ثم أبصرت الحقيقة

محمد سالم الخضر

ثم أبصرت الحقيقة تأليف محمد سالم الخضر الطبعة الثانية 1428هـ - 2007م شبكة أنصار أهل البيت WWW.ANSAR.ORG

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعة الثانية 1428هـ - 2007م لمراسلة المؤلف أو المساهمة في طبع الكتاب يمكنك التواصل معنا على العنوان التالي: ص. ب 12421 - الشامية 71655 - الكويت أو على البريد الالكتروني [email protected] شبكة أنصار أهل البيت WWW.ANSAR.ORG

إهداء

إهداء إلى رسول الله الذي أنار الله به حياتي ... إلى أهل بيته الأطهار وصحابته الكرام الذين ظلمهم المؤرخون وقصّر في حقهم أهل الأهواء ... إلى أبي الذي لم تمتلئ عيناي بالنظر إليه قبل رحيله ... إلى أمي جبل العطاء وعنوان التضحية وبرج الشموخ ... إلى كل من أسدى إليّ نصيحة أو وجّه لي نقداً بناءاً ... إلى كل مسلم يحب الحقيقة ولا يرضى باستغلال الدين ولا بالطائفية المقيتة ... إلى هؤلاء جميعاً أهدي كتابي هذا ... راجياً من الله أن يلهمني الإخلاص ويجزيني عليه حسن الثواب.

((فهرس مواضيع الكتاب)) الموضوع ... الصفحة المقدمة ....................................................................... ... 11 الفصل الأول: خطوات إلى الأمام الوحدة التي نريد ............................................................. ... 15 دين موروث ................................................................. ... 17 حبك للشيء يعمي ويصم .................................................... ... 20 هذا ديني وذاك مذهبي ....................................................... ... 22 سهام رمتني وأخرى سترميني ................................................ ... 23 نحن مع الحق وإن قاله خصومنا .............................................. ... 26 لماذا لا نتحاور؟ ............................................................. ... 29 نريده حواراً من أجل الحقيقة ................................................. ... 31 من هنا كانت البداية .......................................................... ... 34 في السيدة زينب .............................................................. ... 41 الفصل الثاني: في حب أهل البيت حب أهل البيت .............................................................. ... 49 حبهم إيمان وتُقى وبغضهم نفاق وضلال ...................................... ... 53 مَنْ هم آل البيت؟ ............................................................ ... 57 أهل البيت بين الشرف والخصوصية .......................................... ... 75

الموضوع ... الصفحة حين ينقلب الحب بغضاً وعداوةً ............................................ ... 80 تحت أي بند يُصنّف هذا الحب؟! ........................................... ... 87 الغلو في أمهات كتب الشيعة ................................................ ... 99 كيف ينظر كبار علماء الشيعة إلى الأئمة الإثنى عشرية؟ ....................... ... 102 1 - آية الله العظمى الخميني ................................................. ... 102 2 - آية الله العظمى الخوئي .................................................. ... 109 3 - آية الله العظمى جواد التبريزي .......................................... ... 109 4 - آية الله العظمى محمد الحسيني الشيرازي ................................. ... 111 5 - آية الله العظمى محمد محمد صادق الصدر ................................ ... 112 6 - آية الله العظمى وحيد خراساني .......................................... ... 115 7 - آية الله العظمى ميرزا حسن الحائري الإحقاقي ........................... ... 118 8 - آية الله العظمى ميرزا عبد الرسول الإحقاقي ............................ ... 119 9 - آية الله العظمى محمد الحسيني الشاهرودي .............................. ... 121 10 - الإمام الأكبر محمد الحسين آل كاشف الغطاء ........................... ... 121 11 - العلامة جعفر التستري ............................................... ... 122 الفصل الثالث: الخلافة والإمامة الخلافة والإمامة ............................................................ ... 131 المرجعيات ولغة التكفير .................................................... ... 134 خطوات نحو إصلاح ما أفسدته الطائفية .................................... ... 138

الموضوع ... الصفحة لماذا لم يذكر الأئمة في القرآن؟ .............................................. ... 141 الإمام والإمامة في القرآن الكريم ............................................ ... 143 القرآن وعقيدة الإمامة الشيعية .............................................. ... 149 القول بالإمامة الإلهية بعد النبي طعن في ختم نبوته ........................... ... 151 نصوص شيعية اشترطت العدل في الحاكم لا العصمة ........................ ... 159 الأحلام لا تصلح لأن تكون دستوراً ........................................ ... 162 نهج البلاغة ينقض عقيدة الإمامة التي يعتقدها الشيعة ....................... ... 169 عندما يمتزج وهم الإمامة النصية بالخرافة الحسية! .......................... ... 173 مناقشة أدلة الإمامة عند الشيعة الإثنى عشرية ................................ ... 178 مَنْ الأفضل أبو بكر أم علي؟ ............................................... ... 180 الإمامية أضعف حجة قرآنية من أهل الكتاب ................................ ... 196 آية {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} ............................................... ... 204 آية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} .................................. ... 232 آية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} ........................... ... 246 آية التطهير وحديث الكساء ................................................. ... 257 آية المباهلة .................................................................. ... 292 آية {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَاد} ......................................... ... 300 مناقشة ما يُستدل به على الإمامة من السنة النبوية ............................. ... 306 أ- حديث غدير خُم ........................................................ ... 306

الموضوع ... الصفحة ب- حديث الاستخلاف على المدينة ........................................ ... 325 ج- حديث الطائر .......................................................... ... 334 د- حديث الدار ............................................................ ... 340 هـ - حديث (علي مني وأنا من علي) ........................................ ... 352 و- أحاديث الإثنى عشر إماماً .............................................. ... 357 لا أحاديث صحيحة في النص على الأئمة الإثنى عشر بأسمائهم ............... ... 365 روايات شيعية دامغة! ...................................................... ... 371 المرتضى لا يستبعد كون الأئمة أكثر من إثني عشر! ........................... ... 375 اعتراف خطير للشيخ حسين المدرسي الطباطبائي ............................ ... 376 واعتراف أخطر من الشيخ محمد الباقر البهبودي ............................ ... 378 من هم الخلفاء الإثنى عشر؟ ............. .................................. ... 379 الفصل الرابع: مع صحابة رسول الله مع صحابة رسول الله ....................................................... ... 389 حوار مع زميل ............................................................. ... 390 المَرءُ على دين خليله ......................................................... ... 393 ماذا عن امرأتي نوح ولوط عليهما السلام؟ .................................. ... 396 حديث (قرن الشيطان) هل أُريد به عائشة رضي الله عنها؟ ................... ... 399 أم المؤمنين عائشة وموقعة الجمل ............................................ ... 401 مع مبغض لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ................................... ... 405

الموضوع ... الصفحة شرعنة الكذب وعقلنة اللا معقول .......................................... ... 409 مخلوقات في كواكب أخرى ... لكنها تتبرأ من أبي بكر وعمر! ................ ... 410 المحقق الثاني وعادة لعن الشيخين (أبي بكر وعمر)!! ........................ ... 411 أحسن طريقة لسب صحابة نبيك!! ......................................... ... 412 {قُلْ بِئْسَمَا يَامُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِين} ............................... ... 414 تشبيه الاسترابادي أم المؤمنين عائشة بحيوان! ............................... ... 417 سب صحابة رسول الله كفر عند أئمة أهل البيت ............................ ... 421 الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) يتبرأ من مبغضي الصحابة ............. ... 422 من هو جد الإمام جعفر الصادق؟ .......................................... ... 423 حب الإمام عليّ للصحابة ................................................... ... 425 نهج البلاغة والثناء العطر على عمر بن الخطاب .............................. ... 426 هل يُسمّي الرجل أبناءه بأسماء أعدائه؟! ................................... ... 430 مالك الأشتر والشيخين أبو بكر وعمر ...................................... ... 432 بيعة الرضوان تشهد لعثمان بن عفان بالرضوان .............................. ... 433 شرف صحبة رسول الله .................................................... ... 435 المقدّس الأردبيلي - من الذي قدّسه؟ ....................................... ... 438 صحابة رسول الله كما تصورهم كتب الشيعة وعلمائها ...................... ... 439 صورتان متضادتان ........................................................ ... 442 الطعن في الصحابة يستلزم الطعن في الدين الذي نقلوه لهذه الأمة ............. ... 447

الموضوع ... الصفحة لابد من التمييز بين الصحبة اللغوية والصحبة الشرعية ...................... ... 456 هل في الصحابة منافقون؟ .................................................. ... 460 عدالة الصحابة ............................................................. ... 475 منقلبون على أعقابهم ومرتدون مِنْ أجل ماذا؟! ............................. ... 506 من المرتد - صحابة رسول الله أم هؤلاء؟ ................................... ... 509 هل بَشَّر القرآن الصحابة بردتهم وكفرهم؟ .................................. ... 512 نموذجان حيّان للمزاجية في تفسير النصوص الشرعية ....................... ... 514 أ- آية آل عمران ...................................................... ... 514 ب- حديث المذادة عن الحوض ........................................ ... 530 التعامل مع الصحابة من خلال أخطائهم .................................... ... 539 وبالمكيال الذي تكيل يُكال لك .............................................. ... 541 رؤية ناصبيّ للإمام علي ..................................................... ... 542 خاتمة ....................................................................... ... 548 المراجع ..................................................................... ... 550

مقدمة

مقدمة لا أدري أترى وريقاتي هذه فجراً تشرق بعده أم تبقى حبيسة الدفتر فأُحرم أجرها وبركتها؟ لقد مرت عليّ السنون وأنا أقلب صفحات الكتب .. أتفكر وأتساءل .. أقرأ وأدوّن .. أضيف وأمحو .. تلتها أخرى عجاف أملت عليّ أن تبقى خواطري وأفكاري بعيدة عن القلم الذي يدوّنها ويصيغها ويسبك عباراتها. فكنت أتصفح كل يوم ما دوّنته في دفتري لعل الله الفتاح العليم يفتح على قلبي فتحاً تجيش به مشاعري وتتوقد فيه أفكاري فأسل قلمي من غمده وأسطر ما أختزنته حافظتي بالأريحية التي ينبغي أن أسطرها به. ثم شاء الله تعالى أن تتجمع لدي الخواطر من جديد، ويسيل حبر القلم على الورق ليسطر لك أيها القارئ هذه الكلمات. فهذه رسالة نسجتها لك الزهور، عنوانها المحبة وموضوعها طلب الحقيقة. فالحقيقة اليوم ومنذ زمن بعيد باتتْ حبيسة التعصب والإدعاء .. وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى وليلى لا تُقر لهم بذاك وأحسب أنّ كتابي هذا سيُرضي أقواماً ويسخط آخرين، شأنه شأن الحقيقة المجردة ترضي الباحثين المتجردين وتُسخط المتعصبين المنحازين. لكني على يقين مِنْ أَنَّ الكلمة الحرة التي لا تعرف الزيف هي شمعة تضيء أبداً .. فإن كُتِب لي أن أُعادى فأي صاحب كلمة حق يَسلم في زماننا فضلاً عن من مضى. محمد الخضر

خطوات إلى الأمام

خطوات إلى الأمام ... (ينبغي من كل مكلّف أن يطرح العصبية ويصحح النية ويستعمل النظر بالفطرة التي فطر الله الناس عليها ولا يقدّم عليها ما لقنه أهل مذهبه) الإمام ابن الوزير

الوحدة التي نريد

الوحدة التي نريد .. ننادي بالوحدة فلا نجني إلا الفرقة، وننشد الاجتماع فلا نجني إلا الشتات. ها نحن نزرع الشوك فلا نحصد إلا الألم ... ونشتكي من عمق جراحات الأمة ونحن السكين التي تُقطّع أوصالها. كأيِّ مسلم .. حُق لي أن أتحسر على تاريخ عظيم وبطولات وتضحيات قادتنا بالأمس إلى الرفعة فتناسيناها وما عدنا نذكرها إلا في كتبنا المدرسية أو مسابقاتنا الرمضانية أو وسائلنا الإعلامية كمسلسلات وتمثيليات هي إلى تشويه التاريخ والرموز أقرب منها إلى النطق بالحقيقة. حُق لي أن أتحسر على همم عالية تربت في أحضان الإسلام فأخرجت لنا جهابذة الناس على مر التاريخ وفي شتى الميادين، لكنها باتت اليوم أمجاداً نتغنى بها ونذرف عليها الدموع في أحسن أحوالنا. نعم .. حُق لي ولك أن نحزن، وأن نستحث إيماننا وهمتنا وعاطفتنا للعودة إلى الصدارة من جديد. لقد كانت عيناي تتطلعان إلى الوحدة ... تترقبان اليوم الذي تنكشف فيه عن الأمة الغمة ... تمنيت لو أنّ بيدي أن أجمّع هذا الشتات .. وأنّ أحل عقدة لم يجرؤ مسلمو اليوم على حلها حتى الآن .. لكن صوتي كان ضعيفاً .. تماماً كإدراكي لأسباب هذه الفرقة ... كنت عاطفياً جداً .. أريد لوضع الأمة أن يتغير بغمضة عين .. كأنّ الفرقة والاختلاف على قضايا هامشية يُمكن أن تُهمّش وأن تُطرح بعيداً عن الطريق.

كبرت وكبر معي هذا الهم .. وبت أدرك ما لم أدركه من قبل .. وبت أتساءل عن الوحدة التي نتكلم عنها ونتطلع إليها .. أهي الوحدة الصورية التي نعيشها للحظة ونفتقدها طوال العمر أم تلك التي تضمن لبنياننا البقاء متماسكاً وصلباً أمام التحديات؟ أهي الوحدة التي تكون مبنية على كتاب الله عز وجل وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام أم تلك التي تكون على حساب كتاب الله وسنة نبيه؟! لقد كُنتُ أستحضر أمامي دائماً علاقتنا مع أهل الكتاب الذين أنزل الله عليهم الكتب وأرسل إليهم الرسل، عندما انحرفوا عن دين أنبيائهم ووصايا ربهم، جاءهم الإسلام مصححاً لما ورثوه من الضلال، داعياً إياهم إلى تصحيح المسار وإلى الاندماج في لواء الحق فلم يرتض ما هم عليه من الضلال بحجة أنهم أتباع أنبياء بل دعاهم إلى المصارحة مع النفس وإلى عرض عقائدهم على وحي السماء. فللوحدة مقاييس شرعية ... وإذا أراد المنتسبون إلى الإسلام من شتى الفرق الاتحاد مع بعضهم البعض فلا بد أن تكون الوحدة على عقيدة الإسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا على عقائد شتى لا تمت للإسلام بصلة. وتأمل قول الله عز وجل للمؤمنين عنهم {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1) وتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ففيها العبرة والعظة. ففي زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت فئة ممن تتلبس بلباس الإسلام وتنطق بالشهادتين نطقاً دون أن تعيش معنى تلك الشهادتين في حياتها ... كان لتلك الفئة ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية 137

دين موروث

من يستمع لها من المؤمنين إحساناً للظن بها، فقال الله عز وجل {لَوْخَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (¬1) لكننا نغفل عن هذه الحقيقة أو نتغافل عنها فنجعل عواطفنا هي الحكم، والإسلام هو التبع لهذه العواطف ... دين موروث .. لو وُلدت في منطقة (النجف) أو (القطيف) أو (قُم) فإنك حتماً ستكون شيعياً إثنى عشرياً، لأنّ البيئة التي نشأتَ بها هي بيئة شيعية وأبواك بلا شك كذلك شئت أم أبيت والحال معك كذلك لو أنك وُلدت في (الرياض) أو (القاهرة) أو (وهران)، فإنك حتماً ستكون سنياً، لأنّ البيئة والأسرة أملتْ عليك أن تكون كذلك. لكن أترى الحق فيما تحدده لنا بيئتنا؟ أم بما يعرفه المرء من دلائل وبراهين؟ حاول أن تتفكر إن كنت سنياً بزميل شيعي إثني عشري يُكثر جدالك ومحاجتك ويتهمك بالنصب وبغض أهل البيت، لو أنّ هذا الشيعي وُلد لأبوين سنيين وفي بلد سني، ألا ترى أنه سيكون أول مَنْ يساندك ويشد على عضديك وربما يتحمس للرد على الشيعة الإثني عشرية أكثر منك!، في حين أنه اليوم أشد الناس جدالاً لك وعصبية في حوارك؟ ألا ترى أننا نبني قناعاتنا الدينية مِن منطلق ما وجدنا عليه آباءنا لا مِن منطلق التجرد للحق واتباعه؟ ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية 47

وأنّ حديث (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهوِّدانِهِ أو يُنصِّرانِهِ أو يُمَجِّسانِهِ ...) (¬1) ينطبق أحياناً على قناعاتنا المذهبية؟ الدين والمذهب بالنسبة لكثير من المسلمين اليوم كأثاث المنزل أو كالأموال والأراضي .. ورثوه عن آبائهم وأجدادهم .. وهم على خطاهم سائرون .. هذا إن لم يكن الدين في حياتهم أقل من الدينار والدرهم ومتاع الدنيا الزائل. بالأمس كانت الأمم السابقة المكذّبة للرسل تجابه الحق الذي جاءت به الرسل قائلة {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (¬2) فكان جواب الرسول {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ} فكان رد هؤلاء المتعصبين لباطلهم، الجاهلين لحقيقة أمرهم هو {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}! المشهد يتكرر، لكن ليس بين رسل الله وبين قوم كفار وثنيين، وإنما بين كلمة حق وبين متعصبين ألفوا ما وجدوا عليه آباءهم، فردّوا الحق وتشبثوا بالباطل. وللأمير الصنعاني رحمه الله كلمات جميلة في هذا المعنى يقول فيها: (ولنقدم قبل المقصود أصلاً مهماً وهو أنّ الله تبارك وتعالى قد أخبر عن الكفار بأنّ نظرهم مقصور على اتباع الآباء في كتابه العزيز في غير آية عايباً عليهم ذلك، مثل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (¬3)، {قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب (ما قيل في أولاد المشركين) - حديث رقم (1385) وذكره ابن بابويه القمي في كتابه (علل الشرائع 2/ 376 باب (العلة التي من أجلها سقطت الجزية عن النساء والمقعد والأعمى والشيخ الفاني والولدان ورفعت عنهم) - رواية رقم (2). (¬2) سورة الزخرف آية 23 (¬3) سورة البقرة آية 170

وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُون} (¬1)، {مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ} (¬2) أي ليس لهم مستند سوى ذلك {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (¬3)، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} (¬4) فهم في جميع الآيات قاصرون نظرهم على اتباع الآباء لحسن الظن بهم حتى صار ذلك عادة لهم بل فخراً يُعَيّرون به مَنْ خالفهم، ويضربون به المثل حتى سمّوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ابن أبي كبشة، لأنه عبد ما لم يعبد آباؤه كما عبد أبو كبشة الشِّعرى (¬5)، وحتى ذكرّوا بذلك أبا طالب وهو في طريق الموت وقالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! ولذلك خص الأبوين في الإخبار عن تغيير الفطرة "وإنما يهودانه أو ينصرانه" ولذلك مقت الله الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وفسَّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتخاذهم بأنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه وإذا حَرَّموا عليهم شيئاً حرموه كما أخرجه الترمذي عن عَدِّي بن حاتم رضي الله عنه. فمن عقل وأنصف فلينظر إلى جميع بني آدم في القديم والحديث في الملل الكفرية ثم المذاهب الإسلامية! بعد إخراجه للأنبياء صلى الله عليهم ومن سار على سيرتهم من السابقين ¬

_ (¬1) سورة الزخرف آية 23 (¬2) سورة هود آية 109 (¬3) سورة الشعراء آية 74 (¬4) سورة يونس آية 78 (¬5) كانت خزاعة تعبد (الشِّعرى) وهو نجم من نجوم برج الجوزاء شديد الضياء، وأول من سَنَّ لهم ذلك رجل من أشرافهم يُقال له (أبوكبشة) عبدها، وقال: لأنّ النجوم تقطع السماء عرضاً والشِّعرى طولاً فهي مخالفة لها فعبدتها خزاعة، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خلاف العرب في الدين سمّوه (ابن أبي كبشة) لخلافه إياهم كخلاف أبي كبشة في عبادة الشِّعرى.

حبك للشيء يعمي ويصم

والتابعين وقليل ما هم بالنظر إلى الخليقة، فإنه يجد الناسَ تبعاً لما ألفوه من اتباع الآباء بمجرد تقليد وهوى ومحبة للجمود على دين الآباء!!) (¬1) حبك للشيء يعمي ويصم .. إنّ ورقة بيضاء تضعها أمام عينيك كفيلة بأن تحجب عنك رؤية العالم بأسره ... هذا العالم الفسيح المترامي الأطراف الذي عجز الإنس والجان عن اختراقه والوصول إلى أقصاه يمكن أن تحجبه قصاصة ورق صغيرة بحجم كف اليدِّ إذا ما وُضعت أمام العينين ... كذلك هو الوهم يحجب ما وراءه. وما مِنْ وهم أعظم وأشأم على صاحبه من وهم الحب، (فإنه إذا استحكم الحب وقوي أسكر المحب) (¬2). فالعاشق الولهان لا يرى في معشوقته إلا الكمال والتمام ولا يقف على عيب فيها يُنكره لأجل ذلك عَرَّّف الفيلسوف أرسطاطاليس (¬3) العشق بأنه (عمى الحس عن إدراك عيوب المحبوب). ¬

_ (¬1) إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة 45 - 50 (¬2) روضة المحبين ونزهة المشتاقين 1/ 152 (¬3) يعتبر أرسطاطاليس أحد أفضل حكماء زمانه وأعلمهم، أخذ الحكمة عن أفلاطون تلميذ سقراط، وعُرِف عنه مخالفته لأستاذه في مسائل عدة، فلما سُئِل عن ذلك أجاب: أفلاطون صديق، والحقّ صديق، إلا أنّ الحقّ أولى بالصداقة منه.

هذا في العشق، والخَطْبُ في العقائد أشد وأنكى، فإنّ المرء يرتبط بعقيدته ارتباطاً مصيرياً لا يكاد يُتصور في غيره، ولعل الحروب العقائدية بين أهل الملل والمساجلات الكلامية فيما بينهم خير شاهد على ذلك. وحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي رواه أبو داود في "السنن": (حُبُّكَ للشيء يُعمي ويُصِمّ) (¬1) أحسن ما في هذا الباب، وفيه ما يفيد معنى زائداً على كلام الحكماء، فإنّ حب الشيء والتعلق به قد لا يعمي البصر فحسب بل يصمّ الآذان عن سماع عيوب المحبوب ولو نبهه إليها منبّه! يقول أبو الطيب محمد شمس الحق في شرح الحديث: (أي يجعلك أعمى عن رؤية معايب الشيء المحبوب بحيث لا تبصر فيه عيباً ويجعلك أصم عن سماع قبائحه بحيث لا تسمع فيه كلاماً قبيحاً لاستيلاء سلطان المحبة على فؤادك) (¬2). ولما سُئِل اللغوي ثعلب عن معنى الحديث قال: يَعمي العين عن النظر إلى مساويه ويصم الأذن عن سماع العذل فيه، وأنشأ يقول: ¬

_ (¬1) سنن أبي داود – كتاب الأدب – باب في الهوى – حديث رقم (5130)، والحديث ضعّفه من ضعّفه من المحدّثين لأجل أبي بكر بن أبي مريم فإنه ضعيف وهو وإن لم يُتهم بالكذب لكنه كان رديء الحفظ كثير الغرائب، فالحديث مظنة أن يكون من غرائبه ومنفرداته التي لا تُقبل، غير أني وقفت على إسناد آخر للحديث ليس فيه ابن أبي مريم، فقد روى الأصبهاني في "الأمثال في الحديث النبوي ص153" بسند حسن عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: (كنا في قافلة فخرج علينا بلال بن أبي الدرداء فقطع علينا الحديث، فقلنا: ابن صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله يقول: حبك الشيء يعمي ويصم). (¬2) عون المعبود في شرح سنن أبي داود 14/ 28

هذا ديني وذاك مذهبي

وكَذَّبت طرفي فيك والطرفُ صادقٌ ... وأَسْمعتُ أذني فيك ما ليس يسمع (¬1) ولكي يتحرر عقل الإنسان من الانقياد لغير الحق، ومن العمى الذي يحجبه عن الحقيقة فلا بد له أن يقتصد في عاطفته، فلا يُطلق لها العنان لتقوده إلى مهاوي الردى ولا يتجاهلها فيصير جاف الطبع صلب الفؤاد بل يريها بعيني البصيرة ما لا تراه بعيني البصر. هذا ديني وذاك مذهبي (¬2) فإن سألتني عن ديني ومذهبي أجبتك بقولي: (اللهم إنه لا مذهب لي إلا دين الإسلام فمن شمله فهو صاحبي وأخي، ومن كان قدوة فيه عرفت له حقه، وشكرت له صنعه، غير غال فيه ولا مقصر، فإن استبان لي الدليل، واستنار لي السبيل، كنت غنياً عنهم في ذلك المطلب، وإن ألجأتني الضرورة إلى الرجوع إليهم وضعتهم موضع الإمارة على الحق واقتفيت الأقرب في نفسي إلى الصواب بحسب الحادثة، بريئاً من الانتساب إلى إمام معين، يكفيني أني من المسلمين، فإن ألجأني إلى ذلك الله، ولم يبق لي من إجابتهم بد، قلت: مسلم مؤمن، فإن مزّقوا أديمي، وأكلوا لحمي، وبالغوا في الأذى، واستحلوا البذا، قلت {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (¬3)، {لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} (¬4)، وأجعلك اللهم في نحورهم، وأعوذ ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (¬2) المراد بالمذهب هنا المذهب العقدي لا الفقهي (¬3) سورة القصص آية 55 (¬4) سورة الشعراء آية 50

سهام رمتني وأخرى سترميني

بك من شرورهم، رب نجني مما فعله المفرّقون لدينك، وألحقني بخير القرون من حزب أمينك صلى الله عليه وآله وسلم) (¬1) سهام رمتني وأخرى سترميني .. لا يستطيع أحد أن يدعو إلى إصلاح فكر أو ثورة على موروث باطل دون أن يُرمى بسهم أو يُجرح بكلمة. هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكرم الخلق وأتقاهم لم يسلم من بهت الباهتين وظلم الظالمين، قيل عنه: كاهن .. ساحر .. مجنون .. شاعر، فمن أكون أنا وأنت حتى نستكبر أن يُقال في حقنا ما هو دون ما قيل في حقه صلى الله عليه وآله وسلم وهو النبي المرسل؟! مَنْ خلال معايشتي وحواراتي مع المتعصبة من شتى الطوائف نلت الكثير من الأذى فأعظم الأذى أن يُتهم المرء في دينه وصدق انتمائه إليه. فلما كنت أحاور بعض الجفاة مظهراً حبي لأهل البيت، راداً على من يُقلل من شأنهم بالأحاديث الصحيحة الثابتة أو بما عُرف من حقهم في شرع الله، قيل عني: (رافضي)! ولما كنت أحاور بعض الشيعة منتقداً طرحهم المغالي في أهل البيت، قيل عني: ناصبي كبير ... فلست ناصبياً فحسب بل عريق في النصب ولا حول ولا قوة إلا بالله! ¬

_ (¬1) العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ ص7

ولما تحاورت مع بعض المتصوفة حول غلوهم في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستدلاً بأحاديث صحيحة ثابتة في بيان حقه صلوات الله وسلامه عليه تدعو إلى محبته وحفظ حقه بأبي هو وأمي، من غير غلو ولا جفاء، قيل عني: مبغض لرسول الله! وهكذا صرت بين المتعصبة جامعاً لكل النقائض. رافضي مبغض لصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومغالٍ في أهل البيت ... وناصبي مبغض لأهل البيت ومغالٍ في الصحابة .. ومبغض لرسول الله ومن باب أولى مبغض لأهل بيته ولأصحابه. وما حصل لي حصل للإمام المُقبلي رحمه الله أكثر منه بكثير، ومثلي لا يُقارن بمثله فضلاً وعلماً وتضحية، فأين جهد ذاك الإمام الجهبذ من جهد المقل؟ فقد تجرع رحمه الله مرارة التعصب المذهبي وناله الأذى فصبر ومضى في طريقه غير آبه للتخذيل ولا للتحذير. حرص على إعلان تنصُّله من الإنتماء إلى أي من المذاهب الإسلامية والتأكيد على براءته من التعصُّب لها في معظم مؤلفاته شعراً ونثراً، ومن ذلك قوله: برئت من التمذهب طول عمري ... وآثرت الكتاب على الصحاب ومالي والتمذهب وهو شيء ... يروح لدى المماري والمحابي كرَّس جهده ووقته لمحاربة الجمود والتعصُّب الفكري، فلقي من مقلِّدي ومتعصِّبي عصره أذى شديداً، وناصبوه العداء، واتَّهموه بأنه ناصبي، معادٍ لمذهب أهل البيت (المذهب الزيدي)، مما اضطره إلى بيع ممتلكاته والرحيل بأهله إلى مكة (1080هـ) فجاور بها وانقطع فيها للعلم والتأليف والدعوة إلى التجديد وإشاعة روح التسامح ونبذ الفرقة والتقليد

والتعصُّب، فعلا ذكره هناك وعظُم صيته بين علماء مكة والقادمين إليها من مختلف بلدان العالم الإسلامي، وتباينت الآراء حوله بين مؤيِّد ومعارض، فنسبه المتعصبة إلى الزندقة لتمرُّده على التقليد وعدم تمسُّكه بمذهب معين، واعتماده على كتاب الله وسنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم فحسب، وخاصة بعد انتشار كتابه "العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشائخ" لما فيه من النقد للمتعصِّبين للأسلاف، والحط من شأن التقليد والمقلِّدين، فقال قولته المشهورة: سبحان الله .. ناصبي في صنعاء وزنديق في مكة! وهذا هو الإمام الشاطبي بدوره يحكي عن محنته مع المتعصبة فيقول: (فقامت عليّ القيامة وتواترت عليّ الملامة، وفوّق إليّ العتاب سهامه، ونُسِبتُ إلى القول بأنّ الدعاء لا ينفع، ولا فائدة فيه، كما يُعزى إلى بعض الناس بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة – حالة الإمامة - .. وتارة نُسبت إلى الرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم، بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة .. وتارة أضيف إليّ القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة .. وتارة أُحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفُتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه – وإن كان شاذاً-وتارة نُسبت إلى معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء – يقصد الصوفية – المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين – بزعمهم – لهداية الخلق ...) (¬1). ¬

_ (¬1) الاعتصام 1/ 27 - 28

نحن مع الحق وإن قاله خصومنا

ويعزّي الشاطبي نفسه بما أصاب العلامة ابن بطة مع أهل زمانه ناقلاً ما حكاه ابن بطة عن نفسه بقوله: (عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين والعارفين والمنكرين، فإني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقاً أو مخالفاً، دعاني إلى متابعته على ما يقوله، وتصديق قوله والشهادة له. فإن كان صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك - كما يفعله أهل هذا الزمان - سماني موافقاً. وإن وقفتُ في حرف من قوله أو في شيء من فعله سماني مخالفاً. وإن ذكرتُ في واحد منها أنّ الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد، سماني خارجياً. وإن قرأتُ عليه حديثاً في التوحيد سماني مشبّهاً .. وإن كان في الرؤية سماني سالمياً .. وإن كان في الإيمان سماني مرجئياً .. وإن كان في الأعمال سماني قدرياً، وإن كان في المعرفة سماني كرامياً، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سمّاني ناصبياً، وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضياً. وإن سكتُ عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما سماني ظاهرياً .. وإن أجبت بغيرهما سماني باطنياً .. وإن أجبت بتأويل سماني أشعرياً .. وإن جحدتهما سماني معتزلياً .. إلى أن يقول: (ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطتُ الله تبارك وتعالى ..). نحن مع الحق وإن قاله خصومنا مشكلة الكثير من أرباب الفرق والجماعات أنهم يريدونك نسخة منهم، تنطق بما يؤمنون به هم وآباؤوهم الأولون، لا يريدون لضميرك ولعقلك أن يقول كلمته ولو على وجه التساؤل والبحث عن الحقيقة.

ومن آفاتهم النظر إلى المرء قبل النظر في قوله، يقولون: (مَنْ فلان حتى يعلّمنا؟) أو (أوليس هذا الذي أخطأ في مسألة كذا وكذا) فيعممون خطأه في مسألة على كل ما يقوله من صواب، فلا يستمعون إلى حجته ولا يريدون حقاً من ورائه. وهذه النظرة الفوقية الاستعلائية تقصم ظهر صاحبها قبل الآخرين، فمن الخاسر سواه وهو يَصدُّ الناس عن الحق ويتجنبه هو في نفسه لا لشيء إلا لعصبية جاهلية ملأ بها دماغه. والأَولى بالمرء أن يطلب الحق حيث كان، وأن لا يحجبه عن الحق كونه قد أتى من خصمه. يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: (فانظر إلى مناظري زمانك، كيف يسودّ وجه أحدهم إذا اتضح الحق على لسان خصمه، وكيف يخجل به، وكيف يجتهد في مجاحدته بأقصى قدرته وكيف يذم من أفحمه طول عمره) وإنما ينبغي في المحاور (أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرّق بين أن تظهر على يده أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقه معيناً لا خصماً ويشكره إذا عرّفه الخطأ وأظهر له الحق ..) (¬1) ولله در الإمام مالك بن أنس إذ يقول: (ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف) (¬2). نعم والله .. إنها أزمة الإنصاف. والإمام مالك هاهنا يتحدث عن زمانه الذي انتشر فيه العلم وسادت الفضيلة فكيف بزماننا وقد قلّّ العلماء واتخذ الناس رؤوساً جهالاً فضلوا وأضلوا، وعمّ الفساد وبيعت الذمم. ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين 1/ 64 (¬2) جامع بيان العلم 1/ 132

ولتقي الدين ابن تيمية رحمه الله كلمات جميلة في وجوب تحري المرء الحق واتباعه يقول فيها: (فإنّ الإنسان لا يزال يطلب العلم والإيمان، فإذا تبين له من العلم ما كان خافياً عليه اتبعه، وليس هذا مذبذباً، بل هذا مهتد زاده الله هدى ... والواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحق فيتّبعه حيث وجده) (¬1). ويقول: (وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبيّن له من الحق هو محمود فيه بخلاف إصراره على قول لا حجة معه فيه، وترك القول الذي وضحت حجّته، أو الانتقال من قولٍ إلى قولٍ لمجرد عادة واتباع هوى فهو مذموم) (¬2). فالعبرة بالحق لذاته لا بمن قاله، وعلى المسلم أن ينفض عنه غبار التعصب والتقديس لغير كلام الله وكلام رسوله صلوات الله وسلامه عليه، فإنّّ الناس لم يفترقوا ويزيغوا عن الهدى إلا لأمرين: هوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه. ولسلطان العلماء العز بن عبد السلام عبارة ذهبية يقول فيها: (ولم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقيد بمذهب ولا إنكار على أحد من السائلين إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلّدين، فإنّ أحدهم يتبع إمامه مع بُعد مذهبه عن الأدلة، مقلّداً له فيما قال كأنه نبي أُرسل إليه، وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب لا يرضى به أحد من أولي الألباب) (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى 2/ 252 - 253 (¬2) المصدر نفسه 20/ 213 - 214 (¬3) الفكر السامي للحجوي 230

لماذا لا نتحاور؟

وهذا الإمام الشوكاني يوجه كلامه لمتعصبي المذاهب قائلاً: (فدعوا- أرشدكم الله وإياي- كتباً كتبها لكم الأموات من أسلافكم واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم ومتعبّدهم ومتعبّدكم) (¬1). نعم لندع التعصب المقيت، ولنحتكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه. لماذا لا نتحاور؟ وإن أردت أن تعجب أكثر فاعجب من أمر مسلمي اليوم ... علّمهم القرآن الحوار مع أهل الكتاب الذين شتموا الله وشتموا رسوله، وهم اليوم يستكثرون على أنفسهم الحوار مع من انتقص من هم دون الله ودون رسوله! يأتي المتعصب السني فيقول: (لا حوار مع من شتم صحابة رسول الله، هؤلاء روافض لا ينبغي لنا حوارهم ولا حتى دعوتهم (¬2)! ¬

_ (¬1) فتح القدير ص352 - 353 (¬2) للأسف بعض هؤلاء المتعصبة لا يكلف نفسه حتى دعوة من يشتم الصحابة ولا الأخذ بيده، فأي موازين للدعوة هذه؟! وعلينا أن نفرّق بين فعل بعض السلف من عدم محاورة أهل البدع بغرض تحجيم فكرهم وعدم إعطائهم الفرصة لنشر باطلهم على الملأ لكونهم قلة وأرباب هوى لا طلاب حق، وبين واجب الدعوة إلى الله لكل من ضل الطريق. وعلى فرض ثبوت مخالفة أحد من السلف لما ذكرناه فإنه لا حجة في قول أحد من الناس مع وجود المنهج القرآني القويم في الحوار ومع وجود سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومنهجه في الدعوة مع الكفار وأهل الكتاب على جرأتهم على الله ورسوله والمنافقين على ما يظهر منهم من التربص بالإسلام والمسلمين والأعراب على ما عُرِف فيهم من الجلافة وسوء الحوار فضلاً عن غيرهم، نعم من أراد المكابرة منهم لا يناقش ولا يُعطى المجال لكن التعميم في الحكم هو ما نستنكره.

ويأتي المتعصب الشيعي فيقول: (هؤلاء نواصب (¬1) لا ينبغي الحوار معهم!). وقد عايشت الفئتين، وأوذيت منهما أيما إيذاء. ¬

_ (¬1) هذه تهمة ليس لها من الواقع نصيب، فالثابت من تقريرات علماء الشيعة في أشرطتهم وكتبهم وكذا روايات المذهب بغض الصحابة والتفنن في لعنهم والطعن في أنساب بعضهم وستأتي الإشارة إلى هذه الفكرة في موضعها في هذا الكتاب بإذن الله، أما أهل السنة علماء وعامة، فلا يبغضون أهل البيت بل يحبونهم ويقدّرونهم، ويشهد لذلك أيضاً تقريرات علمائهم جيلاً بعد جيل، غاية ما في الأمر أنهم يفضلون أبا بكر وعمر على علي لأدلة شرعية عندهم، والمفاضلة بين الخلفاء الأربعة لا تعني بحال من الأحوال بغض أحد منهم. ويحضرني في هذا كلام جيد قرأته للشيخ جعفر الشاخوري- وهو من شيوخ الشيعة الإثنى عشرية المعاصرين- يقول فيه: (وإنني أذكر للقارئ حادثة لا زلت أتذكرها، فقد حدث بين شخصين تلاسن بعد أن اختلفا أيهما أفضل العباس بن علي (ع) أو علي الأكبر (ع) – ولا أكتم القارئ أنني كنت من أنصار العباس في ذلك الصراع- حيث استدل الأول على أفضلية العباس بأنه آخر من استبقاه الحسين (ع) في المعركة إذ لم يعطه الرخصة في القتال، وعندما استشهد قال الحسين: الآن انكسر ظهري، مما يدل على أنه العمود الفقري، كما أنّ العباس رفض أن يشرب من الماء عندما تذكر عطش الحسين فلا بد أن يكون هو الأفضل. والشخص الثاني استدل على أفضلية (الأكبر) بأنه أشبه الناس خَلْقاً وخُلقاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه أول من قدّمه الحسين في المعركة من بني هاشم، وثالثاً: لأنه أكثر من أصيب بالجراحات في كربلاء فلا بد أن يكون هو الأفضل. وسرعان ما تحول هذا الصراع إلى تلاسن وتراشق بالكلمات حتى ظننت في ذلك الوقت أنّ هناك عداءً مستحكماً بين العباس وعلي الأكبر، وكنت أتساءل لماذا تعاونا في المعركة في ذلك الوقت؟). (مرجعية المرحلة وغبار التغيير ص67) أقول: والأمر ذاته يُقال في المفاضلة بين أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، فإنّ المتعصب المعاند هو وحده الذي يستطيع بكل سهولة إقناع نفسه بأنه هو وكيل أهل البيت في الأرض، وأنّ من سواه لا يحبهم ولا يعرف حقهم. وكلامنا هنا مع العقلاء أما ضيّقو العقول الذين يرشقون الناس بالتهم لمجرد الاختلاف معهم فإنه لا يأبه بهم إلا من كان على شاكلتهم.

نريده حوارا من أجل الحقيقة

فعجباً لهذه العقول، جعلت الصحابة وأهل البيت أعظم من الله ورسوله حين تتقبل الحوار مع اليهودي والنصراني الكافر بالله ورسوله والشاتم لهما ولا تتقبل الحوار مع المخالف! والحقيقة أننا لن نستطيع فك رموز الخلاف السني الشيعي بهذه العقول المغلقة التي لا تريد الفهم ولا التفاهم. فإنّ الإمام علي بن أبي طالب وهو أحد فقهاء الصحابة الكبار عند السنة والشيعة، لم يجد حرجاً في التحاور مع الخوارج الذين كفّروه، فأرسل إليهم حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس محاوراً، وعلي يعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد وصف الخوارج بأنهم (كلاب أهل النار)، فأين هؤلاء المتعصبة من الفقه والفهم لهذه المعاني الجليلة؟ نريده حواراً من أجل الحقيقة الديكة تتصارع وتتطارح أرضاً، لأنها تؤمن بلغة العضلات، أما الإنسان العاقل فاللغة التي يرتضيها لنفسه ولمجتمعه هي لغة الحوار. والناظر في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر والذي ابتعد في ممارسته كثيراً عن التعاليم الإسلامية القويمة، ينتابه الأسى وتعلوه المرارة، على نمط الحوار المتبع بين جميع الفئات المختلفة على جميع المستويات. كثيرة هي الحوارات التي تجسد لنا هذا المثال ... جمهور يستمع وديكان يتصارعان ... كل منهما يريد الفتك بالآخر، والانتصار للرأي لا للحقيقة. إننا لم نتعود على الموضوعية والحوار والواقعية في حواراتنا وأدبياتنا ومداخلاتنا، بل اعتدنا على الرؤية الأُحادية التي لا تتقبل رأي الآخر ولا تتفهم ما يريد، وما على الآخرين إلا

أن يقولوا (آمين) ثمانين مرة، لا سيما إذا كان البعض منا في موقع يسمح له بفرض رأيه الواحد على الآخرين (¬1). ومثل هذه الحوارات جعجعة بلا طحن .. لا يُرتجى من ورائها هداية لأحد، أو نتيجة محمودة يستفيد منها الطرفان، لأنها تفريغ مخزون آفات نعيشها في أنفسنا. فالمظلوم عندنا يشتكي من الظالم، لأنّ السَّوط بيد الظالم .. يذكّره بالله ويدعو عليه الليل والنهار، لكن سرعان ما ينقلب المظلوم ظالماً حينما يسقط السوط من يد ظالمه وينتقل إلى يده يتناسى الرب الذي كان يخوّف الناس به، فيجور على الخلق وينتزي على حقوقهم بلا رحمة. هكذا تجلت لي صراعات المتعصبين من أهل الطوائف. ولكي ننهض من جديد كأمة إسلامية، ولكي نستطيع أن نتدارك بجدية الصدع الذي أضعف الأمة فانقسمت لأجله إلى فرق وطوائف متناحرة لا بد لنا من الإخلاص والصراحة، والرغبة في أن تكون راية الإسلام هي العليا لا راياتنا الطائفية. ما أحوجنا اليوم إلى الإنصاف وإلى التجرد الذي بثه الإسلام في النفوس المؤمنة، التجرد للحقيقة لا للأشخاص. ألم نقرأ قول الله عز وجل {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (¬2)؟ ¬

_ (¬1) لا أدّعي بكلامي هذا أنّ العقيدة الإسلامية صارت آراء تقبل وتُرد، وإنما القصد أنّ المقدس الذي تؤمن به ليس مقدساً عند الطرف المخالف، وعليك أن تتقبل الحوار معه على هذا الأساس، أما النظرة الفوقية التي لا تتقبل الحوار مع المخالف بل تريد من الطرف المقابل الإذعان فحسب، فهذه نظرة نرجسية ليست من الإسلام في شيء. (¬2) سورة سبأ آية 24

فأي مسلم يرى الهدى في غير الله وغير رسوله؟! وهل يشك رب العباد أنّ الحق معه ومع رسوله؟! – معاذ الله -. لكن الله يرشدنا إلى أدبيات الحوار .. إلى التجرد مع الخصم .. لا تفترض منذ البداية أنك أتيت لتملي عليه وأنّ عليه أن يقبل! .. إنما جُعل الحوار لبيان الحق ولكشف الشبهة. والحوار يبتدئ بالحسنى ويكون بالحسنى كما قال الله تعالى {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (¬1) ما دام الطرف المقابل يحتفظ بأمرين: أولهما: التأدب مع مقدسات الطرف الآخر، فلا يشتمها ولا يستطيل في الكلام عنها بل يوضح موضع النقد الذي يراه بكل موضوعية وتأدب. والثاني: طلب الحق وعدم العناد والمكابرة، فإذا وُجد العناد ووجدت المكابرة استخدم مع صاحبها أسلوب {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم}. ولو أنّ حواراتنا قامت على هذا المنهج القويم الذي نادى به القرآن الكريم لكان الناس غير الناس والحال غير الحال، لكن نشكو إلى الله تعالى. ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت آية 46

من هنا كانت البداية

من هنا كانت البداية لقد نشأتُ في بيئة تمازج فيها السنة والشيعة وغلب عليها التسامح الطائفي. فوالدي رحمه الله من أهل السنة وكذلك والدتي، لكن البيت الذي نشأتْ فيه والدتي منذ الصغر كانت له طبيعته الخاصة ذات الأثر الواضح في علاقة أسرتي السنية مع الشيعة. فمربية والدتي كانت شيعية وكذا إخوان والدتي من الرضاعة، وقد كانت والدتي تُجلها كثيراً وتبرّها حتى بعد وفاتها من خلال علاقتها الوثيقة بعائلة تلك المربية، نشاركهم أفراحهم وأحزانهم ويشاركونا، ونمد إليهم يد المساعدة إن وجدنا إلى ذلك سبيلاً. هذا بخلاف الصداقات التي جمعت والدتي بالكثير من الشيعيات، أقربهنّ إليها امرأة من عرب إيران (¬1)، طيبة المعشر، بسيطة الفكر والثقافة، قضت معظم حياتها في الكويت ولا زالت. وكنتيجة طبيعية لهذا الارتباط الوثيق بالشيعة آنذاك، كانت أمي تصطحبني صغيراً في بعض الأحيان إلى الحسينية حيث يُقرأ العزاء وتوزع أطباق الطعام أيام المحرم. لا زلت أتذكر يوم أن اصطحبتني مرة في فترة النهار إلى إحدى الحسينيات. قدور في باحة المكان ونساء يغرفن الطعام ... حينها طلبتْ مني والدتي أن أجلس في غرفة مقابلة للباحة حتى تنتهي من الحديث مع الملاّيه (¬2)، لم أكن أعلم ولا زلت لا أعلم ماذا كانت تريد منها. ¬

_ (¬1) من منطقة عبادان الإيرانية تحديداً. (¬2) امرأة تقوم مقام الشيخ أو الملا في الحسينيات النسائية من نعي وإلقاء دروس وغيرها.

لكني أتذكر أني قد جلست على كرسي بجانبه صندوق كبير، وحلّقت ببصري هنا وهناك فكان مما لفت نظري آنذاك وانطبع في ذاكرتي أقراص من طين كانت موضوعة في الصندوق. لم يُترك لي المجال طويلاً للتخمين أو العبث فيها كسائر الأطفال، إذ سمعت نداء والدتي: (هيا يا محمد، لنذهب). حين خرجنا سألتها عن المكان الذي كنا فيه، ما هو؟ وما الذي يفعله النساء في الباحة؟ فأخبرتني أنّ البيت الذي كنا فيه يسمى "حسينية" وهو بيت متعدد الأغراض، يُقرأ فيه عزاء عاشوراء وتقدم فيه الولائم ويُستخدم لمناسبات أخرى. سألتها عن الأقراص التي رأيتها في الصندوق، ما هي؟ فأخبرتني أنها "تربة حسينية" وهي تربة مأخوذة من قبر الإمام الحسين بالعراق، يضع عليها الشيعة جباههم في سجدتي الصلاة. فسألتها بكل تلقائية: ولماذا هم شيعة ونحن سنة؟! فكانت إجابتها أكثر تلقائية وأكثر عجباً إذ قالت: لأنهم لا يحبون الصحابة، فهم يسبون عائشة ولا يحبون أبا بكر وعمر، ونحن نحب الصحابة ولا نرضى بسبهم، ولأنهم في عاشوراء يلطمون ويبكون ويلبسون السواد ونحن لا نعتقد مثل هذه الأمور بل نراها خطأ ولأنهم لا يصلون مثل صلاتنا بل يسدلون أيديهم في الصلاة ويسجدون على التربة الحسينية. فسألتها: ولماذا يفعلون ذلك؟ وقد كنت كأي طفل قد تعلمت في المدرسة شيئاً من السيرة النبوية، وأنّ عائشة هي زوج رسول الله وأنّ أبا بكر هو صاحبه في الغار وفي الهجرة، وتعلمت شيئاً عن قصة إسلام عمر وفضله، فبالنسبة لطفل قد تعلم هذا كله لا يُمكن له أن يتصور مسلماً يشتم هذه الشخصيات، فتعجبت جداً من كلامها، لكن سني آنذاك كان كافياً لصرفي عن الاهتمام بمثل هذه الأمور رغم كونها قد انطبعت في ذهني منذ ذلك الزمن.

