتَهَاوَنُ النَّاسُ بِهِ، وَلَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَاهُ، لَا حَمَلَتُهُ وَلَا غَيْرُهُمْ، ثُمَّ يَذْهَبُ هَذَا الْعِلْمُ

بِذَهَابِ حَمَلَتِهِ، فَلَا يَبْقَى إِلَّا الْقُرْآنُ فِي الْمَصَاحِفِ، وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْ يَعْلَمُ مَعَانِيَهُ، وَلَا حُدُودَهُ، وَلَا أَحْكَامَهُ، ثُمَّ يُسْرَى بِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَلَا يَبْقَى فِي الْمَصَاحِفِ وَلَا فِي الْقُلُوبِ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَقُومُ السَّاعَةُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شَرَارِ النَّاسِ» ، وَقَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ وَفِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ» . قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا جَلَسَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فَيَمَنْ عِنْدَهُ» . هَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَمُدَارَسَتِهِ، وَهَذَا إِنْ حُمِلَ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ، فَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِهِ، وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ عُثْمَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: فَذَاكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي فِي مِقْعَدِي هَذَا، وَكَانَ قَدْ عَلَّمَ الْقُرْآنَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ حَتَّى بَلَغَ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ.

وَإِنْ حُمِلَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، دَخَلَ فِيهِ الِاجْتِمَاعُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى دِرَاسَةِ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَانًا يَأْمُرُ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ لِيَسْمَعَ قِرَاءَتَهُ، كَمَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: «إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» وَكَانَ عُمَرُ يَأْمُرُ مَنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَسْمَعُونَ، فَتَارَةً يَأْمُرُ أَبَا مُوسَى، وَتَارَةً يَأْمُرُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ ذِكْرُ اللَّهِ، وَمَا جَلَسَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتَعَاطَوْنَ فِيهِ كِتَابَ اللَّهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَتَدَارَسُونَهُ، إِلَّا أَظَلَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا، وَكَانُوا أَضْيَافَ اللَّهِ مَا دَامُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُفِيضُوا فِي حَدِيثِ غَيْرِهِ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. وَرَوَى يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانُوا إِذَا صَلُّوُا الْغَدَاةَ، قَعَدُوا حِلَقًا حِلَقًا، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَعَلَّمُونَ الْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ، وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ صَلُّوا صَلَاةَ الْغَدَاةِ، ثُمَّ قَعَدُوا فِي مُصَلَّاهُمْ، يَتَعَاطَوْنَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ، إِلَّا وُكِّلَ بِهِمْ مَلَائِكَةً يَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الِاجْتِمَاعِ بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ لِمُدَارَسَةِ الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ عَطِيَّةَ فِيهِ ضَعْفٌ. وَقَدْ رَوَى حَرْبُ الْكِرْمَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الدِّرَاسَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهَا فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ فِي خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ.

وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سُلَيْمَانَ: أَنَّهُمَا كَانَا يَدْرُسَانِ الْقُرْآنَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِبَيْرُوتَ وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي الْمَسْجِدِ لَا يُغَيِّرُ عَلَيْهِمْ. وَذَكَرَ حَرْبٌ أَنَّهُ رَأَى أَهْلَ دِمَشْقَ وَأَهْلَ حِمْصٍ، وَأَهْلَ مَكَّةَ، وَأَهْلَ الْبَصْرَةِ، يَجْتَمِعُونَ عَلَى الْقُرْآنِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، لَكِنَّ أَهْلَ الشَّامِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ كُلُّهُمْ جُمْلَةً مِنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَصْوَاتٍ عَالِيَةٍ، وَأَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ يَجْتَمِعُونَ، فَيَقْرَأُ أَحَدُهُمْ عَشْرَ آيَاتٍ، وَالنَّاسُ يُنْصِتُونَ، ثُمَّ يَقْرَأُ آخَرَ عَشْرِ آيَاتٍ، حَتَّى يَفْرُغُوا. قَالَ حَرْبٌ: وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ جَمِيلٌ. وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ. قَالَ زَيْدُ بْنُ عُبَيْدٍ الدِّمَشْقِيُّ: قَالَ لِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَجْلِسُونَ حِلَقًا تَقْرَءُونَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا كَانَ يَفْعَلُ أَصْحَابُنَا، فَقَالَ مَالِكٌ: عِنْدَنَا كَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ مَا نَعْرِفُ هَذَا، قَالَ: فَقُلْتُ: هَذَا طَرِيفٌ؟ قَالَ: وَطَرِيفٌ رَجُلٌ يَقْرَأُ وَيَجْتَمِعُ النَّاسُ حَوْلَهُ، فَقَالَ: هَذَا عَنْ غَيْرِ رَأْيِنَا. قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرَوِيُّ: سَمِعْنَا مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: الِاجْتِمَاعُ بِكُرَةً بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِدَعَةٌ، مَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْعُلَمَاءُ بَعْدَهُمْ عَلَى هَذَا، كَانُوا إِذَا صَلُّوا يَخْلُو كُلٌّ بِنَفْسِهِ، وَيَقْرَأُ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُكَلِّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، اشْتِغَالًا بِذِكْرِ اللَّهِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مُحْدَثَةٌ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَمْ تَكُنِ الْقِرَاءَةُ فِي الْمَسْجِدِ مَنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ مَالِكٌ: وَأَنَا أَكْرَهُ ذَلِكَ الَّذِي يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْمُصْحَفِ. وَقَدْ رَوَى هَذَا كُلَّهُ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي " كِتَابِ مَنَاقِبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ". وَاسْتَدَلَّ الْأَكْثَرُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِ الِاجْتِمَاعِ لِمُدَارَسَةِ الْقُرْآنَ فِي الْجُمْلَةِ

بِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الِاجْتِمَاعِ لِلذِّكْرِ، وَالْقُرْآنُ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ، فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ عِبَادِي قَالُوا يَقُولُونَ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ هَلْ رَأَوْنِي، قَالَ: فَيَقُولُونَ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي، قَالَ: يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، قَالَ: يَقُولُ فَمَا يَسْأَلُونِي، قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُونَ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُونَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ، قَالَ: يَقُولُونَ مِنَ النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُونَ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ: فَيَقُولُ فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ مُعَاوِيَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَنَحْمَدُهُ لِمَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِهِ، فَقَالَ: آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟ قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسْنَا إِلَّا ذَلِكَ، قَالَ: أَمَّا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ لِتُهْمَةٍ لَكُمْ، إِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ.»

وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ «حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِقَوْمٍ فِي الْمَسْجِدِ قُعُودٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَقْعَدَكُمْ؟ فَقَالُوا: صَلَّيْنَا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، ثُمَّ قَعَدْنَا نَتَذَاكَرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا ذَكَرَ شَيْئًا تَعَاظَمَ ذِكْرُهُ» . وَفِي الْمَعْنَى أَحَادِيثُ أُخَرُ مُتَعَدِّدَةٌ. وَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جَزَاءَ الَّذِينَ يَجْلِسُونَ فِي بَيْتِ اللَّهِ يَتَدَارَسُونَ كِتَابَ اللَّهِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: تَنْزِلُ السَّكِينَةُ عَلَيْهِمْ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَعِنْدَهُ فَرَسٌ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ» . وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ «أَنْ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ بَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ فِي مِرْبَدِهِ، إِذْ جَالَتْ فَرَسُهُ، فَقَرَأَ، ثُمَّ جَالَتْ أُخْرَى، فَقَرَأَ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، فَقَالَ أُسَيْدٌ: فَخَشِيتُ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى - يَعْنِي ابْنَهُ - قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهَا، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فَوْقَ رَأْسِي فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ حَتَّى مَا أَرَاهَا، قَالَ: فَغَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَرَاهَا النَّاسُ مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ» وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ فِيهِمَا.

وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي مَجْلِسٍ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ طَأْطَأَ بَصَرَهُ، ثُمَّ رَفَعَهُ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ كَانُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى - يَعْنِي أَهْلَ مَجْلِسٍ أَمَامَهُ - فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ تَحْمِلُهَا الْمَلَائِكَةُ كَالْقُبَّةِ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنْهُمْ تَكَلَّمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِبَاطِلٍ، فَرُفِعَتْ عَنْهُمْ» وَهَذَا مُرْسَلٌ. وَالثَّانِي: غِشْيَانُ الرَّحْمَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] [الْأَعْرَافِ: 56] . وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ «سَلْمَانَ أَنَّهُ كَانَ فِي عِصَابَةٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى، فَمَرَّ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَيْكُمْ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُشَارِكَكُمْ فِيهَا» . وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ سَيَّارَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يَطْلُبُونَ حِلَقَ الذِّكْرِ، فَإِذَا أَتَوْا عَلَيْهِمْ حَفُّوا بِهِمْ، ثُمَّ بَعَثُوا رَائِدَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ إِلَى رَبِّ الْعِزَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَتَيْنَا عَلَى عِبَادٍ مِنْ عِبَادِكَ

يُعَظِّمُونَ آلَاءَكَ، وَيَتْلُونَ كِتَابَكَ، وَيُصَلُّونَ عَلَى نَبِيِّكَ، وَيَسْأَلُونَكَ لِآخِرَتِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: غَشُّوهُمْ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا، إِنَّ فِيهِمْ فُلَانًا الْخَطَّاءَ، إِنَّمَا اعْتَنِقْهُمُ اعْتِنَاقًا، فَيَقُولُ تَعَالَى: غَشُّوهُمْ بِرَحْمَتِي، [فَهُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ] » . وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحُفُّ بِهِمْ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَفِي رِوَايَةٍ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: عَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى يَبْلُغُوا الْعَرْشَ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مِعْدَانَ، يَرْفَعُ الْحَدِيثَ: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فِي الْهَوَاءِ، يَسِيحُونَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، يَلْتَمِسُونَ الذِّكْرَ، فَإِذَا سَمِعُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى، قَالُوا: رُوَيْدًا زَادَكُمُ اللَّهُ، فَيَنْشُرُونَ أَجْنِحَتَهُمْ حَوْلَهُمْ حَتَّى يَصْعَدَ كَلَامُهُمْ إِلَى الْعَرْشِ» . خَرَّجَهُ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ " السُّنَّةِ ". وَالرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ يَذْكُرُهُمْ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» . وَهَذِهِ الْخِصَالُ الْأَرْبَعُ لِكُلِّ مُجْتَمِعِينَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ لِأَهْلِ ذِكْرِ

اللَّهِ تَعَالَى أَرْبَعًا: تَنْزِلُ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَتَغْشَاهُمُ الرَّحْمَةُ، وَتَحُفُّ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ، وَيَذْكُرُهُمُ الرَّبُّ فِيمَنْ عِنْدَهُ» . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] [الْبَقَرَةِ: 152] وَذِكْرُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ: هُوَ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى بَيْنَ مَلَائِكَتِهِ وَمُبَاهَاتُهُ بِهِ وَتَنْوِيهُهُ بِذِكْرِهِ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّ اللَّهَ ذَاكِرٌ مَنْ ذَكَرَهُ، وَزَائِدٌ مَنْ شَكَرَهُ، وَمُعَذِّبٌ مَنْ كَفَرَهُ، قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا - هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 41 - 43] [الْأَحْزَابِ: 41 - 43] ، وَصَلَاةُ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ: هِيَ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بَيْنَ مَلَائِكَتِهِ، وَتَنْوِيهُهُ بِذِكْرِهِ، كَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ "، وَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِي أُمَامَةَ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَيْكَ، كُلَّمَا دَخَلْتَ، وَكُلَّمَا خَرَجْتَ، وَكُلَّمَا قُمْتَ، وَكُلَّمَا جَلَسْتَ، فَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: وَأَنْتُمْ لَوْ شِئْتُمْ، صَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ قَرَأَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا - هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 41 - 43] خَرَّجَهُ الْحَاكِمُ.

قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» : مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَمَلَ هُوَ الَّذِي يَبْلُغُ بِالْعَبْدِ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132] [الْأَنْعَامِ: 132] ، فَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ أَنْ يُبْلَغَ بِهِ الْمَنَازِلَ الْعَالِيَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ، فَيُبَلِّغَهُ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ الْجَزَاءَ عَلَى الْأَعْمَالِ، لَا عَلَى الْأَنْسَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] [الْمُؤْمِنُونَ: 101] ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى مَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْأَعْمَالِ، كَمَا قَالَ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 133 - 134] [آلِ عِمْرَانَ: 133 - 134] الْآيَتَيْنِ، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ - وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61] [الْمُؤْمِنُونَ: 57 - 61] . قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَأْمُرُ اللَّهُ بِالصِّرَاطِ، فَيُضْرَبُ عَلَى جَهَنَّمَ، فَيَمُرُّ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ زُمُرًا زُمُرًا، أَوَائِلُهُمْ كَلَمْحِ الْبَرْقِ، ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، ثُمَّ كَمَرِّ الْبَهَائِمِ، حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ سَعْيًا، وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ مَشْيًا، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يَتَلَبَّطُ عَلَى بَطْنِهِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لِمَ أَبْطَأْتَ بِي؟ فَيَقُولُ إِنِّي لَمْ أُبْطِئْ بِكَ، إِنَّمَا أَبْطَأَ بِكَ عَمَلُكَ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] [الشُّعَرَاءِ: 214] : «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا

صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» . وَفِي رِوَايَةٍ خَارِجِ " الصَّحِيحَيْنِ ": «إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ لَا يَأْتِي النَّاسُ بِالْأَعْمَالِ، وَتَأْتُونِي بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ، فَتَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: قَدْ بَلَّغْتُ» . وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَ نَسَبٌ أَقْرَبُ مِنْ نَسَبٍ، يَأْتِي النَّاسُ بِالْأَعْمَالِ وَتَأْتُونِي بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ تَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ هَكَذَا وَهَكَذَا» وَأَعْرَضَ فِي كِلَا عِطْفَيْهِ. وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ رَفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعُمَرَ: اجْمَعْ لِي قَوْمَكَ يَعْنِي: قُرَيْشًا، فَجَمَعَهُمْ، فَقَالَ: إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ، فَإِنْ كُنْتُمْ أُولَئِكَ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَانْظُرُوا، لَا يَأْتِي النَّاسُ بِالْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَأْتُونَ بِالْأَثْقَالِ، فَيُعْرَضُ عَنْكُمْ» . وَخَرَّجَهُ الْحَاكِمُ مُخْتَصَرًا وَصَحَّحَهُ. وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، خَرَجَ مَعَهُ يُوصِيهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ، وَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي الْمُتَّقُونَ مَنْ كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا» . وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَزَادَ فِيهِ: «إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ، مَنْ كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا» .

وَيَشْهَدُ لِهَذَا كُلِّهِ مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ، وَإِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُو الْمُؤْمِنِينَ» يُشِيرُ إِلَى أَنَّ وِلَايَتَهُ لَا تُنَالُ بِالنَّسَبِ وَإِنْ قَرُبَ، وَإِنَّمَا تُنَالُ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَمَنْ كَانَ أَكْمَلَ إِيمَانًا وَعَمَلًا، فَهُوَ أَعْظَمُ وِلَايَةً لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ مِنْهُ نَسَبٌ قَرِيبٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى يَقُولُ بَعْضُهُمْ: لَعَمْرُكَ مَا الْإِنْسَانُ إِلَّا بِدِينِهِ ... فَلَا تَتْرُكِ التَّقْوَى اتِّكَالًا عَلَى النَّسَبِ لَقَدْ رَفَعَ الْإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ ... وَقَدْ وَضَعَ الشِّرْكُ الشَّقِيَّ أَبَا لَهَبِ

[الحديث السابع والثلاثون إن الله كتب الحسنات والسيئات]

[الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ]

الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَاهُ مِنْ رِوَايَةِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ زِيَادَةٌ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، وَهِيَ: «أَوْ مَحَاهَا اللَّهُ، وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالَكٌ» . وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ، فَخَرَّجَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا، فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي، فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً، فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ» وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ

يَعْمَلَ حَسَنَةً، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ، فَإِذَا عَمِلَهَا، فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، فَإِذَا عَمِلَهَا، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً - وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ - قَالَ: ارْقُبُوهُ، فَإِنْ عَمِلَهَا، فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا، فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ» . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي» ، وَفِي رِوَايَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: «إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ: إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ: مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً، فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا أَوْ أَزِيدُ، وَمَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً، فَجَزَاؤُهَا مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ» . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتَكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنَّ هَمَّ بِحَسَنَةٍ،

فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَهَا قَلْبَهُ، وَحَرِصَ عَلَيْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، وَمِنْ عَمَلِهَا كُتِبَتْ لَهُ وَاحِدَةً، وَلَمْ تُضَاعَفْ عَلَيْهِ، وَمَنْ عَمِلَ حَسَنَةً كَانَتْ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَمَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَانَتْ لَهُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ» . وَفِي الْمَعْنَى أَحَادِيثُ أُخَرَ مُتَعَدِّدَةٌ. فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ كِتَابَةَ الْحَسَنَاتِ، وَالسَّيِّئَاتِ، وَالْهَمُّ بِالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: عَمَلُ الْحَسَنَاتِ، فَتُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمُضَاعَفَةُ الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَازِمٌ لِكُلِّ الْحَسَنَاتِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] [الْأَنْعَامِ: 160] . وَأَمَّا زِيَادَةُ الْمُضَاعَفَةِ عَلَى الْعَشْرِ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُضَاعِفَ لَهُ، فَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] [الْبَقَرَةِ: 261] ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُضَاعَفُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ: لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فَاضِلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبِسَبْعِمِائَةٍ، وَمَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، وَعِيَالِهِ، أَوْ عَادَ مَرِيضًا، أَوْ مَازَ أَذًى، فَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا» .

وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالذِّكْرَ يُضَاعَفُ عَلَى النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ» . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حَصِينٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَرْسَلَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَقَامَ فِي بَيْتِهِ، فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَمَنْ غَزَا بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ» ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] [الْبَقَرَةِ: 261] . وَخَرَّجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ نَافِعٍ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة: 261] [الْبَقَرَةِ: 261] ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَبِّ زِدْ أُمَّتِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] [الْبَقَرَةِ: 245] ، فَقَالَ: رَبِّ زِدْ أُمَّتِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] [الزُّمَرِ: 10] .»

وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُضَاعِفُ الْحَسَنَةَ أَلْفَيْ أَلْفِ حَسَنَةً ثُمَّ تَلَا أَبُو هُرَيْرَةَ: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] [النِّسَاءِ: 40] . وَقَالَ: " إِذَا قَالَ اللَّهُ أَجْرًا عَظِيمًا، فَمَنْ يَقْدِرُ قَدْرَهُ؟» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ» . وَمِنْ حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ مَرْفُوعًا: «مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِلَهًا وَاحِدًا أَحَدًا صَمَدًا، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ» ، وَفِي كِلَا الْإِسْنَادَيْنِ ضَعْفٌ.

وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ حَسَنَةٍ» . وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصِّيَامَ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ مُضَاعَفَةِ ثَوَابِهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ، وَ {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] [الزُّمَرِ: 10] ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ كَعْبٌ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» أَنَّ مُضَاعَفَةَ الْحَسَنَاتِ زِيَادَةٌ عَلَى الْعَشْرِ تَكُونُ بِحَسْبِ حُسْنِ الْإِسْلَامِ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ، وَتَكُونُ بِحَسْبِ كَمَالِ الْإِخْلَاصِ، وَبِحَسْبِ فَضْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ فِي نَفْسِهِ، وَبِحَسْبِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] [الْأَنْعَامِ: 160] نَزَلَتْ فِي الْأَعْرَابِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] [النِّسَاءِ: 40] نَزَلَتْ فِي الْمُهَاجِرِينَ. النَّوْعُ الثَّانِي: عَمَلُ السَّيِّئَاتِ، فَتُكْتَبُ السَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا، مِنْ غَيْرِ مُضَاعَفَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160] [الْأَنْعَامِ: 160] . وَقَوْلُهُ: «كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ» إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُضَاعَفَةٍ، مَا صَرَّحَ بِهِ فِي

حَدِيثٍ آخَرَ، لَكِنَّ السَّيِّئَةَ تَعْظُمُ أَحْيَانًا بِشَرَفِ الزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] [التَّوْبَةِ: 36] 0 قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] : فِي كُلِّهِنَّ، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَجَعَلَهُنَّ حَرَمًا، وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْأَجْرَ أَعْظَمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: اعْلَمُوا أَنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ فِي كُلِّ حَالٍ غَيْرَ طَائِلٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ تَعَالَى رَبُّنَا. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثَيْنِ مَرْفُوعَيْنِ «أَنَّ السَّيِّئَاتِ تُضَاعَفُ فِي رَمَضَانَ» ، وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُمَا لَا يَصِحُّ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] [الْبَقَرَةِ: 197] . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْفُسُوقُ: مَا أُصِيبَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ صَيْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَعَنْهُ قَالَ: الْفُسُوقُ إِتْيَانُ مَعَاصِي اللَّهِ فِي الْحَرَمِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] [الْحَجِّ: 25] .

وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَتَّقُونَ سُكْنَى الْحَرَمِ، خَشْيَةَ ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ فِيهِ: مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَكَذَلِكَ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَفْعَلُ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: الْخَطِيئَةُ فِيهِ أَعْظَمُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَأَنْ أُخْطِئَ سَبْعِينَ خَطِيئَةً - يَعْنِي بِغَيْرِ مَكَّةَ - أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُخْطِئَ خَطِيئَةً وَاحِدَةً بِمَكَّةَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: تُضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بَلَغَنِي أَنَّ الْخَطِيئَةَ بِمَكَّةَ بِمِائَةِ خَطِيئَةٍ، وَالْحَسَنَةَ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ السَّيِّئَةَ تُكْتَبُ بِأَكْثَرِ مِنْ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ: لَا، مَا سَمِعْنَا إِلَّا بِمَكَّةَ لِتَعْظِيمِ الْبَلَدِ " وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بِعَدَنِ أَبْيَنَ هَمَّ ". وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ، وَقَوْلُهُ: " وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بِعَدَنِ أَبْيَنَ هَمَّ " مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ تُضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ بِشَرَفِ فَاعِلِهَا، وَقُوَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ، وَقُرْبِهِ مِنْهُ، فَإِنَّ مَنْ عَصَى السُّلْطَانَ عَلَى بِسَاطِهِ أَعْظَمُ جُرْمًا مِمَّنْ عَصَاهُ عَلَى بُعْدٍ، وَلِهَذَا تَوَعَّدَ اللَّهُ خَاصَّةَ عِبَادِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِمُضَاعَفَةِ الْجَزَاءِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَصَمَهُمْ مِنْهَا، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ بِعِصْمَتِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا - إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 74 - 75] [الْإِسْرَاءِ: 74 - 75] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا - وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 30 - 31]

[الْأَحْزَابِ: 30 - 35] . وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ يَتَأَوَّلُ فِي آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِثْلَ ذَلِكَ لِقُرْبِهِمْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْهَمُّ بِالْحَسَنَاتِ، فَتُكْتَبُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ كَمَا تَقَدَّمَ: «إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحَدُّثِ حَدِيثُ النَّفْسِ، وَهُوَ الْهَمُّ، وَفِي حَدِيثِ خُرَيمِ بْنِ فَاتَكٍ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَ قَلْبَهُ، وَحَرَصَ عَلَيْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهَمِّ هُنَا هُوَ الْعَزْمُ الْمُصَمِّمُ الَّذِي يُوجَدُ مَعَهُ الْحِرْصُ عَلَى الْعَمَلِ، لَا مُجَرَّدُ الْخَطْرَةِ الَّتِي تَخْطُرُ، ثُمَّ تَنْفَسِخُ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ وَلَا تَصْمِيمٍ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يُصَلِّيَ مِنَ اللَّيْلِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى يُصْبِحَ، كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى. وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا، وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الْمَحْفُوظُ الْمَوْقُوفُّ، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: مَنْ هَمَّ بِصَلَاةٍ، أَوْ صِيَامٍ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ غَزْوَةٍ، فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، بَلَّغَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا نَوَى. وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: يُنَادَى الْمَلَكُ: اكْتُبْ لِفُلَانٍ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ، فَيَقُولُ: إِنَّهُ نَوَاهُ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: كَانَ رَجُلٌ يَطُوفُ عَلَى الْعُلَمَاءِ، يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى عَمَلٍ لَا أَزَالُ مِنْهُ لِلَّهِ عَامِلًا، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَ عَلَيَّ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا وَأَنَا عَامِلٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ وَجَدْتَ حَاجَتَكَ، فَاعْمَلِ الْخَيْرَ مَا اسْتَطَعْتَ، فَإِذَا فَتَرْتَ أَوْ تَرَكْتَهُ فَهِمَّ بِعَمَلِهِ، فَإِنَّ الْهَامَّ بِعَمَلِ الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ. وَمَتَى اقْتَرَنَ بِالنِّيَّةِ قَوْلٌ أَوْ سَعْيٌ، تَأَكَّدَ الْجَزَاءُ، وَالْتَحَقَ صَاحِبُهُ بِالْعَامِلِ، كَمَا رَوَى أَبُو كَبْشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّمَا الدُّنْيَا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ: عَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا، لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا، وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ فِيهِ لِلَّهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا،

فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا، لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ» . خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَدْ حُمِلَ قَوْلُهُ: «فُهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ» عَلَى اسْتِوَائِهِمَا فِي أَصْلِ أَجْرِ الْعَمَلِ، دُونَ مُضَاعَفَتِهِ، فَالْمُضَاعَفَةُ يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ عَمِلَ الْعَمَلَ دُونَ مَنْ نَوَاهُ، فَلَمْ يَعْمَلْهُ، فَإِنَّهُمَا لَوِ اسْتَوَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَكُتِبَ لِمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَهُوَ خِلَافُ النُّصُوصِ كُلِّهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا - دَرَجَاتٍ مِنْهُ} [النساء: 95 - 96] [النِّسَاءِ: 95 - 96] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: الْقَاعِدُونَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمِ الْمُجَاهِدُونَ دَرَجَةً الْقَاعِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ، وَالْقَاعِدُونَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمِ الْمُجَاهِدُونَ دَرَجَاتٍ هُمُ الْقَاعِدُونَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْهَمُّ بِالسَّيِّئَاتِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ لَهَا، فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا تُكْتَبُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهَا تُكْتَبُ حَسَنَةً، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ» يَعْنِي: مِنْ أَجْلِي. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ قَدَرَ عَلَى مَا هَمَّ بِهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، فَتَرَكَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا لَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ بِذَلِكَ حَسَنَةً؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ الْمَعْصِيَةَ بِهَذَا الْقَصْدِ عَمَلٌ صَالِحٌ. فَأَمَّا إِنْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ، ثُمَّ تَرَكَ عَمَلَهَا خَوْفًا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، أَوْ مُرَاءَاةً لَهُمْ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ خَوْفِ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى خَوْفِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ. وَكَذَلِكَ قَصْدُ الرِّيَاءَ لِلْمَخْلُوقِينَ مُحَرَّمٌ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ تَرْكُ

الْمَعْصِيَةِ لِأَجْلِهِ، عُوقِبَ عَلَى هَذَا التَّرْكِ. وَقَدْ خَرَّجَ أَبُو نُعَيْمٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ، لَا تَأْمَنَنَّ سُوءَ عَاقِبَتِهِ، وَلَمَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا عَمِلْتَهُ، وَذَكَرَ كَلَامًا، وَقَالَ: وَخَوْفُكَ مِنَ الرِّيحِ إِذَا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِكَ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ، وَلَا يَضْطَرِبُ فُؤَادُكَ مِنْ نَظَرِ اللَّهِ إِلَيْكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا عَمِلْتَهُ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: كَانُوا يَقُولُونَ: تَرْكُ الْعَمَلِ لِلنَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْعَمَلُ لَهُمْ شِرْكٌ. وَأَمَّا إِنْ سَعَى فِي حُصُولِهَا بِمَا أَمْكَنَهُ، ثُمَّ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الْقَدَرُ، فَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:: «إِنَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ وَمَنْ سَعَى فِي حُصُولِ الْمَعْصِيَةِ جُهْدَهُ، ثُمَّ عَجَزَ عَنْهَا، فَقَدْ عَمِلَ» ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ ! قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ.» وَقَوْلُهُ: «مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَامَّ بِالْمَعْصِيَةِ إِذَا تَكَلَّمَ بِمَا هَمَّ بِهِ بِلِسَانِهِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى الْهَمِّ حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِجَوَارِحِهِ مَعْصِيَةً، وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِاللِّسَانِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ الَّذِي قَالَ: «لَوْ أَنَّ لِي مَالًا

لَعَمِلْتُ فِيهِ مَا عَمِلَ فُلَانٌ» يَعْنِي: الَّذِي يَعْصِي اللَّهَ فِي مَالِهِ، قَالَ: «فُهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ» . وَمِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ قَالَ: يُعَاقَبُ عَلَى التَّكَلُّمِ بِمَا هَمَّ بِهِ مَا لَمْ تَكُنِ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي هَمَّ بِهَا قَوْلًا مُحَرَّمًا، كَالْقَذْفِ وَالْغِيبَةِ وَالْكَذِبِ؛ فَأَمَّا مَا كَانَ مُتَعَلِّقُهَا الْعَمَلَ بِالْجَوَارِحِ، فَلَا يَأْثَمُ بِمُجَرَّدِ تَكَلُّمِ مَا هَمَّ بِهِ، وَهَذَا قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ: «وَإِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا» . وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ هُنَا حَدِيثُ النَّفْسِ، جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: «مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ» ، وَحَدِيثُ أَبِي كَبْشَةَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صَرِيحًا، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ بِلِسَانِهِ: «لَوْ أَنَّ لِي مَالًا، لَعَمِلْتُ فِيهِ بِالْمَعَاصِي، كَمَا عَمِلَ فُلَانٌ» ، لَيْسَ هُوَ الْعَمَلُ بِالْمَعْصِيَةِ الَّتِي هَمَّ بِهَا، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَمَّا هَمَّ بِهِ فَقَطْ مِمَّا مُتَعَلِّقُهُ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي الْمَعَاصِي، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَيْضًا فَالْكَلَامُ بِذَلِكَ مُحَرَّمٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْفُوًّا عَنْهُ، غَيْرَ مُعَاقَبٍ عَلَيْهِ؟ وَأَمَّا إِنِ انْفَسَخَتْ نِيَّتُهُ، وَفَتَرَتْ عَزِيمَتُهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْهُ، فَهَلْ يُعَاقَبُ عَلَى مَا هَمَّ بِهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، أَمْ لَا؟ هَذَا عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْهَمُّ بِالْمَعْصِيَةِ خَاطِرًا خَطَرَ، وَلَمْ يُسَاكِنْهُ صَاحِبُهُ، وَلَمْ يَعْقِدْ قَلْبَهُ عَلَيْهِ، بَلْ كَرِهَهُ، وَنَفَرَ مِنْهُ، فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَهُوَ «كَالْوَسَاوِسِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا، فَقَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ» . وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284]

[الْبَقَرَةِ: 284] ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَظَنُّوا دُخُولَ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ فِيهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا، وَفِيهَا قَوْلُهُ: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] [الْبَقَرَةِ: 286] فَبَيَّنَتْ أَنَّ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، فَهُوَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ، وَلَا مُكَلَّفٍ بِهِ، وَقَدْ سَمَّى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ ذَلِكَ نَسْخًا، وَمُرَادُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَزَالَتِ الْإِبْهَامَ الْوَاقِعَ فِي النُّفُوسِ مِنَ الْآيَةِ الْأَوْلَى، وَبَيَّنَتْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْأُولَى الْعَزَائِمُ الْمُصَمَّمُ عَلَيْهَا، وَمِثْلُ هَذَا كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَهُ نَسْخًا. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْعَزَائِمُ الْمُصَمَّمَةُ الَّتِي تَقَعُ فِي النُّفُوسِ وَتَدُومُ، وَيُسَاكِنُهَا صَاحِبُهَا، فَهَذَا أَيْضًا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ عَمَلًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، كَالشَّكِّ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ، أَوِ النُّبُوَّةِ، أَوِ الْبَعْثِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، أَوِ اعْتِقَادِ تَكْذِيبِ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَيَصِيرُ بِذَلِكَ كَافِرًا وَمُنَافِقًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَمَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] [الْبَقَرَةِ: 284] ، عَلَى مِثْلِ هَذَا. وَرُوِيَ عَنْهُ حَمْلُهَا عَلَى كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] [الْبَقَرَةِ: 283] . وَيَلْحَقُ بِهَذَا الْقِسْمِ سَائِرُ الْمَعَاصِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُلُوبِ، كَمَحَبَّةِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ، وَبُغْضِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَالْكِبْرِ، وَالْعُجْبِ، وَالْحَسَدِ، وَسُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُوءِ الظَّنِّ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ، فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَسَدِ، وَلَعَلَّ هَذَا مَحْمُولٌ مِنْ قَوْلِهِمَا عَلَى مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ، وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ، فَهُوَ يَكْرَهُهُ وَيَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَنْدَفِعُ إِلَّا عَلَى مَا يُسَاكِنُهُ، وَيَسْتَرْوِحُ إِلَيْهِ، وَيُعِيدُ حَدِيثَ

نَفْسِهِ بِهِ وَيُبْدِيهِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، بَلْ كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْقَتْلِ، وَالْقَذْفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِذَا أَصَرَّ الْعَبْدُ عَلَى إِرَادَةِ ذَلِكَ، وَالْعَزْمِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ فِي الْخَارِجِ أَصْلًا. فَهَذَا فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا: يُؤَاخَذُ بِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ: أَيُؤَاخَذُ الْعَبْدُ بِالْهِمَّةِ؟ فَقَالَ: إِذَا كَانَتْ عَزْمًا أُوخِذَ. وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِنَحْوِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] [الْبَقَرَةِ: 235] ، وَقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] [الْبَقَرَةِ: 225] ، وَبِنَحْوِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» ، وَحَمَلُوا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ، أَوْ تَعْمَلْ عَلَى الْخَطَرَاتِ» ، وَقَالُوا: مَا سَاكَنَهُ الْعَبْدُ، وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبَهُ، فَهُوَ مَنْ كَسْبِهِ وَعَمَلِهِ، فَلَا يَكُونُ مَعْفُوًّا عَنْهُ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ. وَقِيلَ: بَلْ يُحَاسَبُ الْعَبْدَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقِفُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَعْفُو عَنْهُ، وَلَا يُعَاقِبُهُ بِهِ، فَتَكُونُ عُقُوبَتُهُ الْمُحَاسَبَةَ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّجْوَى،

وَذَاكَ لَيْسَ فِيهِ عُمُومٌ، وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ وَارِدٌ فِي الذُّنُوبِ الْمَسْتُورَةِ فِي الدُّنْيَا، لَا فِي وَسَاوِسِ الصُّدُورِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُؤَاخَذُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مُطْلَقًا، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَمَلًا بِالْعُمُومَاتِ. وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِالْهَمِّ بِالْمَعْصِيَةِ إِلَّا بِأَنْ يَهُمَّ بِارْتِكَابِهَا فِي الْحَرَمِ، كَمَا رَوَى السُّدِّيُّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَهُمُّ بِخَطِيئَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَتُكْتَبُ عَلَيْهِ، وَلَوْ هَمَّ بِقَتْلِ إِنْسَانٍ عِنْدَ الْبَيْتِ، وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ، أَذَاقَهُ اللَّهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] [الْحَجِّ: 25] . خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ رَوَاهُ عَنِ السُّدِّيُّ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ، فَرَفَعَهُ شُعْبَةُ وَوَقَفَهُ سُفْيَانُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ سُفْيَانَ فِي وَقْفِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَهُمُّ بِالْخَطِيئَةِ بِمَكَّةَ، وَهُوَ بِأَرْضٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَعْمَلْهَا فَتُكْتَبُ

عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْمَلْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ مَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنْ أَحْمَدَ. وَرَوَى أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا، ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ يَقُولُ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25] ، قَالَ أَحْمَدُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا بِعَدَنِ أَبْيَنَ هَمَّ بِقَتْلِ رَجُلٍ فِي الْحَرَمِ، هَذَا قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رَدَّ بَعْضُهُمْ هَذَا إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي مُتَعَلِّقُهَا الْقَلْبُ، وَقَالَ: الْحَرَمُ يَجِبُ احْتِرَامُهُ وَتَعْظِيمُهُ بِالْقُلُوبِ، فَالْعُقُوبَةُ عَلَى تَرْكِ هَذَا الْوَاجِبِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ لَيْسَتْ بِأَعْظَمَ مِنْ حُرْمَةِ مُحَرِّمِهِ سُبْحَانَهُ، وَالْعَزْمُ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزْمٌ عَلَى انْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ، وَلَكِنْ لَوْ عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ قَصْدًا، لِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ وَاسْتِخْفَافًا بِحُرْمَتِهِ، فَهَذَا كَمَا لَوْ عَزَمَ عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ لَقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ بِحُرْمَةِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَكْفُرُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِي الْكُفْرُ عَنْهُ إِذْ كَانَ هَمُّهُ بِالْمَعْصِيَةِ لِمُجَرَّدِ نَيْلِ شَهْوَتِهِ، وَغَرَضِ نَفْسِهِ، مَعَ ذُهُولِهِ عَنْ قَصْدِ مُخَالَفَةِ اللَّهِ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِهَيْبَتِهِ وَبِنَظَرِهِ، وَمَتَى اقْتَرَنَ الْعَمَلُ بِالْهَمِّ، فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْفِعْلُ مُتَأَخِّرًا أَوْ مُتَقَدِّمًا، فَمَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا مَرَّةً، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى فِعْلِهِ مَتَى قَدِرَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَمُعَاقَبٌ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى عَمَلِهِ إِلَّا بَعْدَ سِنِينَ عَدِيدَةٍ. وَبِذَلِكَ فَسَّرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ الْإِصْرَارَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَبِكُلِّ حَالٍ فَالْمَعْصِيَةُ إِنَّمَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ مُضَاعَفَةٍ، فَتَكُونُ الْعُقُوبَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَا يَنْضَمُّ إِلَيْهَا الْهَمُّ بِهَا، إِذَا لَوْ ضُمَّ إِلَى الْمَعْصِيَةِ الْهَمُّ بِهَا، لَعُوقِبَ عَلَى عَمَلِ الْمَعْصِيَةِ عُقُوبَتَيْنِ، وَلَا يُقَالُ: فَهَذَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي عَمَلِ الْحَسَنَةِ، فَإِنَّهَا إِذَا عَمِلَهَا بَعْدَ الْهَمِّ بِهَا، أُثِيبَ عَلَى الْحَسَنَةِ دُونَ الْهَمِّ بِهَا، لِأَنَّا

نَقُولُ: هَذَا مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً، كُتِبَتْ لَهُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَمْثَالِ جَزَاءً لِلْهَمِّ بِالْحَسَنَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «أَوْ مَحَاهَا اللَّهُ» يَعْنِي أَنَّ عَمَلَ السَّيِّئَةِ إِمَّا أَنْ تُكْتَبَ لِعَامِلِهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً، أَوْ يَمْحُوَهَا اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَسْبَابِ، كَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَعَمَلِ الْحَسَنَاتِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيمَا تُمْحَى بِهِ السَّيِّئَاتُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» . وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: «وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالَكٌ» : يَعْنِي بَعْدَ هَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مِنَ اللَّهِ، وَالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ مِنْهُ بِمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ، وَالتَّجَاوُزِ عَنِ السَّيِّئَاتِ، يَهْلِكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا مَنْ هَلَكَ، وَأَلْقَى بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَتَجَرَّأَ عَلَى السَّيِّئَاتِ، وَرَغِبَ عَنِ الْحَسَنَاتِ، وَأَعْرَضَ عَنْهَا. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَيْلٌ لِمَنْ غَلَبَ وُحْدَانُهُ عَشَرَاتِهِ. وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَرْفُوعًا: «هَلَكَ مَنْ غَلَبَ وَاحِدُهُ عَشْرًا» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَلَّتَانِ لَا يُحْصِيهِمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُمَا يَسِيرٌ، وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ: تُسَبِّحُ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدُهُ عَشْرًا، وَتُكَبِّرُهُ عَشْرًا، قَالَ: فَتِلْكَ خَمْسُونَ وَمِائَةٍ بِاللِّسَانِ، وَأَلْفٌ

وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ، وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ، تُسَبِّحُهُ، وَتُكَبِّرُهُ، وَتَحْمَدُهُ مِائَةً، فَتِلْكَ مِائَةٌ بِاللِّسَانِ، وَأَلْفٌ فِي الْمِيزَانِ، فَأَيُّكُمْ يَعْمَلُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةِ سَيِّئَةٍ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَدَعْ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يَعْمَلَ لِلَّهِ أَلْفَ حَسَنَةٍ حِينَ يُصْبِحُ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ، فَإِنَّهَا أَلْفُ حَسَنَةٍ، فَإِنَّهُ لَنْ يَعْمَلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ ذَلِكَ فِي يَوْمِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَيَكُونُ مَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ سِوَى ذَلِكَ وَافِرًا» .

[الحديث الثامن والثلاثون قال الله تعالى من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب]

[الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ]

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا، فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» ،. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ بَقِيَّةِ أَصْحَابِ الْكُتُبِ، خَرَّجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: «وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» . وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ " الصَّحِيحِ " تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ كَرَامَةَ عَنْ خَالِدٍ، وَلَيْسَ فِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " مَعَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ مَخْلَدٍ الْقَطْوَانِيَّ تَكَلَّمَ فِيهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: لَهُ مَنَاكِيرٌ، وَعَطَاءٌ الَّذِي فِي إِسْنَادِهِ قِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ يَسَارٍ، وَإِنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ " الصَّحِيحِ " مَنْسُوبًا كَذَلِكَ.

وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ لَا تَخْلُو كُلُّهَا عَنْ مَقَالٍ فَرَوَاهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مَيْمُونٍ أَبُو حَمْزَةَ مَوْلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا، فَقَدِ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ فَرَائِضِي، وَإِنَّ عَبْدِي لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ عَيْنَهُ الَّتِي يُبْصِرُ بِهَا، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَفُؤَادَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ، إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» . خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرِهِ، وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِمَعْنَاهُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَدِيٍّ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْوَاحِدِ هَذَا عَنْ عُرْوَةَ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ هَذَا قَالَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ كَامِلٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ الْمَدَنِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو حَرَزَةَ يَعْقُوبُ بْنُ مُجَاهِدٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَهَذَا إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ مُخَرَّجٌ لَهُمْ فِي " الصَّحِيحِ " سِوَى شَيْخِ الطَّبَرَانِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يَحْضُرُنِي الْآنَ مَعْرِفَةُ حَالِهِ، وَلَعَلَّ الرِّوَايَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ، يَعْنِي عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ مَيْمُونٍ، فَخُيِّلَ لِلسَّامِعِ أَنَّهُ قَالَ: أَبُو حَرَزَةَ، ثُمَّ سَمَّاهُ

مِنْ عِنْدِهِ بِنَاءً عَلَى وَهْمِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي عَاتِكَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَنْ تُدْرِكَ مَا عِنْدِي إِلَّا بِأَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْكَ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَحَبَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَأَكُونَ قَلْبَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، فَإِذَا دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِذَا سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَرَنِي نَصَرْتُهُ، وَأَحَبُّ عِبَادَةِ عَبْدِي إِلَيَّ النَّصِيحَةُ» . عُثْمَانُ وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ ضَعِيفَانِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: هُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، خَرَّجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي " مُسْنَدِ عَلِيٍّ ". وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ فِي لَفْظِهِ، وَرُوِّينَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى الْخُشَنِيِّ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ هِشَامٍ الْكِنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ جِبْرِيلَ، عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى قَالَ: «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَمَا

تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ مَا تَرَدَّدْتُ فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يُرِيدُ بَابًا مِنَ الْعِبَادَةِ، فَأَكُفُّهُ عَنْهُ لَا يَدْخُلُهُ عُجْبٌ، فَيُفْسِدُهُ ذَلِكَ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَنَفَّلُ إِلَيَّ حَتَّى أُحِبَّهُ، وَمَنْ أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا، دَعَانِي فَأَجَبْتُهُ، وَسَأَلَنِي فَأَعْطَيْتُهُ، وَنَصَحَ لِي فَنَصَحْتُ لَهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ، وَإِنْ بَسَطْتُ لَهُ أَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الصِّحَّةُ، وَلَوْ أَسْقَمْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا السَّقَمُ وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ، لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، إِنِّي أُدَبِّرُ عِبَادِي بِعِلْمِي بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، إِنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ» . وَالْخَشَنِيُّ وَصَدَقَةُ ضَعِيفَانِ، وَهِشَامٌ لَا يُعْرَفُ، وَسُئِلَ ابْنُ مَعِينٍ عَنْ هِشَامٍ هَذَا: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: لَا أَحَدَ، يَعْنِي: لَا يُعْتَبَرُ بِهِ. وَقَدْ خَرَّجَ الْبَزَّارُ بَعْضَ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ صَدَقَةَ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيَّ: يَا أَخَا الْمُرْسَلِينَ، وَيَا أَخَا الْمُنْذِرِينَ أَنْذِرْ قَوْمَكَ لَا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ بُيُوتِي وَلِأَحَدٍ عِنْدَهُمْ مَظْلَمَةٌ، فَإِنِّي أَلْعَنُهُ مَا دَامَ قَائِمًا بَيْنَ يَدِي يُصَلِّي حَتَّى يَرُدَّ تِلْكَ الظُّلَامَةَ إِلَى أَهْلِهَا، فَأَكُونُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَأَكُونُ بَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَكُونُ مِنْ أَوْلِيَائِي وَأَصْفِيَائِي، وَيَكُونُ جَارِي مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ» . وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا.

وَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَشْرَفُ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي ذِكْرِ الْأَوْلِيَاءِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا، فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ» يَعْنِي: فَقَدْ أَعْلَمْتُهُ بِأَنِّي مُحَارِبٌ لَهُ، حَيْثُ كَانَ مُحَارِبًا لِي بِمُعَادَاةِ أَوْلِيَائِي، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «فَقَدِ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي» وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَغَيْرِهِ: «فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ» ، وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى لِلَّهِ وَلِيًّا، فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْأَبْرَارَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا، وَلَمْ يُعْرَفُوا، [قُلُوبُهُمْ] مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ» . فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ تَجِبُ مُوَالَاتُهُمْ، وَتَحْرُمُ مُعَادَاتُهُمْ، كَمَا أَنَّ أَعْدَاءَهُ تَجِبُ مُعَادَاتُهُمْ، وَتَحْرُمُ مُوَالَاتُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] [الْمُمْتَحِنَةِ: 1] ، وَقَالَ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ - وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55 - 56] [الْمَائِدَةِ: 55 - 56] ، وَوَصَفَ أَحِبَّاءَهُ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ بِأَنَّهُمْ أَذِلَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ " الزُّهْدِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى عَلَيْهِ

السَّلَامُ حِينَ كَلَّمَهُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا أَوْ أَخَافَهُ، فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَبَادَأَنِي وَعَرَّضَ نَفْسَهُ وَدَعَانِي إِلَيْهَا، وَأَنَا أَسْرَعُ شَيْءٍ إِلَى نُصْرَةِ أَوْلِيَائِي، أَفَيَظُنُّ الَّذِي يُحَارِبُنِي أَنْ يَقُومَ لِي؟ أَوْ يَظُنُّ الَّذِي يُعَازُّنِي أَنْ يُعْجِزَنِي؟ أَمْ يُظَنُّ الَّذِي يُبَارِزُنِي أَنْ يَسْبِقَنِي أَوْ يَفُوتَنِي؟ وَكَيْفَ وَأَنَا الثَّائِرُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَا أَكِلُ نُصْرَتَهُمْ إِلَى غَيْرِي ". وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي مُحَارَبَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ الْحَسَنُ بْنُ آدَمَ هَلْ لَكَ بِمُحَارَبَةِ اللَّهِ مِنْ طَاقَةٍ؟ فَإِنَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ حَارَبَهُ، لَكِنْ كُلَّمَا كَانَ الذَّنْبُ أَقْبَحَ، كَانَ أَشَدَّ مُحَارَبَةً لِلَّهِ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى أَكَلَةَ الرِّبَا وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ مُحَارِبِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ؛ لِعِظَمِ ظُلْمِهِمْ لِعِبَادِهِ، وَسَعْيِهِمْ بِالْفَسَادِ فِي بِلَادِهِ، وَكَذَلِكَ مُعَادَاةُ أَوْلِيَائِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى نُصْرَةَ أَوْلِيَائِهِ، وَيُحِبُّهُمْ وَيُؤَيِّدُهُمْ، فَمَنْ عَادَاهُمْ، فَقَدْ عَادَى اللَّهَ وَحَارَبَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا، فَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَوْلُهُ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» : لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مُعَادَاةَ أَوْلِيَائِهِ مُحَارَبَةٌ لَهُ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَصْفَ أَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ تَحْرُمُ مُعَادَاتُهُمْ، وَتَجِبُ مُوَالَاتُهُمْ، فَذَكَرَ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ، وَأَصْلُ الْوِلَايَةِ الْقُرْبُ، وَأَصْلُ الْعَدَاوَةِ الْبُعْدُ، فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ بِمَا يُقَرِّبُهُمْ مِنْهُ، وَأَعْدَاؤُهُ الَّذِينَ أَبْعَدَهُمْ عَنْهُ بِأَعْمَالِهِمِ الْمُقْتَضِيَةِ لِطَرْدِهِمْ وَإِبْعَادِهِمْ مِنْهُ، فَقَسَّمَ أَوْلِيَاءَهُ الْمُقَرَّبِينَ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ الَّتِي افْتَرَضَهَا عَلَى عِبَادِهِ.