مضت السنون تلو السنون لأجد نفسي مرة أخرى وجهاً لوجه مع الخلاف السني الشيعي. ففي الجامعة، تعرفتُ على أحد السادة الموسوية أثناء دراستي لإحدى مقررات اللغة الإنجليزية (¬1)، كان يكبرني نحو عشر سنوات، وقد حرصتُ منذ بداية تعرفي عليه أن لا أفتح معه موضوع الخلاف السني الشيعي لحساسية مثل هذه المواضيع بالنسبة للناس بصورة عامة، لكن زميلاً لنا كان مشاكساً للغاية، لم يعتد أن يترك أحداً من الناس في حاله فاجأنا بسؤال مضحك وجريء في الوقت ذاته يسأل فيه السيد: لماذا أنت شيعي؟! سؤال عفوي غريب قذفنا به زميلنا فوجدنا أنفسنا بعده مباشرة قد دخلنا في نقاش مذهبي ما كنا نتصور أننا سنخوضه. فقد استهل (السيد) كلامه بالإشارة إلى كونه قد درس في إيران لعدة سنوات ولهذا فهو ملمٌ بالخلاف السني الشيعي بشكل كبير ولديه الاستعداد لمناقشة أي مسألة. كنت في الحقيقة أكثر من اهتم بكلامه فقد مسّ شيئاً في نفسي تجاهلته منذ سنوات، أما بقية زملائنا فكانوا إلى العبث والإثارة أكثر منهم إلى الجد والحزم. ولذلك لما ذكر الموسوي من جملة كلامه (حديث الكساء) طالبته بالمصدر وحملت المسألة محل الجد، ورجعت إلى المصدر الذي عزا إليه وهو "رياض الصالحين" للإمام النووي لأتأكد من صحة الحديث، لأنّ الموضوع بالنسبة لي دين، لا مجال للتهريج أو العبث فيه. ¬

_ (¬1) كان ذلك سنة 1992م في كلية العلوم بجامعة الكويت.

ورغم أنّ نقاشنا المذهبي انقطع بعد هذه الدقائق المعدودة التي تكلمنا بها وكان للسيد نصيب الأسد فيها بحكم اطلاعه على الخلاف السني والشيعي أكثر منا إلا أنّ نفسي باتت متشوقة لمعرفة أبعاد هذا الموضوع أكثر من أي وقت مضى. وكأنّ الله تعالى أراد لي أن أدخل هذا المعترك بقوة، فما زالت التساؤلات والمواقف تجرني جراً حتى جاء اليوم الذي أهدتني فيه إحدى الشيعيات كتاباً اسمه "ثم اهتديت" لمحمد التيجاني السماوي، أرسلته لي عن طريق صديقة والدتي الإيرانية، سائلة المولى عز وجل أن يهديني ويرشدني إلى الحق! ولا أخفيك حديثاً إذا ما قلت بأنّ الكتاب كان قوياً بالنسبة لي لأول وهلة، إذ لم أكن قد قرأت أو تعلمت قبل قراءتي لهذا الكتاب شيئاً عن تاريخ الفتنة أو حادثة السقيفة أو بعض أحاديث فضائل الإمام علي التي يستدل بها الشيعة الإثنى عشرية على إمامته رضي الله عنه. لكني أفقت من هذا الاستغراب على جُملة من الصدمات التي لا يمكن السكوت حيالها فالكتاب يطال كبار الصحابة ورموز الإسلام ويشهد عليهم بالردة والإحداث في الدين هكذا وبكل بساطة ودون حياء من الله ولا من الناس! إنّ من حق التيجاني أن يعتقد أنّ عبد القادر الجيلاني هو سيد الأولياء وأنّ الكعبة تطوف بخيامه كما كان يعتقد ذلك أيام تصوفه (¬1) أو يرى العذر لليهود والنصارى في عنادهم للحق ويجّرم بالمقابل أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما اعتقد ذلك بعد هدايته المزعومة (¬2)، فله ربٌ يحاسبه ويجازيه على ما اعتقد. ¬

_ (¬1) ثم اهتديت ص34] حواره مع منعم [ (¬2) المصدر نفسه ص80

لكن المجاهرة بتكفير الصحابة والتشكيك في نزاهتهم وبهذه الصورة المخزية ونشر ذلك في كتب تروّج بين الناس مورثة بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة من شأنه أن يستوقفنا قليلاً عند هذه الشخصية التي تتناول هؤلاء الصحابة، لنتساءل: من هي وإلى ماذا تصبو؟ لقد حدّثنا التيجاني عن شهرته التي تعدّت الحارة إلى المدينة بأسرها أيام طفولته! (¬1) حتى أصبح لاحقاً أعلم من أهل زمانه بل أعلم من مفتي الجمهورية التونسية نفسه! (¬2) لكنه لم يقنع بهذا كله فزعم أن لم يكن أحد يجاريه حتى شيوخ الأزهر الذين كانوا – على حد زعمه- يحضرون جلساته ودروسه ومحاضراته ويعجبون مما يحفظ من أحاديث وآيات وما يملكه من حجج دامغة لدرجة أنّ الغرور قد ركبه وباعترافه (¬3). ثم تتفاجئ به بعد ذلك بصفحات قليلة يصرّح بعجزه التام عن محاورة صبي من صبية النجف قائلاً: (وعجبت لهذا الصبي الذكي الذي يحفظ ما يقول مثل ما يحفظ أحدنا سورة من القرآن، وقد أدهشني أكثر عندما كان يسرد علي بعض المصادر التاريخية التي يحفظ عدد أجزائها وأبوابها، وقد استرسل معي في الحديث وكأنه أستاذ يعلم تلميذه، وشعرت بالضعف أمامه، وتمنيت لو أني خرجت مع صديقي ولم أبق مع الصبيان) (¬4) في إشارة منه إلى أنّ صبية النجف أكثر علماً من علماء الأزهر ومن مفتي الجمهورية التونسية! ¬

_ (¬1) ثم اهتديت ص10 (¬2) المصدر نفسه ص219 (¬3) المصدر نفسه ص24 (¬4) المصدر نفسه ص54

لكن التيجاني الذي أظهر نفسه بصورة ذاك المحاور الذي لا يُشق له غبار مع فطاحل علماء أهل السنة يفاجئك بمفاجآت أخرى لا تقل عن سابقتها. فقد اعترف ذلك العالم الجهبذ بعد ذلك بصفحات بأنه لم يقتنِ دواوين السنة المشهورة التي لا يخلو منها بيت أصغر طالب علم إلا بعد زيارته المكوكية التي أفحم بها شيوخ الأزهر وتأثر فيها بصبيان النجف ثم بالكبار ثم عودته إلى وطنه ليتلقى بعد ذلك بعض الكتب الشيعية التي تناقش الخلاف السني الشيعي حيث يقول بالنص: (وفوجئت عند دخولي إلى منزلي بكثرة الكتب التي وصلت قبلي وعرفت مصدرها ... فرحت كثيراً ونظمت الكتب في بيت خاص سميته بالمكتبة (¬1)، واسترحت أياماً، وتسلمت جدول أوقات العمل بمناسبة بداية السنة الدراسية الجديدة فكان عملي ثلاثة أيام متوالية من التدريس وأربعة أيام متوالية من الراحة في الأسبوع. وبدأت أقرأ الكتب فقرأت كتاب عقائد الإمامية، وأصل الشيعة وأصولها وارتاح ضميري لتلك العقائد وتلك الأفكار التي يرتئيها الشيعة، ثم قرأت كتاب المراجعات للسيد شرف الدين الموسوي) إلى أن قال: (وازدادت دهشتي وحيرتي عندما رأيت العالم الشيعي ينقلها من صحيح البخاري وصحيح مسلم، وقلت في نفسي: (إن وجدت هذا في صحيح البخاري فسيكون لي رأي). وسافرت إلى العاصمة ومنها اشتريت صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وصحيح الترمذي وموطأ الإمام مالك وغيرها من الكتب الأخرى المشهورة) (¬2). ¬

_ (¬1) وكأنه أول من ابتكر المكتبات في البيوت ثم وضع لها هذا الإسم الذي لم يُسبق إليه! فتأمل هذا الجهل المركّب وتفكّر في دعواه إفحام علماء مصر وتونس تجد الإجابة واضحة جلية. (¬2) المصدر نفسه ص86 - 88

فإذا كان التيجاني لم يقتنِ دواوين السنة المشهورة إلا في هذا الوقت المتأخر فبأي علم كان يُفحم شيوخ الأزهر، وأي أحاديث تلك التي كان يحفظها ويحاجج بها دون أن يقتنِ كتاباً من كُتبها، اللهم إلا أن تكون الأحاديث التي كنا نحفظها في المدارس؟! إنّ رجلاً يصرّح بنفسه بتحسّره على الأموال التي تُغدق على ضريح الإمام علي في النجف وتمنيه لو أنّ له نصيباً منها (¬1) لا يرتجى من ورائه حرصاً على الحقيقة، فللمال بريق ساطع يُذهب بأبصار الطامعين. إنه لمن العجيب أن يأتي شخص مثل التيجاني بهذا المستوى العلمي والعقلي معاً ليثير الشبهات على الصحابة ويؤصل للأمة طريقاً مظلماً يعني بكل اختصار قلب كل الانتصارات والفتوحات والمشاهد الإيمانية والنصوص الإلهية إلى صورة قاتمة لا تمت بصلة للوحي ولا للواقع ولا العقل. إيهٍ أيها التيجاني، لقد حمّلتني حِمْلاً عظيماً كنت أتحاشاه، وأورثتني همّاً كنت أخشاه، وكيف تقرُّ لي عينٌ وأنا أرى السهام تتقاذف من أوصل إليّ الإسلام؟! وكيف لنفسي أن تهنأ وعِرضُ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم يُنال ويُقذف؟! لقد أدركت أنّ من الواجب عليّ أن أقف وقفة مشرّفة أمام الله تعالى وأمام نفسي وأمام الأمة الإسلامية، فأنذر نفسي للحقيقة المجرّدة التي لا تعرف الزيف، باذلاً كل ما في الوسع والطاقة لانتشال الحقيقة منك ومن أمثالك من المتاجرين بها أو المأجورين. ¬

_ (¬1) قال في ص50 وهو يتحدث عن زيارته للنجف (خرجت وراءه] أي وراء صاحبه العراقي منعم [مدهوشاً وكأنني تمنيت أن يعطوني منها نصيباً)!

في السيدة زينب

في السيدة زينب كانت الساعة تقترب من العاشرة صباحاً عندما حطت الطائرة التي تقلني على أرض سوريا لأول مرة في حياتي. زرت المسجد الأموي وتجولت في ضواحي دمشق متأملاً مساجدها القديمة وكنائسها العتيقة، لكن قدماي قادتني بعد هذه الجولة إلى منطقة "السيدة زينب" لينفتح لي بذلك أفق جديد في عالم الخلاف السني الشيعي. ففي مسجد "السيدة زينب" رأيت عجباً ... ألوف من الزائرين، بعضهم جالسٌ على الأرض في باحة المسجد، وبعضهم عند المرقد يضع نذره أو يركع ركعتي الزيارة، وبعضهم في ناحية أخرى من المسجد في صالة كبيرة أظنها حسينية يستمع لمحاضرة أحد علماء الشيعة. لقد شاهدت وكلي عجب، بعض زائري المرقد وهم يدخنون السجائر في باحة المسجد دون أدنى شعور بالإثم وبحُرمة المكان الذي تُدخن فيه السجائر! ومما زاد عجبي أنني لم أر إنكاراً من بقية الزائرين أو المصلّين لمثل هذا الفعل، وكأنّ المسألة مألوفة عندهم لا تُستنكر! (¬1) ¬

_ (¬1) ذكر لي أحد الأصدقاء أنه قرأ في أحد كتب التيجاني السماوي ما يشير إلى الفكرة نفسها التي ذكرتها له فاقتنيت الكتاب المشار إليه وتفاجأت بأنّ التيجاني يتكلم عن الذي شاهدته كظاهرة اعتيادية في المساجد والمراقد! يقول التيجاني في كتابه "كل الحلول عند آل الرسول" ص169 تحت عنوان (التدخين في أماكن الصلاة): (كثيراً ما ينتقد أهل السنة والجماعة على الشيعة تدخينهم في المساجد، ويقولون بأنّ ذلك منكر من أعمال الشياطين. والحق يُقال أنها ظاهرة تكاد تكون عامة عند الشيعة فإذا دخلت مساجدهم لأول مرة فسوف تصدمك تلك الظاهرة. وأتذكر أني صُدمت بذلك أول مرة واستغربت ذلك منهم واستنكرته عندما زرت النجف الأشرف، وسألت بعض علمائهم عن ذلك فأجابوني بأجوبةلم أقتنع بها حتى الآن)!

لقد كانت الساعات تمر عليّ دون أن أشعر بها، قضيت ساعات طوالاً في "السيدة زينب" بين مطالعة الكتب وتأمل زوار الضريح، وقد كنت أمر في طريقي إلى مسجد "السيدة زينب" بحوزة الشيرازي - وهي حوزة كبيرة تطل على الشارع المؤدي إلى المسجد – فأشاهد بعضاً من سادة وعلماء الشيعة وقوفاً عند الحوزة أو خارجين منها، فتتحرك في نفسي الرغبة في الالتحاق بهذه الحوزة، لولا إصرار والدتي عليّ ألا أفعل. لكني لن أنسى أبداً شاباً عراقياً تعرفت عليه في "السيدة زينب" وصحبته برهة من الزمن كان له أثره الجيد في نفسي وفي التعرف على واقع الشيعة أكثر. بدا لي شاباً من عامة الشيعة، لكنه ابن عالم شيعي هاجر من العراق إلى إيران منذ أكثر من خمس عشرة سنة، فنشأ وترعرع في إيران ثم قدم إلى سوريا مع أبيه ليعمل في احدى مكتبات "السيدة زينب" (¬1). أبديت له إعجابي بصراحته ووضوحه، فهو شخص لم تستخفه الطائفية المقيتة التي ابتلي بها أكثر الناس اليوم، فلم يكذبني القول في حديثه بل كان صريحاً معي للغاية بخلاف غيره ممن التقيت بهم من الشيعة. قلت له: اعلم قبل كل شيء أنه من السهل عليّ أن أكون متحاملاً على الشيعة فأكتفي بكتب خصومهم وأحكم عليكم بالضلال وأُغلق باب النقاش منذ البداية كما يفعل ذلك كثير من الناس، لكني ناشد حق، يبحث عن ضالته بين ركام من التهم والأباطيل. فرحّب بي وقال لي: أنا مستعد لكل ما تريده. ¬

_ (¬1) في زيارتي الأخيرة لسوريا سنة 2006م لم أجد ذاك الشاب ولا تلك المكتبة التي كانت معروفة آنذاك باسم "مكتبة السيدة رقية" ويبدو أنها بيعت واستبدلت باسم آخر.

كان يتكلم بتلقائية متناهية، لا زلت أتذكر قوله: (لا أدري كيف خرجت الثورة الإسلامية في إيران .. الناس هناك بعيدة عن الدين، الكثيرون يفطرون في نهار رمضان دون مبالاة بإثم أو بفريضة، فضلاً عن تقصيرهم في الصلوات، لو كانت الثورة قد خرجت في العراق لكان الأمر أكثر واقعية، لأنّ الشيعة هناك شيعة بحق، بخلاف إيران التي أرى أن حكومتها شيعية لكن شعبها بعيد كل البعد عن الدين). بعد أيام من الجلوس معه سألته أسئلة أخرى كان أحدها عن موقفه من علماء الشيعة الذي صرّحوا بوقوع التحريف في القرآن الكريم، فأجابني بقوله: أبداً، لم يقل عالم من علمائنا بتحريف القرآن! فقلت له: أخي الكريم، نحن الآن في منطقة المكتبات والكتب الشيعية متوفرة، فهل لي أن أريك هذه الأقوال؟ وقد كنت حينها لا أتذكر إلا موضعاً واحداً من تلك المواضع، فخرجنا إلى مكتبة من المكتبات فقال لي: أي كتاب تريد؟ فقلت: "تفسير الصافي" للعلامة الشيعي الكاشاني (¬1). ¬

_ (¬1) محسن بن المرتضى الكاشاني الملقّب بـ"الفيض الكاشاني"، ترجم له الأردبيلي في "جامع الرواة 2/ 42" بقوله: (العلامة المحقق المدقق جليل القدر، عظيم الشأن رفيع المنزلة، فاضل كامل أديب متبحر في جميع العلوم). وقال عنه الأميني في موسوعته "الغدير 11/ 362" عند ذكر ابنه "علم الهدى": (علم الفقه وراية الحديث ومنار الفلسفة ومعدن العرفان، وطود الأخلاق، وعباب العلوم والمعارف. هو ابن ذلك الفذ الذي قلّ ما أنتج شكل الدهر بمثيله، وعقمت الأيام عن أن تأتي بمشبهه).

فسلّم على صاحب المكتبة وطلب منه المجلد الأول من تفسير "الصافي" ثم خرجنا من المكتبة ووقفنا بجانبها، فأريته الموضع وجلس طويلاً يعيد قراءته وهو لا يكاد يصدّق (¬1). فقلت له: عزيزي، لست أقصد من وراء إرشادك لهذا الموضع أن أستعرض عضلاتي أو أن أشكك في عقيدتك، قصدي واضح لا غبار عليه، أريدك أن تنتصر للإسلام من كل من يطعن فيه وينتقصه كائناً من كان، سنياً كان أو شيعياً، لا تقرأ وتزن الأمور بعيني شيعي يريد الانتصار للمذهب بحق أو بباطل وإنما ردّ الأمر إلى كتاب الله وسنة رسوله واجعلهما الحاكمين. فاكتفى بقوله: سأسأل عنه أبي وأخبرك. بعد يوم من هذا اللقاء أخبرني بأنه ذهب لأبيه وذكر له أني أرشدته إلى موضع في تفسير الصافي يدّعي فيه الكاشاني أنّ قرآن المسلمين الذي بين أيدينا اليوم محرّف! ¬

_ (¬1) خصص الكاشاني في تفسيره "الصافي" المقدمة السادسة من مقدماته لإثبات تحريف القرآن، وعنون لهذه المقدمة بقوله (المقدمة السادسة في نبذ مما جاء في جمع القرآن، وتحريفه وزيادته ونقصه، وتأويل ذلك). وبعد أن ذكر الروايات التي استدل بها على تحريف القرآن، والتي نقلها من أوثق المصادر الشيعية المعتمدة خرج بنتيجة عبّر عنها بقوله: (والمستفاد من هذه الأخبار وغيرها من الروايات من طريق أهل البيت عليهم السلام أنّ القرآن الذي بين أظهرنا ليس بتمامه كما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله، ومنه ما هو مغير محرف، وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة منها اسم علي (ع) في كثير من المواضع، ومنها لفظة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم غير مرة، ومنها أسماء المنافقين في مواضعها ومنها غير ذلك، وأنه ليس أيضا على الترتيب المرضي عند الله، وعند رسول صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم ذكر بعد هذا أن القول بالتحريف اعتقاد كبار مشايخ الإمامية قال: (وأما اعتقاد مشايخنا رضي الله عنهم في ذلك فالظاهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني طاب ثراه أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن، لأنه كان روى روايات في هذا المعنى في كتابه الكافي، ولم يتعرض لقدح فيها، مع أنه ذكر في أول الكتاب أنه كان يثق بما رواه فيه، وكذلك أستاذه علي بن إبراهيم القمي فإن تفسيره مملوء منه، وله غلو فيه، وكذلك الشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي فإنه أيضا نسج على منوالهما في كتاب الإحتجاج).

يقول: قبل أن أخبر أبي عن الموضع بالضبط، بادرني بإخباري عن رقم المجلد ورقم الصفحة والموضع بالذات، ثم قال لي: أخطأ الكاشاني في المسألة ونحن لا نوافقه على خطئه وانتهى الأمر. فقلت للشاب: وأنت ما رأيك؟ أتوافق أباك فيما قاله؟ قال: نعم، الكاشاني أخطأ ونحن لا نوافقه. فقلت له: القرآن هو المصدر الأول الذي يقوم عليه التشريع الإسلامي، والتشكيك فيه والقول بوقوع التحريف فيه هدم للدين، لو كنا نتكلم عن مسألة فقهية بسيطة لكان كافياً أن يُقال (فلان أخطأ وانتهى الأمر)، أما أن يطعن الكاشاني في كتاب الله بهذه الصورة وتقول عنه أخطأ، فليس هذا بصحيح أبداً. يا صاحبي، انس للحظات أنّ الكاشاني شيعي وانتصر لكتاب الله، إن لم يكن الطعن في كتاب الله والتشكيك فيه أو القول بزيادته أو نقصانه كفراً، فما هو الكفر؟ صمتّ ولم أشأ أن أحرجه وأثقل عليه، فأغلقت الموضوع، وبقيت معه زمناً أتناقش معه في أمور أخرى حتى فاجأني يوماً باعتذار على استيحاء يقول لي فيه بأنّ أحد السادة طلب منه أن لا يجالسني، لم أطلب منه تفسيراً مقنعاً لهذا الطلب فقد تفهمت وضعه فشكرته شكر مودع على أمل اللقاء به في يوم من الأيام. رجعت من "السيدة زينب" محمّلاً بالكتب بعد شهر كامل قضيته في سوريا، وبت متشوقاً لقراءة ما قدمت به من هناك. لقد كانت هذه الزيارة كنزاً نفيساً أهداني إياه الزمان، لكنه لم يكن الوحيد. فقد كان للنقاشات الفردية أيضاً دورها في هذا الإثراء المعرفي كما سيأتي بيانه بين طيات هذا السِفر.

في حب أهل البيت

في حب أهل البيت ... (أحبونا حب الإسلام لله عز وجل فإنه ما برح بنا حبكم حتى صار علينا عاراً). الإمام علي بن الحسين

حب أهل البيت .. كنت مستعداً لأن أكون شيعياً منذ الوهلة الأولى، إن كان الخلاف بين أهل السنة والشيعة خلافاً بين فئة تحب أهل البيت وبين أخرى تبغضهم وتبخسهم حقهم. كنت مستعداً لنسيان ثلاثة عقود مضت من عمري واستبدالها بأخرى إن اكتشفت بأني قد أخطأت الطريق والخُطا طوال تلك السنين. لكن الخلاف الحقيقي بين أهل السنة والشيعة ليس بهذه السطحية. إنّ علماء الشيعة يدركون أن جُل الأحاديث التي يستدلون بها على مكانة أهل البيت وعلى رفعتهم هي أحاديث سنية ترويها كتب أهل السنة، ويدركون كذلك مدى إكبار أهل السنة لمقام أهل البيت وحفظهم لفضائلهم حتى إنّ الأحاديث النبوية المادحة لهم قد سُجّلت ودوّنت في أصح كتبهم بدءاً من البخاري وانتهاء بأقل كتب الحديث عناية بالإسناد. ومن يتصفح صحيحي البخاري ومسلم أو جامع الترمذي مثلاً فإنه سيجد حتماً أبواباً بعضها في فضائل علي بن أبي طالب والحسن والحسين أو فاطمة أو العباس وابنه عبد الله أو جعفر بن أبي طالب وغيرهم من آل البيت، هذا إلى جانب المصنفات السُنية الكثيرة التي صُنفت في آل البيت خصيصاً كـ"فضائل الحسن والحسين" (¬1) للإمام أحمد بن حنبل (241هـ) و"خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب" للحافظ النسائي (303هـ) و"ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى" للمحب الطبري (694هـ) و"استجلاب ارتقاء الغُرف بحب أقرباء الرسول صلى الله عليه وسلم وذوي الشرف" للحافظ السخاوي (902هـ) و"إحياء الميت ¬

_ (¬1) نسبه إليه تقي الدين ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة 4/ 125".

في فضائل أهل البيت" لجلال الدين السيوطي (911هـ) و"جواهر العقدين في فضل الشّرفين" لنور الدين الشريف السمهودي (911هـ) وله أيضاً "الجوهر الشّفاف في فضائل الأشراف" و"در السحابة في مناقب القرابة والصحابة" للشوكاني (1250هـ) وهناك الكثير والكثير. ولذلك لم يجد آية الله العظمى الميرزا محمد حسين المامقاني إلا أن يعترف بهذه الحقيقة قائلاً: (وخلاصة القول: أنّ مقصودنا من هذه الخاتمة هو أن يتضح الأمر للجميع، بأنّ أهل السنة والجماعة وإنْ لم يكونوا قائلين بأنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - بلا فصل - ولم يعترفوا بالخلافة الظاهرية للعترة الطاهرة، وهم بهاتين الفقرتين يخالفون الشيعة الإثنى عشرية، لكنهم يقرون بولاية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام المطلقة (¬1) ويعترفون بجميع فضائل ومناقب الأئمة الأطياب عليهم السلام. وهذا المعنى ملتبسٌ على أغلب الناس ومشتبه عليهم، حيث يظنون بأنّ السنة ينكرون فضائل أئمتنا) (¬2)، إذن ما قضية الخلاف والكل يحب أهل البيت ويدعو إلى محبتهم؟! لقد أدركت من خلال دراستي لأبعاد الخلاف السني الشيعي أنّ هناك قضايا كثيرة طرحتها الشيعة الإثنا عشرية كانت ولا زالت سبباً في ظهور الشُقة بين الطائفة وبين أهل السنة، منها: ¬

_ (¬1) إن كان يريد بولايته المطلقة محبته ونصرته وانعقاد خلافته وإمامته في الدين وأحقيته على محاربيه (في الجمل وصفين) فهذا صحيح قطعاً، وإن كان يريد ما سوى ذلك من الغلو كاعتقاد تحكم أهل البيت في الكون أو حضورهم عند الممات أو تفويض الخلق إليهم فتلك مجازفة. (¬2) علم المحجة ص287 تحت عنوان (علماء العامة وقبولهم فضائل أهل البيت).

(القول بردة وانقلاب الصحابة على أعقابهم بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ولعن الشيخين (أبي بكر وعمر)! (القول بعصمة الأئمة الإثنى عشر وإدعاء أنهم لا يسهون ولا ينسون! (القول بأنّ للأئمة الإثنى عشر ولاية تكوينية تخضع لها ذرات الكون! (القول بأنّ إمامة الأئمة من الله، وأنّ الله نصّبهم على العباد كما نصّب الأنبياء والمرسلين! (وصف أئمة أهل البيت ببعض الأوصاف التي لا تنبغي إلا لله تعالى! هذا إلى جانب قضايا عقائدية أخرى أو تاريخية عالقة في التاريخ ساهمت بشكل مباشر في تنافر القلوب وفي إثارة الضغائن بين الفريقين حتى صار أهل السنة والشيعة الإثنا عشرية رفيقي درب ولكن على طريقين لا يلتقيان فيه أبداً. فقد باتت الصورة العالقة في أذهان كثير من الشيعة أنهم وحدهم الذين يحبون أهل البيت ويتولونهم وأنّ من ينتسب إلى أهل السنة ناصبي مبغض لأهل البيت أو في أحسن أحواله محب لأعداء أهل البيت! فإن كنت في شك من ذلك فاقرأ ما قاله العلامة يوسف البحراني (¬1) في كتابه "الشهاب الثاقب في معنى الناصب"عن أهل السنة حيث يقول: (وبالجملة فالمستفاد من الأخبار أنّ ¬

_ (¬1) يوسف بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني، ترجم له آية الله جعفر السبحاني في "تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره ص403" بقوله: (هو المحدّث الكبير، والفقيه المتبحّر، الجامع بين التوغّل في الحديث والاِحاطة بالفروع. يصفه تلميذه أبو علي الحائري موَلّف "منتهى المقال" بقوله: (عالم فاضل، متبحر ماهر، متتبّع محدّث، ورع عابد، صدوق ديّن، من أجلّة مشايخنا وأفاضل علمائنا المتبحّرين).

محبتهم عليهم السلام (¬1) إنما هي عبارة عن القول بإمامتهم، وجعلهم في مرتبتهم، وأنّ اعتقاد تأخيرهم عن تلك المرتبة وتقديم غيرهم عليهم بغض وعداوة لهم صلوات الله عليهم، فما يدّعيه بعض المخالفين من المحبة أو يدّعيه بعض أصحابنا لهم، دعوى لا دليل لها ولا برهان بل الدليل على خلافها واضح البيان، كما دريته من أمثال هذه الأخبار الحسان) (¬2). ويقول نعمة الله الجزائري (¬3) في "الأنوار النعمانية 2/ 307" ما نصه: (ويؤيد هذا المعنى أنّ الأئمة عليهم السلام وخواصهم أطلقوا لفظ الناصبي على أبي حنيفة وأمثاله مع أنّ أبا حنيفة لم يكن ممن نصب العداوة لأهل البيت عليهم السلام بل كان له انقطاع إليهم وكان يُظهر لهم التودد). ولن تجد مغالياً في الحب يرضى بحب من لم يكن مغالياً مثله. ولذا مهما قرأ علماء الشيعة في كتب أهل السنة من ثناء عطر على أهل البيت أو إشادة بموقف أحد منهم فإنّ هذا لن يغير نظرتهم تجاه أهل السنة، طالما أنّ كاتب هذه الكلمات لا ¬

_ (¬1) أي الأئمة الإثنى عشر وهم "علي بن أبي طالب والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي الملقب بالباقر وجعفر بن محمد الملقب بالصادق وموسى بن جعفر الملقب بالكاظم وعلي بن موسى الملقب بالرضا ومحمد بن علي الملقب بالجواد وعلي بن محمد الملقب بالهادي والحسن بن علي الملقب بالعسكري ومحمد بن الحسن الملقب بالقائم أو الحجة أو المهدي المنتظر". (¬2) الشهاب الثاقب في معنى الناصب ص144 (¬3) نعمة الله الحسيني الموسوي الجزائري، ترجم له المحقق يوسف البحراني في "لؤلؤة البحرين ص11": (كان هذا السيد فاضلاً، محدثاً، مدققاً، واسع الدائرة في الاطلاع على أخبار الإمامية وتتبع الآثار المعصومية). وقال عنه الخوانساري في "روضات الجنات 8/ 150" فقال: (كان من أعاظم علمائنا المتأخرين وأفاخم فضلائنا المتبحرين، واحد عصره في العربية والأدب والفقه والحديث، وأخذ حظه من المعارف الربانية بحثه الأكيد وكدّه الحثيث).

حبهم إيمان وتقى وبغضهم نفاق وضلال

يدين الله بعقيدة الإمامة التي تنادي بها الشيعة، ويضلل من أجلها أبا بكر وعمر وعثمان وبقية الصحابة! حبهم إيمان وتُقى وبغضهم نفاق وضلال إنّ حب أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيمان وتُقى وبغضهم نفاق وضلال، من أحبهم فبحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحبهم، ومن أبغضهم فببغض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبغضهم. مبغضهم في الدنيا ملعون وفي جهنم على وجهه مكدوس، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (والذي نفسي بيده، لا يبغضنا أهل البيت أحدٌ إلا أدخله الله النار) (¬1). يقول ابن الوزير رحمه الله: (وقد دلت النصوص الجمة المتواترة على وجوب محبتهم وموالاتهم، وأن يكون معهم، ففي الصحيح: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا)، وفيه (المرء مع من أحب)، ومما يخص أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول الله تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فيجب لذلك حبهم وتعظيمهم وتوقيرهم واحترامهم والاعتراف بمناقبهم، فإنهم أهل آيات المباهلة والمودة والتطهير، وأهل المناقب الجمّة والفضل الشهير) (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في المستدرك 3/ 150 وقال: (صحيح على شرط مسلم) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 643) حديث رقم (2488). (¬2) إيثار الحق على الخلق ص416

أما الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجري فقد استخلص لك من رحيق هذه الأقوال عبيراً يُعطرّ به الأسماع إذ يقول: (واجب على كل مؤمن ومؤمنة محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني هاشم، علي بن أبي طالب وولده وذريته وفاطمة وولدها وذريتها، والحسن والحسين وأولادهما وذريتهما، وجعفر الطيار وولده وذريته، وحمزة وولده (¬1)، والعباس وولده وذريته رضي الله عنهم، هؤلاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واجب على المسلمين محبتهم وإكرامهم واحتمالهم وحسن مداراتهم، والصبر عليهم والدعاء لهم، فمن أحسن من أولادهم وذراريهم فقد تخلّق بأخلاق سلفه الكرام الأخيار الأبرار، ومن تخلق منهم بما لا يحسن من الأخلاق دُعي له بالصلاح والصيانة والسلامة، وعاشره أهل العقل والأدب بأحسن المعاشرة، وقيل له: نحن نجلك عن أن تتخلق بأخلاق لا تشبه سلفك الكرام الأبرار، ونغار لمثلك أن يتخلق بما نعلم أنّ سلفك الكرام الأبرار لا يرضون بذلك، فمن محبتنا لك أن نحب لك أن تتخلق بما هو أشبه بك وهي الأخلاق الشريفة الكريمة، والله الموفق لذلك) (¬2). ¬

_ (¬1) لحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه من الذكور: (عمارة) أمه خولة بنت قيس بن فهد الأنصاري، و (يعلى) أمه أنصاريا الأوسية، قال ابن عبد البر: (كان له ولأخيه يعلى عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعوام ولا أحفظ لواحد منهما رواية، وكان حمزة يُكنى أبا عمارة، قلت-الكلام لابن عبد البر-: هو أكبر ولده فإن كان عاش بعده فله صحبة، فإنّ حمزة استشهد قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بست سنين وأشهر)، ولحمزة رضي الله عنه من الإناث (سلمى) و (أمامة) وهن صحابيات، وقد انقطع عقب حمزة رضي الله عنه بموت أبنائه دون عقب "الاستيعاب لابن عبد البر 1/ 353". (¬2) كتاب الشريعة ص832

ويقول في ص811: (فإن قال قائل: فما تقول فيمن يزعم أنه محب لأبي بكر وعمر وعثمان، متخلف عن محبة علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وعن محبة الحسن والحسين رضي الله عنهما، غير راضٍ بخلافة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، هل تنفعه محبة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم؟ قيل له: معاذ الله، هذه صفة منافق، ليست بصفة مؤمن، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) (¬1) وقال عليه السلام: (من آذى علياً فقد آذاني) (¬2)، وشهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي رضي الله عنه بالخلافة وشهد له بالجنة وبأنه شهيد، وأنّ علياً رضي الله عنه محب لله عز وجل ولرسوله، وأنّ الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم محبان لعلي رضي الله عنه وجميع ما شهد له به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الفضائل التي تقدم ذكرنا لها وما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من محبته للحسن والحسين رضي الله عنهما مما تقدم ذكرنا له. فمن لم يحب هؤلاء ويتولهم فعليه لعنة الله في الدنيا والآخرة، وقد بريء منه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وكذا من زعم أنه يتولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويحب أهل بيته، ويزعم أنه لا يرضى بخلافة أبي بكر وعمر ولا عثمان ولا يحبهم ويبرأ منهم ويطعن عليهم، فنشهد بالله يقيناً أنّ علي بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عنهم براء منه، لا تنفعه محبتهم حتى يحب أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، كما قال علي بن أبي طالب ¬

_ (¬1) رواه الترمذي- كتاب المناقب- مناقب علي بن أبي طالب- حديث رقم (3736). (¬2) صحيح بمجموع طرقه (انظر: السلسلة الصحيحة- حديث رقم (2295).

رضي الله عنه فيما وصفهم به، وذكر فضلهم، وتبرأ ممن لن يحبهم. فرضي الله عنه وعن ذريته الطيبة، هذا طريق العقلاء من المسلمين). ويقول تقي الدين ابن تيمية: (واتباع القرآن واجب على الأمة بل هو أصل الإيمان وهدى الله الذي بُعث به رسوله، وكذلك أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجب محبتهم وموالاتهم ورعاية حقهم. وهذان الثقلان اللذان وصّى بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فروى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغدير يدعى خُمّاً بين مكة والمدينة، فقال: (يا أيها الناس، إني تارك فيكم الثقلين – وفي رواية: أحدهما أعظم من الآخر – كتاب الله فيه الهدى والنور) فرغّب في كتاب الله، وفي رواية: (هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة، وعترتي أهل بيتي. أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي) فقيل لزيد ابن أرقم: من أهل بيته؟ قال: أهل بيته من حرم الصدقة، آل العباس، وآل علي، وآل جعفر وآل عقيل. والنصوص الدالة على اتباع القرآن أعظم من أن تذكر هنا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه حسان أنه قال عن أهل بيته: (والذي نفسي بيده، لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي)، وقد أمرنا الله بالصلاة على آل محمد، وطهرهم من الصدقة التي هي أوساخ الناس، وجعل لهم حقاً في الخمس والفيء، وقال صلى الله عليه وآله وسلم فيما ثبت في الصحيح: (إنّ الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيركم نفساً

من هم آل البيت؟

وخيركم نسباً). ولو ذكرنا ما رُوي في حقوق القرابة وحقوق الصحابة لطال الخطاب، فإنّ دلائل هذا كثيرة من الكتاب والسنة. ولهذا اتفق أهل السنة والجماعة على رعاية حقوق الصحابة والقرابة، وتبرؤوا من الناصبة الذين يكفرون علي بن أبي طالب ويفسقونه، وينتقصون بحرمة أهل البيت، مثل من كان يعاديهم على الملك، أو يعرض عن حقوقهم الواجبة، أو يغلو في تعظيم يزيد بن معاوية بغير الحق. وتبرؤوا من الرافضة الذين يطعنون على الصحابة وجمهور المؤمنين، ويكفّرون عامة صالحي أهل القبلة، وهم يعلمون أنّ هؤلاء أعظم ذنباً وضلالاً من أولئك) (¬1). مَنْ هم آل البيت؟ إنّ أول خطوة ينبغي أن يخطوها المرء بُغية الوصول إلى حوار مثمر مفيد هي خطوة (تحرير المصطلحات). وإذا ما رزقك الله تعالى حيادية في الطرح وإنصافاً في النظرة للخصم فإنك ستدرك بلا شك أنّ الأزمة التي نعيشها في حل خصوماتنا المذهبية قد لا ترجع عادة إلى خبث نية أحد الطرفين بقدر ما يكون الخلل فيها في تحرير مسائل الخلاف وعلى رأسها فهم (المصطلح). وإذا ما يسّر الله تعالى لك حضور مجلس يُتناول فيه الخلاف السني الشيعي فإنك ستلاحظ أنّ الحوار الدائر بين الطرفين: السني والشيعي، ربما يبتدأ هادئاً بعض الشيء ثم ما يلبث أن يتحول إلى صياح واتهامات متبادلة أو ربما مباهلة يحسم بها الطرفان الحوار. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى 27/ 268 - 269

لكنك إذا ما سألت أحد الطرفين بعد انفضاض المجلس عن (أهل البيت) الذين يتكلم عنهم، ثم التفت للآخر وسألته السؤال ذاته لحصلت على إجابتين مختلفتين! ولأدركت أنّ القوم قد خاضوا في نقاش طويل وعريض وفي تشعبات ومسائل خلافية لا حصر لها دون أن يحرروا قبل هذا كله مصطلح (آل البيت) الذي يتناقشون فيه ويؤصلون ويفرّعون عليه! لهذا كان لازماً عليّ كباحث وعلى كل من يريد الحديث عن (أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحرر قبل كل شيء مصطلح (الآل)، وإلا كان الحديث عن (آل البيت) حديثاً عاطفياً مجرداً عن الدليل والبرهان. تحرير المصطلح المتأمل لكتب اللغة وللآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة يلاحظ أنّ لفظ (الآل) له معان باعتبار مقامات لا يحسن تجاهلها أو عدّها أقوالاً مختلفة كما ذهب إلى ذلك الكثيرون قديماً وحديثاً. فإنّ النصوص الشرعية لا تتناقض ولا يصح أن يُنظر إلى مصطلح (آل البيت) على أنه مصطلح غامض أو مختلف فيه، لا يُعرف له سطح من قاع! لهذا حرصتُ أن أتتبع النصوص الشرعية الذاكرة لأهل البيت وموارد استخدامها لهذا المصطلح ثم نظرت في كلام العلماء العارفين بهذا الشأن، فخلصت بعد هذا الاستقراء بنتيجة مفادها أنّ آل البيت إجمالاً ودون الخوض في التفاصيل والأدلة مصطلح يضم ثلاثة بيوت: (بيت النسب، بيت السكنى، بيت الولادة). فبنو هاشم أولاد عبد المطلب هم أهل بيت له صلى الله عليه وآله وسلم من جهة النسب ويُقال لأولاد الجد القريب: بيت، ويُقال: بيت فلان كريم شريف.

وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيت له من جهة السكنى، وإطلاق هذا اللفظ على نساء الرجل أخص وأعرف بحسب العرف والعادة. وأولاده صلى الله عليه وآله وسلم هم أهل بيته من جهة الولادة، ومع شمول هذا اللفظ لجميع أولاده فيدخل كل من فاطمة ابنته رضي الله عنها وعلي زوج ابنته رضي الله عنه وابناهما في أهل بيته. فإن شئت التوسع في الكلام عن مصطلح (آل البيت) وإطلاقاته فاعلم أنّ لفظ (الآل) في الشرع يُطلق ويراد به مقامان اثنان: أولهما (مقام الاتباع والنصرة) والثاني (مقام من تحرم عليهم الصدقة). وفيما يلي بيان ذلك بالتفصيل: أولاً: مقام (الاتباع والنصرة) فقد استخدم العرب لفظ (الآل) في الدلالة على الأتباع. وفي هذا يقول عبد المطلب في الفيل وأصحابه: وانصُر على آلِ الصِّليب وعابديهِ اليَومَ آلَكَ (¬1) ومراده هنا أن يقول: وانصر اللهم أتباعك وأنصارك اليوم على أتباع الصليب وعابديه. وقد ورد لفظ (الآل) في القرآن والسنة أحياناً بهذا المعنى، ومثاله قول الله تبارك وتعالى {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} (¬2)، والمراد بالآية لوط عليه السلام وأتباعه المؤمنون به من أقاربه وغيرهم. ¬

_ (¬1) جلاء الأفهام 1/ 206 وفتح الباري 11/ 160 (¬2) سورة القمر آية 34

ومنه قول الله تبارك تعالى عن فرعون {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} (¬1) وقوله تعالى {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} (¬2) وقوله تعالى {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (¬3). والمقصود بـ (آل فرعون) هنا (فرعون وأتباعه)، فإنه لم يكن لفرعون ولد أصلاً – باتفاق المفسرين وأرباب التواريخ- ولذلك حكى الله تعالى قول امرأته آسية عن موسى عليه السلام {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (¬4) ولا خلاف كذلك أنّ الذين كانوا يذّبحون أبناء بني إسرائيل والذين أغرقهم الله تعالى هم جند فرعون وأتباعه. يقول الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ}: ("آل فِرْعَوْن" قَوْمه وَأَتْبَاعه وَأَهْل دِينه، وَكَذَلِكَ آل الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هُوَ عَلَى دِينه وَمِلَّته فِي عَصْره وَسَائِر الأعْصَار سَوَاء كَانَ نَسِيبًا لَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينه وَمِلَّته فَلَيْسَ مِنْ آلِهِ وَلا أَهْله وَإِنْ كَانَ نَسِيبه وَقَرِيبه) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية 49 (¬2) سورة البقرة آية 50 (¬3) سورة غافر آية 46 (¬4) سورة القصص آية 9 (¬5) تفسير القرطبي 1/ 382

وقد قيل للإمام جعفر الصادق (الناس يقولون المسلمون كلهم آل النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: كذبوا وصدقوا، فقيل له: ما معنى ذلك؟ فقال: كذبوا في أنّ الأمة كافتهم آله وصدقوا في أنهم إذا قاموا بشرائط شريعته آله) (¬1). ثانياً: مقام (من تحرم عليهم الصدقة) و (الآل) في هذا المقام قسمان: أصل وفرع. فأما الأصل فالمراد به (بنو هاشم) (¬2) لحديث (حديث الثقلين) والذي فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه. ثم قال: وأهل بيتي، أُذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي. فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهلُ بيته من حُرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل عليّ، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال: كل هؤلاء حُرم الصدقة؟ قال: نعم) (¬3). ¬

_ (¬1) مفردات غريب القرآن ص31 (¬2) وإنما قال العلماء (بنو هاشم) لبيان أنهم (أصل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعصبته) وإلا فالعلماء مجمعون على أنّ من يحرم عليهم الصدقة ويطلق عليهم مصطلح (آل البيت) وتجب مودتهم وإجلالهم هم (المؤمنون من بني هاشم) وليس كل بني هاشم، مسلمهم وكافرهم! راجع "فتح الوهاب 1/ 8" لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري و"فتح المعين 1/ 20" للشيخ زين الدين المليباري. (¬3) رواه مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب (من فضائل علي بن أبي طالب) - حديث رقم (2408).

ولما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله ابن الحارث بن نوفل الهاشمي (¬1) أنّ عبد المطلب بن ربيعة (¬2) أخبره أنّ أباه ربيعة بن الحارث قال لعبد المطلب بن ربيعة وللفضل بن العباس رضي الله عنهما: ائتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقولا له استعملنا يا رسول الله على الصدقات – فذكر الحديث – وفيه: فقال لنا: (إنّ هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد). وزاد الإمام الشافعي على بني هاشم "بني المطلب" لقول النبي عليه الصلاة والسلام (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد) (¬3) وفي رواية: (إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام) (¬4). وقد رد ابن قدامة المقدسي القول بدخول (بني المطلب) في مسمى (آل البيت) فقال: (ولا يصح قياس (بني المطلب) على (بني هاشم)، لأنّ بني هاشم أقرب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأشرف وهم آل النبي صلى الله عليه وسلم، ومشاركة بني المطلب لهم في خمس الخمس ما استحقوه بمجرد القرابة بدليل أنّ بني عبد شمس وبني نوفل يساوونهم في القرابة ولم يعطوا شيئاً، وإنما شاركوه بالنصرة أو بهما جميعاً) (¬5). ¬

_ (¬1) وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. (¬2) وهو عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. (¬3) رواه البخاري – كتاب المناقب – باب (مناقب قريش) – حديث رقم (3502). (¬4) رواه أبو داود – كتاب الخراج– باب (في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى) – حديث (2980) (¬5) المغني 2/ 520

وحجة ابن قدامة في هذا ظاهرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام علل إدخاله (بني المطلب) في حكم (الخمس) كونهم لم يفارقوا بني هاشم في جاهلية ولا إسلام بل كانوا سنداً لهم في كل الأحوال، فاستحقوا لذلك (الخمس) مع (بني هاشم) دون غيرهم من القرابة. أما تحريم الصدقة عليهم كسائر آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا دليل عليه والأصل أنّ الصدقة عليهم جائزة، وأنّ من تحرم عليهم الصدقة هم بنو هاشم. أزواج النبي من آل بيته وأما فرع (آل البيت) فالمراد به (زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم) وهن من (آله) لاتصالهنّ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمصاهرة. وقد حرمن على غيره من الرجال في حياته وبعد مماته، وهنّ زوجاته في الدنيا والآخرة فالسبب الذي لهن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قائم مقام النسب. وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على دخولهن في مسمى (آل البيت). أول هذه الأدلة: تسمية الله عز وجل أزواج الأنبياء بأهل البيت، فقد قال تعالى عن موسى عليه السلام {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ} (¬1) ومعلوم أنه لم يكن معه في سفره هذا إلا زوجته. يقول الطباطبائي في تفسيره: (قوله تعالى {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِه} المراد بأهله إمرأته وهي بنت شعيب على ما ذكره الله تعالى في سورة القصص) (¬2). ¬

_ (¬1) سورة النمل آية 7 (¬2) تفسير الميزان 15/ 342

ويقول القمي في تفسير قوله تعالى {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ}: (.. فلما حال عليه الحول حمل موسى امرأته، وزوّده شعيب من عنده، وساق غنمه، فلما أراد الخروج ... قال له (شعيب): اذهب فقد خصّك الله بها، فساق غنمه فخرج يريد مصر، فلما صار في مفازة ومعه أهله أصابهم برد شديد وريح وظلمة وجنّهم الليل فنظر موسى إلى النار قد ظهرت كما قال الله {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ}) (¬1). ومن هذا أيضاً قول الملائكة لامرأة إبراهيم عليه السلام (سارة) لما بُشرت بإسحاق {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (¬2) يقول الراغب الأصفهاني في "مفردات غريب القرآن": (أهل الرجل مَنْ يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجرى مجراهما من صناعة وبيت وبلد، فأهل الرجل في الأصل من يجمعه وإياهم مسكن واحد ثم تجوّز به فقيل أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإياهم نسب، وتعورف في أسرة النبي عليه الصلاة والسلام مطلقاً إذا قيل (أهل البيت) لقوله عزوجل {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْت} وعبّر بأهل الرجل عن امرأته) (¬3). يقول ابن منظور في كتابه لسان العرب: (أهل البيت: سكّانه، وأهل الرجل: أخص الناس به، وأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أزواجه وبناته وصهره، أعني علياً عليه السلام) (¬4) ¬

_ (¬1) تفسير القمي 2/ 116 - 117 سورة القصص (¬2) سورة هود آية 73 (¬3) مفردات غريب القرآن ص29 (¬4) لسان العرب – مادة (أهل)

ويقول الفيروز أبادي في "القاموس المحيط": (أهل الأمر: ولاته، وللبيت: سكّانه وللمذهب: من يدين به، وللرجل: زوجته كأهلته، وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أزواجه وبناته وصهره علي رضي الله عنه) (¬1). ويقول الزبيدي في "تاج العروس" (والأهل للبيت سكانه ومن ذلك أهل القرى: سُكانها، والأهل للمذهب من يدين به ويعتقده، ومن المجاز: الأهل للرجل زوجته ويدخل فيه الأولاد، وبه فُسّر قوله تعالى أيضاً {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} أي زوجته وأولاده كأهلته بالتاء والأهل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أزواجه وبناته وصهره علي أو نساؤه، وقيل أهله الرجال الذين هم آله ويدخل فيه الأحفاد والذريات، ومنه قوله تعالى {وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (¬2) وقوله تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} و {رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ}) (¬3). الثاني: الآيات التي تخاطب نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سورة الأحزاب والتي فيها {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فإنّ سياق الآيات في نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما ذُكر من أنّ المراد بها هم (أصحاب الكساء) دون غيرهم سيتم مناقشته بالتفصيل في موضوع آية التطهير في (فصل الإمامة) بإذن الله تعالى. الثالث: ما رواه البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة رضي الله عنه فقال: ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقلت: بلى ¬

_ (¬1) القاموس المحيط (باب اللام – فصل الهمزة) ص1245 (¬2) سورة طه آية 132 (¬3) تاج العروس 14/ 36

فأهدها لي، فقال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ فإنّ الله قد علمنا كيف نسلم عليكم، قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد) (¬1). وقد علّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم صحابته عدة صيغ للصلاة على آله ذاكراً منها الصيغة التالية: عن عمرو بن سُليم الزرقي قال: أخبرني أبو حميد الساعدي رضي الله عنه أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليكم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قولوا: اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد) (قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) (¬2). وإذا كان إطلاق مسمى (أهل البيت) على زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مذكوراً في الصلاة الإبراهيمية، فإنّ التصريح بكون نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم من آل بيته أوضح ما يكون في هذا الحديث الشريف. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (بُني على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعياً ... فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فانطلق إلى حُجرة عائشة فقال: (السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله)، فقالت: ¬

_ (¬1) رواه البخاري -كتاب أحاديث الأنبياء- باب قول الله تعالى {واتخذ الله ابراهيم خليلاً} - حديث (3370) (¬2) المصدر نفسه - حديث رقم (3369)

وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك؟ بارك الله لك، فتقرّى حُجَرَ نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة ...) (¬1) وفي حديث (الإفك) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر حاكياً اتهام عبد الله بن أبي سلول لأم المؤمنين عائشة: (يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي، فوالله! ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً -أي صفوان بن المعطّل- ما علمت عليه إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلا معي) (¬2). وعن إبراهيم قال: قلت للأسود (هل سألت أم المؤمنين عمّا يُكره أن يُنتبذ فيه؟) قال: نعم، قلت: يا أم المؤمنين، أخبريني عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُنتبذ فيه، قالت: نهانا أهل البيت أن ننتبذ في الدّباء والمزفّت) (¬3). كل هذه الأحاديث تشير بجلاء إلى أنّ أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من آل بيته. لكن زيد بن الأرقم رضي الله عنه رغم إقراره بكون أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من آل بيته إلا أنه كان يرى أنّ (تحريم الصدقة) حكم خاص ببني هاشم (عصبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصله) لا يشاركهم فيه زوجات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري – كتاب التفسير – باب {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} حديث رقم (4793). (¬2) رواه مسلم - كتاب التوبة – باب (في حديث الإفك وقبول توبة القاذف) حديث رقم (7020). (¬3) رواه مسلم - كتاب الأشربة – باب (النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير، وبيان أنه منسوخ) حديث رقم (5172).