وَالثَّانِي: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ بِالنَّوَافِلِ، فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ يُوصِّلُ إِلَى التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَوِلَايَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ سِوَى طَاعَتِهِ الَّتِي شَرَعَهَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، فَمَنِ ادَّعَى وِلَايَةَ اللَّهِ، وَمَحَبَّتَهُ بِغَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ، تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ، كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادَةِ مَنْ يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِهِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] [الزُّمَرِ: 3] ، وَكَمَا حَكَى عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ قَالُوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] [الْمَائِدَةِ: 18] مَعَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِ رُسُلِهِ، وَارْتِكَابِ نَوَاهِيهِ، وَتَرْكِ فَرَائِضِهِ. فَلِذَلِكَ ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَيْهِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَهَذِهِ دَرَجَةُ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَدَاءُ الْفَرَائِضِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ، وَالْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ، وَصِدْقُ النِّيَّةِ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي خُطْبَتِهِ: أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ، وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا افْتَرَضَ عَلَى عِبَادِهِ هَذِهِ الْفَرَائِضَ لِيُقَرِّبَهُمْ مِنْهُ، وَيُوجِبَ لَهُمْ رِضْوَانَهُ وَرَحْمَتَهُ. وَأَعْظَمُ فَرَائِضِ الْبَدَنِ الَّتِي تُقَرِّبُ إِلَيْهِ: الصَّلَاةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] [الْعَلَقِ: 19] ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» ، وَقَالَ: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، أَوْ رَبُّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ» . وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ» .

وَمِنَ الْفَرَائِضِ الْمُقَرِّبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَدْلُ الرَّاعِي فِي رَعِيَّتِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ رَعِيَّتُهُ عَامَّةً كَالْحَاكِمِ، أَوْ خَاصَّةً كَعَدْلِ آحَادِ النَّاسِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَلَى يَمِينِ الرَّحْمَنِ - وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ - الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا» . وَفِي " التِّرْمِذِيِّ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ أَحَبَّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَدْنَاهُمْ إِلَيْهِ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ» . الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: دَرَجَةُ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ تَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ بِالِاجْتِهَادِ فِي نَوَافِلِ الطَّاعَاتِ، وَالِانْكِفَافِ عَنْ دَقَائِقَ الْمَكْرُوهَاتِ بِالْوَرَعِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ لِلْعَبْدِ مَحَبَّةَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ: «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» ، فَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، رَزَقَهُ مَحَبَّتَهُ وَطَاعَتَهُ وَالِاشْتِغَالَ بِذِكْرِهِ وَخِدْمَتَهُ، فَأَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ الْقُرْبَ مِنْهُ، وَالزُّلْفَى لَدَيْهِ، وَالْحَظْوَةَ عِنْدَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهِ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] [الْمَائِدَةِ: 54] ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ

إِلَى أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ حُبِّنَا وَتَوَلَّى عَنْ قُرْبِنَا، لَمْ نُبَالِ، وَاسْتَبْدَلْنَا بِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهَذِهِ الْمِنْحَةِ مِنْهُ وَأَحَقُّ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ فَمَا لَهُ مِنَ اللَّهِ بَدَلٌ، وَلِلَّهِ مِنْهُ أَبْدَالٌ. مَا لِي شُغُلٌ سِوَاهُ مَا لِي شُغُلُ ... مَا يَصْرِفُ عَنْ هَوَاهُ قَلْبِي عَذَلٌ مَا أَصْنَعُ إِنْ جَفَا وَخَابَ الْأَمَلُ ... مِنِّي بَدَلٌ وَمَا لِي مِنْهُ بَدَلُ وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " «ابْنَ آدَمَ اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» ". كَانَ ذُو النُّونِ يُرَدِّدُ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ بِاللَّيْلِ كَثِيرًا: اطْلُبُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِثْلَ مَا وَجَدْتُ أَنَا ... قَدْ وَجَدْتُ لِي سَكَنًا لَيْسَ فِي هَوَاهُ عَنَا إِنْ بَعَدْتُ ... قَرَّبَنِي أَوْ قَرُبْتُ مِنْهُ دَنَا مَنْ فَاتَهُ اللَّهُ، فَلَوْ حَصَلَتْ لَهُ الْجَنَّةُ بِحَذَافِيرِهَا، لَكَانَ مَغْبُونًا، فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ إِلَّا نَزْرٌ حَقِيرٌ يَسِيرٌ مِنْ دَارٍ كُلِّهَا لَا تَعْدِلُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ: مَنْ فَاتَهُ أَنْ يَرَاكَ يَوْمًا فَكُلُّ أَوْقَاتِهِ فَوَاتُ ... وَحَيْثُمَا كُنْتُ فِي بِلَادٍ فَلِي إِلَى وَجْهِكَ الْتِفَاتُ ثُمَّ ذَكَرَ أَوْصَافَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَيُحِبُّونَهُ، فَقَالَ: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 54] ،

يَعْنِي أَنَّهُمْ يُعَامِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِالذِّلَّةِ وَاللِّينِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] يَعْنِي أَنَّهُمْ يُعَامِلُونَ الْكَافِرِينَ بِالْعِزَّةِ وَالشِّدَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالْإِغْلَاظِ لَهُمْ، فَلَمَّا أَحَبُّوا اللَّهَ أَحَبُّوا أَوْلِيَاءَهُ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ، فَعَامَلُوهُمْ بِالْمَحَبَّةِ وَالرَّأْفَةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَأَبْغَضُوا أَعْدَاءَهُ الَّذِينَ يُعَادُونَهُ، فَعَامَلُوهُمْ بِالشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ - يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 29 - 54] ، فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ الْمَحَبَّةِ مُجَاهَدَةَ أَعْدَاءِ الْمَحْبُوبِ، وَأَيْضًا فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُعَاءٌ لِلْمُعْرِضِينَ عَنِ اللَّهِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ بَعْدَ دُعَائِهِمْ إِلَيْهِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَالْمُحِبُّ لِلَّهِ يُحِبُّ اجْتِلَابَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ إِلَى بَابِهِ؛ فَمَنْ لَمْ يَجِدِ الدَّعْوَةَ بِاللِّينِ وَالرِّفْقِ، احْتَاجَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الشِّدَّةِ وَالْعُنْفِ عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ. {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54] ؛ لَا هَمَّ لِلْمُحِبِّ غَيْرَ مَا يُرْضِي حَبِيبَهُ، رَضِيَ مَنْ رَضِيَ، وَسَخِطَ مَنْ سَخِطَ، مَنْ خَافَ الْمَلَامَةَ فِي هَوَى مَنْ يُحِبُّهُ، فَلَيْسَ بِصَادِقٍ فِي الْمَحَبَّةِ: وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتَ ... فَلَيْسَ لِي مُتَأَخَّرٌ عَنْكُمْ وَلَا مُتَقَدَّمُ أَجِدُ الْمَلَامَةَ فِي هَوَاكَ لَذِيذَةً ... حُبًّا لِذِكْرِكَ فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ قَوْلُهُ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] ، يَعْنِي دَرَجَةَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ بِأَوْصَافِهِمِ الْمَذْكُورَةِ، {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] : وَاسْعُ الْعَطَاءِ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْفَضْلَ فَيَمْنَحُهُ، وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَيَمْنَعُهُ.

وَيُرْوَى «أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَحْبَابِكَ، فَإِنَّكَ إِذَا أَحْبَبْتَ عَبْدًا، غَفَرْتَ ذَنْبَهُ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا، وَقَبِلْتَ عَمَلَهُ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا» ، «وَكَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ الْعَمَلِ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَأَهْلِي وَمَالِي وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ» . «وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَانِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ - يَعْنِي فِي الْمَنَامِ - فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ» . «وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ، اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ مَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ» .

وَرُوِيَ «عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو: اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَيَّ، وَخَشْيَتَكَ أَخْوَفَ الْأَشْيَاءَ عِنْدِي، وَاقْطَعْ عَنِّي حَاجَاتِ الدُّنْيَا بِالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ، وَإِذَا أَقْرَرْتَ أَعْيُنَ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ دُنْيَاهُمْ، فَاقْرَرْ عَيْنِي مِنْ عِبَادَتِكَ» . فَأَهْلُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ لَيْسَ لَهُمْ هَمٌّ إِلَّا فِيمَا يُقَرِّبُهُمْ مِمَّنْ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْعَمَلُ عَلَى الْمَخَافَةِ قَدْ يُغَيِّرُهُ الرَّجَاءُ، وَالْعَمَلُ عَلَى الْمَحَبَّةِ لَا يَدْخُلُهُ الْفُتُورُ، وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ: إِذَا سَئِمَ الْبَطَّالُونَ مِنْ بِطَالَتِهِمْ، فَلَا يَسْأَمُ مُحِبُّوكَ مِنْ مُنَاجَاتِكَ وَذِكْرِكَ. قَالَ فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ: قَرَأْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ آثَرُ مِنْ هَوَاهُ، وَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ آثَرُ مِنْ هَوَى نَفْسِهِ، فَالْحُبُّ لِلَّهِ تَعَالَى أَمِيرٌ مُؤَمَّرٌ عَلَى الْأُمَرَاءِ زُمْرَتُهُ أَوَّلُ الزُّمَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَجْلِسُهُ أَقْرَبُ الْمَجَالِسِ فِيمَا هُنَالِكَ، وَالْمَحَبَّةُ مُنْتَهَى الْقُرْبَةِ وَالِاجْتِهَادِ وَلَنْ يَسْأَمَ الْمُحِبُّونَ مِنْ طُولِ اجْتِهَادِهِمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّونَهُ وَيُحِبُّونَ ذِكْرَهُ وَيُحَبِّبُونَهُ إِلَى خَلْقِهِ يَمْشُونَ بَيْنَ عِبَادِهِ بِالنَّصَائِحِ، وَيَخَافُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ يَوْمَ تَبْدُو الْفَضَائِحُ، أُولَئِكَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَهْلُ صَفْوَتِهِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا رَاحَةَ لَهُمْ دُونَ لِقَائِهِ. وَقَالَ فَتْحٌ الْمَوْصِلِيُّ: الْمُحِبُّ لَا يَجِدُ مَعَ حُبِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلدُّنْيَا لَذَّةً، وَلَا يَغْفُلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ طَرْفَةَ [عَيْنٍ] . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ الْحَارِثِيُّ: مَا يَكَادُ يَمَلُّ الْقُرْبَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحِبٌّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا يَكَادُ يَسْأَمُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُحِبُّ لِلَّهِ طَائِرُ الْقَلْبِ، كَثِيرُ الذِّكْرِ، مُتَسَبِّبٌ إِلَى رِضْوَانِهِ

بِكُلِّ سَبِيلٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا مِنَ الْوَسَائِلِ وَالنَّوَافِلِ دَوْبًا دَوْبًا، وَشَوْقًا شَوَّقَا، وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: وَكُنْ لِرَبِّكَ ذَا حُبٍّ لِتَخْدِمَهُ ... إِنَّ الْمُحِبِّينَ لِلْأَحْبَابِ خُدَّامُ وَأَنْشَدَ آخَرُ: مَا لِلْمُحِبِّ سِوَى إِرَادَةِ حُبِّهِ ... إِنَّ الْمُحِبَّ بِكُلِّ بِرٍّ يَضْرَعُ وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّوَافِلِ كَثْرَةُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَسَمَاعُهُ بِتَفَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ وَتَفَهُّمٍ، قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ لِرَجُلٍ: تَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ. وَفِي " التِّرْمِذِيَّ " عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: «مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ يَعْنِي الْقُرْآنَ، لَا شَيْءَ عِنْدَ الْمُحِبِّينَ أَحْلَى مِنْ كَلَامِ مَحْبُوبِهِمْ، فَهُوَ لَذَّةُ قُلُوبِهِمْ، وَغَايَةُ مَطْلُوبِهِمْ» . قَالَ عُثْمَانُ: لَوْ طُهِّرَتْ قُلُوبُكُمْ مَا شَبِعْتُمْ مِنْ كَلَامِ

رَبِّكُمْ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أَحَبَّ الْقُرْآنَ أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ لِمُرِيدٍ: أَتَحْفَظُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: لَا، وَاغَوْثَاهُ بِاللَّهِ! مُرِيدٌ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ فَبِمَ يَتَنَعَّمُ؟ فَبِمَ يَتَرَنَّمُ؟ فَبِمَ يُنَاجِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ . كَانَ بَعْضُهُمْ يُكْثِرُ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ اشْتَغَلَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ، فَرَأَى فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ حُبِّي فِلِمَ جَفَوْتَ كِتَابِي ... أَمَا تَأَمَّلْتَ مَا فِيـ ــهِ مِنْ لَطِيفِ عِتَابِي وَمِنْ ذَلِكَ كَثْرَةُ ذِكْرِ اللَّهِ الَّذِي يَتَوَاطَأُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ. وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزَّارِ " «عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِأَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَقْرَبِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكُ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى» . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «أَنَا مَعَ عَبْدِي

مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] [الْبَقَرَةِ: 152] . وَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَهُمْ مَعَهُ فِي سَفَرٍ، قَالَ لَهُمْ: «إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَعْنَاقِ رَوَاحِلِكُمْ» . وَمِنْ ذَلِكَ مَحَبَّةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَحِبَّائِهِ فِيهِ، وَمُعَادَاةُ أَعْدَائِهِ فِيهِ، وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرَوْحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى نُورٍ، وَلَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] » [يُونُسَ: 62] . وَيُرْوَى نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي حَدِيثِهِ: «يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ بِقُرْبِهِمْ وَمَقْعَدِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» .

وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَجِدُ الْعَبْدُ صَرِيحَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلَّهِ وَيُبْغِضَ لِلَّهِ، فَإِذَا أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَحَقَّ وِلَايَةً مِنَ اللَّهِ، إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْ عِبَادِي وَأَحِبَّائِي مِنْ خَلْقِي الَّذِينَ يُذْكَرُونَ بِذِكْرِي وَأُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ» . وَسُئِلَ الْمُرْتَعِشُ: بِمَ تُنَالُ الْمَحَبَّةُ؟ قَالَ: بِمُوَالَاةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَمُعَادَةِ أَعْدَائِهِ، وَأَصْلُهُ الْمُوَافَقَةُ. وَفِي " الزُّهْدِ " لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: «قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ، مَنْ هُمْ أَهْلُكَ الَّذِينَ تُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّ عَرْشِكَ؟ قَالَ: يَا مُوسَى، هُمُ الْبَرِيئَةُ أَيْدِيهُمْ، الطَّاهِرَةُ قُلُوبُهُمْ، الَّذِينَ يَتَحَابُّونَ بِجَلَالِي، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرُوا بِي، وَإِذَا ذُكِرُوا ذُكِرْتُ بِذِكْرِهِمْ، الَّذِينَ يُسْبِغُونَ الْوُضُوءَ فِي الْمَكَارِهِ، وَيُنِيبُونَ إِلَى ذِكْرِي كَمَا تُنِيبُ النُّسُورُ إِلَى وُكُورِهَا، وَيَكْلَفُونَ بِحُبِّي كَمَا يَكْلُفُ الصَّبِيُّ بِحُبِّ النَّاسِ، وَيَغْضَبُونَ لِمَحَارِمِي إِذَا اسْتُحِلَّتْ كَمَا يَغْضَبُ النَّمِرُ إِذَا حَرِبَ. قَوْلُهُ: فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا» ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «وَقَلْبَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ» . الْمُرَادُ بِهَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ مَنِ اجْتَهَدَ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ، ثُمَّ بِالنَّوَافِلِ، قَرَّبَهُ إِلَيْهِ، وَرَقَّاهُ مِنْ دَرَجَةِ الْإِيمَانِ إِلَى دَرَجَةِ الْإِحْسَانِ، فَيَصِيرُ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى الْحُضُورِ وَالْمُرَاقَبَةِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَيَمْتَلِئُ قَلْبُهُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَحَبَّتِهِ،

وَعَظَمَتِهِ، وَخَوْفِهِ، وَمَهَابَتِهِ، وَإِجْلَالِهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَصِيرَ هَذَا الَّذِي فِي قَلْبِهِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ مُشَاهِدًا لَهُ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ كَمَا قِيلَ: سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ ... لَسْتُ أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ غَابَ عَنْ سَمْعِي وَعَنْ بَصَرِي ... فَسُوَيْدَا الْقَلْبُ يُبْصِرُهُ قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: " كَذَبَ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّتِي، وَنَامَ عَنِّي، أَلَيْسَ كُلُّ مُحِبٍّ يُحِبُّ خَلْوَةَ حَبِيبِهِ؟ هَا أَنَا مُطَّلِعٌ عَلَى أَحْبَابِي وَقَدْ مَثَّلُونِي بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ، وَخَاطَبُونِي عَلَى الْمُشَاهَدَةِ، وَكَلَّمُونِي بِحُضُورٍ، غَدًا أُقِرُّ أَعْيُنَهُمْ فِي جِنَانِي ". وَلَا يَزَالُ هَذَا الَّذِي فِي قُلُوبِ الْمُحِبِّينَ الْمُقَرَّبِينَ يَقْوَى حَتَّى تَمْتَلِئَ قُلُوبُهُمْ بِهِ، فَلَا يَبْقَى فِي قُلُوبِهِمْ غَيْرُهُ، وَلَا تَسْتَطِيعُ جَوَارِحُهُمْ أَنْ تَنْبَعِثَ إِلَّا بِمُوَافَقَةِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَمَنْ كَانَ حَالُهُ هَذَا، قِيلَ فِيهِ: مَا بَقِيَ فِي قَلْبِهِ إِلَّا اللَّهُ، وَالْمُرَادُ مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَذِكْرُهُ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْأَثَرُ الْإِسْرَائِيلِيُّ الْمَشْهُورُ: " يَقُولُ اللَّهُ: مَا وَسِعَنِي سَمَائِي وَلَا أَرْضِي، وَلَكِنْ وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ ". وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: احْذَرُوهُ، فَإِنَّهُ غَيُورٌ لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَى فِي قَلْبِ عَبْدِهِ غَيْرَهُ، وَفِي هَذَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ لِلنَّاسِ مَوْضِعٌ فِي فُؤَادِي ... زَادَ فِيهِ هَوَاكَ حَتَّى امْتَلَا وَقَالَ آخَرُ: قَدْ صِيغَ قَلْبِي عَلَى مِقْدَارِ حُبِّهِمُ ... فَمَا لِحُبٍّ سِوَاهُمْ فِيهِ مُتَّسَعُ

وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِطْبَتِهِ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقَالَ: «أَحِبُّوا اللَّهَ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ» كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي " سِيرَتِهِ " فَمَتَى امْتَلَأَ الْقَلْبُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، مَحَا ذَلِكَ مِنَ الْقَلْبِ كُلَّ مَا سِوَاهُ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ، وَلَا إِرَادَةٌ إِلَّا لِمَا يُرِيدُهُ مِنْهُ مَوْلَاهُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَنْطِقُ الْعَبْدُ إِلَّا بِذِكْرِهِ، وَلَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا بِأَمْرِهِ، فَإِنْ نَطَقَ نَطَقَ بِاللَّهِ، وَإِنْ سَمِعَ سَمِعَ بِهِ، وَإِنْ نَظَرَ نَظَرَ بِهِ، وَإِنْ بَطَشَ بَطَشَ بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا» وَمَنْ أَشَارَ إِلَى غَيْرِ هَذَا فَإِنَّمَا يُشِيرُ إِلَى الْإِلْحَادِ مِنَ الْحُلُولِ، أَوِ الِاتِّحَادِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ. وَمِنْ هُنَا كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ كَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُعْصَى اللَّهُ. وَوَصَّتِ امْرَأَةٌ مِنَ السَّلَفِ أَوْلَادَهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ: تَعَوَّدُوا حُبَّ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ، فَإِنَّ الْمُتَّقِينَ أَلِفُوا الطَّاعَةَ، فَاسْتَوْحَشَتْ جَوَارِحُهُمْ مِنْ غَيْرِهَا، فَإِنْ عَرَضَ لَهُمُ الْمَلْعُونُ بِمَعْصِيَةٍ، مَرَّتِ الْمَعْصِيَةُ بِهِمْ مُحْتَشِمَةً، فَهُمْ لَهَا مُنْكِرُونَ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عَلِيٍّ: إِنْ كُنَّا لَنَرَى أَنَّ شَيْطَانَ عَمَرَ لَيَهَابَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْخَطِيئَةِ، وَقَدْ أَشَرْنَا فِيمَا سَبَقَ إِلَى أَنَّ هَذَا مِنْ أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ الْخَاصَّةِ، فَإِنَّ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: لَا يُؤَلِّهُ غَيْرَهُ حُبًّا وَرَجَاءً، وَخَوْفًا، وَطَاعَةً، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْقَلْبُ بِالتَّوْحِيدِ التَّامِّ، لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَحَبَّةٌ لِغَيْرِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَلَا كَرَاهَةٌ لِغَيْرِ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ تَنْبَعِثْ جَوَارِحُهُ إِلَّا بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا تَنْشَأُ الذُّنُوبُ مِنْ مَحَبَّةِ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، أَوْ كَرَاهَةِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَذَلِكَ يَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيمِ هَوَى النَّفْسِ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي كَمَالِ التَّوْحِيدِ الْوَاجِبِ، فَيَقَعُ الْعَبْدُ

بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي التَّفْرِيطِ فِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ، وَارْتِكَابِ بَعْضِ الْمَحْظُورَاتِ، فَإِنَّ مَنْ تَحَقَّقَ قَلْبُهُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، فَلَا يَبْقَى لَهُ هَمٌّ إِلَّا فِي اللَّهِ وَفِيمَا يُرْضِيهِ بِهِ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ غَيْرُ اللَّهِ، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ» ، وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَوْقُوفًا قَالَ: مَنْ أَصْبَحَ وَأَكْبَرُ هَمِّهِ غَيْرُ اللَّهِ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَنْ أَخْبَرَكَ أَنَّ لِوَلِيِّهِ لَهُ هَمٌّ فِي غَيْرِهِ، فَلَا تُصَدِّقْهُ. وَكَانَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ يُنَادِي بِاللَّيْلِ: هَمُّكَ عَطَّلَ عَلَيَّ الْهُمُومَ، وَحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ السُّهَادِ، وَشَوْقِي إِلَى النَّظَرِ إِلَيْكَ أَوْثَقَ مِنِّي اللَّذَّاتِ، وَحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّهَوَاتِ، فَأَنَا فِي سِجْنِكَ أَيُّهَا الْكَرِيمُ مَطْلُوبٌ. وَفِي هَذَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ: قَالُوا تَشَاغَلَ عَنَّا وَاصْطَفَى بَدَلًا ... مِنَّا وَذَلِكَ فِعْلُ الْخَائِنِ السَّالِي وَكَيْفَ أُشْغِلُ قَلْبِي عَنْ مَحَبَّتِكُمْ ... بِغَيْرِ ذِكْرِكُمْ يَا كُلَّ أَشْغَالِي. . قَوْلُهُ: «وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: «إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ» ، يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْمَحْبُوبَ الْمُقَرَّبَ، لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ خَاصَّةٌ تَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا سَأَلَ اللَّهَ شَيْئًا، أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَإِنِ اسْتَعَاذَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ، أَعَاذَهُ مِنْهُ، وَإِنْ دَعَاهُ، أَجَابَهُ، فَيَصِيرُ مُجَابَ الدَّعْوَةِ لِكَرَامَتِهِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مَعْرُوفًا بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ. وَفِي " الصَّحِيحِ " «أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِمُ الْأَرْشَ،

فَأَبَوْا، فَطَلَبُوا مِنْهُمُ الْعَفْوَ، فَأَبَوْا، فَقَضَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَرَضِيَ الْقَوْمُ، وَأَخَذُوا الْأَرْشَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مِنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ.» وَفِي " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَمْ مِنْ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ ذِي طِمْرَيْنِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَنَّ الْبَرَاءَ لَقِيَ زَحْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ: اقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ، فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَبِّ لَمَا مَنَحْتَنَا أَكْتَافَهُمْ، فَمَنَحَهُمْ أَكْتَافَهُمْ، ثُمَّ الْتَقَوْا مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالُوا: أَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ، فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَبِّ لَمَا مَنَحْتَنَا أَكْتَافَهُمْ، وَأَلْحَقْتَنِي بِنَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمُنِحُوا أَكْتَافَهُمْ، وَقُتِلَ الْبَرَاءُ» . وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادٍ لَهُ «أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ قَوْقَلٍ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ أُقْتَلَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَقُتِلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ النُّعْمَانَ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ فَأَبَرَّهُ» . وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: يَا رَبِّ، إِذَا لَقِيتُ الْعَدُوَّ غَدًا، فَلَقِّنِي رَجُلًا شَدِيدًا بَأْسُهُ، شَدِيدًا حَرْدُهُ أُقَاتِلُهُ فِيكَ وَيُقَاتِلُنِي، ثُمَّ يَأْخُذُنِي فَيَجْدَعُ أَنْفِي وَأُذُنِي، فَإِذَا لَقِيَتُكَ غَدًا، قُلْتَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ

مَنْ جَدَعَ أَنْفَكَ وَأُذُنَكَ؟ فَأَقُولُ: فِيكَ وَفِي رَسُولِكَ، فَتَقُولُ: صَدَقْتَ، قَالَ سَعْدٌ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ آخِرَ النَّهَارِ، وَإِنَّ أَنْفَهُ وَأُذُنَهُ لَمُعَلَّقَتَانِ فِي خَيْطٍ. وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، فَكَذَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَاعْمِ بَصَرَهُ، وَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ، فَأَصَابَ الرَّجُلَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَكَانَ يَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي السِّكَكِ وَيَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ. وَدَعَا عَلَى رَجُلٍ سَمِعَهُ يَشْتُمُ عَلِيًّا، فَمَا بَرِحَ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى جَاءَ بِعِيرٌ نَادٌّ، فَخَبَطَهُ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ حَتَّى قَتَلَهُ. وَنَازَعَتِ امْرَأَةٌ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ فِي أَرْضٍ لَهُ، فَادَّعَتْ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهَا أَرْضَهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً، فَأَعْمِ بَصَرَهَا وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا، فَعَمِيَتْ، وَبَيْنَا هِيَ ذَاتَ لَيْلَةٍ تَمْشِي فِي أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ فِيهَا فَمَاتَتْ. وَكَانَ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ فِي سَرِيَّةٍ، فَعَطَشُوا فَصَلَّى، فَقَالَ: اللَّهُمَّ يَا عَلِيمٌ يَا حَلِيمٌ يَا عَلِيٌّ يَا عَظِيمٌ، إِنَّا عَبِيدُكَ وَفِي سَبِيلِكَ نُقَاتِلُ عَدُوَّكَ، فَاسْقِنَا غَيْثًا نَشْرَبُ مِنْهُ وَنَتَوَضَّأُ، وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ نَصِيبًا غَيْرَنَا، فَسَارُوا قَلِيلًا، فَوَجَدُوا نَهْرًا مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ يَتَدَفَّقُ فَشَرِبُوا وَمَلَئُوا أَوْعِيَتَهُمْ، ثُمَّ سَارُوا فَرَجَعَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إِلَى مَوْضِعِ النَّهْرِ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَوْضِعِهِ مَاءٌ قَطُّ.

وَشُكِيَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَطَشَ أَرْضٍ بِالْبَصْرَةِ فَتَوَضَّأَ وَخَرَجَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ وَدَعَا فَجَاءَ الْمَطَرُ فَسَقَى أَرْضَهُ، وَلَمْ يُجَاوِزِ الْمَطَرُ أَرْضَهُ إِلَّا يَسِيرًا. وَاحْتَرَقَتْ خِصَاصٌ بِالْبَصْرَةِ فِي زَمَنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَبَقِيَ فِي وَسَطِهَا خُصٌّ لَمْ يَحْتَرِقْ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى لِصَاحِبِ الْخُصِّ: مَا بَالُ خُصِّكَ لَمْ يَحْتَرِقْ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَقْسَمْتُ عَلَى رَبِّي أَنْ لَا يَحْرِقَهُ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «فِي أُمَّتَيْ رِجَالٌ طُلْسٌ رُءُوسُهُمْ، دُنْسٌ ثِيَابُهُمْ لَوْ أَقْسَمُوا عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُمْ» . وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ مَشْهُورًا بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، فَكَانَ يَمُرُّ بِهِ الظَّبْيُ، فَيَقُولُ لَهُ الصِّبْيَانُ: ادْعُ اللَّهَ لَنَا أَنْ يَحْبِسَ عَلَيْنَا هَذَا الظَّبْيَ، فَيَدْعُو اللَّهَ، فَيَحْبِسُهُ حَتَّى يَأْخُذُوهُ بِأَيْدِيهِمْ. وَدَعَا عَلَى امْرَأَةٍ أَفْسَدَتْ عَلَيْهِ عِشْرَةَ امْرَأَتِهِ لَهُ بِذَهَابِ بَصَرِهَا، فَذَهَبَ بَصَرُهَا فِي الْحَالِ، فَجَاءَتْهُ، فَجَعَلَتْ تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَتَطْلُبُ إِلَيْهِ، فَرَحِمَهَا وَدَعَا اللَّهُ فَرَدَّ عَلَيْهَا بَصَرَهَا، وَرَجَعَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى حَالِهَا مَعَهُ. وَكَذَبَ رَجُلٌ عَلَى مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، فَقَالَ لَهُ مُطَرِّفٌ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَعَجَّلَ اللَّهُ حَتْفَكَ، فَمَاتَ الرَّجُلُ مَكَانَهُ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يَغْشَى مَجْلِسَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فَيُؤْذِيهِمْ، فَلَمَّا زَادَ

أَذَاهُ، قَالَ الْحَسَنُ: اللَّهُمَّ قَدْ عَمِلْتَ أَذَاهُ لَنَا، فَاكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ، فَخَرَّ الرَّجُلُ مِنْ قَامَتِهِ، فَمَا حُمِلَ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا مَيِّتًا عَلَى سَرِيرِهِ. وَكَانَ صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَذَهَبَتْ بَغْلَتُهُ بِثِقَلِهَا، وَارْتَحَلَ النَّاسُ، فَقَامَ يُصَلِّي، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ بَغْلَتِي وَثِقَلَهَا، فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَكَانَ مَرَّةً فِي بَرِّيَّةٍ فَقَرَأَ فَجَاعَ، فَاسْتَطْعَمَ اللَّهَ، فَسَمِعَ وَجْبَةً خَلْفَهُ، فَإِذَا هُوَ بِثَوْبٍ أَوْ مَنْدِيلٍ فِيهِ دَوْخَلَةُ رُطُبٍ طَرِيٍّ، فَأَكَلَ مِنْهُ، وَبَقِيَ الثَّوْبُ عِنْدَ امْرَأَتِهِ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةَ، وَكَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ فِي غَزَاةٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ رُفَقَائِهِ: أَشْتَهِي جُبْنًا رَطْبًا، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: اسْتَطْعِمُوا اللَّهَ يُطْعِمْكُمْ، فَإِنَّهُ الْقَادِرُ، فَدَعَا الْقَوْمُ، فَلَمْ يَسِيرُوا إِلَّا قَلِيلًا، حَتَّى رَأَوْا مِكْتَلًا مَخِيطًا، فَإِذَا هُوَ جُبْنٌ رَطْبٌ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَوْ كَانَ عَسَلًا فَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّ الَّذِي أَطْعَمَكُمْ جُبْنًا رَطْبًا هَاهُنَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُطْعِمَكُمْ عَسَلًا، فَاسْتَطْعَمُوهُ، فَدَعَوْا، فَسَارُوا قَلِيلًا، فَوَجَدُوا ظَرْفَ عَسَلٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَنَزَلُوا فَأَكَلُوا. وَكَانَ حَبِيبٌ الْعَجَمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ مَعْرُوفًا بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ؛ دَعَا لِغُلَامٍ أَقْرَعَ الرَّأْسِ، وَجَعَلَ يَبْكِي وَيَمْسَحُ بِدُمُوعِهِ رَأْسَ الْغُلَامِ، فَمَا قَامَ حَتَّى اسْوَدَّ رَأْسُهُ، وَعَادَ كَأَحْسَنِ النَّاسِ شَعْرًا.

وَأُتِيَ بِرَجُلٍ زَمِنٍ فِي مَحْمَلٍ فَدَعَا لَهُ، فَقَامَ الرَّجُلُ عَلَى رِجْلَيْهِ، فَحَمَلَ مَحْمِلَهُ عَلَى عُنُقِهِ، وَرَجَعَ إِلَى عِيَالِهِ. وَاشْتَرَى فِي مَجَاعَةٍ طَعَامًا كَثِيرًا، فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ خَاطَ أَكْيِسَةً، فَوَضَعَهَا تَحْتَ فِرَاشِهِ، ثُمَّ دَعَا اللَّهَ، فَجَاءَهُ أَصْحَابُ الطَّعَامِ يَطْلُبُونَ ثَمَنَهُ، فَأَخْرَجَ تِلْكَ الْأَكْيِسَةَ، فَإِذَا هِيَ مَمْلُوءَةٌ دَرَاهِمُ، فَوَزَنَهَا، فَإِذَا هِيَ قَدْرَ حُقُوقِهِمْ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِمْ. وَكَانَ رَجُلٌ يَعْبَثُ بِهِ كَثِيرًا، فَدَعَا عَلَيْهِ حَبِيبٌ فَبَرِصَ. وَكَانَ مَرَّةً عِنْدَ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَأَغْلَظَ لِمَالِكٍ مِنْ أَجْلِ دَرَاهِمَ قَسَّمَهَا مَالِكٌ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ، رَفَعَ حَبِيبٌ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا قَدْ شَغَلَنَا عَنْ ذِكْرِكَ، فَأَرِحْنَا مِنْهُ كَيْفَ شِئْتَ، فَسَقَطَ الرَّجُلُ عَلَى وَجْهِهِ مَيِّتًا. وَخَرَجَ قَوْمٌ فِي غَزَاةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ لِبَعْضِهِمْ حِمَارٌ، فَمَاتَ وَارْتَحَلَ أَصْحَابُهُ، فَقَامَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي خَرَجْتُ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِكَ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ تُحْيِي الْمَوْتَى، وَتَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، فَأَحْيِ لِي حِمَارِي، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْحِمَارِ فَضَرَبَهُ، فَقَامَ الْحِمَارُ يَنْفُضُ أُذُنَيْهِ، فَرَكِبَهُ وَلَحِقَ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ بَاعَ الْحِمَارَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْكُوفَةِ. وَخَرَجَتْ سَرِيَّةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَصَابَهُمْ بَرْدٌ شَدِيدٌ حَتَّى كَادُوا أَنْ يَهْلِكُوا، فَدَعَوُا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى جَانِبِهِمْ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، فَإِذَا هِيَ تَلْتَهِبُ نَارًا، فَجَفَّفُوا

ثِيَابَهُمْ، وَدَفِئُوا بِهَا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَيْهِمْ، فَانْصَرَفُوا وَرُدَّتِ الشَّجَرَةُ إِلَى هَيْئَتِهَا. وَخَرَجَ أَبُو قِلَابَةَ [صَائِمًا] حَاجًّا فَتَقَدَّمَ أَصْحَابُهُ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، فَأَصَابَهُ عَطَشٌ شَدِيدٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ تُذْهِبَ عَطَشِي مِنْ غَيْرِ فِطْرٍ، فَأَظَلَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَّتْ ثَوْبَهُ، وَذَهَبَ الْعَطَشُ عَنْهُ، فَنَزَلَ فَحَوَّضَ حِيَاضًا فَمَلْأَهَا، فَانْتَهَى إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَشَرِبُوا، وَمَا أَصَابَ أَصْحَابَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَطَرِ شَيْءٌ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَيَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ. وَأَكْثَرُ مَنْ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ مِنَ السَّلَفِ كَانَ يَصْبِرُ عَلَى الْبَلَاءِ، وَيَخْتَارُ ثَوَابَهُ، وَلَا يَدْعُو لِنَفْسِهِ بِالْفَرَجِ مِنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ يَدْعُو لِلنَّاسِ لِمَعْرِفَتِهِمْ لَهُ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ لِبَصَرِكَ، وَكَانَ قَدْ أُضِرَّ، فَقَالَ: قَضَاءُ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ بَصَرِي. وَابْتُلِيَ بَعْضُهُمْ بِالْجُذَامِ، فَقِيلَ لَهُ: بَلَغَنَا أَنَّكَ تَعْرِفُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، فَلَوْ سَأَلْتَهُ أَنْ يَكْشِفَ مَا بِكَ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّهُ هُوَ الَّذِي ابْتَلَانِي، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أُرَادَّهُ. وَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ - وَهُوَ فِي سِجْنِ الْحَجَّاجِ - لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ تَعَالَى، فَقَالَ: أَكْرَهُ أَنْ أَدْعُوَهُ أَنْ يُفَرِّجَ عَنِّي مَا لِي فِيهِ أَجْرٌ. وَكَذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ صَبَرَ عَلَى أَذَى الْحَجَّاجِ حَتَّى قَتَلَهُ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ؛ كَانَ لَهُ دِيكٌ يَقُومُ بِاللَّيْلِ بِصِيَاحِهِ لِلصَّلَاةِ فَلَمْ يَصِحْ لَيْلَةً فِي وَقْتِهِ، فَلَمْ يَقُمْ سَعِيدٌ لِلصَّلَاةِ فَشُقَّ

عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا لَهُ؟ قُطِعَ صَوْتُهُ، فَمَا صَاحَ الدِّيكُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يَا بُنَيَّ لَا تَدْعُ بَعْدَ هَذَا عَلَى شَيْءٍ. وَذُكِرَ لِرَابِعَةَ رَجُلٌ لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ يَقْتَاتُ بِمَا يَلْتَقِطُهُ مِنَ الْمَنْبُوذَاتِ عَلَى الْمَزَابِلِ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا ضَرَّ هَذَا أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يُغْنِيَهُ عَنْ هَذَا؟ فَقَالَتْ رَابِعَةُ: إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ إِذَا قَضَى اللَّهُ لَهُمْ قَضَاءً لَمْ يَتَسَخَّطُوهُ. وَكَانَ حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ ضَيِّقَ الْعَيْشِ جِدًّا، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْكَ، فَأَخَذَ حَصَاةً مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا ذَهَبًا، فَصَارَتْ تِبْرَةً فِي كَفِّهِ، وَقَالَ: مَا خَيْرٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْآخِرَةُ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ. وَرُبَّمَا دَعَا الْمُؤْمِنُ الْمُجَابُ الدَّعْوَةِ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ الْخِيرَةَ لَهُ فِي غَيْرِهِ، فَلَا يُجِيبُهُ إِلَى سُؤَالِهِ، وَيُعَوِّضُهُ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ إِمَّا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَرْفُوعِ: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ يَسْأَلُنِي بَابًا مِنَ الْعِبَادَةِ، فَأَكُفُّهُ كَيْلَا يَدْخُلَهُ الْعُجْبُ» . وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مِنْ لَوْ جَاءَ أَحَدُكُمْ يَسْأَلُهُ دِينَارًا لَمْ يُعْطِهِ، وَلَوْ سَأَلَهُ دِرْهَمًا لَمْ يُعْطِهِ، وَلَوْ سَأَلَهُ فِلْسًا لَمْ يُعْطِهُ، وَلَوْ سَأَلَ اللَّهُ الْجَنَّةَ لَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا ذُو طِمْرَيْنِ لَا يَؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» . وَخَرَّجَهُ غَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ سَالِمٍ مُرْسَلًا،

وَزَادَ فِيهِ: «وَلَوْ سَأَلَ اللَّهَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا مَا أَعْطَاهُ تَكْرِمَةً لَهُ» . وَقَوْلُهُ: «مَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ: يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» . الْمُرَادُ بِهَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى عَلَى عِبَادِهِ بِالْمَوْتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] [آلِ عِمْرَانَ: 185] ، وَالْمَوْتُ: هُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لِلْجَسَدِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِأَلَمٍ عَظِيمٍ جِدًّا، وَهُوَ أَعْظَمُ الْآلَامِ الَّتِي تُصِيبُ الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا، قَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْمَوْتِ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هُوَ مِثْلُ شَجَرَةٍ كَثِيرَةِ الشَّوْكِ فِي جَوْفِ ابْنِ آدَمَ، فَلَيْسَ مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مِفْصَلٌ إِلَّا وَرَجُلٌ شَدِيدُ الذِّرَاعَيْنِ، فَهُوَ يُعَالِجُهَا يَنْتَزِعُهَا فَبَكَى عُمَرُ. وَلَمَّا احْتَضَرَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ سَأَلَهُ ابْنُهُ عَنْ صِفَةِ الْمَوْتِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ جَنْبِي فِي تَخْتٍ، وَلِكَأَنِّي أَتَنَفَّسُ مِنْ سَمِّ إِبْرَةٍ، وَكَأَنَّ غُصْنَ شَوْكٍ يُجَرُّ بِهِ مِنْ قَدَمِي إِلَى هَامَتِي. وَقِيلَ لِرَجُلٍ عِنْدَ الْمَوْتِ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ: أَجِدُنِي أُجْتَذَبُ اجْتِذَابًا، وَكَأَنَّ الْخَنَاجِرَ مُخْتَلِفَةٌ فِي جَوْفِي، وَكَأَنَّ جَوْفِي فِي تَنُّورٍ مُحَمًّى يَلْتَهِبُ تَوَقُّدًا. وَقِيلَ لِآخَرَ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: أَجِدُنِي كَأَنَّ السَّمَاوَاتِ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى الْأَرْضِ عَلَيَّ، وَأَجِدُ نَفْسِي كَأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُقْبِ إِبْرَةٍ. فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ بِهَذِهِ الشَّدَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَتَّمَهُ عَلَى عِبَادِهِ كُلِّهِمْ، وَلَا بُّدَ لَهُمْ مِنْهُ، وَهُوَ تَعَالَى يَكْرَهُ أَذَى الْمُؤْمِنِ وَمَسَاءَتَهُ، سَمَّى ذَلِكَ تَرَدُّدًا فِي حَقِّ

الْمُؤْمِنِ، فَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمِ السَّلَامُ، فَلَا يُقْبَضُونَ حَتَّى يُخَيَّرُوا. قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا كَرِهَتِ الْأَنْبِيَاءُ الْمَوْتَ، هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ، وَبِكُلِّ مَا أَحَبُّوا مِنْ تُحْفَةٍ وَكَرَامَةٍ حَتَّى إِنَّ نَفْسَ أَحَدِهِمْ تُنْزَعُ مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ وَهُوَ يُحِبُّ ذَلِكَ لِمَا قَدْ مُثِّلَ لَهُ. وَقَدْ «قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا أَغْبِطُ أَحَدًا يُهَوِّنُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَوْتَ بَعْدَ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ شِدَّةِ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: كَانَتْ عِنْدَهُ قَدَحٌ مِنْ مَاءٍ، فَيُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ قَالَتْ: وَجَعَلَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ» . وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَأْخُذُ الرُّوحَ مِنْ بَيْنِ الْعَصَبِ وَالْقَصَبِ وَالْأَنَامِلِ، اللَّهُمَّ فَأَعِنِّي عَلَى الْمَوْتِ وَهَوِّنْهُ عَلَيَّ» . وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَجْتَهِدَ عِنْدَ الْمَوْتِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا أُحِبُّ أَنْ تُهَوَّنَ عَلَيَّ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ، إِنَّهُ لَآخِرُ مَا يُكَفَّرُ بِهِ عَنِ الْمُؤْمِنِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُجْهَدُوا عِنْدَ الْمَوْتِ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَخْشَى مِنْ تَشْدِيدِ الْمَوْتِ أَنْ يُفْتَنَ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُهَوِّنَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَوْتَ هَوَّنَهُ عَلَيْهِ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، بُشِّرَ بِرِضْوَانٍ مِنَ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ،

فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " إِذَا جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَقْبِضَ رُوحَ الْمُؤْمِنِ، قَالَ لَهُ: إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ ". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: يَقُولُ لَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَلِيَّ اللَّهِ، اللَّهُ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، ثُمَّ تَلَا: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل: 32] [النَّحْلِ: 32] . وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: تَأْتِي الْمَلَائِكَةُ لِلْمُؤْمِنِ إِذَا حَضَرَ، وَتَقُولُ لَهُ: لَا تَخَفْ مِمَّا أَنْتَ قَادِمٌ عَلَيْهِ - فَيُذْهِبُ اللَّهُ خَوْفَهُ - وَلَا تَحْزَنْ عَلَى الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، وَأَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ، فَيَمُوتُ وَقَدْ جَاءَتْهُ الْبُشْرَى. وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَضَنُّ بِمَوْتِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِكَرِيمَةِ مَالِهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ عَلَى فِرَاشِهِ» . وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا هُمْ أَهْلُ الْمُعَافَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَضِنُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا عَنِ الْقَتْلِ وَالْأَوْجَاعِ، يُطِيلُ اللَّهُ أَعْمَارَهُمْ، وَيُحْسِنُ أَرْزَاقَهُمْ، وَيُمِيتُهُمْ عَلَى فُرُشِهِمْ، وَيَطْبَعُهُمْ بِطَابَعِ الشُّهَدَاءِ.

وَخَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا مِنْ وُجُوهٍ ضَعِيفَةٍ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا: «إِنَّ لِلَّهِ ضَنَائِنُ مِنْ خَلْقِهِ يَأْبَى بِهِمْ عَنِ الْبَلَاءِ، يُحْيِيهِمْ فِي عَافِيَةٍ وَيُمِيتُهُمْ فِي عَافِيَةٍ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ فِي عَافِيَةٍ» . قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ مَوْتَ الْفُجَاءَةِ تَخْفِيفٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ. وَكَانَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ يَقُولُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَخْنُقَنِيَ اللَّهُ كَمَا أَرَاكُمْ تُخْنَقُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَكَانَ لَيْلَةً فِي دَارِهِ، فَسَمِعُوهُ يُنَادِي: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَدْ قُتِلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ بَيْتِهِ، فَصَلَّى فَقُبِضَ وَهُوَ سَاجِدٌ. وَقُبِضَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ فِي الصَّلَاةِ وَهُمْ سُجُودٌ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي لَا أَمُوتُ مَوْتَكُمْ، وَلَكِنْ أُدْعَى فَأُجِيبُ، فَكَانَ يَوْمًا قَاعِدًا مَعَ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ ثُمَّ خَرَّ مَيِّتًا. وَكَانَ بَعْضُهُمْ جَالِسًا مَعَ أَصْحَابِهِ فَسَمِعُوا صَوْتًا يَقُولُ: يَا فُلَانٌ أَجِبْ، فَهَذِهِ وَاللَّهِ آخِرُ سَاعَاتِكَ مِنَ الدُّنْيَا، فَوَثَبَ وَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ حَادِي الْمَوْتِ، فَوَدَّعَ أَصْحَابَهُ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ انْطَلَقَ نَحْوَ الصَّوْتِ، وَهُوَ يَقُولُ: سَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْهُمُ الصَّوْتُ، فَتَتْبَعُوا أَثَرَهُ، فَوَجَدُوهُ مَيِّتًا.

وَكَانَ بَعْضُهُمْ جَالِسًا يَكْتُبُ فِي مُصْحَفٍ، فَوَضَعَ الْقَلَمَ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ مَوْتُكُمْ هَكَذَا، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْتٌ طَيِّبٌ، ثُمَّ سَقَطَ مَيِّتًا. وَكَانَ آخَرُ جَالِسًا يَكْتُبُ الْحَدِيثَ، فَوَضَعَ الْقَلَمَ مِنْ يَدِهِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو اللَّهَ، فَمَاتَ

[الحديث التاسع والثلاثون إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه]

[الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ]

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَعِنْدَهُمَا: عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَرُوَاتُهُ كُلُّهُمْ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَقَدْ خَرَّجَهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا. كَذَا قَالَ، وَلَكِنْ لَهُ عِلَّةٌ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ جِدًّا، وَقَالَ: لَيْسَ يُرْوَى فِيهِ إِلَّا عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا. وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ رَوَى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ، فَأَنْكَرَهُ أَيْضًا.

وَذُكِرَ لِأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ حَدِيثُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَحَدِيثُ مَالِكٍ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْوَلِيدَ رَوَى أَيْضًا عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هَذِهِ أَحَادِيثُ مُنْكَرَةٌ كَأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ، وَقَالَ: لَمْ يَسْمَعِ الْأَوْزَاعِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ عَطَاءٍ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمِّهِ، أَتَوَهَّمُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، أَوْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ، وَلَا يَثْبُتُ إِسْنَادُهُ. قُلْتُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مُرْسَلًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: «قَالَ عَطَاءٌ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» خَرَّجَهُ الْجُوزَجَانِيُّ، وَهَذَا الْمُرْسَلُ أَشْبَهُ. وَقَدْ وَرَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا رَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ عَنْ سَعِيدٍ الْعَلَّافِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُجُوِّزَ لِأُمَّتِي عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» خَرَّجَهُ الْجُوزَجَانِيُّ. وَسَعِيدٌ الْعَلَّافُ: هُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ مَكِّيٌّ، قِيلَ لَهُ: كَيْفَ حَالُهُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا رَوَى عَنْهُ غَيْرَ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ أَحْمَدُ: وَلَيْسَ هَذَا مَرْفُوعًا، إِنَّمَا هُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ. نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ مُهَنَّا، وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ ضَعَّفُوهُ.

وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عَلِيٍّ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، خَرَّجَهُ حَرْبٌ، وَرِوَايَةُ بَقِيَّةَ عَنْ مَشَايِخِهِ الْمَجَاهِيلِ لَا تُسَاوِي شَيْئًا. وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ رَابِعٍ خَرَّجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَبْدُ الرَّحِيمِ هَذَا ضَعِيفٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَغَرَّبَهُ، وَهُوَ عِنْدَ حُذَّاقِ الْحُفَّاظِ بَاطِلٌ عَلَى مَالِكٍ، كَمَا أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَكَانَا يَقُولَانِ عَنِ الْوَلِيدِ: إِنَّهُ كَثِيرُ الْخَطَأِ. وَنَقَلَ أَبُو عُبَيْدٍ الْآجُرِّيُّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ رَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ عَشَرَةَ أَحَادِيثَ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ، مِنْهَا عَنْ نَافِعٍ أَرْبَعَةٌ. قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْهَا هَذَا الْحَدِيثَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَخَرَّجَهُ الْجُوزَجَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ رَبِيعَةَ سَمِعْتُ أَبَا الْأَشْعَثِ يُحَدِّثُ عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَيَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ ضَعِيفٌ جِدًّا.

وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَالِاسْتِكْرَاهِ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ، فَقَالَ أَجَلْ، أَمَا تَقْرَأُ بِذَلِكَ قُرْآنًا: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] [الْبَقَرَةِ: 286] . وَأَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلَكِنْ عِنْدَهُ عَنْ شَهْرٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَلَمْ يَذْكُرْ كَلَامَ الْحَسَنِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ عَنِ الْحَسَنِ، فَرَوَاهُ عَنْهُ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، وَرَوَاهُ مَنْصُورٌ، وَعَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ مِنْ قَوْلِهِ، لَمْ يَرْفَعْهُ، وَرَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ جِسْرِ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ مَرْفُوعًا، وَجَعْفَرٌ وَأَبُوهُ ضَعِيفَانِ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ: لَيْسَ لِهَذَا الْحَدِيثِ إِسْنَادٌ يُحْتَجُّ بِهِ حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] [الْبَقَرَةِ: 286] قَالَ اللَّهُ: قَدْ فَعَلْتُ. وَعَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ، قَالَ: نَعَمْ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُصَرَّحًا بِرَفْعِهِ. وَخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، وَمَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أَوْ يَعْمَلُوا» ، وَهُوَ لَفْظٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِكْرَاهَ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَادَ فِيهِ: «وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَدْ أُنْكِرَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهَا أَحَدٌ. وَالْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ بِدُونِهَا.

وَلِنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَرْفُوعِ، فَقَوْلُهُ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ» إِلَى آخِرِهِ تَقْدِيرُهُ: إِنَّ اللَّهَ رَفَعَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، أَوْ تَرَكَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَإِنَّ " تَجَاوَزَ " لَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ. وَقَوْلُهُ: «الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . فَأَمَّا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، فَقَدْ صَرَّحَ الْقُرْآنُ بِالتَّجَاوُزِ عَنْهُمَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] [الْبَقَرَةِ: 286] ، وَقَالَ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] [الْأَحْزَابِ: 5] . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ، فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ» . وَقَالَ الْحَسَنُ: لَوْلَا مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ - يَعْنِي دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ - لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ قَدْ هَلَكُوا، فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا بِعَمَلِهِ، وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ: يَعْنِي قَوْلَهُ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] [الْأَنْبِيَاءِ: 78] الْآيَةَ. وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ فَصَرَّحَ الْقُرْآنُ أَيْضًا بِالتَّجَاوُزِ عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] [النَّحْلِ: 106] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] [آلِ عِمْرَانَ: 28] الْآيَةَ. وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي حُكْمِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَالثَّانِي فِي حُكْمِ الْإِكْرَاهِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ الْخَطَأُ: هُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِفِعْلِهِ شَيْئًا، فَيُصَادِفُ فِعْلُهُ غَيْرَ مَا قَصَدَهُ، مِثْلُ أَنْ يَقْصِدَ قَتْلَ كَافِرٍ، فَيُصَادِفُ قَتْلُهُ مُسْلِمًا. وَالنِّسْيَانُ: أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِشَيْءٍ، فَيَنْسَاهُ عِنْدَ الْفِعْلِ، وَكِلَاهُمَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَكِنَّ رَفْعَ الْإِثْمِ لَا يُنَافِي أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى نِسْيَانِهِ حُكْمٌ. كَمَا أَنَّ مَنْ نَسِيَ الْوُضُوءَ، وَصَلَّى ظَانًّا أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، ثُمَّ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَلَّى مُحْدِثًا فَإِنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ. وَلَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْوُضُوءِ نِسْيَانًا، وَقُلْنَا بِوُجُوبِهَا، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْوُضُوءِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَكَذَا لَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ نِسْيَانًا، فِيهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهَا تُؤْكَلُ. وَلَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ نِسْيَانًا ثُمَّ ذَكَرَ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ ثُمَّ تَلَا: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] [طه: 14] » . وَلَوْ صَلَّى حَامِلًا فِي صَلَاتِهِ نَجَاسَةً لَا يُعْفَى عَنْهَا، ثُمَّ عَلِمَ بِهَا بَعْدَ صَلَاتِهِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا فَأَزَالَهَا فَهَلْ يُعِيدُ صَلَاتَهُ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ،

وَقَدْ رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ وَأَتَمَّهَا، وَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا أَذًى وَلَمْ يُعِدْ صَلَاتَهُ» . وَلَوْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ، فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ بِذَلِكَ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ. وَلَوْ أَكَلَ فِي صَوْمِهِ نَاسِيًا، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ صِيَامُهُ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْمَعَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» . وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ نَاسِيًا، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: قَدْ أَتَى بِنِيَّةِ الصِّيَامِ، وَإِنَّمَا ارْتَكَبَ بَعْضَ مَحْظُورَاتِهِ نَاسِيًا، فَيُعْفَى عَنْهُ. وَلَوْ جَامَعَ نَاسِيًا، فَهَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْآكِلِ نَاسِيًا أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ - أَنَّهُ يَبْطُلُ صِيَامُهُ بِذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَفِي الْكَفَّارَةِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ. وَالثَّانِي: لَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ بِذَلِكَ كَالْأَكْلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَحُكِيَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَكَذَا الْخِلَافُ فِي الْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ نَاسِيًا: هَلْ يَبْطُلُ بِهِ النُّسُكُ أَمْ لَا؟ . وَلَوْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، فَفَعَلَهُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ، أَوْ مُخْطِئًا ظَانًّا أَنَّهُ غَيْرُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَهَلْ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَحَدُهَا: لَا يَحْنَثُ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَوْ كَانَتِ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَأَنْكَرَ هَذِهِ

الرِّوَايَةَ عَنْ أَحْمَدَ الْخَلَّالِ، وَقَالَ: هِيَ سَهْوٌ مِنْ نَاقِلِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: وَيُسْتَخْلَفُ أَنَّهُ كَانَ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ. وَالثَّانِي: يَحْنَثُ بِكُلِّ حَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَمَالِكٍ. وَالثَّالِثُ: يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ يَمِينُهُ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ، أَوْ بِغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الطَّلَاقِ، وَقَالَ: إِنَّمَا الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مَا دَامَ نَاسِيًا، وَأَقَامَ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، فَإِذَا ذَكَرَ، فَعَلَيْهِ اعْتِزَالُ امْرَأَتِهِ، فَإِنَّ نِسْيَانَهُ قَدْ زَالَ. وَحَكَى إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ إِجْمَاعَ التَّابِعِينَ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالنَّاسِي. وَلَوْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ وَالدِّيَةَ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَكَذَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ خَطَأً يَظُنُّهُ أَنَّهُ مَالُ نَفْسِهِ. وَكَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ فِي الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ خَطَأً، أَوْ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ أَنَّ عَلَيْهِ جَزَاءَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 95] ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ رَتَّبَ عَلَى قَتْلِهِ مُتَعَمِّدًا الْجَزَاءَ وَانْتِقَامَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَجْمُوعُهُمَا يَخْتَصُّ بِالْعَامِدِ، وَإِذَا انْتَفَى الْعَمْدُ انْتَفَى الْانْتِقَامُ، وَبَقِيَ الْجَزَاءُ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَالْأَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ النَّاسِيَ وَالْمُخْطِئَ إِنَّمَا عُفِيَ عَنْهُمَا بِمَعْنَى رُفِعَ الْإِثْمُ عَنْهُمَا، لِأَنَّ الْإِثْمَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ، وَالنَّاسِي وَالْمُخْطِئُ لَا قَصْدَ لَهُمَا، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمَا، وَأَمَّا رَفْعُ الْأَحْكَامِ عَنْهُمَا فَلَيْسَ مُرَادًا مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ، فَيُحْتَاجُ فِي ثُبُوتِهَا وَنَفْيِهَا إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ.

الْفَصْلُ الثَّانِي. فِي حُكْمِ الْمُكْرَهِ. وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ، كَمَنْ حُمِلَ كَرْهًا وَأُدْخِلَ إِلَى مَكَانٍ حَلَفَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ دُخُولِهِ، أَوْ حُمِلَ كَرْهًا، وَضُرِبَ بِهِ غَيْرُهُ حَتَّى مَاتَ ذَلِكَ الْغَيْرُ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ، أَوْ أُضْجِعَتْ، ثُمَّ زُنِيَ بِهَا مِنْ غَيْرِ قُدْرَةٍ لَهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَهَذَا لَا إِثْمَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حِنْثٌ فِي يَمِينِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ - كَالنَّخَعِيِّ - فِيهِ خِلَافٌ، وَوَقَعَ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِحَالٍ. وَرُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ فِي امْرَأَةٍ حَلَفَتْ عَلَى شَيْءٍ، وَأَحْنَثَهَا زَوْجُهَا كَرْهًا أَنَّ كَفَّارَتَهَا عَلَيْهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ كَذَلِكَ، فِيمَا إِذَا وَطِئَ امْرَأَتَهُ مُكْرَهَةً فِي صِيَامِهَا أَوْ إِحْرَامِهَا أَنَّ كَفَّارَتَهَا عَلَيْهِ. وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ يَفْسُدُ بِذَلِكَ صَوْمُهَا وَحَجُّهَا. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَنْ أُكْرِهَ بِضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى فَعَلَ، فَهَذَا الْفِعْلُ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلْفِعْلِ، لَكِنْ لَيْسَ غَرَضُهُ نَفْسَ الْفِعْلِ، بَلْ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُ، فَهُوَ مُخْتَارٌ مِنْ وَجْهٍ، غَيْرُ مُخْتَارٍ مِنْ وَجْهٍ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ هُوَ مُكَلَّفٌ أَمْ لَا؟

وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ مَعْصُومٍ لَمْ يُبَحْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَقْتُلُهُ بِاخْتِيَارِهِ افْتِدَاءً لِنَفْسِهِ مِنَ الْقَتْلِ، هَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَدِّ بِهِمْ، وَكَانَ فِي زَمَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يُخَالِفُ فِيهِ مَنْ لَا يَعْتَدُّ بِهِ، فَإِذَا قَتَلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ: الْمُكْرِهُ وَالْمُكْرَهُ؟ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقَتْلِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْمَشْهُورِ وَأَحْمَدَ، وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ وَحْدَهُ، لِأَنَّ الْمُكْرَهَ صَارَ كَالْآلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ كَالْأَوَّلِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ لِمُبَاشَرَتِهِ، وَلَيْسَ هُوَ كَالْآلَةِ، لِأَنَّهُ آثِمٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا قَوَدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَخَرَّجَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَجْهًا لَنَا مِنَ الرِّوَايَةِ لَا تُوجِبُ فِيهَا قَتْلَ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَأَوْلَى. وَلَوْ أُكْرِهَ بِالضَّرْبِ وَنَحْوِهِ عَلَى إِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ الْمَعْصُومِ، فَهَلْ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا. فَإِنْ قُلْنَا: يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ، فَضَمِنَهُ الْمَالِكُ، رَجَعَ بِمَا ضَمِنَهُ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا مَعًا كَالْقَوَدِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمُبَاشِرِ الْمُكْرَهِ وَحْدَهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ، فَفِي إِبَاحَتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنَا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33] [النُّورِ: 33] ، وَهَذِهِ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، كَانَتْ لَهُ أَمَتَانِ يُكْرِهُهُمَا عَلَى الزِّنَا، وَهُمَا يَأْبَيَانِ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ كَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الْحَسَنِ وَمَكْحُولٍ، وَمَسْرُوقٍ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.

وَأَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ اخْتَلَفُوا فِي إِكْرَاهِ الرَّجُلِ عَلَى الزِّنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَصِحُّ إِكْرَاهُهُ عَلَيْهِ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَابْنُ عَقِيلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَصِحُّ إِكْرَاهُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْإِثْمُ وَالْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْصُوصُ أَحْمَدَ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ التَّقِيَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَقْوَالِ، وَلَا تَقِيَّةَ فِي الْأَفْعَالِ، وَلَا إِكْرَاهَ عَلَيْهَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ أَيْضًا. وَعَلَى هَذَا لَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ سَرَقَ مُكْرَهًا، حُدَّ. وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُكْرَهًا، ثُمَّ طَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ، فَهَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُخْتَارِ لِشُرْبِهَا أَمْ لَا؟ بَلْ يَكُونُ طَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ لَغْوًا؟ فِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ فِيمَنْ قِيلَ لَهُ: اسْجُدْ لِصَنَمٍ وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ، قَالَ: إِنْ كَانَ الصَّنَمُ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ فَلْيَسْجُدْ، وَيَجْعَلْ نِيَّتَهُ لِلَّهِ، وَإِنْ كَانَ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَلَا يَفْعَلْ وَإِنْ قَتَلُوهُ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَجْعَلَ نِيَّتَهُ لِلَّهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] [الْبَقَرَةِ: 115] ، وَفِي الشَّرْعِ إِبَاحَةُ التَّنَفُّلِ لِلْمُسَافِرِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ؟ وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى الْأَقْوَالِ، فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَأَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَوْلٍ مُحَرَّمٍ إِكْرَاهًا مُعْتَبَرًا أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْتَدِيَ نَفْسَهُ بِهِ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] [النَّحْلِ: 106] 0 «وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارٍ: وَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» . وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ عَذَّبُوهُ حَتَّى يُوَافِقَهُمْ

عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ، فَفَعَلَ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَصَّى طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: «لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَإِنْ قُطِّعْتُمْ وَحُرِّقْتُمْ» ، فَالْمُرَادُ الشِّرْكُ بِالْقُلُوبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] [لُقْمَانَ: 15] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل: 106] [النَّحْلِ: 105] .

وَسَائِرُ الْأَقْوَالِ يُتَصَوَّرُ عَلَيْهَا الْإِكْرَاهُ، فَإِذَا أُكْرِهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عَلَى قَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ، لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَكَانَ لَغْوًا، فَإِنَّ كَلَامَ الْمُكْرَهِ صَدَرَ مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ، فَلِذَلِكَ عُفِيَ عَنْهُ، وَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَبِهَذَا فَارَقَ النَّاسِيَ وَالْجَاهِلَ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعُقُودُ: كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، أَوِ الْفُسُوخُ: كَالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَكَذَلِكَ الْأَيْمَانُ وَالنُّذُورُ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ مَا يُقْبَلُ الْفَسْخُ عِنْدَهُ، وَيَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، فَقَالَ: لَا يَلْزَمُ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْأَيْمَانِ، فَأُلْزِمَ بِهَا مَعَ الْإِكْرَاهِ. وَلَوْ حَلَفَ: لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، فَفَعَلَهُ مُكْرَهًا، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْنَثُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ، كَمَا يَحْنَثُ إِذَا فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ كَرْهًا، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِامْتِنَاعِ كَمَا سَبَقَ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: يَحْنَثُ هَاهُنَا، لِأَنَّهُ فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا حُمِلَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِامْتِنَاعُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ - وَهُوَ الْقَفَّالُ - مِنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا قُلْنَا نَحْنُ فِي النَّاسِي، وَخَرَّجَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَجْهًا لَنَا. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَدَاءِ مَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَبَاعَ عَقَارَهُ لِيُؤَدِّيَ ثَمَنَهُ، فَهَلْ يَصِحُّ الشِّرَاءُ مِنْهُ أَمْ لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: إِنْ بَاعَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ اشْتُرِيَ مِنْهُ، وَإِنْ بَاعَهُ بِدُونِهِ لَمْ يُشْتَرَ مِنْهُ، وَمَتَى رَضِيَ الْمُكْرَهُ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لِحُدُوثِ رَغْبَةٍ لَهُ فِيهِ بَعْدَ الْإِكْرَاهِ، وَالْإِكْرَاهُ قَائِمٌ، صَحَّ مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنَ الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا بِهَذَا الْقَصْدِ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا، وَفِيهِ بُعْدٌ.

وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ، فَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ لُزُومِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَلَوْ أُكْرِهَ الْحَرْبِيُّ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، صَحَّ إِسْلَامُهُ، وَكَذَا لَوْ أَكْرَهَ الْحَاكِمُ أَحَدًا عَلَى بَيْعِ مَالِهِ لِيُوَفِّيَ دَيْنَهُ، أَوْ أُكْرِهَ الْمُؤْلِي بَعْدَ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَامْتِنَاعِهِ مِنَ الْفَيْئَةِ عَلَى الطَّلَاقِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُوَفِّي دَيْنَهُ فَأَكْرَهَهُ الْحَاكِمُ عَلَى وَفَائِهِ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً عَلَى وَجْهٍ يُعْذَرُ فِيهِ. ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا بِخِلَافِ مَا إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْوَفَاءِ، فَأَدَّى عَنْهُ الْحَاكِمُ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ.

[الحديث الأربعون كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل]

[الْحَدِيثُ الْأَرْبَعُونَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ]

الْحَدِيثُ الْأَرْبَعُونَ. «عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ، فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّفَاوِيُّ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَهُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ فِي لَفْظَةِ: " حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ " وَقَالُوا: هِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ، وَأَنْكَرُوهَا عَلَى ابْنِ الْمَدِينِيِّ وَقَالُوا: لَمْ يَسْمَعِ الْأَعْمَشُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ مُجَاهِدٍ، إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْعُقَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ، وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَزَادَ فِيهِ: «وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» ، وَزَادَ فِي كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ: «فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ غَدًا» . وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ

حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ جَسَدِي، وَقَالَ: اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وَكُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» . وَعَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ أَدْرَكَ ابْنَ عُمَرَ، وَاخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنْهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي قِصَرِ الْأَمَلِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ الدُّنْيَا وَطَنًا وَمَسْكَنًا، فَيَطْمَئِنَّ فِيهَا، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهَا كَأَنَّهُ عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ: يُهَيِّئُ جِهَازَهُ لِلرَّحِيلِ. وَقَدِ اتَّفَقَتْ عَلَى ذَلِكَ وَصَايَا الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ، قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39] [غَافِرٍ: 39] . «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا لِي وَلِلدُّنْيَا إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» . «وَمِنْ وَصَايَا الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: اعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا» ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ ذَا الَّذِي يَبْنِي عَلَى مَوْجِ الْبَحْرِ دَارًا، تِلْكُمُ الدُّنْيَا، فَلَا تَتَّخِذُوهَا قَرَارًا» . وَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَبِي ذَرٍّ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَيْنَ مَتَاعُكُمْ؟ قَالَ: إِنَّ لَنَا بَيْتًا نُوَجِّهُ إِلَيْهِ، قَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ مَتَاعٍ مَا دُمْتَ هَاهُنَا، قَالَ: إِنَّ صَاحِبَ الْمَنْزِلِ لَا يَدَعُنَا فِيهِ.

وَدَخَلُوا عَلَى بَعْضِ الصَّالِحِينَ، فَقَلَّبُوا بَصَرَهُمْ فِي بَيْتِهِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا نَرَى بَيْتَكَ بَيْتَ رَجُلٍ مُرْتَحِلٍ، فَقَالَ: أَمُرْتَحِلٌ؟ لَا أَرْتَحِلُ وَلَكِنْ أُطْرَدُ طَرْدًا. وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: إِنَّ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً، وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدِ ارْتَحَلَتْ مُقْبِلَةً، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بِنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ. قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: عَجِبْتُ مِمَّنِ الدُّنْيَا مُوَلِّيَةٌ عَنْهُ، وَالْآخِرَةُ مُقْبِلَةٌ إِلَيْهِ يَشْغَلُ بِالْمُدْبِرَةِ، وَيُعْرِضُ عَنِ الْمُقْبِلَةِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَارِكُمْ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْفَنَاءَ، وَكَتَبَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِهَا مِنْهَا الظَّعْنَ، فَكَمْ مِنْ عَامِرٍ مُوثَقٍ عَنْ قَلِيلٍ يَخْرَبُ، وَكَمْ مِنْ مُقِيمٍ مُغْتَبَطٍ عَمَّا قَلِيلٍ يَظْعَنُ، فَأَحْسِنُوا - رَحِمَكُمُ اللَّهُ - مِنْهَا الرِّحْلَةَ بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ النُّقْلَةِ، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى. وَإِذَا لَمْ تَكُنِ الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِ دَارَ إِقَامَةٍ، وَلَا وَطَنًا، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ حَالُهُ فِيهَا عَلَى أَحَدِ حَالَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَأَنَّهُ غَرِيبٌ مُقِيمٌ فِي بَلَدِ غُرْبَةٍ، هَمُّهُ التَّزَوُّدُ لِلرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ، أَوْ يَكُونَ كَأَنَّهُ مُسَافِرٌ غَيْرُ مُقِيمٍ الْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ لَيْلُهُ وَنَهَارُهُ، يَسِيرُ إِلَى بَلَدِ الْإِقَامَةِ، فَلِهَذَا وَصَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ. فَأَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْرُكَ الْمُؤْمِنُ نَفْسَهُ كَأَنَّهُ غَرِيبٌ فِي الدُّنْيَا يَتَخَيَّلُ الْإِقَامَةَ، لَكِنْ فِي بَلَدِ غُرْبَةٍ، فَهُوَ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ الْقَلْبِ بِبَلَدِ الْغُرْبَةِ، بَلْ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِوَطَنِهِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُقِيمٌ فِي الدُّنْيَا لِيَقْضِيَ مَرَمَّةَ جِهَازِهِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ، قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا مَهْمُومٌ حَزِينٌ، هَمُّهُ مَرَمَّةُ جِهَازِهِ. وَمَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ، فَلَا هَمَّ لَهُ إِلَّا فِي التَّزَوُّدِ بِمَا يَنْفَعُهُ عِنْدَ عَوْدِهِ إِلَى

وَطَنِهِ، فَلَا يُنَافِسُ أَهْلَ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ غَرِيبٌ بَيْنَهُمْ فِي عِزِّهِمْ، وَلَا يَجْزَعُ مِنَ الذُّلِّ عِنْدَهُمْ، قَالَ الْحَسَنُ: الْمُؤْمِنُ كَالْغَرِيبِ لَا يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا، وَلَا يُنَافِسُ فِي عِزِّهَا، لَهُ شَأْنٌ، وَلِلنَّاسِ شَأْنٌ. لَمَّا خُلِقَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُسْكِنَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أُهْبِطَا مِنْهَا وَوُعِدَا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا، وَصَالَحُ ذَرِّيَّتِهِمَا، فَالْمُؤْمِنُ أَبَدًا يَحِنُّ إِلَى وَطَنِهِ الْأَوَّلِ، وَحُبُّ الْوَطَنِ مِنَ الْإِيمَانِ، كَمَا قِيلَ: كَمْ مَنْزِلٍ لِلْمَرْءِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى ... وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ وَلِبَعْضِ شُيُوخِنَا: فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا ... مَنَازِلُكَ الْأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى ... نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنَسْلَمُ وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا نَأَى ... وَشَطَّتْ بِهِ أَوْطَانُهُ فَهُوَ مُغْرَمُ وَأَيُّ اغْتِرَابٍ فَوْقَ غُرْبَتِنَا الَّتِي ... لَهَا أَضْحَتِ الْأَعْدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ كَانَ عَطَاءٌ السُّلَيْمِيُّ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ فِي الدُّنْيَا غُرْبَتِي، وَارْحَمْ فِي الْقَبْرِ وَحْشَتِي، وَارْحَمْ مَوْقِفِي غَدًا بَيْنَ يَدَيْكَ. «قَالَ الْحَسَنُ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ

وَمَثَلُ الدُّنْيَا، كَقَوْمٍ سَلَكُوا مَفَازَةً غَبْرَاءَ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَدْرُوا مَا سَلَكُوا مِنْهَا أَكْثَرَ، أَوْ مَا بَقِيَ، أَنْفَدُوا الزَّادَ، وَحَسَرُوا الظَّهْرَ، وَبَقُوا بَيْنَ ظَهَرَانِيِّ الْمَفَازَةِ لَا زَادَ وَلَا حَمُولَةَ، فَأَيْقَنُوا بِالْهِلْكَةِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ خَرَّجَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ فِي حُلَّةٍ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا قَرِيبُ عَهْدٍ بِرِيفٍ، وَمَا جَاءَكُمْ هَذَا إِلَّا مِنْ قَرِيبٍ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ، قَالَ: عَلَامَ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: عَلَى مَا تَرَى، قَالَ: أَرَأَيْتُكُمْ إِنْ هَدَيْتُكُمْ عَلَى مَاءٍ رِوَاءٍ، وَرِيَاضٍ خُضْرٍ، مَا تَعْمَلُونَ؟ قَالُوا: لَا نَعْصِيكَ شَيْئًا، قَالَ: أَعْطُونِي عُهُودَكُمْ وَمَوَاثِيقَكُمْ بِاللَّهِ، قَالَ فَأَعْطَوْهُ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ بِاللَّهِ لَا يَعْصُونَهُ شَيْئًا، قَالَ: فَأَوْرَدَهُمْ مَاءً، وَرِيَاضًا خُضْرًا، فَمَكَثَ فِيهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا هَؤُلَاءِ الرَّحِيلَ، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى مَاءٍ لَيْسَ كَمَائِكُمْ، وَإِلَى رِيَاضٍ لَيْسَتْ كَرِيَاضِكُمْ، فَقَالَ جُلُّ الْقَوْمِ - وَهُمْ أَكْثَرُهُمْ -: وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا هَذَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نَجِدَهُ، وَمَا نَصْنَعُ بِعَيْشٍ خَيْرٍ مِنْ هَذَا؟ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ - وَهُمْ أَقَلُّهُمْ -: أَلَمْ تُعْطُوا هَذَا الرَّجُلَ عُهُودَكُمْ وَمَوَاثِيقَكُمْ بِاللَّهِ لَا تَعْصُونَهُ شَيْئًا وَقَدْ صَدَقَكُمْ فِي أَوَّلِ حَدِيثِهِ، فَوَاللَّهِ لَيَصْدُقَنَّكُمْ فِي آخِرِهِ، قَالَ: فَرَاحَ فِيمَنِ اتَّبَعَهُ، وَتَخَلَّفَ بَقِيَّتُهُمْ، فَنَزَلَ بِهِمْ عَدُوٌّ، فَأَصْبَحُوا بَيْنَ أَسِيرٍ وَقَتِيلٍ» خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنَاهُ مُخْتَصَرًا.

فَهَذَا الْمَثَلُ فِي غَايَةِ الْمُطَابَقَةِ بِحَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُمَّتِهِ، فَإِنَّهُ أَتَاهُمْ وَالْعَرَبُ إِذْ ذَاكَ أَذَلُّ النَّاسِ، وَأَقَلُّهُمْ، وَأَسْوَؤُهُمْ عَيْشًا فِي الدُّنْيَا وَحَالًا فِي الْآخِرَةِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى سُلُوكِ طَرِيقِ النَّجَاةِ، وَظَهَرَ لَهُمْ مِنْ بَرَاهِينِ صِدْقِهِ، كَمَا ظَهَرَ مِنْ صِدْقِ الَّذِي جَاءَ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ فِي الْمَفَازَةِ، وَقَدْ نَفِدَ مَاؤُهُمْ، وَهَلَكَ ظَهْرُهُمْ، بِرُؤْيَتِهِ فِي حُلَّةٍ مُتَرَجِّلًا يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً، وَدَلَّهُمْ عَلَى الْمَاءِ وَالرِّيَاضِ الْمُعْشِبَةِ، فَاسْتَدَلُّوا بِهَيْئَتِهِ وَحَالِهِ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ، فَاتَّبَعُوهُ، وَوَعَدَ مَنِ اتَّبَعَهُ بِفَتْحِ بِلَادِ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَأَخْذِ كُنُوزِهِمَا وَحَذَّرَهُمْ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِذَلِكَ، وَالْوُقُوفِ مَعَهُ، وَأَمَرَهُمْ بِالْتَجَزِّي مِنَ الدُّنْيَا بِالْبَلَاغِ، وَبِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا، فَوَجَدُوا مَا وَعَدَهُمْ بِهِ كُلَّهُ حَقًّا، فَلَمَّا فُتِحَتْ عَلَيْهِمِ الدُّنْيَا - كَمَا وَعَدَهُمْ - اشْتَغَلَ أَكْثَرُ النَّاسِ بِجَمْعِهَا وَاكْتِنَازِهَا، وَالْمُنَافَسَةِ فِيهَا، وَرَضُوا بِالْإِقَامَةِ فِيهَا، وَالتَّمَتُّعِ بِشَهَوَاتِهَا، وَتَرَكُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْآخِرَةِ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهَا، وَقَبِلَ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ وَصِيَّتَهُ فِي الْجِدِّ فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا. فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الْقَلِيلَةُ نَجَتْ، وَلَحِقَتْ نَبِيَّهَا فِي الْآخِرَةِ حَيْثُ سَلَكَتْ طَرِيقَهُ فِي الدُّنْيَا، وَقَبِلَتْ وَصِيَّتَهُ، وَامْتَثَلَتْ مَا أَمَرَ بِهِ. وَأَمَّا أَكْثَرُ النَّاسِ، فَلَمْ يَزَالُوا فِي سَكْرَةِ الدُّنْيَا وَالتَّكَاثُرِ فِيهَا، فَشَغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنِ الْآخِرَةِ حَتَّى فَاجَأَهُمُ الْمَوْتُ بَغْتَةً عَلَى هَذِهِ الْغِرَّةِ، فَهَلَكُوا وَأَصْبَحُوا مَا بَيْنَ قَتِيلٍ وَأَسِيرٍ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ: الدُّنْيَا خَمْرُ الشَّيْطَانِ، مَنْ سَكِرَ مِنْهَا لَمْ يَفُقْ إِلَّا فِي عَسْكَرِ الْمَوْتَى نَادِمًا مَعَ الْخَاسِرِينَ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُنْزِلَ الْمُؤْمِنُ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّهُ مُسَافِرٌ غَيْرُ مُقِيمٍ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هُوَ سَائِرٌ فِي قَطْعِ مَنَازِلِ السَّفَرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهِ السَّفَرُ إِلَى آخِرِهِ، وَهُوَ الْمَوْتُ. وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ فِي الدُّنْيَا، فَهِمَّتُهُ تَحْصِيلُ الزَّادِ لِلسَّفَرِ، وَلَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَلِهَذَا أَوْصَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ

أَنْ يَكُونَ بَلَاغُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ. قِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قَالَ: مَا ظَنُّكَ بِرَجُلٍ يَرْتَحِلُ كُلَّ يَوْمِ مَرْحَلَةٍ إِلَى الْآخِرَةِ؟ . وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا أَنْتِ أَيَّامٌ مَجْمُوعَةٌ، كُلَّمَا مَضَى يَوْمٌ مَضَى بَعْضُكِ. وَقَالَ: ابْنَ آدَمَ إِنَّمَا أَنْتَ بَيْنَ مَطِيَّتَيْنِ يُوضِعَانِكَ، يُوضِعُكَ النَّهَارُ إِلَى اللَّيْلِ، وَاللَّيْلُ إِلَى النَّهَارِ، حَتَّى يُسْلِمَانِكَ إِلَى الْآخِرَةِ، فَمَنْ أَعْظَمُ مِنْكَ يَابْنَ آدَمَ خَطَرًا، وَقَالَ: الْمَوْتُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيكُمْ وَالدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ وَرَائِكُمْ. قَالَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ: إِنَّمَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَرَاحِلُ يَنْزِلُهَا النَّاسُ مَرْحَلَةً مَرْحَلَةً حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ بِهِمْ إِلَى آخِرِ سَفَرِهِمْ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُقَدِّمَ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ زَادًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا، فَافْعَلْ، فَإِنَّ انْقِطَاعَ السَّفَرِ عَنْ قَرِيبٍ مَا هُوَ، وَالْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَتَزَوَّدْ لِسَفَرِكَ، وَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ مِنْ أَمْرِكَ، فَكَأَنَّكَ بِالْأَمْرِ قَدْ بَغَتُّكَ. وَكَتَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَخٍ لَهُ: يَا أَخِي يُخَيَّلُ لَكَ أَنَّكَ مُقِيمٌ، بَلْ أَنْتَ دَائِبُ السَّيْرِ، تُسَاقُ مَعَ ذَلِكَ سَوْقًا حَثِيثًا، الْمَوْتُ مَوَجَّهٌ إِلَيْكَ، وَالدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ وَرَائِكَ، وَمَا مَضَى مِنْ عُمْرِكَ، فَلَيْسَ بِكَارٍّ عَلَيْكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ. سَبِيلُكَ فِي الدُّنْيَا سَبِيلُ مُسَافِرٍ ... وَلَا بُدَّ مِنْ زَادٍ لِكُلِّ مُسَافِرِ وَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ حَمْلِ عُدَّةٍ ... وَلَا سِيَّمَا إِنْ خَافَ صَوْلَةَ قَاهِرِ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: كَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا مَنْ يَوْمُهُ يَهْدِمُ شَهْرَهُ، وَشَهْرُهُ يَهْدِمُ

سَنَتَهُ، وَسَنَتُهُ تَهْدِمُ عُمْرَهُ، كَيْفَ يَفْرَحُ مَنْ يَقُودُهُ عُمْرُهُ إِلَى أَجْلِهِ، وَتَقُودُهُ حَيَاتُهُ إِلَى مَوْتِهِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ لِرَجُلٍ: كَمْ أَتَتْ عَلَيْكَ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً، قَالَ: فَأَنْتَ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً تَسِيرُ إِلَى رَبِّكَ يُوشِكُ أَنْ تَبْلُغَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَقَالَ الْفُضَيْلُ: أَتَعْرِفُ تَفْسِيرَهُ تَقُولُ: أَنَا لِلَّهِ عَبْدٌ وَإِلَيْهِ رَاجِعٌ، فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لِلَّهِ عَبْدٌ، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ رَاجِعٌ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَمِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَسْئُولٌ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَسْئُولٌ، فَلْيُعِدَّ لِلسُّؤَالِ جَوَابًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: فَمَا الْحِيلَةُ؟ قَالَ يَسِيرَةٌ، قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: تُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ يُغْفَرُ لَكَ مَا مَضَى، فَإِنَّكَ إِنْ أَسَأْتَ فِيمَا بَقِيَ، أُخِذْتَ بِمَا مَضَى وَبِمَا بَقِيَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى يَقُولُ بَعْضُهُمْ: وَإِنَّ امْرَأً قَدْ سَارَ سِتِّينَ حِجَّةٍ ... إِلَى مَنْهَلٍ مِنْ وَرْدِهِ لِقَرِيبُ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ كَانَتِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ مَطَايَاهُ، سَارَتْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَسِرْ، وَفِي هَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمَا هَذِهِ الْأَيَّامُ إِلَّا مَرَاحِلُ ... يَحُثُّ بِهَا دَاعٍ إِلَى الْمَوْتِ قَاصِدُ وَأَعْجَبُ شَيْءٍ - لَوْ تَأَمَّلْتَ - أَنَّهَا ... مَنَازِلُ تُطْوَى وَالْمُسَافِرُ قَاعِدُ وَقَالَ آخَرُ: أَيَا وَيْحَ نَفْسِي مِنْ نَهَارٍ يَقُودُهَا ... إِلَى عَسْكَرِ الْمَوْتَى وَلَيْلٍ يَذُودُهَا قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَزَلِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ سَرِيعَيْنِ فِي نَقْصِ الْأَعْمَارِ، وَتَقْرِيبِ الْآجَالِ، هَيْهَاتَ قَدْ صَحِبَا نُوحًا وَعَادًا وَثَمُودًا وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا، فَأَصْبَحُوا أَقْدَمُوا عَلَى رَبِّهِمْ، وَوَرَدُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَأَصْبَحَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ غَضَّيْنِ جَدِيدَيْنِ، لَمْ يُبْلِهِمَا مَا مَرَّا بِهِ، مُسْتَعِدَّيْنِ لِمَنْ بَقِيَ بِمِثْلِ مَا أَصَابَا بِهِ مَنْ مَضَى.

وَكَتَبَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَخٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أُحِيطَ بِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَسَارٌ بِكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَاحْذَرِ اللَّهَ وَالْمَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِكَ بِهِ، وَالسَّلَامُ. نَسِيرُ إِلَى الْآجَالِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ وَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْمَوْتِ حَقًّا كَأَنَّهُ ... إِذَا مَا تَخَطَّتْهُ الْأَمَانِيُّ بَاطِلُ وَمَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ فِي زَمَنِ الصِّبَا ... فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ لِلرَّأْسِ شَامِلُ تَرَحَّلْ مِنَ الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى ... فَعُمْرُكَ أَيَّامٌ وَهُنَّ قَلَائِلُ وَأَمَّا وَصِيَّةُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ، وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِنِهَايَةِ قِصَرِ الْأَمَلِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَمْسَى لَمْ يَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحَ لَمْ يَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، بَلْ يَظُنُّ أَنَّ أَجْلَهُ يُدْرِكُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَبِهَذَا فَسَّرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا، قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي أَحْمَدَ - أَيُّ شَيْءٍ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: قِصَرُ الْأَمَلِ، مَنْ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: لَا أُمْسِي، قَالَ: وَهَكَذَا قَالَ سُفْيَانُ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: بِأَيِّ شَيْءٍ نَسْتَعِينُ عَلَى قِصَرِ الْأَمَلِ؟ قَالَ: مَا نَدْرِي إِنَّمَا هُوَ تَوْفِيقٌ. قَالَ الْحَسَنُ: اجْتَمَعَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَقَالُوا لِأَحَدِهِمْ: مَا أَمَلُكَ؟ قَالَ: مَا أَتَى عَلَيَّ شَهْرٌ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنِّي سَأَمُوتُ فِيهِ، قَالَ: فَقَالَ صَاحِبَاهُ: إِنَّ هَذَا لَأَمَلٌ، فَقَالَا لِأَحَدِهِمْ: فَمَا أَمَلُكَ؟ قَالَ: مَا أَتَتْ عَلَيَّ جُمُعَةٌ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنِّي سَأَمُوتُ فِيهَا، قَالَ: فَقَالَ صَاحِبَاهُ: إِنَّ هَذَا لَأَمَلٌ، فَقَالَا لِلْآخَرِ: فَمَا أَمَلُكَ؟ قَالَ: مَا أَمَلُ مَنْ نَفْسِهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ؟ . قَالَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ: سَأَلْتُ عَطْوَانَ بْنَ عُمَرَ التَّيْمِيَّ، قُلْتُ: مَا قِصَرُ الْأَمَلِ؟

قَالَ: مَا بَيْنَ تَرَدُّدِ النَّفْسِ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ، فَبَكَى، وَقَالَ: يَقُولُ: يَتَنَفَّسُ فَيَخَافُ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ أَنْ يَنْقَطِعَ نَفْسُهُ، لَقَدْ كَانَ عَطْوَانُ مِنَ الْمَوْتِ عَلَى حَذَرٍ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا نِمْتُ نَوْمًا قَطُّ، فَحَدَّثْتُ نَفْسِي أَنِّي أَسْتَيْقِظُ مِنْهُ. وَكَانَ حَبِيبٌ أَبُو مُحَمَّدٍ يُوصِي كُلَّ يَوْمٍ بِمَا يُوصِي بِهِ الْمُحْتَضِرُ عِنْدَ مَوْتِهِ مِنْ تَغْسِيلِهِ وَنَحْوِهِ، وَكَانَ يَبْكِي كُلَّمَا أَصْبَحَ أَوْ أَمْسَى، فَسُئِلَتِ امْرَأَتُهُ عَنْ بُكَائِهِ، فَقَالَتْ: يَخَافُ - وَاللَّهِ - إِذَا أَمْسَى أَنْ يُصْبِحَ، وَإِذَا أَصْبَحَ أَنْ يُمْسِيَ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ لِأَهْلِهِ: أَسَتُودِعُكُمُ اللَّهُ، فَلَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ مَنِيَّتِي الَّتِي لَا أَقُومُ مِنْهَا فَكَانَ هَذَا دَأْبَهُ إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ. وَقَالَ بَكْرٌ الْمُزَنِيُّ: إِنِ اسْتَطَاعَ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَبِيتَ إِلَّا وَعَهْدُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ مَكْتُوبٌ، فَلْيَفْعَلْ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِ الدُّنْيَا، وَيُصْبِحُ فِي أَهْلِ الْآخِرَةِ. وَكَانَ أُوَيْسٌ إِذَا قِيلَ لَهُ: كَيْفَ الزَّمَانُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: كَيْفَ الزَّمَانُ عَلَى رَجُلٍ إِنْ أَمْسَى ظَنَّ أَنَّهُ لَا يُصْبِحُ، وَإِنْ أَصْبَحَ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يُمْسِي فَيُبَشَّرُ بِالْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ؟ . وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا أَنْزَلَ الْمَوْتَ كُنْهَ مَنْزِلَتِهِ مَنْ عَدَّ غَدًا مِنْ أَجْلِهِ، كَمْ مِنْ مُسْتَقْبِلٍ يَوْمًا يَسْتَكْمِلُهُ، وَكَمْ مِنْ مُؤَمِّلٍ لِغَدٍ لَا يُدْرِكُهُ، إِنَّكُمْ لَوْ رَأَيْتُمُ الْأَجَلَ وَمَسِيرَهُ، لَبَغَضْتُمُ الْأَمَلَ وَغُرُورَهُ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَنْفَعِ أَيَّامِ الْمُؤْمِنَ لَهُ فِي الدُّنْيَا مَا ظَنَّ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُ آخِرَهُ.

وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مُتَعَبِّدَةٌ بِمَكَّةَ إِذَا أَمْسَتْ قَالَتْ: يَا نَفْسُ، اللَّيْلَةُ لَيْلَتُكِ، لَا لَيْلَةَ لَكِ غَيْرَهَا، فَاجْتَهَدَتْ، فَإِذَا أَصْبَحَتْ، قَالَتْ: يَا نَفْسُ الْيَوْمُ يَوْمُكِ، لَا يَوْمَ لَكِ غَيْرَهُ، فَاجْتَهَدَتْ. وَقَالَ بَكْرٌ الْمُزَنِيُّ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْفَعَكَ صَلَاتُكَ فَقُلْ: لَعَلِّي لَا أُصَلِّي غَيْرَهَا، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِمَّا رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: صَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ» . وَأَقَامَ مَعْرُوفٌ الْكَرْخِيُّ الصَّلَاةَ، ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ: تَقَدَّمْ فَصَلِّ بِنَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي إِنْ صَلَّيْتُ بِكُمْ هَذِهِ الصَّلَاةَ، لَمْ أُصَلِّ بِكُمْ غَيْرَهَا، فَقَالَ مَعْرُوفٌ: وَأَنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ أَنَّكَ تُصَلِّي صَلَاةً أُخْرَى؟ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ طُولِ الْأَمَلِ، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ خَيْرَ الْعَمَلِ. وَطَرَقَ بَعْضُهُمْ بَابَ أَخٍ لَهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ هُوَ فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ: مَتَى يَرْجِعُ؟ فَقَالَتْ لَهُ جَارِيَةٌ مِنَ الْبَيْتِ: مَنْ كَانَتْ نَفْسُهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ، مَنْ يَعْلَمُ مَتَى يَرْجِعُ، وَلِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ مِنْ جُمْلَةِ أَبْيَاتٍ: وَمَا أَدْرِي وَإِنْ أَمَّلْتُ عُمْرًا ... لَعَلِّي حِينَ أُصْبِحُ لَسْتُ أُمْسِي أَلَمْ تَرَ أَنَّ كُلَّ صَبَاحِ يَوْمٍ ... وَعُمْرُكَ فِيهِ أَقْصَرُ مِنْهُ أَمْسِ

وَهَذَا الْبَيْتُ الثَّانِي أَخَذَهُ مِمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا قَالَا: ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَمْ تَزَلْ فِي هَدْمِ عُمْرِكَ مُنْذُ سَقَطْتَ مِنْ بَطْنِ أُمِّكَ، وَمِمَّا أَنْشَدَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالْأَيَّامِ نَقْطَعُهَا ... وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الْأَجَلِ فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ مُجْتَهِدًا ... فَإِنَّمَا الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ فِي الْعَمَلِ. قَوْلُهُ: «وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» ، يَعْنِي: اغْتَنِمِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا السَّقَمُ، وَفِي الْحَيَاةِ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا الْمَوْتُ، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنَّكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَدْرِي مَا اسْمُكَ غَدًا» يَعْنِي: لَعَلَّكَ غَدًا مِنَ الْأَمْوَاتِ دُونَ الْأَحْيَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى هَذِهِ الْوَصِيَّةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ، فَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» . وَفِي " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» . وَقَالَ غُنَيْمُ بْنُ قَيْسٍ: كُنَّا نَتَوَاعَظُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ: ابْنَ آدَمَ اعْمَلْ فِي فَرَاغِكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَفِي شَبَابِكَ لِكِبَرِكَ، وَفِي صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَفِي دُنْيَاكَ

لِآخِرَتِكَ، وَفِي حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوِ الدُّخَّانَ، أَوِ الدَّجَالَ، أَوِ الدَّابَّةَ، أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ، أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ» . وَفِي " التِّرْمِذِيِّ " عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْظُرُونَ إِلَّا إِلَى فَقْرٍ مُنِسٍّ، أَوْ غِنًى مُطْغٍ، أَوْ مَرَضٍ مُفْسِدٍ، أَوْ هَرَمٍ مُفَنِّدٍ، أَوْ مَوْتٍ مُجْهِزٍ، أَوِ الدَّجَّالِ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةِ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ؟» . وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا تَعُوقُ عَنِ الْأَعْمَالِ، فَبَعْضُهَا يَشْغَلُ عَنْهُ، إِمَّا فِي خَاصَّةِ الْإِنْسَانَ، كَفَقْرِهِ وَغِنَاهُ وَمَرَضِهِ وَهَرَمِهِ وَمَوْتِهِ، وَبَعْضُهَا عَامٌّ، كَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَكَذَلِكَ الْفِتْنُ الْمُزْعِجَةُ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ» .

وَبَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ لَا يَنْفَعُ بَعْدَهَا عَمَلٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] [الْأَنْعَامِ: 158] . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ، آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسَا إِيمَانِهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ، لَمْ يَنْفَعْ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ» . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . وَعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطَ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ

صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ فَتَحَ بَابًا قَبْلَ الْمَغْرِبِ عَرْضُهُ سَبْعُونَ عَامًا لِلتَّوْبَةِ لَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَمُعَاوِيَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا تَزَالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَإِذَا طَلَعَتْ طُبِعَ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ، وَكُفِيَ النَّاسُ الْعَمَلَ» . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِذَا خَرَّجَ أَوَّلُ الْآيَاتِ، طُرِحَتِ الْأَقْلَامُ، وَحُبِسَتِ الْحَفَظَةُ، وَشَهِدَتِ الْأَجْسَادُ عَلَى الْأَعْمَالِ. خَرَّجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَكَذَا قَالَ كَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ، وَيَزِيدُ بْنُ شُرَيْحٍ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ السَّلَفِ: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا طُبِعَ عَلَى الْقُلُوبِ بِمَا فِيهَا، وَتُرْفَعُ الْحَفَظَةُ وَالْعَمَلُ، وَتُؤْمَرُ الْمَلَائِكَةُ أَنْ لَا يَكْتُبُوا عَمَلًا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، طَوَتِ الْمَلَائِكَةُ صَحَائِفَهَا وَوَضَعَتْ أَقْلَامَهَا. فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُبَادَرَةُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَيْهَا وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، إِمَّا بِمَرَضٍ أَوْ مَوْتٍ، أَوْ بِأَنْ يُدْرِكَهُ بَعْضُ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عَمَلٌ. قَالَ أَبُو حَازِمٍ: إِنَّ بِضَاعَةَ الْآخِرَةِ كَاسِدَةٌ يُوشِكُ أَنْ تَنْفَقَ، فَلَا يُوصَلُ مِنْهَا إِلَى قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ. وَمَتَى حِيلَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْعَمَلِ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الْحَسْرَةُ وَالْأَسَفُ عَلَيْهِ، وَيَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَى حَالَةٍ يُتْمِكُنَّ فِيهَا مِنَ الْعَمَلِ، فَلَا تَنْفَعُهُ الْأُمْنِيَّةُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ - وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ - أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ - أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 54 - 58] [الزُّمَرِ: 54 - 58] . وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ - لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99 - 100] [الْمُؤْمِنُونَ: 99 - 100] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ - وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 10 - 11] [الْمُنَافِقُونَ: 10 - 11] . وَفِي " التِّرْمِذِيِّ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ قَالُوا: وَمَا نَدَامَتُهُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ مُحْسِنًا، نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا، نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ اسْتُعْتِبَ» . فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُؤْمِنِ اغْتِنَامُ مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ، وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّ بَقِيَّةَ عُمْرِ الْمُؤْمِنِ لَا قِيمَةَ لَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كُلُّ يَوْمٍ يَعِيشُهُ الْمُؤْمِنُ غَنِيمَةٌ، وَقَالَ بَكْرٌ الْمُزَنِيُّ: مَا مِنْ يَوْمٍ أَخْرَجَهُ اللَّهُ إِلَى الدُّنْيَا إِلَّا يَقُولُ: يَابْنَ آدَمَ،

< > اغْتَنِمْنِي لَعَلَّهُ لَا يَوْمَ لَكَ بَعْدِي، وَلَا لَيْلَةٍ إِلَّا تُنَادِي: ابْنَ آدَمَ اغْتَنِمْنِي لَعَلَّهُ لَا لَيْلَةَ لَكَ بَعْدِي، وَلِبَعْضِهِمْ: اغْتَنِمْ فِي الْفَرَاغِ فَضْلَ رُكُوعٍ ... فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُكَ بَغْتَةْ كَمْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ سُقْمٍ ... ذَهَبَتْ نَفْسُهُ الصَّحِيحَةُ فَلْتَةْ وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ: مَضَى أَمْسُكَ الْمَاضِي شَهِيدًا مُعَدَّلًا ... وَأَعْقَبَهُ يَوْمٌ عَلَيْكَ جَدِيدُ فَإِنْ كُنْتَ بِالْأَمْسِ اقْتَرَفْتَ إِسَاءَةً ... فَثَنِّ بِإِحْسَانٍ وَأَنْتَ حَمِيدُ فَيَوْمُكُ إِنْ أَعْقَبْتَهُ عَادَ نَفْعُهُ عَلَيْكَ ... وَمَاضِي الْأَمْسِ لَيْسَ يَعُودُ وَلَا تُرْجِ فِعْلَ الْخَيْرِ يَوْمًا إِلَى غَدٍ ... لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ

[الحديث الحادي والأربعون لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به]

[الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ]

الْحَدِيثُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» ـــــــــــــــــــــــــــــ قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، رَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ " الْحُجَّةِ " بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ! . يُرِيدُ بِصَاحِبِ كِتَابِ الْحُجَّةِ الشَّيْخَ أَبَا الْفَتْحِ نَصْرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيَّ الشَّافِعِيَّ الْفَقِيهَ الزَّاهِدَ نَزِيلَ دِمَشْقٍ، وَكِتَابُهُ هَذَا هُوَ كِتَابُ " الْحُجَّةُ عَلَى تَارِكِ الْمَحَجَّةِ " يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ أُصُولِ الدِّينِ عَلَى قَوَاعِدِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ خَرَّجَ هَذَا الْحَدِيثَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ " الْأَرْبَعِينَ " وَشَرَطَ فِي أَوَّلِهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ صِحَاحِ الْأَخْبَارِ وَجِيَادِ الْآثَارِ مِمَّا أَجْمَعَ النَّاقِلُونَ عَلَى عَدَالَةِ نَاقِلِيهِ، وَخَرَّجَتْهُ الْأَئِمَّةُ فِي مَسَانِيدِهِمْ، ثُمَّ خَرَّجَهُ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَاتِمٍ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ وَلَا يَزِيغُ عَنْهُ» . وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَاصِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ

عَنِ ابْنِ وَارَهْ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ حَدَّثَنَا بَعْضُ مَشْيَخَتِنَا هِشَامٌ أَوْ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، فَذَكَرَهُ. وَلَيْسَ عِنْدَهُ لَا يَزِيغُ عَنْهُ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ عَلَى نُعَيْمٍ، وَقِيلَ فِيهِ: حَدَّثَنَا بَعْضُ مَشْيَخَتِنَا، حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَوْ غَيْرُهُ. قُلْتُ: تَصْحِيحُ هَذَا الْحَدِيثِ بَعِيدٌ جِدًّا مِنْ وُجُوهٍ، مِنْهَا: أَنَّهُ حَدِيثٌ يَتَفَرَّدُ بِهِ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَنُعَيْمٌ هَذَا وَإِنْ كَانَ وَثَّقَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَخَرَّجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ، فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْحَدِيثِ كَانُوا يُحْسِنُونَ بِهِ الظَّنَّ، لِصَلَابَتِهِ فِي السُّنَّةِ، وَتَشَدُّدِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَكَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَى أَنَّهُ يُهِمُ، وَيُشَبَّهُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، فَلَمَّا كَثُرَ عُثُورُهُمْ عَلَى مَنَاكِيرِهِ، حَكَمُوا عَلَيْهِ بِالضَّعْفِ، فَرَوَى صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ عَنِ ابْنِ مُعِينٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّهُ صَاحِبُ سُنَّةٍ، قَالَ صَالِحٌ: وَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْ حَفْظِهِ، وَعِنْدَهُ مَنَاكِيرُ كَثِيرَةٌ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: عِنْدَ نُعَيْمٍ نَحْوَ عِشْرِينَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: ضَعِيفٌ. وَقَالَ مَرَّةً: لَيْسَ ثِقَةً. وَقَالَ مَرَّةً: قَدْ كَثُرَ تَفَرُّدُهُ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْمَعْرُوفِينَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، فَصَارَ فِي حَدِّ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: يَصِلُ أَحَادِيثَ يُوقِفُهَا النَّاسُ، يَعْنِي أَنَّهُ يَرْفَعُ الْمَوْقُوفَاتِ، وَقَالَ أَبُو عَرُوبَةَ الْحَرَّانِيُّ: هُوَ مُظْلِمُ الْأَمْرِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ: رَوَى أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ عَنِ الثِّقَاتِ، وَنَسَبَهُ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ، وَأَيْنَ كَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، وَأَصْحَابُ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، وَأَصْحَابُ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى يَنْفَرِدَ بِهِ نُعَيْمٌ؟ . وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَدِ اخْتُلِفَ عَلَى نُعَيْمٍ فِي إِسْنَادِهِ، فَرُوِيَ عَنْهُ، عَنِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ هِشَامٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ عَنِ الثَّقَفِيِّ، حَدَّثَنَا بَعْضُ مَشْيَخَتِنَا هِشَامٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يَكُونُ الشَّيْخُ الثَّقَفِيُّ غَيْرَ مَعْرُوفٍ عَيْنُهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ، عَنِ الثَّقَفِيِّ، حَدَّثَنَا

بَعْضُ مَشْيَخَتِنَا، حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَوْ غَيْرُهُ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، فَالثَّقَفِيُّ رَوَاهُ عَنْ شَيْخٍ مَجْهُولٍ، وَشَيْخُهُ رَوَاهُ عَنْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَتَزْدَادُ الْجَهَالَةُ فِي إِسْنَادِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عُقْبَةَ بْنَ أَوْسٍ السُّدُوسَيَّ الْبَصْرِيَّ، وَيُقَالُ فِيهِ: يَعْقُوبُ بْنُ أَوْسٍ أَيْضًا، وَقَدْ خَرَّجَ لَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ حَدِيثًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَيُقَالُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَقَدِ اضْطَرَبَ فِي إِسْنَادِهِ، وَقَدْ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: رَوَى عَنْهُ ابْنُ سِيرِينَ مَعَ جَلَالَتِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ مَجْهُولٌ. وَقَالَ الْغَلَّابِي فِي " تَارِيخِهِ ": يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَإِنَّمَا يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ رِوَايَاتُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مُنْقَطِعَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيثِ، فَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًّا كَامِلَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ حَتَّى تَكُونَ مَحَبَّتُهُ تَابِعَةً لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَغَيْرِهَا، فَيُحِبُّ مَا أَمَرَ بِهِ، وَيَكْرَهُ مَا نَهَى عَنْهُ. وَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِمِثْلِ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] [النِّسَاءِ: 65] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] [الْأَحْزَابِ: 36] . وَذَمَّ سُبْحَانَهُ مَنْ كَرِهَ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ، أَوْ أَحَبَّ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ، قَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9] [مُحَمَّدٍ: 9] ، وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28] [مُحَمَّدٍ: 28] . فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ مَحَبَّةً تُوجِبُ لَهُ الْإِتْيَانَ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَإِنْ زَادَتِ الْمَحَبَّةُ، حَتَّى أَتَى بِمَا نَدَبَ إِلَيْهِ مِنْهُ، كَانَ ذَلِكَ

فَضْلًا، وَأَنْ يَكْرَهَ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَرَاهَةً تُوجِبُ لَهُ الْكَفَّ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَإِنْ زَادَتِ الْكَرَاهَةُ حَتَّى أَوْجَبَتِ الْكَفَّ عَمَّا كَرِهَهُ تَنْزِيهًا، كَانَ ذَلِكَ فَضْلًا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُؤْمَنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» فُلَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا حَتَّى يُقَدِّمَ مَحَبَّةَ الرَّسُولِ عَلَى مَحَبَّةِ جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَمَحَبَّةُ الرَّسُولِ تَابِعَةٌ لِمَحَبَّةِ مُرْسِلِهِ. وَالْمَحَبَّةُ الصَّحِيحَةُ تَقْتَضِي الْمُتَابَعَةَ وَالْمُوَافَقَةَ فِي حُبِّ الْمَحْبُوبَاتِ وَبُغْضِ الْمَكْرُوهَاتِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] [التَّوْبَةِ: 24] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] [آلِ عِمْرَانَ: 31] قَالَ الْحَسَنُ: قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نُحِبُّ رَبَّنَا حُبًّا شَدِيدًا، فَأَحَبَّ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لِحُبِّهِ عِلْمًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «ثَلَاثٌ مِنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» . فَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَحَبَّةً صَادِقَةً مِنْ قَلْبِهِ، أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يُحِبَّ بِقَلْبِهِ

مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَرْضَى مَا يَرْضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَسْخَطُ مَا يَسْخَطُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ يَعْمَلَ بِجَوَارِحِهِ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحُبِّ وَالْبُغْضِ، فَإِنْ عَمِلَ بِجَوَارِحِهِ شَيْئًا يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَإِنِ ارْتَكَبَ بَعْضَ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ تَرَكَ بَعْضَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، مَعَ وُجُوبِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى نَقْصِ مَحَبَّتِهِ الْوَاجِبَةِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ مِنْ ذَلِكَ، وَيَرْجِعَ إِلَى تَكْمِيلِ الْمَحَبَّةِ الْوَاجِبَةِ. قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرُجُورِيُّ: كُلُّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يُوَافِقِ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ، فَدَعَوَاهُ بَاطِلَةٌ، وَكُلُّ مُحِبٍّ لَيْسَ يَخَافُ اللَّهَ، فَهُوَ مَغْرُورٌ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: لَيْسَ بِصَادِقٍ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يَحْفَظْ حُدُودَهُ. وَسُئِلَ رُوَيْمٌ عَنِ الْمَحَبَّةِ، فَقَالَ الْمُوَافَقَةُ: فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَأَنْشَدَ: وَلَوْ قُلْتَ لِي مُتْ مُتُّ سَمْعًا وَطَاعَةً ... وَقُلْتُ لِدَاعِي الْمَوْتِ أَهْلًا وَمَرْحَبًا وَلِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ: تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تَزْعُمُ حُبَّهُ ... هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ شَنِيعُ لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ فَجَمِيعُ الْمَعَاصِي إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيمِ هَوَى النُّفُوسِ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] [الْقَصَصِ: 50] . وَكَذَلِكَ الْبِدَعُ، إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنْ تَقْدِيمِ الْهَوَى عَلَى الشَّرْعِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى أَهْلُهَا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ.

وَكَذَلِكَ الْمَعَاصِي، إِنَّمَا تَقَعُ مِنْ تَقْدِيمِ الْهَوَى عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ. وَكَذَلِكَ حُبُّ الْأَشْخَاصِ: الْوَاجِبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَيَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَمَحَبَّةُ مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ عُمُومًا، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ عَلَامَاتِ وُجُودِ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ. وَيَحْرُمُ مُوَالَاةُ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَمَنْ يَكْرَهُهُ اللَّهُ عُمُومًا، وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَبِهَذَا يَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. «وَمَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ» ، وَمَنْ كَانَ حُبُّهُ وَبُغْضُهُ وَعَطَاؤُهُ وَمَنْعُهُ لِهَوَى نَفْسِهِ، كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا فِي إِيمَانِهِ الْوَاجِبِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَالرُّجُوعُ إِلَى اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَقْدِيمِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى هَوَى النُّفُوسِ وَمُرَادَاتِهَا كُلِّهَا. قَالَ وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ: بَلَغَنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - «أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: يَا رَبِّ أَوْصِنِي؟ قَالَ: أُوصِيكَ بِي، قَالَهَا ثَلَاثًا حَتَّى قَالَ فِي الْآخِرَةِ: أُوصِيكَ بِي أَنْ لَا يَعْرِضَ لَكَ أَمْرٌ إِلَّا آثَرْتَ فِيهِ مَحَبَّتِي عَلَى مَا سِوَاهَا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ أُزَكِّهِ وَلَمْ أَرْحَمْهُ» . وَالْمَعْرُوفُ فِي اسْتِعْمَالِ الْهَوَى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ: أَنَّهُ الْمَيْلُ إِلَى خِلَافِ الْحَقِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] [ص: 26] ، وَقَالَ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41] [النَّازِعَاتِ: 40 - 41] .

وَقَدْ يُطْلَقُ الْهَوَى بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالْمَيْلِ مُطْلَقًا، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَيْلُ إِلَى الْحَقِّ وَغَيْرِهِ، وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى مَحَبَّةِ الْحَقِّ خَاصَّةً وَالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ، «وَسُئِلَ صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْهَوَى فَقَالَ: سَأَلَهُ أَعْرَابِيٌّ عَنِ الرَّجُلِ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ، قَالَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» . وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] [الْأَحْزَابِ: 51] ، قَالَتْ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ. «وَقَالَ عُمَرُ فِي قِصَّةِ الْمُشَاوَرَةِ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: فَهَوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ» ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا جَاءَ فِي اسْتِعْمَالِ الْهَوَى بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ الْمَحْمُودَةِ، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْآثَارِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ كَثِيرًا، وَكَلَامُ مَشَايِخِ الْقَوْمِ وَإِشَارَاتُهُمْ نَظْمًا وَنَثْرًا يَكْثُرُ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ، وَمِمَّا يُنَاسِبُ مَعْنَى الْحَدِيثِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ هَوَاكَ الَّذِي بِقَلْبِي ... صَيَّرَنِي سَامِعًا مُطِيعًا أَخَذْتُ قَلْبِي وَغَمْضَ عَيْنِي ... سَلَبْتَنِي النَّوْمَ وَالْهُجُوعَا فَذَرْ فُؤَادِي وَخُذْ رُقَادِي ... فَقَالَ لَا بَلْ هُمَا جَمِيعَا

[الحديث الثاني والأربعون قال الله تعالى يابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي]

[الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي]

الْحَدِيثُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا، لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ خَرَّجَهُ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ فَائِدٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، سَمِعْتُ بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ، فَذَكَرَهُ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. انْتَهَى. وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَسَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ هُوَ الْهُنَائِيُّ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: شَيْخٌ. وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " الثِّقَاتِ "، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ غَيْرُ الْهُنَائِيِّ، فَقَدْ وَهِمَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ كَثِيرُ بْنُ فَائِدٍ، عَنْ سَعِيدٍ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ، فَوَقَفَهُ عَلَى أَنَسٍ. قُلْتُ: قَدْ رُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَتَابَعَهُ عَلَى رَفْعِهِ أَبُو سَعِيدٍ أَيْضًا مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، فَرَوَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ مَرْفُوعًا أَيْضًا، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ مُنْكَرٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ شَهْرِ بْنِ

حَوْشَبٍ، عَنْ مَعْدِيكَرِبَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ شَهْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَقِيلَ: عَنْ شَهْرٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ بَعْضُهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، فَخَرَّجَ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوِيدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ أَخْشَنَ السَّدُوسِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسٍ

فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَمْلَأَ خَطَايَاكُمْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتُمُ اللَّهَ، لَغَفَرَ لَكُمْ» . فَقَدْ تَضَمَّنَ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمَبْدُوءُ بِذِكْرِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ الثَّلَاثَةَ يَحْصُلُ بِهَا الْمَغْفِرَةُ: أَحَدُهَا: الدُّعَاءُ مَعَ الرَّجَاءِ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَمَوْعُودٌ عَلَيْهِ بِالْإِجَابَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] [غَافِرٍ: 60] . وَفِي " السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ " عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا: «مَنْ أُعْطِيَ الدُّعَاءَ، أُعْطِيَ الْإِجَابَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] » . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَا كَانَ اللَّهُ لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْدٍ بَابَ الدُّعَاءِ، وَيُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الْإِجَابَةِ» . لَكِنَّ الدُّعَاءَ سَبَبٌ مُقْتَضٍ لِلْإِجَابَةِ مَعَ اسْتِكْمَالِ شَرَائِطِهِ، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، وَقَدْ تَتَخَلَّفُ إِجَابَتُهُ، لِانْتِفَاءِ بَعْضِ شُرُوطِهِ، أَوْ وُجُودِ بَعْضِ مَوَانِعِهِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ

بَعْضِ شَرَائِطِهِ وَمَوَانِعِهِ وَآدَابِهِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْعَاشِرِ. وَمِنْ أَعْظَمِ شَرَائِطِهِ: حُضُورُ الْقَلْبِ، وَرَجَاءُ الْإِجَابَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دُعَاءً مِنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ» . وَلِهَذَا نُهِيَ الْعَبْدُ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ. وَنُهِيَ أَنْ يَسْتَعْجِلَ، وَيَتْرُكَ الدُّعَاءَ لِاسْتِبْطَاءِ الْإِجَابَةِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ مَوَانِعِ الْإِجَابَةِ حَتَّى لَا يَقْطَعَ الْعَبْدُ رَجَاءَهُ مِنْ إِجَابَةِ دُعَائِهِ وَلَوْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ. وَجَاءَ فِي الْآثَارِ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا دَعَا رَبَّهُ وَهُوَ يُحِبُّهُ، قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، لَا تُعَجِّلْ بِقَضَاءِ حَاجَةِ عَبْدِي، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتَهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] » [الْأَعْرَافِ: 56] .

فَمَا دَامَ الْعَبْدُ يُلِحُّ فِي الدُّعَاءِ، وَيَطْمَعُ فِي الْإِجَابَةِ مِنْ غَيْرِ قِطْعِ الرَّجَاءِ، فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْإِجَابَةِ، وَمَنْ أَدْمَنَ قَرَعَ الْبَابَ، يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ. وَفِي " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «لَا تَعْجِزُوا عَنِ الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَهْلِكَ مَعَ الدُّعَاءِ أَحَدٌ» . وَمِنْ أَهَمِّ مَا يَسْأَلُ الْعَبْدُ رَبَّهُ مَغْفِرَةَ ذُنُوبِهِ، أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَقَدْ «قَالَ الِنَبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» يَعْنِي: حَوْلَ سُؤَالِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ: مَا عُرِضَتْ لِي دَعْوَةٌ فَذَكَرْتُ النَّارَ إِلَّا صَرَفْتُهَا إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا. وَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِعَبْدِهِ أَنَّ الْعَبْدَ يَدْعُوهُ بِحَاجَةٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَيَصْرِفُهَا عَنْهُ، وَيُعَوِّضُهُ خَيْرًا مِنْهَا، إِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ بِذَلِكَ سُوءًا، أَوْ أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ يَغْفِرَ لَهُ بِهَا ذَنْبًا، كَمَا فِي " الْمُسْنَدِ " وَ " التِّرْمِذِيِّ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو بِدُعَاءٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ مَا سَأَلَ أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهُ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَ " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهُ فِيهَا إِثْمٌ أَوْ قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكْشِفَ

عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ» . وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَعِنْدَهُ: «أَوْ يَغْفِرَ لَهُ بِهَا ذَنْبًا قَدْ سَلَفَ» بَدَلَ قَوْلِهِ: «أَوْ يَكْشِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا» . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا. وَبِكُلِّ حَالٍ فَالْإِلْحَاحُ بِالدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ مَعَ رَجَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مُوجَبٌ لِلْمَغْفِرَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: «أَنَا عِنْدَ ظَنَّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلَّا تَظُنُّوا بِاللَّهِ إِلَّا خَيْرًا» . وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «يَأْتِي اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةَ، فَيُقَرِّبُهُ حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي حِجَابِهِ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَيَقُولُ لَهُ: اقْرَأْ [صَحِيفَتَكَ] ، فَيُعَرِّفُهُ ذَنْبًا ذَنْبًا: أَتَعْرِفُ أَتَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ نَعَمْ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ الْعَبْدُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، يَا عَبْدِي أَنْتَ فِي سِتْرِي مِنْ جَمِيعِ خَلْقِي، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْيَوْمَ أَحَدٌ يَطَّلِعُ عَلَى ذُنُوبِكَ غَيْرِي، اذْهَبْ فَقَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ جَمِيعِ مَا أَتَيْتَنِي بِهِ، قَالَ: مَا هُوَ يَا رَبِّ؟ قَالَ: كُنْتَ لَا تَرْجُو الْعَفْوَ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِي» .

فَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا لَمْ يَرْجُ مَغْفِرَتَهُ مِنْ غَيْرِ رَبِّهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَيَأْخُذُ بِهَا غَيْرُهُ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» . الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ: «إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي» يَعْنِي: عَلَى كَثْرَةِ ذُنُوبِكَ وَخَطَايَاكَ، وَلَا يَتَعَاظَمُنِي ذَلِكَ، وَلَا أَسْتَكْثِرُهُ، وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيُعْظِمِ الرَّغْبَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمَهُ شَيْءٌ» . فَذُنُوبُ الْعَبْدِ وَإِنْ عَظُمَتْ فَإِنَّ عَفْوَ اللَّهِ وَمَغْفِرَتَهُ أَعْظَمُ مِنْهَا وَأَعْظَمُ، فَهِيَ صَغِيرَةٌ فِي جَنْبِ عَفْوِ اللَّهِ وَمَغْفِرَتِهِ. وَفِي " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " «عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَاذُنُوبَاهُ وَاذُنُوبَاهُ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلِ اللَّهُمَّ مَغْفِرَتُكَ أَوْسَعُ مِنْ ذُنُوبِي، وَرَحْمَتُكَ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ عَمَلِي، فَقَالَهَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: عُدْ فَعَادَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: عُدْ، فَعَادَ، فَقَالَ لَهُ: قُمْ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ» . وَفِي هَذَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ: يَا كَبِيرَ الذَّنْبِ عَفْوُ الـ ... ــلَّهِ مِنْ ذَنْبِكَ أَكْبَرُ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ فِي ... جَنْبِ عَفْوِ اللَّهِ يَصْغُرُ

وَقَالَ آخَرُ: يَا رِبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُونِي كَثْرَةً ... فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ إِنْ كَانَ لَا يَرْجُوكَ إِلَّا مُحْسِنٌ ... فَمَنِ الَّذِي يَرْجُو وَيَدْعُو الْمُجْرِمُ مَا لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلَّا الرَّجَا ... وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ السَّبَبُ الثَّانِي لِلْمَغْفِرَةِ: الِاسْتِغْفَارُ، وَلَوْ عَظُمَتِ الذُّنُوبُ، وَبَلَغَتِ الْكَثْرَةُ عَنَانَ السَّمَاءِ، وَهُوَ السَّحَابُ. وَقِيلَ: مَا انْتَهَى إِلَيْهِ الْبَصَرُ مِنْهَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: «لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى بَلَغَتْ خَطَايَاكُمْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتُمُ اللَّهَ لَغَفَرَ لَكُمْ» ، وَالِاسْتِغْفَارُ: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، وَالْمَغْفِرَةُ: هِيَ وِقَايَةُ شَرِّ الذُّنُوبِ مَعَ سِتْرِهَا. وَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الِاسْتِغْفَارِ، فَتَارَةً يُؤْمَرُ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] [الْبَقَرَةِ: 199] ، وَقَوْلُهُ: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] [هُودٍ: 3] . وَتَارَةً يَمْدَحُ أَهْلَهُ، كَقَوْلِهِ: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] [الذَّارِيَاتِ: 18] ، وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135] [آلِ عِمْرَانَ: 135] . وَتَارَةً يَذْكُرُ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِمَنِ اسْتَغْفَرَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] [النِّسَاءِ: 110] . وَكَثِيرًا مَا يُقْرَنُ الِاسْتِغْفَارُ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ، فَيَكُونُ الِاسْتِغْفَارُ حِينَئِذٍ عِبَارَةً عَنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ بِاللِّسَانِ، وَالتَّوْبَةُ عِبَارَةً عَنِ الْإِقْلَاعِ مِنَ الذُّنُوبِ بِالْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ.

وَتَارَةً يُفْرَدُ الِاسْتِغْفَارُ، وَيُرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَغْفِرَةُ، كَمَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا أَشْبَهَهُ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الِاسْتِغْفَارُ الْمُقْتَرِنُ بِالتَّوْبَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ نُصُوصَ الِاسْتِغْفَارِ الْمُفْرِدَةَ كُلَّهَا مُطْلَقَةٌ تُقَيَّدُ بِمَا ذُكِرَ فِي آيَةِ " آلِ عِمْرَانَ " مِنْ عَدَمِ الْإِصْرَارِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ وَعَدَ فِيهَا بِالْمَغْفِرَةِ لِمَنِ اسْتَغْفَرَهُ مِنْ ذُنُوبِهِ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَى فِعْلِهِ، فَتُحْمَلُ النُّصُوصُ الْمُطْلَقَةُ فِي الِاسْتِغْفَارِ كُلُّهَا عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ، وَمُجَرَّدُ قَوْلِ الْقَائِلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي - طَلَبٌ مِنْهُ لِلْمَغْفِرَةِ وَدُعَاءٌ بِهَا، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الدُّعَاءِ، فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَجَابَهُ وَغَفَرَ لِصَاحِبِهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا خَرَجَ عَنْ قَلْبٍ مُنْكَسِرٍ بِالذَّنْبِ أَوْ صَادَفَ سَاعَةً مِنْ سَاعَاتِ الْإِجَابَةِ كَالْأَسْحَارِ وَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ. وَيُرْوَى عَنْ لُقْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنِيَّ عَوِّدْ لِسَانَكَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، فَإِنَّ لِلَّهِ سَاعَاتٍ لَا يَرُدَّ فِيهَا سَائِلًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَكْثِرُوا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ فِي بُيُوتِكُمْ، وَعَلَى مَوَائِدِكُمْ، وَفِي طُرُقِكُمْ، وَفِي أَسْوَاقِكُمْ، وَفِي مَجَالِسِكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ، فَإِنَّكُمْ مَا تَدْرُونَ مَتَى تَنْزِلُ الْمَغْفِرَةُ. وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ " حُسْنِ الظَّنِّ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «بَيْنَمَا رَجُلٌ مُسْتَلْقٍ إِذْ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَإِلَى النُّجُومِ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ لَكِ رَبًّا خَالِقًا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ» . وَعَنْ مُوَرِّقٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ، فَخَرَجَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَجَمَعَ تُرَابًا، فَاضْطَجَعَ عَلَيْهِ مُسْتَلْقِيًا، فَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَيَعْرِفُ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ، فَغَفَرَ لَهُ. وَعَنْ مُغِيثِ بْنِ سُمَيٍّ، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ خَبِيثٌ، فَتَذَكَّرَ يَوْمًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ

غُفْرَانَكَ، اللَّهُمَّ غُفْرَانَكَ، اللَّهُمَّ غُفْرَانَكَ، ثُمَّ مَاتَ فَغُفِرَ لَهُ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ، فَذَكَرَ مِثْلَ الْأَوَّلِ مَرَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ» . وَالْمَعْنَى: مَا دَامَ عَلَى هَذَا الْحَالِ كُلَّمَا أَذْنَبَ اسْتَغْفَرَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ الِاسْتِغْفَارُ الْمَقْرُونُ بِعَدَمِ الْإِصْرَارِ، وَلِهَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَأَمَّا اسْتِغْفَارُ اللِّسَانِ مَعَ إِصْرَارِ الْقَلْبِ عَلَى الذَّنْبِ، فَهُوَ دُعَاءٌ مُجَرَّدٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَجَابَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ. وَقَدْ يَكُونُ الْإِصْرَارُ مَانِعًا مِنَ الْإِجَابَةِ، وَفِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: «وَيْلٌ لِلَّذِينِ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْمَلُونَ» . وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَالْمُسْتَغْفِرُ مِنْ ذَنْبٍ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ» وَرَفْعُهُ

مُنْكَرٌ، وَلَعَلَّهُ مَوْقُوفٌ. قَالَ الضَّحَّاكُ: ثَلَاثَةٌ لَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ، فَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلٌ مُقِيمٌ عَلَى امْرَأَةٍ زِنًا قَضَى مِنْهَا شَهْوَتَهُ، قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي مَا أَصَبْتُ مِنْ فُلَانَةٍ، فَيَقُولُ الرَّبُّ: تَحَوَّلْ عَنْهَا، وَأَغْفِرُ لَكَ، فَأَمَّا مَا دُمْتَ مُقِيمًا عَلَيْهَا، فَإِنِّي لَا أَغْفِرُ لَكَ، وَرَجُلًا عِنْدَهُ مَالُ قَوْمٍ يَرَى أَهْلَهُ، فَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي مَا آكُلُ مِنْ فُلَانٍ، فَيَقُولُ تَعَالَى: رُدَّ إِلَيْهِمْ مَالَهُمْ، وَأَغْفِرُ لَكَ، وَأَمَّا مَا لَمْ تَرُدَّ إِلَيْهِمْ، فَلَا أَغْفِرُ لَكَ. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، مَعْنَاهُ: أَطْلُبُ مَغْفِرَتَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، فَالِاسْتِغْفَارُ التَّامُّ الْمُوجِبُ لِلْمَغْفِرَةِ: هُوَ مَا قَارَنَ عَدَمَ الْإِصْرَارِ، كَمَا مَدَحَ اللَّهُ أَهْلَهُ، وَوَعَدَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ، قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَرَةُ اسْتِغْفَارِهِ تَصْحِيحَ تَوْبَتِهِ، فَهُوَ كَاذِبٌ فِي اسْتِغْفَارِهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: اسْتِغْفَارُنَا هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ كَثِيرٍ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ... مِنْ لَفْظَةٍ بَدَرَتْ خَالَفْتُ مَعْنَاهَا وَكَيْفَ أَرْجُو إِجَابَاتِ الدُّعَاءِ وَقَدْ ... سَدَدْتُ بِالذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ مَجْرَاهَا فَأَفْضَلُ الِاسْتِغْفَارِ مَا اقْتَرَنَ بِهِ تَرْكُ الْإِصْرَارِ، وَهُوَ حِينَئِذٍ تَوْبَةٌ نَصُوحٌ، وَإِنْ قَالَ بِلِسَانِهِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَهُوَ غَيْرُ مُقْلِعٍ بِقَلْبِهِ، فَهُوَ دَاعٍ لِلَّهِ بِالْمَغْفِرَةِ، كَمَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَهُوَ حَسَنٌ وَقَدْ يُرْجَى لَهُ الْإِجَابَةُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: " تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ، فَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَوْبَةٍ، كَمَا يَعْتَقِدُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَهَذَا حَقٌّ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ لَا تَكُونُ مَعَ الْإِصْرَارِ. وَإِنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فَلَهُ حَالَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُصِرًّا بِقَلْبِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَهَذَا كَاذِبٌ فِي قَوْلِهِ: " وَأَتُوبُ إِلَيْهِ " لِأَنَّهُ غَيْرُ تَائِبٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ تَائِبٌ وَهُوَ غَيْرُ تَائِبٍ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُقْلِعًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِقَلْبِهِ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِ قَوْلِهِ: وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَكَرِهَهُ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ حَكَاهُ عَنْهُمُ الطَّحَاوِيُّ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: يَكُونُ قَوْلُهُ: " وَأَتُوبُ إِلَيْهِ " كِذْبَةً وَذَنْبًا، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيَّ، أَوْ يَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَغْفِرُكَ فَتُبْ عَلَيَّ. وَهَذَا قَدْ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ لَمْ يُقْلِعْ بِقَلْبِهِ وَهُوَ بِحَالِهِ أَشْبَهُ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ يَقُولُ فِي اسْتِغْفَارِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَسْأَلُهُ تَوْبَةً نَصُوحًا. وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ يَقُولَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، ثُمَّ يَعُودُ. وَسَمِعَ مُطَرِّفٌ رَجُلًا يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَعَلَّكَ لَا تَفْعَلْ. وَهَذَا ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا كَرِهَ أَنْ يَقُولَ: وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ أَبَدًا، فَمَتَى عَادَ إِلَيْهِ، كَانَ كَاذِبًا فِي قَوْلِهِ: " وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ". وَكَذَلِكَ سُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ عَمَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مَعْصِيَةٍ أَبَدًا، فَقَالَ: مَنْ أَعْظَمُ مِنْهُ إِثْمًا؟ يَتَأَلَّى عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَنْفُذَ فِيهِ قَضَاؤُهُ، وَرَجَّحَ قَوْلَهُ فِي هَذَا أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ نَحْوُ ذَلِكَ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَقُولَ التَّائِبُ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَأَنْ يُعَاهِدَ الْعَبْدُ رَبَّهُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، فَإِنَّ الْعَزْمَ عَلَى ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُخْبِرٌ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَلِهَذَا قَالَ: " «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ

سَبْعِينَ مَرَّةً» ". وَقَالَ فِي الْمُعَاوِدِ لِلذَّنْبِ: «قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءُ» . وَفِي حَدِيثِ كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ: «أَسْتَغْفِرُكَ اللَّهُمَّ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» ، «وَقَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارِقًا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَاسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ الزِّيَادَةَ عَلَى قَوْلِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا حُمَيْقُ، قُلْ: تَوْبَةَ مَنْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا. وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ: أَيَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَحَسَنٌ، وَلَكِنْ يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي حَتَّى يَتِمَّ الِاسْتِغْفَارُ. وَأَفْضَلُ أَنْوَاعِ الِاسْتِغْفَارِ: أَنْ يَبْدَأَ الْعَبْدُ بِالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ، ثُمَّ يُثَنِّيَ بِالِاعْتِرَافِ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ يَسْأَلَ اللَّهَ الْمَغْفِرَةَ كَمَا فِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ

لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . وَمِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ " أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ". وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ قَالَهُ، غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ؛ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَفِي كِتَابِ " الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ " لِلنَّسَائِيِّ، «عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَسْتَغْفِرُ؟ قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَتُبْ عَلَيْنَا، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» ، وَفِيهِ «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.»

وَفِي " السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ» . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " «عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي ذَرِبُ اللِّسَانِ وَإِنَّ عَامَّةَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِي، فَقَالَ: أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِائَةَ مَرَّةٍ» . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَكْثَرَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» .

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَذَلِكَ عَلَى قَدْرِ دِيَتِي. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا. قَالَ أَبُو الْمِنْهَالِ: مَا جَاوَرَ عَبْدٌ فِي قَبْرِهِ مِنْ جَارٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنِ اسْتِغْفَارٍ كَثِيرٍ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَدَوَاءُ الذُّنُوبِ الِاسْتِغْفَارُ، وَرُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: «إِنَّ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، وَإِنَّ دَوَاءَ الذُّنُوبِ الِاسْتِغْفَارُ» . قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَدُلُّكُمْ عَلَى دَائِكُمْ وَدَوَائِكُمْ، فَأَمَّا دَاؤُكُمْ: فَالذُّنُوبُ، وَأَمَّا دَوَاؤُكُمْ: فَالِاسْتِغْفَارُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا مِعْوَلُ الْمُذْنِبِينَ الْبُكَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ، فَمَنْ أَهَمَّتْهُ ذُنُوبُهُ، أَكْثَرَ لَهَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ. قَالَ رَبَاحٌ الْقَيْسِيُّ: لِي نَيِّفٌ وَأَرْبَعُونَ ذَنْبًا، قَدِ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لِكُلِّ ذَنْبٍ مِائَةَ أَلْفِ مَرَّةٍ. وَحَاسَبَ بَعْضُهُمْ نَفْسَهُ مِنْ وَقْتِ بُلُوغِهِ، فَإِذَا زَلَّاتُهُ لَا تُجَاوِزُ سِتًّا وَثَلَاثِينَ زَلَّةً، فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ لِكُلِّ زَلَّةٍ مِائَةَ أَلْفِ مَرَّةٍ، وَصَلَّى لِكُلِّ زَلَّةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ، وَخَتَمَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهَا خَتْمَةً، قَالَ: وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنِّي غَيْرُ آمِنٍ سَطْوَةَ رَبِّي أَنْ يَأْخُذَنِي بِهَا، وَأَنَا عَلَى

خَطَرٍ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ. وَمَنْ زَادَ اهْتِمَامُهُ بِذُنُوبِهِ، فَرُبَّمَا تَعَلَّقَ بِأَذْيَالِ مَنْ قَلَّتْ ذَنُوبُهُ، فَالْتَمَسَ مِنْهُ الِاسْتِغْفَارَ. وَكَانَ عُمَرُ يَطْلُبُ مِنَ الصِّبْيَانِ الِاسْتِغْفَارَ، وَيَقُولُ إِنَّكُمْ لَمْ تُذْنِبُوا، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ لِغِلْمَانِ الْكُتَّابِ: قُولُوا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي هُرَيْرَةَ، فَيُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِمْ. قَالَ بَكْرٌ الْمُزَنِيُّ: لَوْ كَانَ رَجُلٌ يَطُوفُ عَلَى الْأَبْوَابِ كَمَا يَطُوفُ الْمِسْكِينُ يَقُولُ: اسْتَغْفِرُوا لِي، لَكَانَ نَوْلُهُ أَنْ يَفْعَلَ. وَمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَسَيِّئَاتُهُ حَتَّى فَاتَتِ الْعَدَدَ وَالْإِحْصَاءَ، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ مِمَّا عَلِمَ اللَّهُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَحْصَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] [الْمُجَادَلَةِ: 6] ، وَفِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» . وَفِي مِثْلِ هَذَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا يَعْلَمُ اللَّهُ إِنَّ الشَّقِيَّ لَمَنْ لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَا أَحْلَمَ اللَّهَ عَمَّنْ لَا يُرَاقِبُهُ كُلٌّ مُسِيءٌ وَلَكِنْ يَحْلُمُ اللَّهُ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مِمَّا كَانَ مِنْ زَلَلٍ طُوبَى لِمَنْ كَفَّ عَمَّا يَكْرَهُ اللَّهُ طُوبَى لِمَنْ حَسُنَتْ مِنْهُ سَرِيرَتُهُ طُوبَى لِمَنْ يَنْتَهِي عَمَّا نَهَى اللَّهُ السَّبَبُ الثَّالِثُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ: التَّوْحِيدُ، وَهُوَ السَّبَبُ الْأَعْظَمُ، فَمَنْ فَقَدَهُ فَقَدَ الْمَغْفِرَةَ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَقَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] [النِّسَاءِ: 48] فَمَنْ

جَاءَ مَعَ التَّوْحِيدِ بِقُرَابِ الْأَرْضِ - وَهُوَ مِلْؤُهَا أَوْ مَا يُقَارِبُ مِلْأَهَا - خَطَايَا، لَقِيَهُ اللَّهُ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً، لَكِنْ هَذَا مَعَ مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِذُنُوبِهِ، ثُمَّ كَانَ عَاقِبَتُهُ أَنْ لَا يُخَلَّدَ فِي النَّارِ، بَلْ يَخْرُجُ مِنْهَا، ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُوَحِّدُ لَا يُلْقَى فِي النَّارِ كَمَا يُلْقَى الْكُفَّارُ، وَلَا يَلْقَى فِيهَا مَا يَلْقَى الْكُفَّارُ، وَلَا يَبْقَى فِيهَا كَمَا يَبْقَى الْكُفَّارُ، فَإِنْ كَمُلَ تَوْحِيدُ الْعَبْدِ وَإِخْلَاصُهُ لِلَّهِ فِيهِ، وَقَامَ بِشُرُوطِهِ كُلِّهَا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ، أَوْ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، أَوْجَبَ ذَلِكَ مَغْفِرَةَ مَا سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ كُلِّهَا، وَمَنَعَهُ مِنْ دُخُولِ النَّارِ بِالْكُلِّيَّةِ. فَمَنْ تَحَقَّقَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ قَلْبُهُ، أَخْرَجَتْ مِنْهُ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا وَمَهَابَةً، وَخَشْيَةً، وَرَجَاءً وَتَوَكُّلًا، وَحِينَئِذٍ تُحْرَقُ ذُنُوبُهُ وَخَطَايَاهُ كُلُّهَا وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ، وَرُبَّمَا قَلَبَتْهَا حَسَنَاتٍ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي تَبْدِيلِ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ، فَإِنَّ هَذَا التَّوْحِيدَ هُوَ الْإِكْسِيرُ الْأَعْظَمُ، فَلَوْ وُضِعَ مِنْهُ ذَرَّةً عَلَى جِبَالِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، لَقَلَبَهَا حَسَنَاتٍ كَمَا فِي " الْمُسْنَدِ " وَغَيْرِهِ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا تَتْرُكُ ذَنْبًا، وَلَا يَسْبِقُهَا عَمَلٌ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ، وَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَرَفَعْنَا أَيْدِيَنَا سَاعَةً، ثُمَّ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، اللَّهُمَّ بَعَثْتَنِي بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَأَمَرْتَنِي بِهَا، وَوَعَدْتَنِي الْجَنَّةَ عَلَيْهَا، وَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، ثُمَّ قَالَ: أَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكُمْ» .

قَالَ الشِّبْلِيُّ: مَنْ رَكَنَ إِلَى الدُّنْيَا أَحْرَقَتْهُ بِنَارِهَا، فَصَارَ رَمَادًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، وَمَنْ رَكَنَ إِلَى الْآخِرَةِ أَحْرَقَتْهُ بِنُورِهَا، فَصَارَ ذَهَبًا أَحْمَرَ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَمَنْ رَكَنَ إِلَى اللَّهِ، أَحْرَقَهُ نُورُ التَّوْحِيدِ، فَصَارَ جَوْهَرًا لَا قِيمَةَ لَهُ. إِذَا عَلِقَتْ نَارُ الْمَحَبَّةِ بِالْقَلْبِ أَحْرَقَتْ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ مَا سِوَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، فَطَهُرَ الْقَلْبُ حِينَئِذٍ مِنَ الْأَغْيَارِ، وَصَلُحَ عَرْشًا لِلتَّوْحِيدِ: «مَا وَسِعَنِي سَمَائِي وَلَا أَرْضِي، وَلَكِنْ وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ» . غَصَّنِي الشَّوْقُ إِلَيْهِمْ بِرِيقِي ... فَوَاحَرِيقِي فِي الْهَوَى وَاحَرِيقِي قَدْ رَمَانِي الْحُبُّ فِي لُجِّ بِحْرٍ ... فَخُذُوا بِاللَّهِ كَفَّ الْغَرِيقِ حَلَّ عِنْدِي حُبُّكُمْ فِي شِغَافِي ... حَلَّ مِنِّي كُلَّ عَقْدٍ وَثِيقِ فَهَذَا آخِرُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَنَحْنُ بِعَوْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ نَذْكُرُ تَتِمَّةَ الْخَمْسِينَ حَدِيثًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْجَامِعَةِ لِأَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْآدَابِ وَالْحِكَمِ الْمَوْعُودِ بِهَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقِ لِلصَّوَابِ.