وقد عبّر عن هذا صراحة في حديث مسلم والذي فيه: (فقلنا: مَنْ أهل بيته؟ نساؤه، قال: لا، وايم الله إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها أهل بيته أصله وعصبته الذين حُرموا الصدقة بعده). وقد أشكل هذا الحديث على بعض من قصرت أفهامهم عن مراد زيد بن أرقم رضي الله عنه فظنوا أنّ هذه الرواية معارضة لسابقتها التي قال فيها: (نساؤه من أهل بيته، ولكن أهلُ بيته من حُرم الصدقة بعده)، ولا تعارض بين الروايتين، فعلة التفريق في الحديثين ظاهرة وهي أنّ نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسن من آل بيته الذين حُرّمت عليهم الصدقة وإن كانوا في الحقيقة من آل البيت (إجمالاً). قال الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: (تتأول الرواية الأولى على أنّ المراد أنهن من أهل بيته الذين يساكنون ويعولهم، وأمر باحترامهم وإكرامهم وسماهم ثقلاً ووعظ في حقوقهم وذكّر، فنساؤه داخلات في هذا كله ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة، وقد أشار إلى هذا في الرواية الأولى بقوله: (نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة) فاتفقت الروايتان) (¬1). روايات الشيعة تؤكد ما ذكرناه ما ذكرته آنفاً من شمول مصطلح (آل البيت) لبني هاشم تشهد عليه روايات شيعية كثيرة قد تبلغ حد التواتر، إليك بعضاً منها: ¬

_ (¬1) شرح صحيح مسلم للنووي 15/ 180 - 181

روى ابن بابويه القمي (¬1) في "الأمالي" عن ابن عباس أنه قال: قال علي (ع) لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، إنك لتحب عقيلاً، قال: إي والله، إني لأحبه حبين حباً له وحباً لحب أبي طالب له وإنّ ولده لمقتول في محبة ولدك فتدمع عليه عيون المؤمنين وتصلي عليه الملائكة المقربون ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى جرت دموعه على صدره ثم قال: إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي) (¬2). فأثبت رسول الله بهذا الحديث أنّ عقيلاً وابنه من عترته عليه الصلاة والسلام. وفي "بحار الأنوار" للمجلسي (¬3) عن الإمام الحسين أنه قال بعد أن جمع ولده وإخوته ¬

_ (¬1) محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي الملقّب بـ"الشيخ الصدوق"، ترجم له شيخ الطائفة الطوسي في "الفهرست ص237" بقوله: (كان جليلاً حافظاً للأحاديث، بصيراً بالرجال، ناقداً للأخبار، لم ير في القميين مثله في حفظه وكثرة علمه). وقال عنه المولى محمد تقي المجلسي في "روضة المتقين 14/ 16": (وثّقه جميع الأصحاب لما حكموا بصحة أخبار كتابه، بل هو ركن من أركان الدين)!! وقال محمد باقر المجلسي في "بحار الأنوار 10/ 406": (من عظماء القدماء التابعين لآثار الأئمة النجباء الذين لا يتبعون الآراء والأهواء، ولذا ينزل أكثر أصحابنا كلامه وكلام أبيه منزلة النص المنقول والخبر المأثور)!! (¬2) أمالي الصدوق ص191 حديث رقم (200) وبحار الأنوار 22/ 288، 44/ 287 (¬3) محمد باقر بن محمد تقي المجلسي، وصفه آية الله جعفر السبحاني في "تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره ص400" بأنه (محيي السنّة، وناشر آثار أهل البيت، الشيخ محمد باقر بن العالم الجليل محمد تقي بن الورع البصير المولى مقصود علي المتخلّص في أشعاره بالمجلسي. هو أجلّ من أن يعرّف، وقد ألّف شيخنا المحدّث النوري رسالة في ترجمته أسماها "الفيض القدسي في ترجمة المجلسي" ذكر فيها جملاً من مناقبه وفضائله ومشايخه وتلامذته وذريته وذرية والده. وكفاه فخراً انّه ألّف دائرة معارف للشيعة يوم لم يكن أيّ أثر لهذا اللون من التأليف بين الأوساط الإِسلامية ... وفي الجملة فهو أُستاذ فن الحديث، وسناده، وعماده، وهو في غنى عن تعريفه وإطرائه وإفاضة القول فيه).

وأهل بيته ونظر إليهم فبكى ساعة: (اللهم إنا عترة نبيك) (¬1). فلم يحصر الحسين العترة في نفسه وفي ولده زين العابدين بل عمم اللفظ لسائر من كان معه من أهل البيت. وقد خاطب أحد الشيعة زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام قائلاً: (يا ابن رسول الله ألست صاحب هذا الأمر؟ قال: أنا من العترة) (¬2). وقد روى ابن بابويه القمي شهادة ولدي مسلم بن عقيل الصغيرين والتي فيها: (فقال له الغلام الصغير: يا شيخ، أتعرف محمداً؟ قال: فكيف لا أعرف محمداً وهو نبيي؟ قال: أفتعرف جعفر بن أبي طالب؟ قال: وكيف لا أعرف جعفراً وقد أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء، قال: أفتعرف علي بن أبي طالب؟ قال: وكيف لا أعرف علياً وهو ابن عم نبيي وأخو نبيي؟ قال له: يا شيخ، فنحن من عترة نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن من ولد مسلم بن عقيل بن أبي طالب بيدك أسارى، نسألك من طيب الطعام فلا تطعمنا، ومن بارد الشراب فلا تسقينا ...) (¬3). ومنها حديث أكثر صراحة في بيان العترة. فقد روى محمد بن سليمان الكوفي في كتابه "مناقب أمير المؤمنين (ع) " عن يزيد بن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن عقبة إلى زيد بن أرقم فجلسنا إليه فقال له حصين: يا زيد، قد أكرمك الله ورأيت خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وآله ¬

_ (¬1) بحار الأنوار 44/ 383 (¬2) بحار الأنوار 46/ 202 (¬3) الأمالي للصدوق ص143 حديث رقم (145).

وسلم؟ فقال زيد: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فخطبنا بماء يدعى بـ"خم" بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال: (أما بعد، أيها الناس، إنما أنا بشر أنتظر أن يأتي رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين: أحدهما كتاب الله، فيه الهدى والنور فاستمسكوا بكتاب الله وخذوا به. فرغّب في كتاب الله وحثّ عليه ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي – (قالها) ثلاث مرات. فقال له حصين: يا زيد، من أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: إنّ نساءه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرّم عليهم الصدقة بعده، فقال له حصين: من هم يا زيد؟ قال: هم آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس. فقال له حصين: أكُلّ هؤلاء حُرم عليهم الصدقة بعده؟ قال: نعم) (¬1). وقال الأربلي (¬2) في بيان المراد بآل البيت: (فإن قال قائل فما حقيقة الآل في اللغة عندك؟ وقد بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث سئل فقال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، فانظروا كيف تخلفونني فيهما، قلنا: فمن أهل بيته؟ قال: آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل عباس) (¬3). ¬

_ (¬1) مناقب الإمام أمير المؤمنين 2/ 116 وكشف الغمة 1/ 549 (¬2) علي بن عيسى بن أبي الفتح الأربلي، ترجم له الشيخ عباس القمي في "الكنى والألقاب 2/ 18" فقال: (من كبار العلماء الإمامية، العالم الفاضل الشاعر الأديب المنشئ النحرير والمحدّث الخبير الثقة الجليل، أبو الفضائل والمحاسن الجمة صاحب كتاب "كشف الغمة في معرفة الأئمة"). (¬3) بحار الأنوار 25/ 237 نقلاً عن "كشف الغمة في معرفة الأئمة" للأربلي.

ويؤكد ذلك الحافظ يحيى بن الحسن الأسدي الحلي (¬1) في "عمدة عيون صحاح الأخبار" فيقول: (ومن ذلك ما ذكره الثعلبي أيضاً في تفسير قوله تعالى {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} يعني من أموال كفار أهل القرى {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} يعني قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: وهم آل علي عليه السلام وآل العباس رضي الله عنه وآل جعفر وآل عقيل رضي الله عنهما ولم يشرك بهم غيرهم، وهذا وجه صحيح يطرد على الصحة لأنه موافق لمذهب آل محمد صلى الله عليه وآله يدل عليه ما هو مذكور عندهم في تفسير قوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} لأنّ مستحق الخمس عندهم آل علي (ع) وآل العباس رضي الله عنه وآل جعفر وآل عقيل (ع) ولا يشرك بهم غيرهم) (¬2). وروى الطبرسي (¬3) في "الاحتجاج" عن أبي المفضل محمد بن عبد الله الشيباني بإسناده الصحيح عن رجال ثقات أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج في مرضه الذي توفي فيه إلى الصلاة متوكئاً على الفضل بن عباس وغلام له يقال له ثوبان، وهي الصلاة التي أراد ¬

_ (¬1) يحيى بن الحسن بن الحسين بن علي بن محمد الأسدي المعروف باسم "ابن البطريق"، ترجم له الحر العاملي في "أمل الآمل 2/ 345" بقوله: (كان عالماً فاضلاً محدّثاً محققاً ثقة صدوقاً). ووصفه الشيخ حسن الصدر في "تأسيس الشيعة ص130" بـ (المتكلم الفاضل، المحدّث الجليل، المعروف بابن البطريق، يروى عن ابن شهرآشوب سنة خمس وتسعين وخمسمائة وهو صاحب كتاب "العمدة في مناقب الأئمة" و"الخصائص في مناقب أمير المؤمنين (ع) " وهو أشهر من أن تُشرح أحواله، من كبار شيوخ الشيعة رضي الله عنه). (¬2) عمدة عيون صحاح الأخبار ص6 - 7 (¬3) أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، ترجم له الحر العاملي في "أمل الآمل 2/ 17" فقال: (عالم فاضل فقيه محدث ثقة، له كتاب الاحتجاج على أهل اللجاج حسن كثير الفوائد).

التخلف عنها لثقله ثم حمل على نفسه وخرج، فلما صلى عاد إلى منزله، فقال لغلامه: اجلس على الباب ولا تحجب أحداً من الأنصار وتجلاه الغشي وجاءت الأنصار فأحدقوا بالباب وقالوا: استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: هو مغشي عليه وعنده نساؤه فجعلوا يبكون، فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البكاء، فقال: من هؤلاء؟ قالوا: الأنصار، فقال: من هاهنا من أهل بيتي؟ قالوا: علي والعباس، فدعاهما وخرج متوكئاً عليهما) (¬1). وروى شيخ الطائفة الطوسي عن الإمام جعفر الصادق قال: لما زوّج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة علياً عليهما السلام دخل عليها وهي تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟ فوالله لو كان في أهل بيتي خير منه زوّجتك) (¬2). وعن سلمان الفارسي قال: (كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وآله في المسجد إذ دخل العباس بن عبد المطلب فسلّم، فردّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورحّب به، فقال: يا رسول الله، بم فضل علينا أهل البيت علي بن أبي طالب والمعادن واحدة، فقال النبي: إذن أخبرك يا عم ...) (¬3). وفي هذا الحديث إقرار من رسول الله للعباس بأنه من أهل البيت ثم إخبار له بسبب تفضيل علي بن أبي طالب عليه وعلى سائر رجال أهل البيت. ¬

_ (¬1) الاحتجاج 1/ 70 وبحار الأنوار 28/ 176 (¬2) الأمالي للطوسي ص40 حديث رقم (45). (¬3) إرشاد القلوب 2/ 403 وبحارالأنوار 43/ 17والأسرار الفاطمية ص426

وعن الباقر (ع) قال: لما أُمر العباس بسد الأبواب، وأُذن لعلي (ع) بترك بابه، جاء العباس وغيره من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا رسول الله، ما بال علي يدخل ويخرج؟ فقال رسول الله: ذلك إلى الله فسلّموا له حكمه (¬1). والشاهد هو قول الباقر (جاء العباس وغيره من آل محمد) وهو واضح جلي في دخول العباس وغيره في مسمى أهل البيت والعترة وعدم انحصار مسمى (آل محمد) بأصحاب الكساء أو بالأئمة الإثني عشر. وعن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم وهو آخذ بيد علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يقول: يا معشر الأنصار، يا معشر بني هاشم، يا معشر بني عبد المطلب، أنا محمد رسول الله، ألا إني خلقت من طينة مرحومة في أربعة من أهل بيتي أنا وعلي وحمزة وجعفر) (¬2). وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ألا وإنّ إلهي اختارني في ثلاثة من أهل بيتي وأنا سيد الثلاثة وأتقاهم لله ولا فخر، اختارني وعلياً وجعفر ابني أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب كنا رقوداً بالأبطح ليس منا إلا مسجى بثوبه على وجهه) (¬3). وروي أنه قال في مرض موته لابنته فاطمة الزهراء: (علي بعدي أفضل أمتي، وحمزة وجعفر أفضل أهل بيتي بعد علي) (¬4). ¬

_ (¬1) تفسير الإمام العسكري ص20 وبحار الأنوار 39/ 25 (¬2) الأمالي للصدوق ص275 حديث رقم (306) والخصال 1/ 204 (¬3) تفسير القمي 2/ 347 وبحار الأنوار 22/ 277 و35/ 214 (¬4) كمال الدين (ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النص على القائم وأنه (الثاني عشر في الأئمة) ص245

أهل البيت بين الشرف والخصوصية

وفي غزوة بدر لما نُقل عبيدة بن حارث بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جريحاً يحتضر قال: (يا رسول الله ألست شهيداً؟ قال: بلى، أنت أول شهيد من أهل بيتي) (¬1). أهل البيت بين الشرف والخصوصية أما وقد علمت أنّ (أهل البيت) هم (بنو هاشم بجميع فروعهم) وكذا (أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم)، فاعلم أنّ الله تعالى قد فضل أهل البيت بعضهم على بعض درجات فمنهم من ذُكر بمناقب خاصة وأُشير إليه بشرف خاص ومنهم من هو كسائر آل البيت في المنقبة العامة لا يفضل على أحد منهم بمنقبة. وآل البيت في هذا المقام قسمان: قسم حاز (الشرف العام) وهم (المؤمنون من بني هاشم) ولهؤلاء من المكانة والشرف والتقدير والإجلال ما يميزهم عن سائر المسلمين، يُحب المرء منهم على قدر دينه وإيمانه، فمن ضم إلى قرابته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علماً في الدين وتقوى لله كان أحب إلينا ممن هو أقل منه ديناً وعلماً، ومن كان منهم أقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أحب إلى قلوبنا ممن بعُد نسبه. ودليل (هذا التشريف) ما روي من أنّ العباس (عم رسول الله) شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يَلقون من قريش من تعبيسهم في وجوههم وقطعهم حديثهم عند لقائهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غضباً شديداً حتى احمّر وجهه ودرّ ¬

_ (¬1) مناقب آل أبي طالب 1/ 188 وبحار الأنوار 19/ 225

عرقٌ بين عينيه وقال: (والذي نفسي بيده، لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله) (¬1). وما ورد بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده، لا يبغضنا أهل البيت أحدٌ إلا أدخله الله النار) (¬2) أما المسيء منهم المفارق لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يُبغض على قدر ضلاله وبعده عن هدي محمد عليه الصلاة والسلام إن لم يذهب به ضلاله إلى حد الكفر أو الزندقة فيُوالى الرجل منهم لإسلامه وقرابته ويُبغض لمعصيته وهواه. ولا يقدّم الهاشمي الضال على التقي الصالح من غير بني هاشم، إذ إنّ ميزان التفاضل هو التقوى لا النسب {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬3) والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقرر هذه الحقيقة فيقول: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) (¬4) فالنسب لن ينقذ أحداً من الناس ويشفع له عند الله إن أساء العمل وخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أما الكافر أو المرتد من (بني هاشم) فلا يُنسب إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا كرامة، ولا يعني ذلك إنكار قرابته النسبية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ ¬

_ (¬1) في سنده (يزيد بن أبي زياد) وهو ضعيف، لكن ذكر تقي الدين ابن تيمية في "مجموع الفتاوى 27/ 268" أنّ الحديث (قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه حسان) فلعله وقف على مالم أقف عليه مع أني قد تقصيت أسانيد الرواية في مظانها فوجدتها كلها عن يزيد بن أبي زياد. (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك 3/ 150" وقال: (صحيح على شرط مسلم) وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة 5/ 643" حديث رقم (2488). (¬3) سورة الحجرات آية 13 (¬4) رواه مسلم – كتاب (الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) – باب (فضل الاجتماع على تلاوة القرآن) – حديث رقم (2699) و"مستدرك الوسائل" للنوري الطبرسي 3/ 363 حديث رقم (20).

هذه لا يستطيع أحد إنكارها، وإنما المستنكر هو إطلاق مسمى (أهل البيت) -الذي اقترن بالتشريف من رب العالمين -على المرتدين أو الكفار. ولهذا لا يُقال بأنّ أبا لهب وأمثاله من الكفار والمعاندين من آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان (أبو لهب) في الحقيقة هو عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومثل هؤلاء يُبغَضون كـ (سائر الكفار) بل أشد، وقد أنزل الله تعالى في أبي لهب (عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) آيات تتلى إلى يوم القيامة لما كفر وعاند وحارب الإسلام وأهله. ولو كان النسب عاصماً أحداً من الضلالة لعصم ابن نوح عليه السلام لما ناداه نوح عليه السلام {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ} (¬1) فآثر الغرق على الهدى أو آزر لما قال له ابنه ابراهيم عليه السلام {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً. يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} (¬2) فقابل النصح بالعناد والمكابرة إنّ ديننا قائم على ما وقر في القلب وصدقته الأعمال لا على ما سطرته كتب الأنساب! خصوصية أصحاب الكساء والأزواج وأما القسم الثاني من (آل البيت) فهم أصحاب الكساء (علي وفاطمة والحسن والحسين) وأزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذريته، ويُضاف إليهم كل هاشمي وردت في حقه فضائل خاصة كالعباس وحمزة وجعفر مثلاً، فإنه قد وردت فيهم فضائل خاصة تُميزهم عن سائر بني هاشم. ¬

_ (¬1) سورة هود آية 42 (¬2) سورة مريم آية 44 - 45

فلهؤلاء خصوصية لا يشركهم فيها عامة بني هاشم فضلاً عن غيرهم. فأما أهل الكساء فقد برزت خصوصيتهم بقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث الكساء (هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحق)، فنص بهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كونهم خاصة أهل بيته وأقربهم إليه، فحرص على تجليلهم بالكساء والدعاء لهم لينالهم التطهير، وسيأتي تفصيل هذا في موضعه من الكتاب. وقد اختارهم دون سائر أهل بيته للمباهلة لأنهم أخص أهل بيته وأقربهم إليه، فخرجوا معه لمباهلة (عبد المسيح) ومن معه من وفد نجران. وأما ذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجه فلهم خصوصية الصلاة عليهم في (الصلاة الإبراهيمية) التي وردت بعدة صيغ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منها (قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد) (¬1). ولأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مزايا أخرى منها أنّ الله تعالى جعلهن أمهات للمؤمنين وهي أمومة يترتب عليها حرمة الزواج منهن بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، ووجوب احترامهن والتأدب معهن. ومن مزاياهن أنّ الله تعالى فضّلهن على سائر نساء المؤمنين، فلهن من المكانة والفضل وعلو المقام والرتبة ما ليس لغيرهن من النساء كما قال الله تعالى {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري – كتاب أحاديث الأنبياء – حديث رقم (3369). (¬2) سورة الأحزاب آية 32

وقد شرفهن الله تعالى بتلاوة آياته والحكمة في بيوتهن فقال {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً} (¬1). ولمكانتهن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن المسلمين جعل الله تعالى الأجر لهن مضاعفاً إِنْ عملن صالحاً والعذاب مضاعفاً إن أتين بفاحشة (¬2)، فقال عز من قائل {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَاتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} (¬3). وقد روى الشيخ الطبرسي (¬4) في تفسيره "مجمع البيان 8/ 153" عن أبي حمزة الثمالي عن زيد بن علي (ع) أنه قال: (إني لأرجو للمحسن منا أجرين، وأخاف على المسئ منا أن يضاعف له العذاب ضعفين، كما وعد أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم). وروى عن علي بن عبد الله بن الحسين عن أبيه عن الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) أنه قال له رجل: إنكم أهل بيت مغفور لكم، قال: فغضب وقال: نحن أحرى أن يجري فينا ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب آية 34 (¬2) قال الإمام البغوي في تفسيره "معالم التنزيل 1/ 374": (قوله عز وجل {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَاتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَة} بمعصية ظاهرة، قيل: هوكقوله عز وجل {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك} (الزمر- 65) لا أنّ منهن من أتت بفاحشة). (¬3) سورة الأحزاب آية 31 (¬4) أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي، ترجم له الشيخ عباس القمي في "الكنى والألقاب 2/ 444" واصفاً إياه بأنه: (فخر العلماء الأعلام أمين الملة والإسلام أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي، المذعن بفضله أعداؤه ومحبوه الفقيه النبيه الثقة الوجيه العالم الكامل المفسر العظيم الشأن، صاحب كتاب "مجمع البيان" الذي قال في حقه الشيخ الشهيد: (هو كتاب لم يعمل مثله في التفسير).

حين ينقلب الحب بغضا وعداوة

ما أجرى الله في أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أن نكون كما تقول، إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ولمسيئنا ضعفين من العذاب. ثم قرأ الآيتين). وروى الإمام محمد بن عاصم الأصبهاني رحمه الله عن الفضيل بن مرزوق قال: سمعت (الحسن بن الحسن) أخا (عبد الله بن الحسن) وهو يقول لرجل ممن يغلو فيهم: (ويحكم ... أحبونا لله، فإن أطعنا الله فأحبونا وإن عصينا الله فأبغضونا) ثم قال: (والله إني لأخاف أن يُضاعف للعاصي منا العذاب ضعفين، والله إني لأرجو أن يؤتى المحسن منا أجره مرتين) (¬1). فهذه روايات ثلاث بأسانيد سنية وشيعية تشير إلى احتساب أئمة آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤتي الله تعالى للمحسن منهم أجره مرتين والمسيء منهم العذاب ضعفين إن أساء العمل. حين ينقلب الحب بغضاً وعداوة .. إنّ حب آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام وموالاتهم ونصرتهم والذب عنهم معنى إيماني رائع، تجيش له مشاعر المؤمنين الصادقين، طالما بقي الحب حباً إيمانياً شرعياً لا تكدره تحريفات المبطلين. لكنه حين يتعدى حدود الشرع فإنه ينقلب ولا بد بغضاً وعداوة لآل البيت النبوي. ذلك لأنّ التقوّل على الأتقياء الصالحين ونسبة ما يضاد دينهم وأخلاقهم إليهم، لا يُمكن بحال من الأحوال أن يُعتبر حباً وولاء وإنما يُصنّف مباشرة تحت عنوان (البغض والمعاداة)! ¬

_ (¬1) جزء محمد بن عاصم الأصبهاني ص125 والرواية صحيحة السند.

ولو جاز لنا أن نسأل المسيح عليه السلام على سبيل المثال عن رأيه وموقفه ممن غلا فيه ونسب إليه ما لم يقل – باسم حبه وتوليه – أتراه يصرّح بحب هذا المغالي وتمني الاجتماع به في الجنان عند مليك مقتدر؟ أم يذكره بالسوء ويبرأ إلى الله تعالى منه ومن صنيعه بما أفسد به دين الله وعقائد الناس؟ إنّ أبغض الناس عند المسيح عليه السلام هم الذين غالوا فيه وجعلوه نداً لله تارة، وابناً له تارة أخرى، واستبدلوا رسالته التي بُعث من أجلها إلى (مسخ) من عقائد وثنية وضعية أقنعوا أنفسهم والناس بأنها دين المسيح عليه السلام! وقد أخبر الله تعالى عن موقف المسيح عليه السلام من النصارى يوم يدعوه ويسأله {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؟! فيتبرأ قائلاً {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَن اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬1). نعم ... لقد ادعى النصارى ذلك وصنعوا له الروايات، والقصص والأحلام والمنامات. وبنوا الكنائس، وصنعوا الصلبان. وصوروا الصور، ونصبوا التماثيل التي تصور صلب المسيح -الإله! وصرفوا الأموال، وبذلوا الجهود والأوقات. وسفكوا الدماء ... كل ذلك من أجل وهم لا وجود له، ولا دليل عليه. اللهم إلا المتشابهات! ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية 116 - 117

فالحب الذي لا ضابط له هو شؤم على صاحبه وعلى الناس، وإن لم يلجم المؤمن حبه للأخيار بلجام من التقوى والوقوف عند الشرع الحنيف فإنه سيبتعد عن الدين أميال وفراسخ. والحال في أهل البيت لا يختلف كثيراً عن الحال في المسيح عليه السلام، فأبغض الناس عند أهل البيت عليهم السلام ليس النواصب الذي جهروا بمعاداتهم ونصبهم، فهؤلاء أعداء واضحون مفضوحون ومخذولون. لكن الخوف كل الخوف من الذي تلبسوا بلباس أهل البيت ونطقوا باسمهم وغالوا فيهم وأسبغوا عليهم صفات الإلوهية، واستبدلوا دعوتهم المستمدة من معين سيدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة أخرى لا تشترك مع الأولى إلا بالعنوان أو بالشعارات الرنانة! وفي هذا يقول الإمام جعفر الصادق: (لقد أمسينا وما أحد أعدى لنا ممّن ينتحل مودّتنا!) (¬1). ويقول أيضاً: (إنّ ممن ينتحل هذا الأمر (¬2) لمن هو شر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا!!) (¬3). ويقول أيضاً: (ما أنزل الله سبحانه آية في المنافقين إلا وهي فيمن ينتحل التشيع!!) (¬4). ¬

_ (¬1) رجال الكشي ص373 – رواية رقم (555). (¬2) أي التشيع لآل البيت (¬3) بحار الأنوار 65/ 166 ورجال الكشي ص364 – رواية رقم (528). (¬4) رجال الكشي ص366 – رواية رقم (535) ومعجم رجال الحديث للخوئي 15/ 265

إنّ أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام لا يتحملون مسؤولية ما أحدثه الناس في زمانهم ومن بعدهم من العقائد والأفكار التي لا تمت إلى عقيدتهم ودينهم وأخلاقهم بصلة، وإنما يتحملها الغلاة وحدهم. وسيسألهم الله تعالى عنها يوم القيامة. .. بل قد يسأل الإمام علي نفسه: أأنت قلت للناس استغيثوا بي عند الشدائد وتناسوا الحي الذي لا يموت (¬1)؟ وربما يسأل الأئمة واحداً بعد واحد: أأنتم قلتم للناس فضّلونا على الأنبياء والمرسلين واستثنوا منهم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم؟ ¬

_ (¬1) يعد دعاء (حلال المشاكل) من أكثر الأدعية انتشاراً بين عامة الشيعة في العراق وإيران والخليج، وهو دعاء تنبض عروقه بالشرك بالله تعالى، إذ يستغيث المرء فيه بالإمام علي طالباً منه النصرة وحل المشكلات ورفع البلاء وجلب المصالح ودفع الضر بكل انكسار وخشوع! قائلاً: يا أبا الغيث أغثني ... يا علي الدرجات حل عقدتي بك قيدي ... أنت لي إن ناب دهري أنت لي إن حط قدري ... يا محل المشكلات سيدي أنت منائي ... سيدي أنت رجائي لك أخلصت ولائي ... يا محل المشكلات سيدي أنت سندي ... سيدي أنت عمادي في مماتي ومعادي ... يا محل المشكلات أحد الأصدقاء زار إحدى المكتبات الشيعية لاقتناء بعض الكتب، وحدثني عن حادثة طريفة حدثت له حول هذا الدعاء، يقول: كنت أمام البائع فوقفت بالقرب مني امرأة وطلبت من البائع كتاب (حلال مشاكل) فتحرك في نفسي الفضول: فقلت لها، عن ماذا يتحدث هذا الكتاب؟ فشرحت لي الفكرة والدعاء. يقول: فقلت لها ... سبحان الله ... تعتقدين أنّ علي بن أبي طالب لم يحل مشكلته مع أبي بكر وعمر وتريدينه أن يحل مشكلتك!! فقالت لي: (اصمت) وأحمد الله أني لم أُصب منها بأذى.

أأنتم قلتم للناس بأنّ ولايتكم عُرضتْ على الأنبياء والمرسلين وجعلتموها شرطاً لقبول أعمال العباد؟ وسيتبرأ هؤلاء جميعاً من الدعاوى الباطلة التي نُسبت إليهم زوراً وبهتاناً وممن نسبها إليهم. إنّ أهل البيت لا يتحملون مسؤولية ما نسبه إليهم أدعياء التشيع لهم من التكفير لخصومهم (¬1) والطعن في أعراضهم بغير حق (¬2) واستحلالهم اللعن والسباب لصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ¬

_ (¬1) ساق العلامة يوسف البحراني في "الشهاب الثاقب" أقوالاً عدة لكبار علماء الشيعة الإثنى عشرية يصّرحون فيها بتكفير مخالفي الإمامية وحرمة تغسيلهم والصلاة عليهم. منها قول الشيخ المفيد في "المقنعة ص85": (ولا يجوز لأحد من أهل الإيمان أن يُغسل مخالفاً للحق في الولاية ولا يصلّي عليه إلا أن تدعوه ضرورة إلى ذلك من جهة التقية، فيغسّله تغسيل أهل الخلاف، ولا يترك معه جريدة، وإذا صلى عليه لعنه في صلاته ولم يدع له فيها)!! وقول الشيخ الطوسي في "تهذيب الأحكام 1/ 335" بعد نقل عبارة "المقنعة": (إنّ المخالف لأهل الحق كافر، فيجب أن يكون حكمه حكم الكفار إلا ما خرج بالدليل، وإذا كان غسل الكافر لا يجوز فيجب أن يكون غسل المخالف أيضاً غير جائز، وأما الصلاة عليه فيكون على حد ما كان يصلي النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام على المنافقين)! (¬2) يقول آية الله العظمى وقائد الثورة الإيرانية (الخميني) في رسالته "المكاسب المحرّمة 1/ 379 - 380" عن غير الشيعة: (فلا شبهة في عدم احترامهم بل هو من ضروريّ المذهب كما قال المحققون، بل الناظر في الأخبار الكثيرة في الأبواب المتفرقة لا يرتاب في جواز هتكهم والوقيعة فيهم، بل الأئمة المعصومون أكثروا في الطعن واللعن عليهم وذكر مساوئهم. فعن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال: (قلت له: إنّ بعض أصحابنا يفترون ويقذفون من خالفهم فقال: الكفّ عنهم أجمل، ثم قال: يا أبا حمزة، إنّ الناس كلهم أولاد بغاة ما خلا شيعتنا ...). والظاهر منها جواز الافتراء والقذف عليهم لكن الكفّ أحسن وأجمل= = لكنّه مشكل إلا في بعض الأحيان، مع أنّ السيرة أيضاً قائمة على غيبتهم، فنِعم ما قال المحقق صاحب الجواهر: إنّ طول الكلام في ذلك كما فعله في الحدائق من تضييع العمر في الواضحات)!! فإذا كان هذا كلام قائد الثورة والإمام الأعظم الذي يفخر به علماء الشيعة وعوامهم كابراً عن كابر فماذا يقول غيره؟!

كما أنهم بمنأى عن استغلال البسطاء وسرقة أموالهم كما يفعل أرباب الزعامات والتحزبات اليوم من استحلاب الرزق السريع باسم ولاية أهل البيت (¬1)! ¬

_ (¬1) حاول أيها القارئ أن تدرس قضية الخمس بإنصاف بَدءاً بقراءة تفاسير جماهير المسلمين لآية الخمس ومقارنتها بتفاسير الشيعة الإثنى عشرية، انتقالاً إلى التنافس التاريخي بين نواب المهدي المنتظر على أموال الشيعة، ثم ما يحصل اليوم من تنافس بين الوكلاء والمرجعيات والأرصدة الخيالية لبعض المراجع. وإلى ذلك يشير آية الله العظمى أحمد الحسني البغدادي في كلام صريح وخطير يقول فيه: (نرى اليوم بأم أعيننا مرجعاً دينياً إقليمياً ظهر على الساحة النجفية يحاول بكل ثقله الاستراتيجي ترشيح أحد حواشيه لمنصب المرجعية الإمامية، بل فتح له رصيداً من الدولار الأصفر بلا حدود من أرزاق الكادحين والمحرومين، وهو بالإجماع الحوزوي لم يكن مجتهداً مطلقاً بل ديكوراً، بل يظن أنه تحكم في كل شيء وأصبح قادراً على كل شيء، لذا نراه ينفق في تبذير ويتلذذ في تبذير، وهو لا يتقي غضب الله ولا سخط المستضعفين، ويحسب أنّ أجله ممدود وأن ليس وراءه حسيب ولا رقيب، وحتى نسي أنّ هناك واجباً وأنّ هناك حراماً، وأنّ هناك موتاً وأنّ هناك نشوراً، وكانت نهاية طموح مخططه التضليلي إذ أمات الله خليفته المرتقب فجأة وبلا علة، وفق المداولة القرآنية {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس}). ويقول: (إني أنتقد لأني أبكي وأتعذب لا لأني أكره وأعادي، أنتقد هؤلاء بالأساليب العلمية الهادفة لأني أريدهم بمستوى المسؤولية الحركية الإسلامية التاريخية، وأنتقد المرجعية الدينية لأنها لا تحترم منطق الحوزة العلمية الملتزمة، أنتقد الحياة الفكرية لأني أعيشها بمعاناة بلا شروط، بلا اقتناع، بلا نظرية. إنّ كل دموع هؤلاء الضحايا من رجال الحوزات الدينية تنصب في عيوني، وأحزانهم تتجمع في قلبي، وآلامهم تأكل أعضائي، ليس لأني قديس بل لأني إنسان متألم حزين يتصور العذاب الحوزوي ويجربه ويعيشه معايشة ميدانية معمّقة). "حق الإمام في فكر السيد البغدادي ص65 - 66". والمفاجأة التي نشير إليها هاهنا هي أنّ المراد بكلام البغدادي السابق هو آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي وابنيه محمد وعبد المجيد! = = ولعل من أهم ما يُذكر في موضوع الخمس هو اعتراف أحد مدّعي النيابة عن القائم المنتظر واسمه (محمد بن علي الشلمغاني)، وكان إذ ذاك يتنافس مع أبي القاسم بن روح على النيابة عن القائم الغائب وأخذ الخمس من الناس فظفر أبو القاسم ولم تتسنى للشلمغاني فرصة الاقتيات على أموال الخمس فكان مما قاله: (ما دخلنا مع أبي القاسم الحسين بن روح إلا ونحن نعلم فيما دخلنا فيه، لقد كنا نتهارش على هذا الأمر كما تتهارش الكلاب على الجيف) "كتاب الغيبة للطوسي ص241". ومن الطريف أن تجد كتب بعض كبار علماء الشيعة تنص وبكل وضوح على أنّ من لا يدفع الخمس لهم فهو ابن زنا!! فقد عنون العلامة يوسف البحراني في "الكشكول 3/ 16" لأحد مواضيعه بعنوان (من جملة أسباب الزنا أكل الخمس) قال فيه بالنص: (وقد تواترت الأخبار معنى بتحليل الخمس للشيعة لتطيب ولادتهم، وفي بعضها أنّ الزنا خبث الولادة إنما دخل على المخالفين من جهة الخمس)! فإلى هذه الدرجة يصل الحرص على أكل أموال الناس بالباطل!

إنّ التوسط في حب أهل البيت ومعرفة حقهم هو المطلوب. فقد أرشدنا الله سبحانه وتعالى إلى أنه ما من أمر يأمر به سبحانه عباده بفعله إلا كان للشيطان فيه حظان كلاهما حبيب إلى نفسه: إما غلو وإفراط وإما تقصير وتفريط. ولأقف هاهنا على رائعة من روائع الإمام علي وهو يصف الناس في نظرتهم له فيقول: (وسيهلك فيّ صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب البغض به إلى غير الحق، وخير الناس فيّ حالاً: النمط الوسط فالزموه، والزموا السواد الأعظم فإنّ يد الله مع الجماعة وإياكم والفرقة فإنّ الشاذ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب) (¬1)، ويظهر للمتمعن بالنص أنّ الفئات الثلاث المشار إليها هي: الشيعة والنواصب وجمهور المسلمين (أهل السنة). ¬

_ (¬1) نهج البلاغة ص127 (ومن كلام له (ع) وفيه يبين بعض أحكام الدين ويكشف للخوارج الشبهة وينقض حكم الحكمين).

تحت أي بند يصنف هذا الحب؟!

فإذا كان النواصب يمثلون جانب البغض والعداء للإمام علي حتى جرهم بغضهم له إلى شتمه ولعنه والبراءة منه! وإذا كان الشيعة الإثنا عشرية يمثلون جانب الغلو في الحب حتى قالوا بعصمة الإمام علي وكون إمامته أعظم من إمامة الأنبياء سوى محمداً عليه الصلاة والسلام حتى جعلوا الإيمان بإمامته شرطاً لصحة قبول الأعمال! فمن الواضح أنّ السواد الأعظم من المسلمين المعبّر عنهم بـ (النمط الوسط) هم الذين أحبوا علياً وشهدوا له بالإيمان والصدق فقالوا هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسيد أهل البيت، فحفظوا له مآثره العظيمة في تاريخ الإسلام، مقرين بفضائله بخلاف النواصب الجاحدين، غير راضين بالغلو والمبالغة فيه خلافاً للشيعة، فقالوا: لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فـ (نبي واحد خير من ألف ولي وصالح). تحت أي بند يُصنّف هذا الحب؟! حين يبلغ الغلو مداه .. وتغيب الموازين الشرعية تظهر الاستهانة بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصورتها المقززة، حين ترى الروايات الشيعية وعلماء الشيعة يبالغون في وصف الأئمة وذكر أحوالهم مبالغة تحوي بين طياتها انتقاصاً مبطّناً أو ظاهراً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! لقد حاولت مراراً وتكراراً أن ألطّف عباراتي وأنا أطرق هذا المبحث بالذات مستحضراً كل معاني الصبر التي تعلمتها في حياتي فلم أستطع، فالموضوع لا يحتمل تلطيفاً للعبارات إذ إنه لا يمس شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحسب بل الذات الإلهية أيضاً!

فالله عز وجل وعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعظم في أعيننا من كل أحد، كائناً من كان. ولهذا أقول: ليتحمل مني القارئ الكريم بعض الغلظة وقسوة العبارة، وليتفكر فيما سأذكره وليزنه بميزان الإسلام الذي يرفض مثل هذه الكفريات سواء أصدرت من منتسب لأهل السنة أم للشيعة أو لغيرهما. فإن شئت أن نبدأ الحديث عن الإمام علي بن أبي طالب فإليك رواية ولادته ففيها من التفضيل المبطّن لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ما فيها. تقول الرواية الشيعية: (فقمت (¬1) فوجدت أمه بين النساء والقوابل من حولها وإذا بسجاف وقد ضربه جبرائيل بيني وبين النساء فإذا هي قد وضعته فاستقبلته، قال: ففعلت ما أمرني به جبرائيل ومددت يدي اليمنى بنحو أمه فإذا بعلي قد أقبل على يدي واضعاً يده اليمنى في أذنه يؤذن ويقيم بالحنيفية ويشهد بالوحدانية لله، ولي بالرسالة ثم انثنى إليّ وقال: السلام عليكم يا رسول الله، أأقرأ يا أخي؟، فوالذي نفسي بيده قد ابتدى بالصحف التي أنزلها الله على آدم وأقام بها ابنه شيث فتلاها من أولها إلى آخرها حتى لو حضر آدم لأقر له أنه ألفظ لها منه، ثم تلا صحف إبراهيم، ثم قرأ التوراة حتى لو حضر موسى لشهد له أنه ألفظ لها منه، ثم قرأ إنجيل عيسى حتى لو حضر لأقر له أنه أحفظ لها منه، ثم قرأ القرآن الذي أُنزل عليّ من أوله إلى آخره ثم خاطبني وخاطبته بما تخاطب الأنبياء ثم عاد إلى طفوليته) (¬2). ¬

_ (¬1) الكلام هنا لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم – فيما يزعمون-. (¬2) مدينة المعاجر لهاشم البحراني 1/ 29 والفضائل لابن شاذان القمي ص127 - 128 وشجرة طوبى للشيخ محمد مهدي الحائري 2/ 219 والأنوار العلوية للشيخ جعفر النقدي ص35

ويقول الشيخ محمد كاظم القزويني في "الإمام علي من المهد إلى اللحد" (¬1): (استقبل سيدنا أبو طالب السيدة فاطمة بنت أسد مهنئاً، وأخذ أبوطالب وليده الحبيب وضمّه إلى صدره ثم ردّه إلى أمه، وأقبل رسول الله وذلك قبل أن يُبعث، فلما رآه علي جعل يهش ويضحك كأنه ابن سنة، من حيث المشاعر والإدراك، فأخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبّله وحمد الله على ظهور هذا المولود الذي كان يعلم أنه سيكون له أحسن وزير وخير أخ وأول مؤمن به وتحقق به آمال رسول الله وأمانيه بنشر دينه الذي سيُبعث به فسلّم علي على رسول الله ثم قرأ هذه الآيات {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى آخر الآيات، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد أفلحوا به، وقرأ تمام الآيات إلى قوله {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت والله أميرهم تميرهم من علومك فيمتارون، وأنت والله دليلهم وبك يهتدون)! وهكذا يُؤصل هؤلاء وبلا حياء لفكرة نزول الوحي على الإمام علي بن أبي طالب قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يُبعث إلا بعد ولادة علي بن أبي طالب بزمن، فمن أين عرف الإمام علي القرآن حتى يتلوه مع باقي الكتب السماوية عند ولادته؟! هل أُوحي إليه قبل محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم أم ماذا؟! ومن أين حفظ سورة المؤمنون ولم تنزل بعد آية {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}؟! ألا يحترم هؤلاء مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيخجلون من ذكر هذه القصص المكذوبة! ¬

_ (¬1) الإمام علي من المهد إلى اللحد ص15 والقصة المذكورة في الأمالي للطوسي ص707 - 708 وبحار الأنوار للمجلسي 35/ 37 (في أنه عليه السلام قرأ سورة "قد أفلح المؤمنون" يوم ولادته).

وكيف لهم أن يحترموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد رووا أنه عليه الصلاة والسلام قال للإمام علي: (ولقد أنزل الله عز وجل إليّ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّك} يعني في ولايتك يا علي {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه} ولو لم أبلّغ ما أُمرت به من ولايتك لحبط عملي!!) (¬1) إلى هذا الحد بلغ الاستخفاف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعياذ بالله. أما فاطمة الزهراء رضي الله عنها سيدة نساء العالمين وبضعة المصطفى الطاهرة، فلها نصيبها الخاص من هذا الغلو. فهذا آية الله العظمى الخميني يصفها في احدى خطبه وبكل جراءة بأنها (امرأة لو كانت رجلاً لكانت نبياً، امرأة لو كانت رجلاً لكانت مكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!) (¬2) فانظر إلى هذه الجرأة على مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين يدّعي الخميني أنّ أحداً يُمكن أن يحل مكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو يستحق مقامه! ولو دققت النظر لرأيت أنّ العبارة تشير إلى أفضيلتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلا فما الداعي عند افتراض كونها رجلاً أن يتم استبدال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها، لو كان محمداً عليه الصلاة والسلام أفضل منها؟! ليس هذا فحسب، فقلة الحياء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تقف عند هذا الحد! ¬

_ (¬1) الأمالي لابن بابويه القمي ص583 ومناقب أمير المؤمنين (ع) للكوفي1/ 140 وحلية الأبرار للبحراني 1/ 192 وتأويل الآيات لشرف الدين الحسيني 1/ 217 (¬2) مختارات من أحاديث وخطابات الإمام الخميني 1/ 305 (بتاريخ 16/ 5/1979) بمناسبة يوم المرأة.

فهذا آية الله العظمى محمد الصدر يُسئل –كما في كتاب "مجمع مسائل وردود": (لو دار الأمر بين زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزيارة الإمام الرضا (ع) فأيهما أفضل وأكثر أجراً؟) فيجيب قائلاً: (قد يظهر من الروايات أفضلية زيارة الإمام الرضا (ع) على زيارة سائر الأئمة ولكن لم نعثر على أفضليتها على زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم) (¬1). فهو مستعد لتفضيل زيارة الإمام الرضا على زيارة نبي الله لكن المشكلة أنّ الروايات لم تُسعفه، فلم يعثر على دليل أفضليتها على زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! أي قلة حياء هذه؟! وأي دين هذا الذي يرتضي مقارنة زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بزيارة غيره من الناس؟! ولا تعجب كثيراً، فهناك ما هو أدهى وأمرّ! فقد روتْ كتب الإمامية عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا أحمد، لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا عليّ لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما) (¬2). فأي كرامة بقيت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم يتجرأون عليه مثل هذه الجرأة؟ إنّ الروايات في هذا كثيرة بل وكثيرة جداً، كل ما عليك هو اقتناء الكتب التي اعتنت بذكر فضائل الأئمة كـ"كتاب بصائر الدرجات" للصفار و"بحار الأنوار" للمجلسي وغيرها لتقف على حجم المأساة. ¬

_ (¬1) مجمع مسائل وردود ص373 (¬2) مستدرك سفينة البحار 3/ 169 ومجمع البحرين لأبي الحسن المرندي ص14

فالمسألة لا تقف أحياناً عند التفضيل المبطّن للأئمة على نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بل تصل إلى حد إسباغ بعض صفات الله تعالى على الأئمة! وهذه أعظم من سابقتها، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بشر، والتطاول عليه ليس كالتطاول على خالقه وخالقنا (العزيز الجبار). فقد نسبت الروايات إلى الإمام علي قوله (أنا الأول أنا الآخر) (¬1)، وقوله (أنا عين الله وأنا يد الله، وأنا جنب الله، وأنا باب الله) (¬2). وقد ذكر المجلسي ستاً وثلاثين رواية (¬3) في كون الإمام علي هو وجه الله ويد الله! وفي رجال الكشي (¬4) وردت الرواية بصيغة أخرى هي (أنا وجه الله، أنا جنب الله، وأنا الأول والآخر، وأنا الظاهر والباطن)! وقد ذكر هذه الروايات ابن بابويه القمي في كتابه "التوحيد!! " لكنه حاول جاهداً إيجاد تأويلات سائغة لها بعد أن عجز عن تضعيفها أو الطعن فيها! فإن جاز لك أن تتصوركتاباً صُنِف في (التوحيد) يُمكن أن يذكر مثل هذه الشركيات ويبررها ويبحث لها عن المخارج، فما بالك بغيرها من الكتب؟ لقد نسبوا للإمام علي أنه قال أيضاً: (والله قد كنت مع إبراهيم في النار، وأنا الذي جعلتها برداً وسلاماً، وكنت مع نوح في السفينة فأنجيته من الغرق، وكنت مع موسى فعلّمته ¬

_ (¬1) جامع الأسرار ومنبع الأنوار لحيدر آملي ص205 حديث رقم 394. (¬2) رواه الكافي 1/ 145 والمجلسي في بحار الأنوار 24/ 194. (¬3) بحار الأنوار 24/ 191 - 203 (¬4) رجال الكشي ص211 رقم 374 وانظر بصائر الدرجات ص151 وبحار الأنوار 94/ 180.

التوراة، وأنطقت عيسى في المهد وعلمته الإنجيل، وكنت مع يوسف في الجبّ فأنجيته من كيد إخوته، وكنت مع سليمان على البساط وسخّرت له الرياح) (¬1). حتى علم الغيب شاركوه فيه! فنسبوا للإمام الصادق قوله (إنّ الإمام لا يخفى عليه شيء مما في الأرض ولا مما في السماء وأنه ينظر في ملكوت السماوات فلا يخفى عليه شيء، ولا همهمة ولا شيء فيه روح، ومن لم يكن بهذه الصفات فليس بإمام) (¬2) وقوله: (إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في النار وأعلم ما كان وما يكون) (¬3). بينما يقول الله تعالى عن نفسه {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬4). ويأمر أفضل الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين أن يقول للناس {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوء} (¬5). أما التحكم بالكون وتسيير أموره فحدّث ولا حرج! فقد نسبوا للإمام جعفر الصادق قوله (إنّ الدنيا تمثل للإمام في مثل فلقة الجوز، فلا يعزب عنه منها شيء، وإنه ليتناولها من أطرافها كما يتناول أحدكم من فوق مائدته ما يشاء) (¬6). ¬

_ (¬1) الأنوار النعمانية 1/ 31 واللمعة البيضاء ص222 والولاية التكوينية لآل محمد ص130 (¬2) الأنوار النعمانية 1/ 33 والولاية التكوينية لآل محمد ص203 (¬3) الكافي – كتاب الحجة – (باب إنّ الأئمة (ع) يعلمون علم ما كان وما يكون) - حديث رقم (2). (¬4) سورة النحل آية 65 (¬5) سورة الأعراف آية 188 (¬6) الاختصاص ص217 (قدرة الأئمة (ع))، وبحار الأنوار 25/ 367 وبصائر الدرجات ص408

وليس هذا بغريب، أمام ما ذكره الشيخ هاشم البحراني من أنّ ضربة الإمام علي لمرحب اليهودي كادت أن تشق الأرض نصفين!! قال هاشم البحراني (¬1) في "حلية الأبرار" في بيان قوة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما نصه: (وفي ذلك اليوم لما شطر مرحب شطرين وألقاه مجدّلاً جاء جبرئيل من السماء متعجباً، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مِمَ تتعجب؟ فقال: إنّ الملائكة تنادي في مواضع جوامع السماوات: لا فتى إلا علي، لا سيف إلا ذو الفقار. وأما إعجابي فإني لما أمرني ربى أن أدمر قوم لوط حملت مدائنهم، وهي سبع مدائن، من الأرض السابعة السفلى إلى الأرض السابعة العليا على ريشة من جناحي، ورفعتها حتى سمع حملة العرش صياح ديكتهم، وبكاء أطفالهم ووقفت بها إلى الصبح أنتظر الأمر ولم أنتقل بها واليوم لما ضرب علي عليه السلام ضربته الهاشمية، وكبّر أُمِرت أن أقبض فاضل سيفه حتى لا يشق الأرض، ويصل إلى الثور الحامل لها فيشطره شطرين فتنقلب الأرض بأهلها!! فكان فاضل سيفه عليّ أثقل من مدائن لوط) (¬2). ومن أنّ الرعد والبرق إنما يصدران عن الإمام علي بن أبي طالب كما في رواية ينسبونها للإمام الصادق يقول فيها: (أما إنه ما كان من هذا الرعد ومن هذا البرق، فإنه من أمر صاحبكم، قلت: من صاحبنا؟ قال: أمير المؤمنين عليه السلام!) (¬3). ¬

_ (¬1) هاشم بن سليمان بن إسماعيل بن عبد الجواد الموسوي البحراني، ترجم له الشيخ عباس القمي في "الكنى والألقاب 3/ 107" فقال: (عالم فاضل مدقق فقيه، عارف بالتفسير والعربية والرجال، كان محدّثاً متتبعاً للأخبار بما لم يسبق إليه سابق سوى العلامة المجلسي، وقد صنف كتباً كثيرة تشهد بشدة تتبعه وإطلاعه). (¬2) حلية الأبرار 2/ 161 - 162 (¬3) الاختصاص ص327 ومدينة المعاجز 1/ 544 وبحار الأنوار 27/ 33

والأئمة في روايات الشيعة هم علة الوجود! إذ نسبوا إلى الإمام الصادق قوله: (نحن علة الوجود وحجة المعبود لا يقبل الله عمل عامل جهل حقنا) (¬1). بل هم الكاف والنون التي يخلق الله بها الأشياء!! فقد نُسِب إلى الإمام علي قوله في حديث طويل عن صفات الإمام (الإمام كلمة الله وحجة الله ووجه الله ونور الله وحجاب الله وآية الله، يختاره الله ويجعل فيه ما يشاء ويوجب له بذلك الطاعة والولاية على جميع خلقه، فهو وليه في سماواته وأرضه ... فهو يفعل ما يشاء وإذا شاء الله شاء ... مفزع العباد في الدواهي والحاكم والآمر والناهي، مهيمن الله على الخلائق ... خلقهم الله من نور عظمته، وولاهم أمر مملكته، فهم سر الله المخزون وأولياؤه المقربون وأمره بين الكاف والنون – وفي نسخة – لا بل هم الكاف والنون، إلى الله يدعون وعنه يقولون وبأمره يعملون، مبدأ الوجود وغايته وقدرة الرب ومشيئته وأم الكتاب وخاتمته!!) (¬2) وبعد هذا كله يتساءل المسلم الموحّد، ماذا أبقى هؤلاء لله تعالى؟! الجواب يجده المنصف في الزيارة الرجبية والتي فيها (إنه لا فرق بينك وبينهم إلا أنهم عبادك) (¬3) فانظر إلى هذه الجرأة وإلى هذا التطاول على رب العالمين! ¬

_ (¬1) بحار الأنوار 26/ 259 (¬2) بحار الأنوار 25/ 169 إلى 174 باب آخر في دلالة الإمامة حديث 38 (¬3) إقبال الأعمال 3/ 214 ومصباح المتهجد ص803 والمصباح ص529 وبحار الأنوار 95/ 393 ومستدرك سفينة البحار 8/ 628 ومكيال المكارم 2/ 296 والولاية التكوينية لآل محمد ص244

لا فرق بين الأئمة وبين ربهم عز وجل سوى أنهم عباده ... فهو معبود وهم عبّاد، أما الاختلاف فبدرجة الكمال فقط، ولذا صار هو معبوداً وهم عبيداً له، هذا ما أستطيع أن أفسّر به كل ما قرأته وعبّر عنه هذا النص، تماماً كما كان يقول مشركو مكة في تلبيتهم (لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وماملك)! اختلفت الألفاظ وتطابقت المعاني! فقد شاركوه في كل شيء تقريباً، من الإحاطة بكل شيء علماً، ومن عدم السهو والغفلة وما إلى ذلك. والعجب كل العجب من آية الله العظمى أبي القاسم الخوئي، وقد سُئِل عن العبارة المشار إليها في دعاء رجب، فأجاب دون أدنى استنكار للفظ العبارة ومعناها: (لعلها تشير إلى أنهم مع بلوغهم في مرتبة الكمال إلى حد نفوذ التصرف منهم في الكون بإذنك، فهم مقهورون لك، لأنهم مربوبون لك، لا حيلة لهم دون إرادتك ومشيتك فيهم بما تشاء) (¬1)! حتى الأسماء الحسنى التي لرب العباد لم يشاركوه فيها فحسب بل ذكرت الروايات أنّ الأئمة هم الأسماء الحسنى (¬2)، فالإمام علي بن أبي طالب كما بيّنا هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم! ¬

_ (¬1) صراط النجاة ج3 ص317 - سؤال رقم (993). (¬2) روي في ذلك روايات كثيرة منها ما نُسب للإمام علي كقوله عن نفسه (أنا الأسماء الحسنى) –شرح دعاء الجوشن ص576 والأنوار النعمانية 2/ 100 - ومنها ما نسبه العياشي للإمام جعفر الصادق من قوله (نحن والله الأسماء الحسنى الذي لا يُقبل من أحد إلا بمعرفتنا، قال (ع): فادعوه بها) –تفسير العياشي 2/ 42 والبرهان 2/ 52 - وقريب من هذه الرواية ما نُسب إلى الإمام الباقر كذلك- انظر بحار الأنوار 25/ 4 حديث 7 – ومثل هذا كثير.

حتى خلق الكون قد أسنده الشيعة الإثنا عشرية إلى الأئمة! ففي صيغة زيارة الحسين (ع) التي رواها ابن قولويه بإسناد صحيح عند الشيعة الإثنى عشرية عن الإمام الصادق أنه قال: (بكم يباعد الله الزمان، وبكم يمحو الله ما يشاء ويثبت وبكم تنبت الأرض أشجارها، وبكم تُخرج الأرض أثمارها، وبكم تنزل السماء قطرها ورزقها، وبكم ينزل الله الغيث، إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم) (¬1). وفي الزيارة الجامعة المشهورة (بكم فتح الله وبكم يختم وبكم ينزل الغيث) (¬2). وإذا كان الخلق للأئمة وهم من يدير الكون ويسيره وهم الأسماء الحسنى التي يُدعى الله بها، وهم الذين لا يخفى عليهم شيء في الأرض ولا في السماء، فلم يبقى حينئذ سوى الحساب الأخروي. وهو ما نصت عليه كتب الإمامية أيضاً حيث صرّحت بأنّ الإمام هو الديّان الذي يحاسب الخلائق يوم القيامة! روى المجلسي في "بحار الأنوار 24/ 272" عن البرقي في كتابه "الآيات" عن الإمام جعفر الصادق أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأمير المؤمنين (ع): يا عليّ أنت ديّان هذه الأمة! والمتولي حسابهم! وأنت ركن الله الأعظم يوم القيامة! ألا وإنّ المآب إليك! والحساب عليك! والصراط صراطك!، والميزان ميزانك!، والموقف موقفك!! ¬

_ (¬1) كامل الزيارات ص200 (¬2) بحار الأنوار 102/ 144

بينما يقول رب العزة والجلال عن نفسه في القرآن {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} (¬1) فجعلها هؤلاء للأئمة بكل بساطة، هكذا دون حياء من الله تعالى أو من الناس. لتقف بعد هذا كله متسائلاً: لماذا لا يصرّح هؤلاء بألوهية الأئمة ويريحوا أنفسهم بدلاً من تعداد صفات الله وأسمائه وتوزيعها على الأئمة بهذه الصورة؟! ¬

_ (¬1) سورة الغاشية آية 25 - 26

الغلو في أمهات كتب الشيعة

الغلو في أمهات كتب الشيعة لا يقتصر الغلو الذي أشير إليه على بضعة أحاديث هنا وهناك يمكن للمرء أن يتنصل منها مدّعياً عدم صحة نسبتها إلى عقيدة الشيعة، بل إنّ الغلو طال أبواباً كاملة يحوي كل باب منها عدداً لا يُستهان به من الأحاديث المغالية، وإليك نموذجاً على ذلك كتاب "الكافي" للكليني الذي يعتبر أهم كتب الحديث عند الطائفة على الإطلاق. ليس ذلك ادّعاء مني بل إنّ ما ذكرته هو ما يقرره محققو الطائفة وعلماؤهم وعلى رأسهم عبد الحسين شرف الدين الموسوي في "المراجعات" حيث يقول: (الكتب الأربعة التي هي مرجع الإمامية في أصولهم وفروعهم من الصدر الأول إلى هذا الزمان، وهي الكافي والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه، وهي متواترة ومضامينها مقطوع بصحتها، والكافي أقدمها وأعظمها وأحسنها وأتقنها) (¬1). ويقول آية الله العظمى محمد سعيد الطباطبائي الحكيم في كتابه "في رحاب العقيدة" عن الكافي (ويمتاز هذا الكتاب - مضافاً إلى جامعيته للأصول والفروع- بأمرين: أحدهما: أنه الكتاب الوحيد التام الموسع الذي وصل إلينا مما أُلف في عصور الأئمة عليهم السلام، فإنه أُلف في أواخر عصر الغيبة الصغرى، الذي يعتبر من عصور حضور الأئمة عليهم السلام لإمكان الرجوع فيه للإمام من طريق نوابه الخاصين الذين كانوا على اتصال مباشر به. ثانيهما: أنّ مؤلفه (قدس الله تعالى روحه) قد صرّح في مقدمته بأنه توخى جمع الأخبار الصحيحة عن المعصومين عليهم أفضل الصلاة والسلام. ¬

_ (¬1) المراجعات - المراجعة 110

ولا يريد بصحة أخباره أنه رواها بطرق صحيحة كل رجالها ثقات، لعدم ظهور هذا المصطلح في عصره بل الظاهر أنه يريد أنه رواها من كتب مشهورة معروفة في عصور الأئمة عليهم السلام معوّل عليها عند الشيعة، على مرأى من الأئمة ومسمع منهم. بل قد ثبت عرض بعضها على الأئمة عليهم السلام وتصحيحهم لها. ويشهد بصدقه في ذلك، وبحسن اختياره للأحاديث ثناء قدماء علماء الطائفة – ممن تأخر عنه- على الكتاب المذكور وعلى مؤلفه، وأنه جليل القدر عارف بالأخبار عالم بها، وأنه أوثق الناس في الحديث وأثبتهم، حتى عرف بين علماء الشيعة بثقة الإسلام. ولا نعني بذلك التعهد بصحة كل خبر من أخباره. فإنّ ذلك أمر متعذر مع بُعد العهد وخفاء كثير من قرائن الصحة وشواهدها علينا، وتعرض الإنسان للخطأ والغفلة. بل نعني أنّ الكتاب يصلح أن يعكس صورة عامة إجمالية عن مفاهيم أهل البيت عليهم السلام، ويعطي ملامح واضحة لها، في المجالات التي طرقها. فإنّ الواقع الإجمالي للكتاب هو الصحة، وصدق الخبر) (¬1). ونخلص من كلام عبد الحسين شرف الدين وآية الله العظمى محمد سعيد الحكيم أنّ ما يتضمنه الكافي من عقائد وأحكام هو من الصحيح قطعاً، فإنه يجوز للمشكك أن يشكك في حديثين من كل باب، ثلاثة، أربعة، أكثر، لا أن ينسف كتاباً بأكمله انبنت عليه عقائد الشيعة وأحكامهم منذ عصر غيبة القائم! وإذا ما ألقينا نظرة سريعة على بعض أبواب "الأصول من الكافي" فإننا سنفاجئ بعدد كبير من الأبواب ذات الاتجاه المغالي الذي لا يتفق مع منهج أهل البيت المعتدل الرصين منها: ¬

_ (¬1) في رحاب العقيدة ص19 - 20

باب- أنّ الأئمة (ع) ولاة أمر الله وخزنة علمه باب- أنّ الأئمة (ع) خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتى باب- أنّ الأئمة (ع) نور الله عز وجل باب- ما فرض الله عز وجل ورسوله (ص) من الكون مع الأئمة (ع) باب- أنّ الأئمة إذا شاؤوا أن يعلموا علموا باب- أنّ الأئمة (ع) يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم باب- أنّ الأئمة (ع) يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم شيء باب- أنّ الله عز وجل لم يُعلم نبيه علماً إلا أمره أن يُعلّمه أمير المؤمنين (ع) وأنه كان شريكه في العلم باب- أنّ الأئمة (ع) لو سُتر عليهم لأخبروا كل امرئ بما له وعليه باب- التفويض إلى رسول الله (ص) وإلى الأئمة (ع) في أمر الدين باب- أنّ النعمة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه هي الأئمة (ع) باب- أنّ الأئمة (ع) معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة باب- أنّ الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين قبلهم باب- أنّ الأئمة (ع) عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها. باب- أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة (ع) وأنهم يعلمون علمه كله باب- أنّ الأئمة (ع) يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل (ع). هذا بخلاف الكثير من الكتب التي انتهجت هذا المنهج ككتاب "بصائر الدرجات" للصفار و"بحار الأنوار" للمجلسي وغيرها.

كيف ينظر كبار علماء الشيعة إلى الأئمة الإثنى عشر؟

كيف ينظر كبار علماء الشيعة إلى الأئمة الإثنى عشر؟ وإذا كان الغلو في الأئمة واقعاً في روايات الشيعة وفي أبرز كتب الطائفة العقائدية فإنّ ذلك الغلو أوضح ما يكون في أقوال ومصنفات مراجع الشيعة وعلمائهم الكبار الذين غربلوا المرويات الشيعية في تلك الكتب وأثبتوا في رسائلهم وفتاويهم العقائدية ما يوافق المذهب ورفضوا ما لا يصح نسبته إليه من عقائد! إنّ القارئ المتجرد للحقيقة ليجد نفسه حائراً بين تبرئة الشيعة الإثني عشرية من الغلو في الأئمة على اعتبار أنه ليس كل ما في الكتب صحيح، وأنّ من مقتضى الإنصاف أن لا نُحمّل الطائفة كل ما في كتبها من صحيح وسقيم، وبين تصريحات المرجعيات وكبار علماء المذهب التي لا تحتمل التأويل والتي تنطق تماماً بما نطقت به كتب العقيدة والحديث لدى الطائفة. فللإنصاف حد لا ينبغي تجاوزه وإلا انقلب سذاجة ونوعاً من التعامي عن الحقيقة. وإليك هذه التصريحات مدعمة باسم الكتاب ورقم الصفحة. 1 - آية الله العظمى الخميني يستهل الخميني حديثه عن الأئمة فيقول: (إنّ من ضرورات مذهبنا أنّ لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرّب ولا نبي مرسل ... وقد ورد عنهم عليهم السلام أنّ لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرّب ولا نبي مرسل) (¬1). ¬

_ (¬1) الحكومة الإسلامية ص52

وفي هذا التصريح بتفضيل أئمة أهل البيت على أنبياء الله تعالى مطلقاً، فالأئمة الإثنا عشر عند الشيعة الإثني عشرية أفضل من الأنبياء جميعاً ما عدا محمداً عليه الصلاة والسلام كما هو مقرر عندهم. وغلو الخميني في الأئمة لا يقف عند حد التفضيل بل يتجاوزه إلى حد نفي السهو والنسيان والغفلة عنهم إذ يصرّح بهذا الاعتقاد قائلاً: (الأئمة الذين لا نتصور فيهم السهو أو الغفلة، نعتقد فيهم الإحاطة بكل ما فيه مصلحة المسلمين) (¬1) بل يذكر أنّ جميع ذرات الكون خاضعة لهم فيقول: (إنّ للإمام مقاماً محموداً، ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون) (¬2) والغريب أن تجد عالمين من قدماء علماء الشيعة قد صرّحا في زمانهما بأنّ القول بعدم جواز السهو على الأئمة هو أول درجات الغلو (¬3) إلا أنّ هذه العقيدة الآن صارت مقررة في المذهب وصار من يخالفها من أعداء أهل البيت أو المقصّرين في حقهم في أحسن أحواله! ولعل في هذا ما يؤكد مقولة أنّ مذهب الشيعة يتطور عقائدياً على مر الزمان، فكما تطور بالأمس من اختلاف سياسي مع بني أمية حتى صار فيما بعد خلافاً عقائدياً بين الشيعة ¬

_ (¬1) الحكومة الإسلامية ص95 (¬2) الحكومة الإسلامية ص52 (¬3) يقول ابن بابويه القمي الملقب بـ (الصدوق) في كتابه "من لا يحضره الفقيه 1/ 234" ما نصه (إنّ الغلاة والمفوضة لعنهم الله ينكرون سهو النبي يقولون: لو جاز أن يسهو (أي النبي عليه الصلاة والسلام) في الصلاة لجاز أن يسهو في التبليغ، لأنّ الصلاة فريضة كما أنّ التبليغ فريضة). وقد سبق الصدوق إلى هذا القول شيخه محمد بن الحسن كما في "من لا يحضره الفقيه 1/ 234" أيضاً حيث قال: (أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام).

وجمهور المسلمين بل بين الشيعة أنفسهم (¬1)، فإنه تطور كذلك عقائدياً من غلو إلى غلو أكبر على مر الزمن. حين تجد آية الله العظمى محمد الحسيني الشيرازي يصرّح في موسوعته "الفقه" (¬2) بقوله: (وأما الغالي:- بمعناه الذي أراده الصدوق تبعاً لابن الوليد حتى إنه جعل أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم- فليس بكافر، بل قد ثبت بالأدلة خلافه، بل أصبح مثل هذا الاعتقاد اليوم من ضروريات المذهب)!! ترى لو كان محمد بن الحسن وتلميذه القمي في زماننا هذا، ماذا تراهم يقولون في كبار علماء مذهب الشيعة ومراجعهم بدءً بالخميني وانتهاء بأحدث مرجعية في عالم الحوزات العلمية، حين ترى المرجعيات التي تدّعي أنها تمثل خط أهل البيت مجمعة فيما بينها على هذا الغلو وهو عندها أساس للاعتقاد! بل ماذا سيقولون للشيخ علي الميلاني الذي ذكر في رسالته "العصمة" رواية الكافي (إنّ الله خلقنا فأحسن خلقنا، وصوّرنا فأحسن صورنا، وجعلنا عينه في عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه، وبابه الذي يدل عليه، وخزانه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار، وبنا ينزل غيث السماء ونبت عشب الأرض، وبعبادتنا عُبد الله، ولولا نحن ما عبد الله) ثم علّق على ¬

_ (¬1) كالخلاف المستعر بين الإثنى عشرية والزيدية والإسماعيلية والواقفة والفطحية والخطّابية على مر التاريخ. (¬2) كتاب الفقه 4/ 247

الرواية بقوله: (فمن يكون عين الله في عباده ولسانه الناطق في خلقه ويده المبسوطة على عباده، يشتبه ويسهو وينسى؟!) (¬1). نعم ... إنه لا يجوز لنا أيها الميلاني أن نفترض في أئمة أهل البيت السهو والاشتباه والنسيان وقد بلغوا مقام الألوهية عندك، وإلا فما وجه الربط بين هذه الرواية المغالية وبين تعليقك المغالي إن لم يكن الأمر تأليهاً صريحاً لأئمة أهل البيت؟! لقد روى ابن بابويه القمي عن أبي الصلت الهروي قوله: قلت للرضا عليه السلام، يا ابن رسول الله، إنّ في سواد الكوفة قوماً يزعمون أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقع عليه السهو في صلاته، فقال: كذبوا، لعنهم الله، إنّ الذي لا يسهو هو الله الذي لا إله إلا هو) (¬2). فحسبنا أن نقول بقول الإمام الرضا فيمن نسب إلى أئمة أهل البيت ما لله تعالى. ولماذا نقف عند هذه النقطة بالذات ولدينا ما هو أعجب؟ إنّ الأئمة - كما في الروايات وتصريحات علماء المذهب - قد خُلقوا من النور ولم يُخلقوا من أصل الخلقة التي خُلق منها آدم وهي التراب! تلك معادلة صعبة لم أستطع فك رموزها، إذ ما الغاية التي من أجلها تُغيّر خلقة أهل البيت من صورتها الطبيعية التي فطر الله الناس عليها وفطر عليها الأنبياء من لدن آدم عليه السلام، إلى هذه الصورة الملائكية؟! سيجيبك أحدهم بإجابة باردة: (أليس الله على كل شيء قديراً؟). ¬

_ (¬1) العصمة ص30 (¬2) عيون أخبار الرضا (ع) - باب (ما جاء عن الرضا عليه السلام في وجه دلائل الأئمة عليهم السلام والرد على الغلاة والمفوضة لعنهم الله) - حديث رقم (5).

نعم .. إنّ الله على كل شيء قدير ... لكنه قد جعل لكل شيء سبباً، وليست هذه العبارة ولا غيرها من التبريرات شماعة نعلّق عليها عقائدنا، فلأي غاية يُخلق أهل البيت من نور بينما يُخلق أنبياء الله تعالى على جلالة أقدارهم ومكانتهم عند الله تعالى من طين؟ فإن قيل: ذاك تكريم لهم، قلنا: وأي نقص وعيب في خِلقة الأنبياء وقد خُلِقوا من طين؟! ولك أن ترى إلى أي حد ذهب الغلو بالخميني حينما تقرأ قوله: (اعلم أيها الحبيب، أنّ أهل بيت العصمة عليهم السلام، يشاركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقامه الروحاني الغيبي قبل خلق العالم، وأنوارهم كانت تسبّح وتُقدّس منذ ذلك الحين، وهذا يفوق قدرة استيعاب الإنسان، حتى من الناحية العلمية، ورد في النص الشريف: (يا محمد، إنّ الله تبارك وتعالى، لم يزل منفرداً بوحدانيته، ثم خلق محمداً وعلياً وفاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء، فأشهدهم خلقها، وأجرى طاعتهم عليها، وفوّض أمورها إليهم (¬1)!! فهم ¬

_ (¬1) ما ذكره آية الله العظمى الخميني هنا هو عين (التفويض) الذي ذمه أئمة أهل البيت وتبرأوا من القائلين به، والتفويض كما عرّفه الشيخ محمد صالح المازندراني في "شرح أصول الكافي 9/ 61" هو: (التفويض الذي ذهب إليه الفرقة المفوضة الغالية وهو أنّ الله تعالى خلق محمداً وعلياً، وقيل: سائر الأئمة أيضاَ وفوّض إليهم خلق السموات والأرض وما بينهما وتقدير الرزق والآجال والإحياء والإماتة). والملفت للنظر في موضوع (التفويض) وصلته بفكر الخميني هو عدم تكفير الخميني في "كتاب الطهارة 3/ 340" للمفوضة رغم الأحاديث الصريحة الواردة في حقهم، ورغم إطباق علماء الشيعة على تكفيرهم قديماً وحديثاً، ولا عجب في هذا فالخميني يتبنى الفكر ذاته ويجاهر به كما بينا، وإليك نص كلامه في "كتاب الطهارة": (وأما القول بالجبر أو التفويض فلا إشكال في عدم استلزامه الكفر بمعنى نفي الأصول إلا على وجه دقيق يغفل عنه الأعلام فضلاً عن عامة الناس، ومع عدم الالتفات إلى اللازم لا يوجب الكفر جزماً)! قال الشيخ المفيد في "الاعتقادات ص100": (وروي عن زرارة أنه قال: قلت للصادق (ع): (إنّ رجلا من ولد عبد الله بن سبأ يقول بالتفويض. قال (ع): (وما التفويض)؟ قلت: يقول: إنّ الله عز وجل خلق= = محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وعلياً - عليه السلام - ثم فوض الأمر إليهما، فخلقا ورزقا، وأحييا وأماتا. فقال: (كذب عدو الله، إذا رجعت إليه فاقرأ عليه الآية التي في سورة الرعد {أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّار}. فانصرفت إلى رجل فأخبرته بما قال الصادق (ع) فكأنما ألقمته حجراً، أو قال: فكأنما خرس). فأين الذين يزعمون براءة الفكر الإثنى عشري من عبد الله بن سبأ من هذه الرواية ومن تسلل الفكر السبئي إلى كبار علماء الشيعة الإثنى عشرية وعلى رأسهم الخميني كما ترى؟!

يحلّون ما يشاؤون أو يحرّمون ما يشاؤون إلا أن يشاء الله تعالى!! ثم قال: يا محمد، هذه الديانة التي من تقدّمها مرق، ومن تخلف عنها محق، ومن لزمها لحق، خذها إليك يا محمد) هذا ما ورد في حقهم عليهم السلام في الكتب المعتبرة، يبعث على تحير العقول، حيث لم يقف أحد على حقائقهم وأسرارهم إلا أنفسهم (¬1)، صلوات الله وسلامه عليهم!!) (¬2) ويقول الخميني في مناسبة ولادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: (أنا لا أستطيع ولا يستطيع غيري التحدث في شخصية أمير المؤمنين (ع). نحن لا نتمكن من إدراك الجوانب المختلفة من هذا الإنسان العظيم. إنه الإنسان الكامل ومظهر جميع أسماء الله وصفاته وبالتالي فإنّ أبعاده وجوانب شخصيته تكون ألفاً حسب أسماء الله تعالى ونحن لا نستطيع أن نوضح واحداً منها. هذا الإنسان الذي يجمع في نفسه الأضداد، لا يتمكن أحد من التحدث حوله. لذا أرى من الأفضل أن أصمت وأسكت ..) ثم يقول بعد هذا: ¬

_ (¬1) حقيقتهم أنهم بشر مخلوقون لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فنبي الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو خيرهم وسيدهم يقول الله تعالى عنه {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فكيف بالإمام علي والزهراء وهما دونه بالفضل والتكريم؟! (¬2) الأربعون حديثاً للخميني ص654 وزبدة الأربعين حديثاً ص232 اختصار سامي خضرا

(هذا الموجود، معجزة إلهية لا يستطيع أحد الوصول إلى حقيقته بل الجميع يتكلمون حسب فهمهم ومقدار إدراكهم والإمام علي (ع) غير ما يتصورونه ويتوهمونه أي أننا لا نستطيع أبدا أن نمدحه بما هو هو (¬1). ولهذا فالكل يأخذ بضعة من صفاته المتضادة ويخيل إليه أنه قد عرف أمير المؤمنين عليه السلام ... إذ ذاك فالأفضل علينا غض الطرف عن التحدث حوله بل نأمل أن نسير في مسير هدايته ونصل إلى بعض هذا الصراط) (¬2). بل يذهب إلى أكثر من هذا حين يقول عن أمير المؤمنين علي: (خليفته - أي خليفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم- القائم مقامه في الملك والملكوت، المتحد بحقيقته في حضرت الجبروت واللاهوت، أصل شجرة طوبى وحقيقة سدرة المنتهى، الرفيق الأعلى في مقام أو أدنى، معلم الروحانيين ومؤيد الأنبياء والمرسلين علي أمير المؤمنين) (¬3). وأنت تعلم أنّ قوله (المتحد ... باللاهوت) هو كقول النصارى في المسيح عليه السلام حيث يقولون باتحاد اللاهوت بالناسوت (¬4). ¬

_ (¬1) هذه عبارة اعتدنا أن نرددها في رب العالمين، فنقول كل كمال تتصوره في رب العالمين فالله خير وأكمل من ذلك، فعقولنا لا تدرك هذا الكمال المطلق كما هو وإن أدركت معناه، لكنها عند الخميني تُقال لعلي بن أبي طالب!! (¬2) جريدة رسالت رقم 628 (¬3) مصباح الهداية ص5 (¬4) يرى النصارى أنّ المسيح عليه السلام مكون من جانبين، جانب إلهي وجانب إنسي بشري، ويطلقون على الجزء الإلهي اسم (لاهوت) وعلى الجزء البشري اسم (ناسوت).

2 - آية الله العظمى الخوئي

ومن منطلق دعوى حلول الرب بعلي بن أبي طالب ينسب الخميني لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب قوله: (لنا مع الله حالات هو هو ونحن نحن، وهو نحن ونحن هو) (¬1)!! وهذا عين مذهب القائلين بوحدة الوجود، فالله هو علي وعلي هو الله، لم يبقى إلا التصريح بهذا!! 2 - آية الله العظمى الخوئي سئل في "صراط النجاة" السؤال التالي (ترشد بعض الروايات إلى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والزهراء عليها السلام يحضران مآتم عزاء الإمام الحسين عليه السلام، فما رأي مولانا الكريم، وعلى فرض الورود فهل يشمل حضور بقية الأئمة عليهم السلام؟ أجاب الخوئي: هذا أمر ممكن، وبعض الروايات دلّت عليه، والله العالم! (¬2) 3 - آية الله العظمى جواد التبريزي يقول في تعليقاته وفتاويه المطبوعة مع "صراط النجاة" للخوئي إجابة على سائل يقول: (ما رأيكم فيمن يعتقد بأنّ النبي وأهل بيته عليهم السلام كانوا موجودين بأرواحهم وأجسامهم المادية قبل وجود العالم، وأنهم كانوا مخلوقين قبل خلق آدم عليه السلام لا أنّ الله تعالى جعل صورهم حول العرش، فما هو الجواب؟ أجاب التبريزي: كانوا عليهم السلام موجودين بأشباحهم النورية قبل خلق آدم عليه السلام، وخلقتهم المادية متأخرة عن خلقة آدم، كما هو واضح، والله العالم!! ¬

_ (¬1) مصباح الهداية للخميني ص114 واللمعة البيضاء للتبريزي الأنصاري ص28 (¬2) صراط النجاة 3/ 319 - سؤال رقم (1000)

وسئل أيضاً: هل يجوز الاعتقاد بأنّ الصدّيقة الطاهرة السيدة الزهراء عليها السلام تحضر بنفسها في مجالس النساء في آن واحد، في مجالس متعددة بنفسها ودمها ولحمها؟ أجاب التبريزي: الحضور بصورتها النورية في أمكنة متعددة في زمان واحد لا مانع منه فإنّ صورتها النورية خارجة عن الزمان والمكان، وليست جسماً عنصرياً ليحتاج إلى الزمان والمكان، والله العالم!!! (¬1) وسئل أيضاً: هل هناك خصوصية للزهراء عليها السلام في خلقتها، وبالنسبة للمصائب التي جرت عليها بعد أبيها صلى الله عليه وآله وسلم من ظلم القوم لها، وكسر ضلعها وإسقاط جنينها، ما رأيكم بذلك؟ أجاب التبريزي: نعم، فإنّ خلقتها كخلقة سائر الأئمة (سلام الله عليهم أجمعين) بلطف من الله سبحانه وتعالى، حيث ميّزهم في خلقهم عن سائر الناس ... وكانت فاطمة (ع) في بطن أمها محدّثة وكانت تنزل عليها الملائكة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم!!! (¬2) وسئل أيضاً: بالنظر إلى آية المباهلة، وما تضافرت به الروايات والزيارات (كزيارة الجامعة الكبيرة مثلاً) هل يُمكن القول بأنّ الأئمة الإثني عشر والزهراء عليها السلام هم أفضل من الخلق كافة، سوى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم؟ أجاب التبريزي: نعم القول في المزبور متعين بالنظر إلى الآية، والروايات المشار إليها وبريدها الزيارات (¬3). ¬

_ (¬1) صراط النجاة ج3 ص439 - سؤال رقم (1263) (¬2) المصدر نفسه - سؤال رقم (1264) (¬3) صراط النجاة ج2 ص568

4 - آية الله العظمى محمد بن مهدي الحسيني الشيرازي

وهذا تصريح من التبريزي بكون الأئمة والزهراء أفضل من الأنبياء عليهم السلام سوى محمد عليه الصلاة والسلام، وقد صرّح بهذا القول في "الأنوار الإلهية في المسائل العقائدية" حيث أجاب على سؤال وُجّه له عن تفضيل الأئمة على أنبياء الله تعالى بقوله: (أئمتنا عليهم السلام أفضل من الأنبياء ما عدا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم) (¬1) ولا يخفى ما في هذا الغلو في أئمة أهل البيت من الإساءة إلى أنبياء الله تعالى الذين اصطفاهم الله تعالى لحمل رسالته وفضلهم على العالمين. إنّ هذه العقائد نموذج حَيَّ للغلو الذي دخل على التشيع لأهل البيت باسم حبهم ومناصرتهم. 4 - آية الله العظمى محمد بن مهدي الحسيني الشيرازي يقول في كتابه "من فقه الزهراء" ما نصه: (ثم إنهم عليهم السلام ومنهم فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها) يحيطون علماً وقدرة - بإذن الله تعالى - بالكائنات جميعاً إلا ما استثني وقد تقدّم في الزيارة الرجبية ما يدل على ذلك، كما في جملة من الأحاديث (يعلمون ما كان وما يكون وما هو كائن) فإنه ليس بمحال عقلاً! ويشبه ذلك في الماديات الهواء والحرارة والجاذبية وغيرها) ويقول أيضاً: (كما أنها (صلوات الله عليها) - يعني السيدة فاطمة - تعلم الغيب كسائر المعصومين عليهم السلام حسب مشيئته سبحانه. (¬2) ¬

_ (¬1) الأنوار الإلهية في المسائل العقائدية ص179 (¬2) من فقه الزهراء - المقدمة ص36 - 37 تحت عنوان (شمولية علمهم وقدرتهم عليهم السلام).

5 - آية الله العظمى محمد محمد صادق الصدر

ولها ولهم عليهم السلام الولاية التكوينية ومعناها: أنّ زمام العالم بأيديهم عليهم السلام ومنهم فاطمة (سلام الله عليها) حسب جعل الله سبحانه، كما أنّ زمام الإماتة بيد عزرائيل فلهم عليهم السلام التصرف فيها إيجاداً وعدماً، لكن من الواضح أنّ قلوبهم أوعية مشيئة الله تعالى، فكما منح الله سبحانه القدرة للإنسان على الأفعال الاختيارية منحهم عليهم السلام القدرة على التصرف في الكون. وما نذكره يشمل كل المعصومين عليهم السلام، فإنّ كل الصلاحيات التي كانت للأنبياء عليهم السلام ثابتة للمعصومين عليهم السلام أيضاً، لأنهم أفضل منهم، وفاطمة (صلوات الله عليها) أفضل من جميع الأنبياء عليهم السلام إلا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم) (¬1). 5 - آية الله العظمى محمد محمد صادق الصدر أما محمد الصدر فلديه ما هو أعجب. فهو يقارن بين صبر الإمام الحسين وبين صبر أنبياء الله تعالى بل وصبر أولي العزم من الرسل الذين أُطلق عليهم هذا الإسم لشدة صبرهم في دعوتهم وعلى ابتلائهم. وتبلغ المقارنة حداً تقشعر منه جلود الموحدين، حين يستخف محمد الصدر بأنبياء الله تعالى بأسلوب فج قبيح لا يمكن أن يُفسر إلا بأنه استهزاء صريح بأنبياء الله تعالى وملائكته. ففي خطب الجمعة المنشورة له يقول: (الحسين عليه السلام صبر أكثر من آدم عليه السلام، يقول في القرآن {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى. ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (¬2) الحسين ¬

_ (¬1) من فقه الزهراء - المقدمة ص12 تحت عنوان (الولاية التكوينية والتشريعية). (¬2) سورة طه آية 121

صبر أكثر من نوح عليه السلام، الذي من أنبياء أولي العزم {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً. وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} (¬1)، نوح صبر مئات السنين، مع ذلك المتوقع منه أن لا يفتح فمه بالشكوى أمام الله سبحانه وتعالى!!!، الحسين لم يفتح فمه بالشكوى أمام الله سبحانه وتعالى). ثم يقول: (الحسين عليه السلام صبر أكثر من ذي النون، فإنّ الأخير لم يستطع الصبر عدة سنوات، وانهزم من مجتمعه الذي كان مكلفاً حسب الرواية بالدعوة فيه، أي بالنبوة فيه {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬2) مريم بشرتها الملائكة بوجود عيسى وولادته. مع ذلك استشكلت ولم تسكت إلا أن تشكل {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً. قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} (¬3)، قضاه الله وقدره رغماً عنك! وليس باختيارك وإنما اختيار رب العالمين، لماذا تفتحين فمك بما لا ينبغي؟! فهل فتح واحد من المعصومين فمه بما لا ينبغي؟ حتى بالدقة العقلية لا يوجد مثل هذا الشيء. زكريا {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ. قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ¬

_ (¬1) سورة نوح آية 5 - 7 (¬2) سورة الأنبياء آية 87 (¬3) سورة مريم آية 20 - 21

وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (¬1). الملائكة تقول له وجهاً لوجه وحساً بحس مع ذلك تأخذه الأسباب الطبيعية! وتصعب في نفسه أهمية هذه الأسباب فيفتح فمه بالإشكال أمامهم) (¬2). هكذا يتكلم محمد الصدر عن أنبياء الله تعالى والبتول مريم بكل احتقار وسوء أدب، المهم أنّ الإمام الحسين أفضل من الكل وكفى، حتى لو كان في ذلك انتقاص لأنبياء الله وانتقاد لهم وتقليل من شأنهم وقلة حياء في الحديث عنهم. لكن يبدو أنّ محمد الصدر يرى نفسه أتقى من الملائكة وأورع منهم، فبعد أن قال في خطبته (صَبَر الحسين أكثر من الملائكة) أعقب ذلك بقوله: ({وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة} (¬3) انفتحت ألسنتهم هذا ليس بكلام جيد منك. سمعت أحداً يقول لله مثل هذا الكلام؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)!! (¬4) ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية 39 (¬2) منبر الصدر ص44 - 46 (¬3) سورة البقرة آية 30 (¬4) بل سمعنا من ينتقد أنبياء الله تعالى والصدّيقة مريم والملائكة ويدّعي بعد ذلك أنه مسلم متبع لأهل البيت! أما الملائكة الذين لا يعرف الصدر حقهم، فهم الذين قال الله تعالى عنهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون}. يقول الشيخ الطوسي في تفسيره "التبيان 1/ 132": (فقالوا: يا ربنا أتجعل في الأرض يفسد فيها ويسفك الدماء على وجه الاستخبار منهم والاستعلام عن وجه المصلحة والحكمة لا على وجه الانكار كأنهم قالوا: إن كان هذا كما ظننا فعرّفنا وجه الحكمة فيه، وقال قوم: المعنى فيه أنّ الله أعلم الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة وأنّ الخليفة فرقة تسفك الدماء وهي فرقة من بني آدم فأذن الله للملائكة أن يسألوه عن ذلك وكان إعلامه إياهم هذا زيادة على التثبيت في نفوسهم أنه يعلم الغيب فكأنهم قالوا: أتخلق فيها قوماً يسفك الدماء، ويعصونك وإنما ينبغي أنهم إذا عرفوا أنك خلقتهم أن يسبحوا بحمدك كما نسبح ويقدسوا كما = = نقدس؟ ولم يقولوا: هذا إلا وقد أذن لهم، لأنهم لا يجوز أن يسألوا ما لا يؤذن لهم ما فيه، ويؤمرون به لقوله {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون}).

6 - آية الله العظمى وحيد خراساني

ولا يكتفي آية الله العظمى محمد الصدر بكل هذا بل يعقد مقارنة بين مرقد الإمام علي وبين الكعبة المشرفة فيقول: (وقع الكثير من هذا الكلام بين المؤمنين الواعين أنّ الكعبة أفضل أم حرم أمير المؤمنين؟ أنا أقول: حرم أمير المؤمنين، بماذا تريد أن تجيب فأجب وكذلك المصلى مصلى أمير المؤمنين، وكذلك مسكن أمير المؤمنين، الله ما هي صداقته مع الكعبة؟ ولكن له صداقة مع أمير المؤمنين، ولي الله حقاً، فقط هذه؟ لا .... أكثر) (¬1). 6 - آية الله العظمى وحيد خراساني يخاطب الوحيد الخراساني الإمام المهدي بقوله: (يا فاعل ما به الوجود، ويا من أينما كان ما منه الوجود] أي الله تعالى [كنت أنت أيضا هناك، فلا يخلو مكان - بحكم البرهان - (من فاعل ما منه الوجود)، ولا يخلو مكان منك أنت أيضاً، لأنّ أفعاله تعالى وإن كانت أفعاله ولكنها بواسطتك، فمنه تعالى كل شيء، لأنّ كل شيء منه لا إله إلا الله، ومنك كل شيء، لأنّ كل شيء يكون بواسطتك. إننا موحدون ... لا نعرف شيئاً منك، بل نعرف أن كل شيء من الله تعالى، ولكن في عين الحال التي نرى أن كل شيء منه هو، نرى أيضاً أن أنفاس صدورنا منه ولكن بك أنت، والنظرة والرؤية التي نتمتع بها، والخطوة التي نخطوها، كلها منه سبحانه وتعالى، ولكنها بك أنت ... أيتها الرحمة التي وسعت كل شيء) (¬2). ¬

_ (¬1) منبر الصدر ص14 (¬2) مقتطفات ولائية ص42 - 43، ترجمة عباس بن نخي، المحاضرة الثالثة تحت عنوان (صبر الحجة) ألقاها في المسجد- الأعظم بقم بتاريخ 13 شعبان 1411 الموافق 27/ 2/1991

ويقول الوحيد الخراساني بصراحة مثيرة: (إنّ إمام العصر صار عبداً، وعندما صار عبداً صار رباً، فـ " العبودية جوهرة كنهها الربوبية" فمن ملك هذه الجوهرة تحققت ربوبيته -بالله تعالى لا بالاستقلال - بالنسبة إلى الأشياء الأخرى) (¬1). وتأييداً لأقواله الباطلة، يستورد الوحيد الخراساني حديثاً من أحد أقطاب الفرقة الخطابية الملعونة والبائدة التي كانت تؤله الإمام الصادق وهو المفضل بن عمر يقول فيه كذباً وزوراً وبهتاناً: (إنه سمع أبا عبد الله (ع) يقول في قول الله تعالى {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا}: رب الأرض إمام الأرض. قلت: فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: إذن يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويجتزئون بنور الإمام) (¬2). واستناداً إلى أقوال الغلاة هذه يعتقد الشيخ الوحيد الخراساني: (إنّ إمام العصر هو صاحب مقام الإمامة المطلقة، أي العلم المطلق والقدرة المطلقة والإرادة المطلقة والكلمة التامة والرحمة الواسعة) (¬3). ويقول: (لا شك أنّ إمام الزمان جوال في زيارة أولياء الله ولا حجاب أمامه، فمن هو "فاعل ما به الوجود" لا يكون محجوباً) (¬4). ومع أنّ الله عز وجل ينهانا عن دعاء غيره ويقول {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُون} (¬5) ويقول {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ص41 (¬2) المصدر نفسه ص64 (¬3) المصدر نفسه ص45 (¬4) المصدر نفسه ص44 (¬5) سورة الأحقاف آية 5

لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّك} (¬1) و {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (¬2) فإنّ آية الله العظمى الوحيد الخراساني يوجه المسلمين وغير المسلمين إلى الاستغاثة بالإمام المهدي فيقول: (من الضروريات والمسلمات أنّ كل من تنقطع به السبل ويتيه في صحراء قاحلة لا يهتدي فيها إلى طريق، سواء كان يهودياً أو نصرانياً، أو مسلماً شيعياً او سنياً ـ لا فرق بتاتاً، إذا ما ندب في ذلك الحين وقال: (يا أبا صالح المهدي أدركني) فإنّ النتيجة قطعية الحصول ... والسر في ذلك أنّ الدعاء في تلك الحالة متوجه للإمام حقيقة لأنه نابع عن اضطرار واقعي يخرق الحجب، وفي غير تلك الحالة فإنّ الندبة غير متوجهة إليه! والأمر سيان بين الله وبين سبيل الله، "من منه الوجود ومن به الوجود" والحكم في الحالين واحد، فكما أنّ التوجه بالدعاء إلى "من منه الوجود" يجب أن يتحقق حتى تتحقق الاستجابة، كذلك الأمر بالنسبة إلى "من به الوجود" فهو السبيل الأعظم والصراط الأقوم، فإنّ التوجه إليه بالدعاء يجب أن يتحقق فتتحقق الاستجابة في ذلك الحين بالضرورة) (¬3). ويقول: (وإذا اضطر أحد فتوجه إلى (السبيل الأعظم) أي "من به الوجود" للنجاة من صحراء تاه فيها وبلوغ المعمورة، فإنه عليه السلام سيرشده إلى الطريق ويدله على ما يجب أن يفعله حتى ينجو ... لقد اضطرته تلك الحال فلجأ إليه وتوسل به، فينظر عليه السلام إليه نظرة يكون فيها دواؤه وشفاؤه) (¬4). ¬

_ (¬1) سورة يونس آية 106 (¬2) سورة الأعراف آية 194 (¬3) مقتطفات ولائية ص50 (¬4) المصدر نفسه ص51

7 - آية الله العظمى المولى ميرزا حسن الحائري الإحقاقي

وكأنّ وحيد الخراساني لا يدرك حقيقة أنّ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وبقية الأئمة من أهل البيت كانوا في حياتهم محدودي القدرة ضمن أطر الزمان والمكان ولم يكونوا يخترقون الحجب ولا يمتلكون هذه القدرة الخارقة على نصرة أوليائهم أو المستغيثين بهم، وقد تعرضوا هم إلى أشد ألوان العذاب واستغاثوا بالله تعالى وطلبوا منه النصر والعون! لكنه الغلو وما يفعله في أصحابه. 7 - آية الله العظمى المولى ميرزا حسن الحائري الإحقاقي سُئل الإحقاقي عن معنى كلمة (شديد القوى) في سورة النجم فأجاب (... كيف وقد صح، واشتهر عند الإمامية أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام هو معلم جبرائيل في العالم الأول (عالم النورانية) والرواية معروفة لا حاجة إلى ذكرها) (¬1). فهل علّم علي بن أبي طالب جبريل أمين وحي السماء؟!! غلو فاحش وضلال مبين لا يحتاج إلى تعليق. ويسأله أحد مقلديه قائلاً: (لما مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرضه الذي توفي فيه، أوصى إلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً: (إذا فاضت نفسي المقدسة فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثم قال: وإذا مت غسلني وكفني واعلم أنّ أول من يصلّي عليّ الجبار جل جلاله، ثم أهل بيتي ثم الملائكة ثم الأمثل والأمثل من أمتي)، فما معنى إفاضة نفسه، وتناولها بيد علي (ع) ومسحها بوجهه ثم ما كيفية صلاة الجبار عليه؟ أفيدونا أطال الله بقاءكم. ¬

_ (¬1) الدين بين السائل والمجيب 2/ 49 سؤال رقم (240)

8 - آية الله العظمى المولى ميرزا عبد الرسول الحائري الإحقاقي

يأتي جواب الحائري على هذا التساؤل فيقول: (النفس هنا معناها الروح، يعني خرجت روحي من جسدي، فتبارك بها وامسح بها وجهك، ولأنّ روحه الزكيّة أفضل روح، وأشرف روح بين الأرواح، فهي مباركة طيبة. هذا إذا كانت روحه البشرية وأما إذا كانت النفس اللاهوتية (¬1)، فهي التي تنتقل من معصوم إلى معصوم، بعد وفاة كل منهم، وهي الملك المسدد الذي جاء في أخبارنا. وفي بعض الروايات تتجسم كالزبدة على شفتي الإمام عند وفاته، فيتناولها الإمام من بعده بفمه ويأكلها. وفي بعضها: تتجسم كالعصفور فيبلعها وصيه والإمام من بعده، كما جرى ذلك بين الإمامين الرضا والجواد عليهما السلام (¬2). ولا يمكنني أن أجد تعليقاً مناسباً لمثل هذا الكلام! 8 - آية الله العظمى المولى ميرزا عبد الرسول الحائري الإحقاقي يقول مجيباً على سؤال طُرح عليه عن إحدى روايات المذهب: (وأما قوله عليه السلام: (إذا شئنا شاء الله) دلالة على أنّ مشيئتهم لا تخالف مشيئة الله مطلقاً بل كما قال مولانا الحجة أرواحنا فداه (بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله إذا شئنا شاء الله)، أما مسألة أنّ حساب الناس عليهم .. إلخ، فقد تردد كثيراً في أخبارهم عليهم السلام وزياراتهم ¬

_ (¬1) (اللاهوت) مصطلح استخدمه النصارى ومعناه عندهم (جوهر الله)، وعندنا أنّ هذه اللفظة لا تُطلق على الله عز وجل لكن ليس هذا موضع نقاش جواز إطلاق اللفظ على الله أم لا، لكن القصد الإشارة إلى المعنى المراد من اللاهوت. (¬2) الدين بين السائل والمجيب 2/ 75 - 76 سؤال رقم (256).