[الحديث الثالث والأربعون ألحقوا الفرائض بأهلها]

[الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا]

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ، فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي زَعَمَ بَعْضُ شُرَّاحِ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ أَنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَغْفَلَهُ، فَإِنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ وَجَامِعٌ لَهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَاهُ مِنْ رِوَايَةِ وُهَيْبٍ، وَرَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَيَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ أَيْضًا. وَقَدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ إِرْسَالَهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا» : فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُرَادُ بِالْفَرَائِضِ الْفُرُوضُ الْمُقَدَّرَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ: أَعْطُوا الْفَرَائِضَ الْمُقَدَّرَةَ لِمَنْ سَمَّاهَا اللَّهُ لَهُمْ، فَمَا بَقِيَ بَعْدَ هَذِهِ الْفُرُوضِ، فَيَسْتَحِقُّهُ أَوْلَى الرِّجَالِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوْلَى الْأَقْرَبُ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا

يَلِي هَذَا، أَيْ يَقْرُبُ مِنْهُ، فَأَقْرَبُ الرِّجَالِ هُوَ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ، فَيَسْتَحِقُّ الْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَسَرَّ الْحَدِيثَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، نَقَلَهُ عَنْهُمَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَلَى هَذَا، فَإِذَا اجْتَمَعَ بِنْتٌ وَأُخْتٌ وَعَمٌّ وَابْنُ عَمٍّ أَوِ ابْنُ أَخٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ بَعْدَ نِصْفِ الْبِنْتِ الْعَصَبَةُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ يَتَمَسَّكُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَيُقِرُّ بِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى خِلَافِهِ، وَذَهَبَتِ الظَّاهِرِيَّةُ إِلَى قَوْلِهِ أَيْضًا. وَقَالَ إِسْحَاقُ: إِذَا كَانَ مَعَ الْبِنْتِ وَالْأُخْتِ عَصَبَةٌ، فَالْعَصَبَةُ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَحَدٌ، فَالْأُخْتُ لَهَا الْبَاقِي، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: الْبِنْتُ عَصَبَةُ مَنْ لَا عَصَبَةَ لَهُ، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ هَذَا، وَقَالَ: لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَمَسْرُوقٌ يَقُولَانِ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْهُ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْأُخْتَ مَعَ الْبِنْتِ عَصَبَةٌ لَهَا مَا فَضُلَ، مِنْهُمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعَائِشَةُ، وَزَيْدٌ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَتَابَعَهُمْ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: سَأَلْتُ ابْنَ طَاوُسٍ عَنِ ابْنَةٍ وَأُخْتٍ، فَقَالَ: كَانَ أَبِي يَذْكُرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَجُلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا شَيْئًا، وَكَانَ طَاوُسٌ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ الرَّجُلِ، قَالَ: وَكَانَ أَبِي يَشُكُّ فِيهَا، وَلَا يَقُولُ فِيهَا شَيْئًا، وَقَدْ كَانَ يَسْأَلُ عَنْهَا. وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ مُرَادَ طَاوُسٍ هُوَ هَذَا الْحَدِيثُ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نَصٌّ صَرِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِيرَاثِ الْأُخْتِ مع الْبِنْتِ، إِنَّمَا كَانَ يَتَمَسَّكُ بِمِثْلِ عُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَمَا ذَكَرَهُ طَاوُسٌ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَاهُ عَنْ رَجُلٍ وَأَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ، فَابْنُ عَبَّاسٍ أَكْثَرُ رِوَايَاتِهِ لِلْحَدِيثِ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ قَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ،

وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، فَلَا عِبْرَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَدَمِ رِضَا طَاوُسٍ. وَفِي " صَحِيحِ " الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي قَيْسٍ الْأَوْدِيِّ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلٍ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي مُوسَى، فَسَأَلَهُ عَنِ ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ، وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَقَالَ: لِلِابْنَةِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ مَا بَقِيَ وَائْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي، فَأَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِلِابْنَةِ النِّصْفُ، وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ، فَلِلْأُخْتِ، قَالَ: فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ» . وَفِيهِ أَيْضًا عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأُسُودِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قَضَى فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّصْفُ لِلِابْنَةِ، وَالنِّصْفُ لِلْأُخْتِ، ثُمَّ تَرَكَ الْأَعْمَشُ ذِكْرَ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ. وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَسْوَدِ، وَزَادَ فِيهِ: وَنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ حَيٌّ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ لِقَوْلِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] [النِّسَاءِ: 176] وَكَانَ يَقُولُ: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ؟ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا النِّصْفَ إِلَّا مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ، وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَ لَهَا النِّصْفَ مَعَ الْوَلَدِ وَهُوَ الْبِنْتُ. وَالصَّوَابُ قَوْلُ عُمَرَ وَالْجُمْهُورِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] بِالْفَرْضِ، وَهَذَا مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْوَلَدِ

بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] [النِّسَاءِ: 176] يَعْنِي بِالْفَرْضِ، وَالْأُخْتُ الْوَاحِدَةُ إِنَّمَا تَأْخُذُ النِّصْفَ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْوَلَدِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَكَذَلِكَ الْأُخْتَانِ فَصَاعِدًا إِنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ الثُّلُثَيْنِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْوَلَدِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا، فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِخْوَةِ مُطْلَقًا ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَلَدٌ ذَكَرٌ، بَلْ أُنْثَى فَالْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِهَا يَسْتَحِقُّهُ الْأَخُ مَعَ أُخْتِهِ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِذَا كَانَتِ الْأُخْتُ لَا يُسْقِطُهَا أَخُوهَا؛ فَكَيْفَ يُسْقِطُهَا مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ مِنَ الْعَصَبَاتِ كَالْعَمِّ وَابْنِهِ؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَصَبَةُ الْأَبْعَدُ مُسْقِطًا لَهَا، فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ، لِامْتِنَاعِ مُشَارَكَتِهِ لَهَا، فَمَفْهُومُ الْآيَةِ أَنَّ الْوَلَدَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ بِالْفَرْضِ، وَهَذَا حَقٌّ لَيْسَ مَفْهُومًا أَنَّ الْأُخْتَ تَسْقَطُ بِالْبِنْتِ، وَلَا تَأْخُذُ مَا فَضُلَ مِنْ مِيرَاثِهَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] [النِّسَاءِ: 176] ، وَقَدْ أَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ الْأُنْثَى لَا يَمْنَعُ الْأَخَ أَنْ يَرِثَ مِنْ مَالِ أُخْتِهِ مَا فَضُلَ عَنِ الْبِنْتِ أَوِ الْبَنَاتِ، وَإِنَّمَا وُجُودُ الْوَلَدِ الْأُنْثَى يَمْنَعُ أَنْ يَحُوزَ الْأَخُ مِيرَاثَ أُخْتِهِ كُلِّهِ، فَكَمَا أَنَّ الْوَلَدَ إِنْ كَانَ ذَكَرًا، مَنَعَ الْأَخَ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى، لَمْ يَمْنَعْهُ الْفَاضِلُ عَنْ مِيرَاثِهَا، وَإِنْ مَنَعَهُ حِيَازَةُ الْمِيرَاثِ، فَكَذَلِكَ الْوَلَدُ إِنْ كَانَ ذَكَرًا مَنَعَ الْأُخْتَ الْمِيرَاثَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى مَنَعَتِ الْأُخْتَ أَنْ يُفْرَضَ لَهَا النِّصْفُ، وَلَمْ يَمْنَعْهَا أَنْ تَأْخُذَ مَا فَضُلَ عَنْ فَرْضِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ، فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَصَبَةُ الْبَعِيدُ خَاصَّةً، كَبَنِي الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، دُونَ الْعَصَبَةِ الْقَرِيبِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْفُرُوضِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى إِذَا كَانَ الْعَصَبَةُ قَرِيبًا، كَالْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَلِكَ الْأُخْتُ مَعَ الْبِنْتِ بِالنَّصِّ الدَّالِّ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُخَصُّ مِنْهُ هَذِهِ الصُّورُ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ يَخُصُّ مِنْهُ الْمُعْتَقَةُ مَوْلَاةُ النِّعْمَةِ بِالِاتِّفَاقِ، فَتُخَصُّ مِنْهُ صُورَةُ الْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ بِالنَّصِّ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا» مَا يَسْتَحِقُّهُ ذَوُو الْفُرُوضِ فِي الْجُمْلَةِ، سَوَاءٌ أَخَذُوهُ بِفَرْضٍ أَوْ بِتَعْصِيبٍ طَرَأَ لَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» الْعَصَبَةُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فَرْضٌ بِحَالٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَهُوَ: «اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ» فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفُرُوضِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَعَلَى هَذَا فَمَا تَأْخُذُهُ الْأُخْتُ مَعَ أَخِيهَا، أَوِ ابْنِ عَمِّهَا إِذَا عَصَبَهَا هُوَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْفَرَائِضِ فِي الْجُمْلَةِ، فَكَذَلِكَ مَا تَأْخُذُهُ الْأُخْتُ مَعَ الْبِنْتِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْفَرَائِضِ فِي قَوْلِهِ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا» ، وَقَوْلُهُ: «اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ» جُمْلَةُ مِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَوَارِيثِ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ كُلِّهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ مَا يَأْخُذُهُ الْوَرَثَةُ، فَهُوَ فَرْضٌ فَرَضَهُ اللَّهُ لَهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ مُقَدَّرًا أَوْ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، كَمَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ مِيرَاثِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 11] [النِّسَاءِ: 11] ، وَفِيهِمْ ذُو فَرْضٍ وَعَصَبَةٍ، وَكَمَا قَالَ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] [النِّسَاءِ: 7] وَهَذَا يَشْمَلُ الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْفُرُوضِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «اقْسِمُوا الْفَرَائِضَ بَيْنَ أَهْلِهَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ» يَشْمَلُ قِسْمَتَهُ بَيْنَ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ عَلَى مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ قَسَمَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ فَضُلَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَيَخْتَصُّ بِالْفَاضِلِ أَقْرَبُ الذُّكُورِ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَصْرِيحٌ بِقِسْمَتِهِ بَيْنَ مَنْ سَمَّاهُ اللَّهُ مِنَ الْوَرَثَةِ، فَيَكُونُ الْمَالُ حِينَئِذٍ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ مِنْهُمْ. فَهَذَا الْحَدِيثُ مُبَيِّنٌ لِكَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ بَيْنَ أَهْلِهَا وَمُبَيِّنٌ لِقِسْمَةِ مَا فَضُلَ مِنَ الْمَالِ عَنْ تِلْكَ الْقِسْمَةِ مِمَّا لَمْ يُصَرِّحُ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَحْوَالِ أُولَئِكَ الْوَرَثَةِ وَأَقْسَامِهِمْ، وَمُبَيِّنٌ أَيْضًا لِكَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِ بَقِيَّةِ

الْعَصَبَاتِ الَّذِينَ لَمْ يُصَرَّحْ بِتَسْمِيَتِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، فَإِذَا ضُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ إِلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ، انْتَظَمَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَعْرِفَةَ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ بَيْنَ جَمِيعِ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ حُكْمَ تَوْرِيثِ الْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَحُكْمَ تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنَ الْأَبِ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ. فَأَمَّا الْأَوْلَادُ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] [النِّسَاءِ: 11] ، فَهَذَا حُكْمُ اجْتِمَاعِ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ أَنَّهُ يَكُونُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَوْلَادُ، وَأَوْلَادُ الْبَنِينَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَمَتَى اجْتَمَعَ مِنَ الْأَوْلَادِ إِخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ، اقْتَسَمُوا الْمِيرَاثَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ بِنْتٌ لِلصُّلْبِ أَوِ ابْنَتَانِ، وَكَانَ هُنَاكَ ابْنُ ابْنٍ مَعَ أُخْتِهِ اقْتَسَمَا الْبَاقِيَ أَثْلَاثًا؛ لِدُخُولِهِمْ فِي هَذَا الْعُمُومِ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةِ. وَذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِلَى أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ بَنَاتِ الصُّلْبِ الثُّلُثَيْنِ كُلُّهُ لِابْنِ الِابْنِ، وَلَا يُعَصِّبُ أُخْتَهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، فَلَا يُعَصِّبُ عِنْدَهُمُ الْوَلَدُ أُخْتَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا فَرِيضَةٌ لَوِ انْفَرَدَتْ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ قَالُوا فِيمَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ بِنْتٌ وَأَوْلَادُ ابْنٍ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ، إِنَّ الْبَاقِيَ لِجَمِيعِ وَلَدِ الِابْنِ، لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي بِنْتٍ وَبَنَاتِ ابْنٍ وَبَنِي ابْنٍ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ وَلَدِ الِابْنِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ إِلَّا أَنْ تَزِيدَ الْمُقَاسَمَةُ بَنَاتِ الِابْنِ عَلَى السُّدْسِ، فَيُفْرَضُ لَهُنَّ السُّدُسُ، وَيُجْعَلُ الْبَاقِي لِبَنِي الِابْنِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ، فَقَالُوا: النِّصْفُ الْبَاقِي لِوَلَدِ الِابْنِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ

عَمَلًا بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْوَلَدَ وَإِنْ نَزَلَ يُعَصِّبُ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ لِلْأُنْثَى فَرْضٌ بِدُونِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، يُعَصِّبُ مَنْ أَعْلَى مِنْهُ مِنَ الْإِنَاثِ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا فَرْضٌ بِدُونِهِ، وَلَا يُعَصِّبُ مَنْ أَسْفَلَ مِنْهُ بِكُلِّ حَالٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] . فَهَذَا حُكْمُ انْفِرَادِ الْإِنَاثِ مِنَ الْأَوْلَادِ أَنَّ لِلْوَاحِدَةِ النِّصْفُ، وَلِمَا فَوْقَ الْأُنْثَيَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَنَاتُ الصُّلْبِ وَبَنَاتُ الِابْنِ عِنْدَ عَدَمِهِنَّ، فَإِنِ اجْتَمَعْنَ فَإِنِ اسْتَكْمَلَ بَنَاتُ الصُّلْبِ الثُّلُثَيْنِ، فَلَا شَيْءَ لِبَنَاتِ الِابْنِ الْمُنْفَرِدَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ، بَلْ كَانَ وَلَدُ الصُّلْبِ بِنْتًا وَاحِدَةً، وَمَعَهَا بَنَاتُ ابْنٍ، فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِبَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ؛ لِئَلَّا يَزِيدَ فَرْضُ الْبَنَاتِ عَلَى الثُّلُثَيْنِ، وَبِهَذَا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِبَنَاتِ الِابْنِ، وَقَدْ رَجَعَ أَبُو مُوسَى إِلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا أُشْكِلَ عَلَى الْعُلَمَاءِ حُكْمُ مِيرَاثِ الْبِنْتَيْنِ، فَإِنَّ لَهُمَا الثُّلُثَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ، وَمَا حُكِيَ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ لَهُمَا النِّصْفَ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ إِسْنَادَهُ لَا يَصِحُّ، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، حَيْثُ قَالَ: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] [النِّسَاءِ: 11] ، فَكَيْفَ تُوَرَّثُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ النِّصْفَ؟ وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي تَوْرِيثِ الْبِنْتِ النِّصْفَ وَبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ يَدُلُّ عَلَى تَوْرِيثِ الْبِنْتِ الثُّلُثَيْنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَّثَ ابْنَتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الثُّلُثَيْنِ» ،

وَلَكِنْ أُشْكِلَ فَهْمُ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] ، فَلِهَذَا اضْطَرَبَ النَّاسُ فِي هَذَا، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِيهِ أَقْوَالًا مُسْتَبْعَدَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: اسْتُفِيدَ حُكْمُ مِيرَاثِ الِابْنَتَيْنِ مِنْ مِيرَاثِ الْأُخْتَيْنِ، فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] ، وَاسْتُفِيدَ حُكْمُ مِيرَاثٍ أَكْثَرَ مِنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ حُكْمِ مِيرَاثِ مَا فَوْقَ الِاثْنَتَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْبِنْتُ مَعَ أَخِيهَا لَهَا الثُّلُثُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَلَأَنْ يَكُونَ لَهَا الثُّلُثُ مَعَ أُخْتِهَا أَوْلَى، وَسَلَكَ بَعْضُهُمْ مَسْلَكًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ تَوْرِيثِ اجْتِمَاعِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَذَكَرَ حُكْمَ تَوْرِيثِ الْإِنَاثِ إِذَا انْفَرَدْنَ عَنِ الذُّكُورِ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِ انْفِرَادِ الذُّكُورِ مِنْهُمْ عَنِ الْإِنَاثِ، وَجَعَلَ حُكْمَ الِاجْتِمَاعِ أَنَّ الذَّكَرَ لَهُ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَإِنِ اجْتَمَعَ مَعَ الِابْنِ ابْنَتَانِ فَصَاعِدًا، فَلَهُ مِثْلُ نَصِيبِ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا ابْنَةً وَاحِدَةً، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ وَلَهَا الثُّلُثُ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ الذَّكَرُ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ الثُّلُثَانِ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ فِي حَالِ اجْتِمَاعِهِمَا مَعَ الذَّكَرِ، لِأَنَّ حَظَّهُمَا حِينَئِذٍ النِّصْفُ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الثُّلُثَانِ حَظُّهُمَا حَالَ الِانْفِرَادِ. وَبَقِيَ هَاهُنَا قِسْمٌ ثَالِثٌ لَمْ يُصَرِّحِ الْقُرْآنُ بِذِكْرِهِ، وَهُوَ حُكْمُ انْفِرَادِ الذُّكُورِ مِنَ الْوَلَدِ، وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ إِدْخَالُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فَمَا بَقِيَ، فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» ، فَإِنَّ هَذَا الْقِسْمَ قَدْ بَقِيَ وَلَمْ يُصَرَّحْ بِحُكْمِهِ فِي الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ الْمَالُ حِينَئِذٍ لِأَقْرَبِ الذُّكُورِ مِنَ الْوَلَدِ وَالْأَمْرُ عَلَى هَذَا، فَإِنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ ابْنٌ وَابْنٌ ابْنٌ، لَكَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِلِابْنِ، وَلَوْ كَانَ ابْنُ ابْنٍ وَابْنُ ابْنِ ابْنٍ، لَكَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الِابْنِ عَلَى مُقْتَضَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حُكْمَ مِيرَاثِ الْأَبَوَيْنِ، فَقَالَ

{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] ، فَهَذَا حُكْمُ مِيرَاثِ الْأَبَوَيْنِ إِذَا كَانَ لِلْوَلَدِ الْمُتَوَفَّى وَلَدٌ، وَسَوَاءٌ فِي الْوَلَدِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَسَوَاءٌ فِيهِ وَلَدُ الصُّلْبِ وَوَلَدُ الِابْنِ، هَذَا كَالْإِجْمَاعِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ عَنْ مُجَاهِدٍ فِيهِ خِلَافًا، فَمَتَى كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ، أَوْ وَلَدُ ابْنٍ، وَلَهُ أَبَوَانِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ السُّدُسُ فَرْضًا، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا، فَالْبَاقِي بَعْدَ سُدُسَيِ الْأَبَوَيْنِ لَهُ، وَرُبَّمَا دَخَلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلِ ذَكَرٍ» . وَأَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ الِابْنُ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا، فَالثُّلُثَانِ لَهُنَّ، وَلَا يَفْضُلُ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتًا وَاحِدَةً، فَلَهَا النِّصْفُ، وَيَفْضُلُ مِنَ الْمَالِ سُدُسٌ آخَرُ، فَيَأْخُذُهُ الْأَبُ بِالتَّعْصِيبِ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» ، فَهُوَ أَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ عِنْدَ فَقْدِ الِابْنِ؛ إِذْ هُوَ أَقْرُبُ مِنَ الْأَخِ وَابْنِهِ وَالْعَمِّ وَابْنِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] ، يَعْنِي إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ، وَلَهُ أَبَوَانِ يَرِثَانِهِ، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، فَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الثُّلُثِ لِلْأَبِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ مِيرَاثَهُ لِأَبَوَيْهِ، وَخَصَّ الْأُمَّ مِنَ الْمِيرَاثِ بِالثُّلُثِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْأَبِ، وَلَمْ يَقُلْ: فَلِلْأَبِ - مَثَلًا - مَا لِلْأُمِّ؛ لِئَلَّا يُوهِمَ أَنَّ اقْتِسَامَهُمَا الْمَالَ هُوَ بِالتَّعْصِيبِ كَالْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ، إِذَا كَانَ فِيهِمْ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَتَمَسَّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمُلَقَّبَتَيْنِ بِالْعُمَرِيَّتَيْنِ وَهُمَا: زَوْجٌ وَأَبَوَانِ، وَزَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ، فَإِنَّ عُمَرَ قَضَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَأْخُذَانِ فَرْضَهُمَا مِنَ الْمَالِ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِهِمَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَلِلْأُمِّ ثُلُثُهُ، وَالْبَاقِي لِلْأَبِ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَلْ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ كَامِلًا، تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] . وَقَدْ قِيلَ فِي جَوَابِ هَذَا: إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا جَعَلَ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ لِلْوَلَدِ الْمُتَوَفَّى وَلَدٌ، وَالثَّانِي: أَنْ يَرِثَهُ أَبَوَاهُ، أَيْ أَنْ يَنْفَرِدَ أَبَوَاهُ بِمِيرَاثِهِ، فَمَا لَمْ يَنْفَرِدْ أَبَوَاهُ بِمِيرَاثِهِ، فَلَا تَسْتَحِقُّ الْأُمُّ الثُّلُثَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَفَّى وَلَدٌ. وَقَدْ يُقَالُ - وَهُوَ أَحْسَنُ -: إِنَّ قَوْلَهُ: {وَوِرَثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] أَيْ: مِمَّا وَرِثَهُ الْأَبَوَانِ، وَلَمْ يَقُلْ: فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ مِمَّا تَرَكَ كَمَا قَالَ فِي السُّدُسِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ، وَكَانَ لِأَبَوَيْهِ مِنْ مَالِهِ مِيرَاثٌ، فَلِلْأُمِّ ثُلُثُ ذَلِكَ الْمِيرَاثِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الْأَبَوَانِ، وَيَبْقَى الْبَاقِي لِلْأَبِ. وَلِهَذَا السِّرِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ الْفُرُوضَ الْمُقَدَّرَةَ لِأَهْلِهَا، قَالَ فِيهَا: مِمَّا تَرَكَ، أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دِينٍ} [النساء: 11] ، لِيُبَيِّنَ أَنَّ ذَا الْفَرْضِ حَقُّهُ ذَلِكَ الْجُزْءُ الْمَفْرُوضُ الْمُقَدَّرُ لَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصَايَا وَالدُّيُونِ، وَحَيْثُ ذَكَرَ مِيرَاثَ الْعَصَبَاتِ، أَوْ مَا يَقْتَسِمُهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ عَلَى وَجْهِ التَّعْصِيبِ كَالْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمَالَ الْمُقْتَسِمَ بِالتَّعْصِيبِ لَيْسَ هُوَ الْمَالَ كُلَّهُ بَلْ، تَارَةً يَكُونُ جَمِيعَ الْمَالِ، وَتَارَةً يَكُونُ هُوَ الْفَاضِلَ عَنِ الْفُرُوضِ الْمَفْرُوضَةِ الْمُقَدَّرَةِ، وَهُنَا لَمَّا ذَكَرَ مِيرَاثَ الْأَبَوَيْنِ مِنْ وَلَدِهِمَا الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ، وَلَمْ يَكُنِ اقْتِسَامُهُمَا لِلْمِيرَاثِ بِالْفَرْضِ الْمَحْضِ، كَمَا فِي مِيرَاثِهِمَا مَعَ الْوَلَدِ، وَلَا كَانَ بِالتَّعْصِيبِ الْمَحْضِ الَّذِي يُعَصَّبُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَيَأْخُذُ مِثْلَيْ مَا تَأْخُذُهُ الْأُنْثَى، بَلْ كَانَتِ الْأُمُّ تَأْخُذُ مَا تَأْخُذُهُ بِالْفَرْضِ، وَالْأَبُ يَأْخُذُ مَا يَأْخُذُهُ بِالتَّعْصِيبِ، قَالَ: {وَوِرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] يَعْنِي أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ

الْأَبَوَانِ مِنْ مِيرَاثِهِ تَأْخُذُ الْأُمُّ ثُلُثُهُ فَرْضًا، وَالْبَاقِي يَأْخُذُهُ الْأَبُ بِالتَّعْصِيبِ، وَهَذَا مِمَّا فَتَحَ اللَّهُ بِهِ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَ إِلَيْهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِلْأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دِينٌ} [النساء: 11] يَعْنِي: لِلْأُمِّ السُّدُسُ مَعَ الْإِخْوَةِ مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ الْمَوْرُوثَةِ الَّتِي يَقْتَسِمُهَا الْوَرَثَةُ، وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا مِيرَاثُ الْأَبِ مَعَ الْأُمِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ أُمٌّ وَإِخْوَةٌ لَيْسَ مَعَهُمْ أَبٌ، فَإِنَّ لِلْأُمِّ السُّدُسَ، وَالْبَاقِي لِلْإِخْوَةِ وَيَحْجُبُهَا الْأَخَوَانِ فَصَاعِدًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَعَ الْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ أَبٌ، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَحْجُبُ الْإِخْوَةُ الْأُمَّ وَلَا يَرِثُونَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ يَرِثُونَ السُّدُسَ الَّذِي حَجَبُوا عَنْهُ الْأُمَّ بِالْفَرْضِ كَمَا يَرِثُ وَلَدُ الْأُمِّ مَعَ الْأُمِّ بِالْفَرْضِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ خَاصَّةً، وَلَا يُشْتَرَطُ لِلْكَلَالَةِ فَقْدُ الْوَالِدِ، فَيَرِثُ الْإِخْوَةُ مَعَ الْأَبِ بِالْفَرْضِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ قَالَ: إِذَا كَانَ الْإِخْوَةُ مَحْجُوبِينَ بِالْأَبِ، فَلَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ عَنْ شَيْءٍ، بَلْ لَهَا حِينَئِذٍ الثُّلُثُ، وَرَجَّحَهُ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ قَوْلِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ: مَنْ لَا يَرِثُ لَا يُحْجَبُ، وَقَدْ قَالَ نَحْوَهُ أَحْمَدُ والْخَرْقِيُّ، لَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَحْمِلُونَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةٌ بِالْكُلِّيَّةِ، كَالْكَافِرِ وَالرَّقِيقِ، دُونَ مَنْ يَرِثُ لِانْحِجَابِهِ بِمَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يَشْهَدُ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِخْوَةَ إِذَا كَانُوا مَحْجُوبِينَ لَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَبَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ انْفِرَادِ الْأُمِّ مَعَ الْإِخْوَةِ، فَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ السُّدُسِ كُلَّهِ لَهُمْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْإِخْوَةَ قَدْ يَكُونُونَ مِنْ أُمٍّ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ سِوَى الثُّلُثِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ مِيرَاثِ الْأَبَوَيْنِ، وَلَمْ يُذْكُرِ الْجَدَّ وَلَا الْجَدَّةَ، فَأَمَّا الْجَدَّةُ، فَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ فَرْضَهَا إِنَّمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّ السُّدُسَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ، كَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وُجُوهٍ فِيهَا ضَعْفٌ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ عِنْدَ فَقْدِ الْأُمِّ تَرِثُ مِيرَاثَ الْأُمِّ، فَتَرِثُ الثُّلُثَ تَارَةً، وَالسُّدُسَ أُخْرَى، وَهَذَا شُذُوذٌ، وَلَا يَصِحُّ إِلْحَاقُ الْجَدَّةِ، بِالْجَدِّ لِأَنَّ الْجَدَّ عَصَبَةٌ يُدْلِي بِعَصَبَةٍ، وَالْجَدَّةَ ذَاتُ فَرْضٍ تُدْلِي بِذَاتِ فَرْضٍ فَضَعُفَتْ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهَا فَرْضٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا السُّدُسُ طُعْمَةٌ أَطْعَمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ يَرَى الرَّدَّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ: إِنَّهُ لَا يُرَدُّ عَلَى الْجَدَّةِ لِضَعْفِ فَرْضِهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَأَمَّا الْجَدُّ، فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي أَحْوَالِهِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ قَبْلُ، فَيَرِثُ مَعَ الْوَلَدِ السُّدُسَ بِالْفَرْضِ، وَمَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ يَرِثُ بِالتَّعْصِيبِ، وَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مَعَ إِنَاثِ الْوَلَدِ أَخَذَهُ بِالتَّعْصِيبِ أَيْضًا عَمَلًا بِقَوْلِهِ: «فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ، فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا إِذَا اجْتَمَعَ أُمٌّ وَجَدٌّ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، فَرُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ الْبَاقِي كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهَا الْأَبُ كَمَا سَبَقَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ كَذَا نَقَلَهُ بَعْضُهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي زَوْجٍ وَأُمٍّ وَجَدٍّ أَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ الْبَاقِي. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ النِّصْفَ الْفَاضِلَ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُمِّ

نِصْفَانِ، وَأَمَّا فِي زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَجَدٍّ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِوَايَةً شَاذَّةً: إِنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ الْبَاقِي، وَالصَّحِيحُ عَنْهُ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ: إِنَّ لَهَا الثُّلُثَ كَامِلًا، وَهَذَا يُشْبِهُ تَفْرِيقَ ابْنِ سِيرِينَ فِي الْأُمِّ مَعَ الْأَبِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعَهُمَا زَوْجٌ، لِلْأُمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا زَوْجَةٌ، فَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ لَهَا الثُّلُثُ مَعَ الْجَدِّ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأُمِّ مَعَ الْأَبِ وَالْجَدِّ أَنَّهَا مَعَ الْأَبِ يَشْمَلُهَا اسْمٌ وَاحِدٌ، وَهُمَا فِي الْقُرْبِ سَوَاءٌ إِلَى الْمَيِّتِ، فَيَأْخُذُ الذَّكَرُ مِنْهُمَا مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَالْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ، وَأَمَّا الْأُمُّ مَعَ الْجِدِّ، فَلَيْسَ يَشْمَلُهَا اسْمٌ وَاحِدٌ، وَالْجَدُّ أَبَعَدُ مِنَ الْأَبِ، فَلَا يَلْزَمُ مُسَاوَاتُهُ بِهِ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا إِنِ اجْتَمَعَ الْجَدُّ مَعَ الْإِخْوَةِ، فَإِنْ كَانُوا لِأُمٍّ سَقَطُوا بِهِ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَرِثُونَ مِنَ الْكَلَالَةِ، وَالْكَلَالَةُ: مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، إِلَّا رِوَايَةً شَذَّتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا إِنْ كَانُوا لِأَبٍ أَوْ لِأَبَوَيْنِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ مِيرَاثِهِمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْقَطَ الْإِخْوَةَ بِالْجَدِّ مُطْلَقًا، كَمَا أَسْقَطُوهُ بِالْأَبِ وَهَذَا قَوْلُ الصِّدِّيقِ، وَمُعَاذٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْجَدَّ أَبٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْأَبِ فِي الْمَوَارِيثِ، كَمَا أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ وَلَدٌ، وَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْوَلَدِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ بِالِاتِّفَاقِ، وَبِأَنَّ الْإِخْوَةَ إِنَّمَا يَرِثُونَ مَعَ الْكَلَالَةِ، فَيَحْجُبُهُمُ الْجَدُّ كَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأَبِ، وَبِأَنَّ الْجَدَّ أَقْوَى مِنَ الْإِخْوَةِ، لِاجْتِمَاعِ الْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ لَهُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهُوَ كَالْأَبِ، وَحِينَئِذٍ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَّكَ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْجَدِّ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ عَلَى اخْتِلَافٍ طَوِيلٍ بَيْنَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ التَّشْرِيكِ بَيْنَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ، وَكَانَ مِنَ السَّلَفِ مَنْ يَتَوَقَّفُ فِي حُكْمِهِمْ وَلَا يُجِيبُ فِيهِمْ بِشَيْءٍ؛ لِاشْتِبَاهِ أَمْرِهِمْ

وَإِشْكَالِهِ، وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْإِطَالَةِ لَبَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْإِطَالَةِ جِدًّا. وَأَمَّا حُكْمُ مِيرَاثِ الْإِخْوَةِ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] [النِّسَاءِ: 176] وَالْكَلَالَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ تَكَلُّلِ النَّسَبِ وَإِحَاطَتِهِ بِالْمَيِّتِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الِانْتِسَابِ مُطْلَقًا مِنَ الْعَمُودَيْنِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ، وَتَنْصِيصُهُ تَعَالَى عَلَى انْتِفَاءِ الْوَالِدِ تَنْبِيهٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْوَالِدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، لِأَنَّ انْتِسَابَ الْوَلَدِ إِلَى وَالِدِهِ أَظْهَرُ مِنَ انْتِسَابِهِ إِلَى وَلَدِهِ، فَكَانَ ذِكْرُ عَدَمِ الْوَلَدِ تَنْبِيهًا عَلَى عَدَمِ الْوَالِدِ بِطْرِيقِ الْأَوْلَى، وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: الْكَلَالَةُ: مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَتَابَعَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا مِنْ مَرَاسِيلِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " الْمَرَاسِيلِ " وَخَرَّجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَصَحَّحَهُ، وَوَصْلُهُ بِذِكْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ ضَعِيفٌ. فَقَوْلُهُ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] يَعْنِي: إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ بِالْكُلِّيَّةِ لَا ذِكْرَ وَلَا أُنْثَى، فَلِلْأُخْتِ - حِينَئِذٍ - النِّصْفُ مِمَّا تَرَكَ فَرْضًا، وَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَلَيْسَ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ فَرْضًا، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا، فَهُوَ أَوْلَى بِالْمَالِ كُلِّهِ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مِيرَاثِ الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ إِذَا انْفَرَدُوا، فَإِنَّهُمْ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ، وَهُمْ يُسْقِطُونَ الْإِخْوَةَ، فَكَيْفَ لَا يُسْقِطُونَ

الْأَخَوَاتِ؟ وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا أُخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ ذُو فَرْضٍ كَالْبَنَاتِ وَغَيْرِهِنَّ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْفَاضِلُ ذُكُورَ الْإِخْوَةِ مَعَ الْأَخَوَاتِ، فَإِذَا انْفَرَدُوا، فَكَذَلِكَ يَسْتَحِقُّونَهُ وَأَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى فَلَيْسَ لِلْأُخْتِ هَنَا النِّصْفُ بِالْفَرْضِ، وَلَكِنْ لَهَا الْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ ابْنٌ لَا يَسْتَوْعِبُ الْمَالَ كُلَّهُ وَأُخْتٌ، مِثْلُ ابْنٍ نِصْفُهُ حُرٌّ عِنْدَ مَنْ يُوَرِّثُهُ نِصْفَ الْمِيرَاثِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَهَلْ يُقَالُ: إِنَّ الِابْنَ هُنَا يُسْقِطَ نِصْفَ فَرْضِ الْأُخْتِ، فَتَرِثُ مَعَهُ الرُّبُعَ فَرْضًا، أَمْ يُقَالُ: إِنَّهُ يَصِيرُ كَالْبِنْتِ، فَتَصِيرُ الْأُخْتُ مَعَهُ عَصَبَةً، كَمَا تَصِيرُ مَعَ الْأُخْتِ، لَكِنَّهُ يُسْقِطُ نِصْفَ تَعْصِيبِهَا فَتَأْخُذُ مَعَهُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ بِالتَّعْصِيبِ؟ هَذَا مُحْتَمِلٌ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] ، يَعْنِي أَنَّ الْأَخَ يَسْتَقِلُّ بِمِيرَاثِ أُخْتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؛ فَإِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ ذَكَرٌ، فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ بِغَيْرِ إِشْكَالٍ، فَإِنَّهُ أَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَالْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِهَا يَكُونُ لِلْأَخِ، لِأَنَّهُ أَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ، وَلَكِنْ لَا يَسْتَقِلُّ بِمِيرَاثِهَا حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ كَمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ. وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] يَعْنِي أَنَّ فَرْضَ الثِّنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، كَمَا أَنَّ فَرْضَ الْوَاحِدَةِ النِّصْفُ، فَهَذَا كُلُّهُ فِي حُكْمِ انْفِرَادِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ. وَأَمَّا حُكْمُ اجْتِمَاعِهِمْ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا إِذَا كَانُوا مُنْفَرِدِينَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ

هُنَاكَ ذُو فَرْضٍ مِنَ الْأَوْلَادِ أَوْ غَيْرِهِمْ، كَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوِ الْأُمِّ أَوِ الْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ، فَيَكُونُ الْفَاضِلُ عَنْ فُرُوضِهِمْ لِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ وُجُودَ الْوَلَدِ إِنَّمَا يُسْقِطُ فَرْضَ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ أَوِ الْأَبِ، وَلَا يُسْقِطُ تَوْرِيثَهُنَّ بِالتَّعْصِيبِ مَعَ أَخَوَاتِهِنَّ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا تَعْصِيبِهِنَّ بِانْفِرَادِهِنَّ مَعَ الْبَنَاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَالْكَلَالَةُ شَرْطٌ لِثُبُوتِ فَرْضِ الْأَخَوَاتِ، لَا لِثُبُوتِ مِيرَاثِهِنَّ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِمِيرَاثِ ذُكُورِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا بِخِلَافِ وَلَدِ الْأُمِّ، فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْكَلَالَةِ أَسْقَطَتْ فُرُوضَهُمْ، وَإِذَا أُسْقِطَتْ فُرُوضُهُمْ، سَقَطَتْ مَوَارِيثُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا تَعْصِيبَ لَهُمْ بِحَالٍ لِإِدْلَائِهِمْ بِأُنْثَى وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ يُدْلُونَ بِذَكَرٍ، فَيَرِثْنَ بِالتَّعْصِيبِ مَعَ إِخْوَتِهِنَّ بِالِاتِّفَاقِ، وَبِانْفِرَادِهِنَّ مَعَ الْبَنَاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ مُسْقِطًا لِفَرْضِ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ، أَوِ الْأَبِ دُونَ أَصْلِ تَوْرِيثِهِمْ بِغَيْرِ الْفَرْضِ، فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا خَصَّ انْتِفَاءَ الْوَلَدِ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] ، وَلَمْ يَذْكُرِ انْتِفَاءَ الْوَالِدِ وَالْأَبِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ فِيهِ الْجَدُّ، وَالْجَدُّ لَا يُسْقِطُ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا يَشْتَرِكُونَ مَعَهُ فِي الْمِيرَاثِ، تَارَةً بِالْفَرْضِ وَتَارَةً بِغَيْرِهِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْجَدَّ لَا يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - ظَاهِرٌ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي انْفِرَادِ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوَ الْأَبِّ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا، فَإِنَّ الْعَصَبَاتِ مِنْ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ يُسْقِطُونَ وَلَدَ الْأَبِ كُلَّهُمْ بِغَيْرِ خِلَافٍ حَتَّى فِي الْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْبِنْتِ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهَا عَصَبَةً يُسْقِطُ بِهَا الْأَخَ مِنَ الْأَبَوَيْنِ. وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَ " التِّرْمِذِيِّ " وَ " ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَعْيَانَ بَنِي الْأُمِّ يَرِثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ، يَرِثُ الرَّجُلُ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ دُونَ أَخِيهِ لِأَبِيهِ» .

وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَخَ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْلَى بِالْكَلَالَةِ بِالْمِيرَاثِ، ثُمَّ الْأَخَ لِلْأَبِ» ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَوْ بِالتَّنْبِيهِ، فَلَيْسَ هُوَ مِمَّا أَبْقَتْهُ الْفَرَائِضُ، بَلْ هُوَ مِنْ إِلْحَاقِ الْفَرَائِضِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ بِأَهْلِهَا، كَتَوْرِيثِ الْأَوْلَادِ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمِ الْفَاضِلَ عَنِ الْفُرُوضِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَتَوْرِيثُ الْإِخْوَةِ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ كَذَلِكَ، وَدَلَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ يَأْخُذُهُ الذَّكَرُ مِنْهُمْ عِنْدَ الِانْفِرَادِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَدَلَّ أَيْضًا بِالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْأُخْتَ تَأْخُذُ الْبَاقِيَ مَعَ الْبِنْتِ كَمَا كَانَتْ تَأْخُذُهُ مَعَ أَخِيهَا، وَلَا يُقَدَّمُ عَلَيْهَا مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهَا كَابْنِ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَابْنِهِ، فَإِنَّ أَخَاهَا إِذَا لَمْ يُسْقِطْهَا فَكَيْفَ يُسْقِطُهَا مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ؟ فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ إِلْحَاقِ الْفَرَائِضِ بِأَهْلِهَا، وَمِنْ بَابِ قِسْمَةِ الْمَالِ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُذْكَرْ بِاسْمِهِ مِنَ الْعَصَبَاتِ فِي الْقُرْآنِ، كَابْنِ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَابْنِهِ، فَإِنَّمَا دَخَلَ فِي عُمُومَاتِ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] [الْأَنْفَالِ: 75] ، وَقَوْلُهُ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] [النِّسَاءِ: 33] ، فَهَذَا يَحْتَاجُ فِي تَوْرِيثِهِمْ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ، أَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لِلْمَالِ وَارِثٌ غَيْرُهُمْ، انْفَرَدُوا بِهِ، وَيُقَدَّمُ مِنْهُمْ

الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، لِأَنَّهُ أَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ، وَإِنْ وُجِدَتْ فُرُوضٌ لَا تَسْتَغْرِقُ الْمَالَ، كَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوِ الْأُمِّ، أَوْ وَلَدِ الْأُمِّ، أَوْ بَنَاتٍ مُنْفَرِدَاتٍ، أَوْ أَخَوَاتٍ مُنْفَرِدَاتٍ، فَالْبَاقِي كُلُّهُ لِأَوْلَى ذَكَرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَلِهَذَا لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً، لَاخْتَصَّ بِهِ رِجَالُهُمْ دُونَ نِسَائِهِمْ، بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ، فَإِنَّهُ يَشْتَرِكُ فِي الْبَاقِي، أَوْ فِي الْمَالِ كُلِّهِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى تَوْرِيثِ الَّذِينَ يَخْتَصُّ ذُكُورَهُمْ دُونَ إِنَاثِهِمْ، وَهُمْ مَنْ عَدَا الْأَوْلَادَ وَالْإِخْوَةَ، فَهَذَا حُكْمُ الْعَصَبَاتِ الْمَذْكُورِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا ذَوُو الْفُرُوضِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ مَوَارِيثِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الزَّوْجَانِ وَالْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ، فَأَمَّا الزَّوْجَانِ فَيَرِثَانِ بِسَبَبِ عَقْدِ النِّكَاحِ. وَلِمَا كَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ وَالتَّنَاصُرِ وَالتَّعَاضُدِ مَا بَيْنَ الْأَقَارِبِ، جَعَلَ مِيرَاثَهُمَا كَمِيرَاثِ الْأَقَارِبِ، وَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِنْهُمَا مِثْلَا مَا لِلْأُنْثَى؛ لِامْتِيَازِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى بِمَزِيدِ النَّفْعِ بِالْإِنْفَاقِ وَالنُّصْرَةِ. وَأَمَّا وَلَدُ الْأُمِّ، فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ قَبِيلَةِ الرَّجُلِ، وَلَا عَشِيرَتِهِ، وَإِنَّمَا هُمْ فِي الْمَعْنَى مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ، فَفَرَضَ اللَّهُ لِوَاحِدِهِمِ السُّدُسَ، وَلِجَمَاعَتِهِمِ الثُّلُثَ صِلَةً، وَسَوَّى فِيهِ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِذَكَرِهِمْ زِيَادَةٌ عَلَى إِنَاثِهِمْ فِي الْحَيَاةِ مِنَ الْمُعَاضَدَةِ وَالْمُنَاصَرَةِ، كَمَا بَيْنَ أَهْلِ الْقَبِيلَةِ وَالْعَشِيرَةِ الْوَاحِدَةِ، فَسَوَّى بَيْنِهِمْ فِي الصِّلَةِ، وَلِهَذَا لَمْ تُشْرَعِ الْوَصِيَّةُ لِلْأَجَانِبِ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ، بَلْ كَانَ الثُّلُثُ كَثِيرًا فِي حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَبْعَدُ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُزَادُوا عَلَى مَا يُوصَلُ بِهِ وَلَدُ الْأُمِّ، بَلْ يُنْقِصُونَ مِنْهُ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: «فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» عَلَى أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ حَقَّ الْمِيرَاثِ لِمَنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا لِأَقْرَبِ الذُّكُورِ، وَهَذَا الْحُكْمُ يَخْتَصُّ بِالْعَصَبَاتِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَإِنَّ مَنْ وِرِثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَرِثَ ذُكُورَهُمْ وَإِنَاثَهُمْ.

وَأَجَابَ مَنْ يَرَى تَوْرِيثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى تَوْرِيثِ الْعَصَبَاتِ، لَا عَلَى نَفْيِ تَوْرِيثِ غَيْرِهِمْ، وَتَوْرِيثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَأْخُوذٌ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى، فَيَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» مَعَ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ إِلَّا ذَكَرًا، فَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنْهُ أَنَّهُ يُطْلَقُ الرَّجُلُ، وَيُرَادُ بِهِ الشَّخْصُ، كَقَوْلِهِ: مَنْ وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، وَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَجِدَهُ عِنْدَ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، فَتَقْيِيدُهُ بِالذَّكَرِ يَنْفِي هَذَا الِاحْتِمَالَ، وَيُخَلِّصُهُ لِلذَّكَرِ دُونَ الْأُنْثَى وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَكَذَلِكَ الِابْنُ: لَمَّا كَانَ قَدْ يُطْلَقُ، وَيُرَادُ بِهِ أَعَمُّ مِنَ الذَّكَرِ، كَقَوْلِهِ: ابْنُ السَّبِيلِ، جَاءَ تَقْيِيدُ ابْنِ اللَّبُونَ فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ بِالذَّكَرِ، وَلِلسُّهَيْلِيِّ كَلَامٌ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِيهِ تَكْلِيفٌ وَتَعَسُّفٌ شَدِيدٌ وَلَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ أَدْرَكْنَاهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[الحديث الرابع والأربعون الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة]

[الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ]

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ. عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» ، وَخَرَّجَاهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ قَوْلِهَا، وَخَرَّجَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَنَّ الرَّضَاعَ يُحَرِّمُ مَا يُحَرِّمُهُ النَّسَبُ، وَلْنَذْكُرِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النَّسَبِ كُلَّهُنَّ حَتَّى يُعْلَمَ بِذَلِكَ مَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ، فَنَقُولُ: الْوِلَادَةُ وَالنَّسَبُ قَدْ يُؤَثِّرَانِ التَّحْرِيمَ فِي النِّكَاحِ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَهُوَ نَوْعَانِ

أَحَدُهُمَا: مَا يَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ النَّسَبِ، فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أُصُولُهُ وَإِنْ عَلَوْنَ، وَفُرُوعُهُ وَإِنْ سَفُلْنَ، وَفُرُوعُ أَصْلِهِ الْأَدْنَى وَإِنْ سَفُلْنَ، فُرُوعُ أُصُولِهِ الْبَعِيدَةِ دُونَ فُرُوعِهِنَّ، فَيَدْخُلُ فِي أُصُولِهِ أُمَّهَاتُهُ وَإِنْ عَلَوْنَ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَفِي فُرُوعِهِ بَنَاتُهُ وَبَنَاتُ أَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفُلْنَ، وَفِي فُرُوعِ أَصْلِهِ الْأَدْنَى أَخَوَاتُهُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَبَنَاتُهُنَّ وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ وَأَوْلَادُهُمْ وَإِنْ سَفُلْنَ، وَدَخَلَ فِي فُرُوعِ أُصُولِهِ الْبَعِيدَةِ الْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَعَمَّاتُ الْأَبَوَيْنِ وَخَالَاتُهُمَا وَإِنْ عَلَوْنَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْأَقَارِبِ حَلَالًا لِلرَّجُلِ سِوَى فُرُوعِ أُصُولِهِ الْبَعِيدَةِ، وَهُنَّ بَنَاتُ الْعَمِّ وَبَنَاتُ الْعَمَّاتِ، وَبَنَاتُ الْخَالِ، وَبَنَاتُ الْخَالَاتِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ مَعَ سَبَبٍ آخَرَ، وَهُوَ الْمُصَاهَرَةُ؛ فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ حَلَائِلُ آبَائِهِ، وَحَلَائِلُ أَبْنَائِهِ، وَأُمَّهَاتُ نِسَائِهِ، وَبَنَاتُ نِسَائِهِ الْمَدْخُولُ بِهِنَّ؛ فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أُمُّ امْرَأَتِهِ وَأُمَّهَاتُهَا مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ وَالْأَبِ وَإِنْ عَلَوْنَ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُ امْرَأَتِهِ، وَهُنَّ الرَّبَائِبُ وَبَنَاتُهُنَّ وَإِنْ سَفُلْنَ، وَكَذَلِكَ بَنَاتُ بَنِي زَوْجَتِهِ وَهُنَّ بَنَاتُ الرَّبَائِبِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَلَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ. وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ، وَإِنْ عَلَا وَبِامْرَأَةِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفُلَ، وَدُخُولُ هَؤُلَاءِ فِي التَّحْرِيمِ بِالنَّسَبِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُنَّ مِنْ جِهَةِ نَسَبِ الرَّجُلِ مَعَ سَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ. وَأَمَّا أُمَّهَاتُ نِسَائِهِ وَبَنَاتُهُنَّ، فَتَحْرِيمُهُنَّ مَعَ الْمُصَاهَرَةِ بِسَبَبِ نَسَبِ الْمَرْأَةِ، فَلَمْ يَخْرُجِ التَّحْرِيمُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ بِالنَّسَبِ مَعَ انْضِمَامِهِ إِلَى سَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ بِالسَّبَبِ الْمُجَرَّدِ، وَالنَّسَبِ الْمُضَافِ إِلَى الْمُصَاهَرَةِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ؛ فَيَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ أُصُولَهَا وَإِنْ عَلَوْا، وَفُرُوعَهَا وَإِنْ سَفُلُوا، وَفُرُوعَ أُصُولِهَا الْأَدْنَى وَإِنْ سَفُلُوا مِنْ إِخْوَتِهَا، وَأَوْلَادَ الْإِخْوَةِ وَإِنْ سَفُلُوا، وَفُرُوعَ أُصُولِهَا الْبَعِيدَةِ وَهُمُ الْأَعْمَامُ وَالْأَخْوَالُ وَإِنْ عَلَوْا دُونَ أَبْنَائِهِمْ، فَهَذَا كُلُّهُ بِالنَّسَبِ الْمُجَرَّدِ.

وَأَمَّا بِالنَّسَبِ الْمُضَافِ إِلَى الْمُصَاهَرَةِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا نِكَاحُ أَبِي زَوْجِهَا وَإِنْ عَلَا، وَنِكَاحُ ابْنِهِ وَإِنْ سَفُلَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا زَوْجُ ابْنَتِهَا وَإِنْ سَفُلَتْ بِالْعَقْدِ، وَزَوْجُ أُمِّهَا وَإِنْ عَلَتْ، لَكِنْ بِشَرْطِ الدُّخُولِ بِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: التَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ عَلَى الِاجْتِمَاعِ دُونَ الِانْفِرَادِ، وَتَحْرِيمُهُ يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ لِاسْتِحَالَةِ إِبَاحَةِ جَمْعِ الْمَرْأَةِ بَيْنَ زَوْجَيْنِ، فَكُلُّ امْرَأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ مُحَرَّمٌ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ذَكَرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّزَوُّجُ بِالْأُخْرَى، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: لَا يَجْمَعُ الرَّجُلُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا رَجُلًا لَمْ يَصْلُحْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. وَهَذَا إِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ لِأَجْلِ النَّسَبِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، فَلَوْ كَانَ لِغَيْرِ النَّسَبِ مِثْلَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ زَوْجَةِ رَجُلٍ وَابْنَتِهِ مِنْ غَيْرِهَا، فَإِنَّهُ يُبَاحُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَكَرِهَهُ بَعْضُ السَّلَفِ. فَإِذَا عُلِمَ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، فَكُلُّ مَا يَحْرُمُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ نَظِيرُهُ، فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَاتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَإِنْ عَلَوْنَ، وَبَنَاتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَإِنْ سَفُلْنَ، وَأَخَوَاتَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَبَنَاتِ أَخَوَاتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَعَمَّاتِهِ وَخَالَاتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَإِنْ عَلَوْنَ دُونَ بَنَاتِهِنَّ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَرْضَعَتْ طِفْلًا الرَّضَاعَ الْمُعْتَبَرَ فِي الْمُدَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ، صَارَتْ أُمًّا لَهُ بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ، فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ هِيَ وَأُمَّهَاتُهَا، وَإِنْ عَلَوْنَ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، وَتَصِيرُ بَنَاتُهَا كُلُّهُنَّ أَخَوَاتٍ لَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَيَحْرُمْنَ عَلَيْهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ؛ وَبَقِيَّةُ التَّحْرِيمِ مِنَ الرَّضَاعَةِ اسْتُفِيدَ مِنَ السُّنَّةِ، كَمَا اسْتُفِيدَ مِنَ السُّنَّةِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ لَا يَخْتَصُّ بِالْأُخْتَيْنِ، بَلِ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَالْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا كَذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ أَوْلَادُ الْمُرْضِعَةِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ إِخْوَةً لِلْمُرْتَضِعِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُ إِخْوَتِهِ أَيْضًا، وَقَدِ امْتَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَزْوِيجِ ابْنَةِ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ، وَعَلَّلَ

بِأَنَّ أَبَوَيْهِمَا كَانَا أَخَوَيْنِ لَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ. وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَخَوَاتُ الْمُرْضِعَةِ، لِأَنَّهُنَّ خَالَاتُهُ، وَيَنْتَشِرُ التَّحْرِيمُ أَيْضًا إِلَى الْفَحْلِ صَاحِبِ اللَّبَنِ الَّذِي ارْتَضَعَ مِنْهُ الطِّفْلُ، فَيَصِيرُ صَاحِبُ اللَّبَنِ أَبًا لِلطِّفْلِ، وَتَصِيرُ أَوْلَادُهُ كُلُّهُمْ مِنَ الْمُرْضِعَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ إِخْوَةً لِلْمُرْتَضِعِ وَيَصِيرُ إِخْوَتُهُ أَعْمَامًا لِلطِّفْلِ الْمُرْتَضِعِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ مَا «رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أَبَا الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ، قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: ائْذَنِي لَهُ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ، وَكَانَ أَبُو الْقُعَيْسِ زَوْجَ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْضَعَتْ عَائِشَةَ» . خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " بِمَعْنَاهُ. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَتَانِ، أَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا جَارِيَةً وَالْأُخْرَى غُلَامًا أَيَحِلُّ لِلْغُلَامِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْجَارِيَةَ، فَقَالَ: لَا، اللِّقَاحُ وَاحِدٌ. وَلَوْ كَانَ اللَّبَنُ الَّذِي ارْتَضَعَ بِهِ الطِّفْلُ قَدْ ثَابَ لِلْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ وَطْءِ فَحْلٍ بِأَنْ تَكُونَ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا قَدْ ثَابَ لَهَا لَبَنٌ أَوْ هِيَ بِكْرٌ أَوْ آيِسَةٌ، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الرَّضَاعَ بِهِ، وَتَصِيرُ الْمُرْضِعَةُ أُمًّا لِلطِّفْلِ، وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعًا عَمَّنْ يَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ. وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ الْمَنْصُوصِ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَشِرُ التَّحْرِيمُ

بِهِ بِحَالٍ حَتَّى يَكُونَ لَهُ فَحْلٌ يُدِرُّ اللَّبَنَ مِنْ رَضَاعِهِ. وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ مِثْلُهَ. وَلَوِ انْقَطَعَ نَسَبُهُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ اللَّبَنِ، كَوَلَدِ الزِّنَا، فَهَلْ تَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ إِلَى الزَّانِي صَاحِبِ اللَّبَنِ؟ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْبِنْتَ مِنَ الزِّنَا هَلْ تَحْرُمُ عَلَى الزَّانِي؟ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَبَالَغَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، فَعَلَى قَوْلِهِمْ: هَلْ يَنْتَشِرُ التَّحْرِيمُ إِلَى الزَّانِي صَاحِبِ اللَّبَنِ، فَيَكُونُ أَبًا لِلْمُرْتَضِعِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا، وَاخْتَارَ ابْنُ حَامِدٍ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَنْتَشِرُ إِلَيْهِ، وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ يَنْتَشِرُ إِلَى الزَّانِي، وَهُوَ نَصُّ أَحْمَدَ، وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، نَقَلَهُ عَنْهُ حَرْبٌ. وَيَنْتَشِرُ التَّحْرِيمُ بِالرَّضَاعِ إِلَى مَا حُرِّمَ بِالنَّسَبِ مَعَ الصِّهْرِ: أَمَّا مِنْ جِهَةِ نَسَبِ الرَّجُلِ، كَامْرَأَةِ أَبِيهِ وَابْنِهِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ نَسَبِ الزَّوْجَةِ، كَأُمِّهَا وَابْنَتِهَا، وَإِلَى مَا حُرِّمَ جَمْعُهُ لِأَجْلِ نَسَبِ الْمَرْأَةِ أَيْضًا، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَالْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، فَيَحْرُمُ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الرَّضَاعِ كَمَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، لِدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» . وَتَحْرُمُ هَذَا كُلُّهُ لِلنَّسَبِ، فَبَعْضُهُ لَنَسَبَ الزَّوْجِ وَبَعْضُهُ لِنَسَبِ الزَّوْجَةِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ، وَلَا يُعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَاسْتَدَلَّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» . وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23] [النِّسَاءِ: 23] ، فَقَالُوا: لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ حَلَائِلُ الْأَبْنَاءِ مِنَ الرَّضَاعِ، إِنَّمَا أَرَادَ إِخْرَاجَ حَلَائِلِ الَّذِينَ تُبُنُّوا، وَلَمْ يَكُونُوا أَبْنَاءً مِنَ النَّسَبِ كَمَا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوْجَةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ. وَهَذَا التَّحْرِيمُ بِالرَّضَاعِ يَخْتَصُّ بِالْمُرْتَضِعِ نَفْسِهِ، وَيَنْتَشِرُ إِلَى أَوْلَادِهِ، وَلَا يَنْتَشِرُ تَحْرِيمُهُ إِلَى مَنْ فِي دَرَجَةِ الْمُرْتَضِعِ مِنْ إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ وَلَا إِلَى مَنْ هُوَ

أَعْلَى مِنْهُ مِنْ آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ وَأَعْمَامِهِ وَعَمَّاتِهِ وَأَخْوَالِهِ وَخَالَاتِهِ، فَتُبَاحُ الْمُرْضِعَةُ نَفْسُهَا لِأَبِي الْمُرْتَضِعِ مِنَ النَّسَبِ وَلِأَخِيهِ، وَتُبَاحُ أُمُّ الْمُرْتَضِعِ وَأُخْتُهُ مِنْهُ لِأَبِي الْمُرْتَضِعِ مِنَ الرَّضَاعِ وَلِأَخِيهِ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالُوا: يُبَاحُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَأُخْتَ ابْنَتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، حَتَّى قَالَ الشَّعْبِيُّ: هِيَ أَحِلُّ مِنْ مَاءِ قَدَسٍ، وَصَرَّحَ بِإِبَاحَتِهَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَأَحْمَدُ. وَرَوَى أَشْعَثُ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِنْتَ ظِئْرِ ابْنِهِ، وَيَقُولُ: أُخْتُ ابْنِهِ، وَلَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا، يَعْنِي: ظِئْرَ ابْنِهِ، وَرَوَى سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ أُخْتَ أَخِيهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمْ يَقُلْ فِيهِ شَيْئًا، وَهَذَا يَقْتَضِي تَوَقُّفَهُ فِيهِ، وَلَعَلَّ الْحَسَنَ إِنَّمَا كَانَ يَكْرَهُ ذَلِكَ تَنْزِيهًا، لَا تَحْرِيمًا، لِمُشَابَهَتِهِ لِلْمُحَرَّمِ بِالنَّسَبِ فِي الِاسْمِ، وَهَذَا بِمُجَرَّدِهِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا. وَقَدِ اسْتَثْنَى كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ صُورَتَيْنِ، فَقَالُوا: لَا يَحْرِمُ نَظِيرُهَا مِنَ الرَّضَاعِ: إِحْدَاهُمَا: أُمُّ الْأُخْتِ، فَتَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَلَا تَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ. وَالثَّانِيَةُ: أُخْتُ الِابْنِ، فَتَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ دُونَ الرَّضَاعِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى اسْتِثْنَاءِ هَذَيْنِ وَلَا أَحَدِهِمَا. أَمَّا أُمُّ الْأُخْتِ، فَإِنَّمَا تَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، لِكَوْنِهَا أُمًّا أَوْ زَوْجَةَ أَبٍ، لَا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا أُمَّ أُخْتٍ، فَلَا يُعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِمَا لَمْ يُعَلِّقْهُ اللَّهُ بِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيُوجَدُ فِي الرَّضَاعِ مَنْ هِيَ أُمُّ أُخْتٍ لَيْسَتْ أُمًّا وَلَا زَوْجَةَ أَبٍ، فَلَا تَحْرُمُ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ نَظِيرًا لَذَّاتِ النَّسَبِ، وَأَمَّا أُخْتُ الِابْنِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا حَرَّمَ الرَّبِيبَةَ الْمَدْخُولَ بِأُمِّهَا، فَتَحْرُمُ لِكَوْنِهَا رَبِيبَةً دَخَلَ بِأُمِّهَا، لَا لِكَوْنِهَا أُخْتَ ابْنِهِ، وَالدُّخُولُ فِي

الرَّضَاعِ مُنْتَفٍ فَلَا يَحْرُمُ بِهِ أَوْلَادُ الْمُرْضِعَةِ. وَمِمَّا قَدْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» : لَوْ ظَاهَرَ مِنَ امْرَأَتِهِ، فَشَبَّهَهَا بِمُحَرَّمَةٍ مِنَ الرَّضَاعِ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي مِنَ الرَّضَاعِ، فَهَلْ يَثْبُتُ بِذَلِكَ تَحْرِيمُ الظِّهَارِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الظِّهَارِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَعُثْمَانُ التَّيْمِيُّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ. وَالثَّانِي: لَا يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ.