منها ما في الزيارة الجامعة الكبيرة (وإياب الخلق إليكم وحسابهم عليكم وفصل الخطاب عندكم) وغيره من الأخبار الدالة على هذا المعنى، وإليك بعض هذه الأخبار، ففي صحيح الكافي ج8 ص195 عن الباقر (ع) (إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الأوليين والآخرين لفصل الخطاب دعي رسول الله صلى الله عليه وآله ودعي أمير المؤمنين عليه السلام فيُكسى رسول الله صلى الله عليه وآله حلة خضراء تضيء ما بين المشرق والمغرب، ويكسى علي (ع) مثلها ثم يصعدان عندها ثم يدعى بنا فيدفع إلينا حساب الناس فنحن والله ندخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار)، وفي الكافي ج8 ص162 عن الكاظم (ع): (إلينا إياب هذا الخلق وعلينا حسابهم .. إلخ)، وفي أمالي الطوسي ص406 عن أبي عبد الله (ع): (إذا كان يوم القيامة وكلنا الله بحساب شيعتنا) وغيرها من الأخبار التي لا تقع تحت الحصر) (¬1). ومن حقي أن أسجل ملاحظة صغيرة على هذا الكلام المغالي أقول فيها: لو أننا رضينا جدلاً بأنّ مشيئة الأئمة هي مشيئة الله تعالى، وأنهم لا يفارقون هذه المشيئة طرفة عين، لأكن مغالياً وأتقبل معك هذه الفكرة، لكن ما لا أستطيع أن أفهمه هو قول الرواية (إذا شئنا شاء الله)، فكأنّ الله تعالى عياذاً بالله صار تبعاً للأئمة وليست القضية فقط اتحاد مشيئة، ولو كان عند هؤلاء المغالون ذرة حياء وخشية من الله تعالى لنسبوا إلى الأئمة قولهم (إذا شاء الله شئنا) وليس العكس .. ولكن ليس بعد هذه الزندقة من عتب. ¬

_ (¬1) مستدرك من أحكام الشريعة ص17

9 - آية الله العظمى محمد الحسيني الشاهرودي

9 - آية الله العظمى محمد الحسيني الشاهرودي أجاب على سؤال وُجه إليه من قِبل طلبة الحوزة العلمية في قم نصه كالتالي: (س14 شكك أحدهم بالروايات الواردة في كون نور فاطمة عليها السلام قد خُلق قبل أن يخلق الله الأرض والسماء، ما رأيكم بذلك؟ علماً أنّ التشدد السندي لا يخرج بعض الروايات من دائرة الاعتبار، كما نرى ذلك في رواية سدير الصيرفي التي يذكرها الشيخ الصدوق في معاني الأخبار). الجواب: (لا ريب أنّ الله تعالى خلق نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام قبل أن يخلق العالم وآدم، فقد كانوا أنواراً وأشباحاً بظل العرش، والروايات في ذلك متظافرة بل متواترة ولا مجال للتشكيك في ذلك، راجع البحار ج25 ص15، 25؛ ج28 ص45، وبالنسبة لخصوص فاطمة الزهراء سلام الله عليها (راجع البحار ج43ص4ح3) (¬1). 10 - الإمام الأكبر محمد الحسين آل كاشف الغطاء يصف الأئمة في أبيات شعر له فيقول: يا كعبة لله إن حجت لها ... الأملاك فعرشه ميقاتها أنتم مشيئته التي خُلقت بها الأشياء ... بل ذرئت بها ذراتها أنا في الورى قالٍ لكم إن لم أقل ... ما لم تقله في المسيح غلاتها (¬2) ¬

_ (¬1) ردود عقائدية ص25 (¬2) ديوان شعراء الحسين - محمد باقر النجفي ص12 ط طهران 1374 هـ

11 - العلامة جعفر التستري

حيث يجعل كاشف الغطاء الأئمة كعبة تحج إليها الملائكة وجعل عرش الرحمن هو ميقاتها، وجعلهم هم مشيئة الله وقدرته التي خُلقت بها الأشياء، بل وقطع على نفسه عهداً أن يقول في الأئمة مالم تقله غلاة النصرانية في المسيح عليه السلام، ولعله بهذه الأوصاف قد وصل إلى ما أراد، والله المستعان. 11 - العلامة جعفر التستري يقول في كتابه "الخصائص الحسينية": (اعلم أنّ الله جل جلاله لم يزل متفرداً ولم يكن مخلوق ولا زمان ولا مكان، فلما ابتدأ بخلق أفضل المخلوقات اشتق من نوره نور علي وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام - وجعل لهم محال متعددة وعوالم مختلفة كما يظهر من مجموع الروايات المعتبرة فمنها: قبل خلق العرش، ومنها: بعده خلق آدم، ومنها: بعده أنوار تارة وأشباح نور تارة، وظلال وذرات وأنوار في الجنة تارة، وعمود نور وأقذف في ظهر آدم عليه السلام تارة، وفي أصابع يده الأخرى، وفي جبينه تارة، وفي جبين كل جد من الأجداد من آدم عليه السلام إلى والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن عبد المطلب وفي جبين كل جدة عند الحمل ممن هو في صلبه من حواء، إلى أم النبي آمنة بنت وهب. ثم إنّ أنوارهم محال متعددة قدام العرش، وفوق العرش، وتحت العرش، وحول العرش، وفي كل حجاب من الحجب الإثني عشر، وفي البحار الأنوار، وفي السرادقات ولبقائهم في كل محل مدة مخصوصة. فمدة وجودهم قبل خلق العرش أربعمائة ألف وعشرون ألف، وزمان كونهم حول العرش خمسة عشر ألف عام قبل خلق آدم عليهم السلام، وزمان كونهم تحت العرش اثنا عشر ألف سنة قبل آدم، وليس المقام مقام هذه التفاصيل فإنه يحتاج إلى كتاب مستقل، إنما المقصود بيان خصائص الحسين عليه السلام في نوره وامتياز نوره من الأنوار في جميع هذه

العوالم والحالات في الظلال والأشباح والذرات، وحين تجسمه بالشجرة في الجنة والقرط في أذن الزهراء عليها السلام وهي في الجنة في إحدى هذه العوالم. نقول: إنّ هذه الأنوار في هذه العوالم مصدرها نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وامتيازه كون نوره من نوره، فإنه من حسين وحسين منه، وحين افتراقهما قد كان لنور الحسين عليه السلام خصوصية في أن رؤيته كان موجباً للحزن) (¬1). ويقول تحت عنوان (في أنّ الله خصه – عليه السلام – بخصائص الكعبة) بعد مقارنة بين مقام وزيارة الحسين وبين الكعبة ما نصه: (التاسعة: جعل طوافه ركناً من أركان الإسلام فقال {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (¬2) ومن لم يأت به نقص ركناً من أركان الإسلام والحسين – عليه السلام – قد جعلت زيارته ركناً من أركان الإسلام والإيمان، فقد ورد في الحديث أنّ تارك زيارته منتقص الإيمان قاطع لحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورحمه، وقد عق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي رواية (ليس بشيعة)، وفي رواية (إن كان من أهل الجنة فهو من ضيفانهم)، وفي رواية (تارك حقاً من حقوق الله ولو حج ألف حجة)، وفي رواية (محروم من الخير)، وفي رواية بعد أن سمع أحدهم – عليهم السلام – أنّ جماعة من الشيعة تأتي عليهم السنة والسنتان لا يزورونه، قال: (حظهم أخطؤوا، وعن ثواب الله زاغوا وعن جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تباعدوا)) (¬3). ¬

_ (¬1) الخصائص الحسينية (محل نوره بعد خلقه) ص28 - 29 (¬2) سورة آل عمران آية 97 (¬3) الخصائص الحسينية ص293

ويقول تحت العنوان نفسه أيضاً (الثالثة عشرة: جعله مطافاً للناس وجعل ثواب الطواف جزيلاً بالنسبة إلى أشواطه وخطواته، وقد زادت فضيلة زيارة الحسين عليه السلام على ذلك أضعافاً كثيرة كما تبين في عنوان الزيارة. الرابعة عشرة: جعله مطافاً للملائكة كما ورد أنه لما بنى جبرائيل الكعبة بأمر الله طافت حولها الملائكة وهم سبعون ألف ملك كانوا يحرسون الخيمة التي أُنزلت من الجنة وبنيت على قواعد البيت التي بناها الملائكة قبل خلق آدم، ورفعت قواعدها بإزاء الضراح والبيت المعمور والعرش، ولما نحى الخيمة وبنى جبرائيل البناء الثاني وطافت الملائكة حوله نظر آدم وحواء إليهم فانطلقا وطافا سبعة أشواط، والحسين عليه السلام قد كان مطافاً للملائكة حين كان نوراً مع الأنوار المحدقة بالعرش وكان شفيعاً للملائكة) (¬1). وتحت العنوان نفسه أيضاً: (التاسعة عشرة: أنّ الكعبة مطاف الأنبياء من آدم إلى خاتم النبيين عليهم السلام كما دلت عليه الروايات الكثيرة المتواترة. وقد ثبت مثل ذلك للحسين عليه السلام بالنسبة إلى جسده تارة وبالنسبة إلى رأسه الشريف وبالنسبة إلى قبره المنيف) (¬2). ويؤكد التستري على أنّ مرقد الحسين حرم كسائر بيوت الله بل هو عند الشيعة أعظم حرمة من الكعبة بحسب الروايات الشيعية الكثيرة. يقول التستري: (الثلاثون: أنّ الله خلق مكة واتخذها حرماً قبل دحو الأرض، ولكن قد ورد في كربلاء عن علي بن الحسين (ع) أنه قال: اتخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام، وأنه إذا زلزل الله تبارك ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ص296 (¬2) المصدر نفسه ص300

وتعالى الأرض وسيرها رفعت كما هي بتربتها نورانية صافية فجعلت في أفضل روضة من رياض الجنة، وأفضل مسكن في الجنة لا يسكنه إلا النبيون والمرسلون، أو قال: أولو العزم من الرسل وإنها لتزهر بين رياض الجنة كما يزهر الكوكب الدري بين الكواكب لأهل الأرض) (¬1). ويقول أيضاً: (الواحدة والثلاثون: أنّ مكة قد تكلمت وتفاخرت بكرامة الله لها فقالت: من مثلي وقد بني بيت الله على ظهري، يأتيني الناس من كل فج عميق. ولكربلاء فضل على ذلك أنها تفاخرت فأوحى الله إليها أن كفي وقري ما فضل ما فضلت به فيما أعطيت أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غمست في البحر فحملت، ولولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا من تضمنته أرض كربلاء ما خلقتك ولا خلقت البيت الذي به افتخرت فقري واستقري وكوني دنية متواضعة ذليلة مهينة غير مستنكفة ولا مستكبرة لأرض كربلاء وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم ...) إلى آخر كلامه (¬2). ويقول تحت عنوان (ما أعُطي للأنبياء من الحسين (ع)) ما نصه: (المقصد الرابع: فيما أُعطي الأنبياء بالحسين (ع) اعلم أنه قد أُعطي جميع الأنبياء من الحسين (ع) شيئين: الأول: أنه أسوة لهم. فكان كل واحد منهم إذا أصابته مصيبة تأسى بالحسين (ع) وصبر عليها تأسياً بالحسين (ع) ولذا قال علي (ع) يوماً للحسين عليه السلام يا أبا عبد الله أُسوة أنت قدماً. الثاني: أن كل ما وقع يعني في شدة فقد حصل الفرج له عند التلفظ باسم الحسين (ع) وفي ذلك روايات: ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ص306 (¬2) المصدر نفسه ص307

الأول: في قبول توبة آدم عليه السلام حين علّمه الله الأسماء الخمسة فكانت الاستجابة عند قوله بحق الحسين. الثاني: في سكون سفينة نوح عليه السلام حين أُوحي إليه أن يتوسل بالخمسة فكان الاستواء على الجودي عند قوله وبحق الحسين. الثالث: في استجابة دعاء زكريا عليه السلام حين قال فهب لي من لدنك ولياً فعلمه الأسماء الخمسة فحصلت البشارة بيحيى عند قوله بحق الحسين. الرابع: في نجاة يونس من بطن الحوت فإنه دعا بحق الخمسة وحصل نبذه بالعراء عند قوله بحق الحسين. الخامس: في كشف الضر عن أيوب عليه السلام فإنه حصل عند دعائه متوسلاً بالخمسة ونودي بقوله اركض برجلك هذا مغتسل بارد عند قوله بحق الحسين عليه السلام. السادس: حصول الفداء لإسماعيل فإنه قد ورد أنّ المراد بذبح عظيم هو الحسين عليه السلام ولذلك معنى لا يلزم منه كون إسماعيل أعلى رتبة. السابع: في خروج يوسف عليه السلام من غيابة الجب فإنه حصل بالتوسل بالخمسة وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه عند قوله (وبحق الحسين عليه السلام). الثامن: في خروج يوسف من السجن فإنه لما توسل بالخمسة بعد بضع سنين فلما قال (وبحق الحسين) جاء صاحب السجن وقال يا يوسف أيها الصديق أفتنا إلى آخر القصة. التاسع: في تفريج الغم ليعقوب عليه السلام فإنه لما ضاق عليه الأمر قال: رب أما ترحمني، ذهبت عيناي ونور عيني فأوحى الله إليه (قل: اللهم إني أسألك بحق محمد وعلي

وفاطمة والحسن والحسين أن ترد علي عيني) فبمجرد التلفظ بالحسين جاء البشير وارتد بصيراً) (¬1). وهكذا قارن التستري بين أنبياء الله الذين اصطفاهم لحمل رسالاته وبين الحسين ابن بنت رسول الله، وفرق بين أن يكون الرجل قريباً من رسول الله وكونه سيد شباب أهل الجنة وله من الفضائل ما له وبين أن يقارن بنبي واحد فضلاً عن جميع الأنبياء كما حلا للتستري أن يقارن. والحقيقة أنّ التستري لم يكتف بمقارنة الإمام الحسين بأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام وبأولي العزم من الرسل بل تعدّى ذلك إلى مقارنة بين ما لله رب العباد من القدسية والعظمة سبحانه وبين ما لموت الحسين شهيداً من قدسية حيث يقول تحت عنوان (في خصوصية عطاياه عليه السلام) ما نصه: (الأول: إنّ من صفات الله {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَه} وله خمس معان، وقد أُعطي الحسين عليه السلام ما يناسب ذلك، فإن من شيء إلا وقد بكى لمصيبته ولكن لا نفقه بكاءهم فبكاء كل شيء بحسب حاله، ولا ينحصر في تقاطر الدمع من العين، فبكاء السماء تقاطر الدم، وبكاء الأرض أنّ كل حجر يُرفع يرى تحته دم، وبكاء السمك خروجها من الماء، وبكاء الهواء إظلامها، وبكاء الشمس كسوفها، وبكاء القمر خسوفه كما ورد كل ذلك في الروايات) (¬2) ولا يخفى على القارئ اللبيب أنّ التستري فيما نقلناه عنه قد أتعب مَنْ بعده في أَنْ يأتي بغلو مشابه أو أكبر، اللهم إلا التصريح بألوهية الأئمة أو أنهم أبناء الله أسوة بالنصارى القائلين بأنّ المسيح عليه السلام ابن الله الإنسي. ¬

_ (¬1) الخصائص الحسينية ص362 (¬2) المصدر نفسه ص72 - 73

الخلافة والإمامة

الخلافة والإمامة (أيها الناس؛ إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل. ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس؛ ما إلى ذلك من سبيل ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها؛ ثم ليس للشاهد أن يرجع، ولا للغائب أن يختار). نهج البلاغة

الخلافة والإمامة إنّ وجود نظام يكفل للمجتمع كيانه ويحفظه من الفوضى ضرورة لازمة لاستمراريته وبقائه وحفظ كيانه من الاندراس. يوضح ابن خلدون ماهية هذا النظام في مقدمته (فصل 25 - ص238) فيقول: (قوانين سياسية مفروضة يُسلّمها الكافة وينقادون إلى أحكامها، فإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها ولم يتم استيلاؤها {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ}). والمسلمون بشتى توجهاتهم المذهبية ومشاربهم الفكرية مجمعون على أهمية وجود النظام وكونه ضرورة لا غنى عنها، بل كل من لديه مسحة عقل لا يجادل في هذا أصلاً. ولذلك تجد أنّ الخلاف السني الشيعي حول قضية الإمامة ليس منصباً على ضرورة وجود إمام يقود الأمة أو عدم وجوده، إذ كلا الفريقين يرى وجود إمام وقائد للأمة الإسلامية أمراً لا بد منه ولا محيص عنه، لكن مفترق الطريق بين الفريقين منصبّ على نمط هذه الإمامة .. هل لها القدسية التي أعطاها الله عز وجل للنبوة بحيث يكون أمر الحاكم تماماً لو كان النبي عليه الصلاة والسلام موجوداً، لا يخالف، ولا يعارض، ولا يُتصور فيه الخطأ ولا حتى النسيان أم أنها لا تعدو أن تكون ضرورة دينية واجتماعية لحفظ نظام المجتمع الإسلامي؟ هل تنحصر باثني عشر رجلاً منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيام الساعة أم أنها غير محددة الحكام بحسب حاجة الأمة والتغيرات السياسية التي تحوطها وتتجدد معها؟ هل تنعقد بالنص الإلهي على أشخاص محددين أم بنظام الشورى الإسلامي وبضوابط شرعية تكفل أن لا يتصدر الحكم إلا من هو أهل له؟

هنا يكمن الخلاف، وهنا تتشعب القضية بل وتصل إلى طريق مسدود يوم أن تنتقل القضية المتنازع عليها من إطار الخلاف الفقهي إلى إطار الخلاف العقائدي بحيث تصير الإمامة أصلاً لقبول أعمال العباد عند خالقهم، وأصلاً في معرفة الدين، وأصلاً في تقييم صحابة الرسول وزوجاته وخلفاء المسلمين وعلماء الأمة والفتوحات الإسلامية!! فقضية تنصيب خليفة على المسلمين لا تعدو عند أهل السنة والجماعة أن تكون ضرورة اجتماعية لحفظ دين المجتمع وكيانه كما قرر ذلك جمع من علمائهم. ولكنها عند الشيعة الإثني عشرية لها شأن آخر، يصفها الإمام محمد آل كاشف الغطاء بأنها (منصب إلهي كالنبوة) (¬1)، ويقول عنها نعمة الله الجزائري: (الإمامة العامة التي هي فوق درجة النبوة والرسالة) (¬2) ويصفها آية الله هادي الطهراني بأنها: (أجل من النبوة) (¬3). بل إنّ الإمامة ليست من أصول الدين فحسب ولا ركناً من أركانه بل جاءت روايات شيعية لتجعل ولاية الأئمة الإثني عشر أعظم أركان الإسلام! روى الكليني بسند موثق عن أبي جعفر قال: (بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه - يعني الولاية) (¬4)، فحتى الشهادتان قد قامت مقامهما الولاية!! ¬

_ (¬1) أصل الشيعة وأصولها ص211 (¬2) زهر الربيع ص12 (¬3) ودايع النبوة ص114 (¬4) الكافي 2/ 18 - كتاب الإيمان والكفر - باب دعائم الإسلام - حديث رقم (3)، علّق الشيخ عبد الحسين المظفّر في (الشافي شرح الكافي) على الحديث فقال: (موثق كالصحيح).

وورد الحديث بذاته بسند آخر مع زيادة (قلت (أي الراوي): وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل) (¬1). ووردت رواية ثالثة بنحو الرواية الأولى مع زيادة تقول: (فرخّص لهم في أشياء من الفرائض الأربع ولم يُرخّص لأحد من المسلمين في ترك ولايتنا، لا والله ما فيها رخصة) (¬2) بل وصلت الأخبار إلى أكثر من هذا حينما قالت: (عُرج بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة وعشرين مرة ما من مرة إلا وقد أوصى الله عز وجل فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالولاية لعلي والأئمة عليهم السلام أكثر مما أوصاه بالفرائض) (¬3)! هذه الروايات الشيعية ومثيلاتها في كتب الشيعة ساهمت بشكل مباشر في جعل مسألة الإمامة النصية مسألة إيمان أو كفر، فبات المسلم معرضاً للاتهام بالكفر لمجرد اختلافه مع الشيعة الإمامية في عقيدة الإمامة التي يعتقدونها! ولذا رأينا بعض كبار علماء الشيعة الإمامية السابقين واللاحقين يصرّحون بهذه الحقيقة المرّة بكل جرأة واندفاع. يقول ابن بابويه القمي في رسالته "الاعتقادات": (واعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء، واعتقادنا فيمن أقر ¬

_ (¬1) الكافي 2/ 18 - كتاب الإيمان والكفر - باب دعائم الإسلام - حديث رقم (3)، وهو حديث صحيح السند كما صرّح بذلك علماء الشيعة (انظر الشافي شرح الكافي 5/ 59)، وقد ورد الحديث في (تفسير العياشي 1/ 191، البرهان 1/ 303، بحار الأنوار 1/ 394) (¬2) الكافي 2/ 22، قال المجلسي في مرآة العقول 4/ 369 (حديث صحيح)، والخصال ص600 (باب الواحد إلى المائة) حديث رقم (3). (¬3) بحار الأنوار 23/ 69

المرجعيات ولغة التكفير

بأمير المؤمنين وأنكر واحداً من بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة محمد صلى الله عليه وآله) (¬1). ويقول يوسف البحراني في موسوعته "الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة": (وليت شعري أي فرق بين من كفر بالله سبحانه وتعالى ورسوله وبين من كفر بالأئمة عليهم السلام مع ثبوت كون الإمامة من أصول الدين) (¬2). ويقول المجلسي في موسوعته الحديثية "بحار الأنوار 23/ 390" (اعلم أنّ إطلاق لفظ الشرك والكفر على من لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم السلام وفضّل عليهم غيرهم يدل أنهم مخلّدون في النار). وبهذا التشعب الكبير يسير الفريقان في خطين متوازيين، لا يلتقيان!! المرجعيات ولغة التكفير قد يتصور القارئ الكريم سنياً كان أو شيعياً بأنّ مثل هذه التصريحات التكفيرية لغير الشيعة المذكورة آنفاً باتت اليوم في طي النسيان، نقلتها بالأمس كتب صفراء يعلوها الحماس غير المنضبط الذي ما لبث أن تنحى عنها اليوم متجهاً نحو الاعتدال. لكن الواقع يحكي شيئاً آخر ... إنّ هذا الصوت التكفيري الإقصائي الذي وقفنا على بعض أطرافه كان ولا يزال جزءاً لا يتجزأ من النسيج العقدي الإمامي، ولن يستطيع الشيعة ¬

_ (¬1) الاعتقادات ص104 (¬2) الحدائق الناضرة 18/ 153

التخلص منه إلا بالاعتراف بأنّ مسألة الخلافة وإمامة الإثنى عشر لا تستحق أن تكون بحال من الأحوال مسألة مفاصلة بين إيمان وكفر وإنما هي قضية اجتهادية في أحسن أحوالها. فإن لم يحن الوقت بعد لتخطي أحقاد الماضي وإلى الارتقاء بمستوى الحوار بين الطرفين بحيث لا تطغى لغة العاطفة على لغة الدليل، فمتى يحين الوقت؟! إنه لمن المحزن أن تجد الحوزات العلمية التي يُفترض فيها أن تقود شيعة اليوم نحو الوحدة الإسلامية أو لنقل نحو تقليل حدة الصراع بين أهل السنة والشيعة، تُصر وبكل ما أُوتيت من قوة على اجترار أحقاد الماضي وعلى المضي قُدماً على خطى السابقين في تكفير الخصوم واستحلال حُرماتهم بغيبة وسباب ولعن وبراءة وما إلى ذلك! يقول آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي في "مصباح الفقاهة في المعاملات": (ثبت في الروايات والأدعية والزيارات جواز لعن المخالفين، ووجوب البراءة منهم، وإكثار السب عليهم واتهامهم والوقيعة فيهم: أي غيبتهم، لأنهم من أهل البدع والريب. بل لا شبهة في كفرهم لأنّ إنكار الولاية والأئمة حتى الواحد منهم، والاعتقاد بخلافة غيرهم وبالعقائد الخرافية كالجبر ونحوه يوجب الكفر والزندقة، وتدل عليه الأخبار المتواترة الظاهرة في كفر منكر الولاية، وكفر المعتقد بالعقائد المذكورة وما يشبهها من الضلالات. ويدل عليه أيضاً قوله عليه السلام في الزيارة الجامعة (ومن جحدكم كافر) وقوله عليه السلام فيها أيضاً: (ومن وحّده قُبِل عنكم)، فإنه ينتج بعكس النقيض أنّ من لم يقبل عنكم لم يوحده، بل هو مشرك بالله العظيم)!! (¬1) ¬

_ (¬1) مصباح الفقاهة 1/ 504 (حرمة الغيبة مشروطة بالإيمان).

وبهذه النظرة التكفيرية الضيقة وبأخلاقيات اللعن والسباب للمسلمين المخالفين تنشئ أجيالاً من المعممين الحانقين على الأمة، المتعاملين في الظاهر بالتقية وحسن المدارات والمضمرين في السريرة بالبغض والرغبة بالانتقام. ويقول آية الله العظمى محمد الحسيني الشيرازي في موسوعته "الفقه" ما نصه: (غير الإثنى عشرية من فرق الشيعة كالزيدية والواقفية والفطحية إذا لم يكونوا ناصبين ومعادين لسائر الأئمة ولا سابين لهم طاهرون (¬1)، وكذا المخالفون. أقول] الكلام للشيرازي [: دلت نصوص كثيرة على كفرهم، منها ما عن المفضل بن عمر قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام وعلي ابنه في حجره – إلى أن قال- قلت: هو صاحب هذا الأمر من بعدك؟ قال: نعم، من أطاعه رشد، ومن عصاه كفر). وعن أبي حمزة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: منا الإمام المفروض طاعته من جحده مات يهودياً أو نصرانياً)). ثم ساق الشيرازي روايات كثيرة في تكفير المخالفين تأكيداً لما ذهب إليه من تكفير غير الإثني عشرية (¬2). وليت الأمر يقف عند هذا الحد، فحتى منسك الحج الذي يُفترض فيه أن يكون فرصة للوحدة والالتقاء والأخوة الإسلامية يصر هؤلاء على جعله فرصة للفرقة وللتكفير! ¬

_ (¬1) الحكم بطهارة فئة لا يعني الحكم بإسلامها عند مراجع التقليد كما بين ذلك الشيرازي نفسه حيث يقول في موسوعته "الفقه 4/ 239": (لا تلازم بين النجاسة والكفر، إذ لم يدل دليل شرعي أو عقلي على أنّ كل نجس كافر، وإن سلمنا العكس، وإن كل كافر نجس، فإنّ الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها، إلا إذا كان هناك دليل من الخارج على التساوي نحو كل ناطق إنسان على اصطلاح الأصوليين من التساوي الكلي بينهما). (¬2) الفقه 4/ 259

ففي كتاب "مناسك الحج" لآية الله العظمى فاضل اللنكراني ولآية الله العظمى ميرزا جواد التبريزي (¬1) ولآية الله العظمى وحيد خراساني تتفاجئ وأنت تتصفح الكتاب بدعاء (الزيارة الجامعة) والذي فيه: (... ومن خالفكم فالنار مثواه ومن جحدكم كافر ومن حاربكم مشرك، ومن رد عليكم فى أسفل درك من الجحيم) (¬2). إنّ أولئك الذين يكفرّهم هؤلاء المراجع هم مسلمون موحدون، ذنبهم الوحيد الذي ارتكبوه أنهم لم يعتقدوا ما اعتقده الشيعة الإثنا عشرية في الأئمة الإثني عشر، ولهذا يُكفّرون وتُستحل أعراضهم باللعن تارة وبالسباب تارة أخرى. المفارقة المضحكة والمبكية في آن واحد أن تجد هؤلاء المراجع هم من أكثر الناس انتقاداً للإرهاب والإرهابيين والتكفير والتكفيريين في بياناتهم وتصريحاتهم الإعلامية، وكأنّهم بمنئى عن الإرهاب الفكري وعن الفكر التكفيري في إطروحاتهم وفتاويهم! وما عشت أراك الدهر عجباً! ¬

_ (¬1) الملفت للنظر أنّ (مناسك الحج) لكل من فاضل اللنكراني وجواد التبريزي اللذين نقلت عنهما هما باللغة الفارسية ويحتويان على بعض الزيادات التي ليست في (مناسك الحج) المنشور باللغة العربية لهما مثل (الزيارة الجامعة الكبيرة)، ولا أدري أيندرج هذا تحت باب (التقية المداراتية) كما يراها علماء الشيعة أم أنها غير مقصودة. (¬2) مناسك الحج للنكراني ص250 ومناسك الحج للتبريزي ص307 ومناسك الحج لوحيد خراساني ص259

خطوات نحو إصلاح ما أفسدته الطائفية

خطوات نحو إصلاح ما أفسدته الطائفية إنّ الحقيقة واضحة جلية، لا تحتاج إلى نقاشات مطوّلة تستهلك طاقات الأمة ويُحار فيها الفريقان (السنة والشيعة) إثباتاً ونفياً. لقد كان الشعور يراودني منذ أن دخلت هذا المعترك بأنّ الخط الفاصل بين الحق والباطل والذي تُعرف به الحقيقة من غيرها موجود لا خفاء فيه، ولكننا في غمرة التعصب المذهبي وغياب الموضوعية والتربّي على التراشق بالتهم غفلنا عن إدراكه. وإذا كان الله عز وجل قد وضع بيننا -المسلمين- وبين أهل الكتاب وسائر أهل الملل معايير وأسساً يتفق عليها الطرفان وتقام بها الحجة الظاهرة لأهل الإسلام على الأمم الكافرة، فإنه من غير المعقول أن تُطالب الأمة بالوحدة دون إيجاد أسسٍ تتحد عليها ومعيارٍ يُعرف به الحق من الباطل؟! ومن يتصفح القرآن ويعيش مع آياته العظام ويراه وهو يناقش النصراني واليهودي ويراه وهو يناقش عابد الصنم وعابد القبر والدواب يدرك لأول وهلة بأنّ الله عز وجل لا يترك الحقيقة معمّاة يتخبط الناس في طلبها وسلوك طريقها بل يرسم حداً فاصلاً بين الحق والباطل. وإذا كان الله عز وجل عالم الغيب والشهادة بعلمه الأزلي قد علم أننا سنختلف كأمة مسلمة إلى سنة وشيعة، أيُظن به أن يتركنا دون وضوح تام بين الحق الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وبين الباطل الذي أحدثته الأهواء والعصبيات؟ حاشا رب العزة ذلك. إذاً أين الطريق؟ وأين الحق في قضية كقضية الإمامة إذا كنا كسنة وشيعة لا نثق بأوثق كتب الحديث عند الطرفين؟

فلا الشيعة يؤمنون بصحة روايات أهل السنة ولا أهل السنة يؤمنون بصحة روايات الشيعة. إنّ خيطاً واحداً كان ولا يزال هو الحجة القاطعة التي يُحسم بها مثل هذه الخلافات العقائدية، ذاك هو (القرآن الكريم) الذي أمر الله تعالى المؤمنين بالتمسك به بقوله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (¬1) ووصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (كتاب الله هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة) (¬2). وروى الحر العاملي (¬3) في "وسائل الشيعة 6/ 168" عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (إنّ هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا مأدبته ما استطعتم، إنّ هذا القرآن حبل الله وهو النور البيّن والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن تبعه). وفي "نهج البلاغة" قول الإمام علي: (وإنّ الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنه حبل الله المتين وسببه الأمين) (¬4). وقد ذكر الإمام الرضا يوماً القرآن فعظّم الحجة فيه والآية والمعجزة في نظمه قال: (هو حبل الله المتين وعروته الوثقى وطريقته المثلى المؤدي إلى الجنة والمنجي من النار، لا يخلق على ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية 103 (¬2) صحيح ابن حبان 1/ 330، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬3) محمد بن الحسن بن علي المشْغريّ المعروف بـ (الحر العاملي)، ترجم له الشيخ الأميني في موسوعته "الغدير 11/ 335" فقال: (لا تُنسى مآثره، ولا يأتي الزمان على حلقات فضله الكثار، فلا تزال متواصلة العُرى ما دام لأياديه المشكورة عند الأمة جمعاء أثر خالد، وإنّ من أعظمها كتاب "وسائل الشيعة" في مجلداتها الضخمة التي تدور عليها رحى الشيعة، وهو المصدر الفذّ لفتاوى علماء الطائفة). (¬4) نهج البلاغة ص95 (من خطبة له يحذر من متابعة الهوى) – خطبة رقم (176).

الأزمنة (¬1) ولا يغث على الألسنة لأنه لم يُجعل لزمان دون زمان بل جُعل دليل البرهان والحجة على كل إنسان {لَا يَاتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}) (¬2). فهذه بضعة أحاديث وآثار من كتب الطائفتين تؤكد وبوضوح بالغ بأنّ المراد بحبل الله في الآية الكريمة هو (القرآن الكريم)، وأنّ العصمة من الضلالة والانحراف إنما تكون بالتمسك به. ولهذا كان القرآن الكريم ولا يزال هو الحجة الفاصلة بين الفرق والمذاهب العقائدية المتناحرة. (إنّ من مميزاته الظاهرة الجلية أنه يجعل صاحبه قادراً على نقض الحجج الباطلة بسهولة منقطعة النظير ومن أقرب طريق. ولن يحتاج - بعدُ - إلى كثرة الردود والتفريعات والمناقشات التي لا يحسنها إلا المختصون أو المتدربون، والتي ضيعت الحق على عامة الناس لأنهم يتصورون أنّ معرفته منوطة بالعلماء فقط، فإذا رأى أحد العوام أنه قد انهزم في نقاش أو حصر في مسلك ضيق وبان له تهافت حججه قال: علماؤنا أعلم ولا بد أن لهم ردوداً لا أعرفها وينهي نقاشه باقتراح مؤداه عرض الأمر على أحد أولئك العلماء من أجل حسمه ومعرفة القول الفصل فيه، وهو لا يدري أنّ مرجعية المسلم في أصول دينه وأساسياته قرآنية وليست بشرية. وهكذا تضيع معالم الحق وتتشوش صورته في ذهنه ما دام هذا الهاجس في نفسه، لأنه يتصور أنّ الحق مع من غلب في النقاش، مع أنّ هذا ليس شرطاً مطّرداً لأنّ الغلب قد يكون للأعلم بأساليب الجدل، لا للأعلم بالحق! ¬

_ (¬1) خلق الثوب أي: بلي (¬2) عيون أخبار الرضا 1/ 137

لماذا لم يذكر الأئمة في القرآن؟

وإلى هذا أشار الإمام مالك رحمه الله تعالى حين جاءه رجل يقول له: هلم أجادلك. قال: فإن غلبتك؟ قال: أتبعك. قال: فإن غلبتني؟ قال: تتبعني. قال: فإن جاء رجل ثالث فغلبنا؟ قال: نتبعه! فقال الإمام: هذا أمر يطول، أفكلما جاءنا رجل أجدل من رجل اتبعناه! أنت رجل شاك فاذهب إلى رجل شاك مثلك) (¬1). لماذا لم يُذكر الأئمة في القرآن؟ لقد أخبر الله تعالى في كتابه الكريم أنه نزّل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن تبياناً لكل شيء، فقال عز من قائل {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (¬2). وبيّن في موضع آخر من كتابه العزيز أنه لم يفرّط في هذا الكتاب من شيء فقال {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء} (¬3). فما من قضية أصولية يقوم عليها الدين إلا نص عليها القرآن الكريم وبيّنها أحسن بيان. وما أجمل قول الإمام الصادق: (إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى والله ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبدٌ أن يقول: لو كان هذا أُنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه) (¬4). ¬

_ (¬1) المنهج القرآني الفاصل بين أصول الحق وأصول الباطل ص23 - 24 بتصرف (¬2) سورة النحل آية 89 (¬3) سورة الأنعام آية 39 (¬4) الكافي- كتاب (فضل العلم) - (باب الرد إلى الكتاب والسنة) - حديث رقم (1) وتفسير القمي 2/ 452

فإن كان الأمر كذلك فإنّ المرء ليتساءل عن سند عقيدة (الإمامة)، فكتاب الإسلام العظيم (القرآن) تُذكر فيه مرات وتؤكد كرات الأصول التي يقوم عليها دين الإسلام، ولا ذكر فيه لشأن الأئمة الإثني عشر أو الإمامة من بعد الرسول رغم دعوى الشيعة الإثني عشرية كون الإمامة من الأصول بل من أعظم الأصول! أوليس من العجيب أن يتحدث القرآن عن الجهاد تارة وعن السلم تارة أخرى ويناقش القضايا الأخلاقية ويفصّل في بعض الفقهيات كطريقة الوضوء والتيمم ويُصنّف أنواع المحرّمات من الطعام والشراب ثم يتجاهل إمامة الإثني عشر التي يصفها آل كاشف الغطاء بأنها (منصب إلهي كالنبوة)؟! وكأني بالإمام علي بن أبي طالب وهو يرد على الخوارج في استدلالاتهم العقائدية التي لم ينطق بها القرآن يرد كذلك على الذين جعلوا إمامة الإثني عشر أعظم شيء في الدين وفضلوا الأئمة على المرسلين، في حين أنّ القرآن لم ينطق بها ولم يتطرق إليها! يقول الإمام علي بن أبي طالب: (أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟! أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟! أم أنزل الله سبحانه ديناً فقصّر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه يقول {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء} وفيه تبيان كل شيء) (¬1). ¬

_ (¬1) نهج البلاغة ص61 رقم (18) (ومن كلام له عليه السلام في ذم اختلاف العلماء في الفتيا).

الإمام والإمامة في القرآن الكريم

الإمام والإمامة في القرآن الكريم (الإمام في اللغة لفظ مشترك بين ثلاثة معان هي: 1 - القدوة. 2 - الكتاب. 3 - الطريق. جاء في "مختار الصحاح" للرازي: (الإمام): الصقع من الأرض والطريق، قال الله تعالى {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} (¬1). و (الإمام): الذي يُقتدى به، وجمعه (أئمة). وقوله تعالى {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين} (¬2) قال الحسن: في كتاب مبين. فأصل معنى اللفظ ما يؤتم به ويُتّبع. وبما أنّ (القدوة والكتاب والطريق) تشترك في هذا المعنى لذا أُطلق عليها هذا اللفظ. فالقدوة من يؤتم به ويُتبع محقاً كان أم مبطلاً، والطريق يتبعه السالك ليصل إلى غايته وكذلك الكتاب تتبع ألفاظه وسطوره ومقاصده للوصول إلى المراد. ويُعرف المراد من اللفظ المشترك من كلام المتكلم بقرائن يشير لها المتكلم في كلامه وإلا لم يكن الكلام فصيحاً بل مُبهماً مشكلاً. مثال: لو أخذنا لفظ (العين) كمثال، نجده في أصله اللغوي مشتركاً بين عدة معان منها: العين الباصرة والجاسوس وعين الماء. تقول: ذهبت إلى طبيب العيون. وأمسكنا بعين للعدو. وشربنا من عين صافية. ¬

_ (¬1) سورة الحجر آية 79 (¬2) سورة يس آية 12

ولا يصح حمل (العين) في اللفظ الأول على الجاسوس ولا في الثاني على عين الماء ولا عين الإنسان في اللفظ الثالث للقرائن اللفظية المانعة من ذلك والحاملة على تفسير (العين) الأولى بعين الإنسان، والثانية بالجاسوس، والثالثة بعين الماء، اللهم إلا عند غير العقلاء أو المعاندين. أرأيت ما قصد يوسف عليه السلام بكلمة (الرب) في قوله الذي حكاه الله عنه {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} (¬1) وقوله {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} (¬2)، هل يحتمل السياق وقرائنه أن نفسّر لفظ (الرب) هنا بغير الملك؟! وبنظرة استقرائية لكتاب الله تعالى نجد أنّ لفظ (الإمام) قد ذُكر وأريد به معنى (الشخص المقتدى به) في آيات عدة هي: قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (¬3). وقوله {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬4). وقوله {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (¬5) وقوله {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} (¬6). ¬

_ (¬1) سورة يوسف آية 42 (¬2) سورة يوسف آية 41 (¬3) سورة الفرقان آية 74 (¬4) سورة الأنبياء آية 73 (¬5) سورة البقرة آية 124 (¬6) سورة التوبة آية 12

وقوله {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّار} (¬1) فالإمام هنا معناه واحد وهو القدوة في الخير أو الشر. وقد أتى لفظ (الإمام) بمعنى (الكتاب) بعدة أيات أُخر كما في قوله تعالى {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً} (¬2) وقوله {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} (¬3) وقرينته الصارفة لمعنى اللفظ هنا إلى الكتاب هو تتمة الآية نفسها التي تقول {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}، وقد جاء في أول السورة {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً. اقْرَا كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} (¬4) وهو بالضبط كقوله تعالى {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬5). أما المعنى الثالث للإمام فهو بمعنى (الطريق) كما في قوله تعالى {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ. فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} (¬6) أي إنّ آثار قرى قوم شعيب وقرى قوم لوط المذكورتين قبلهم لبطريق واضح، يأتمون به في سفرهم، ويهتدون به إلى غايتهم) (¬7). فهذه ثلاثة معانِ للإمام في القرآن لا رابع لها فيه. ¬

_ (¬1) سورة القصص آية 41 (¬2) سورة هود آية 17 (¬3) سورة الإسراء آية 71 (¬4) سورة الإسراء آية 13 (¬5) سورة الجاثية آية 28 (¬6) سورة الحجر آية 79 (¬7) المنهج القرآني الفاصل بين أصول الحق وأصول الباطل ص214 - 221 بتصرف.

أما المعنى الرابع الذي هو (شخص معصوم مُعين من قِبل الله تعالى المفترض الطاعة على الخلق) فهو معنى مخترع لا وجود له في لغة العرب ولا اصطلاح القرآن. إنه من السهل على أحدنا أن يجمع كل آية في القرآن تضمنت كلمة (إمام) أو (أئمة) ويجعلها دليلاً على الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كانت الآية تتحدث عن أنبياء سابقين أو رجال لا علاقة لهم بالأئمة الإثني عشر لا من قريب ولا من بعيد. ومتى ما ألزم نفسه بهذا المنهج في احتجاجه واستنباطه فإنّ هذا المنهج لا بد أن يكون سارياً في كل الآيات التي تتكلم عن الأئمة، لا أن تكون هناك انتقائية للنصوص. فالله عز وجل الذي ذكر لفظ (إمام) و (أئمة) في القرآن الكريم استخدم اللفظ ذاته في المؤمن والكافر، فقال {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬1) وقال واصفاً الكفار الملعونين {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ} (¬2). فلو كان لفظ (أئمة) علماً على الأوصياء، ومنصب إلهي من الله تعالى لما جاز استخدام اللفظ ذاته في صنف ممن يدعون إلى النار. وحُق لنا أن نسأل: لماذا لم يصرّح القرآن الكريم بأنّ علياً وصي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كي لا يُترك المجال لأحد أن يفتح فمه وينكر الإمامة النصية بعد رسول الله؟ أوليس من العجيب أن يُظن في الله تعالى أنه قد جعل من قوله {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} التي تتحدث عن بني إسرائيل دليلاً على إمامة الأئمة الإثني عشر بعد محمد عليه الصلاة والسلام؟!! ¬

_ (¬1) سورة السجدة آية 24 (¬2) سورة القصص آية 41

أيعجز رب العزة على أن ينزل آية واضحة وصريحة في الإمامة بعد رسول الله، تكون حجة على منكر الإمامة؟!! إنّ الذين يستدلون بهذه الآيات على إمامة الأئمة الإثنى عشر هم أنفسهم الذين يرفضون القياس في الفقه بحجة أنّ (أول من قاس ابليس) (¬1) فما بالهم يقيسون في العقيدة وفي القرآن؟! وخلاصة الأمر أن يُقال: إنّ الإمامة التي يذهب إليها الشيعة الإثنا عشرية لا وجود لها في كتاب الله أبداً، ولما عجز الإماميون عن إثباتها لجأوا إلى التأويلات الباطنية والتلاعب في كتاب الله وضرب بعضه ببعض من أجل سد هذه الثغرة الكبيرة. والإمامة شرعاً لا تخلو أن تكون إحدى ثلاث: إما إمامة علم أو إمامة هدى أو إمامة اقتداء. فأما إمامة العلم فثابتة لأئمة أهل البيت كما هي ثابتة لغيرهم من أهل العلم والتقوى قديماً وحديثاً، فإنّ إمامة العلم ليست حكراً على فئة دون أخرى أو قبيلة دون أخرى. وأما إمامة الهدى فإنّ الله تعالى لم يشترط الله تعالى فيها العصمة، فقد جعلها الله تعالى في بني اسرائيل إذ يقول {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬2) بل جعلها لكل مستضعف كما قال عز من قائل {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (¬3). ¬

_ (¬1) تهذيب الأحكام للطوسي 4/ 267 (¬2) سورة السجدة آية 24 (¬3) سورة القصص آية 5

وأما إمامة الاقتداء فقد نص تعالى على أنه جعلها في إبراهيم عليه السلام وهو نبي معصوم وجعلها كذلك في أتباعه المؤمنين وهم غير معصومين لكنهم مؤمنون طائعون فقال عز من قائل {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (¬1). ولو كانت حكراً على المعصومين لما أمر الله تعالى جميع عباده بأن يطلبوها ويتطلعوا إليها وما كان ليطلب منهم ما لا يُمكن أن ينالوه، إذ يقول {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة آية 4 (¬2) سورة الفرقان آية 74

القرآن وعقيدة الإمامة الشيعية

القرآن وعقيدة الإمامة الشيعية من يتأمل كتاب الله الكريم الذي جعله الله نوراً تهتدي به العقول والقلوب، سيجد أنّ الإيمان بكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين يحصل به مقصود الإمامة في حياته وبعد مماته. (فالذي يؤمن بأنّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو رسول الله حقاً وأنّ طاعته واجبة إن قيل بأنه يدخل الجنة استغنى عن مسألة الإمامة ولم يلزمه طاعة سوى الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن قيل لا يدخل الجنة إلا باتباعه الإمام كان هذا خلاف نصوص القرآن الكريم، فإنه سبحانه وتعالى أوجب الجنة لمن أطاع الله ورسوله في غير موضع من القرآن ولم يعلق دخول الجنة بطاعة إمام أو إيمان به أصلاً كمثل قوله تعالى {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} (¬1) وقوله تعالى {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2) (¬3). ولو كانت الإمامة أصلاً للإيمان الذي لا يقبل الله عمل العبد إلا به كما تقول الروايات الشيعية، لذكر الله عز وجل الإمامة في تلك الآيات وأكّد عليها لعلمه بحصول الخلاف فيها بعد ذلك، ولا أظن أحداً سيأتي ليقول لنا بأنّ الإمامة في الآيات مذكورة ضمناً تحت طاعة الله ¬

_ (¬1) سورة النساء آية 69 (¬2) سورة النساء آية 13 (¬3) منهاج السنة النبوية 1/ 87 بتصرف.

وطاعة الرسول لأنّ في هذا تعسفاً في التفسير، بل يكفي بياناً لبطلان ذلك أن نقول بأنّ طاعة الرسول في حد ذاتها هي طاعة للرب الذي أرسله، غير أنّ الله عز وجل لم يذكر طاعته وحده سبحانه ويجعل طاعة الرسول مندرجة تحت طاعته بل أفردها لكي يؤكد على ركنين مهمين في عقيدة الإسلام (طاعة الله، وطاعة الرسول)، وإنما وجب ذكر طاعة الرسول بعد طاعة الله كشرط لدخول الجنة لأنّ الرسول مبلّغ عن الله وأنّ طاعته طاعة لمن أرسله أيضاً، ولمّا لم يثبت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جانب التبليغ عن الله، فإنّ الله عز وجل علّق الفلاح والفوز بالجنان بطاعة رسوله والتزام أمره دون الآخرين. وثمت دليل قاطع يقطع على الشاك دربه ويزيل عنه الشك وهو قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (¬1). فإنّ الله عز وجل أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر منهم، لكنه جعل الرد عند التنازع إلى الله والرسول دون أولي الأمر، لأنّ الله عز وجل هو الرب، والرسول هو المبلغ عن الله وهو معصوم لا يخطئ في بيان الحق عند التنازع، أما أولو الأمر فليسوا بمعصومين وإلا لجعل الله الرد إليهم، لكن الله عز وجل أظهر بهذه الآية أنهم كسائر الناس يرجعون في التنازع إلى كتاب الله وسنة نبيه، وقد يكونون خصوماً لأحد ويكون الحق معه حين الرد إلى كتاب الله وسنة نبيه. فأين يذهب القائلون بنظرية الإمامة من دلالة هذه الآية الكريمة؟! ¬

_ (¬1) سورة النساء آية 59

القول بالإمامة الإلهية بعد النبي طعن في ختم نبوته

ولماذا يتعمدون اجتزاء الآية الكريمة عند الاستدلال بها فيذكرون الجزء الأول الدال على وجوب طاعة الله وطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، ويتعمدون إغفال الجزء الثاني من الآية الذي يهدم نظريتهم؟! القول بالإمامة الإلهية بعد النبي طعن في ختم نبوته تأملت كثيراً الروايات الشيعية التي تتحدث عن الأئمة وفضائلهم وتفكرت في الحكمة التي من أجلها جعل الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين ثم تساءلت ما (إذا كان الأئمة الإثنا عشر هم (أبواب الله والسبل إليه) (¬1) و (حُجب الرب والوسائط بينه وبين الخلق) (¬2) و (أنّ الناس لا يهتدون إلا بهم وأنهم الوسائل بين الخلق وبين الله وأنه لا يدخل الجنة إلا من عرفهم) (¬3) وأنهم (حفظة الشرع والقوامون عليه حالهم في ذلك حال النبي) (¬4) وأنه (لا يجوز الرد عليهم، والراد عليهم راد على الرسول والراد على الرسول كالراد على الله تعالى) (¬5) وأنّ (الأحكام الشرعية الإلهية لا تُستقى إلا من نمير مائهم ولا يصح أخذها إلا منهم) (¬6) وأنهم (يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل) (¬7) وأنّ ¬

_ (¬1) عقائد الإمامية للمظفر ص69 (¬2) بحار الأنوار 23/ 97 (¬3) بحار الأنوار 23/ 99 (¬4) عقائد الإمامية للمظفر ص67 (¬5) نفس المصدر (¬6) نفس المصدر (¬7) الكافي 1/ 255

(الأئمة لم يفعلوا شيئاً إلا بعهد من الله عز وجل وأمر منه لا يتجاوزونه) (¬1) وأنّ (الملائكة تدخل بيوتهم وتطأ بسطهم وتأتيهم بالأخبار) (¬2) وأنهم (يقدرون على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وجميع معجزات الأنبياء) (¬3) و (أنّ الجن خدامهم ويظهرون لهم ويسألونهم عن معالم دينهم) (¬4) وأنّ (عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها) (¬5) و (أنه ليس شيء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الأئمة) (¬6) و (أنهم يخاطبون ويسمعون الصوت ويأتهم صور أعظم من جبرئيل وميكائيل) (¬7) و (أنّ ما فوض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد فوّض إلى الأئمة عليهم السلام) (¬8) فما معنى أن يكون محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين إذا كانت صلاحيات النبي كلها مستمرة بعده؟!! ما معنى أن يكون رسول الله خاتم الأنبياء وهناك رجال بعده معصومون وملهمون وواجبوا الاتباع ولهم من المعجزات الدالة على إمامتهم ما للنبي من معجزات تدل على نبوته بل أعظم من هذا! ولماذا نصّ القرآن على عقيدة ختم النبوة ما دام الأمر كذلك؟!! ¬

_ (¬1) الكافي 1/ 279 (¬2) الكافي 1/ 393 (¬3) بحار الأنوار 27/ 29 (¬4) بحار الأنوار 27/ 13 - 24 ومثله في الكافي 1/ 394 فيه (7) أحاديث. (¬5) الكافي 1/ 227 (¬6) الكافي 1/ 399 (¬7) بصائر الدرجات ص251 (¬8) بصائر الدرجات ص403

هل القضية هي مجرد إيقاف استخدام مصطلح (نبي) واستبداله بمصطلح (إمام) بحيث لا يبقى فرق بين النبي والإمام إلا بالاسم فقط؟!! هذا إذا تناسينا النصوص التي تفضّل الإمام على النبي! إنّ علماء الشيعة يدركون بأنّ إضفاء قدسية كهذه على الأئمة وإعطاءهم هذه المزايا التي لم تُعرف إلا في الأنبياء يجعل التفريق بينهم صعباً للغاية!! يقول الشيخ محمد رضا المظفر في "عقائد الإمامية": (نعتقد أنها (أي الإمامة) كالنبوة لطف من الله تعالى، فلا بد أن يكون في كل عصر إمام هاد يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه من الصلاح والسعادة في النشأتين، وله ما للنبي من الولاية العامة على الناس لتدبير شؤونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم ورفع الظلم عنهم والعدوان من بينهم) (¬1). ويقول الإمام محمد آل كاشف الغطاء في كتابه "أصل الشيعة وأصولها": (إنّ الإمامة منصب إلهي كالنبوة فكما أنّ الله يختار للنبوة من يشاء فكذلك يختار للإمامة من يشاء ويأمر نبيه بالنص عليه) (¬2). وقد وردت رواية في "الكافي" تحصر الفرق بين النبوة والإمامة في طريقة الوحي، فعن الإمام الرضا قال: (الفرق بين الرسول والنبي والإمام: أنّ الرسول الذي ينزل عليه جبرائيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي، وربما رأى في منامه نحو رؤيا ابراهيم عليه السلام ¬

_ (¬1) عقائد الإمامية ص65 (¬2) أصل الشيعة وأصولها ص211

والنبي ربما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص) (¬1). قال المظفّر في "الشافي شرح أصول الكافي": (الحديث صحيح إسناده) (¬2). وروى الكليني عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (الأئمة بمنزلة رسول الله إلا أنهم ليسوا بأنبياء ولا يحل لهم من النساء ما يحل للنبي فأما ما خلا ذلك فهم بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!!) (¬3). وقال المجلسي تعليقاً على هذه الرواية: (يدل ظاهراً على اشتراكهم مع النبي صلى الله عليه وآله في سائر الخصائص سوى ما ذكر) (¬4). إزاء هذه الأحاديث الصريحة التي تعد الفرق بين النبي والإمام شيئاً لا يُذكر ولا يؤثر سلباً أو إيجاباً على الناس الذين أُرسل إليهم النبي أو الإمام، لا يسع العلامة المجلسي إلا أن يصرّح بقوله: (ولا نعرف جهة لعدم اتصافهم (¬5) بالنبوة إلا رعاية جلالة خاتم الأنبياء، ولا يصل عقولنا إلى فرق بين النبوة والإمامة) (¬6). فاتصاف الأئمة بالإمامة بدلاً من النبوة كما يراه عالم من كبار علماء الشيعة ليس إلا رعاية لمقام محمد صلى الله عليه وآله وسلم النبي الخاتم فحسب!! وعلى هذا المنوال ترى التصريحات الشنيعة عند علماء الإثني عشرية في هذا الباب. ¬

_ (¬1) الكافي- كتاب الحجة- (باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث) – حديث رقم (2). (¬2) الشافي شرح أصول الكافي 3/ 29 (¬3) الكافي-كتاب الحجة- (باب في أنّ الأئمة بمن يشبهون ممن مضى وكراهية القول فيهم بالنبوة) –ح (7). (¬4) بحار الأنوار 27/ 50 (¬5) أي الأئمة (¬6) بحار الأنوار 26/ 82

فقد صرّح الشيخ المفيد بهذه الحقيقة قائلاً: (مَنَعَ الشرع من تسمية أئمتنا بالنبوة دون أن يكون العقل مانعاً من ذلك!!) (¬1). فهو يرى أنه لولا الشرع لأطلق الشيعة الإثنا عشرية على الأئمة الإثني عشر لفظة (النبي) دون أدنى حرج إذ العقل يجوّزه! وقد صرّح صدر الدين الشيرازي في "الحجة" بما هو أفظع إذ يقول وبكل جرأة: (فيجب أن لا تنقطع الإمامة التي هي والنبوة حقيقة واحدة بالذات متغايرة بالإعتبار عن ذريته، بل لا بد أن لا ينقطع معنى النبوة وما يجري مجراه عن وجه الأرض أبداً!!) (¬2). إذاً ما أهمية عقيدة ختم النبوة طالما أنّ الوظائف والخصائص التي اختص بها الأنبياء دون الناس من عصمة وتبليغ عن الله ومعجزات وغيرها لم تتوقف بوفاة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل امتدت من بعده متمثلة باثني عشر رجلاً؟!! ناقشت في هذه القضية كثيراً من الشيعة ولم أجد إجابة مقنعة أُرضي بها فضولي على الأقل إلا أنّ أحد طلبة الحوزة أجابني بقوله بأنّ الفرق هو أنّ الأئمة لا يُوحى إليهم. وإذا كان الأمر كذلك فماذا يعني ما ترويه كتب الحديث الشيعية من أنّ الأئمة لا يفعلون شيئاً إلا بعهد من الله وأمر لا يتجاوزونه، أليس هذا وحياً؟! وماذا عن الروايات السابقة التي تنص على نزول الوحي على الإمام وتحصر الفرق بين النبي والإمام في طريقة الوحي فقط أو حِلية النساء؟! ¬

_ (¬1) أوائل المقالات ص49 - 50 (¬2) كتاب الحجة ص51

وماذا عن ما يرويه الكليني عن الإمام جعفر الصادق في تفسيره لقوله تعالى {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيم}: (... إنه لينزل في ليلة القدر إلى ولي الأمر تفسير الأمور سنة سنة يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا وكذا وفي أمر الناس بكذا وكذا ...) (¬1) أليس هذا وحياً؟! ولماذا نختلف في توجيه النصوص وبين يدينا روايات واضحة من الأئمة أنفسهم تبين الفرق بين الإمام والنبي؟ روى الكليني عن الأحول قال: سألت أبا جعفر (ع) عن الرسول والنبي والمحدّث، قال: (الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلاً (¬2) فيراه ويكلّمه فهذا الرسول، وأما النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان رأى رسول الله صلى الله عليه وآله من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل عليه السلام من عند الله تعالى بالرسالة، وكان محمد صلى الله عليه وآله حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل ويُكلّمه بها قُبلاً ومن الأنبياء من جمع له النبوة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلّمه ويُحدّثه من غير أن يكون يرى في اليقظة، وأما المحدّث فهو الذي يُحدّث فيسمع، ولا يعاين ولا يرى في منامه) (¬3). وقد صححه المجلسي في "مرآة العقول 2/ 289". وروى الكليني كذلك حديثاً مشابهاً له عن إسماعيل بن مرّار قال: كتب الحسن بن العبّاس المعروفي إلى الرضا عليه السلام: جعلت فداك، أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟ قال: فكتب أو قال: الفرق بين الرسول والنبي والإمام، أنّ الرسول الذي ينزل ¬

_ (¬1) الكافي-كتاب الحجة - (باب في شأن {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر} وتفسيرها) - حديث رقم (3). (¬2) أي عياناً ومقابلة (¬3) الكافي-كتاب الحجة - (باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث) - حديث رقم (3).

عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم عليه السلام، والنبي ربما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص (¬1)، والروايات في هذا كثيرة (¬2). وبهذا يتبين الفرق بين الأنبياء والرسل والأئمة في الوحي، فكلهم يُوحى إليهم ولكن الاختلاف إنما يكون في نمط وطريقة الإيحاء، وسواء كان الوحي عن طريق جبريل عليه السلام أو بسماع صوت فكل هذا وحي، والناس حينما تتبع نبياً أو رسولاً أو حتى إماماً لا تهتم بالطريقة التي جاء بها الوحي بل بكونه وحياً من الله والناس ملزمة باتباعه وإلا كانوا بذلك عاصين للموحى إليه وبالتالي عاصين لله عز وجل، فأي فائدة جنيناها من اعتقاد ختم نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا كانت المسألة كذلك؟!! وليت المسألة تقتصر على ما سبق، بل إنّك لتجد أنّ مقام الأئمة عند الشيعة أعلى وأسمى من مقام الأنبياء باستثناء محمد عليه الصلاة والسلام كما دلّت على ذلك الروايات المستفيضة عن الأئمة المعصومين وأقوال كبار علماء الإمامية السابقين واللاحقين. يقول المجلسي أيضاً: (اعلم أنّ ما ذكره رحمه الله (¬3) من فضل نبينا وأئمتنا صلوات الله عليهم على جميع المخلوقات وكون أئمتنا أفضل من سائر الأنبياء هو الذي لا يرتاب فيه من تتبع أخبارهم عليهم السلام على وجه الإذعان واليقين، والأخبار في ذلك أكثر من أن ¬

_ (¬1) الكافي- كتاب الحجة - (باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث) - حديث رقم (2). (¬2) انظر: الكافي 1/ 176 وبحار الأنوار وغيرها. (¬3) يعني (ابن بابويه القمي) المعروف بـ (الشيخ الصدوق).

تُحصى .. وعليه عمدة الإمامية ولا يأبى ذلك إلا جاهل بالأخبار) (¬1). وقد صنف علماء الإمامية في هذا مصنفات كثيرة (¬2). وهي المقالة التي قررها الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية بقوله: (إنّ من ضروريات مذهبنا أنّ لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرّب ولا نبي مرسل) (¬3). وإذا كانت المساواة بين الإمام والنبي بحد ذاتها كفيلة بنسف عقيدة ختم النبوة، فكيف إذا كانت أعظم من مقام النبوة؟!! إنّ تعارضاً صارخاً كهذا بين عقيدة الإمامة وعقيدة ختم النبوة يجلي بكل وضوح بطلان عقيدة الإمامة {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} (¬4). ¬

_ (¬1) بحار الأنوار 26/ 297 - 298 (¬2) مثل كتاب تفضيل الأئمة على الأنبياء، وكتاب تفضيل علي عليه السلام على أولي العزم من الرسل (كلاهما لهاشم البحراني، المتوفى سنة 1107هـ)، وتفضيل الأئمة على غير جدهم من الأنبياء لمحمد كاظم الهزار وتفضيل أمير المؤمنين علي على من عدا خاتم النبيين لمحمد باقر المجلسي، انظر "الذريعة 4/ 358 - 360". (¬3) الحكومة الإسلامية للخميني ص52 (¬4) سورة النساء آية 82

نصوص شيعية اشترطت العدل في الحاكم لا العصمة

نصوص شيعية اشترطت العدل في الحاكم لا العصمة إنّ من يستقرئ التراث الشيعي الإثنى عشري وتطوره التاريخي عبر العصور يدرك لا محالة أنّ القول بنظرية عصمة الإمام إنما هو نتيجة متأخرة لتطورات طرأت على الحركات الشيعية القائمة آنذاك، أوجدها تيار مغالٍ وجد طريقه لبث سمومه بين أتباع أهل البيت. إنّ من يتناسى الكتب التي ألفها علماء الشيعة الإثني عشرية دعماً لفكرة العصمة ويبحث بتجرد في التراث الشيعي الذي نقله هؤلاء العلماء بأنفسهم سيجد روايات كثيرة لا يروق لعلماء الشيعة اليوم النظر فيها وتأملها بحيادية. فقد روى الطوسي في "تهذيب الأحكام" وابن بابويه القمي في "علل الشرائع" عن الإمام جعفر الصادق عن أبيه (ع) أنه قال: ذُكرت الحرورية عند علي (ع) فقال: (إن خرجوا على جماعة أو إمام عادل فقاتلوهم وإن خرجوا على إمام جائر فلا تُقاتلوهم فإنّ لهم في ذلك مقالاً) (¬1). وأنت ترى أنّ الرواية لا تشير لا من قريب ولا من بعيد إلى العصمة وإنما تتكلم بكل وضوح عن العدل والجور. فلماذا لم يقل الإمام علي: إن خرجوا على إمام معصوم فقاتلوهم وإن خرجوا على غيره فلا تقاتلوهم، أو قال: إن خرجوا على الأئمة الإثني عشر فقاتلوهم وإن خرجوا على غيرهم فلا تقاتلوهم؟ ¬

_ (¬1) تهذيب الأحكام 6/ 145 (باب قتال أهل البغي من أهل الصلاة) - حديث رقم (7) وعلل الشرائع 2/ 603 - حديث رقم (71).

وفي هذا يذكر الشيخ الرضي في "نهج البلاغة" أنّ الإمام علياً لما اجتمع الناس وشكوا له ما نقموه على عثمان وسألوه مخاطبته واستعتابه دخل عليه فقال: (إِنَّ النَّاسَ وَرَاءِي وَقَدِ اسْتَسْفَرُونِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ وواللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ ولا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لا تَعْرِفُهُ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ، مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْءٍ فنخبرك عنه ولا خَلَوْنَا بِشَيْءٍ فَنُبَلِّغَكَهُ وَقَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا وَسَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم كَمَا صَحِبْنَا ومَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ولا ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الْحَقِّ مِنْك وأَنْتَ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَشِيجَةَ رَحِمٍ مِنْهُمَا وَقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِهِ مَا لَمْ يَنَالا (¬1) فَاللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ فَإِنَّكَ وَاللَّهِ مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمًى ولا تُعَلَّمُ مِنْ جَهْلٍ، وإِنَّ الطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ وَإِنَّ أَعْلامَ الدِّينِ لَقَائِمَةٌ فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ هُدِيَ وهَدَى فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً وأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً وإِنَّ السُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ لَهَا أَعْلامٌ وإِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ لَهَا أَعلام، وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ فَأَمَاتَ سُنَّةً مَاخُوذَةً وأحيا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً) (¬2). وكلام الإمام علي هاهنا واضح وضوح الشمس ولا يحتاج إلى بيان. أما النوري الطبرسي فقد روى في "مستدرك الوسائل" عن الإمام علي الهادي قَالَ: (إِنَّ لله عز وجل جنةً ادّخرها لثلاثٍ: إمام عادل ورجل يحكّم أخاه المسلم في ماله ورجل يمشي لأخيه المسلم في حاجة قُضيت له أو لم تُقضَ) (¬3). ¬

_ (¬1) لا أدري أين الشيعة من هذا التصريح الهام الذي يبين فيه علي بن أبي طالب فضل عثمان بن عفان ومصاهرته لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه؟! (¬2) نهج البلاغة ص234 رقم (164) (ومن كلام له (ع) لما اجتمع الناس إليه وشكوا ما نقموه على عثمان). (¬3) مستدرك الوسائل 12/ 408 وكتاب المؤمن ص53

وروى أيضاً عن الإمام علي أنه قال: (عليكم بالجهاد في سبيل الله مع كل إمام عادل، فإنّ الجهاد في سبيل الله بابٌ من أبواب الجنّة) (¬1). وروى ابن بابويه في "ثواب الأعمال" عن الإمام جعفر الصادق قال: (ثلاثة يدخلهم الله الجنة بغير حساب إمام عادل وتاجر صدوق وشيخ أفنى عمره في طاعة الله) (¬2). وروى أيضاً عن الإمام جعفر الصادق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ في الجنة درجة لا ينالها إلا إمام عادل أو ذو رحم وصول أو ذو عيال صبور) (¬3). وروى أيضاً عن الإمام جعفر الصادق عن أبيه عن جده عن الإمام علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في وصيته له: (يا علي، أربعة لا ترد لهم دعوة إمام عادل ووالد لولده والرجل يدعو لأخيه بظهر الغيب والمظلوم يقول الله جل جلاله وعزتي وجلالي لأنتصرن لك ولو بعد حين) (¬4). وروى أيضاً عن سلمة بن كهيل رفعه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (سبعة في ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل تصدق بيمينه فأخفاها عن شماله) إلى آخر الحديث (¬5). وروى ابن فتال النيسابوري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أحب الناس يوم القيامة وأقربهم من الله مجلساً إمام عادل، إنّ أبغض الناس إلى الله وأشدهم عذاباً ¬

_ (¬1) مستدرك الوسائل 11/ 16 وبحار الأنوار 97/ 50 (¬2) ثواب الأعمال ص133 (ثواب الإمام العادل والتاجر الصدوق والشيخ الذي يفني عمره في طاعة الله). (¬3) الخصال ص93 (في الجنة درجة لا ينالها إلا ثلاثة) الخصال ص93 (في الجنة درجة لا ينالها إلا ثلاثة). (¬4) الخصال ص197 (أربعة لا ترد لهم دعوة). (¬5) الخصال ص343 ومعدن الجواهر ص 58 (باب ذكر ما جاء في سبعة).

الأحلام لا تصلح لأن تكون دستورا

إمام جائر) (¬1) وفي رواية (إنّ أقرب الناس إلى الله تعالى وأحبهم إليه وأدناهم منه مجلساً يوم القيامة إمام عادل) (¬2). إنّ كل هذه الروايات الشيعية المتظافرة كافية بحد ذاتها لإثبات أنّ أئمة أهل البيت كانوا يشترطون في إمام المسلمين العدل لا العصمة. الأحلام لا تصلح لأن تكون دستوراً الحديث عن خليفة معصوم ليس نبياً ولا رسولاً يعود بذاكرتي إلى ما قرأته قديماً عن المدينة الفاضلة التي لم ولن توجد إلا في مخيلة أفلاطون. فمن السهل على المرء أن يعيش في برج عاجي، يجول بفكره هنا وهناك ويعيش جنة أرضية في مخيلته تؤنسه في وحشته وتسلي نفسه ويريح بها ضميره، خصوصاً إذا ما كان يتقلب في مجتمعات عاشت على المظالم منذ زمن بعيد (¬3)، من حقه أن يريح فكره ويعيش حُلمه، ولسنا نلومه على ذلك، لكن أن يفرض هذه الأحلام على الناس جميعاً ويكفّر من لا يعيش معه هذا ¬

_ (¬1) روضة الواعظين ص466 (¬2) عوالي اللآلي 1/ 372 (¬3) ولذا أرجّح أنّ سبب نشوء نظرية العصمة كان ردة فعل لمظالم وقعت على معتدلي الشيعة آنذاك من جهة السلطة الحاكمة ومن جهة غلو النواصب في الطعن في الإمام علي وأهل البيت بالإضافة إلى مقتل الأئمة والعلماء من أهل البيت فوجد المتطرفون والغلاة طريقاً لبث غلوهم، ولعل حرص بعض الحكام الأمويين والعباسيين على إبراز أنفسهم كظل الله في الأرض، وادعاءهم أنهم الأحق بالخلافة من غيرهم سبب رئيسي لتطرف شيعي مقابل جعل الخلافة حقاً لاثني عشر فاضلاً من أهل البيت دون سائر الناس بل دون سائر أهل البيت وجعل العصمة شرطاً في الخلافة وادعى العصمة في الإثنى عشر باستخدام نصوص لا تمُت بصلة إلى موضوع العصمة كآية التطهير وحديث الكساء كما سيأتي.

الخيال وذاك الوهم، جاعلاً آماله وظنونه جزءاً لا يتجزأ من الدين يوالي ويعادي الناس عليه فهذا ما يحتاج منا إلى وقفة تأمل. تُرى لو جاز للأئمة الإثني عشر أن يتولوا الخلافة، أترى هؤلاء الناس الذين يعتقدون فيهم العصمة ولا يجوّزون عليهم الخطأ ويدندنون حول هذا الكلام ليل نهار، أتراهم سيصمدون على رأيهم هذا إذا ما رأوا من هؤلاء الأئمة ما لا ينبغي أن يحصل أم أنه سرعان ما تنشئ المعارضة لبعض القرارات والأحكام؟ هذا الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب –وهو إمام معصوم عند الإمامية- لما تولى الخلافة زمناً يسيراً، وصالح معاوية بن أبي سفيان على الخلافة ماذا فعل فيه شيعته الذين يزعمون عصمته؟ نادوه بـ (يا مذل المؤمنين) (¬1)، ومنهم من طعنه في فخذه، ومنهم من اكتفى بالاعتراض بالقول دون الفعل، ومنهم بلا شك من سخط عليه لكنه لم يملك التصريح بالمعارضة والعصيان. هذا هو الواقع الذي يرفضه أرباب النظرية الإمامية، مع أنه واقع ملموس، سطرته كتب الفريقين السنة والشيعة. ولله در الإمام الشيعي الزيدي"المنصور بالله" (المتوفى 614هـ) إذ يقول مبيّناً تهافت نظرية الإمامة عند الإثني عشرية: (وأما قولهم: إنّ المكلفين يكونون مع وجود الإمام أقرب إلى ¬

_ (¬1) صرّح بهذه الحقيقة أحد كبار علماء الشيعة الإثنى عشرية وهو ابن شعبة الحراني في "تحف العقول عن آل الرسول عليهم السلام ص308" فقال: (اعلم أنّ الحسن بن علي عليهما السلام لما طعن واختلف الناس عليه، سلّم الأمر لمعاوية فسلّمت عليه الشيعة: عليك السلام يا مذل المؤمنين. فقال عليه السلام: "ما أنا بمذل المؤمنين ولكني معز المؤمنين).

القيام بما كلفوه، فقول غير سليم وقياس لا يستقيم بل لا يمتنع في المشاهدة كونهم أبعد مع وجوده من فعل الطاعة، وأقرب إلى فعل المعصية كما كان في أيام علي والحسن والحسين سلام الله عليهم، فإنّ الناس ارتكبوا في أيامهم من الآثام، وحلوا من عقد الإسلام ما لم يكن قبل ذلك ولا بعده. وهذا الحسن بن علي عليه السلام نهض في شيعة أبيه وأجناده فثاروا به فجرحوه ونهبوا بيت ماله وسلبوا أمهات أولاده، وصغّروا عظيم حقه، حتى تمكّن منه عدوه، واستولى على الأمر من ليس من أهله. وكذلك الحسين بن علي عليه السلام أناخ بإزاء شيعة أبيه بعد استدعائهم له، وإنفاذهم للرسل المتواترة إليه لإزعاجه ووعدهم له النصرة، والقيام بما يجب من حقه، وتقلد أكثرهم البيعة، والعقد الوثيق في ملازمة طاعته فقادوا الخيول، وأرخوا الكتائب حتى أحاطوا به من كل جانب، وحاولوه من كل وجه حتى سفكوا دمه، وحصدوا بشفار السيوف وشبا الأسنة جميع من حضره من أهل بيته سلام الله عليهم بضعة عشر غلاماً ممن له مرتكض في رحم فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأي قرب تراه إلى الطاعة، وأي بعد تراه من المعصية، والأمر كما يعلمه العقلاء بالضد من ذلك، بعدوا من الطاعة وقربوا من المعصية مع وجود الإمام المعصوم المعلوم لإمامة ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ولده) إلى أن قال ناقداً اعتقاد الإثنى عشرية إمام القائم المنتظر الغائب: (فإن قدّروا رئيساً ظاهر الأمر مبسوط اليد، فهذه صفة لا توجد في إمامهم الذي ادعوا إمامته، لأنهم ذكروا أنّ الخوف شرّده حتى لم يقرّ به قرار، ولا تلقته دار، وزاد خوفه على خوف الخائفين وهربه على هرب الهاربين) إلى أن قال: (بل ذكر علماؤهم الكبار في كتبهم المحصّلة أنّ الإمام ما منعه من الظهور لأوليائه إلا مخافة أن يظهر أمره إلى الظلمة بسعاية بعض السعاة فيهلكه، فلذلك تكتم

من الولي ومن العدو. فأي هيبة والحال هذه تمنع المكلفين من القبيح من إمام هذه صورته؟!) (¬1). فالنظرية في واد وواقع الأئمة الإثنى عشر في واد آخر، ومن يستقرئ التاريخ الشيعي الخالص أو يستعين بكتاب جيد في هذا الباب ككتاب "تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه" للأستاذ أحمد الكاتب (¬2)، سيدرك بالفعل تهاوي النظرية الإمامية أمام حقائق النصوص الشيعية ذاتها. لقد أنهك المتكلمون الذين اخترعوا مثل هذه النظريات الأمة بقضايا كانت في غنى عنها، فأورثوها فرقة واختلافاً تجرعت مرارته فترات من الزمن ولا زالت تتجرعه. فمتى دخل على الأمة الجدل في القرآن هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ ومتى دخل على الأمة الجدل في صفات الله بين تعطيل وتحريف قابله تكييف وتمثيل وتشبيه لله بخلقه؟ إن لم يكن علم الكلام وراء هذا كله. ونظرية عصمة الأئمة هي إحدى تلك الإفرازات، قامت على أسس عقلية نطق بها بعض المتكلمين ثم انصرفوا بعد رسمها إلى الاستدلال عليها من كتاب الله وسنة رسوله، وبذلوا في ذلك الجهد والطاقة. ¬

_ (¬1) المجموع المنصوري (رسالة العقد الثمين في أحكام الأئمة المهديين 1/ 389 - 390). (¬2) رغم الانتقادات اللاذعة التي نالت الكتاب ومؤلفه من قِبل خصومه إلى حد استخدام سلاحي الترهيب من جهة وتشويه السمعة والتشكيك في المصداقية من جهة أخرى إلا أنّ الكتاب يُعتبر وثيقة تاريخية مهمة بحق وانتصاراً للصوت الشيعي المعتدل على الصوت المغالي التكفيري، ولا يُدرك ذلك إلا القارئ المنصف المتحرر من التعصب المذهبي، فالروايات التاريخية الكثيرة التي أشار إليها الكاتب والتي زخرت بها كتب الشيعة الإثنى عشرية تؤكد بما ليس فيه مجال للشك بأنّ نظرية الإمامية هي نظرية دخيلة على منهج أهل البيت.

آمنوا بالنظرية ثم راحوا يبحثون عن الدليل، في حين أنّ ديننا يدعونا إلى البحث عن الدليل ثم الإيمان بما يأتي به الدليل لا الإيمان بما يمليه علينا الهوى ثم البحث عن ما يسعف ذاك الهوى. ولعل من أبرز التحديات الفعلية التي واجهت هؤلاء المتكلمين هو موقف أهل البيت من نظرية العصمة التي يزعمها متكلمو الشيعة فيهم. فقد خطب الإمام علي بن أبي طالب الناس في مسجد الكوفة قائلاً: (فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطاء ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني) (¬1). وأكدّ في خطبة أخرى وهو يتحدث عن الخارجي "الخريت بن ناجية" ومحاولاته السابقة لدفع الإمام لقتل واعتقال عدد من زعماء المعارضة، أنّ من الواجب على الناس الوقوف في وجه إمامهم ومنعه إذا أراد هو أن يفعل ذلك، مذكرينه بالله عز وجل! ولم يكن الإمام علي بن أبي طالب ليقول هذا للناس لو كان هناك اعتقاد سائد لدى شيعته بعصمته، وذلك لأنّ هالة العصمة تحتم أن يضع الإمام نفسه فوق النقد وأن يحرّم على المعارضة نقده أو التجرؤ عليه بتوجيه النصح والمشورة له، وهذا ما لم يكن يفعله الإمام علي الذي ضرب أروع الأمثلة في حسن القيادة وطلب مشورة المحكومين وإعطائهم دورهم السياسي في تقويم حاكمهم. ويستعرض الإمام علي في موضع آخر صفات الحاكم وشروطه فلا يذكر من بينها (العصمة) فيقول: (.. إنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم وإمامة ¬

_ (¬1) نهج البلاغة ص335 رقم (216) (ومن خطبة له عليه السلام خطبها بصفين).

المسلمين: البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل، فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول، فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة) (¬1). ويقول في خطبة أخرى: (أيها الناس، إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه) (¬2). وينقل الصدوق في "أماليه" قصة عن فاطمة الزهراء تنافي نظرية العصمة التي كان يقول بها المتكلمون، فروى أنّ الإمام علي بن أبي طالب أنفق ذات مرة أموال مزرعة باعها حتى لم يبق لديه درهم واحد، فاحتجت فاطمة الزهراء على ذلك وأمسكت بثوبه، فنزل جبريل وأخبر النبي بذلك، فذهب إليها وقال: ليس لك أن تمسكي بثيابه ولا تضربي على يديه فقالت: إني أستغفر الله ولا أعود أبداً (¬3). كما يذكر الشيخ الرضي في "خصائص الأئمة": أنّ الإمام الحسن استعار قطيفة من بيت المال فبلغ ذلك الإمام علي فغضب وذهب إلى بيت الإمام الحسن فوجد القطيفة في منزله فأخذ بطرفها يجرها وهو يقول له: النار يا أبا محمد، النار النار يا أبا محمد، حتى خرج بها (¬4). وكذلك لم يشر الإمام الحسين إلى موضوع العصمة في رسالته التي أرسلها إلى أهل الكوفة مع سفيره مسلم بن عقيل، وإنما طرح ضرورة اتصاف الحاكم بشروط التقوى والالتزام ¬

_ (¬1) نهج البلاغة ص189 رقم (131) (ومن كلام له (ع) وفيه يبين سبب طلبه الحكم ويصف الإمام الحق). (¬2) نهج البلاغة ص247 رقم (173) (ومن خطبة له (ع) في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن هو جدير بأن يكون للخلافة وفي هوان الدنيا). (¬3) أمالي الصدوق (المجلس الحادي والسبعون) ص555 (¬4) خصائص الأئمة ص78

بالعمل بالكتاب والدين، فقال: (فلعمري ... ما الإمام إلا العامل بالكتاب الحابس نفسه على الله القائم بالقسط والدائن بدين الله) (¬1). وينقل الإمام الباقر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حول شروط الحاكم فلا يذكر منها العصمة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تصلح أمتي إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله وحلم يملك به غضبه وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم – وفي رواية أخرى-: حتى يكون للرعية كالأب الرحيم) (¬2) مما يشير إلى أنّ الإمامة تصلح لعامة الناس بهذه الشروط. وفي الكافي عن ابن عمّار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام أن قال: يا علي، أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها عنّي، ثم قال: اللهم أعِنه، أما الأولى: فالصدق ولا تخرجنّ من فيك كذبة أبداً والثانية: الورع ولا تجترئ على خيانة أبداً، والثالثة: الخوف من الله عز ذكره كأنك تراه والرابعة: كثرة البكاء من خشية الله يبني لك بكل دمعة ألف بيت في الجنة، والخامسة: بذْلُك مَالَك ودَمَك دون دينك، والسادسة: الأخذ بسنتي في صلاتي وصدقتي. أما الصلاة فالخمسون ركعة وأما الصيام فثلاثة أيام في الشهر: الخميس في أوله والأربعاء في وسطه والخميس في آخره ..) (¬3)، قال المجلسي في "مرآة العقول": حديث صحيح (¬4). ¬

_ (¬1) الإرشاد للمفيد 2/ 39 (¬2) الكافي-كتاب الحجة- (باب ما يجب من حق الإمام على الرعية وحق الرعية على الإمام) –حديث رقم (8). (¬3) الكافي- كتاب الروضة- (وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين) - حديث رقم (33). (¬4) مرآة العقول 25/ 180

نهج البلاغة ينقض عقيدة الإمامة التي يعتقدها الشيعة الإثنا عشرية

فمن الملاحظ أنّ هذه الوصية النبوية موجهة لعلي بن أبي طالب بذاته لقول النبي (يا علي أوصيك في نفسك بخصال)، وما كانت تلك الوصايا أن توجه لمعصوم وبالذات الأولى منها. وهو ما اعترف به المجلسي في "مرآة العقول 25/ 180" فقال: (قوله صلى الله عليه وآله: (أوصيك بنفسك) أي هذه أمور تتعلق بنفسك لا بمعاشرة الناس). نهج البلاغة ينقض عقيدة الإمامة التي يعتقدها الشيعة الإثنا عشرية حتى كتاب نهج البلاغة الذي يستشهد به الشيعة الإثنا عشرية على الإمامة في بعض مقتطفاته هو نفسه أول من يقدح في عقيدة الإمامة التي يتبناها ذاك الفكر وينقضها. لقد قالها الإمام علي بن أبي طالب بكل وضوح: (دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول. وإنّ الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت. واعلموا أني إن أجبتكم ركبت لكم ما أعلم، ولم أُصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم وأنا لكم وزيراً، خير لكم مني أميراً!) (¬1). ولو كانت إمامة علي بن أبي طالب منصوصاً عليها من الله عز وجل لما جاز للإمام تحت أي ظرف من الظروف أن يقول للناس: (دعوني والتمسوا غيري) أو أن يقول: (أنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً)، كيف والناس تريده وجاءت لتبايعه؟! ¬

_ (¬1) نهج البلاغة ص136 رقم (92) (ومن كلام له عليه السلام لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان).

حاول أيها القارئ أن تسترجع معي قول كاشف الغطاء: (إنّ الإمامة منصب إلهي كالنبوة) لتتخيل نبياً من أنبياء الله يقول للناس: (دعوني والتمسوا لكم نبياً غيري، أنا لكم مرشداً أو وزيراً خير لكم من أن أكون نبياً)! أيُعقل هذا؟ أيجوز هذا؟ ألا يُعتبر هذا رداً لأمر الله – إن جاز لنا أن نقول إنّ الإمامة من الله لا بالشورى والبيعة – كما تقول الإمامية بذلك؟! ولذلك لا تعجب أيها القارئ من ظهور فرقة متطرفة اسمها (الكاملية) كانت في البداية تتولى علياً وتحبه ثم ما لبثت أن انقلبت على عقبيها وكفّرته مدّعية أنه بدّل وأحدث في الدين! يقول المؤرخ الشيعي (النوبختي) (¬1) في كتابه "فرق الشيعة": (وشذّت فرقة من بينهم يُقال لها الكاملية، فأكفرت علياً عليه السلام، وجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أكفروا علياً بتركه الوصية، وتخليته الولاية، وتركه القتال على ما عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وآله!) (¬2) فالكاملية رغم أنها أكثر تطرفاً وضلالاً من الفرق الشيعية التي كفّرت الصحابة على العموم واستثنت علياً ونفراً يسيراً لا يتجاوزون السبعة إلا أنها أكثر واقعية، لأنها طبقت المذهب بحذافيره، فالمذهب يرفع من شأن الإمامة إلى حد الإيمان والكفر، ومقولة الإمام علي في نهج البلاغة فيها تساهل كبير في قضية الخلافة بل وتخلٍ عنها، والمنصف سيجد نفسه أمام ¬

_ (¬1) الحسن بن موسى النوبختي، ترجم له النجاشي في "رجاله ص63" فقال: (شيخنا المتكلم المبرز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة وبعدها)، وقال عنه التفريشي في "نقد الرجال 2/ 67": (كان إمامياً، حسن الاعتقاد نسخ بخطه شيئاً كثيراً، وله مصنفات كثيرة في الكلام والفلسفة وغيرهما). (¬2) فرق الشيعة ص28

أمرين: إما أن يرى بعينيه الغلو الفاحش في الإمامة عند الإثنى عشرية ويدرك أنّ الإمام علياً كان بعيداً كل البعد عن هذه المغالاة، وإما أن يكون مع الكاملية فيكفّر الكل، يكفّر من غصب الخلافة ومن تساهل فيها ورفضها وهي من أعظم أركان الدين! وقد ناقشت أحد علماء الشيعة في هذه القضية بالذات في مجلس خاص جمعني وإياه مع زميلين أحدهما سني والآخر شيعي، وكان هذا العالم يحاول قدر المستطاع أن يجد العذر للإمام علي في تلفظه بهذه الكلمات –وهو في الحقيقة لا يعتذر للإمام وإنما يعتذر لنظرية الإمامة التي وُضعت بهذا النص على المحك الفعلي– فكان مما قاله: إنّ الإمام علياً لم يرفض الخلافة وإنما أراد أن يذكرهم بغصب الخلفاء ومظلوميته (على حد قوله)، فقلنا له: كان بإمكانه أن يُعبّر عن فكرته هذه بطريقة أخرى، لكن كلامه كان واضحاً في بيان أنه لا ينظر للإمامة على أنها من الله وإنما يتكلم عنها على أساس بشري، ثم قلنا له: لا يجوز للنبي أن يرفض اعتراف الناس بنبوته مطالباً إياهم باختيار آخر بحجة أنه يريد تذكيرهم بحادثة معينة أو بظُلم وقع عليه، والإمامة عندكم منصب إلهي كالنبوة، فكيف جاز للإمام علي أن يعلن التنازل عنها أو رفضها؟! ألا يُعد هذا كفراً ورداً لأمر الله تعالى؟! فلم يجبنا بشيء وانتقل بنا إلى موضوع آخر، كعادة من نتحاور معهم في هذا الشأن، فتراهم يقفزون من موضوع إلى آخر، فتأتيه بحجة في موضوع الإمامة فيذهب بك بعيداً نحو أم المؤمنين عائشة وخروجها في موقعة الجمل، فترد عليه بالحجج فيقفز بك فجأة إلى أبي هريرة ورواياته في السنة، وهكذا تدور العجلة! وإذا ما عاد الحديث عن "نهج البلاغة" وما فيه من الحجج الباهرة الداحضة لفكرة (الوصية) والإمامة الإلهية، فإننا سنقف عند قول الإمام علي: (أيها الناس؛ إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل

ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس؛ ما إلى ذلك من سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها؛ ثم ليس للشاهد أن يرجع، ولا للغائب أن يختار) (¬1). فليست الإمامة حكراً على اثني عشر من دون سائر الخلق بل في كلام الإمام علي ما يؤكد أنّ أحق الناس بإمامة المسلمين أقواهم على إقامة حكم الله تعالى وأعلمهم بدين الله تعالى مطلقاً، وليست العبرة بأشخاص منصوص عليهم سلفاً. وفي تتمة خطبته يرد رداً قاصماً على كل من يطعن في خلافة أبي بكر الصدّيق بحجة أنّ البعض تخلف عنها في البداية كما يفعل بعض المتعصبين اليوم، فيقول: (ولعمري لئن كانت الإمامة (¬2) لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس؛ ما إلى ذلك من سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار). ويقول في "النهج" أيضاً كلاماً أكثر صراحة وأشد وضوحاً: (إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضا، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى) (¬3). ¬

_ (¬1) نهج البلاغة ص247 رقم (173) (ومن خطبة له عليه السلام في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن هو جدير بأن يكون للخلافة). (¬2) يلاحظ هنا أنّ الإمام علي لم يكن يفرّق بين (الإمامة) و (الخلافة) كما يفعل الشيعة اليوم، فيرون أنّ الإمامة منصب إلهي كالنبوة وأنّ الخلافة حكم فحسب، بل نص على أنّ الإمامة خاضعة للبيعة ولاختيار الناس وليست منصباً إلهياً. (¬3) نهج البلاغة ص366 رقم (6) (ومن كتاب له (ع) إلى معاوية).

عندما يمتزج وهم الإمامة النصية بالخرافة الحسية!

وقد أثار الإمام علي بهذه العبارة حقائق جديرة بالاهتمام حيث يجعل: أولاً: الشورى للمهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبيدهم الحل والعقد. ثانياً: اتفاقهم على شخص سبب لمرضات الله وعلامة لموافقته سبحانه وتعالى إياهم. ثالثاً: لا تنعقد الإمامة في زمانهم دونهم، وبغير اختيارهم. رابعاً: لا يرد قولهم ولا يخرج عن حكمهم إلا المبتدع الباغي المتبع غير سبيل المؤمنين. خامساً: أنه جعل صحة خلافته مبنية على صحة خلافة من سبقه، فإنه صار خليفة للمسلمين بمبايعة من بايع أبا بكر وعمر وعثمان. فأين هم الشيعة الإثنا عشرية عن هذه التصريحات الهامة؟! عندما يمتزج وهم الإمامة النصية بالخرافة الحسية! من يتصفح الكتب المصنّفة في الولاية والإمامة بكل تجرد وعقلانية يجد العجب العجاب. حكايات وبراهين تمجها العقول ولا ترتضيها الفطر، حكايات أشبه ما تكون بقصص "ألف ليلة وليلة" فكيف تكون عقائد يوالي ويعادي الإنسان عليها الناس، ويظن أنها من الإسلام! خذ عندك هذه الروايات واحكم بنفسك: عن علي عليه السلام أنه قال: (إنّ الله عرض أمانتي وولايتي على الطيور، فأول من آمن بها البزاة البيض والقنابر، وأول من جحدها البوم والعنقاء، فلعنهما الله تعالى من بين الطيور فأما البوم فلا تقدر أن تظهر بالنهار لبغض الطيور لها وأما العنقاء فغابت في البحار لا ترى وإن الله عرض أمانتي على الأرضين فكل بقعة آمنت بولايتي جعلها طيبة زكية، وجعل نباتها

وثمرتها حلوا عذباً، وجعل ماءها زلالاً، وكل بقعة جحدت إمامتي وأنكرت ولايتي جعلها سبخاً، وجعل نباتها مراً علقماً، وجعل ثمرها العوسج والحنظل، وجعل ماءها ملحاً أجاجاً) (¬1). فأمثال هؤلاء الرواة كذبوا على الإمام علي وكذبوا على الطيور ونسبوا إليها مثل هذا الهراء، فكيف لا يسهل عليهم الكذب على أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة وتكبير قضية الخلاف يوم السقيفة وجعلها مسألة إيمان وكفر! ومما روته هذه الكتب أنّ حماراً لكعب بن الأشرف شهد أنّ علياً ولي الله ووصي رسوله (¬2). وأنّ كلب رجل من أهل الذمة عض اثنين من الصحابة فشكيا أمره إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر بقتله. تقول الرواية: (ثم قام صلى الله عليه وآله وسلم وقمنا معه حتى أتى منزل الرجل، فبادر أنس فدق الباب فقال: من بالباب؟ فقال أنس: النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببابكم، قال: فأقبل الرجل مبادراً ففتح بابه وخرج إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله (¬3)، ما الذي جاء بك إليّ ولست على دينك؟ ألا كنت وجهت إليّ كنت أجيبك، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لحاجة إلينا أخرج كلبك فإنه عقور وقد وجب قتله، فقد خرق ثياب فلان وخدش ساقه وكذا فعل اليوم بفلان، فبادر الرجل إلى كلبه وطرح في عنقه حبلاً وجره إليه وأوقفه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما ¬

_ (¬1) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 2/ 141 وبحار الأنوار 23/ 281 و41/ 245 و61/ 47 (¬2) تفسير الإمام العسكري ص96 - 97 وبحار الأنوار 17/ 306 (¬3) يهودي ويقول (بأبي أنت وأمي يا رسول الله)!!

نظر الكلب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال بلسان فصيح بإذن الله تعالى: السلام عليك يا رسول الله، ما الذي جاء بك ولِمَ تريد قتلي؟ قال: خرقت ثياب فلان وفلان وخدشت ساقيهما، قال: يا رسول الله، إنّ القوم الذين ذكرتهم منافقون نواصب يبغضون ابن عمك علي بن أبي طالب (¬1) ولولا أنهم كذلك ما تعرضت لهم ولكنهم جازوا يرفضون علياً ويسبونه فأخذتني الحمية الأبية والنخوة العربية (¬2) ففعلت بهم) (¬3). ومن ذلك ما روي عن قنبر مولى أمير المؤمنين عليه السلام قال: كنت عند أمير المؤمنين (ع) إذ دخل رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إني أشتهي بطيخاً، قال: فأمرني أمير المؤمنين (ع) بشراء بطيخة فوجّهت بدرهم فجاءونا بثلاث بطيخات فقطعت واحداً فإذا هو مُرّ، فقلت: مُرّ يا أمير المؤمنين، فقال: ارم به، من النار وإلى النار، قال: فقطعت الثاني فإذا هو حامض فقلت: حامض يا أمير المؤمنين، فقال: ارم به، من النار وإلى النار، قال: فقطعت الثالث فإذا هو مَدُودَةٌ، فقلت: مَدُودَةٌ يا أمير المؤمنين، فقال: ارم به، من النار وإلى النار. قال: ثم وُجهتُ بدرهم آخر فجاءونا بثلاث بطيخات فوثبت على قدمي فقلت: أعفني يا أمير المؤمنين عن قطعه، كأنه تأثم بقطعه. فقال له أمير المؤمنين: اجلس يا قنبر فإنها مأمورة، فجلست فقطعت فإذا هو حلو. فقلت: حلو يا أمير المؤمنين فقال: كل وأطعمنا. ¬

_ (¬1) سبحان الله، جعلوا الكلاب أيضاً تؤمن بالولاية! (¬2) تعجبني هذه النخوة العربية، كلب وعنده نخوة عربية! (¬3) الروضة في فضائل أمير المؤمنين ص202 - 203 (حديث علي ولي الله) ومدينة المعاجز 1/ 261 - 262 (قصة الكلب الذي خرق ثوب الناصب لأمير المؤمنين) – رواية رقم (167) وبحار الأنوار 41/ 247

فأكلت ضلعاً وأطعمته ضلعاً وأطعمت الجليس ضلعاً. فالتفت إليّ أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا قنبر، إنّ الله تبارك وتعالى عرض ولايتنا على أهل السماوات وأهل الأرض من الجن والإنس والثمر وغير ذلك فما قبل منه ولايتنا طاب وطهر وعذب، وما لم يقبل منه خبث وردي ونتن (¬1). وروى الإمام الرضا فيما يزعمون عن أبيه عن جده أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أخذ بطيخة ليأكلها فوجدها مرّة فرمى بها، وقال: بعداً وسحقاً، فقيل له: يا أمير المؤمنين، وما هذه البطيخة؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله تبارك وتعالى أخذ عقد مودتنا على كل حيوان ونبات، فما قبل الميثاق كان عذباً طيباً وما لم يقبل الميثاق كان ملحاً زعاقاً) (¬2). ومن ذلك ما رواه المجلسي في "بحار الأنوار" أنّ علي بن عاصم الأعمى الكوفي قال: دخلت على أبي محمد العسكري (ع)، فقال لي: يا علي بن عاصم، انظر إلى ما تحت قدميك فإنك على بساط قد جلس فيه كثير من النبيين والمرسلين والأئمة الراشدين، قال: فقلت: يا سيدي، لا أنتعل ما دمت في الدنيا إكراماً لهذا البساط، فقال: يا علي، إنّ هذا النعل الذي في رجلك نعل نجس ملعون لا يقر بولايتنا (¬3). فحتى الحيوانات والجمادات لم تسلم من الكذب عليها ومن اتهامها ببغض أهل البيت أو برفض ولايتهم! ¬

_ (¬1) مستدرك الوسائل 16/ 413 والاختصاص ص249 وبحار الأنوار 27/ 282 ومدينة المعاجز 1/ 420 (¬2) وسائل الشيعة 25/ 103 (باب كراهة أكل البطيخ المر) – حديث رقم (1) وعلل الشرائع 2/ 464 (باب النوادر) ومختصر بصائر الدرجات ص222 - 223 ومسند الإمام الرضا 1/ 234 (¬3) بحار الأنوار 50/ 304

فلا تعجب حينئذ إن جاء هؤلاء بآلاف الروايات المكذوبة في أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة بشكل عام، ما دام غير البشر ليسوا بمأمن من الكذب عليهم ومن اتهامهم بما هو باطل!