[الحديث الخامس والأربعون إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام]

[الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ]

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ. عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتِلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمِ الشُّحُومَ، فَأَجْمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ يَزِيدَ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ عَطَاءٌ، فَذَكَرَهُ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: لَا أَعْلَمُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ سَمِعَ مِنْ عَطَاءٍ شَيْئًا، يَعْنِي أَنَّهُ إِنَّمَا يَرْوِي عَنْهُ كِتَابَهُ، وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَلَغَ عُمَرُ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» . وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ: «وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ أَكْلَ شَيْءٍ، حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ» ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَلَفْظُهُ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ يَهُودًا، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا ثَمَنَهَا» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «لَمَّا أُنْزِلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاقْتَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ نَهَى عَنِ التِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا، خَرَجَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ» . وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَا يَشْرَبْ وَلَا يَبِعْ. فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، فَسَفَكُوهَا» . وَخَرَّجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَسَارَّ إِنْسَانًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَ سَارَرْتَهُ؟ قَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، قَالَ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا، قَالَ: فَفُتِحَ الْمَزَادُ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا.» فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا أَنَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ الِانْتِفَاعَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُهُ وَأَكْلُ ثَمَنِهِ، كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ» ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ عَامَّةٌ جَامِعَةٌ تُطْرَدُ فِي كُلِّ مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَرَامًا، وَهُوَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ حَاصِلًا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، كَالْأَصْنَامِ، فَإِنَّ مَنْفَعَتَهَا الْمَقْصُودَةَ مِنْهَا الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْمَعَاصِي عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ مُحَرَّمَةٌ، كَكُتُبِ الشِّرْكِ وَالسِّحْرِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالِ، وَكَذَلِكَ الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ، وَآلَاتُ الْمَلَاهِي الْمُحَرَّمَةِ كَالطُّنْبُورِ، وَكَذَلِكَ شِرَاءُ الْجَوَارِي لِلْغِنَاءِ.

وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيرَ وَالْكَنَّارَاتِ - يَعْنِي الْبَرَابِطَ وَالْمَعَازِفَ - وَالْأَوْثَانَ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَقْسَمَ رَبِّي بِعِزَّتِهِ لَا يَشْرَبُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي جُرْعَةً مِنْ خَمْرٍ إِلَّا سَقَيْتُهُ مَكَانَهَا مِنْ حَمِيمِ جَهَنَّمَ، مُعَذَّبًا أَوْ مَغْفُورًا لَهُ، وَلَا يَسْقِيهَا صَبِيًّا صَغِيرًا إِلَا سَقَيْتُهُ مَكَانَهَا مِنْ حَمِيمِ جَهَنَّمَ مُعَذَّبًا أَوْ مَغْفُورًا لَهُ، وَلَا يَدَعُهَا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي مِنْ مَخَافَتِي إِلَّا سَقَيْتُهَا إِيَّاهُ فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ، وَلَا يَحُلُّ بَيْعُهُنَّ وَلَا شِرَاؤُهُنَّ، وَلَا تَعْلِيمُهُنَّ، وَلَا تِجَارَةَ فِيهِنَّ، وَأَثْمَانُهُنَّ حَرَامٌ» [يَعْنِي] الْمُغَنِّيَاتِ. وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَفْظُهُ: «لَا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ، وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ، وَلَا خَيْرَ فِي تِجَارَةٍ فِيهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ» ، فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] [لُقْمَانَ: 6] الْآيَةَ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا، وَفِي إِسْنَادِ الْحَدِيثِ مُقَالٌ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ بِإِسْنَادَيْنِ فِيهِمَا ضَعْفٌ أَيْضًا. وَمَنْ يُحَرِّمُ الْغِنَاءَ كَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ، فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ: إِذَا بِيعَتِ الْأَمَةُ الْمُغَنِّيَةُ، تُبَاعُ عَلَى أَنَّهَا سَاذَجَةً، وَلَا يُؤْخَذُ لِغِنَائِهَا ثَمَنٌ، وَلَوْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ لِيَتِيمٍ، وَنَصَّ ذَلِكَ أَحْمَدُ، وَلَا يَمْنَعُ الْغِنَاءُ مِنْ أَصْلِ بَيْعِ الْعَبْدِ وَالْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي غَيْرِ الْغَنَاءِ حَاصِلٌ بِالْخِدْمَةِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الرَّقِيقِ. نَعَمْ، لَوْ عُلِمَ

أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَشْتَرِيهِ إِلَّا لِلْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْهُ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لَهُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَلَا بَيْعُ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ، وَلَا بَيْعُ الرَّيَاحِينِ وَالْأَقْدَاحِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرَ، أَوِ الْغُلَامُ لِمَنْ يُعْلَمُ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ إِتْلَافِ عَيْنِهِ فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْهُ مُحَرَّمًا، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُهُ كَمَا يَحْرُمُ بَيْعُ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ، مَعَ أَنَّ فِي بَعْضِهَا مَنَافِعَ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَدَفْعِ الْغُصَّةِ بِالْخَمْرِ، وَإِطْفَاءِ الْحَرِيقِ بِهِ، وَالْخَرَزِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَالِانْتِفَاعِ بِشَعْرِهِ وَجِلْدِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَنَافِعُ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ، لَمْ يُعْبَأْ بِهَا، وَحَرُمَ الْبَيْعُ بِكَوْنِ الْمَقْصُودِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ أَكْلَهُمَا، وَمِنَ الْخَمْرِ شُرْبَهَا، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى مَا عَدَا ذَلِكَ، وَقَدْ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى لَمَّا قِيلَ لَهُ: «أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيُسْتَصْبَحُ بِهَا النَّاسُ، فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ» . وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ حَرَامٌ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَرَادَ أَنَّ هَذَا الِانْتِفَاعَ الْمَذْكُورَ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ حَرَامٌ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِلْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْمَيْتَةِ، حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا مُبَاحًا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ أَرَادَ أَنَّ بَيْعَهَا حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْتَفِعُ بِهَا لِهَذِهِ الْوُجُوهِ، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنَ الشُّحُومِ هُوَ الْأَكْلُ، فَلَا يُبَاحُ بَيْعُهَا لِذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الِانْتِفَاعِ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ، فَرَخَّصَ فِيهَا عَطَاءٌ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، إِلَّا أَنَّ إِسْحَاقَ قَالَ: إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا إِذَا وُجِدَ عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ فَلَا، وَقَالَ أَحْمَدُ: يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَمَسُّهُ بِيَدِهِ،

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِجْمَاعًا عَنْ غَيْرِ عَطَاءٍ. وَأَمَّا الْأَدْهَانُ الطَّاهِرَةُ إِذَا تَنَجَّسَتْ بِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ، فَفِي جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِالِاسْتِصْبَاحِ وَنَحْوِهِ اخْتِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. وَأَمَّا بَيْعُهَا، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ: يَجُوزُ بَيْعُهَا مِنْ كَافِرٍ، وَيُعْلَمُ بِنَجَاسَتِهَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ جَوَازَ بَيْعِهَا عَلَى جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهَا وَهُوَ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِنَصِّ أَحْمَدَ بِالتَّفْرِقَةِ، فَإِنَّ شُحُومَ الْمَيْتَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِطَهَارَتِهَا بِالْغَسْلِ، فَيَكُونُ - حِينَئِذٍ - كَالثَّوْبِ الْمُتَمَضِّخِ بِنَجَاسَةٍ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ مَنْعُ بَيْعِهَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ بِأَنَّ الدُّهْنَ الْمُتَنَجِّسَ فِيهِ مَيْتَةٌ، وَالْمَيْتَةُ لَا يُؤْكَلُ ثَمَنُهَا. وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ، فَمَا حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ مِنْهَا، جَازَ بَيْعُهُ، لِجَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَهَذَا كَالشِّعْرِ وَالْقَرْنِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِطَهَارَتِهِمَا، وَكَذَلِكَ الْجِلْدُ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ طَاهِرٌ بِغَيْرِ دِبَاغٍ، كَمَا حُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَتَبْوِيبُ الْبُخَارِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: «إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا» . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الَّذِينَ يَرَوْنَ نَجَاسَةَ الْجِلْدِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، فَأَكْثَرُهُمْ مَنَعُوا مِنْ بَيْعِهِ حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ وَشَذَّ بَعْضُهُمْ، فَأَجَازَ بَيْعَهُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ، وَلَكِنَّ الثَّوْبَ طَاهِرٌ طَرَأَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ، وَجِلْدُ الْمَيْتَةِ جُزْءٌ مِنْهَا، وَهُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ. وَقَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: هَلْ

بَيْعُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ إِلَّا كَأَكْلِ لَحْمِهَا؟ وَكَرِهَهُ طَاوُسٌ، وَعِكْرِمَةُ وَقَالَ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَبِيعُوهَا، فَيَأْكُلُونَ أَثْمَانَهَا. وَأَمَّا إِذَا دُبِغَتْ، فَمَنْ قَالَ بِطَهَارَتِهَا بِالدَّبْغِ، أَجَازَ بَيْعَهَا، وَمَنْ لَمْ يَرَ طَهَارَتَهَا بِذَلِكَ، لَمْ يُجِزْ بَيْعَهَا، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ الْقَمْحِ إِذَا كَانَ فِيهِ بَوْلُ الْحِمَارِ حَتَّى يُغْسَلَ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بَيْعَهُ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ بِحَالِهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَهُ وَلَا يَعْلَمَ نَجَاسَتَهُ. وَأَمَّا الْكَلْبُ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «شَرُّ الْكَسْبِ مَهْرُ الْبَغِيِّ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ» . وَفِيهِ عَنْ مَعْقِلٍ الْجَزَرِيِّ «عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ، فَقَالَ: زَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ» . وَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ. وَقَدِ اسْتَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رِوَايَاتِ مَعْقِلٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَقَالَ: هِيَ تُشْبِهُ أَحَادِيثَ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَقَدْ تَتَبَّعَ ذَلِكَ، فَوَجَدَ كَمَا قَالَهُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي بَيْعِ الْكَلْبِ، فَأَكْثَرُهُمْ حَرَّمُوهُ، مِنْهُمُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ أَبُو

هُرَيْرَةَ: هُوَ سُحْتٌ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: هُوَ أَخْبَثُ الْكَسْبِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: مَا أُبَالِي ثَمَنُ كَلْبٍ أَكَلْتُ أَوْ ثَمَنُ خِنْزِيرٍ. وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ مَآخِذُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ بَيْعِهَا لِنَجَاسَتِهَا، وَهَؤُلَاءِ الْتَزَمُوا تَحْرِيمَ بَيْعِ كُلِّ نَجِسِ الْعَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَوَافَقَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، كَابْنِ عَقِيلٍ " فِي نَظَرِيَّاتِهِ " وَغَيْرِهِ، وَالْتَزَمُوا أَنَّ الْبَغْلَ وَالْحِمَارَ إِنَّمَا نُجِيزُ بَيْعَهُمَا إِذَا لَمْ نَقُلَ بِنَجَاسَتِهِمَا، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَلْبَ لَمْ يُبَحِ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَاقْتِنَاؤُهُ مُطْلَقًا كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ اقْتِنَاؤُهُ لِحَاجَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَذَلِكَ لَا يُبِيحُ بَيْعُهُ كَمَا لَا يُبِيحُ الضَّرُورَةَ إِلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ بَيْعُهُمَا، وَهَذَا مَأْخَذُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ بَيْعِهِ لِخِسَّتِهِ وَمَهَانَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ إِلَّا عِنْدَ ذَوِي الشُّحِّ وَالْمَهَانَةِ، وَهُوَ مُتَيَسِّرُ الْوُجُودِ، فَنُهِيَ عَنْ أَخْذِ ثَمَنِهِ تَرْغِيبًا فِي الْمُوَاسَاةِ بِمَا يَفْضُلُ مِنْهُ عَنِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا مَأْخَذُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ، وَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ السِّنَّوْرِ. وَرَخَّصَتْ طَائِفَةٌ فِي بَيْعِ مَا يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ مِنَ الْكِلَابِ، كَكَلْبِ الصَّيْدِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالُوا: إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ بَيْعِ مَا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ مِنْهَا. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ، إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ» ، خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ،

وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَقَالَ أَيْضًا: لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيَّ أَنَّ الصَّحِيحَ وَقَفَهُ عَلَى جَابِرٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُخْصَةٌ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ، وَأَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ، فَظَنَّهُ مِنَ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الِاقْتِنَاءِ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِي رِوَايَاتِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ - كَمَا ظَنَّهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ - فَقَدْ أَخْطَأَ، لِأَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يُخَرِّجْ لِحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ شَيْئًا، وَقَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِ " التَّمْيِيزِ " أَنَّ رِوَايَاتِهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ شُيُوخِهِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ غَيْرُ قَوِيَّةٍ. فَأَمَّا بَيْعُ الْهِرِّ، فَقَدِ اخْتُلِفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَقَالَ: هُوَ أَهْوَنُ مِنْ جُلُودِ السِّبَاعِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَرُخِّصَ فِي بَيْعِ الْهِرِّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَعَنْ إِسْحَاقَ رِوَايَتَانِ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَهَا، وَرَخَّصَ فِي شِرَائِهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا. وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُصَحِّحِ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِهَا قَالَ أَحْمَدُ: مَا أَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا يَثْبُتُ أَوْ يَصِحُّ، وَقَالَ أَيْضًا: الْأَحَادِيثُ فِيهِ مُضْطَرِبَةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى مَا لَا نَفْعَ فِيهِ كَالْبَرِّيِّ وَنَحْوِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ بَيْعِهَا، لِأَنَّهُ دَنَاءَةٌ وَقِلَّةُ مُرُوءَةٍ، لِأَنَّهَا مُتَيَسِّرَةُ

الْوُجُودِ، وَالْحَاجَةُ إِلَيْهَا دَاعِيَةٌ، فَهِيَ مِنْ مَرَافِقِ النَّاسِ الَّتِي لَا ضَرَرَ عَلَيْهِمْ فِي بَذْلِ فَضْلِهَا، فَالشُّحُّ بِذَلِكَ مِنْ أَقْبَحِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْ أَخْذِ ثَمَنِهَا. وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لا تُؤْكَلُ، فَمَا نَفَعَ فِيهِ كَالْحَشَرَاتِ وَنَحْوِهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَمَا يُذْكَرُ مِنْ نَفْعٍ فِي بَعْضِهَا، فَهُوَ قَلِيلٌ، فَلَا يَكُونُ مُبِيحًا لِلْبَيْعِ، كَمَا لَمْ يُبِحِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الْمَيْتَةِ لِمَا ذُكِرَ لَهُ مَا فِيهَا مِنَ الِانْتِفَاعِ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ الْعَلْقُ لِمَصِّ الدَّمِ، وَلَا الدِّيدَانُ لِلِاصْطِيَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا فِيهِ نَفْعٌ لِلِاصْطِيَادِ مِنْهَا، كَالْفَهْدِ وَالْبَازِيِّ وَالصَّقْرِ، فَحَكَى أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ بَيْعَهَا، وَذَكَرَ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَتَأَوَّلَ رِوَايَةَ الْكَرَاهَةَ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي " الْمُجَرَّدِ "، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْفَهْدِ وَالنَّسْرِ، وَحَكَى فِيهِ وَجْهًا آخَرَ بِالْجَوَازِ، وَأَجَازَ بَيْعَ الْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ، وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى. وَأَجَازَ بَيْعَ الصَّقْرِ وَالْبَازِيِّ وَالْعُقَابِ وَنَحْوِهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ: الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ جَوَازُ بَيْعِهَا، وَتَوَقَّفَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي جَوَازِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُعَلَّمَةً، قَالَ الْخَلَّالُ: الْعَمَلُ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِكُلِّ حَالٍ. وَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْفِيلَ حُكْمَهُ حُكْمَ الْفَهْدِ وَنَحْوِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ لَا يَحُلُّ بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ، وَجَعَلَهُ كَالسَّبُعِ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُرْكَبُ ظَهْرُهُ، وَقَالَ: هُوَ مَسْخٌ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدُّبِّ، قَالَهُ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ "، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: يَجُوزُ بَيْعُ الْقِرْدِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ

الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " إِنْ كَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ، لِحِفْظِ الْمَتَاعِ، فَهُوَ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِيِّ، وَإِلَّا فَهُوَ كَالْأَسَدِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَهَذِهِ الْمَنْفَعَةُ يَسِيرَةٌ، وَلَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ، فَلَا تُبِيحُ الْبَيْعَ كَمَنَافِعِ الْمَيْتَةِ. وَمِمَّا نُهِيَ عَنْ بَيْعِهِ جِيَفُ الْكُفَّارِ إِذَا قُتِلُوا، خَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأُعْطُوا بِجِيفَتِهِ مَالًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْفَعُوا إِلَيْهِمْ جِيفَتَهُ، فَإِنَّهُ خَبِيثُ الْجِيفَةِ، خَبِيثُ الدِّيَةِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا» . وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَفْظُهُ: «إِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَرَادُوا أَنْ يَشْتَرُوا جَسَدَ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَبَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَهُمْ» . وَخَرَّجَهُ وَكِيعٌ فِي كِتَابِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا، ثُمَّ قَالَ وَكِيعٌ: الْجِيفَةُ لَا تُبَاعُ. وَقَالَ حَرْبٌ: قُلْتُ لِإِسْحَاقَ: مَا تَقُولُ فِي بَيْعِ جِيَفِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: لَا. وَرَوَى أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِالْمُسْتَوْرِدِ الْعِجْلِيِّ وَقَدْ تَنَصَّرَ، فَاسْتَتَابَهُ فَأَبَى أَنْ يَتُوبَ، فَقَتَلَهُ، فَطَلَبَتِ النَّصَارَى جِيفَتَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَأَبَى عَلِيٌّ فَأَحْرَقَهُ.

[الحديث السادس والأربعون كل مسكر حرام]

[الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ]

الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ. عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، «عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ تُصْنَعُ بِهَا، فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: الْبِتْعُ وَالْمِزْرُ، فَقِيلَ لِأَبِي بُرْدَةَ: وَمَا الْبِتْعُ؟ قَالَ: نَبِيذُ الْعَسَلِ، وَالْمِزْرُ نَبِيذُ الشَّعِيرِ، فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَلَفْظُهُ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَمُعَاذٌ إِلَى الْيَمَنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ شَرَابًا يُصْنَعُ بِأَرْضِنَا يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ مِنَ الشَّعِيرِ، وَشَرَابٌ يُقَالُ لَهُ: الْبِتْعُ مِنَ الْعَسَلِ، فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: فَقَالَ: «كُلُّ مَا أَسْكَرَ عَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ حَرَامٌ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِي جَوَامِعَ الْكَلِمِ بِخَوَاتِمِهِ فَقَالَ: «أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ أَسْكَرَ عَنِ الصَّلَاةِ» . فَهَذَا الْحَدِيثُ أَصِلٌ فِي تَحْرِيمِ تَنَاوُلِ جَمِيعِ الْمُسْكِرَاتِ، الْمُغَطِّيَةِ لِلْعَقْلِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعِلَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِتَحْرِيمِ الْمُسْكِرَاتِ، وَكَانَ أَوَّلُ مَا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ عِنْدَ حُضُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَمَّا صَلَّى بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ وَقَرَأَ فِي صَلَاتِهِ، فَخَلَطَ فِي قِرَاءَتِهِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] [النِّسَاءِ: 43] ، وَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يُنَادِي لَا يَقْرَبُ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90 - 91] [الْمَائِدَةِ: 90 - 91] . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَهُوَ الْقِمَارُ، وَهُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يُوقِعُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، فَإِنَّ مَنْ سَكِرَ اخْتَلَّ عَقْلُهُ، فَرُبَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى أَذَى النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَرُبَّمَا بَلَغَ إِلَى الْقَتْلِ، وَهِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ، فَمَنْ شَرِبَهَا قَتَلَ النَّفْسَ وَزَنَا، وَرُبَّمَا كَفَرَ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا أَيْضًا. وَمَنْ قَامَرَ فَرُبَّمَا قُهِرَ، وَأُخِذَ مَالُهُ قَهْرًا، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ، فَيَشْتَدُّ حِقْدُهُ عَلَى مَنْ أَخَذَ مَالَهُ. وَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى إِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ كَانَ حَرَامًا، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَصُدُّ بِالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ السَّكْرَانَ يَزُولُ عَقْلُهُ أَوْ يَخْتَلُّ، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ، وَلَا أَنْ يُصَلِّيَ، وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ تَمُرُّ عَلَيْهِ سَاعَةٌ لَا يَعْرِفُ فِيهَا رَبَّهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَعْرِفُوهُ، وَيَذْكُرُوهُ، وَيَعْبُدُوهُ، وَيُطِيعُوهُ، فَمَا أَدَّى إِلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ ذَلِكَ، وَحَالَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ مَعْرِفَةِ رَبِّهِ وَذِكْرِهِ وَمُنَاجَاتِهِ، كَانَ مُحَرَّمًا، وَهُوَ السُّكْرُ، وَهَذَا بِخِلَافِ النُّوَّمِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَبَلَ الْعِبَادَ عَلَيْهِ، وَاضْطَرَّهُمْ إِلَيْهِ، وَلَا قِوَامَ لِأَبْدَانِهِمْ إِلَّا بِهِ، إِذْ هُوَ رَاحَةٌ لَهُمْ مِنَ السَّعْيِ وَالنَّصَبِ، فَهُوَ مِنْ

أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَإِذَا نَامَ الْمُؤْمِنُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَدُعَائِهِ، كَانَ نَوْمُهُ عَوْنًا لَهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: إِنِّي أَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي. وَكَذَلِكَ الْمَيْسِرُ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَعْكُفُ بِقَلْبِهِ عَلَيْهِ، وَيَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ مَصَالِحِهِ وَمُهِمَّاتِهِ حَتَّى لَا يَكَادَ يَذْكُرُهَا لِاسْتِغْرَاقِهِ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ لَمَّا مَرَّ عَلَى قَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟ فَشَبَّهَهُمْ بِالْعَاكِفِينَ عَلَى التَّمَاثِيلِ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مُدْمِنَ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ» ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بِهَا، فَلَا يَكَادُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَعَهَا كَمَا لَا يَدَعُ عَابِدُ الْوَثَنِ عِبَادَتَهُ. وَهَذَا كُلُّهُ مُضَادٌّ لِمَا خَلَقَ اللَّهُ الْعِبَادَ لِأَجْلِهِ مِنْ تَفْرِيغِ قُلُوبِهِمْ لِمَعْرِفَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَخَشْيَتِهِ، وَذِكْرِهِ، وَمُنَاجَاتِهِ، وَدُعَائِهِ، وَالِابْتِهَالِ إِلَيْهِ، فَمَا حَالَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنِ بِالْعَبْدِ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ، بَلْ كَانَ ضَرَرًا مَحْضًا عَلَيْهِ، كَانَ مُحَرَّمًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ رَآهُمْ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ: مَا لِهَذَا خُلِقْتُمْ. وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمَيْسِرَ مُحَرَّمٌ، سَوَاءٌ كَانَ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَإِنَّ الشِّطْرَنْجَ كَالنَّرْدِ أَوْ شَرٌّ مِنْهُ، لِأَنَّهَا تَشْغَلُ أَصْحَابَهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ

الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِنَ النَّرْدِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَكُلُّ مَا أَسْكَرَ عَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ حَرَامٌ» . وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَّجَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: «وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْبِتْعِ، فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَقَدْ صَحَّحَ هَذَا الْحَدِيثَ أَحْمَدُ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَصْحَابُهُ وَاحْتَجَّا بِهِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَأَنَّهُ أَثْبَتُ شَيْءٍ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ. وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ مِنْ طَعْنِهِ فِيهِ، فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ عَنْهُ. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ

مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ مِمَّا اجْتَمَعَ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ كُلُّهُمْ. وَخَالَفَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْخَمْرَ إِنَّمَا هِيَ خَمْرُ الْعِنَبِ خَاصَّةً، وَمَا عَدَاهَا، فَإِنَّمَا يَحْرُمُ مِنْهُ الْقَدْرُ الَّذِي يُسْكِرُ، وَلَا يَحْرُمُ مَا دُونَهُ، وَمَا زَالَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي ذَلِكَ مُجْتَهِدِينَ مَغْفُورًا لَهُمْ، وَفِيهِمْ خَلْقٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَا وَجَدْتُ فِي النَّبِيذِ رُخْصَةً عَنْ أَحَدٍ صَحِيحٍ إِلَّا عَنْ إِبْرَاهِيمَ، يَعْنِي النَّخَعِيَّ، وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ يَصِحُّ، وَقَدْ صَنَّفَ كِتَابَ " الْأَشْرِبَةِ " وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الرُّخْصَةِ، وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَذَكَرَ فِيهِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ إِنْكَارَهُ، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ لَمْ تَجْعَلْ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ الرُّخْصَةَ كَمَا جَعَلَتْ فِي الْمَسْحِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الرُّخْصَةِ فِي السُّكْرِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ إِنَّمَا نَزَلَ فِي الْمَدِينَةِ بِسَبَبِ سُؤَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَمَّا عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَشْرِبَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بِهَا خَمْرُ الْعِنَبِ، فَلَوْ لَمْ

تَكُنْ آيَةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ شَامِلَةً لِمَا عِنْدَهُمْ، لَمَا كَانَ فِيهَا بَيَانٌ لِمَا سَأَلُوا عَنْهُ، وَلَكَانَ مَحَلُّ السَّبَبِ خَارِجًا مِنْ عُمُومِ الْكَلَامِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَلَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ أَرَاقُوا مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَشْرِبَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّهُ مِنَ الْخَمْرِ الْمَأْمُورِ بِاجْتِنَابِهِ. وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ خَمْرَ الْأَعْنَابِ إِلَّا قَلِيلًا، وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَأَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ، وَأَبَا دُجَانَةَ، وَسُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ خَلِيطَ بُسْرٍ وَتَمْرٍ إِذْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، فَقَذَفْتُهَا، وَأَنَا سَاقِيهِمْ وَأَصْغَرُهُمْ، وَإِنَّا نَعُدُّهَا يَوْمَئِذٍ الْخَمْرَ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ قَالَ: مَا كَانَ لَنَا خَمْرٌ غَيْرَ فَضِيخِكُمْ هَذَا الَّذِي تُسَمُّونَهُ الْفَضِيخَ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْهُ قَالَ: «لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ الَّتِي حَرَّمَ فِيهَا الْخَمْرَ، وَمَا بِالْمَدِينَةِ شَرَابٌ يُشْرَبُ إِلَّا مِنْ تَمْرٍ» . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذَ لَخَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ مَا مِنْهَا شَرَابُ الْعِنَبِ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسٍ: الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ

وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ: مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ - أَصَحُّ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ. وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: مَا خَمَّرْتَهُ فَعَتَّقْتَهُ، فَهُوَ خَمْرٌ، وَأَنَّى كَانَتْ لَنَا الْخَمْرُ خَمْرَ الْعِنَبِ. وَفِي " مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ قَالَ: «سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الشُّرْبِ فِي الْأَوْعِيَةِ فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُزَفَّتَةِ وَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ قُلْتُ لَهُ: صَدَقْتَ السُّكْرُ حَرَامٌ، فَالشَّرْبَةُ وَالشَّرْبَتَانِ عَلَى طَعَامِنَا؟ قَالَ: الْمُسْكِرُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ» وَقَالَ: «الْخَمْرُ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، فَمَا خَمَّرْتَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الْخَمْرُ» ، خَرَّجَهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ: سَمِعْتُ الْمُخْتَارَ بْنَ فُلْفُلٍ يَقُولُ فَذَكَرَهُ، وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلَةُ وَالْعِنَبَةُ» ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ خَمْرٌ. وَجَاءَ التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، كَمَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ

مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ الْفَرْقُ، فَمَلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «الْحَسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ» ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَذَهَبَ إِلَيْهِ. وَسُئِلَ عَمَّنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ مُغْلٍ، يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ غَلَا فِي مَقَالَتِهِ. وَقَدْ خَرَّجَ النَّسَائِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَرَوَى ابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنِي أَبُو وُهَيْبٍ الْجَيْشَانِيُّ، «عَنْ وَفْدِ أَهْلِ الْيَمَنِ أَنَّهُمْ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلُوهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ تَكُونُ بِالْيَمَنِ، قَالَ: فَسَمَّوْا لَهُ الْبِتْعَ مِنَ الْعَسَلِ، وَالْمِزْرَ مِنَ الشَّعِيرِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تَسْكَرُونَ مِنْهَا؟ قَالُوا: إِنْ أَكْثَرْنَا سَكِرْنَا، قَالَ: فَحَرَامٌ قَلِيلُهُ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ» خَرَّجَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ. وَقَدْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ تَحْتَجُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» عَلَى تَحْرِيمِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُسْكِرَاتِ، مَا كَانَ مَوْجُودًا مِنْهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا حَدَثَ بَعْدَهُ، كَمَا سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْبَاذِقِ، فَقَالَ: سَبَقَ مُحَمَّدٌ الْبَاذِقَ، فَمَا أَسْكَرَ،

فَهُوَ حَرَامٌ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُسْكِرًا، فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ الْعَامَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسْكِرَ الْمُزِيلَ لِلْعَقْلِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ فِيهِ لَذَّةٌ وَطَرَبٌ، فَهَذَا هُوَ الْخَمْرُ الْمُحَرَّمُ شُرْبُهُ، وَفِي " الْمُسْنَدِ " «عَنْ طَلْقٍ الْحَنَفِيِّ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَرَى فِي شَرَابٍ نَصْنَعُهُ بِأَرْضِنَا مِنْ ثِمَارِنَا؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَائِلٌ عَنِ الْمُسْكِرِ؟ فَلَا تَشْرَبْهُ، وَلَا تَسْقِهِ أَخَاكَ الْمُسْلِمَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - أَوْ بِالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ - لَا يَشْرَبُهُ رَجُلٌ ابْتِغَاءَ لَذَّةِ سُكْرِهِ، فَيَسْقِيهِ اللَّهُ الْخَمْرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْمُسْكِرُ جَامِدًا أَوْ مَائِعًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مَطْعُومًا أَوْ مَشْرُوبًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَبٍّ أَوْ ثَمَرٍ أَوْ لَبَنٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَدْخَلُوا فِي ذَلِكَ الْحَشِيشَةَ الَّتِي تُعْمَلُ مِنْ وَرَقِ الْقِنَّبِ، وَغَيْرَهَا مِمَّا يُؤْكَلُ لِأَجْلِ لَذَّتِهِ وَسُكْرِهِ، وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مِنْ حَدِيثِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ» وَالْمُفَتِّرُ: هُوَ الْمُخَدِّرُ لِلْجَسَدِ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى حَدِّ الْإِسْكَارِ. وَالثَّانِي: مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ وَيُسْكِرُ، لَا لَذَّةَ فِيهِ وَلَا طَرَبَ، كَالْبِنْجِ وَنَحْوِهِ، فَقَالَ

أَصْحَابُنَا: إِنْ تَنَاوَلَهُ لِحَاجَةِ التَّدَاوِي بِهِ، وَكَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ السَّلَامَةَ جَازَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا وَقَعَتِ الْأَكِلَةُ فِي رِجْلِهِ، وَأَرَادُوا قَطْعَهَا، قَالَ لَهُ الْأَطِبَّاءُ: نَسْقِيكَ دَوَاءً حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُكَ، وَلَا تُحِسَّ بِأَلَمِ الْقَطْعِ، فَأَبَى، وَقَالَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ خَلْقًا يَشْرَبُ شَرَابًا يَزُولُ مِنْهُ عَقْلُهُ حَتَّى لَا يَعْرِفَ رَبَّهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَشْرَبُ شَيْئًا يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ ذِكْرِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ. وَإِنْ تَنَاوَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ حَاجَةِ التَّدَاوِي، فَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ، وَصَاحِبِ " الْمُغْنِي ": إِنَّهُ مُحَرَّمٌ، لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إِلَى إِزَالَةِ الْعَقْلِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَحَرُمَ كَشُرْبِ الْمُسْكِرِ، وَرَوَى حَنَشٌ الرَّحَبِيُّ - وَفِيهِ ضَعْفٌ - عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ شَرِبَ شَرَابًا يُذْهِبُ عَقْلَهُ، فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ» . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي " فُنُونِهِ ": لَا يَحْرُمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا لَذَّةَ فِيهِ، وَالْخَمْرُ إِنَّمَا حُرِّمَتْ لِمَا فِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ، وَلَا إِطْرَابَ فِي الْبِنْجِ وَنَحْوِهِ وَلَا شِدَّةَ. فَعَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ: لَوْ تَنَاوَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَسَكِرَ بِهِ، فَطَلَّقَ، فَحُكْمُ طَلَاقِهِ حُكْمُ طَلَاقِ السَّكْرَانِ، قَالَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا كَابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ، وَعَلَّلُوا بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ لَذَّةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُحَرِّمُوهُ. وَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ مُحَرَّمٌ، وَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَهُ وَجْهَانِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِخِلَافِ السَّكْرَانِ، وَتَأَوَّلَهُ الْقَاضِي، وَقَالَ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ إِلْزَامًا لِلْحَنَفِيَّةِ، لَا اعْتِقَادًا لَهُ، وَسِيَاقُ كَلَامِهِ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ.

وَأَمَّا الْحَدُّ، فَإِنَّمَا يَجِبُ بِتَنَاوُلِ مَا فِيهِ شِدَّةٌ وَطَرَبٌ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَدْعُو النُّفُوسُ إِلَيْهِ، فَجُعِلَ الْحَدُّ زَاجِرًا عَنْهُ. فَأَمَّا مَا فِيهِ سُكْرٌ بِغَيْرِ طَرَبٍ وَلَا لَذَّةٍ، فَلَيْسَ فِيهِ سِوَى التَّعْزِيرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي النُّفُوسِ دَاعٍ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى حَدٍّ مُقَدَّرٍ زَاجِرٍ عَنْهُ، فَهُوَ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَشُرْبِ الدَّمِ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَرَوْنَ تَحْرِيمَ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ يَرَوْنَ حَدَّ مَنْ شَرِبَ مَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ، وَإِنِ اعْتَقَدَ حِلَّهُ مُتَأَوِّلًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يُحَدُّ لِتَأَوُّلِهِ، فَهُوَ كَالنَّاكِحِ بِلَا وَلِيٍّ. وَفِي حَدِّ النَّاكِحِ بِلَا وَلِيٍّ خِلَافٌ أَيْضًا، لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ، وَقَدْ فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُرْبِ النَّبِيذِ مُتَأَوِّلًا بِأَنَّ شُرْبَ النَّبِيذِ الْمُخْتَلِفِ فِيهِ دَاعٍ إِلَى شُرْبِ الْخَمْرِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، فَإِنَّهُ مُغْنٍ عَنِ الزِّنَا الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَمُوجِبٌ لِلِاسْتِعْفَافِ عَنْهُ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنَّمَا حُدَّ شَارِبُ النَّبِيذِ مُتَأَوِّلًا، لِأَنَّ تَأْوِيلَهُ ضَعِيفٌ لَا يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ بِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: يُحَدُّ مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مُتَأَوِّلًا، وَلَوْ رُفِعَ إِلَى الْإِمَامِ مَنْ طَلَّقَ الْبَتَّةَ، ثُمَّ رَاجَعَهَا مُتَأَوِّلًا أَنَّ طَلَاقَ الْبَتَّةِ وَاحِدَةٌ، وَالْإِمَامُ يَرَى أَنَّهَا ثَلَاثٌ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ: هَذَا غَيْرُ ذَاكَ، أَمْرُهُ بَيِّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَشَرَابِهِمُ الْفَضِيخَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» ، فَهَذَا بَيِّنٌ، وَطَلَاقُ الْبَتَّةِ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ.

[الحديث السابع والأربعون ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن]

[الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ]

الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ الطَّائِيِّ عَنِ الْمِقْدَامِ، وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ عَنْ جَدِّهِ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ ذِكْرِ سَبَبِهِ، فَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ فِي " مُعْجَمِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُرَقَّعِ، قَالَ: «فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَهِيَ مُخْضَرَّةٌ مِنَ الْفَوَاكِهِ، فَوَاقَعَ النَّاسُ الْفَاكِهَةَ، فَمَغَّثَتْهُمُ الْحُمَّى، فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ وَسِجْنُ اللَّهِ فِي

الْأَرْضِ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَإِذَا أَخَذَتْكُمْ فَبَرِّدُوا الْمَاءَ فِي الشِّنَانِ، فَصُبُّوهَا عَلَيْكُمْ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ يَعْنِي الْمَغْرِبَ وَالْعَشَاءَ، قَالَ: فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَذَهَبَتْ عَنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ وِعَاءً إِذَا مُلِئَ شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ، فَاجْعَلُوا ثُلُثًا لِلطَّعَامِ، وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ، وَثُلُثًا لِلرِّيحِ.» وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ جَامِعٌ لِأُصُولِ الطِّبِّ كُلِّهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَاسَوَيْهِ الطَّبِيبَ لَمَّا قَرَأَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي " كِتَابِ " أَبِي خَيْثَمَةَ، قَالَ: لَوِ اسْتَعْمَلَ النَّاسُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، سَلِمُوا مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ، وَلَتَعَطَّلَتِ الْمَارِسْتَانَاتُ وَدَكَاكِينُ الصَّيَادِلَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ كُلِّ دَاءٍ التُّخَمُ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْلُ كُلِّ دَاءٍ الْبَرَدَةُ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ. وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةِ طَبِيبُ الْعَرَبِ: الْحَمِيَّةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ، وَالْبِطْنَةُ رَأْسُ

الدَّاءِ، وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا. وَقَالَ الْحَارِثُ أَيْضًا: الَّذِي قَتَلَ الْبَرِيَّةَ، وَأَهْلَكَ السِّبَاعَ فِي الْبَرِّيَّةِ إِدْخَالُ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ قَبْلَ الِانْهِضَامِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَوْ قِيلَ لِأَهْلِ الْقُبُورِ: مَا كَانَ سَبَبُ آجَالِكُمْ؟ قَالُوا: التُّخَمُ. فَهَذَا بَعْضُ مَنَافِعِ تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ، وَتَرْكِ التَّمَلِّي مِنَ الطَّعَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَلَاحِ الْبَدَنِ وَصِحَّتِهِ. وَأَمَّا مَنَافِعُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَلْبِ وَصَلَاحِهِ، فَإِنَّ قِلَّةَ الْغِذَاءِ تُوجِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ، وَقُوَّةَ الْفَهْمِ، وَانْكِسَارَ النَّفْسِ، وَضَعْفَ الْهَوَى وَالْغَضَبِ، وَكَثْرَةُ الْغِذَاءِ تُوجِبُ ضِدَّ ذَلِكَ. قَالَ الْحَسَنُ: يَابْنَ آدَمَ كُلْ فِي ثُلُثِ بَطْنِكَ، وَاشْرَبْ فِي ثُلُثِهِ، وَدَعْ ثُلَثَ بَطْنِكَ يَتَنَفَّسُ لِتَتَفَكَّرَ. وَقَالَ الْمَرْوَذِيُّ: جَعَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، يَعْنِي أَحْمَدَ يُعَظِّمُ أَمْرَ الْجُوعِ وَالْفَقْرِ، فَقُلْتُ لَهُ: يُؤْجَرُ الرَّجُلُ فِي تَرْكِ الشَّهَوَاتِ، فَقَالَ: وَكَيْفَ لَا يُؤْجَرُ، وَابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَا شَبِعْتُ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؟ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَجِدُ الرَّجُلُ مِنْ قَلْبِهِ رِقَّةً وَهُوَ يَشْبَعُ؟ قَالَ: مَا أَرَى. وَرَوَى الْمَرْوَذِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ، فَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ: أَلَا أَجِيئُكَ بِجَوَارِشَ؟ قَالَ:

وَأَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ قَالَ: شَيْءٌ يَهْضِمُ الطَّعَامَ إِذَا أَكَلْتَهُ، قَالَ: مَا شَبِعْتُ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَيْسَ ذَاكَ أَنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا يَجُوعُونَ أَكْثَرَ مِمَّا يَشْبَعُونَ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ بِجَوَارِشَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: جَوَارِشُ: شَيْءٌ يُهْضَمُ بِهِ الطَّعَامُ، قَالَ: مَا أَصْنَعُ بِهِ؟ إِنِّي لَيَأْتِي عَلَيَّ الشَّهْرُ مَا أَشْبَعُ فِيهِ مِنَ الطَّعَامِ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَقَّتْ مُضْغَتُكَ، وَكَبُرَ سَنُّكَ، وَجُلَسَاؤُكَ لَا يَعْرِفُونَ لَكَ حَقَّكَ وَلَا شَرَفَكَ، فَلَوْ أَمَرْتَ أَهْلَكَ أَنْ يَجْعَلُوا لَكَ شَيْئًا يُلَطِّفُونَكَ إِذَا رَجَعْتَ إِلَيْهِمْ، قَالَ: وَيْحَكَ، وَاللَّهِ مَا شَبِعْتُ مُنْذُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً مَرَّةً وَاحِدَةً، فَكَيْفَ بِي وَإِنَّمَا بَقِيَ مِنِّي كَظِمْءِ الْحِمَارِ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَسْوَدِ الْعَنَسِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَدَعُ كَثِيرًا مِنَ الشِّبَعِ مَخَافَةَ الْأَشَرِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ " الْجُوعِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَا شَبِعْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ.

وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ، قَالَ: مَنْ قَلَّ طُعْمُهُ فَهِمَ وَأَفْهَمَ، وَصَفَا، وَرَقَّ، وَإِنَّ كَثْرَةَ الطَّعَامِ لَيُثْقِلُ صَاحِبَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا يُرِيدُ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْخَوَّاصِ، قَالَ: حَتْفُكَ فِي شِبَعِكَ، وَحَظُّكَ فِي جُوعِكَ، وَإِذَا أَنْتَ شَبِعْتَ ثَقُلْتَ، فَنِمْتَ، اسْتَمْكَنَ مِنْكَ الْعَدُوُّ فَجَثَمَ عَلَيْكَ، وَإِذَا أَنْتَ تَجَوَّعْتَ كُنْتَ لِلْعَدُوِّ بِمَرْصَدٍ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْبِطْنَةَ فَإِنَّهَا تُقَسِّي الْقَلْبَ. وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُعَيَّرُ بِالْبِطْنَةِ كَمَا يُعَيَّرُ بِالذَّنْبِ يَعْمَلُهُ. وَعَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ قَالَ: إِذَا كُنْتَ بَطِينًا، فَاعْدُدْ نَفْسَكَ زَمَنًا حَتَّى تَخْمُصَ. وَعَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ: مَا بَاتَ رَجُلٌ بَطِينًا فَتَمَّ عَزْمُهُ. وَعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ قَالَ: إِذَا أَرَدْتَ حَاجَةً مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَا تَأْكُلْ حَتَّى تَقْضِيَهَا، فَإِنَّ الْأَكْلَ يُغَيِّرُ الْعَقْلَ. وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: مَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ بَطْنُهُ أَكْبَرَ هَمِّهِ، وَأَنْ تَكُونَ شَهْوَتُهُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَيْهِ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ أَوْ غَيْرُهُ: كَانَتْ بَلِيَّةَ أَبِيكُمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْلَةٌ، وَهِيَ بَلِيَّتُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَكَانَ يُقَالُ: مَنْ مَلَكَ بَطْنَهُ، مَلَكَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ كُلَّهَا، وَكَانَ يُقَالُ: لَا تَسْكُنُ الْحِكْمَةُ مِعْدَةً مَلْأَى.

وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: قِلَّةُ الطَّعْمِ عَوْنٌ عَلَى التَّسَرُّعِ إِلَى الْخَيْرَاتِ. وَعَنْ قَثْمٍ الْعَابِدِ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: مَا قَلَّ طُعْمُ امْرِئٍ قَطُّ إِلَّا رَقَّ قَلْبُهُ، وَنَدِيَتْ عَيْنَاهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْزُوقٍ قَالَ: لَمْ نَرَ لِلْأَشَرِ مِثْلَ دَوَامِ الْجُوعِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ: وَمَا دَوَامُهُ عِنْدَكَ؟ قَالَ: دَوَامُهُ أَنْ لَا تَشْبَعَ أَبَدًا. قَالَ: وَكَيْفَ يَقْدِرُ مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا عَلَى هَذَا؟ قَالَ: مَا أَيْسَرَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى أَهْلِ وِلَايَتِهِ وَمَنْ وَفَّقَهُ لِطَاعَتِهِ، لَا يَأْكُلُ إِلَّا دُونَ الشِّبَعِ هُوَ دَوَامُ الْجُوعِ. وَيُشْبِهُ هَذَا قَوْلَ الْحَسَنِ لَمَّا عَرَضَ الطَّعَامَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَكَلْتُ حَتَّى لَا أَسْتَطِيعَ أَنْ آكُلَ، فَقَالَ الْحَسَنُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَيَأْكُلُ الْمُسْلِمُ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ أَنْ يَأْكُلَ؟ ! . وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، قَالَ: كَانَ يُقَالُ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُنَوَّرَ قَلْبُهُ، فَلْيُقِلَّ طُعْمَهُ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ زَائِدَةَ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَصِحَّ جِسْمُكَ، وَيَقِلَّ نَوْمُكَ، فَأَقِلَّ مِنَ الْأَكْلِ. وَعَنِ ابْنِ السَّمَّاكِ قَالَ: خَلَا رَجُلٌ بِأَخِيهِ، فَقَالَ: أَيْ أَخِي، نَحْنُ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يُجِيعَنَا، إِنَّمَا يُجِيعُ أَوْلِيَاءَهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي سَعِيدٍ التَّمِيمِيِّ: الْخَائِفُ يَشْبَعُ؟

قَالَ: لَا، قُلْتُ: الْمُشْتَاقُ يَشْبَعُ؟ قَالَ: لَا. وَعَنْ رِيَاحٍ الْقَيْسِيِّ أَنَّهُ قُرِّبَ إِلَيْهِ طَعَامٌ، فَأَكَلَ مِنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: ازْدَدْ فَمَا أَرَاكَ شَبِعْتَ، فَصَاحَ صَيْحَةً وَقَالَ: كَيْفَ أَشْبَعُ أَيَّامَ الدُّنْيَا وَشَجَرَةُ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ بَيْنَ يَدِيَّ؟ فَرَفَعَ الرَّجُلُ الطَّعَامَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَقَالَ: أَنْتَ فِي شَيْءٍ وَنَحْنُ فِي شَيْءٍ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قَالَ لِي رَجُلٌ: كَيْفَ ذَاكَ الْمُتَنَعِّمُ؟ يَعْنِي أَحْمَدَ، قُلْتُ لَهُ: وَكَيْفَ هُوَ مُتَنَعِّمٌ؟ قَالَ: أَلَيْسَ يَجِدُ خُبْزًا يَأْكُلُ، وَلَهُ امْرَأَةٌ يَسْكُنُ إِلَيْهَا، وَيَطَؤُهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: صَدَقَ، وَجَعَلَ يَسْتَرْجِعُ، وَقَالَ: إِنَّا لَنَشْبَعُ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ: مَا شَبِعْتُ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً، وَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْبَعَ الْيَوْمَ مِنَ الْحَلَالِ، لِأَنَّهُ إِذَا شَبِعَ مِنَ الْحَلَالِ، دَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى الْحَرَامِ، فَكَيْفَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْذَارِ؟ . وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قَالَ: مَنْ ضَبَطَ بَطْنَهُ ضَبَطَ دِينَهُ، وَمَنْ مَلَكَ جُوعَهُ مَلَكَ الْأَخْلَاقَ الصَّالِحَةَ، وَإِنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ بَعِيدَةٌ مِنَ الْجَائِعِ، قَرِيبَةٌ مِنَ الشَّبْعَانِ، وَالشِّبَعُ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَمِنْهُ يَكُونُ الْفَرَحُ وَالْمَرَحُ وَالضَّحِكُ. وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّ إِبْلِيسَ ظَهَرَ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَرَأَى عَلَيْهِ مَعَالِيقَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: يَا إِبْلِيسُ، مَا هَذِهِ الْمَعَالِيقُ الَّتِي أَرَى عَلَيْكَ؟ قَالَ: هَذِهِ الشَّهَوَاتُ الَّتِي أُصِيبُ مِنْ بَنِي آدَمَ، قَالَ: فَهَلْ لِي فِيهَا شَيْءٌ؟ قَالَ: رُبَّمَا شَبِعْتَ، فَثَقَّلْنَاكَ عَنِ الصَّلَاةِ وَعَنِ الذِّكْرِ، قَالَ: فَهَلْ غَيْرُ هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَمْلَأَ بَطْنِي مِنْ طَعَامٍ أَبَدًا، قَالَ: فَقَالَ إِبْلِيسُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَنْصَحَ مُسْلِمًا أَبَدًا.

وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: إِنَّ النَّفْسَ إِذَا جَاعَتْ وَعَطِشَتْ، صَفَا الْقَلْبُ وَرَقَّ، وَإِذَا شَبِعَتْ وَرُوِيَتْ، عَمِيَ الْقَلْبُ، وَقَالَ: مِفْتَاحُ الدُّنْيَا الشِّبَعُ، وَمِفْتَاحُ الْآخِرَةِ الْجُوعُ، وَأَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَإِنَّ الْجُوعَ عِنْدَهُ فِي خَزَائِنَ مُدَّخَرَةٍ، فَلَا يُعْطِي إِلَّا مِنْ أَحَبَّ خَاصَّةً، وَلِأَنْ أَدَعَ مِنْ عَشَائِي لُقْمَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آكُلَهَا ثُمَّ أَقُومَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْخُشَنِيُّ: مَنْ أَرَادَ أَنْ تَغْزُرَ دُمُوعُهُ وَيَرِقَّ قَلْبُهُ فَلْيَأْكُلْ وَلِيَشْرَبْ فِي نِصْفِ بَطْنِهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحِوَارِيِّ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا أَبَا سُلَيْمَانَ فَقَالَ: إِنَّمَا جَاءَ الْحَدِيثُ: " «ثُلُثٌ طَعَامٌ وَثُلُثٌ شَرَابٌ» " وَأَرَى هَؤُلَاءِ قَدْ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ، فَرَبِحُوا سُدُسًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ الْحَارِثِيُّ: الْجُوعُ يَبْعَثُ عَلَى الْبِرِّ كَمَا تَبْعَثُ الْبِطْنَةُ عَلَى الْأَشَرِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: مَا شَبِعْتُ مُنْذُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَّا شِبْعَةً اطَّرَحْتُهَا، لِأَنَّ الشِّبَعَ يُثْقِلُ الْبَدَنَ، وَيُزِيلُ الْفِطْنَةَ، وَيَجْلِبُ النَّوْمَ، وَيُضْعِفُ صَاحِبَهُ عَنِ الْعِبَادَةِ. وَقَدْ نَدَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى التَّقَلُّلِ مِنَ الْأَكْلِ فِي حَدِيثِ الْمِقْدَامِ، وَقَالَ: «حَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ

يَأْكُلُ بِأَدَبِ الشَّرْعِ، فَيَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ بِمُقْتَضَى الشَّهْوَةِ وَالشَّرَهِ وَالنَّهَمِ، فَيَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ. وَنَدَبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ التَّقَلُّلِ مِنَ الْأَكْلِ وَالِاكْتِفَاءِ بِبَعْضِ الطَّعَامِ إِلَى الْإِيثَارِ بِالْبَاقِي مِنْهُ، فَقَالَ: «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الثَّلَاثَةَ، وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ فَأَحْسَنُ مَا أَكَلَ الْمُؤْمِنُ فِي ثُلُثِ بَطْنِهِ، وَشَرِبَ فِي ثُلُثٍ، وَتَرَكَ لِلنَّفْسِ ثُلُثًا» ، كَمَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْمِقْدَامِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الشُّرْبِ تَجْلِبُ النَّوْمَ، وَتُفْسِدُ الطَّعَامَ. قَالَ سُفْيَانُ: كُلْ مَا شَئْتَ وَلَا تَشْرَبْ، فَإِذَا لَمْ تَشْرَبْ، لَمْ يَجِئْكَ النَّوْمُ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانَ شَبَابٌ يَتَعَبَّدُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ فِطْرِهِمْ، قَامَ عَلَيْهِمْ قَائِمٌ فَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا كَثِيرًا، فَتَشْرَبُوا كَثِيرًا، فَتَنَامُوا كَثِيرًا، فَتَخْسَرُوا كَثِيرًا. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ يَجُوعُونَ كَثِيرًا، وَيَتَقَلَّلُونَ مِنْ أَكْلِ الشَّهَوَاتِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِعَدَمِ وُجُودِ الطَّعَامِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْتَارُ لِرَسُولِهِ إِلَّا أَكْمَلَ الْأَحْوَالِ وَأَفْضَلَهَا. وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ - مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الطَّعَامِ - وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُوهُ مِنْ قَبْلِهِ.

فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " «عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ» . وَلِمُسْلِمٍ: قَالَتْ: «مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ» . وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَعَامٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ» . وَعَنْهُ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ» . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " «عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ خَطَبَ، فَذَكَرَ مَا أَصَابَ النَّاسَ مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي مَا يَجِدُ دَقَلًا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ» . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يَخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثٌ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي طَعَامٌ إِلَّا مَا وَارَاهُ إِبِطُ بِلَالٍ» . وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، قَالَ: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَمَكَثْنَا ثَلَاثَ لَيَالٍ لَا نَقْدِرُ - أَوْ لَا يَقْدِرُ - عَلَى طَعَامٍ» .

وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَعَامٍ سُخْنٍ فَأَكَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا دَخَلَ بَطْنِي طَعَامٌ سُخْنٌ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا» . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَنِ اتَّبَعَ الشَّهَوَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا - إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم: 59 - 60] [مَرْيَمَ: 59 - 60] . وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى رَجُلًا سَمِينًا فَجَعَلَ يُومِئُ بِيَدِهِ إِلَى بَطْنِهِ وَيَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا، لَكَانَ خَيْرًا لَكَ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ أَبِي بَرْزَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ شَهَوَاتُ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ، وَمُضِلَّاتُ الْهَوَى» . وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزَّارِ " وَغَيْرِهِ عَنْ فَاطِمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «شِرَارُ أُمَّتِي

الَّذِينَ غُذُّوا بِالنَّعِيمِ يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، وَيَلْبَسُونَ أَلْوَانَ الثِّيَابِ، وَيَتَشَدَّقُونَ فِي الْكَلَامِ» . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ أَيْضًا بِنَحْوِهِ، وَخَرَّجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ

حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ، وَفِي أَسَانِيدِهَا كُلِّهَا مَقَالٌ. وَرَوَى يَحْيَى بْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ " مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثُلُثٌ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ» فَقَالَ: ثُلُثٌ لِلطَّعَامِ: هُوَ الْقُوتُ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ: هُوَ الْقُوَى، وَثُلُثٌ لِلنَّفْسِ: هُوَ الرُّوحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[الحديث الثامن والأربعون أربع من كن فيه كان منافقا]

[الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ أَرْبَعٌ مِنْ كُنْ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا]

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «أَرْبَعٌ مِنْ كُنْ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا، وَمَنْ كَانَتْ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ فِيهِ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَخَرَّجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: «مَنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِ ثَلَاثَةٌ» . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ حَمَلَهُ طَائِفَةٌ مِمَّنْ يَمِيلُ إِلَى الْإِرْجَاءِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُمْ حَدَّثُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَذَبُوهُ، وَائْتَمَنَهُمْ عَلَى سِرِّهِ فَخَانُوهُ، وَوَعَدُوهُ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ فِي الْغَزْوِ فَأَخْلَفُوهُ، وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ الْمُحْرِمُ هَذَا التَّأْوِيلَ عَنْ عَطَاءٍ، وَأَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِ جَابِرٌ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَ أَنَّ الْحَسَنَ

رَجَعَ إِلَى قَوْلِ عَطَاءٍ هَذَا لَمَّا بَلَغَهُ عَنْهُ، وَهَذَا كَذِبٌ، وَالْمُحْرِمُ هَذَا شَيْخٌ كَذَّابٌ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ ضَعِيفَيْنِ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى الْحَسَنِ قَوْلَهُ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ، وَقَالَ: قَدْ حَدَّثَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَكَذَبُوا، وَوَعَدُوا فَأَخْلَفُوا، وَائْتُمِنُوا فَخَانُوا وَلَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنُ لَمْ يَقُلْ هَذَا مِنْ عِنْدِهِ وَإِنَّمَا بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَالْحَدِيثُ ثَابِتٌ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهِ وَصِحَّتِهِ، وَالَّذِي فَسَّرَهُ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّ النِّفَاقَ فِي اللُّغَةِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ وَإِظْهَارِ الْخَيْرِ وَإِبْطَانِ خِلَافِهِ، وَهُوَ فِي الشَّرْعِ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النِّفَاقُ الْأَكْبَرُ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الْإِنْسَانُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيُبْطِنَ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ، وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِذَمِّ أَهْلِهِ وَتَكْفِيرِهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَهُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. وَالثَّانِي: النِّفَاقُ الْأَصْغَرُ، وَهُوَ نِفَاقُ الْعَمَلِ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الْإِنْسَانُ عَلَانِيَةً صَالِحَةً، وَيُبْطِنَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَأُصُولُ هَذَا النِّفَاقِ تَرْجِعُ إِلَى الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُحَدِّثَ بِحَدِيثٍ لِمَنْ يُصَدِّقُهُ بِهِ وَهُوَ كَاذِبٌ لَهُ، وَفِي " الْمُسْنَدِ "

عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ مُصَدِّقٌ، وَأَنْتَ بِهِ كَاذِبٌ» . قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ يُقَالُ: النِّفَاقُ اخْتِلَافُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَالْمَدْخَلِ وَالْمَخْرَجِ، وَكَانَ يُقَالُ: أُسُّ النِّفَاقِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ. وَالثَّانِي: إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعِدَ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ لَا يَفِيَ بِوَعْدِهِ، وَهَذَا أَشَّرُ الْخُلْفِ، وَلَوْ قَالَ: أَفْعَلُ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ، كَانَ كَذِبًا وَخُلْفًا، قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ. الثَّانِي: أَنْ يَعِدَ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيُخْلِفُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَهُ فِي الْخُلْفِ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «إِذَا

وَعَدَ الرَّجُلُ وَنَوَى أَنْ يَفِيَ بِهِ فَلَمْ يَفِ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ. وَخَرَّجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ «أَنَّ عَلِيًّا لَقِيَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمَا ثَقِيلَيْنِ؟ قَالَا: حَدِيثٌ سَمِعْنَاهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ خِلَالَ الْمُنَافِقِ: إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ فَأَيُّنَا يَنْجُو مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ؟ فَدَخَلَ عَلِيٌّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: قَدْ حَدَّثْتُهُمَا وَلَمْ أَضَعْهُ عَلَى الْوَضْعِ الَّذِي تَضَعُونَهُ، وَلَكِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا حَدَّثَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنْ يَكْذِبَ، وَإِذَا وَعَدَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنْ يُخْلِفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنْ يَخُونَ» . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ سَلْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: الْحَدِيثَانِ مُضْطَرِبَانِ وَفِي الْإِسْنَادَيْنِ مَجْهُولَانِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الْحَدِيثُ غَيْرُ ثَبْتٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلَيٍّ مَرْفُوعًا: «الْعِدَةُ دَيْنٌ، وَيْلٌ لِمَنْ وَعَدَ ثُمَّ أَخْلَفَ قَالَهَا ثَلَاثًا» ، وَفِي إِسْنَادِهِ جَهَالَةٌ، وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ «ابْنِ

مَسْعُودٍ» قَالَ: «لَا يَعِدْ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ ثُمَّ لَا يُنْجِزُ لَهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْعِدَةُ عَطِيَّةٌ» وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَأَوَّلُهُ صَحِيحٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْعِدَةُ هِبَةٌ» . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ مَوْلًى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: «جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَيْتِنَا وَأَنَا صَبِيٌّ، فَخَرَجْتُ لِأَلْعَبَ، فَقَالَتْ أُمِّي: يَا عَبْدَ اللَّهِ تَعَالَ أُعْطِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَرَدْتِ

أَنْ تُعْطِيهِ؟ قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أُعْطِيَهُ تَمْرًا، فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَفْعَلِي كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةً» . وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ. وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ: تَعَالَ هَاكَ تَمْرًا، ثُمَّ لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا فَهِيَ كِذْبَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُ مُطْلَقًا، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " أَنَّ ابْنَ أَشْوَعَ قَضَى بِالْوَعْدِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ

الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِهِ إِذَا اقْتَضَى تَغْرِيمًا لِلْمَوْعُودِ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ مَالِكٍ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَا يُوجِبُونَهُ مُطْلَقًا. وَالثَّالِثُ: إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ وَيَعْنِي بِالْفُجُورِ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْحَقِّ عَمْدًا حَتَّى يَصِيرَ الْحَقُّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلُ حَقًّا، وَهَذَا مِمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ الْكَذِبُ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ» . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ» . وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» . فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ ذَا قُدْرَةٍ عِنْدَ الْخُصُومَةِ - سَوَاءٌ كَانَتْ خُصُومَتُهُ فِي الدِّينِ أَوْ فِي الدُّنْيَا - عَلَى أَنْ يَنْتَصِرَ لِلْبَاطِلِ، وَيُخَيِّلَ لِلسَّامِعِ أَنَّهُ حَقٌّ، وَيُوهِنَ الْحَقَّ، وَيُخْرِجَهُ فِي صُورَةِ الْبَاطِلِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْبَحِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمِنْ أَخْبَثِ خِصَالِ النِّفَاقِ، وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «مَنْ خَاصَمَ

فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: «وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ، فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» . الرَّابِعُ: إِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَلَمْ يَفِ بِالْعَهْدِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، فَقَالَ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] [الْإِسْرَاءِ: 34] ، وَقَالَ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91] [النَّحْلِ: 91] ، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] [آلِ عِمْرَانَ: 77] . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: أَلَا هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ» ، وَخَرَّجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِمَعْنَاهُ. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَالْغَدْرُ حَرَامٌ فِي كُلِّ عَهْدٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعَاهِدُ كَافِرًا، وَلِهَذَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا بِغَيْرِ حَقِّهَا

لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِالْوَفَاءِ بِعُهُودِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا أَقَامُوا عَلَى عُهُودِهِمْ وَلَمْ يَنْقُضُوا مِنْهَا شَيْئًا. وَأَمَّا عُهُودُ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَالْوَفَاءُ بِهَا أَشَدُّ، وَنَقْضُهَا أَعْظَمُ إِثْمًا. وَمِنْ أَعْظَمِهَا: نَقْضُ عَهْدِ الْإِمَامِ عَلَى مَنْ تَابَعَهُ، وَرَضِيَ بِهِ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، فَذَكَرَ مِنْهُمْ: وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَّى لَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَفِ لَهُ» . وَيَدْخُلُ فِي الْعُهُودِ الَّتِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا، وَيَحْرُمُ الْغَدْرُ فِيهَا: جَمِيعُ عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِذَا تَرَاضَوْا عَلَيْهَا مِنَ الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ الَّتِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا، وَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا يُعَاهِدُ الْعَبْدُ رَبَّهُ عَلَيْهِ مِنْ نَذْرِ التَّبَرُّرِ وَنَحْوِهِ. الْخَامِسُ: الْخِيَانَةُ فِي الْأَمَانَةِ، فَإِذَا اؤْتُمِنَ الرَّجُلُ أَمَانَةً، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] [النِّسَاءِ: 58] ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ» ، وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ

الْوَدَاعِ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ، فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا» وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] [الْأَنْفَالِ: 27] فَالْخِيَانَةُ فِي الْأَمَانَةِ مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا: «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ ذَنْبٍ إِلَّا الْأَمَانَةَ، يُؤْتَى بِصَاحِبِ الْأَمَانَةِ فَيُقَالُ لَهُ: أَدِّ أَمَانَتَكَ، فَيَقُولُ: مِنْ أَيْنَ يَا رَبِّ وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ فَيُقَالُ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى الْهَاوِيَةِ، فَيَهْوِي فِيهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى قَعْرِهَا، فَيَجِدُهَا هُنَاكَ كَهَيْئَتِهَا، فَيَحْمِلُهَا، فَيَضَعُهَا عَلَى عُنُقِهِ فَيَصْعَدُ بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى إِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْهَا، زَلَّتْ فَهَوَتْ، وَهُوَ فِي إِثْرِهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ» قَالَ: وَالْأَمَانَةُ فِي الصَّلَاةِ، وَالْأَمَانَةُ فِي الصَّوْمِ، وَالْأَمَانَةُ فِي الْحَدِيثِ، وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدَائِعُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ - أَعْنِي حَدِيثَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ» - مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] إِلَى قَوْلِهِ:

{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] [الْمُنَافِقُونَ: 1] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَعْقَبَهُمْ نِقَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] [التَّوْبَةِ: 74 - 77] ، وَقَالَ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72] الْأَحْزَابِ إِلَى قَوْلِهِ: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [الأحزاب: 73] [الْأَحْزَابِ: 72 - 73] وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 77] [التَّوْبَةِ: 77] الْآيَةَ. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ النِّفَاقَ الْأَصْغَرَ كُلَّهُ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلَافِ السَّرِيرَةِ وَالْعَلَانِيَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: مِنَ النِّفَاقِ اخْتِلَافُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَاخْتِلَافُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَاخْتِلَافُ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: خُشُوعُ النِّفَاقِ أَنْ تَرَى الْجَسَدَ خَاشِعًا، وَالْقَلْبَ لَيْسَ بِخَاشِعٍ، وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الْمُنَافِقُ الْعَلِيمُ، قَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ الْمُنَافِقُ عَلِيمًا؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ بِالْحِكْمَةِ، وَيَعْمَلُ بِالْجَوْرِ، أَوْ قَالَ: الْمُنْكَرُ. وَسُئِلَ حُذَيْفَةُ عَنِ الْمُنَافِقِ، فَقَالَ: الَّذِي يَصِفُ الْإِيمَانَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ. وَفِي " صَحِيحِ الْبَخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى

سُلْطَانِنَا، فَنَقُولُ لَهُمْ بِخِلَافِ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ، قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ هَذَا نِفَاقًا. وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَكَلَّمُونِ كَلَامًا إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّفَاقَ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَصِيرُ بِهَا مُنَافِقًا، وَإِنِّي لَأَسْمَعُهَا مِنْ أَحَدِكُمْ فِي الْيَوْمِ فِي الْمَجْلِسِ عَشْرَ مِرَارٍ. قَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ: الْمُنَافِقُ يَقُولُ مَا يَعْرِفُ، وَيَعْمَلُ مَا يُنْكِرُ. وَمِنْ هُنَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَخَافُونَ النِّفَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْأَلُ حُذَيْفَةَ عَنْ نَفْسِهِ. وَسُئِلَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: هَلْ أَدْرَكْتَ مَنْ أَدْرَكْتَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْشَوْنَ النِّفَاقَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إِنِّي أَدْرَكْتُ مِنْهُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ صَدْرًا حَسَنًا، نَعَمْ شَدِيدًا، نَعَمْ شَدِيدًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ": وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ. وَيُذْكَرُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ. انْتَهَى.

وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ حَلَفَ: مَا مَضَى مُؤْمِنٌ قَطُّ وَلَا بَقِيَ إِلَّا وَهُوَ مِنَ النِّفَاقِ مُشْفِقٌ، وَمَا مَضَى مُنَافِقٌ قَطُّ وَلَا بَقِيَ إِلَّا وَهُوَ مِنَ النِّفَاقِ آمِنٌ. وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَخَفِ النِّفَاقَ، فَهُوَ مُنَافِقٌ. وَسَمِعَ رَجُلٌ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَتَعَوَّذُ مِنَ النِّفَاقِ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَالَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ وَشَأْنُ النِّفَاقِ؟ فَقَالَ: اللَّهُمَّ غَفْرًا - ثَلَاثًا - لَا تَأْمَنِ الْبَلَاءَ، وَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيُفْتَنُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيَنْقَلِبُ عَنْ دِينِهِ. وَالْآثَارُ عَنِ السَّلَفِ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: خِلَافُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ ثَلَاثٌ، فَذَكَرَ مِنْهَا قَالَ: نَحْنُ نَقُولُ: نِفَاقٌ وَهُمْ يَقُولُونَ: لَا نِفَاقَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: قَدْ خَافَ عُمَرُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ عُمَرَ لَمْ يَخَفْ أَنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ مُنَافِقًا حَتَّى سَأَلَ حُذَيْفَةَ، وَلَكِنْ خَافَ أَنْ يُبْتَلَى بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، قَالَ: هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْبِدَعِ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْحَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسَهُ فِي الْحَالِ مِنَ النِّفَاقِ الْأَصْغَرِ، وَالنِّفَاقُ الْأَصْغَرُ وَسِيلَةٌ إِلَى النِّفَاقِ الْأَكْبَرِ، كَمَا

أَنَّ الْمَعَاصِيَ بَرِيدُ الْكَفْرِ، وَكَمَا يُخْشَى عَلَى مَنْ أَصَرَّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ أَنْ يُسْلَبَ الْإِيمَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ، كَذَلِكَ يُخْشَى عَلَى مَنْ أَصَرَّ عَلَى خِصَالِ النِّفَاقِ أَنْ يُسْلَبَ الْإِيمَانَ فَيَصِيرَ مُنَافِقًا خَالِصًا. وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا تَقُولُ فِيمَنْ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ النِّفَاقَ؟ فَقَالَ: وَمَنْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ النِّفَاقَ؟ وَكَانَ الْحَسَنُ يُسَمِّي مَنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ أَوْصَافُ النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ مُنَافِقًا، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ حُذَيْفَةَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ كَذَبَ، فَهُوَ مُنَافِقٌ، وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ فِرْقَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فِي مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ: هَلْ يُسَمَّى كَافِرًا كُفْرًا لَا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ أَمْ لَا؟ وَاسْمُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنَ اسْمِ النِّفَاقِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ عَطَاءٌ عَلَى الْحَسَنِ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ. وَمِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ: أَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ عَمَلًا، وَيُظْهِرَ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْخَيْرَ، وَإِنَّمَا عَمِلَهُ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى غَرَضٍ لَهُ سَيِّئٍ فَيَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ، وَيَتَوَصَّلُ بِهَذِهِ الْخَدِيعَةِ إِلَى غَرَضِهِ، وَيَفْرَحُ بِمَكْرِهِ وَخِدَاعِهِ وَحَمْدِ النَّاسِ لَهُ عَلَى مَا أَظْهَرَهُ، وَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى غَرَضِهِ السَّيِّئِ الَّذِي أَبْطَنَهُ، وَهَذَا قَدْ حَكَاهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ، فَحَكَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ {اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107] [التَّوْبَةِ: 107] ، وَأَنْزَلَ فِي الْيَهُودِ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188] [آلِ عِمْرَانَ: 188] وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ أَرَوْهُ أَنَّهُمْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، وَاسْتُحْمِدُوا بِذَلِكَ، وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا

مِنْ كِتْمَانِهِمْ وَمَا سُئِلُوا عَنْهُ، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَحَدِيثُهُ مُخَرَّجٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ". وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَهُ فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْغَزْوِ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَالْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ» . وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ بِالْمُخَادَعَةِ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ دُنْيَا إِلَّا بِدِينٍ وَلَيَْس الدِّ ... ينُ إِلَّا مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ إِنَّمَا الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّا ... رِ هُمَا مِنْ خِصَالِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَلَمَّا تَقَرَّرَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النِّفَاقَ هُوَ اخْتِلَافُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ خَشِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ إِذَا تَغَيَّرَ عَلَيْهِ حُضُورُ قَلْبِهِ وَرِقَّتُهُ وَخُشُوعُهُ عِنْدَ سَمَاعِ الذِّكْرِ بِرُجُوعِهِ إِلَى الدُّنْيَا وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَمْوَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ نِفَاقًا، كَمَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " «عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيْدِيِّ أَنَّهُ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا أَبَا بَكْرٍ، نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُذَكِّرُنَا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا رَجَعْنَا، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالصِّبْيَةَ فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَكَذَلِكَ، فَانْطَلَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَذَكَرَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ،

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ تَدُومُونَ عَلَى الْحَالِ الَّتِي تَقُومُونَ بِهَا مِنْ عِنْدِي، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي مَجَالِسِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً» . وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزَّارِ " عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَكُونُ عِنْدَكَ عَلَى حَالٍ، فَإِذَا فَارَقْنَاكَ كُنَّا عَلَى غَيْرِهِ، قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ وَرَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ رَبُّنَا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكُمُ النِّفَاقَ» . وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «غَدَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالُوا: هَلَكْنَا، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: النِّفَاقُ، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَلَيْسَ ذَاكَ بِالنِّفَاقِ» ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنَى حَدِيثِ حَنْظَلَةَ كَمَا تَقَدَّمَ.

[الحديث التاسع والأربعون لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير]

[الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ]

الْحَدِيثُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ. عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــ هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ، سَمِعَ أَبَا تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيَّ، سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يُحَدِّثُهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبُو تَمِيمٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ هُبَيْرَةَ خَرَّجَ لَهُمَا مُسْلِمٌ، وَوَثَّقَهُمَا غَيْرُ وَاحِدٍ، وَأَبُو تَمِيمٍ وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعَرَفُ حَالُهُ. قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي التَّوَكُّلِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يُسْتَجْلَبُ بِهَا

الرِّزْقُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 - 3] [الطَّلَاقِ: 2 - 3] ، وَقَدْ قَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَبِي ذَرٍّ، وَقَالَ لَهُ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَخَذُوا بِهَا لَكَفَتْهُمْ يَعْنِي: لَوْ حَقَّقُوا التَّقْوَى وَالتَّوَكُّلَ؛ لَاكْتَفَوْا بِذَلِكَ فِي مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ» . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: بِحَسْبِكَ مِنَ التَّوَسُّلِ إِلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ قَلْبِكَ حُسْنَ تَوَكُّلِكَ عَلَيْهِ، فَكَمْ مِنْ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ قَدْ فَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَهُ، فَكَفَاهُ مِنْهُ مَا أَهَمَّهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] وَحَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ: هُوَ صِدْقُ اعْتِمَادِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي اسْتِجْلَابِ الْمَصَالِحِ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُلِّهَا، وَكِلَةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَيْهِ، وَتَحْقِيقُ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ لَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ سِوَاهُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: التَّوَكُّلُ جِمَاعُ الْإِيمَانِ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: الْغَايَةُ الْقُصْوَى التَّوَكُّلُ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ تَوَكُّلَ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ ثِقَتُهُ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ، فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» .

وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ صِدْقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْكَ» ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ فَكَفَيْتَهُ» . وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ التَّوَكُّلِ لَا يُنَافِي السَّعْيَ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَقْدُورَاتِ بِهَا، وَجَرَتْ سُنَّتُهُ فِي خَلْقِهِ بِذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَعَاطِي الْأَسْبَابِ مَعَ أَمْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ، فَالسَّعْيُ فِي الْأَسْبَابِ بِالْجَوَارِحِ طَاعَةٌ لَهُ، وَالتَّوَكُّلُ بِالْقَلْبِ عَلَيْهِ إِيمَانٌ بِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] [النِّسَاءِ: 71] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] [الْأَنْفَالِ: 60] ، وَقَالَ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشَرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] [الْجُمُعَةِ: 10] . وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: مَنْ طَعَنَ فِي الْحَرَكَةِ - يَعْنِي فِي السَّعْيِ وَالْكَسْبِ - فَقَدْ طَعَنَ فِي السُّنَّةِ، وَمَنْ طَعَنَ فِي التَّوَكُّلِ، فَقَدْ طَعَنَ فِي الْإِيمَانِ، فَالتَّوَكُّلُ حَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْكَسْبُ سُنَّتُهُ، فَمَنْ عَمِلَ عَلَى حَالِهِ، فَلَا يَتْرُكَنَّ سُنَّتَهُ. ثُمَّ إِنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي يَعْمَلُهَا الْعَبْدُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: الطَّاعَاتُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِهَا، وَجَعَلَهَا سَبَبًا، لِلنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَهَذَا لَابُدَّ مِنْ فِعْلِهِ مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِيهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ، وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَمَنْ قَصَّرَ فِي شَيْءٍ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَرْعًا وَقَدَرًا. قَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: كَانَ يُقَالُ: اعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ لَا يُنْجِيهِ إِلَّا عَمَلُهُ، وَتَوَكَّلْ تَوَكُّلَ رَجُلٍ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ. وَالثَّانِي: مَا أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَرَ عِبَادَهُ بِتَعَاطِيهِ، كَالْأَكْلِ عِنْدَ الْجُوعِ، وَالشُّرْبِ عِنْدَ الْعَطَشِ، وَالِاسْتِظْلَالِ مِنَ الْحَرِّ، وَالتَّدَفُّؤِ مِنَ الْبَرْدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا أَيْضًا وَاجِبٌ عَلَى الْمَرْءِ تَعَاطِي أَسْبَابِهِ، وَمَنْ قَصَّرَ فِيهِ حَتَّى تَضَرَّرَ بِتَرْكِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، فَهُوَ مُفَرِّطٌ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ يُقَوِّي بَعْضَ عِبَادِهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَإِذَا عَمِلَ بِمُقْتَضَى قُوَّتِهِ الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوَاصِلُ فِي صِيَامِهِ وَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ أَصْحَابَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ لِي مُطْعِمًا يُطْعِمُنِي، وَسَاقِيًا يَسْقِينِي» . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُوتُهُ وَيُغَذِّيهِ بِمَا يُورِدُهُ عَلَى قَلْبِهِ مِنَ الْفُتُوحِ الْقُدْسِيَّةِ، وَالْمِنَحِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْمَعَارِفِ الرَّبَّانِيَّةِ الَّتِي تُغْنِيهِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ

بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا ... عَنِ الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنِ الزَّادِ لَهَا بِوَجْهِكَ نُورٌ تَسْتَضِيءُ بِهِ ... وَقْتَ الْمَسِيرِ وَفِي أَعْقَابِهَا حَادِي إِذَا اشْتَكَتْ مِنْ كَلَالِ السَّيْرِ أَوْعَدَهَا ... رَوْحُ الْقُدُومِ فَتَحْيَا عِنْدَ مِيعَادِ وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ لَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى تَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، وَلَا يَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ. وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُوَاصِلُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ. وَكَانَ أَبُو الْجَوْزَاءِ يُوَاصِلُ فِي صَوْمِهِ بَيْنَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ يَقْبِضُ عَلَى ذِرَاعِ الشَّابِّ فَيَكَادُ يُحَطِّمُهَا. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ يَمْكُثُ شَهْرَيْنِ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ يَشْرَبُ شَرْبَةَ حَلْوَى. وَكَانَ حَجَّاجُ بْنُ فَرَافِصَةَ يَبْقَى أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَنَامُ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ لَا يُبَالِي بِالْحَرِّ وَلَا بِالْبَرْدِ كَمَا كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَلْبَسُ لِبَاسَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَلِبَاسَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لَهُ أَنْ يُذْهِبَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ. فَمَنْ كَانَ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَعَمِلَ بِمُقْتَضَى قُوَّتِهِ وَلَمْ يُضْعِفْهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَلَّفَ نَفْسَهُ ذَلِكَ حَتَّى أَضْعَفَهَا عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ، فَإِنَّهُ يُنْكَرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَكَانَ السَّلَفُ يُنْكِرُونَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ حَيْثُ كَانَ يَتْرُكُ الْأَكْلَ مُدَّةً حَتَّى يُعَادَ مِنْ ضَعْفِهِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، وَقَدْ يَخْرِقُ الْعَادَةَ فِي ذَلِكَ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا يَخْرِقُهُ كَثِيرًا، وَيُغْنِي عَنْهُ كَثِيرًا مِنْ خَلْقِهِ كَالْأَدْوِيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبُلْدَانِ وَسُكَّانِ الْبَوَادِي وَنَحْوِهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلِ الْأَفْضَلُ لِمَنْ

أَصَابَهُ الْمَرَضُ التَّدَاوِي أَمْ تَرْكُهُ لِمَنْ حَقَّقَ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ التَّوَكُّلَ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ، لِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ ثُمَّ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . وَمَنْ رَجَّحَ التَّدَاوِيَ قَالَ: إِنَّهُ حَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي كَانَ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَفْعَلُ إِلَّا الْأَفْضَلَ، وَحَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى الرُّقَى الْمَكْرُوهَةِ الَّتِي يُخْشَى مِنْهَا الشِّرْكُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْكَيِّ وَالطِّيرَةِ وَكُلَاهُمَا مَكْرُوهٌ. وَمِنْهَا مَا يَخْرِقُهُ لِقَلِيلٍ مِنَ الْعَامَّةِ كَحُصُولِ الرِّزْقِ لِمَنْ تَرَكَ السَّعْيَ فِي طَلَبِهِ، فَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ صِدْقَ يَقِينٍ وَتَوَكُّلٍ، وَعَلِمَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَخْرِقَ لَهُ الْعَوَائِدَ، وَلَا يَحْوِجَهُ إِلَى الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَنَحْوِهِ جَازَ لَهُ تَرْكُ الْأَسْبَابِ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَحَدِيثُ عُمَرَ هَذَا الَّذِي نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى

أَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يُؤْتَوْنَ مِنْ قِلَّةِ تَحْقِيقِ التَّوَكُّلِ، وَوُقُوفِهِمْ مَعَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ بِقُلُوبِهِمْ وَمُسَاكَنَتِهِمْ لَهَا، فَلِذَلِكَ يُتْعِبُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْأَسْبَابِ، وَيَجْتَهِدُونَ فِيهَا غَايَةَ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يَأْتِيهِمْ إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُمْ، فَلَوْ حَقَّقُوا التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ بِقُلُوبِهِمْ، لَسَاقَ إِلَيْهِمْ أَرْزَاقَهُمْ مَعَ أَدْنَى سَبَبٍ، كَمَا يَسُوقُ إِلَى الطَّيْرِ أَرْزَاقَهَا بِمُجَرَّدِ الْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الطَّلَبِ وَالسَّعْيِ، لَكِنَّهُ سَعْيٌ يَسِيرٌ. وَرُبَّمَا حُرِمَ الْإِنْسَانُ رِزْقَهُ أَوْ بَعْضَهُ بِذَنْبٍ يُصِيبُهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقِ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» . وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حُرِّمَ» . وَقَالَ عُمَرُ: بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رِزْقِهِ حِجَابٌ، فَإِنْ قَنَعَ وَرَضِيَتْ نَفْسُهُ، آتَاهُ اللَّهُ رِزْقَهُ، وَإِنِ اقْتَحَمَ وَهَتَكَ الْحِجَابَ، لَمْ يَزِدْ فَوْقَ رِزْقِهِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: تَوَكَّلْ تُسَقْ إِلَيْكَ الْأَرْزَاقُ بِلَا تَعَبٍ وَلَا تَكَلُّفٍ. قَالَ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ: حُدِّثْتُ «أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ: اعْمَلُوا لِلَّهِ وَلَا تَعْمَلُوا لِبُطُونِكُمْ، وَإِيَّاكُمْ وَفُضُولَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ فُضُولَ الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ رِجْزٌ، هَذِهِ طَيْرُ السَّمَاءِ تَغْدُو وَتَرُوحُ لَيْسَ مَعَهَا مِنْ أَرْزَاقِهِ شَيْءٌ، لَا تَحْرُثْ وَلَا تَحْصُدُ اللَّهُ يَرْزُقُهَا» ، فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنْ بُطُونَنَا أَعْظَمُ مِنْ بُطُونِ الطَّيْرِ، فَهَذِهِ الْوُحُوشُ مِنَ الْبَقْرِ وَالْحَمِيرِ وَغَيْرِهَا تَغْدُو وَتَرُوحُ لَيْسَ مَعَهَا مِنْ أَرْزَاقِهَا شَيْءٌ لَا تَحْرُثُ وَلَا تَحْصُدُ، اللَّهُ يَرْزُقُهَا، خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.

وَخَرَّجَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَابِدٌ يَتَعَبَّدُ فِي غَارٍ، فَكَانَ غُرَابٌ يَأْتِيهِ كُلَّ يَوْمٍ بِرَغِيفٍ يَجِدُ فِيهِ طَعْمَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى مَاتَ ذَلِكَ الْعَابِدُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ بَعْضِ مَشْيَخَةِ دِمَشْقَ، قَالَ: «أَقَامَ إِلْيَاسُ هَارِبًا مِنْ قَوْمِهِ فِي جَبَلٍ عِشْرِينَ لَيْلَةً، - أَوْ قَالَ: أَرْبَعِينَ - تَأْتِيهِ الْغِرْبَانُ بِرِزْقِهِ» . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: قَرَأَ وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] [الذَّارِيَاتِ: 22] ، فَقَالَ: أَلَا إِنَّ رِزْقِي فِي السَّمَاءِ وَأَنَا أَطْلُبُهُ فِي الْأَرْضِ؟ فَدَخَلَ خَرِبَةً، فَمَكَثَ ثَلَاثًا لَا يُصِيبُ شَيْئًا، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ، إِذْ هُوَ بِدَوْخَلَةٍ مِنْ رُطَبٍ، وَكَانَ لَهُ أَخٌ أَحْسَنُ نِيَّةً مِنْهُ، فَدَخَلَ مَعَهُ، فَصَارَتَا دَوْخَلَتَيْنِ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُمَا حَتَّى فَرَّقَ الْمَوْتُ بَيْنَهُمَا. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَنْ قَوِيَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ وَوُثُوقُهُ بِهِ، فَدَخَلَ الْمَفَاوِزَ بِغَيْرِ زَادٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ دُونَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ أُسْوَةٌ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَيْثُ تَرَكَ هَاجَرَ وَابْنَهَا إِسْمَاعِيلَ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَتَرَكَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، فَلَمَّا تَبِعَتْهُ هَاجَرُ وَقَالَتْ لَهُ: إِلَى مَنْ تَدَعُنَا؟ قَالَ لَهَا: إِلَى اللَّهِ، قَالَتْ: رَضِيتُ بِاللَّهِ، وَهَذَا كَانَ يَفْعَلُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَوَحْيِهِ، فَقَدْ يَقْذِفُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ بَعْضِ أَوْلِيَائِهِ مِنَ الْإِلْهَامِ الْحَقَّ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ، وَيَثِقُونَ بِهِ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَيُّ شَيْءٍ صِدْقُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، وَلَا يَكُونَ فِي قَلْبِهِ أَحَدٌ مِنَ الْآدَمِيِّينَ يَطْمَعُ أَنْ يُجِيبَهُ بِشَيْءٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَا، كَانَ اللَّهُ يَرْزُقُهُ، وَكَانَ مُتَوَكِّلًا. قَالَ: وَذَكَرْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ التَّوَكُّلَ، فَأَجَازَهُ لِمَنِ اسْتَعْمَلَ فِيهِ الصِّدْقَ. قَالَ وَسَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ، وَيَقُولُ: أَجْلِسُ وَأَصْبِرُ وَلَا أُطْلِعُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدًا، وَهُوَ يَقْدِرُ أَنْ يَحْتَرِفَ، قَالَ: لَوْ خَرَجَ فَاحْتَرَفَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ، وَإِذَا جَلَسَ خِفْتُ أَنْ يُخْرِجَهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ يَتَوَقَّعُ أَنْ يُرْسَلَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ. قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ يُبْعَثُ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فَلَا يَأْخُذُ؟ قَالَ: هَذَا جِيدٌ.

وَقُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ رَجُلًا بِمَكَّةَ قَالَ: لَا آكُلُ شَيْئًا حَتَّى يُطْعِمُونِي، وَدَخَلَ فِي جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ، فَجَاءَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ وَهُوَ مُتَّزِرٌ بِخِرْقَةٍ، فَأَلْقَيَا إِلَيْهِ قَمِيصًا، وَأَخَذَا بِيَدَيْهِ، فَأَلْبَسَاهُ الْقَمِيصَ، وَوَضَعَا بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْئًا، فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى وَضَعَا مِفْتَاحًا مِنْ حَدِيدٍ فِي فِيهِ، وَجَعَلَا يَدُسَّانِ فِي فَمِهِ، فَضَحِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَجَعَلَ يَعْجَبُ. وَقُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ رَجُلًا تَرَكَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، وَجَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَقَعَ فِي يَدِهِ ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ، وَتَرَكَ دُورَهُ لَمْ يَأْمُرْ فِيهَا بِشَيْءٍ، وَكَانَ يَمُرُّ فِي الطَّرِيقِ، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا مَطْرُوحًا، أَخَذَهُ مِمَّا قَدْ أُلْقِيَ. قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: فَقُلْتُ لِلرَّجُلِ: مَا لَكَ حُجَّةٌ عَلَى هَذَا غَيْرُ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْأَسْوَدِ، قَالَ: بَلْ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ، كَانَ يَمُرُّ بِالْمَزَابِلِ، فَيَلْتَقِطُ الرِّقَاعَ، قَالَ: فَصَدَّقَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ: قَدْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ. ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ جَاءَنِي الْبَقْلِيُّ وَنَحْوُهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: لَوْ تَعَرَّضْتُمْ لِلْعَمَلِ، تُشْهِرُونَ أَنْفُسَكُمْ! قَالَ: وَأَيْشِ نُبَالِي مِنَ الشُّهْرَةِ؟ وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يَخْرُجُ إِلَى مَكَّةَ بِغَيْرِ زَادٍ، قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُطِيقُ وَإِلَّا فَلَا إِلَّا بِزَادٍ وَرَاحِلَةٍ، لَا تُخَاطِرْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ: يَعْنِي إِنْ أَطَاقَ وَعَلِمَ أَنَّهُ يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَسْأَلُ وَلَا تَسْتَشْرِفُ نَفْسَهُ لِأَنْ يَأْخُذَ أَوْ يُعْطَى فَيَقْبَلَ، فَهُوَ مُتَوَكِّلٌ عَلَى الصِّدْقِ، وَقَدْ أَجَازَ الْعُلَمَاءُ التَّوَكُّلَ عَلَى الصِّدْقِ. قَالَ: وَقَدْ حَجَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَكَفَاهُ فِي حَجَّتِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا. وَسُئِلَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: هَلْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَدْخُلَ الْمَفَازَةَ بِغَيْرِ زَادٍ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنِيرٍ، فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْمَفَازَةَ بِغَيْرِ زَادٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ

لَهُ أَنْ يَدْخُلَ، وَمَتَى كَانَ الرَّجُلُ ضَعِيفًا، وَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَصْبِرَ، أَوْ يَتَعَرَّضَ لِلسُّؤَالِ، أَوْ أَنْ يَقَعَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ تَرْكُ الْأَسْبَابِ حِينَئِذٍ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ كَمَا أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْكَسْبَ وَعَلَى مَنْ دَخَلَ الْمَفَازَةَ بِغَيْرِ زَادٍ، وَخُشِيَ عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ لِلسُّؤَالِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ فَيَحُجُّونَ، فَيَأْتُونَ مَكَّةَ فَيَسْأَلُونَ النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] [الْبَقَرَةِ: 197] ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، فَلَا يُرَخَّصُ فِي تَرْكِ السَّبَبِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَّا لِمَنِ انْقَطَعَ قَلْبُهُ عَنِ الِاسْتِشْرَافِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ التَّوَكُّلِ فَقَالَ: قَطْعُ الِاسْتِشْرَافِ بِالْيَأْسِ مِنَ الْخَلْقِ، فَسُئِلَ عَنِ الْحُجَّةِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يُرْمَى فِي النَّارِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْكَسْبَ أَفْضَلُ بِكُلِّ حَالٍ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ يَقْعُدُ وَلَا يَكْتَسِبُ وَيَقُولُ: تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: يَنْبَغِي لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ، وَلَكِنْ يَعُودُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكَسْبِ. وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ فِي بَيْتِهِ زَعَمَ أَنَّهُ يَثِقُ بِاللَّهِ فَيَأْتِيهِ بِرِزْقِهِ، قَالَ: إِذَا وَثِقَ بِاللَّهِ حَتَّى يَعْلَمَ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ

وَثِقَ بِهِ، لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْئًا أَرَادَهُ، لَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ، وَقَدْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يُؤَجِّرُونَ أَنْفُسَهُمْ، «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» ، وَلَمْ يَقُولُوا: نَقْعُدُ حَتَّى يَرْزُقَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَابْتَغَوْا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] : [الْجُمُعَةِ: 10] ، وَلَابُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمَعِيشَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بِشْرٍ مَا يُشْعِرُ بِخِلَافِ هَذَا، فَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي " الْحِلْيَةِ " أَنَّ بِشْرًا سُئِلَ عَنِ التَّوَكُّلِ، فَقَالَ: اضْطِرَابٌ بِلَا سُكُونٍ، وَسُكُونٌ بِلَا اضْطِرَابٍ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَسِّرْهُ لَنَا حَتَّى نَفْقَهَ، فَقَالَ بِشْرٌ: اضْطِرَابٌ بِلَا سُكُونٍ، رَجُلٌ يَضْطَرِبُ بِجَوَارِحِهِ، وَقَلْبُهُ سَاكِنٌ إِلَى اللَّهِ، لَا إِلَى عَمَلِهِ، وَسُكُونٌ بِلَا اضْطِرَابٍ، فَرَجُلٌ سَاكِنٌ إِلَى اللَّهِ بِلَا حَرَكَةٍ، وَهَذَا عَزِيزٌ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَبْدَالِ. وَبِكُلِّ حَالٍ، فَمَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى هَذِهِ الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةِ، فَلَابُدَّ لَهُ مِنْ مُعَانَاةِ الْأَسْبَابِ لَاسِيَّمَا مَنْ لَهُ عِيَالٌ لَا يَصْبِرُونَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» . وَكَانَ بِشْرٌ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي عِيَالٌ لَعَمِلْتُ وَاكْتَسَبْتُ. وَكَذَلِكَ مَنْ ضَيَّعَ بِتَرْكِهِ الْأَسْبَابَ حَقًّا لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِفَوَاتِ حَقِّهِ، فَإِنَّ هَذَا عَاجِزٌ مُفْرِطٌ، وَفِي مِثْلِ هَذَا جَاءَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، فَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُولَنَّ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ اللَّوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ، فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» . وَذُكِرَ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ عِنْدِي حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَى الْوَضِينُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ مَحْفُوظِ بْنِ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ عَابِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ التَّوَكُّلَ بَعْدَ الْكَيْسِ» وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْخُذُ بِالْكَيْسِ وَالسَّعْيِ فِي الْأَسْبَابِ الْمُبَاحَةِ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ بَعْدَ سَعْيِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يُنَافِي الْإِتْيَانَ بِالْأَسْبَابِ بَلْ قَدْ يَكُونُ جَمْعُهُمَا أَفْضَلَ. قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: لَقِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، قَالَ: بَلْ أَنْتُمُ الْمُتَأَكِّلُونَ، إِنَّمَا الْمُتَوَكِّلُ الَّذِي يُلْقِي حَبَّهُ فِي الْأَرْضِ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: سَأَلَ الْمَازِنِيُّ بِشْرَ بْنَ

الْحَارِثِ عَنِ التَّوَكُّلِ، فَقَالَ: الْمُتَوَكِّلُ لَا يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ لِيُكْفَى، وَلَوْ حَلَّتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي قُلُوبِ الْمُتَوَكِّلَةِ، لَضَجُّوا إِلَى اللَّهِ بِالنَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ، وَلَكِنَّ الْمُتَوَكِّلَ يَحُلُّ بِقَلْبِهِ الْكِفَايَةُ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيُصَدِّقُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا ضَمِنَ. وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ التَّوَكُّلِ لَا يَأْتِي بِالتَّوَكُّلِ، وَيَجْعَلُهُ سَبَبًا لِحُصُولِ الْكِفَايَةِ لَهُ مِنَ اللَّهِ بِالرِّزْقِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ، لَكَانَ كَمَنْ أَتَى بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ لِاسْتِجْلَابِ الرِّزْقِ وَالْكِفَايَةِ بِهَا، وَهَذَا نَوْعُ نَقْصٍ فِي تَحْقِيقِ التَّوَكُّلِ. وَإِنَّمَا الْمُتَوَكِّلُ حَقِيقَةً مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ ضَمِنَ لِعَبْدِهِ رِزْقَهُ وَكِفَايَتَهُ، فَيُصَدِّقُ اللَّهَ فِيمَا ضَمِنَهُ، وَيَثِقُ بِقَلْبِهِ، وَيُحَقِّقُ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ فِيمَا ضَمِنَهُ مِنَ الرِّزْقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَ التَّوَكُّلَ مَخْرَجَ الْأَسْبَابِ فِي اسْتِجْلَابِ الرِّزْقِ بِهِ، وَالرِّزْقُ مَقْسُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَمُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] [هُودٍ: 6] ، هَذَا مَعَ ضِعْفِ كَثِيرٍ مِنَ الدَّوَابِّ وَعَجْزِهَا عَنِ السَّعْيِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، قَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت: 60] [الْعَنْكَبُوتِ: 60] . فَمَا دَامَ الْعَبْدُ حَيًّا، فَرِزْقُهُ عَلَى اللَّهِ، وَقَدْ يُيَسِّرُهُ اللَّهُ لَهُ بِكَسْبٍ وَبِغَيْرِ كَسْبٍ، فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ، فَقَدْ جَعَلَ التَّوَكُّلَ سَبَبًا وَكَسْبًا، وَمَنْ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ لِثِقَتِهِ بِضَمَانِهِ، فَقَدْ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ ثِقَةً بِهِ وَتَصْدِيقًا، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ مُثَنَّى الْأَنْبَارِيِّ وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: لَا تَكُونُوا بِالْمَضْمُونِ مُهْتَمِّينَ، فَتَكُونُوا لِلضَّامِنِ مُتَّهِمِينَ، وَبِرِزْقِهِ غَيْرَ رَاضِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ ثَمَرَةَ التَّوَكُّلِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، فَمَنْ وَكَلَ أُمُورَهُ إِلَى اللَّهِ وَرَضِيَ بِمَا يَقْضِيهِ لَهُ، وَيَخْتَارُهُ فَقَدْ حَقَّقَ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ كَانَ الْحَسَنُ وَالْفُضَيْلُ وَغَيْرُهُمَا يُفَسِّرُونَ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ بِالرِّضَا.

قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ قَالَ: التَّوَكُّلُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: أَوَّلُهَا: تَرْكُ الشِّكَايَةِ، وَالثَّانِيَةُ: الرِّضَا، وَالثَّالِثَةُ: الْمَحَبَّةُ، فَتَرْكُ الشِّكَايَةِ دَرَجَةُ الصَّبْرِ، وَالرِّضَا سُكُونُ الْقَلْبِ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، وَهِيَ أَرْفَعُ مِنَ الْأُولَى، وَالْمَحَبَّةُ أَنْ يَكُونَ حُبُّهُ لِمَا يَصْنَعُ اللَّهُ بِهِ، فَالْأُولَى لِلزَّاهِدِينَ، وَالثَّانِيَةُ لِلصَّادِقِينَ، وَالثَّالِثَةُ لِلْمُرْسَلِينَ. انْتَهَى. فَالْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ إِنْ صَبَرَ عَلَى مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الرِّزْقِ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ صَابِرٌ، وَإِنْ رَضِيَ بِمَا يُقَدَّرُ لَهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَهُوَ الرَّاضِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِيَارٌ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا رِضًا إِلَّا فِيمَا يُقَدَّرُ لَهُ، فَهُوَ دَرَجَةٌ الْمُحِبِّينَ الْعَارِفِينَ، كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَقُولُ أَصْبَحْتُ وَمَا لِي سُرُورٌ إِلَّا فِي مَوَاضِعِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.

[الحديث الخمسون لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل]

[الْحَدِيثُ الْخَمْسُونَ لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ]

الْحَدِيثُ الْخَمْسُونَ. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا، فَبَابٌ نَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٌ؟ قَالَ: لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِهَذَا اللَّفْظِ. ـــــــــــــــــــــــــــــ وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَكُلُّهُمْ خَرَّجَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ. وَخَرَّجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: «آخِرُ مَا فَارَقْتُ عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ قُلْتُ لَهُ: أَيُّ الْأَعْمَالِ خَيْرٌ وَأَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَقَدْ سَبَقَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مُفَرَّقًا ذِكْرُ كَثِيرٍ مِنْ فَضَائِلِ الذِّكْرِ، وَنَذْكُرُ هَاهُنَا فَضْلَ إِدَامَتِهِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ. قَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَذْكُرُوهُ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَمَدَحَ مَنْ ذَكَرَهُ كَذَلِكَ؛

قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41 - 42] [الْأَحْزَابِ: 41] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] [الْجُمُعَةِ: 10] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] [الْأَحْزَابِ: 35] ، وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] [آلِ عِمْرَانَ: 191] . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: جُمْدَانَ، فَقَالَ: سِيرُوا هَذَا جُمْدَانَ، قَدْ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ قَالُوا: وَمَنِ الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» . وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَلَفْظُهُ: «سَبَقُ الْمُفَرِّدُونَ قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُهْتَرُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ» . وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَعِنْدَهُ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْمُفَرِّدُونَ؟ قَالَ: الْمُسْتَهْتَرُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ، فَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافًا» . وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَّاظِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَسِيرُ بِالدُّفِّ مِنْ جُمْدَانَ إِذِ اسْتَنْبَهَ، فَقَالَ: يَا مُعَاذُ أَيْنَ السَّابِقُونَ؟ فَقُلْتُ: قَدْ مَضَوْا وَتَخَلَّفَ أُنَاسٌ. فَقَالَ: يَا مُعَاذُ إِنَّ السَّابِقِينَ الَّذِينَ يُسْتَهْتَرُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» خَرَّجَهُ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ.

وَمِنْ هَذَا السِّيَاقِ يَظْهَرُ وَجْهُ ذِكْرِ السَّابِقِينِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ لَمَّا سَبَقَ الرَّكْبُ، وَتَخَلَّفَ بَعْضُهُمْ، نَبَّهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ السَّابِقِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُمُ الَّذِينَ يُدْمِنُونَ ذِكْرَ اللَّهِ، وَيُولَعُونَ بِهِ، فَإِنَّ الِاسْتِهْتَارَ بِالشَّيْءِ: هُوَ الْوُلُوعُ بِهِ وَالشَّغَفُ، حَتَّى لَا يَكَادَ يُفَارِقُ ذِكْرَهُ، وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ الْمُسْتَهْتَرُونَ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ فِيهِ: «الَّذِينَ أُهْتِرُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ» وَفَسَّرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ الْهَتْرَ بِالسَّقْطِ فِي الْكَلَامِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «الْمُسْتَبَّانِ شَيْطَانَانِ يَتَكَاذَبَانِ وَيَتَهَاتَرَانِ» . قَالَ: وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ عُمِّرَ وَخَرِفَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالْمُفَرِّدِينَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَنِ انْفَرَدَ بِالْعُمْرِ عَنِ الْقَرْنِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأَوْلَى فَالْمُرَادُ بِالْمُفَرِّدِينَ الْمُتَخَلِّينَ مِنَ النَّاسِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَذَا قَالَ، وَيُحْتَمَلُ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِالِانْفِرَادِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الِانْفِرَادُ بِهَذَا الْعَمَلِ وَهُوَ كَثْرَةُ الذِّكْرِ دُونَ الِانْفِرَادِ الْحِسِّيِّ، إِمَّا عَنِ الْقَرْنِ أَوْ عَنِ الْمُخَالَطَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيْلَةَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ عِنْدَ قُرْبِ الْإِفَاضَةِ: لَيْسَ السَّابِقُ الْيَوْمَ مَنْ سَبَقَ بِعِيرُهُ، وَإِنَّمَا السَّابِقُ مَنْ غُفِرَ لَهُ. وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْتَعَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، فَلْيُكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» .

وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّاحَاتِ قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: التَّكْبِيرُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَ " صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ حَتَّى يَقُولُوا: مَجْنُونٌ» . وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي " الْحِلْيَةِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّكُمْ تُرَاءُونَ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ الْعِبَادِ أَفْضَلُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا، وَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنَ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَتَخَضَّبَ دَمًا، لَكَانَ الذَّاكِرُونَ لِلَّهِ أَفْضَلَ مِنْهُ دَرَجَةً.»

وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ، [عَنْ أَبِيهِ] ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: أَيُّ الْجِهَادِ أَعْظَمُ أَجْرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا، قَالَ: فَأَيُّ الصَّائِمِينَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا، ثُمَّ ذَكَرَ لَنَا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَالصَّدَقَةَ كُلٌّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا:، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا أَبَا حَفْصٍ، ذَهَبَ الذَّاكِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَجَلْ» . وَقَدْ خَرَّجَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ وُجُوهِ مُرْسَلَةٍ بِمَعْنَاهُ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ» . وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: الَّذِينَ لَا تَزَالُ أَلْسِنَتُهُمْ رَطْبَةً مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، يَدْخُلُ أَحَدَهُمَا الْجَنَّةَ وَهُوَ يَضْحَكُ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ مِائَةَ نَسَمَةٍ، فَقَالَ: إِنَّ مِائَةَ نَسَمَةٍ مِنْ مَالِ رَجُلٍ كَثِيرٌ، وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ إِيمَانٌ مَلْزُومٌ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنْ لَا يَزَالَ لِسَانُ أَحَدِكُمْ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ مُعَاذٌ: لَأَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى اللَّيْلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْمِلَ عَلَى جِيَادِ الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى اللَّيْلِ.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] [آلِ عِمْرَانَ: 102] قَالَ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ، وَخَرَّجَهُ الْحَاكِمُ مَرْفُوعًا وَصَحَّحَهُ، وَالْمَشْهُورُ وَقْفُهُ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: «قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ، قَدْ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ كَثِيرًا، فَدُلَّنِي عَلَى أَنْ أَشْكُرَكَ كَثِيرًا، قَالَ: اذْكُرْنِي كَثِيرًا، فَإِنْ ذَكَرْتَنِي كَثِيرًا، فَقَدْ شَكَرْتَنِي، وَإِذَا نَسِيتَنِي فَقَدْ كَفَرْتَنِي» . وَقَالَ الْحَسَنُ: أَحَبُّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ أَكْثَرُهُمْ لَهُ ذِكْرًا وَأَتْقَاهُمْ قَلْبًا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: حَدَّثَنِي أَبُو الْمُخَارِقِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِرَجُلٍ مَغَيَّبٍ فِي نُورِ الْعَرْشِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ مَلَكٌ؟ قِيلَ: لَا، قُلْتُ: نَبِيٌّ؟ قِيلَ: لَا، قُلْتُ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ كَانَ لِسَانُهُ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَقَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ، وَلَمْ يَسْتَسِبَّ وَالِدَيْهِ قَطُّ» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ أَعْمَلَ بِهِ؟ قَالَ: تَذْكُرُنِي فَلَا تَنْسَانِي» . وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ مِيثَمٍ: بَلَغَنِي «أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِي ذِكْرًا.» وَقَالَ كَعْبٌ: مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللَّهِ، بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ، وَرَوَاهُ مُؤَمِّلٌ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا

وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَرْفُوعًا: «مَنْ لَمْ يُكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْإِيمَانِ» . وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا، فَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللَّهِ، فَقَدَ بَايَنَهُمْ فِي أَوْصَافِهِمْ، وَلِهَذَا خُتِمَتْ سُورَةُ الْمُنَافِقِينَ بِالْأَمْرِ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا يُلْهِيَ الْمُؤْمِنَ عَنْ ذَلِكَ مَالٌ وَلَا وَلَدٌ، وَأَنَّ مَنْ أَلْهَاهُ ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَهُوَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ: عَلَامَةُ حُبِّ اللَّهِ كَثْرَةُ ذِكْرِهِ، فَإِنَّكَ لَنْ تُحِبَّ شَيْئًا إِلَّا أَكْثَرْتَ ذِكْرَهُ. وَقَالَ فَتْحٌ الْمَوْصِلِيُّ: الْمُحِبُّ لِلَّهِ لَا يَغْفُلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، قَالَ ذُو النُّونِ: مَنِ اشْتَغَلَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ بِالذِّكْرِ، قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ نُورَ الِاشْتِيَاقِ إِلَيْهِ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْجُنَيْدِ: كَانَ يُقَالُ: مِنْ عَلَامَةِ الْمُحِبِّ لِلَّهِ دَوَامُ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَقَلَّمَا وَلِعَ الْمَرْءُ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَفَادَ مِنْهُ حُبَّ اللَّهِ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ فِي مُنَاجَاتِهِ: إِذَا سَئِمَ الْبَطَّالُونَ مِنْ بِطَالَتِهِمْ، فَلَنْ يَسْأَمَ مُحِبُّوكَ مِنْ مُنَاجَاتِكَ وَذِكْرِكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمُحَوَّلِيُّ: وَلِيُّ اللَّهِ الْمُحِبُّ لِلَّهِ لَا يَخْلُو قَلْبُهُ مِنْ ذِكْرِ رَبِّهِ، وَلَا يَسْأَمُ مَنْ خِدْمَتِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ عَائِشَةَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ» ، وَالْمَعْنَى: فِي حَالِ قِيَامِهِ وَمَشْيِهِ وَقُعُودِهِ وَاضْطِجَاعِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَى

طَهَارَةٍ أَوْ عَلَى حَدَثٍ. وَقَالَ مِسْعَرٌ: «كَانَتْ دَوَابُّ الْبَحْرِ فِي الْبَحْرِ تَسْكُنُ، وَيُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السِّجْنِ لَا يَسْكُنُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَكَانَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ خَيْطٌ فِيهِ أَلْفُ عُقْدَةٍ، فَلَا يَنَامُ حَتَّى يُسَبِّحَ بِهِ. وَكَانَ خَالِدُ بْنُ مِعْدَانَ يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعِينَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ سِوَى مَا يَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا مَاتَ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ لِيُغَسَّلَ، فَجَعَلَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ يُحَرِّكُهَا بِالتَّسْبِيحِ. وَقِيلَ لِعُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ: مَا نَرَى لِسَانَكَ يَفْتُرُ، فَكَمْ تَسْبَحُ كُلِّ يَوْمٍ؟ قَالَ مِائَةُ أَلْفِ تَسْبِيحَةٍ، إِلَّا أَنْ تُخْطِئَ الْأَصَابِعُ، يَعْنِي أَنَّهُ يُعَدُّ ذَلِكَ بِأَصَابِعِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ: كَانَتْ عِنْدَنَا امْرَأَةٌ بِمَكَّةَ تُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَةَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ، فَمَاتَتْ فَلَمَّا بَلَغَتِ الْقَبْرَ، اخْتُلِسَتْ مِنْ أَيْدِي الرِّجَالِ. وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَثِيرًا مَا يَقُولُ إِذَا لَمْ يُحْدِثْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شُغُلٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِبَعْضِ فُقَهَاءِ مَكَّةَ، فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَفَقِيهٌ، مَا قَالَهَا أَحَدٌ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ. وَكَانَ عَامَّةُ كَلَامِ ابْنِ سِيرِينَ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ. كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ الصَّنْعَانِيُّ إِذَا هَدَأَتِ الْعُيُونُ، نَزَلَ إِلَى الْبَحْرِ، وَقَامَ

فِي الْمَاءِ يَذْكُرُ اللَّهَ مَعَ دَوَابِّ الْبَحْرِ. نَامَ بَعْضُهُمْ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قَالَ: فَكُنْتُ كُلَّمَا اسْتَيْقَظْتُ مِنَ اللَّيْلِ، وَجَدْتُهُ يَذْكُرُ اللَّهَ، فَأَغْتَمُّ، ثُمَّ أُعَزِّي نَفْسِي بِهَذِهِ الْآيَةِ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] [الْمَائِدَةِ: 54] . الْمُحِبُّ اسْمُ مَحْبُوبُهُ لَا يَغِيبُ عَنْ قَلْبِهِ، فَلَوْ كُلِّفَ أَنْ يَنْسَى تَذَكُّرَهُ لَمَا قَدَرَ، وَلَوْ كُلِّفَ أَنْ يَكُفَّ عَنْ ذِكْرِهِ بِلِسَانِهِ لَمَا صَبَرَ. كَيْفَ يَنْسَى الْمُحِبُّ ذِكْرَ حَبِيبٍ ... اسْمُهُ فِي فُؤَادِهِ مَكْتُوبُ كَانَ بِلَالٌ كُلَّمَا عَذَّبَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي الرَّمْضَاءِ عَلَى التَّوْحِيدِ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، فَإِذَا قَالُوا لَهُ: قُلْ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى، قَالَ: لَا أُحْسِنُهُ. يُرَادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ ... وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ كُلَّما قَوِيَتِ الْمُعَرَّفَةُ، صَارَ الذِّكْرُ يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الذَّاكِرِ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ فِي مَنَامِهِ: اللَّهُ اللَّهُ، وَلِهَذَا يُلْهَمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ التَّسْبِيحَ، كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ، وَتَصِيرُ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " لَهُمْ، كَالْمَاءِ الْبَارِدِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا، كَانَ الثَّوْرِيُّ يَنْشِدُ: لَا لِأَنِّي أَنْسَاكَ أَكْثَرُ ذِكْرَا ... كَ وَلَكِنْ بِذَاكَ يَجْرِي لِسَانِي إِذَا سَمِعَ الْمُحِبُّ ذِكْرَ اسْمِ حَبِيبِهِ مِنْ غَيْرِهِ زَادَ طَرَبُهُ، وَتَضَاعَفَ قَلَقُهُ، «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ مَسْعُودٍ: اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ، قَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأَ عَلَيْهِ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» .

سَمِعَ الشِّبْلِيُّ قَائِلًا يَقُولُ: يَا أَلِلَّهِ يَا جَوَادُ، فَاضْطَرَبَ: وَدَاعٍ دَعَا إِذْ نَحْنُ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنَى ... فَهَيَّجَ أَشْوَاقَ الْفُؤَادَ وَمَا يَدْرِي دَعَا بِاسْمِ لَيْلَى غَيْرَهَا فَكَأَنَّمَا ... أَطَارَ بِلَيْلَى طَائِرًا كَانَ فِي صَدْرِي النَّبْضُ يَنْزَعِجُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ: إِذَا ذُكِرَ الْمَحْبُوبُ عِنْدَ حَبِيبِهِ ... تَرَنَّحَ نَشْوَانٌ وَحَنَّ طَرُوبُ ذِكْرُ الْمُحِبِّينَ عَلَى خِلَافِ ذِكْرِ الْغَافِلِينَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] [الْأَنْفَالِ: 2] . وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هَزَّةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ أَحَدُ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: «رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» . قَالَ أَبُو الْجِلْدِ: «أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذَا ذَكَرْتَنِي، فَاذْكُرْنِي، وَأَنْتَ تَنْتَفِضُ أَعْضَاؤُكَ، وَكُنْ عِنْدَ ذِكْرِي خَاشِعًا مُطْمَئِنًا، وَإِذَا ذَكَرْتَنِي، فَاجْعَلْ لِسَانَكَ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِكَ» . وَصَفَ عَلِيٌّ يَوْمًا الصَّحَابَةَ، فَقَالَ: كَانُوا إِذَا ذَكَرُوا اللَّهَ مَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الرِّيحِ، وَجَرَتْ دُمُوعُهُمْ عَلَى ثِيَابِهِمْ. قَالَ زُهَيْرٌ الْبَابِيُّ: إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا ذَكَرُوهُ، فَخَرَجَتْ نُفُوسُهُمْ إِعْظَامًا وَاشْتِيَاقًا، وَقَوْمٌ ذَكَرُوهُ، فَوَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فَرَقًا وَهَيْبَةً، فَلَوْ حُرِّقُوا بِالنَّارِ، لَمْ يَجِدُوا مَسَّ النَّارِ، وَآخَرُونَ ذَكَرُوهُ فِي الشِّتَاءِ وَبَرْدِهِ فَارْفَضُّوا عَرَقًا مِنْ خَوْفِهِ، وَقَوْمٌ ذَكَرُوهُ، فَحَالَتْ أَلْوَانُهُمْ غُبْرًا، وَقَوْمٌ ذَكَرُوهُ فَجَفَّتْ أَعْيُنُهُمْ سَهَرًا.

صَلَّى أَبُو يَزِيدَ الظُّهْرَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُكَبِّرَ، لَمْ يَقْدِرْ إِجْلَالًا لِاسْمِ اللَّهِ، وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ حَتَّى سُمِعَتْ قَعْقَعَةُ عِظَامِهِ. كَانَ أَبُو حَفْصٍ النَّيْسَابُورِيُّ إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ تَغَيَّرَتْ عَلَيْهِ حَالُهُ حَتَّى يَرَى جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَا أَظُنُّ مُحِقًّا يَذْكُرُ اللَّهَ عَنْ غَيْرِ غَفْلَةٍ، ثُمَّ يَبْقَى حَيًّا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ، فَإِنَّهُمْ أُيِّدُوا بِقُوَّةِ النُّبُوَّةِ وَخَوَاصِّ الْأَوْلِيَاءِ بِقُوَّةِ وِلَايَتِهِمْ. إِذَا سَمِعْتُ بِاسْمِ الْحَبِيبِ تَقَعْقَعَتْ ... مَفَاصِلُهَا مِنْ هَوْلِ مَا تَتَذَكَّرُ وَقَفَ أَبُو زَيْدٍ لَيْلَةً إِلَى الصَّبَاحِ يَجْتَهِدُ أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَا قَدَرَ إِجْلَالًا وَهَيْبَةً، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصَّبَاحِ نَزَلَ، فَبَالَ الدَّمَ. وَمَا ذَكَرْتُكُمُ إِلَّا نَسِيتُكُمُ ... نِسْيَانَ إِجْلَالٍ لَا نِسْيَانَ إِهْمَالِ إِذَا تَذَكَّرْتُ مَنْ أَنْتُمْ وَكَيْفَ أَنَا ... أَجْلَلْتُ مِثْلَكُمْ يَخْطُرُ عَلَى بَالِي الذِّكْرُ لَذَّةُ قُلُوبِ الْعَارِفِينَ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] [الرَّعْدِ: 28] . قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: مَا تَلَذَّذَ الْمُتَلَذِّذُونَ بِمِثْلِ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَعْشَرَ الصِّدِّيقِينَ بِي فَافْرَحُوا، وَبِذِكْرِي فَتَنَعَّمُوا. وَفِي أَثَرٍ آخَرَ سَبَقَ ذِكْرُهُ: وَيُنِيبُونَ إِلَى الذِّكْرِ كَمَا تُنِيبُ النُّسُورُ إِلَى وُكُورِهَا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُحِبُّ الذِّكْرِ كَمَا تُحِبُّ الْحَمَامَةُ وَكْرَهَا، وَلَهُمْ أَسْرَعُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ مِنَ الْإِبِلِ إِلَى وِرْدِهَا يَوْمَ ظَمَئِهَا. قُلُوبُ الْمُحِبِّينَ لَا تَطْمَئِنُّ إِلَّا بِذِكْرِهِ، وَأَرْوَاحُ الْمُشْتَاقِينَ لَا تَسْكُنُ إِلَّا بِرُؤْيَتِهِ،

قَالَ ذُو النُّونِ: مَا طَابَتِ الدُّنْيَا إِلَّا بِذِكْرِهِ، وَلَا طَابَتِ الْآخِرَةُ إِلَّا بِعَفْوِهِ، وَلَا طَابَتِ الْجَنَّةُ إِلَّا بِرُؤْيَتِهِ. أَبَدًا نُفُوسُ الطَّالِبِيـ ... ــنَ إِلَى طُلُولِكُمُ تَحِنُّ وَكَذَا الْقُلُوبُ بِذِكْرِكُمْ ... بَعْدَ الْمَخَافَةِ تَطْمَئِنُّ جُنَّتْ بِحُبِّكُمْ وَمَنْ ... يَهْوَى الْحَبِيبَ وَلَا يُجَنُّ بِحَيَاتِكُمْ يَا سَادَتِي ... جُودُوا بِوَصْلِكُمْ وَمُنُّوا قَدْ سَبَقَ حَدِيثُ: «اذْكُرُوا اللَّهَ حَتَّى يَقُولُوا: مَجْنُونٌ» وَلِبَعْضِهِمْ: لَقَدْ أَكْثَرْتُ مِنْ ذِكْرَا ... كَ حَتَّى قِيلَ وَسْوَاسُ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ كَثِيرَ الذِّكْرِ، فَرَآهُ بَعْضُ النَّاسِ فَأَنْكَرَ حَالَهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَمَجْنُونٌ صَاحِبُكُمْ؟ فَسَمِعَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، فَقَالَ لَا يَا أَخِي، وَلَكِنَّ هَذَا دَوَاءُ الْجُنُونِ. وَحُرْمَةُ الْوُدِّ مَا لِي عَنْكُمْ عِوَضٌ ... وَلَيْسَ لِي فِي سِوَاكُمْ سَادَتِي غَرَضُ وَقَدْ شَرَطْتُ عَلَى قَوْمٍ صَحِبْتُهُمُ ... بِأَنَّ قَلْبِي لَكُمْ مِنْ دُونِهِمْ فَرَضُوا وَمِنْ حَدِيثِي بِكُمْ قَالُوا: بِهِ مَرَضٌ ... فَقُلْتُ: لَا زَالَ عَنِّي ذَلِكَ الْمَرَضُ الْمُحِبُّونَ يَسْتَوْحِشُونَ مِنْ كُلِّ شَاغِلٍ يَشْغَلُ عَنِ الذِّكْرِ، فَلَا شَيْءَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْخَلْوَةِ بِحَبِيبِهِمْ. «قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ كَلِّمُوا اللَّهَ كَثِيرًا، وَكَلِّمُوا النَّاسَ قَلِيلًا، قَالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ اللَّهَ كَثِيرًا؟ قَالَ: اخْلُوا بِمُنَاجَاتِهِ، اخْلُوا بِدُعَائِهِ» . وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ حَتَّى أُقْعِدَ مِنْ رِجْلَيْهِ، فَكَانَ

يُصَلِّي جَالِسًا أَلْفَ رَكْعَةٍ، فَإِذَا صَلَّى الْعَصْرَ احْتَبَى وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَيَقُولُ: عَجِبْتُ لِلْخَلِيقَةِ كَيْفَ أَنِسَتْ بِسِوَاكَ، بَلْ عَجِبْتُ لِلْخَلِيقَةِ كَيْفَ اسْتَنَارَتْ قُلُوبُهَا بِذِكْرِ سِوَاكَ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَصُومُ الدَّهْرَ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ الْفُطُورِ، قَالَ: أَحُسُّ نَفْسِي تَخْرُجُ لِاشْتِغَالِي عَنِ الذِّكْرِ بِالْأَكْلِ. قِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ النَّضْرِ: أَمَا تَسْتَوْحِشُ وَحْدَكَ؟ قَالَ: كَيْفَ أَسْتَوْحِشُ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي. كَتَمْتُ اسْمَ الْحَبِيبِ مِنَ الْعِبَادِ ... وَرَدَّدْتُ الصَّبَابَةَ فِي فُؤَادِي فَوَاشَوْقًا إِلَى بَلَدٍ خَلِيٍّ ... لَعَلِّي بَاسِمِ مَنْ أَهْوَى أُنَادِي فَإِذَا قَوِيَ حَالُ الْمُحِبِّ وَمَعْرِفَتُهُ، لَمْ يَشْغَلْهُ عَنِ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ شَاغِلٌ، فَهُوَ بَيْنَ الْخَلْقِ بِجِسْمِهِ، وَقَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَصْفِهِمْ: صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَجْسَادٍ أَوَرَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ: جِسْمِي مَعِي غَيْرَ أَنَّ الرُّوحَ عِنْدَكُمْ ... فَالْجِسْمُ فِي غُرْبَةٍ وَالرُّوحُ فِي وَطَنِ وَقَالَ غَيْرُهُ: وَلَقَدْ جَعَلْتُكَ فِي الْفُؤَادِ مُحَدِّثِي ... وَأَبَحْتُ جِسْمِي مَنْ أَرَادَ جُلُوسِي فَالْجِسْمُ مِنِّي لِلْجَلِيسِ مُؤَانِسٌ ... وَحَبِيبُ قَلْبِي فِي الْفُؤَادِ أَنِيسِي وَهَذِهِ كَانَتْ حَالُ الرُّسُلِ وَالصِّدِّيقِينِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45] [الْأَنْفَالِ: 45] .

وَفِي " التِّرْمِذِيِّ " مَرْفُوعًا: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدَيِ الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُلَاقٍ قَرْنَهُ» . وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جَنُوبِكُمْ} [النساء: 103] [النِّسَاءِ: 103] يَعْنِي الصَّلَاةَ فِي حَالِ الْخَوْفِ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 103] [النِّسَاءِ: 103] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] [الْجُمُعَةِ: 10] ، فَأَمَرَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الِابْتِغَاءِ مِنْ فَضْلِهِ، وَكَثْرَةِ ذِكْرِهِ. وَلِهَذَا وَرَدَ فَضْلُ الذِّكْرِ فِي الْأَسْوَاقِ وَمُوَاطِنِ الْغَفْلَةِ كَمَا فِي " الْمُسْنَدِ " وَ " التِّرْمِذِيِّ "، وَ " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «مَنْ دَخَلَ سُوقًا يُصَاحُ فِيهَا وَيُبَاعُ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ كَمَثَلِ الْمُقَاتِلِ عَنِ الْفَارِّينَ، وَذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ فِي وَسَطِ شَجَرٍ يَابِسٍ» .

قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: مَا دَامَ قَلْبُ الرَّجُلِ يَذْكُرُ اللَّهَ، فَهُوَ فِي صَلَاةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي السُّوقِ وَإِنْ حَرَّكَ بِهِ شَفَتَيْهِ فَهُوَ أَفْضَلُ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقْصِدُ السُّوقَ لِيَذْكُرَ اللَّهَ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْغَفْلَةِ. وَالْتَقَى رَجُلَانِ مِنْهُمْ فِي السُّوقِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ حَتَّى نَذْكُرَ اللَّهَ فِي غَفْلَةِ النَّاسِ، فَخَلَوْا فِي مَوْضِعٍ، فَذَكَرَا اللَّهَ، ثُمَّ تَفَرَّقَا، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، فَلَقِيَهُ الْآخَرُ فِي مَنَامِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَشْعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَنَا عَشِيَّةَ الْتَقَيْنَا فِي السُّوقِ؟ فَصْلٌ فِي وَظَائِفِ الذِّكْرِ الْمُوَظَّفَةِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. مَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَذْكُرُوهُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، بِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مَوَاقِيتِهَا الْمُؤَقَّتَةِ، وَشَرَعَ لَهُمْ مَعَ هَذِهِ الْفَرَائِضِ الْخَمْسِ أَنْ يَذْكُرُوهُ ذِكْرًا يَكُونُ لَهُمْ نَافِلَةً، وَالنَّافِلَةُ: الزِّيَادَةُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَهِيَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ، فَشُرِعَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا مَعَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَبْلَهَا، أَوْ بَعْدَهَا أَوْ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا سُنُنًا، فَتَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْفَرِيضَةِ نَقْصٌ، جَبَرَ نَقْصَهَا بِهَذِهِ النَّوَافِلِ، وَإِلَّا كَانَتِ النَّوَافِلُ زِيَادَةً عَلَى الْفَرَائِضِ. وَأَطْوَلُ مَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ مَا بَيْنَ

صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَشَرَعَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ صَلَاةً تَكُونُ نَافِلَةً؛ لِئَلَّا يَطُولَ وَقْتُ الْغَفْلَةِ عَنِ الذِّكْرِ، فَشَرَعَ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَصَلَاةِ الْفَجْرِ صَلَاةَ الْوِتْرِ وَقِيَامَ اللَّيْلِ، وَشَرَعَ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ صَلَاةَ الضُّحَى. وَبَعْضُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ آكَدُ مِنْ بَعْضٍ فَآكَدُهَا الْوِتْرُ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِهِ، ثُمَّ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُدَاوِمُ عَلَيْهِ حَضَرًا وَسَفَرًا، ثُمَّ صَلَاةُ الضُّحَى، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا، وَفِي اسْتِحْبَابِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا، وَفِي التَّرْغِيبِ فِيهَا أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، وَوَرَدَ التَّرْغِيبُ أَيْضًا فِي الصَّلَاةِ عَقِيبَ زَوَالِ الشَّمْسِ. وَأَمَّا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ، فَمَشْرُوعٌ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَيَتَأَكَّدُ فِي بَعْضِهَا. فَمِمَّا يَتَأَكَّدُ فِيهِ الذِّكْرُ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَأَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ عَقِيبَ كُلِّ صَلَاةٍ مِنْهَا مِائَةَ مَرَّةٍ مَا بَيْنَ تَسْبِيحٍ وَتَحْمِيدٍ وَتَكْبِيرٍ وَتَهْلِيلٍ. وَيُسْتَحَبُّ - أَيْضًا - الذِّكْرُ بَعْدَ الصَّلَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَا تَطَوُّعَ بَعْدَهُمَا، وَهُمَا: الْفَجْرُ وَالْعَصْرُ، فَيُشْرَعُ الذِّكْرُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَهَذَانِ الْوَقْتَانِ - أَعْنِي وَقْتَ الْفَجْرِ وَوَقْتَ الْعَصْرِ - هُمَا أَفْضَلُ أَوْقَاتِ النَّهَارِ لِلذِّكْرِ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِهِ فِيهِمَا فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 42] [الْأَحْزَابِ: 42] ، وَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25] [الْإِنْسَانِ: 25] ، وَقَوْلِهِ: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41] [آلِ عِمْرَانَ: 41] ، وَقَوْلِهِ: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11] [مَرْيَمَ: 11] ، وَقَوْلِهِ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] [الرُّومِ: 17] ، وَقَوْلِهِ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55] [غَافِرٍ: 55] ، وَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205] [الْأَعْرَافِ: 205] ، وَقَوْلِهِ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] [طه: 130] ، وَقَوْلِهِ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] [ق: 39] .

وَأَفْضَلُ مَا فُعِلَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ مِنَ الذِّكْرِ: صَلَاةُ الْفَجْرِ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ، وَهُمَا أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ. وَقَدْ قِيلَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا: إِنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى وَهُمَا الْبَرْدَانِ اللَّذَانِ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَيَلِيهِمَا مِنْ أَوْقَاتِ الذِّكْرِ اللَّيْلُ. وَلِهَذَا يُذْكَرُ بَعْدَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ تَسْبِيحُ اللَّيْلِ وَصَلَاتُهُ. وَالذِّكْرُ الْمُطْلَقُ يَدْخُلُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَتَعَلُّمُهُ، وَتَعْلِيمُهُ، وَالْعِلْمُ النَّافِعُ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَجَّحَ التِّلَاوَةَ عَلَى التَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ. وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: كَانَ هَدْيُهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ، فَإِنْ قَرَأَ فَحَسَنٌ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الذِّكْرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَفْضَلُ مِنَ التِّلَاوَةِ، وَكَذَا قَالَ إِسْحَاقُ فِي التَّسْبِيحِ عَقِيبَ الْمَكْتُوبَاتِ مِائَةَ مَرَّةٍ: إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ التِّلَاوَةِ حِينَئِذٍ. وَالْأَذْكَارُ وَالْأَدْعِيَةُ الْمَأْثُورَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا إِحْيَاءُ مَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ بِالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّهُ نَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] [السَّجْدَةِ: 16] . وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ - وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - حَتَّى يَفْعَلَ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي أَفْضَلِ وَقْتِهَا، وَهُوَ آخِرُهُ، وَيَشْتَغِلُ مُنْتَظِرُ هَذِهِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي هَذَا الثُّلُثِ الْأَوَّلِ مِنَ اللَّيْلِ بِالصَّلَاةِ، أَوْ بِالذِّكْرِ وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ، وَصَلَّى بَعْدَهَا مَا يَتْبَعُهَا مِنْ سُنَنِهَا الرَّاتِبَةِ، أَوْ أَوْتَرَ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُوتِرَ قَبْلَ النَّوْمِ.

فَإِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِلنَّوْمِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَنَامَ إِلَّا عَلَى طَهَارَةٍ وَذِكْرٍ، فَيُسَبِّحُ وَيَحْمَدُ وَيُكَبِّرُ تَمَامَ مِائَةٍ، كَمَا عَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا أَنْ يَفْعَلَاهُ عِنْدَ مَنَامِهِمَا وَيَأْتِيَ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ النَّوْمِ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ، ثُمَّ يَنَامُ عَلَى ذَلِكَ. فَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ، وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَلْيَذْكُرِ اللَّهَ كُلَّمَا تَقَلَّبَ، فَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ عُبَادَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي - أَوْ قَالَ: " ثُمَّ دَعَا - اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ عَزَمَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ» . وَفِي " التِّرْمِذِيِّ " عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ طَاهِرًا يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى يُدْرِكَهُ النُّعَاسُ، لَمْ تَمْضِ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ

عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ. وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «وَكَانَ أَوَّلُ مَا يَقُولُ إِذَا اسْتَيْقَظَ: سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي، إِلَّا انْسَلَخَ مِنْ خَطَايَاهُ كَمَا تَنْسَلِخُ الْحَيَّةُ مِنْ جِلْدِهَا» . وَثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانِي بَعْدَ مَا أَمَاتَنِي وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» . ثُمَّ إِذَا قَامَ إِلَى الْوُضُوءِ وَالتَّهَجُّدِ، أَتَى بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَخْتِمُ تَهَجُّدَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي السَّحَرِ، كَمَا مَدَحَ اللَّهُ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ، وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ، وَاشْتَغَلَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ بِالذِّكْرِ الْمَأْثُورِ إِلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَمَنْ كَانَ حَالُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، لَمْ يَزَلْ لِسَانُهُ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ، فَيَسْتَصْحِبُ الذِّكْرُ فِي يَقَظَتِهِ حَتَّى يَنَامَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَبْدَأُ بِهِ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ، وَذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ صِدْقِ الْمَحَبَّةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: وَآخِرُ شَيْءٍ أَنْتَ فِي كُلِّ هَجْعَةٍ ... وَأَوَّلُ شَيْءٍ أَنْتَ وَقْتَ هُبُوبِي وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَعَامَّةُ ذَلِكَ يُشْرَعُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَيُشْرَعُ لَهُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ وَحَمْدُهُ عَلَى أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَلِبَاسِهِ وَجِمَاعِهِ لِأَهْلِهِ وَدُخُولِ مَنْزِلِهِ، وَخُرُوجِهِ مِنْهُ، وَدُخُولِهِ الْخَلَاءَ، وَخُرُوجِهِ

مِنْهُ، وَرُكُوبِهِ دَابَّتَهُ، وَيُسَمِّي عَلَى مَا يَذْبَحُهُ مَنْ نُسُكٍ وَغَيْرِهِ. وَيُشْرَعُ لَهُ حَمْدُ اللَّهِ عَلَى عُطَاسِهِ، وَعِنْدَ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْبَلَاءِ فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، وَعِنْدَ الْتِقَاءِ الْإِخْوَانِ، وَسُؤَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَنْ حَالِهِ، وَعِنْدَ تَجَدُّدِ مَا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ مِنَ النِّعَمِ، وَانْدِفَاعِ مَا يَكْرَهُهُ مِنَ النِّقَمِ، وَأَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَيَحْمَدُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَيُشْرَعُ لَهُ دُعَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ دُخُولِ السُّوقِ، وَعِنْدَ سَمَاعِ أَصْوَاتِ الدِّيَكَةِ بِاللَّيْلِ، وَعِنْدَ سَمَاعِ الرَّعْدِ، وَعِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ، وَعِنْدَ اشْتِدَادِ هُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَعِنْدَ رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ، وَعِنْدَ رُؤْيَةِ بَاكُورَةِ الثِّمَارِ. وَيُشْرَعُ أَيْضًا ذِكْرُ اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْكَرْبِ وَحُدُوثِ الْمَصَائِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ لِلسَّفَرِ، وَعِنْدَ نُزُولِ الْمَنَازِلِ فِي السَّفَرِ، وَعِنْدَ الرُّجُوعِ مِنَ السَّفَرِ. وَيُشْرَعُ التَّعَوُّذُ بِاللَّهِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَعِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يَكْرَهُ فِي مَنَامِهِ، وَعِنْدَ سَمَاعِ أَصْوَاتِ الْكِلَابِ وَالْحَمِيرِ بِاللَّيْلِ. وَتُشْرَعُ اسْتِخَارَةُ اللَّهِ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَى مَا لَا يَظْهَرُ الْخِيَرَةُ فِيهِ. وَتَجِبُ التَّوْبَةُ إِلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنَ الذُّنُوبِ كُلِّهَا صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] [آلِ عِمْرَانَ: 135] ، فَمَنْ حَافَظَ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يَزَلْ لِسَانُهُ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ.

فَصْلٌ قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بُعِثَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ جَوَامِعَ الذِّكْرِ، وَيَخْتَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الذِّكْرِ، كَمَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: مَا زِلْتَ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةِ عَرْشِهِ، وَمِدَادِ كَلِمَاتِهِ» . وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ، وَلَفْظُهُ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ اللَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةِ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» . وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ «أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى امْرَأَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوَى، أَوْ قَالَ: حَصَى تُسَبِّحُ بِهِ، فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ هَذَا وَأَفْضَلُ؟ سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ مِثْلُ ذَلِكَ» .

وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ صَفِيَّةَ، قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ يَدَيَّ أَرْبَعَةُ آلَافِ نَوَاةٍ أُسَبِّحُ بِهَا فَقَالَتْ سَبَّحْتُ بِهَذِهِ، فَقَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكِ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَبَّحْتِ بِهِ؟ فَقُلْتُ: عَلِّمْنِي، فَقَالَ: قُولِي: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ» . وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِهِ وَهُوَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ: مَاذَا تَقُولُ يَا أَبَا أُمَامَةَ؟ قَالَ: أَذْكُرُ رَبِّي، قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَكْثَرَ وَأَفْضَلَ مِنْ ذِكْرِكَ اللَّيْلَ مَعَ النَّهَارِ وَالنَّهَارَ مَعَ اللَّيْلِ؟ أَنْ تَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ، سُبْحَانَ اللَّهِ مِلْءَ مَا خَلَقَ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ مِلْءَ مَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا أَحْصَى كِتَابُهُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ مِلْءَ مَا أَحْصَى كِتَابُهُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ مِلْءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَتَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلُ ذَلِكَ» .

وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَخَرَّجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادٍ لَهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذٍ: يَا مُعَاذُ، كَمْ تَذْكُرُ رَبَّكَ كُلَّ يَوْمٍ؟ تَذْكُرُهُ كُلَّ يَوْمٍ عَشْرَةَ آلَافَ مَرَّةٍ؟ قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ أَفْعَلُ، قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَاتٍ هُنَّ أَهْوَنُ عَلَيْكَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ وَعَشَرَةِ آلَافٍ أَنْ تَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَدَدَ مَا أَحْصَاهُ عِلْمُهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَدَدَ كَلِمَاتِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَدَدَ خَلْقِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ زِنَةَ عَرْشِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِلْءَ سَمَاوَاتِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِلْءَ أَرْضِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِثْلُ ذَلِكَ مَعَهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلُ ذَلِكَ مَعَهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلُ ذَلِكَ مَعَهُ» . وَبِإِسْنَادِهِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ ذُكِرَ لَهُ امْرَأَةً تُسَبِّحُ بِخُيُوطٍ مُعَقَّدَةٍ، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكِ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْهُ؟ سُبْحَانَ اللَّهِ مِلْءَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، فَإِذَا أَنْتِ قَدْ مَلَأْتِ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ وَالسَّمَاءَ وَالْأَرْضَ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ قَالَ: كَانَ أَبِي يُحَدِّثُ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ ثُمَّ يَقُولُ: أَمْهِلُوا، سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ وَعَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَزِنَةَ مَا خَلَقَ وَزِنَةَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَمِلْءَ مَا خَلَقَ وَمِلْءَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَمِلْءَ سَمَاوَاتِهِ، وَمِلْءَ أَرْضِهِ، وَمِثْلَ ذَلِكَ وَأَضْعَافَ ذَلِكَ، وَعَدَدَ خَلْقِهِ، وَزِنَةِ عَرْشِهِ، وَمُنْتَهَى رَحْمَتِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ، وَمَبْلَغَ رِضَاهُ وَحَتَّى يَرْضَى وَإِذَا رَضِيَ، وَعَدَدَ مَا ذَكَرَهُ بِهِ خَلْقُهُ فِي جَمِيعِ مَا مَضَى، وَعَدَدَ مَا هُمْ ذَاكَرُوهُ فِيمَا بَقِيَ، فِي كُلِّ سَنَةٍ وَشَهْرٍ وَجُمُعَةٍ وَيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَسَاعَةٍ مِنْ

السَّاعَاتِ، وَتَنَسَّمَ وَتَنَفَّسَ مِنْ أَبَدٍ إِلَى الْأَبَدِ أَبَدَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَمَدَّ مِنْ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ أُولَاهُ، وَلَا يَنْفَدُ أُخْرَاهُ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنِ خَالِدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقُلْتُ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: خَيْرًا، فَقُلْتُ: تَرْجُو لِلْخَاطِئِ شَيْئًا؟ قَالَ: يَلْتَمِسُ عِلْمَ تَسْبِيحَاتِ أَبِي الْمُعْتَمِرِ نِعْمَ الشَّيْءُ. قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنِي بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ يُونُسَ بْنَ عُبَيْدٍ رَآهُ رَجُلًا فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَانَ قَدْ أُصِيبَ بِبِلَادِ الرُّومِ، فَقَالَ: مَا أَفْضَلُ مَا رَأَيْتَ ثَمَّ مِنَ الْأَعْمَالِ؟ قَالَ: رَأَيْتُ تَسْبِيحَاتِ أَبِي الْمُعْتَمِرِ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ. وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ مِنَ الدُّعَاءِ جَوَامِعُهُ، فَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عِنْدَ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ الْجَوَامِعُ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ» . وَخَرَّجَ الْفِرْيَابِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِجَوَامِعِ الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ مُحَمَّدٌ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ مَا قَضَيْتَ لِي مِنْ قَضَاءٍ، أَنْ تَجْعَلَ عَاقِبَتَهُ رُشْدًا» وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " وَالْحَاكِمُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ ذِكْرُ جَوَامِعِ الدُّعَاءِ، وَعِنْدَ

الْحَاكِمِ عَلَيْكَ بِالْكَوَامِلِ وَذَكَرَهُ. وَخَرَّجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ وَعِنْدَهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: مَا مَنَعَكِ أَنْ تَأْخُذِي بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَفَوَاتِحِهِ؟ وَذَكَرَ هَذَا الدُّعَاءِ» . وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدُعَاءٍ كَثِيرٍ لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئًا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعَوْتَ بِدُعَاءٍ كَثِيرٍ لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ؟ تَقُولُونَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» . وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءٍ لَهُ طَوِيلٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فَوَاتِحَ الْخَيْرِ، وَخَوَاتِمَهُ، وَجَوَامِعَهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَظَاهَرَهُ، وَبَاطِنَهُ» وَفِي " الْمُسْنَدِ " أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ سَمِعَ ابْنًا لَهُ يَدْعُو، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَإِسْتَبْرَقَهَا وَنَحْوًا مِنْ هَذَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا، فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلَتَ اللَّهَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَتَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِنْ شَرٍّ كَثِيرٍ، «وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] » [الْأَعْرَافِ: 55] وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ،

وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالَحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ» . وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُلِّمَ فَوَاتِحَ الْخَيْرِ وَجَوَامِعَهُ، أَوْ جَوَامِعَ الْخَيْرِ وَفَوَاتِحَهُ وَخَوَاتِمَهُ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَدْرِي مَا نَقُولُ فِي صَلَاتِنَا حَتَّى عَلِمْنَا، فَقَالَ: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ» فَذَكَرَهُ إِلَى آخِرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. آخِرُ الْكِتَابِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

§1/1