مناقشة أدلة الإمامة عند الشيعة الإثني عشرية

مناقشة أدلة الإمامة عند الشيعة الإثني عشرية إنّ فضائل أهل البيت كثيرة ونصيب الإمام علي بن أبي طالب منها كبير، ولا يجحد فضائله أو فضائلهم إلا ناصبي حاقد أو جاهل لا يعرف لهم حقهم ومكانتهم. لكن الاعتقاد بفضلهم والتدين بحبهم أمر، والاستدلال بهذه الفضائل على عصمة بعضهم ووجوب امتداد الخلافة في إثني عشر رجلاً منهم وتفضيلهم على أنبياء الله تعالى بمن فيهم أولو العزم من الرسل ما عدا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أمر آخر لا يمت بصلة إلى تلك الفضائل المحكية في حقهم وإلى بطولاتهم التي سطّرها لهم التاريخ. فلمحبة أهل البيت ولفضائلهم ضوابط تحكمها وتحدد مسارها وإلا لقال كل قائل ما يحلو له باسم حب أهل البيت! ولهذا كان الإمام علي بن الحسين يقول: (أحبونا حب الإسلام لله عز وجل، فإنه ما برح بنا حبكم حتى صار علينا عاراً) (¬1). لقد ضاق الإمام زين العابدين ذرعاً بأولئك المغالين الذين أضفوا على حب آل البيت معاني لا يرتضيها أهل البيت أنفسهم. والحديث عن الإمامة وعصمة الأئمة ومعجزاتهم ومناقشة هذه المواضيع بات اليوم كالحديث عن المسيح عليه السلام وطبيعته البشرية. إنّ مناقشة أدلة الإمامة عند الشيعة الإثني عشرية تعود بي زمناً طويلاً إلى أيام مضت كنت مهتماً فيها بمناظرات الداعية الإسلامي المتميز أحمد ديدات ومؤلفاته. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء 3/ 136

فقد كان (أحمد ديدات) رحمه الله يستنكر على بعض القساوسة المناظرين له فكرة نعيشها اليوم مع كثير من المتعصبين من أرباب الفرق والجماعات المنتسبة للإسلام. كان القساوسة يطرحون بنوة المسيح – المدّعاة – لله عز وجل بأسلوب (إما أن يكون المسيح ابناً لله كما نؤمن نحن وإما أنك تنسب إليه الجنون أو التجديف لادعائه ما لا يحق له أو تنسب إليه السحر لإتيانه بخوارق عادات لا يأتي بها بشر) هكذا يقولون! فيضعك هؤلاء في الزاوية التي يريدونها، ويمارسون عليك الإرهاب الفكري، إما أن تقول بقولهم وإلا جعلوك عدواً للمسيح عليه السلام بحجة أنك تنسب إليه التجديف والكذب أو السحر! وعند هذا الطرح العجيب يتساءل ديدات (ولماذا هذه الافتراضات الثلاث؟! لماذا لا يكون عبداً رسولاً، لماذا لا يكون نبياً عظيماً من أنبياء بني اسرائيل فحسب؟!)، لماذا تريد أن تجعلني في الزاوية (إما أن أكون مغالياً في الشخصية التي أتكلم عنها أو أكون عدواً لها؟! لا وسط بين القولين. وبالأسلوب ذاته يمكن لك أن تتصور محاوراً يريد نقاش موضوع عصمة الأئمة والإمامة النصية بعد رسول الله ستجد بلا شك عند استعراضك للأدلة ونقاشك العميق معه في هذه القضية أنّ الحوار سيقف عند قضية عاطفية بحتة في النهاية! هل أنت ناصبي تعادي الأئمة؟ هل تشكك في مصداقية أهل البيت؟ وما يشابه هذه الاتهامات ... وربما تساقطت عليك الحجارة من كل حدب وصوب وأنت لا تدري، مع أنّ النقاش لا يحتمل كل هذا. وقد مرت بي هذه التجربة بالفعل، أناقش من خلال القرآن والسنة والعقل وأُفاجَأ بأنّ الرد الفوري عليّ هو الاتهام لي بأني ناصبي!!

من الأفضل أبو بكر أم علي؟

وهل كلمة ناصبي هينة حتى تُطلق على كل أحد؟ وهل نقاشي لإطروحة عصمة الأئمة أو الرجعة وما شابهها يعني أني لا أحب أهل البيت؟! لو كان حب أهل البيت يعني الغلو فيهم لرضي أهل البيت بأن يُقال عنهم آلهة من دون الله، ولأثنى أهل البيت على من غلوا فيهم بدلاً من التحذير منهم .. من الأفضل أبو بكر أم علي؟ طلب مني أحد الأصدقاء الشيعة المناقشة في مسألة المفاضلة بين الإمامين أبي بكر الصدّيق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. فأجبته بأنّ مناقشة مثل هذه المسائل ليس بالأمر الصعب لكن الخلاف بين أهل السنة والشيعة الإثني عشرية أكبر من أن يُحصر في المفاضلة بين أبي بكر وعلي، والأولى أن يُبدأ بجوهر الخلاف بدل الانهماك في مثل هذه المسائل، فليس من المهم من كان أفضل ومن كان أقل فضلاً إذا كنا نعترف بفضل الاثنان (¬1)، فكلاهما قد مات، والخلافة قد انتهت، ومن غير المعقول أن نبقى بعدهم مئات السنين ونحن ندندن حول مسألة من الأحق بالخلافة أو من ¬

_ (¬1) النقاش في المفاضلة قد يكون مُجدٍ إن كان الحديث بين فئتين متفقتين على فضل وصلاح من تتم المفاضلة بينهما، بينما يعتقد الشيعة الإثنا عشرية أنّ الإمام علياً معصوم وأنه منصوب من الله تعالى إماماً على خلقه أما أبو بكر الصدّيق فمرتد منقلب على عقبيه أو في أحسن أحواله ضال مغتصب للخلافة، ولهذا فالمسألة عند الشيعة الإثنى عشرية ليست مفاضلة بين اثنين مشهود لهما بالإيمان والصلاح بل بين مؤمن ومرتد أو وصي وضال، فما فائدة الحديث عن المفاضلة بين أبي بكر وعليّ حينئذ؟!

الأفضل بينهما ما دام الذين نتكلم عنهما قد فارقوا الدنيا ولاقوا ربهما عز وجل منذ أكثر من ألف وثلثمائة سنة!! إنّ الإسلام أعلى وأجل من أن يُختزل في مثل هذه الإطروحات، والصحابة وآل البيت أعظم وأجل من أن يُنظر إليهم كما ينظر مشجع كرة القدم إلى فريقه أو إلى منتخبه الوطني! ولله در الدكتور علي الوردي – وهو مفكر شيعي معتدل – إذ يُصور مأساة بعض المتمذهبين بقوله: (سألني بعض الأجانب عن هذا النزاع بين علي وعمر، ما هو مصدره ومنشؤه؟ وهذا السؤال له أهميته الاجتماعية. فالأجانب حين يقرأون تاريخ الإسلام الأول يجدون الصفاء تاماً بين علي وعمر، فقد تزوج عمر من ابنة علي، وتولى أصحاب علي الولايات المهمة في عهد عمر، وكان عمر يستشير علياً في كثير من القضايا ويمدحه، كذلك كان علي يمدح عمر في حياته وبعد مماته كما جاء في نهج البلاغة. فما هو السبب الذي جعلهما متباعدين بعد موتهما بينما كانا في حياتهما متقاربين تقارباً واضحاً). ثم يقول: (كنت أزور ذات مرة معامل فورد في مدينة ديترويت، ثم عَرَّجتُ بعد ذلك على زيارة الحي العربي الذي كان قريباً منها. وقد اندهشت حين وجدت نزاعاً عنيفاً ينشب بين المسلمين هناك حول عليّ وعمر، وكانت الأعصاب متوترة والضغائن منبوشة. وكنت أتحدث مع أحد الأمريكيين حول هذا النزاع الرقيع، فسألني الأمريكي عن علي وعمر: هل هما يتنافسان الآن على رئاسة الحكومة عندكم كما تنافس ترومن وديوي عندنا؟ فقلت له: إنّ علياً وعمر كانا يعيشان في الحجاز قبل ألف وثلاث مئة سنة. وهذا النزاع الحالي يدور حول أيهما أحق بالخلافة!

فضحك الأمريكي من هذا الجواب حتى كاد يستلقي على قفاه، وضحكت معه ضحكاً فيه معنى البكاء، وشر البلية ما يُضحك!) (¬1). نعم .. شر البلية ما يُضحك، طاقات الأمة تُهدر، وأجيال تتناحر، لكن على ماذا؟ على مثل هذه المفاضلات التي لا منفعة فيها (¬2)! لم يكن هاجس الصحابة في زمانهم إثبات من الأفضل على الآخر بل رأينا أبا بكر الصدّيق يتولى الخلافة ويقول على المنبر: (أما بعد فإني قد وُليت عليكم ولست بخيركم) (¬3). ورأينا علي بن أبي طالب تُعرض عليه الخلافة فيقول (أنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً) (¬4) ويخطب على منبر الكوفة فيقول: (خير هذه الأمة أبو بكر ثم عمر) (¬5). ¬

_ (¬1) مهزلة العقل البشري ص246 (¬2) وقد أحسن الإمام ابن عبد البر فيما ذكره في "الاستذكار 14/ 241" حيث يقول: (وقد أجمع علماء المسلمين أنّ الله تعالى لا يسأل عباده يوم الحساب: من أفضل عبادي؟ ولا هل فلانٌ أفضل مَنْ فلان؟ ولا ذلك مما يُسأل عنه أحدٌ في القبر، ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد مدح خصالاً وحمد أوصافاً، من اهتدى إليها حاز الفضائل، وبقدر ما فيه منها كان فضله في ظاهر أمرِه على من لم يَنَلها، ومن قصر عنها لم يبلغ في الفضل منزلة من ناله). (¬3) صفة الصفوة 1/ 260 (¬4) نهج البلاغة- (92) (ومن خطبة له (ع) لما أريد على البيعة بعد قتل عثمان رضي الله عنه). (¬5) مسند أحمد – حديث رقم (836) و (837) بسند صححه شعيب الأرنؤوط، وقد أشار ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة 1/ 178 إلى مظان الرواية في الكتب بألفاظها المتعددة راداً على المشككين فيها أو الزاعمين أنها جاءت من طريق التقية، بينما نص ابن تيمية في منهاج السنة النبوية 1/ 308 على أنه (قد تواتر عنه رضي الله عنه أنه كان يقول على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر" روى ذلك عنه من أكثر من ثمانين وجهاً ورواه البخاري وغيره، ولهذا كانت الشيعة المتقدمون كلهم متفقين على تفضيل أبي بكر وعمر كما ذكر ذلك غير واحد).

ورأينا عمر بن الخطاب يقول (يرحم الله أبا بكر ما سبقته إلى خير قط إلا سبقني إليه) (¬1) وهكذا. كل رجل منهم كان يدفع الفضل عن نفسه، وينسبه إلى صاحبه إذ كان هاجسهم العمل وخدمة هذا الدين لا المفاضلة والافتخار على بعضهم البعض. وإني أقول هذا وأنا أعلم أنّ من الناس من سيقرأ كلامي هذا غير آبه به، فالقضايا الهامشية التي ننتقد التركيز عليها وإثارتها هي أكبر قضايا الإسلام عنده! ولهؤلاء أهدي لهم الحوار اللطيف الذي دار بين الحسين بن إسماعيل المحاملي وأبو بكر الداوودي في المفاضلة بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما. فقد ذكر ابن الجوزي في كتابه "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" أنّ أبا بكر الداوودي قال يوماً في مجلس قد جمعه مع الحسين بن إسماعيل: والله ما تقدر تذكر مقامات علي مع هذه العامة، فقال له الحسين بن إسماعيل: أنا والله أعرفها، مقامه ببدر وأحد والخندق ويوم خيبر قال: فإن عرفتها فينبغي أن تقدّمه على أبي بكر وعمر. قلت: قد عرفتها ومنه قدّمت أبا بكر وعمر عليه، قال: من أين؟ قلت: أبو بكر كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على العريش يوم بدر، مقامه مقام الرئيس، ينهزم به الجيش، وعليّ مقامه مقام مبارز، والمبارز لا ينهزم به الجيش، وجعل يذكر فضائله وأذكر فضائل أبي بكر، فقلت: لا تنكر لهما حقاً، ولكن الذين أخذنا عنهم القرآن والسنن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدّموا أبا بكر فقدّمناه لتقديمهم فالتفت أحمد بن خالد فقال: ما أدري لم فعلوا هذا؟ قلت: إن لم تدر فأنا أدري، قال: لم ¬

_ (¬1) مسند أحمد – حديث رقم (4340)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.

فعلوا؟ فقلت: إنّ السؤدد والرياسة في الجاهلية كانت لا تعدو منزلتين إما رجل كانت له عشيرة تحميه وإما رجل كان له فضل مال يفضل به، ثم جاء الإسلام فجاء باب الدين، فمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس لأبي بكر مال، ولم تكن تيم لها مع عبد مناف ومخزوم تلك الحال (¬1)، فإذا بطل اليسار الذي كانت ترأس به قريش أهل الجاهلية فلم يبق إلا باب الدين فقدّموه له، فأُفحم الداوودي (¬2). أقول: قد أحسن الحسين المحاملي فيما ذكره لكن بقي الإشارة إلى مسائل أخرى. إنّ الشيعة الإثني عشرية يقارنون بين الإمامين أبي بكر وعلي فيقولون: إنّ علياً أول الناس إسلاماً ولذا فهو أحق من أبي بكر بالخلافة. لقد تتبعت أقوال المؤرخين في المسألة فوجدتهم قد اختلفوا في أول الناس إسلاماً اختلافاً لا يُمكن الترجيح فيه ترجيحاً تاماً، وسواء أكان إسلام أبي بكر متقدماً على إسلام علي أو العكس، فإنّ هذا لن يغيّر شيئاً. فالتاريخ يشهد بأنّ الإمام علياً كان صغير السن في بداية البعثة النبوية (¬3)، وعطاء الصبي ليس كعطاء الكبير، فالصبي قد يُستعان به في قضاء بعض الحوائج التي يطيقها الصغار لكنه ¬

_ (¬1) يقصد أنّ (تيم) قبيلة أبي بكر الصدّيق، لم تكن لها رياسة وسطوة ونفوذ كرياسة ونفوذ وسطوة عبد مناف ومخزوم، ومع هذا قدّم الصحابة أبا بكر الصدّيق وهو رجل بلا مال ولا نفوذ. (¬2) المنتظم 14/ 22 (ترجمة الحسين بن إسماعيل بن محمد المحاملي المتوفى سنة 330هـ). (¬3) لم يبرز دور الإمام علي في مساندة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الفترة المكية إلا بنومه في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبيل الهجرة النبوية أي بعد 13 سنة تقريباً من البعثة، وقلة عطاء الإمام علي في بداية البعثة لم يكن لتقصيره رضي الله عنه في مساندة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكن حداثة السن لها دورها الذي لا ينبغي تجاهله، ولهذا لما شبّ ساند النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الهجرة بالنوم في فراشه وإيهام الكفار بأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج للهجرة، ثم ظهر دوره جلياً في المدينة = =كما هو معلوم ففاق بجهاده ونصرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من الصحابة، لكن المنصف الذي يعرف لعلي حقه وفضله وجهاده وتضحيته لن ينسى حق وفضل وجهاد وتضحية أبي بكر وبالذات في بداية البعثة التي كانت بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام أشد وأصعب الأيام التي عاشها.

لا يتصور فيه أن تقام على يديه دعوة أو نصرة دين، وإنما يُتصور ذلك في الكبار بقدر ما لديهم من العطاء والصمود. ولهذا جاء في حديث عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه وهو يحكي قصة إسلامه ما يدل على هذا المعنى حيث يقول: (كنت وأنا في الجاهلية أظن أنّ الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستخفياً جُرآءُ (¬1) عليه قومه، فتلطّفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت (¬2)؟ قال: أنا نبي فقلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، فقلت: وبأيّ شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يُوحّد الله لا يُشرك به شيء، قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد قال: -ومعه يومئذ أبو بكرٍ وبلالٌ ممن آمن به-، فقلت: إنّي مُتّبِعُكَ، قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتِني ...) (¬3) وفي مسند أحمد (قلت: آلله أرسلك، قال: نعم، قلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: بأن يُوحّد الله ولا يُشرك به شيء، وكسر الأوثان وصلة الرحم، فقلت له: من معك على هذا، قال: حر وعبد أو عبد ¬

_ (¬1) جمع جريء كبرئ وبرآء من الجراءة، وهي: الإقدام والتسلط. (¬2) ولم يقل: من أنت، لأنه سأله عن صفته لا عن ذاته، والصفات مما لا يُعقل. (¬3) صحيح مسلم –كتاب فضائل القرآن وما يتعلق به - باب إسلام عمرو بن عبسة – حديث رقم (832).

وحر، وإذا معه أبو بكر بن أبي قحافة وبلال مولى أبي بكر) (¬1). فلم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن عبسة وهو يعرض عليه الإسلام بأنه يتقوّى بطفل في دعوته لهذا الدين، لأنّ الطفل ضعيف لا يُتقوّى به ولا يُنتصر به عند عامة العقلاء، اللهم إلا عند أهل العناد والمكابرة والتعصب المقيت، فهؤلاء لهم مقاييس أخرى لا تخضع لدين ولا لعقل ولا لمنطق! ولهذا لم يذكر التاريخ للإمام علي في بداية البعثة النبوية أمراً تنتصر به الدعوة الإسلامية في بداية ظهورها سوى مساندته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تكسير بعض الأصنام سراً (¬2) وهي مسألة لا يمكن أن تقارن بمجابهة أبي بكر الصدّيق للكفار وجهاً لوجه في أكثر من موطن، حين يدافع عن نبي الله (¬3) أو ينفق أمواله في سبيل الله لعتق رقاب المعذبين في الله ¬

_ (¬1) مسند أحمد – حديث رقم (17060)، قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2) فقد روى أحمد في مسنده (حديث رقم 644) عن أبي مريم عن علي رضي الله عنه أنه قال: (انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتينا الكعبة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجلس وصعد على منكبي، فذهبت لأنهض به، فرأى مني ضعفاً، فنزل، وجلس لي نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: اصعد على منكبي، قال: فصعدت على منكبيه، قال: فنهض بي، قال: فإنه يُخيل إليّ أني لو شئت لنلت أفق السماء، حتى صعدت على البيت، وعليه تمثال صُفر أو نحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه، حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول الله: اقذف به، فقذفت به فتكسر كما تتكسر القوارير، ثم نزلت، فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس)، والرواية إسنادها ضعيف كما بين ذلك الشيخ شعيب الأرنؤوط، ففيها (أبو مريم الثقفي) وهو مجهول، و (نعيم بن حكيم) قال عنه النسائي: ليس بالقوي وقال ابن سعد: لم يكن بذاك. (¬3) ففي حديث البخاري (بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة ابن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاُ شديداً، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّه} وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟).

كبلال الحبشي وأمه حمامة وعامر بن فهيرة (¬1) وأم عبيس (¬2) وزنّيرة (¬3) والنهدية وابنتها (¬4) وجارية بني مؤمِّل وجارية بني عَدِي رضي الله عنهم. لقد تحمّل أبو بكر من الإهانة بمكة بعد العناء والعذاب في الله عز وجل، والصبر على أعداء الله والسكون على الإقامة بالجوار بعد أن كان يذمُ ويَشفَعُ في الناس، ولا يستطيع أحد دفعه. فمِن ذلك أنه قام يوماً خطيباً عند الكعبة يدعوهم إلى الله تعالى وإلى اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضربه المشركون ضرباً شديداً، وممن ضربه عتبة بن ربيعة حيث جعل يضربه على وجهه بنعلين مخصوفتين حتى ما يُعرف وجهه من أنفه (¬5). حتى جاء بنو تيم يتعادون، فأجلوا عنه ضاربيه وحملوه في ثوب إلى منزله، ولا يشكون في موته، لكن الله تعالى حفظه. أقول هذا وأنا أعلم أنّ هناك عقولاً جوفاء ستتهمني مباشرة بالنصب أو بالإساءة للإمام علي وعدّ ما شئت من تهم، لأنّ المشكلة الحقيقية التي تعتري هذا النوع من النقاش هي أنك تتناقش مع عقول لا تريد أن تفهم، وإنما بُرمجت منذ أمد بعيد على أن ترى الإمام علياً فوق ¬

_ (¬1) صحابي جليل شهد بدراً وأحداً وقُتل يوم بئر معونة شهيداً. (¬2) كانت فتاة لبني تيم بن مرة فأسلمت فاستضعفها المشركون وعذبوها فاشتراها أبو بكر وأعتقها، وقد كنيت بابنها عبيس بن كريز. (¬3) كانت من السابقات إلى الإسلام وقد كان أبو جهل يعذبها لأجل إيمانها فاشتراها أبو بكر وأعتقها. (¬4) كانتا لامرأة من بني عبد الدار، وقد كانت تحلف بالله أن لا تعتقهما أبداً، فاشتراهما أبو بكر وأعتقهما. (¬5) البداية والنهاية 3/ 39 - 40

مستوى البشرية، وأن لا تقبل الحقيقة كما هي ولا ترضخ حتى للتاريخ الذي لا يحابي أحداً من الناس. إنّ التاريخ ليشهد بأنّ أول من أسلم من الصحابة ونصر الإسلام بنفسه وأهله وماله هو أبو بكر الصدّيق، فكان أول من صدّقه حين كذَّبه الناس، وواسى رسولنا الكريم بنفسه وماله، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخاطب الصحابة: (إنّ الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي) (¬1). أما المسارعة إلى الإسلام وعدم التردد فتفوق فيها الإمام أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه على الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له عنده كبوة وتردد غير أبي بكر (¬2)، فإنه لم يتلعثم) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري – كتاب فضائل الصحابة – باب (لو كنت متخذاً خليلاً) – حديث رقم (3461) وسنن البيهقي الكبرى- باب شهادة أهل العصبية – حديث رقم (20884). (¬2) قال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية 1/ 121": (فإنّ الحق الظاهر لا يحتاج إلى روية ولا فكر ولا نظر بل يجب اتباعه والانقياد له متى ظهر ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مادحاً للصديق: (ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم)، ولهذا كانت بيعته يوم السقيفة أيضاً سريعة من غير نظر ولا روية لأنّ أفضليته على من عداه ظاهرة جلية عند الصحابة رضي الله عنهم ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد أن يكتب الكتاب الذي أراد أن ينص فيه على خلافته فتركه، وقال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)). (¬3) الشيخان أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وولدهما برواية البلاذري في أنساب الأشراف ص21 ودلائل النبوة للبيهقي 2/ 163 - 164

أما الإمام علي فقد روى ابن إسحاق أنه جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد إسلام خديجة رضي الله عنها، فوجدهما يصليان، فقال علي: ما هذا يا محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (دين الله الذي اصطفاه لنفسه، وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده وإلى عبادته، وتكفر باللات والعزى)، فقال له علي: هذا أمر لم أسمع به من قبل اليوم، فلست بقاض أمراً حتى أحدّث أبا طالب، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يفشي سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: (يا علي، إذا لم تسلم فاكتم)، فمكث علي تلك الليلة، ثم إنّ الله أوقع في قلب علي الإسلام، فأصبح غادياً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى جاءه فقال: ما عرضت عليّ يا محمد؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد، ففعل عليّ وأسلم (¬1). والغريب أنّ الشيعة الإثني عشرية على غلوهم المعروف في الإمام علي قد رووا تردده رضي الله عنه في قبول الإسلام أول مرة، وطلبه من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الإمهال قائلاً: (إنّ هذا مخالف دين أبي، وأنا أنظر فيه) (¬2). ¬

_ (¬1) أسد الغابة 1/ 790 والبداية والنهاية 3/ 34 (¬2) سعد السعود ص216 للعلامة الشيعي علي بن موسى بن طاووس الحسيني (المتوفى سنة 664هـ). وقد أثنى الحر العاملي في "أمل الآمل في علماء جبل عامل 2/ 205" على ابن طاووس بقوله: (حاله في العلم والفضل والزهد والعبادة والثقة والفقه والجلالة والورع أشهر من أن يذكر، وكان أيضاً شاعراً أدبياً منشئاً بليغاً). وقال السيد التفريشي في "نقد الرجال 3/ 303: (من أجلاء هذه الطائفة وثقاتها، جليل القدر، عظيم المنزلة كثير الحفظ، نقي الكلام، حاله في العبادة أشهر من أن يذكر، له كتب حسنة رضي الله عنه).

فإذا ثبت من طريق الفريقين أنّ أبا بكر قد أسلم طوعاً ودون تردد وتلعثم وأنّ علياً رضي الله عنه طلب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إعطاءه فرصة للتفكير لأنّ دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم جديدة بالنسبة له، فعن أي مفاضلة يتكلم الشيعة الإثنا عشرية؟! على أني أقولها وبضرس قاطع: إنّ إسلام أبي بكر قبل علي أو إسلام علي قبل أبي بكر، لن يجعل أحدهما مستحقاً للخلافة على الآخر، فالخلافة وقيادة الناس لها شروطها ومؤهلاتها وليس من هذه المؤهلات أن يكون الرجل قد أسلم قبل الذين سيحكمهم بيومين أو ثلاثة! أما مبيت الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان في نهاية الفترة المكية فليس بأفضل من هجرة الإمام أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بما صاحبها من مخاطر ومشقة وعناء. ولذلك ذكر الله تعالى فضيلة نصرة أبي بكر الصدّيق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة في القرآن الكريم فقال {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيم} ولم يذكر مبيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالفراش، لأنّ خروج أبي بكر الصدّيق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه مخاطرة بالحياة ومشقة ومطاردة أما المبيت فلم يكن كذلك إذ إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في روايات المبيت قد أخبر الإمام علي بأنه لن يمسه سوء. قال ابن إسحاق: (فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: نم على فراشي

وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم) (¬1). فأخبره الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بأنه لن يمسّه مكروه. وهو ما يقرّ به كبار علماء الشيعة الإثني عشرية في كتبهم عند تقريرهم لهذه المسألة. يقول الشيخ جعفر السبحاني: (روى المحدثون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد الهجرة خلّف علي بن أبي طالب عليه السلام بمكة لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه فقال صلى الله عليه وآله وسلم له: يا علي، اتشح ببردي الحضرمي الأخضر ثم نم على فراشي فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله عز وجل، ففعل ذلك عليه السلام) (¬2). ونصّ على ذلك أيضاً الشيخ محمد باقر الخرسان في تعليقه على عبارة: (أنا وقيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسي في الغار) من كتاب "الاحتجاج" للطبرسي (¬3). فهل تستوي تضحية من يعلم يقيناً بأنّ القوم لن يمسوه بسوء بمن أقدم على الموت بنفسه وعرّض أهله للخطر والهلاك معه في رحلة الهجرة (¬4)؟ ¬

_ (¬1) السيرة النبوية 3/ 8 (¬2) مفاهيم القرآن (العدل والإمامة) 10/ 229 (¬3) هامش ص160 من كتاب الاحتجاج (¬4) فقد كانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر في الغار كل مساء بالطعام، وكان عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه يتسمّع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر ما يقوله الناس عنهما في النهار، فيأتيهما به بالليل في الغار، ثم يرجع إلى مكة في السَّحر ليصبح مع قريش وكانت مهمة عامر بن فُهيرة وهو مولى أبي بكر رضي الله عنه يرعى غنم أبي بكر في النهار ثم يُريحها عليهما في الغار إذا أمسى ليطعما من ألبانها ويزيل بمسيره بالغنم آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر لئلا يلحظ المشركون أثره عند الغار (راجع: فتح الباري 15/ 91 - 92 والسيرة النبوية لابن إسحاق).

وإذا ضُمّ إلى ذلك كله ما يعتقده الشيعة الإثنا عشرية في الإمام علي من أنه إمام منصوص عليه كوصي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بحديث الدار (¬1) وأنّ الوصي لا يكون وصياً إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ هذا مُلزمٌ للشيعة الإثني عشرية بأن يعترفوا بأنّ تضحية الإمام علي رضي الله عنه في المبيت بفراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تقارن بتضحية أبي بكر رضي الله عنه في رحلة الهجرة. بل إننا نستطيع إلزام الشيعة الإثني عشرية بالإقرار بأنّ علياً رضي الله عنه قد بات في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مطمئن النفس إلى أنّ أحداً لن يمسه بسوء دون حتى أن يحتاج إلى طمأنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، كيف لا وهم يزعمون بأنّ الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم (¬2)، وأنهم يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء (¬3)، وأنه لا يُغسّل الإمام ولا يدفنه إلا إمام مثله (¬4) ¬

_ (¬1) يعتبر حديث الدار أحد أبرز النصوص التي يستدل بها الشيعة الإثنى عشرية على إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه النصية وسيأتي الحديث عنه تفصيلاً. (¬2) وهو أحد أبواب كتاب الكافي للكليني وبصائر الدرجات للصفار وبحار الأنوار للمجلسي وغيرهم، وقد ذكر الكليني تحت هذا الباب ثماني روايات، وذكر الصفار في بصائر الدرجات ص500 أربع عشرة رواية بينما اكتفى المجلسي في بحار الأنوار 27/ 285 - 287 بذكر ستة روايات. (¬3) وهو أحد أبواب كتاب الكافي للكليني وقد ذكر فيه ست روايات، أما المجلسي فذكر في هذا الشأن اثنان وعشرون روايات شيعية كلها تؤكد هذا المعنى وهذا الاعتقاد (انظر: بحار الأنوار 26/ 109 - 117 تحت عنوان (وأنه عرض عليهم ملكوات السماوات والأرض ويعلمون علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة). (¬4) وهو أحد أبواب كتاب بحار الأنوار للمجلسي 27/ 288 (باب أنّ الإمام لا يغسّله ولا يدفنه إلا إمام وبعض أحوال وفاتهم عليهم السلام) وقد ذكر فيه سبع روايات.

والإمام علي رضي الله عنه لم يكن إذ ذاك قد تزوج أصلاً (¬1) حتى يغسّله إمام من أبنائه إذا ما قتله المشركون، فهو وفقاً لنظرية الإمامية يعلم علم اليقين أنه لن يمسه سوء! فإن قائل: إنّ الإمام علي بن أبي طالب أشجع الصحابة وعدّد مآثره العظيمة في خيبر وغيرها، مستدلاً بذلك على أحقيته بالخلافة من أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه. أجبته بقولي: لا ريب بأنّ الإمام علياً من أشجع الصحابة وأربطأهم جأشاً، فمنازلاته في المعارك تشهد له بذلك، لكننا نتكلم عن مؤهلات خلافة وحكم، فالإمام علي تميّز بكونه محارب من الطراز الأول، فهو من هذه الناحية قد تفوق على أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه ولا ريب، لكن الخلافة والحكم لا يحتاجان إلى جندي محارب حتى يُستشهد ببطولات الإمام علي وتميزه في القتال وإنما يحتاجان إلى قيادة فاعلة وذات سيادة، وفي هذه تفوق أبو بكر الصدّيق على علي بن أبي طالب، فإنّ أبا بكر الصدّيق وهو من قبيلة (تيم) الضعيفة التي لا تمثل بالنسبة لقريش الكثير استطاع أن يقود المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظهور أمر مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وسجاح وأمثالهم فانتصر وأعطى للجزيرة العربية الثبات والاستقرار بعد انفلات الأمر وظهور حركات المرتدين المذكورة، بينما لم يستطع الإمام علي وهو من بني هاشم الذين لهم ثقلهم السياسي والقبلي في العرب أن يسيطر على الأوضاع عند اختلاف المسلمين فيما بينهم إثر مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله ¬

_ (¬1) الثابت أنّ علياً رضي الله عنه تزوج فاطمة رضي الله عنها في السنة الثانية من الهجرة كما نقل ذلك الذهبي في "سير أعلام النبلاء 2/ 119" في ترجمته لفاطمة رضي الله عنها حيث نصّ على أنّ الزواج كان سنة اثنتين من الهجرة بعد وقعة بدر، وقال صاحب "عون المعبود 6/ 114": تزوجها علي رضي الله عنه في السنة الثانية من الهجرة في شهر رمضان وبنى عليها في ذي الحجة، فيما يرى الشيخ المفيد –وهو من كبار علماء الإمامية– أنّ الزواج كانت ليلة خميس سنة ثلاث من الهجرة النبوية كما نقل ذلك المجلسي في البحار 43/ 92، وعلى كل الأحوال فإنّ الزواج لم يتم إلا بعد الهجرة بسنتين أو أكثر.

عنه، هذا أمر واقعي سطّره التاريخ ولا بد لنا أن نتمعن فيه، إنّ الإمام علي قد تفوق على الإمام أبي بكر في المبارزة والقتال لكنه لم يتفوق عليه في القدرة على قيادة الأمة واحتواء التيارات السياسية المتنافسة في المجتمع الإسلامي وجمعها على كلمة واحدة، هذه هي الحقيقة دون تجميل أو محاباة. أما مسألة الشجاعة فمن الذي قال بأنّ الشجاعة يُمكن أن تقاس بالقتال فقط؟ (إنّ الشجاعة ليست بكثرة قتل اليد ولا قوة البدن، فإنّ نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أشجع الخلق كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كنا إذا احمرّ البأس ولقي القومُ القومَ كنا نتّقي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان يكون أقرب إلى القوم منا. وقد انهزم أصحابه يوم حنين وهو على بغلة يسوقها نحو العدو، ويتسمّى بحيث لا يُخفي نفسه ويقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطّلب ومع هذا فلم يقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده إلا واحداً وهو أُبيّ بن خلف قتله يوم أحد. وكان في الصحابة من هو أكثر قتلاً من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وإن كان لا يفضل عليهم في الشجاعة، مثل البراء بن مالك أخي أنس بن مالك، فإنه قتل مئة رجل مبارزة غيرَ من شركَ في دمه. ولم يقتل أحدٌ من الخلفاء على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا العدد، بل ولا حمزة سيد الشهداء - وهو أسد الله ورسوله – لم يقتل هذا العدد، وهو في الشجاعة إلى الغاية) (¬1). ¬

_ (¬1) جامع المسائل لتقي الدين ابن تيمية ص247 - 249 بتصرف.

وثبات أبي بكر الصدّيق وحده مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بداية البعثة حيث لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الرجال سواه، وثباته بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ تزلزل الناس إلى حد حسمه الأمر بالوقوف خطيباً في الناس قائلاً: (أيها الناس، من كان يعبد محمداً فإنّ محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حي لا يموت) كله يؤكد أهلية أبي بكر الصدّيق لتولي قيادة الأمة الإسلامية على غيره وهو ما فعله المهاجرون والأنصار دون تردد. هذه بعض الردود التي ارتئيتها في حسم مسألة المفاضلة مع ما أشعر به من الضيق من الاسترسال في مثل هذه الأمور التي لا تفيد ولا تنفع، يكفيني أنهما فاضلان مؤمنان نصرا الإسلام حين خذله الآخرون، قدّما أنفسهما وأهليهما وأموالهما في سبيل نصرة هذا الدين، فما ينفعني بعد ذلك من كان أفضل منهما من الآخر؟!

الإمامية أضعف حجة قرآنية من أهل الكتاب

الإمامية أضعف حجة قرآنية من أهل الكتاب (¬1) لقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل في ظاهرها على صحة دين أهل الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم كالصابئة. وقد احتجوا بها على عدم وجوب إسلامهم وشرط متابعتهم لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وهي أقوى في دلالتها بمراتب كثيرة من الآيات التي احتج بها الإمامية على إثبات أصل (الامامة). ومع ذلك فلا نرى لهم -أي اليهود والنصارى- فيها حجة على ما يقولون بل نجزم بأنهم صرفوا معاني الآيات إلى غير معانيها الحقيقية! من هذه الآيات: 1 - قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬2). إنّ ظاهر هذه الآية يدل على صحة دين اليهود والنصارى. إذ لم يشترط للنجاة يوم القيامة إلا الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح. دون الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغير ذلك من شروط الإسلام. فهل لأي دليل من أدلة (الإمامة) التي احتجوا بها مثل هذه القوة والوضوح في الدلالة على المراد؟! ¬

_ (¬1) المنهج القرآني الفاصل بين أصول الحق وأصول الباطل ص206 - 213 بتصرف. (¬2) سورة البقرة آية 62

أما موضع الخلل في الاستدلال بهذه الآية، فيكمن في عزلها عن الآيات المحكمة التي تشترط الإسلام ومتابعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتي من شأنها أن تجعل الآية خاصة بمن مات ولم يبلغه الإسلام، مع أنّ هذا القيد غير موجود في الآية وإنما يتبين من إرجاعها إلى الأصل. وهو الآيات المحكمة (أم الكتاب). ولنا أن نسأل فنقول: هل يوجد في القرآن كله نص واحد يدل بظاهره دلالة واضحة على (إمامة) علي رضي الله عنه أو الإثني عشر كدلالة نص هذه الآية في ظاهرها على صحة دين اليهود والنصارى والصابئين. التي لولا وجود آيات أخرى محكمة تقيدها، لكانت نصاً صريحاً في نجاتهم وصحة دينهم؟! 2 - قوله تعالى {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} (¬1) وقوله تعالى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬2). قال اليهود والنصارى: نحن أهل الذكر فنحن المرجع والأصل فكيف نكون كفاراً؟! ولا شك أنّ سياق الآية يدل على أنّ المقصود بـ (أهل الذكر) أهل الكتاب. لأنّ قريشاً استدلت على بطلان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببشريته. وأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَ يَاكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} (¬3). أي ¬

_ (¬1) سورة يونس آية 94 (¬2) سورة الأنبياء آية 7 (¬3) سورة الأنبياء آية 7و8

تستطيعون- إن لم تكونوا تعلمون- أن تسألوا أهل الكتاب (الذكر) فيخبروكم هل الأنبياء بشر أم لا؟ فقوله {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْر} يساوي قوله {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ}. وقوله {إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} يساوي قوله {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} وقد جاء قبلها مباشرة قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّانَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ} (¬1). وهذا مدح. بل قال الله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬2). إنّ هذه الآية أقوى دلالة وأليق بما قال اليهود والنصارى منها بما قاله الإمامية من أنّ مقصود الله فيها بـ (أهل الذكر) هم (الأئمة الإثنى عشر)! إذ لا علاقة بين منطوق الآية وذكر (الأئمة) البتة، ولا قرينة تدل عليهم فيها لا من قريب ولا بعيد! ولو اختلف اليهود والنصارى مع (الإمامية) في هذه الآية: أيهما أحق بها وأولى؟ لكان الرجحان واضحاً في جانب اليهود والنصارى. ونحن نقول للإمامية: استخلصوا حقكم في الآية من اليهود والنصارى. ثم احتجوا بها على ما تريدون!! 3 - قوله تعالى {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬3) مرتين في القرآن، وفيها تنصيص على أفضليتهم واختيارهم على العالمين. ¬

_ (¬1) سورة يونس آية 93 (¬2) سورة الشعراء آية 197 (¬3) سورة البقرة آية 47 و112

وقوله تعالى أيضاً في سورة الدخان {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ. مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًاً مِنْ الْمُسْرِفِينَ. وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬1) ففي هذه الآيات تنصيص على اختيارهم وتفضيلهم على العالمين. أليس فيه حجة لهم على أنهم شعب الله المختار؟! فلماذا لا نقر لهم بذلك؟ سؤال نوجهه إلى (الإمامية) الذين فضّلوا أنفسهم على الأمة وعلى العالمين. وليس عندهم من نص قرآني بذلك، متشابه ولا غير متشابه. وأي رد يصلح أن يكون رداً على اليهود، يكون رداً على غيرهم من باب أولى! تصور لو أنّ الله قال: ("يا شيعة علي" اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) أو قال: (ولقد نجينا "الإمامية" من العذاب المهين ولقد اخترناهم على علم على العالمين) ماذا سيقولون؟ ‍ ألن يجعلوا الحق في اتباع مذهبهم ويستدلوا بهذه الآيات على أحقية هذا المذهب؟ إنّ المنطق العلمي الاستدلالي يقضي بأنه حتى لو قال – سبحانه - ذلك لما كان لهم به من حجة. لأنّ القول نفسه لم يصلح حجة اليهود الذين نزل فيهم. فكذلك لو نزل في غيرهم. فكيف والله تعالى لم يقل مثله في حق الإمامية ولم يشر إلى ذلك أدنى إشارة؟ ‍! ضع بدل "بني اسرائيل" في قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} (¬2) لفظ "الإمامية" أو "بني علي" وتصور ماذا ستكون النتيجة؟! ¬

_ (¬1) سورة الدخان آية 30 - 32 (¬2) سورة الجاثية آية 16

{وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} (¬1). تخيل أن الله تعالى قال: (وأورثنا شيعة علي الكتاب)؟ ‍! {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} (¬2). {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬3). ولو جاء ذكر الإمامية بدل بني إسرائيل لقالوا: هذا نص في (الإمامة) و (الأئمة) (¬4). والحقيقة أنّ الإمامية احتجوا بهذا النص دليلاً على (الإمامة) مع أنه في حق بني إسرائيل!! ¬

_ (¬1) سورة غافر آية 53 (¬2) سورة الأعراف آية 137 (¬3) سورة السجدة آية 23 و24 (¬4) إنّ هذا الذي نقوله ليس افتراضات ذهنية مجردة. بل هو عين ما فعله علماء الإمامية منذ زمن بعيد! فمن ذلك ما رواه الكليني في كتاب (الكافي) منسوباً لـ (الأئمة). وهذا بعضه: 1 - عن أبي جعفر (ع) قال: نزل جبريل (ع) بهذه الآية هكذا: ((إنّ الذين ظلموا (آل محمد) لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً)) 1/ 424 2 - عن أبي جعفر (ع) قال: نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية هكذا: ((فأبى أكثر الناس (بولاية علي) إلا كفوراً)). ونزل جبريل (ع) بهذه الآية هكذا: ((وقل الحق من ربكم (في علي) فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنّا أعتدنا للظالمين (آل محمد) ناراً)) 1/ 425 3 - عن أبي جعفر (ع) قال: نزل جبريل (ع) بهذه الآية على محمد صلى الله عليه وآله وسلم هكذا: ((بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله (في علي) بغياً)) 1/ 417 4 - عن جابر قال: نزل جبريل (ع) بهذه الآية على محمد هكذا: ((وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا (في علي) فاتوا بسورة من مثله)) 1/ 417 ومثل هذا الكفر الصريح في كتاب (الكافي) وأمثاله كثير!

4 - قوله تعالى {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} (¬1). تصور لو أنّ الله قال: (ولقد أخذنا ميثاق "آل محمد" وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً). ماذا سيقولون؟ سيقولون: هذه الآية نص في الأئمة الإثني عشر. وأنّ الأئمة منصوص عليهم في الكتاب! ولكن الآية نص في بني إسرائيل. وليس لبني إسرائيل فيها حجة. فهل عند الإمامية نص قرآني بقوة هذه الآية ووضوحها ودلالتها؟! ولقد ذكر الله تعالى أنه اختار امرأة منهم وفضلها على نساء العالمين، هي مريم ابنة عمران. ورزقها بولد من دون زوج. وجعله نبياً كما قال سبحانه {وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} (¬2) وأنزل في حقها الكثير من الآيات مصرحة باسمها كقوله سبحانه {وَمَرْيَمَ ابنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ} (¬3). كل هذا لا يشفع لليهود، وليس فيه حجة لهم لأنهم مقطوعو الصلة بذلك السلف الصالح كما قال تعالى {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية 12 (¬2) سورة آل عمران آية 42 (¬3) سورة التحريم آية 12 (¬4) سورة البقرة آية 133 - 134

وقال {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالانجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬1) وأوله الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ومتابعته. إنّ الألقاب والانتساب لا ينفع صاحبه دون عمل ومتابعة لمن انتسب إليه كما قال الرب جل وعلا {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} (¬2) وليس الذين أحبوه، أو انتسبوا إليه. فحب اليهود ليعقوب وانتسابهم إليه، وحبهم لداود وموسى وسليمان وغيرهم. وحب النصارى للمسيح وانتسابهم إليه ليس بنافعهم لانقطاعهم عن المنهج والتعاليم التي جاء بها هؤلاء الأنبياء الكرام عليهم السلام: قال تعالى {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}. هذا هو الانتساب الأجوف الذي لا قيمة له. لذلك عقب الله عليه بقوله {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} (¬3). إنّ الله يريد الملة والدين الصحيح. أما الاسم والنسب فلا قيمة له عنده. ومع هذا كله انتقل إلينا هذا المرض الخطير فصار فينا من يتعصب للأسماء والطوائف، ويفخر بالانتساب إلى مشاهير الملة دون العمل بما دعوا إليه، وجاهدوا من أجله. وهذا ليس بنافعهم بل هو ضار بهم: في الدنيا تفرقة وتمزقاً وفتناً. وفي الآخرة خسراناً مبيناً. إنّ الانتساب إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه لن ينفع صاحبه من دون عمل واتباع كما قال سبحانه {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية 68 (¬2) سورة آل عمران آية 68 (¬3) سورة البقرة آية 135 (¬4) سورة آل عمران آية 31

فحب الله تعالى نفسُه لا وزن له عنده من دون اتباع صحيح لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. فما بالك بالانتساب إلى من هو دون محمد صلى الله عليه وآله وسلم كالإمام علي أو غيره وادعاء حبه والتعصب له؟! ولو افترضنا أنّ الله تعالى أمر بذلك صراحة فلا شك أنه لم يقصد الانتساب المجرد عن المتابعة. فكيف إذا كان المنتسب مخالفاً لصريح القرآن منهجاً وتطبيقاً. وأول ذلك اتباع المتشابهات وترك المحكمات؟!

آية {لا ينال عهدي الظالمين}

آية {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} لا يكاد يُطرح موضوع الإمامة في كتب الشيعة الإمامية عادة إلا مقروناً بالاستدلال بقوله تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} (¬1). وتأتي بعد ذلك النظرية الإمامية للآية لتحاول من خلالها إثبات إمامة الأئمة الإثني عشر وبطلان إمامة من سواهم. قد تتساءل كيف؟ ومن حقك أن تتساءل طالما لم تر في النص ما يدل على إمامة الإثني عشر من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن النظرية الإمامية صاغت استدلالها بالآية من خلال الجزئية الأخيرة منها (لا ينال عهدي الظالمين). تقول النظرية: إنه لا ينال الإمامة ظالم، والذنب ظلم، وما دام الأمر كذلك فيتعين أن يكون خليفة المسلمين معصوماً عن اقتراف الذنوب والخطايا حتى ينال عهد الله (الإمامة) بل ينبغي لإمام المسلمين فوق هذا كله أن لا يخطئ ولا يسهو ولا ينسى، ولا يتحقق هذا إلا في الأئمة الإثنى عشر. قال الطبرسي في تفسيره "مجمع البيان": (واستدل أصحابنا بهذه الآية على أنّ الإمام لا يكون إلا معصوماً عن القبائح، لأنّ الله سبحانه نفى أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالماً إما لنفسه، وإما لغيره) (¬2). ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية 124 (¬2) تفسير مجمع البيان 1/ 377

وفي تقرير مسألة عصمة الإمام وتحديد مفهوم الإمامة في الآية الكريمة يقول الشيخ جعفر السبحاني: (والاستدلال بالآية على عصمة الامام، يتوقّف على تحديد مفهوم الإمامة الواردة في الآية والمقصود منها غير النبوّة وغير الرسالة، فأمّا الأوّل فهو عبارة عن منصب تحمّل الوحي، والثاني عبارة عن منصب ابلاغه إلى الناس. والإمامة المعطاة للخليل في أُخريات عمره غير هذه وتلك، لأنّه كان نبياً ورسولا وقائماً بوظائفهما طيلة سنين حتّى خوطب بهذه الآية، فالمراد من الإمامة في المقام هو منصب القيادة، وتنفيذ الشريعة في المجتمع بقوة وقدرة. ويعرب عن كون المراد من الإمامة في المقام هو المعنى الثالث، قوله سبحانه {أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظيماً}. فالإمامة الّتي أنعم بها الله سبحانه على الخليل وبعض ذرّيته هي الملك العظيم الوارد في هذه الآية. وعلينا الفحص عن المراد بالملك العظيم، إذ عند ذلك يتّضح أنّ مقام الامامة، وراء النبوّة والرسالة، وانّما هو قيادة حكيمة، وحكومة إلهية، يبلغ المجتمع بها إلى السعادة (¬1). وقد فات الشيخ السبحاني أنّ ابراهيم عليه السلام نفسه لم يكن ملكاً في يوم من الأيام كبعض آله عليهم السلام! فإنّ يوسف عليه السلام قد نال الملك العظيم كما قال الله تعالى في كتابه المجيد {رَبِّ قَدْ اَتَيْتَنِى مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِنْ تَأويلِ الأحاديث} (¬2). ¬

_ (¬1) الملل والنحل 6/ 294 (¬2) سورة يوسف آية 101

وإنّ داود عليه السلام قد نال الملك العظيم كما في قوله تعالى {وَآتاهُ اللهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشآء} (¬1) ويقول سبحانه {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَاب} (¬2). وإنّ سليمان عليه السلام قد نال أعظم ملكاً لم ينله أحد من بعده كما حكى الله تعالى عن سليمان أنّه قال {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأحَد مِنْ بَعْدِى إنَّكَ أنْتَ الوَهَّاب} (¬3). فإن كان تفسير الآية كما يدّعي السبحاني فإنّ أولى الناس بنيل هذا الملك العظيم نصاً وعقلاً وواقعاً هو إبراهيم عليه السلام نفسه الذي جعله الله بنص الآية إماماً للناس لكن أبى الله تعالى إلا أن يخيب آمال أرباب النظرية الإمامية الإثنى عشرية. فإنهم يعجزون عن إثبات نيل إبراهيم عليه السلام الإمامة التي يدّعونها ويحاولون إثباتها من هذه الآية، ولن يستطيعوا إثباتها حتى ولو اجتمعت الإنس والجن لذلك وكان بعضهم لبعضٍ ظهيراً. ولنا في نقد استدلالهم بهذه الآية على الإمامة النصية بل وجعلها مرتبة أعلى وأجل من النبوة والرسالة عدة وقفات: الوقفة الأولى: لا يصلح الاستدلال بالمتشابهات في إثبات العقائد! فإنّ الآية الكريمة ليست محكمة وقطعية بحيث لا يختلف فيها إثنان بل وقع في كل جزئية منها خلاف كبير دوّنته كتب التفسير على اختلافها واختلاف مشارب واتجاهات كاتبيها. ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية 251 (¬2) سورة ص آية 20 (¬3) سورة ص آية 35

وقد عرّف الطوسي المحكم والمتشابه بقوله: (فالمحكم هو ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن إليه ولا دلالة تدل على المراد به لوضوحه، نحو قوله {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} وقوله {لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة} لأنه لا يحتاج في معرفة المراد به إلى دليل. والمتشابه: ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه. نحو قوله {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم} فإنه يفارق قوله {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيّ} لأنّ إضلال السامري قبيح، وإضلال الله بمعنى حكمه بأنّ العبد ضال ليس قبيح بل هو حسن) (¬1). فالخوض في المتشابهات زلة ومهلكة، وأداة للخلاف يتسع بها إلى حيث يشاء الله، (فإنّ أكثر الاختلافات الواقعة في الفروع (¬2) إنما نشأت من الخوض في المتشابهات التي يضطر الناظر فيها إلى الاستمداد بالرأي المتلون السيال الذي لا يقف على حد ولا على حال) على حد قول الشيخ عبد الله الجزائري في التحفة السنية ص6. وإنما سبيل المؤمن البصير في التعامل مع الآيات المتشابهات أن يسلك فيها القاعدة الشرعية الأصيلة القائلة: (إنّ الآيات المتشابهات إذا وردت وجب ردها إلى الآيات المحكمات) (¬3). {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا ¬

_ (¬1) التبيان 2/ 394 - 395 (¬2) إذا كان هذا حال الفروع وأثرها أقل بكثير من أصول الدين فكيف بالأصول والعقائد؟! (¬3) حقائق التأويل للشريف الرضي ص277

الألْبَاب} (¬1)، (فإنه يُعلم منها: أنّ المتشابهات مستمسك أهل الفتنة، دون أهل الفهم والعلم والمعارف والمحققين مثلاً) (¬2). فإن عاند معاند وشاغب مشاغب، زاعماً أنّ الآية صريحة وقطعية في الدلالة على الإمامة التي اصطلحت عليها الشيعة الإثنا عشرية مخالفة بذلك جميع طوائف المسلمين ألزمناه باحدى الاحتمالات التفسيرية القوية للإمامة المذكورة في الآية، والتي لن يجد في دفعها وإثبات بطلانها مستنداً سوى الهذيان والافتراضات الواهية! فإنّ تفسير الإمامة المذكورة في الآية بكونها إمامة النبوة لا يُقارن أبداً بدعوى الشيعة الإثنى عشرية الظنية، وإليك بيان هذه الأدلة: أولاً: إنّ دعوى نيل نبي الإمامة بعد أن لم تكن عنده دعوى فاسدة كاسدة لا تليق بالأنبياء، فالأنبياء هم أئمة لأقوامهم يأتمون بهم في كل ما يأمرون به وينهون عنه، ومن المحال أن يُراد بالإمامة هنا وجوب الاتباع لأنّ كل نبي لا بد أن يكون مطاعاً كما قال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} (¬3). فكل رسول إمام ولا بد – وإلا كيف كان رسولاً؟ - وليس كل إمام رسولاً. فالإمام وصف لازم للرسالة وليست شيئاً خارجاً عنها حتى يصح القول بأنّ الرسول يمكن أن يتدرج به الحال فيكون رسولاً أول الأمر ثم يكون من بعد إماماً أو لا يكون. إذ بمجرد أن يكون العبد رسولاً يكون إماماً لأنّ الإمامة من الأوصاف اللازمة للرسالة. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية 7 (¬2) تحريرات في الأصول لمصطفى الخميني 6/ 332 (¬3) سورة النساء آية 64

وذلك كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} (¬1). فإنّ الشاهد والمبشر والنذير والداعي والسراج المنير ليست مناصب مستقلة عن النبوة وإنما هي أوصاف لازمة لكل رسول، فإذا كان النبي كذلك كان إماماً ولا بد. ولذلك فرّق الله تعالى بين داود وإبراهيم عليهما السلام في الخطاب. فقال لداود عليه السلام {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّه} (¬2) بينما قال لإبراهيم عليه السلام {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}، لأنّ داود عليه السلام كان خليفة وحاكماً متصرفاً، وإبراهيم عليه السلام لم يكن كذلك. ولا بأس بالاستئناس بكلام للمحقق الأردبيلي - وهو من كبار علماء الشيعة الإثني عشرية - في شرحه لقوله تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} يذهب فيه إلى أنّ الإمامة المذكورة لغوية لا اصطلاحية حيث يقول: (والإمام: المقتدى به في أفعاله وأقواله، وهو أحد معنيي الإمام في مجمع البيان وفي الكشاف هو اسم لمن يؤتم به كالإزار لما يؤتزر به، يعني يأتمون بك في دينهم) (¬3). وبهذا يكون قوله تعالى {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} جملة مفسرة للجملة السابقة وهي قوله تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنّ} فتكون إمامة النبوة هي احدى تلك ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب آية 45 - 46 (¬2) سورة ص آية 26 (¬3) زبدة البيان ص44

الابتلاءات التي ابتلي بها ثم تتابعت بقية الابتلاءات كبناء البيت العتيق وذبح ولده والصبر على إلقاءه بالنار وغيرها. ولا عجب في هذا، فإنّ الابتلاء كما يكون بالضراء فإنه يكون بالسراء كذلك. ثانياً: أنّ الله تعالى قد قال في كتابه الكريم واصفاً الإمامة التي نالها إبراهيم عليه السلام وذريته من بعده {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب} (¬1) ولم يقل (الإمامة والكتاب)، وهذه قرينة قوية قد تصلح لتفسير الآية. ومن غير المعقول أن يكون لدى هؤلاء الأنبياء ما هو أعظم من النبوة (أي الإمامة في المنظور الشيعي الإثنى عشري) ثم لا يذكرون بها. وقد ذكر الشيخ عبد الله دشتي – وهو من علماء الشيعة المعاصرين - في كتابه (الإمامة في جذورها القرآنية) ما يؤكد المعنى الذي ذهبنا له في تفسير الإمامة بإمامة النبوة من دون أن يشعر بذلك إذ يقول: (ومن الآيات التي صرحت في اختيار الله الأنبياء من ذرية إبراهيم عليه السلام قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين} ومثله قوله تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون}. والواضح أنّ الذين أوتوا الكتاب هم من المحسنين من ذريته. وأما المنطلق الذي يذكره القرآن لانتقال تلك الإمامة إلى ذرية إبراهيم عليه السلام فتتضح من قوله تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت آية 27

الظَّالِمِين} (¬1) حيث دعا إبراهيم ربه لتكون الإمامة في عقبه وذريته، وقد قبل الله تعالى ذلك وبيّن له اختصاصها بغير الظالمين منهم، وقد صرّح القرآن بانقسام ذريته إلى محسن وظالم في قوله تعالى {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِين} (¬2) بل إنّ الله تعالى قد صرّح بأنّ الأمر باقٍ في عقبه بقوله {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِه} (¬3) (¬4). فلاحظ هذا النسيج المترابط بين دعوة إبراهيم عليه السلام ربه عز وجل أن تكون الإمامة في ذريته وإجابة الله تعالى له بأنه لن ينالها الظالمون من ذريته وإنما سينالهم المستحقون لها ثم إشارة الله تعالى إلى مباركته على إبراهيم عليه السلام واصطفاه جملة من ذريته بالنبوة والكتاب. ولاحظ هذا التجانس العجيب بين قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} وبين قوله عن ذريته {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب} فالجعل في الآيتين واحد والإجابة على طلب إبراهيم عليه السلام في جعل الإمامة في ذريته كان بالنبوة! قال الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب}: (فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية 124 (¬2) سورة الصافات آية 112 - 113 (¬3) سورة الزخرف آية 28 (¬4) الإمامة في جذورها القرآنية ص50 - 51 (¬5) تفسير القرآن العظيم 1/ 227

بل تأمل وصف الله تعالى لإسحاق ويعقوب عليهما السلام بالإمامة في قوله {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين} (¬1) وتكراره الحديث عنهم في سورة مريم باستبدال كلمة (الإمامة) بكلمة (النبوة) حيث يقول عزّ من قائل {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} (¬2) فإنه مُشعِرٌ بأنّ الإمامة المذكورة هي إمامة النبوة، فهناك نصّ على أنهم أئمة يُوحي إليهم وهنا نصّ على كونهم أنبياء. ومما يزيد هذا كله بياناً ما ورد في سورة الأنعام في ذِكر إبراهيم عليه السلام وذريته حيث ترى بجلاء أنّ الإمامة التي جُعلت في ذرية إبراهيم هي إمامة النبوة حيث يقول تعالى {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ. وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِين} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء آية 72 - 73 (¬2) سورة مريم آية 49 (¬3) سورة الأنعام آية 83 - 89

فقد ختم الله تعالى الحديث عنهم بقوله {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} ولو كانت الإمامة مرتبة فوق النبوة وقد نالها إبراهيم عليه السلام وذريته المعصومين من بعده (¬1) لذُكِروا بهذا الوصف، فإنّ الأسماء المذكورة في الآية كلها أسماء أنبياء معصومين! وإزاء ذلك لم يجد عالماً كبيراً من علماء الشيعة الإثنى عشرية كآية الله العظمى محمد باقر الصدر سوى الاعتراف بأنّ الإمامة المذكورة في حق الأنبياء في الآيات هي إمامة النبوة. يقول محمد باقر الصدر في كتابه "الإسلام يقود الحياة": (والإمامة ظاهرة ربانية ثابتة على مر التاريخ وقد اتخذت شكلين ربانيين: أحدهما شكل النبوة التابعة لرسالة النبي القائد فقد كان في كثير من الأحيان يخلف النبي الرسول أنبياء غير مرسلين يكلفون بحماية الرسالة القائمة ومواصلة حملها. وهؤلاء أنبياء يوحى إليهم، وهم أئمة بمعنى أنهم أوصياء على الرسالة وليسوا أصحاب رسالة {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون} (¬2) والشكل الآخر هو الوصاية بدون نبوة وهذا هو الشكل الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله تعالى فعين أوصياءه الإثني عشر ...) (¬3). ¬

_ (¬1) لا عن الشرك والظلم والكبائر والصغائر فحسب بل أيضاً منزهون في معتقد الشيعة الإثنى عشرية عن الخطأ البشري والسهو والنسيان، ومع ذلك لم يُذكر في حقهم أنهم نالوا مرتبة فوق النبوة وفقاً لنظرة الشيعة الإثنى عشرية لقوله تعالى {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين}. (¬2) سورة السجدة آية 24 (¬3) الإسلام يقود الحياة ص196 - 197

وهو اعتراف صريح من هذا العالم الشيعي الكبير بأنّ الإمامة في الآيات محمولة على معنى النبوة، فالأنبياء الذين نص الله تعالى على إمامتهم هم أنبياء يحرسون رسالة من سبقهم ويدعون إليها، وأنّ الإمامة بالمعنى الذي يفهمه الشيعة الإثنى عشرية خاصة بأئمة أهل البيت الإثنى عشر لا غيرهم. وقد سبقه إلى هذا مير علي الحائري الطهراني في تفسيره لقوله تعالى {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين} (¬1) إذ يقول: (والمراد بهذه الإمامة النبوة) (¬2). ثالثاً: هناك من علماء الشيعة الإثني عشرية من أذعن للحق فصدع به مبيناً أنّ الإمامة في الآية الكريمة هي النبوة أو الرسالة صراحة أو ضمناً، ومن هؤلاء: *المحقق الحلي حيث يقول في كتابه "المسلك في أصول الدين" عن عصمة النبي: (وأما قبل النبوة فهو معصوم عن تعمّد المعصية صغيرة كانت أو كبيرة، ويدلّ عليه من القرآن قوله {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين}). ويقول في "الرسالة الماتعية": (وإذا عرفت أنّ الأنبياء نصبوا لإرشاد الخلق، وجب أن يكونوا معصومين من الذنوب كبيرها وصغيرها لأنهم قدوة الخلق، فلو جاز وقوع الخطأ منهم لحمل ذلك على اتّباعهم فيه. ويدل على ذلك من القرآن قوله تعالى {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين}) (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء آية 72 - 73 (¬2) مقتنيات الدرر 7/ 172 (¬3) المسلك في أصول الدين ص155 وتليه الرسالة الماتعية ص303 - 304

رابعاً: أنّ دعوى تقدّم الابتلاء على الإمامة وأنها حصلت كجزاء على النجاح في الابتلاء لا يستقيم لغة، فإنه لو كان الأمر كذلك لقال الله عز وجل (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهنّ فقال إني جاعلك للناس إماماً) فيؤتى بالفاء كرابطة ليكون ما قبلها (وهو الابتلاء) سبباً لما بعدها (وهي الإمامة)، وبعدم وجود (الفاء) يترجح كون العبارة تفسيراً وليس جزاءً لما قبلها. ومما يؤيد ذلك أنّ الجملة إذا جاءت جزاءاً لجملة تقدمت عليها، ولم تتأخر عنها. أما إذا تأخرت عنها فهي سبب أو تفسير لما قبلها. فالجملة المتأخرة التفسيرية كقوله تعالى {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا} (¬1) فجملة (أخرج) تفسير لجملة (دحاها). وأما السببية فكقوله تعالى {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} لماذا؟ {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين} (¬2) فجملة {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} سبب لما قبلها من قوله {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ..} فالجملة الجزائية تتقدم على الجملة السببية. فتأخير قوله {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} مع انعدام حرف (الفاء) يضعف كونها جزاءاً لما قبلها، وأنّ ما قبلها سبب لها (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النازعات آية 30 - 31 (¬2) سورة الحاقة آية 30 - 34 (¬3) المنهج القرآني الفاصل بين أصول الحق وأصول الباطل ص245

خامساً: إنَّ تفسيرنا للإمامة في الآية بأنها النبوة لا يتعارض مع كون إبراهيم عليه السلام نبياً قبل هذا البلاغ، لاحتمالين اثنين لا يخرج الحق منهما إن شاء الله تعالى: الاحتمال الأول: أن يكون المراد أنه عليه السلام كان نبياً مكلّماً يدعو إلى الله تعالى لكنه لم يكن مأموراً إذ ذاك بالبلاغ العام كحال نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل نزول قوله تعالى {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين} (¬1) فكان إخبار الله تعالى بأنه سيجعله إماماً للناس يأتمون به في أمر دينهم ودنياهم كنحو أمر الله تعالى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإنذار قومه وبالتصدي للدعوة جهرة بعد كانت خفية مرهونة بأشخاص محددين. الاحتمال الثاني: أن يُقال إنه عليه السلام كان نبياً مكلّماً يأتم به قومه الذين بُعث فيهم فوسّع الله تعالى دائرة إمامته بهذا الخطاب بحيث شملت من بُعث فيهم ومن آمن برسالته إلى يوم القيامة، فنال عليه السلام شرف الإمامة لمن بعده في مسائل عدة كالتوحيد (¬2) والولاء البراء (¬3) وإمامة الحج (¬4) وبعض السنن النبوية التي شرعها لقومه ولجميع من جاء بعده كسنن ¬

_ (¬1) سورة الشعراء آية 214 (¬2) سيأتي الحديث عنه في (الوقفة الثانية) (¬3) كما قال تعالى في سورة الممتحنة {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد}. (¬4) كما قال تعالى في سورة الحج {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق} فلا يُذكر الحج إلا ويُذكر إبراهيم عليه السلام فهو الرافع لقواعد بيت الله والمؤذن للحج ليأتم الناس كلهم به في مناسكهم فكان أول من ائتم به هو ابنه إسماعيل عليه السلام ثم الناس جميعاً كما قال تعالى في= = سورة البقرة {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيم} وسورة إبراهيم {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء. الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء}.

الفطرة المعروفة (¬1). الوقفة الثانية: لقد عَدَّدَ آية الله العظمى المنتظري في كتابه (نظام الحكم في الإسلام ص109) الشروط الواجب توفرها بالخليفة فذكر ثمانية اتفق الفقهاء عليها وستة أخرى اختلفوا فيها. لكن الملفت للنظر هو استشهاد هذا المرجع الشيعي الكبير بقوله تعالى {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} على اشتراط (العدالة) في إمام المسلمين، بينما تكلم عن اشتراط (العصمة) في الإمام دون استشهاد ولا إشارة إلى هذه الآية الكريمة مكتفياً ببعض الروايات الشيعية الدالة على اشتراط العصمة! يقول المنتظري: (3 - العدالة، فلا ولاية للظالم والفاسق على المسلمين، ويدل عليه مضافاً إلى حكم العقل، الآيات والروايات الكثيرة: ¬

_ (¬1) فقد روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خمس من الفطرة: الختان والاستحداد وتقليم الأظفار ونتف الإبط وقص الشارب) وهي سنن إبراهيم عليه السلام العتيقة التي سنها للناس.

1 – قال تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} فكل ما يخالف الحق يصح أن يطلق عليه الظلم فكل فاسق ظالم، وكل منحرف عن الحق كذلك) (¬1). وغير خافٍ عنك أنّ استشهاد المنتظري بهذه الآية على شرط العدالة دون العصمة دالٌ على اعتقاده بأنّ الآية ليست بدالة على اشتراط العصمة في إمام المسلمين، وكفى بذلك إلزاماً للمتعصبين. أما آية الله الشيخ محمد آصف المحسني فقد أعلن بكل صراحة أنّ الشرط الذي تضمنته الآية بيقين هو العدالة وليس العصمة فيقول في كتابه "صراط الحق في أصول الدين" عند كلامه عن الآية: (لكن القدر المتيقن من دلالة الآية الكريمة هو اشتراط العدالة في الإمام من أول عمره إلى آخره، إذ العدالة تكفي لأن يصدق عليه أنه غير ظالم، ولذا لا يصدق على الأخيار وأفاضل العلماء الأبرار أنهم ظالمون صدقاً عرفياً، وكلام الله أيضاً منزل على فهمهم) (¬2). الوقفة الثالثة: الآية ذكرت منقبة لإبراهيم عليه السلام فقلبها الشيعة الإثنا عشرية إلى منقصة! لقد ادّعى الشيعة الإثنا عشرية بأنّ في الآية دلالة صريحة على كون الإمامة أعظم من النبوة. ¬

_ (¬1) نظام الحكم في الإسلام ص109 (¬2) صراط الحق في أصول الدين 3/ 97

وفي هذا يقول آية الله العظمى كاظم الحائري في كتابه "الإمامة وقيادة المجتمع": (إنّ الذي يبدو من الروايات أنّ مقام الإمامة فوق المقامات الاُخرى - ما عدا مقام الربوبية طبعاً التي يمكن أن يصل إليها إنسان) ويقول في موضع آخر: (فمقام الإمامة - إذن - فوق مقام النبوة) (¬1). وهو ما يؤكده آية الله ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره "الأمثل" بقوله: (فمنزلة الإمامة أفضل مما ذُكر، بل أسمى من النبوة والرسالة!) (¬2). ومما يزيده هذه التقريرات بياناً ما رواه الكليني في الكافي عن الإمام جعفر بن محمد أنه قال: (إنّ الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وإنّ الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، وإنّ الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وإنّ الله اتخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً فلما جمع له الأشياء قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} قال: فمن عِظمها في عين إبراهيم قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} قال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} قال: لا يكون السفيه إمام التقي) (¬3). وهنا إشكال لطيف يرِد على دعوى الشيعة الإثنى عشرية أنّ إبراهيم عليه السلام كان نبياً ثم ارتقى فصار رسولاً ثم ارتقى فصار إماماً، وهو إشكال لا يتنبه له إلا من فتح الله تعالى على قلبه وبصره (¬4). ¬

_ (¬1) الإمامة وقيادة المجتمع ص26و29 (¬2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل 1/ 372 (¬3) الكافي – كتاب الحجة – باب (طبقات الأنبياء والرسل والأئمة عليهم السلام) – رواية رقم (2). (¬4) حدثني عنه الأخ الفاضل عبد الملك الشافعي في احدى لقاءاتي معه.

فبتأمل الفرق بين الإمام والنبي والرسول والذي ورد بروايات شيعية عن الأئمة المعصومين في معتقد الإمامية، نلحظ مفارقة عظيمة بين الارتقاء المزعوم في حق إبراهيم عليه السلام وبين ما ينص عليه الأئمة المعصومين! فقد روى الكليني عن إسماعيل بن مرّار قال: كتب الحسن بن العبّاس المعروفي إلى الرضا (ع): جعلت فداك، أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟ قال: فكتب أو قال: الفرق بين الرسول والنبي والإمام أنّ الرسول الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم عليه السلام، والنبي ربما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص (¬1). وروى محمد بن الحسن الصفار عن بريد العجلي قال: سألتُ أبا عبد الله (ع) عن الرسول والنبي والمحدث، قال: الرسول الذى تأتيه الملائكة ويعاينهم وتبلغه عن الله تبارك وتعالى والنبي الذي يرى في منامه فهو كما رأى، والمحدّث الذي يسمع كلام الملائكة وينقر في أذنه وينكت في قلبه). وعنه عن زرارة قال: سألتُ أبا جعفر (ع) عن قول الله عزوجل {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} قلت: ما هو الرسول من النبي؟ قال: النبي هو الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول يعاين الملك ويكلمه، قلت: فالإمام ما منزلته؟ قال: يسمع الصوت ولايرى ولا يعاين ...) (¬2) والروايات في هذا كثيرة (¬3). ¬

_ (¬1) الكافي 1/ 176 – كتاب الحجة - (باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث) – حديث رقم (2). (¬2) الروايتان من بصائر الدرجات للصفار –باب في الفرق بين الأنبياء والرسل والأئمة– رواية رقم (1) و (2). (¬3) انظر: الكافي 1/ 176 وبحار الأنوار وغيرها.

فوفقاً لهذه الروايات فإنّ الفرق بين الرسول والنبي والإمام أنّ الرسول يرى المَلَك ويكلمه وربما رأى في منامه أحياناً وأنّ النبي يسمع صوت المَلَك لكنه لا يراه في أغلب الأحوال (¬1) وربما رأى في منامه أحياناً أما الإمام فإنه يسمع صوت المَلَك لكنه لا يراه ولا يعاينه أبداً! فعلى دعوى الشيعة الإثني عشرية بأنّ إبراهيم عليه السلام كان نبياً رسولاً ثم صار إماماً فإنّ ذلك يعني أنّ إبراهيم عليه السلام كان نبياً يرى في منامه ويسمع كلام الملك، ثم ارتقى إلى منصب أعلى وأسمى وهو الرسالة فصار يرى في منامه ويسمع كلام الملك ويراه عياناً، ثم ارتقى إلى منصب أعلى وأسمى -على دعوى الشيعة بأنّ الإمامة أعلى وأسمى من النبوة والرسالة- فصار يسمع كلام الملك ولا يرى في منامه ولا يرى الملك!! فهل كانت الإمامة بالنسبة لإبراهيم عليه السلام ارتقاء – كما يزعم الشيعة الإثنا عشرية- أم أنها صارت انحداراً إلى مرتبة فقد بسببها إبراهيم عليه السلام مزيتين في الفضل كانتا له وهما (رؤية المَلَك عياناً والرؤية في المنام) كما نصت على ذلك الروايات الشيعية؟! إنّ هذا التساؤل المحيّر الذي لا يعرف له العقلاء جواباً، قد حيّر أيضاً آية الله الشيخ محمد آصف مُحسني إذ يُصرّح في كتابه "مشرعة بحار الأنوار 1/ 271" في معرض حديثه عن إمامة إبراهيم عليه السلام بهذا قائلاً: (... لكن في الروايات الواردة في حق الإمام أنه يسمع الصوت ولا يرى الشخص، والرسول يرى الشخص، فإعطاء الإمامة بهذا المعنى لا يمكن للرسول. وهذا السؤال ذكرناه في الجزء الثالث من صراط الحق الذي ألّفناه في أيام شبابنا في النجف الأشرف ولم أفز على جوابه لحد الآن، وما أوتينا من العلم إلا أقل من القليل). ¬

_ (¬1) ففي رواية الكافي المذكورة آنفاً أنّ النبي (ربما رأى الشخص ولم يسمع).

الوقفة الرابعة: لقد ادّعى الشيعة الإثنا عشرية أنّ الإمامة التي هي (قيادة المجتمع) هي منزلة أعظم من النبوة، ونسبوا إلى الإمام الصادق قوله: (إنّ الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وإنّ الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، وإنّ الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وإنّ الله اتخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً، فلما جمع له الأشياء قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}، قال: فمن عِظمها في عين إبراهيم قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِي}) (¬1)، وهم لأجل هذه الإمامة المعظّمة والمصروفة عن آل البيت قد أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، وكفّروا لأجل ذلك الصحابة ومن والاهم (¬2)، بينما نجد أنّ الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه نفسه يشبه الإمامة التي يفضلونها على النبوة بـ (النعال) كما في الخطبة رقم (33) من "نهج البلاغة" والتي يقول فيها عبد الله بن عباس: (دخلت على أمير المؤمنين (ع) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال (ع): والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً). بل شبهها بـ (عفطة عنز!) إذ يقول في الخطبة الشقشقية في معرض تحسره على الخلافة (¬3): ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (¬2) كما سبق بيانه تحت عنوان (المرجعيات ولغة التكفير) فراجعه. (¬3) إنّ "نهج البلاغة" بما فيه من خطب وأقوال منسوبة إلى الإمام علي رضي الله عنه يفتقد إلى الإسناد المتصل إليه، فجامعه (الشيخ الرضّي) من أعلام القرن الرابع الهجري، وبينه وبين الإمام علي مفاوز، ومع هذا قبله الشيعة على ما فيه من العلل لعِدم عنايتهم بالإسناد الصحيح، ولقد بذل الشيخ عبد الزهراء الحسيني جهداً مضنياً فيما يبدو في كتابه (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) لإعطاء "النهج" نوعاً من المصداقية لكنه لم يفلح فإنّ أغلب الكتب التي اعتمد عليها في إثبات صحة ما يُنسب إلى الإمام علي في "النهج" هي كتب مُلَح وأدب ليس لها سند أصلاً!

(أما والذي فلق الحبة. وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر. وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم. لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها. ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز). يقول المرتضى في "الرسائل 2/ 113": (والعرب تقول: عفطت الناقة تعفط عفطاً وعفيطاً وعفطاناً فهي عافطة، وهو نثرها بأنفها كما ينثر الحمار. ويقال: عفطت ضرطت. وكلا من المعنيين تحتملهما اللفظة في هذا الموضع)! فكيف عظمت الإمامة في عين إبراهيم عليه السلام وحقرت في عين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟! وكيف تكون المنزلة التي هي أدنى من النعل أو عفطة العنز هي تلك المنزلة التي يراها الإمامية أنها أعظم من النبوة؟! الوقفة الخامسة: ما المراد بالظلم في الآية الكريمة؟ وهل الخطيئة مانعة من نيل الإمامة؟ لقد اشترط أرباب الشيعة الإثني عشرية للإمامة أن لا يقع من الإنسان ذنب ولو لبرهة من حياته وإن تاب وأصلح! وجعلوا الذنب والخطأ مانعاً من الإمامة، وبتدبر يسير للكتاب والسنة النبوية نلاحظ أنّ الحق بخلاف ما ذهبوا إليه. فهذا آدم عليه السلام قد وقع في الخطيئة كما قال الله تعالى {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِين} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية 35

فالأكل من الشجرة يجعل الآكل من الظالمين كما نصت على ذلك الآية وكما نص الله تعالى على ذلك بقوله {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (¬1) وقد أكل آدم عليه السلام منها ولذلك اعترف هو وحواء بوقوع الظلم منهما قائلين {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2) فكيف على قواعد الإمامية يستقيم هذا مع إمامته والنص على خلافته بقوله تعالى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة} (¬3)؟! فإنّ كل خليفة منصوص عليه شرعاً هو إمام شرعي واجب الاتباع ولا بد. لقد نال آدم عليه السلام العهد لما تاب وأناب كما قال الله تعالى {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم} (¬4) فهو ليس من الظالمين الذين لا ينالهم عهد الله وإن صدرت منه خطيئة أعقبتها توبة. ولذلك اصطفاه الله تعالى كما اصطفى غيره من الأنبياء والمرسلين لإمامة الناس فقال عز من قائل {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين} (¬5). وكذلك داود عليه السلام الذي صرّح الله تعالى بـ (جعله) خليفة في قوله {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْض} (¬6) جاءت هذه الآية فيه بعد أن ذكر الله تعالى عنه ارتكاب الخطيئة. ¬

_ (¬1) سورة طه آية 121 (¬2) سورة الأعراف آية 23 (¬3) سورة البقرة آية 30 (¬4) سورة البقرة آية 37 (¬5) سورة آل عمران آية 33 (¬6) سورة ص آية 26

فقد تحدثت الآيات عن قصة الخصمين اللذين تسورا عليه المحراب، وانتهت بقول الله تعالى {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب} (¬1). قال الطوسي: (قال أصحابنا: كان موضع الخطيئة أنه قال للخصم {لقد ظلمك} من غير أن يسأل خصمه عن دعواه، وفي آداب القضاء ألا يحكم بشيء ولا يقول حتى يسأل خصمه عن دعوى خصمه) (¬2). وكذلك سليمان عليه السلام، قال الله تعالى عنه {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّاب} (¬3) وقبلها ذكر الله تعالى قصة انشغاله بالخيل حتى فاتته صلاة العصر، وروي عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (إنّ سليمان بن داود عليه السلام عُرض عليه ذات يوم بالعشي الخيل فاشتغل بالنظر إليها حتى توارت الشمس بالحجاب فقال للملائكة: ردوا الشمس عليّ حتى أصلي صلاتي في وقتها) (¬4). فالتوبة بعد الخطيئة لا تحرم العبد من الفضل أو الفضيلة بل ترتفع فيه فيكون أقرب من الله تعالى الذي {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} ولولا الذنب لما حصلت التوبة والتطهير الذي به ينال العبد حب الرب. ¬

_ (¬1) سورة ص آية 24 - 25 (¬2) تفسير التبيان 8/ 553 (¬3) سورة ص آية 34 - 35 (¬4) من لا يحضره الفقيه 1/ 129وراجع إن شئت أيضاً: تفسير التبيان للطوسي 8/ 560 وتفسير الصافي للفيض الكاشاني 4/ 298 وتفسير كنز الدقائق للعلامة المشهدي 11/ 231 - 234 وتفسير القمي 2/ 234

(ومن المعلوم أنه قد يكون التائب من الظلم أفضل ممن لم يقع منه، ومن اعتقد أنّ كل من لم يكفر ولم يُذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره واهتدى بعد ضلاله وتاب بعد ذنوبه، فهو مخالف لما عُلم بالاضطرار من دين الإسلام، فمن المعلوم أنّ السابقين أفضل من أولادهم (¬1) وهل يُشبّه أبناء المهاجرين والأنصار بآبائهم عاقل؟!) (¬2). إنّ أول ما يُبطل دعوى مفسري الشيعة الإثني عشرية بأنّ المراد بـ (الظالمين) في الآية الكريمة مطلق من صدر عنه ظلم ما من شرك أو معصية وإن كان منه في برهة من عمره ثم تاب وأصلح، أنها دعوى بلا دليل. إنّ (الظالمين) جمع (ظالم) والظالم اسم للمتلبس بالظلم المقيم عليه أما من تاب وانخلع منه فلا يُسمى ظالماً وإلا لم يدخل أحد من التائبين الجنة لأنهم (ظالمون)، والله تعالى يقول {أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين} (¬3) وتوعدهم بالعذاب فقال {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} (¬4) ومثله في القرآن كثير. فكيف يصح أن يُقال: (إنّ المراد بالظالمين في هذه الآية مُطلق من صدر عنه ظلم ما من شرك أو معصية وإن كان في برهة من عمره ثم تاب وأصلح)؟! إذن كل المسلمين في النار! إنّ التائب من الذنب في شرعنا كمن لا ذنب له، والله عز وجل يقول {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ ¬

_ (¬1) مع أنّ أولادهم قد وُلدوا على الإسلام وتربوا عليه بينما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار كانوا على الشرك ثم اعتنقوا الإسلام. (¬2) من كلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله. (¬3) سورة هود آية 18 (¬4) سورة الكهف آية 29

وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (¬1). إنها ليست سوى محاولة يائسة لإخراج أبي بكر الصديق وغيره من الصحابة من شرف الإمامة واستحقاق الإمامة بدعوى أنهم كانوا مشركين فهم من (الظالمين) وإن تابوا وجاهدوا وضحوا من أجل الإسلام والمسلمين! ولعله يكفي حجة على من يستدل بآية {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} على الإمامة، أن تذكّره بقول الله تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ. وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِين} (¬2). ففي هذه الآيات الكريمات إجابة واضحة على من يدّعي أنّ المراد من الآية مطلق الذنب! فإنّ الله عز وجل ذكر في الآيات الكريمات أنه قد بارك على ابراهيم وإسحاق عليهما السلام ثم ذكر بأنّ من ذريتهما من هو محسن ومن هو ظالم لنفسه مبين، فأي عاقل يستطيع الادعاء بأنّ المراد هو أنّ من ذريتهما من هو معصوم ومن هو كباقي الصالحين يعصي ويتوب! بل المراد هو أنّ منهم من هو صالح عادل، ومنهم من هو طالح ظالم قد بان ظلمه وشركه. ودلائل ذلك كثيرة في بني إسرائيل الذين وُجد فيهم الصالحون المتقون، ووجد فيهم قتلة الأنبياء ومحرفو الكتب السماوية والمعاندون المكذبون لله ورسله. فإذا علمت هذا كله، فاعلم أنّ المراد بقوله تعالى {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} أن لا ينال عهد الله تعالى مشرك. ¬

_ (¬1) سورة الفرقان آية 70 (¬2) سورة الصافات آية 104 - 113

وفي هذا يقول العلامة ابن قيّم الجوزية: (وقال لإمامهم وشيخهم إبراهيم خليله {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} أي لا ينال عهدي بالإمامة مشرك، ولهذا أوصى نبيه محمداً أن يتبع ملة إبراهيم وكان يعلّم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، فملة إبراهيم التوحيد ودين محمد ما جاء به من عند الله قولاً وعملاً واعتقاداً، وكلمة الإخلاص هي شهادة أن لا إله إلا الله وفطرة الإسلام هي ما فطر الله عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له والاستسلام له عبودية وذلاً وانقياداً وإنابة) (¬1). وهو ما نصت عليه روايات الشيعة الإثني عشرية أيضاً وتصريحات بعض علمائهم. روى محمد بن الحسن الصفّار في "بصائر الدرجات" عن هشام بن سالم ودرست بن أبي منصور الواسطي عنهما عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا: (الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات) إلى أن قال: (وقد كان ابراهيم نبياً وليس بإمام حتى قال الله {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} بأنه يكون في ولده كلهم {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} أي من عبد صنماً أو وثناً) (¬2). وفي كتاب "الاحتجاج" للطبرسي في حديث طويل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: (إذ كان الله قد حظر على من ماسه الكفر تقلد ما فوضه إلى أنبيائه وأوليائه، بقوله ¬

_ (¬1) مدارج السالكين 3/ 481 (¬2) بصائر الدرجات للصفار ص393 (باب في الفرق بين الأنبياء والرسل والأئمة عليهم السلام ومعرفتهم وصفتهم) رواية رقم (20) والكافي للكليني1/ 174 (باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة) رواية رقم (1).

لابراهيم {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} أي المشركين، لأنه سمّى الظلم شركاً بقوله {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} فلما علم ابراهيم عليه السلام أنّ عهد الله تبارك وتعالى اسمه بالامامة لا ينال عبدة الأصنام، قال {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَام}) (¬1). وفي الأمالي للطوسي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم. فقلنا: يا رسول الله، وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟ قال: أوحى الله عز وجل إلى إبراهيم إني جاعلك للناس إماماً، فاستخف إبراهيم الفرح، فقال: يا رب، ومن ذريتي أئمة مثلي؟ فأوحى الله عز وجل إليه أن يا إبراهيم، إني لا أعطيك عهداً لا أفي لك به. قال: يا رب، ما العهد الذي لا تفي لي به؟ قال: لا أعطيك لظالم من ذريتك. قال: يا رب، ومن الظالم من ولدي الذي لا ينال عهدك؟ قال: من سجد لصنم من دوني لا أجعله إماماً أبداً، ولا يصح أن يكون إماماً. قال إبراهيم {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَام. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاس}) (¬2). وفي هذا يقول ابن شهرآشوب في "مناقب آل أبي طالب 1/ 213" ما نصه: (قوله {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} فقال ابراهيم من عِظم خطر الإمامة عنده {وَمِن ذُرِّيَّتِي} قال {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين}، وفي خبر إنه قال: ومن الظالم من ولدي؟ قال: من سجد لصنم من دوني فقال ابراهيم {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَام}). وقال الحافظ شمس الدين يحيى بن الحسن الحلي في كتابه "العمدة": (ونظيره في استحقاق الإمامة، لأنه يستحقها على طريق استحقاق النبي صلى الله عليه وآله للنبوة سواء بدليل قوله ¬

_ (¬1) الاحتجاج للطبرسي 1/ 373 وتفسير نور الثقلين للحويزي 2/ 546 (¬2) الأمالي للطوسي ص378 - 379

سبحانه وتعالى لابراهيم عليه السلام {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} والظلم هاهنا هو الشرك، وحد الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، والمشرك قد وجه عبادته إلى غير مستحقها، وهو عبادة الأصنام وهي غير مستحقة للعبادة) (¬1). وقال في "خصائص الوحي المبين": (وكذلك من عبد الأصنام من ولد إبراهيم عليه السلام لم ينف عنهم النسب، وإنما نفى عنهم استحقاق الإمامة على مقتضى نفي الوحي العزيز للإمامة عمن عبد الأصنام بدليل قوله تعالى {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين}) (¬2). وقال أيضاً: (فقال تعالى مجيباً له {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} وأراد بالظلم هنا عبادة الأصنام وأنّ من عبد الأصنام لا يكون إماماً {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِين} (¬3) (¬4). وكل هذا يلتقي التقاء واضحاً مع ما نص عليه كتاب الله تعالى من اعتناء إبراهيم عليه السلام بقضية التوحيد ونبذ الشرك بشكل خاص، فقد كان إبراهيم الخليل إمام الموحدين كلهم، ولذلك كان اليهود والنصارى يتنازعون إمامة إبراهيم عليه السلام لهم فقال لهم رب العالمين {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين} (¬5). ¬

_ (¬1) العمدة ص173 (¬2) خصائص الوحي المبين ص137 (¬3) كانت الآية في الأصل (إنّ في هذا لبلاغاً لقوم يعقلون)، فلعل المؤلف قد وهِم إذ لا وجود لمثل هذه الآية المزعومة في المصحف كله! فاقتضى الأمر مني تعديل الآية كما هي في كتاب الله تعالى، والغريب أنه قد كررها في كتابه أربع مرات وفي مواضع متفرقة دون التنبه لمثل هذا الخطأ الشنيع! (¬4) خصائص الوحي المبين ص188 (¬5) سورة آل عمران آية 68

ولذا كثيراً ما ترى أنبياء الله يشيرون إلى ابراهيم عليه السلام وإلى ملته، في إشارة منهم إلى تلك الإمامة الدينية. فهذا يوسف عليه السلام يقول لصاحبه في السجن {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} (¬1). وهذا يعقوب عليه السلام وهو على فراش الموت يجمع بنيه ليسألهم عن التوحيد اقتداء بأبيه إبراهيم عليه السلام الذي جمعه وإخوته ليُحضهم على التمسك بالدين كما أخبر الله تعالى عنه بقوله {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} (¬2). وحتى محمد صلى الله عليه وآله وسلم مأمور من الله تعالى باتباع ملة إبراهيم عليه السلام إمام التوحيد كما قال الله تعالى {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين} (¬3) فأين هذا كله مما يدّعيه الشيعة الإثنا عشرية في أنّ المراد بالظلم في الآية الكريمة هو الذنب؟! ¬

_ (¬1) سورة يوسف آية 38 (¬2) سورة البقرة آية 130 - 133 (¬3) سورة النحل آية 123

آية {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}

ولماذا أغفلوا ما ترويه تفاسيرهم من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمامين الباقر والصادق وهم يزعمون أنهم أتباع العترة الطاهرة والمدافعون عن تعاليمهم؟! إنه الهوى وما يفعله في أصحابه! آية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} لعل من أبرز ما يستدل به علماء الشيعة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والنص عليه من الله هو قوله تعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون} (¬1) حتى اشتهر تسميتها عند الشيعة الإثني عشرية باسم (آية الولاية). ووجه استدلال الشيعة الإثني عشرية بالآية كما يقول الحلي (يتوقف على مقدمات: أحدها أنّ لفظ (إنما) للحصر، وذلك معلوم عند أهل اللغة. الثانية: أنّ المراد بالولي هنا المتصرف، والمستحق لوصف الأولى، وهو معلوم من أهل اللغة حيث يُقال: فلان ولي المرأة لمن هو أولى بالعقد، ويصفون العصبة بأنهم أولياء الدم لأنهم أولى بالمطالبة. الثالثة: أنّ المراد بذلك هو علي عليه السلام ويدل عليه وجوه: أحدها: اتفاق المفسرين على أنها نزلت فيه عليه السلام. ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية 55

الثاني: أنها تدل على ثبوت الإمامة لمن اجتمعت فيه صفة إتيان الزكاة حين الركوع ولم يتصف بذلك غير علي عليه السلام لما تصدق بخاتمه في صلاته حال الركوع بالإجماع. الثالث: قد بيّنا أنها ليست عامة في حق المؤمنين كافة، وإلا لكان كل واحد ولي نفسه وهو محال وكل من خصّها ببعض المؤمنين قال: المراد بها علي عليه السلام) (¬1). فما مدى صحة ما ذهبت إليه النظرية الإمامية الإثنا عشرية؟ المناقشة: أولاً: قول الحلي بأنّ المفسرين متفقون على أنّ الآية نزلت في علي بن أبي طالب (¬2) يفتقد إلى الدقة على أقل أحواله، حيث لا اتفاق بين المفسرين على أنّ الآية نزلت في علي بن أبي طالب ولو أنّ الحلي قال: (قال بعضهم أنها نزلت فيه) لكان ذلك أدق وأصوب. فقد ذكر القرطبي في تفسيره للآية أكثر من سبب نزول ولم يجزم بأنّ الآية نزلت في علي دون الآخرين ممن ذكرهم، بل ذكر القرطبي ما يوجب نفي أن تكون الآية قد نزلت في علي دون غيره بنقله رواية عن الإمام الباقر وقد سُئل عن معنى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} هل هو علي بن أبي طالب؟ فقال: علي من المؤمنين، يذهب إلى أنّ هذا لجميع المؤمنين (¬3). وأما الرازي فقد ذكر عدة أقوال في سبب نزول الآية ثم تعرض إلى رواية التصدق بالخاتم ¬

_ (¬1) أنوار الملكوت في شرح الياقوت 225 - 226 وكشف المراد ص289 له، وإعلام الورى للطبرسي ص168 (¬2) قال عبد الحسين شرف الدين في المراجعات ص258 (على أنّ نزولها في علي مما أجمع عليه المفسرون)!! (¬3) تفسير القرطبي 6/ 207 - 209

فنفى صحتها لقرائن ودلائل كثيرة (¬1) والحال كذلك في تفسير ابن كثير (¬2)، وقد ذكر البيضاوي في تفسيره القول بنزولها في علي بصيغة التمريض (¬3). أما الطبري فذكر في تفسيره روايات تؤكد نزولها في عبادة بن الصامت كما سيأتي، وذكر كذلك ما روي أنها نزلت في الإمام علي، وقد عبر عن اختلاف العلماء في سبب نزول الآية بقوله (وأما قوله {وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون} فإنّ أهل التأويل اختلفوا في المعني به) (¬4) وكذلك هو الحال في تفسير البغوي (¬5). وأما الواحدي فعلى ما عُرف عنه من عدم العناية بالحديث كحال الثعالبي وأبي السعود إلا أنه قد نقل في أسباب نزول الآية سببين مختلفين فقال: ({إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُه} نزلت لما هجر اليهود من أسلم منهم فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله، إنّ قومنا قد هجرونا وأقسموا ألا يجالسونا فنزلت هذه الآية، فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء، وقوله {وَهُمْ رَاكِعُون} يعني صلاة التطوع) (¬6). وذكر سبباً ثانياً لنزول الآية وهو تصدّق علي بن أبي طالب رضي الله عنه بخاتم من ذهب وهي رواية مردودة كما سيأتي. ¬

_ (¬1) تفسير الرازي 12/ 26 - 27 (¬2) تفسير القرآن العظيم 2/ 98 - 100 (¬3) تفسير البيضاوي 2/ 340 (¬4) تفسير الطبري 6/ 288 (¬5) تفسير البغوي 2/ 47 (¬6) تفسير الواحدي 1/ 325

وأما ابن الجوزي فقال في تفسيره زاد المسير: (اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال ..) ثم ذكر الأقوال الأربعة (¬1). وذكر الشوكاني في تفسير الآية قولين: الأول: أنها نزلت في عبادة بن الصامت، والثاني: أنها نزلت في علي بن أبي طالب دون ترجيح (¬2). وفي هذا دلالة قاطعة على أنّ ادعاء إجماع أو اتفاق المفسرين على أنها نزلت في علي بن أبي طالب كذب على هؤلاء المفسرين. وغاية ما ينقله علماء الشيعة الإثنا عشرية عن المفسرين الذين تبنوا الرأي في نزولها في علي ابن أبي طالب دون غيره، فهو مذكور في تفسير الثعالبي (¬3) وأبي السعود وغيرهما. والثعالبي وأبو السعود على فضلهما وجلالة قدرهما لا خبرة لهما بالصحيح والسقيم من الأحاديث، ولذا كثر في تفسيريهما الروايات الضعيفة والموضوعة، فهما حاطبا ليل، لا يميزان بين الرطب واليابس. والمتكلم والمفسّر والمؤرخ ونحوهم إذا نقل نقلاً مجرداً بلا إسناد ثابت لم يُعتمد عليه حتى يأتي بإسناد الحديث فيُحكم عليه صحة وضعفاً. ورواية تصدق الإمام علي بن أبي طالب بالخاتم المذكورة قد ناقشها كثير من العلماء وحسبي أن أشير إلى ما ذكره في ذلك محقق تفسير القرطبي. ¬

_ (¬1) زاد المسير 2/ 382 (¬2) فتح القدير 2/ 53 (¬3) ويُقال له الثعلبي على اختلاف العلماء في إطلاق التسميتين عليه.

قال الشيخ عبد الرزاق المهدي عن الرواية (باطلة. أخرجها الطبراني كما في المجمع 7/ 17 من حديث عمار بن ياسر، وقال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم. وأخرجها الواحدي 397 بسنده عن ابن عباس، وفيها الكلبي متهم بالكذب، وكذا محمد بن مروان السدي الصغير وأخرجها الطبراني 12215 عن السدي من قوله، وهذا معضل) (¬1). وقال أيضاً: (وكذلك أنّ الواحدي في روايته عن ابن عباس أنّ علياً تصدق بخاتمه الذي هو من ذهب. نعم هكذا ذكره في الأسباب ص149وهذا لا يكون. لأنّ الذهب حرام والآية غير منسوخة حتى نقول كان في أول الإسلام، بل هي محكمة تتكلم عن توجيهات قرآنية لا عن أحكام فقهية .. وأيضاً في الآثار هذه أنّ الرجل صار يسأل الناس في المسجد والناس ما بين راكع وساجد، وهذا أيضاً يؤدي إلى رفع الصوت في المسجد، أو هو من باب إنشاد الضالة وغيره في المسجد، وهو منهي عنه) (¬2). ويقول الحافظ ابن كثير: (وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها) (¬3). وبالمقابل وجدنا أنّ رواية عبادة بن الصامت التي أخرجها الطبري في تفسيره وغيره من المفسرين صحيحة السند، وبهذا يظهر كونها سبب نزول الآية الكريمة. وذلك أنه لما خانت بنو قينقاع الرسول صلى الله عليه وآله ذهبوا إلى عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وأرادوه أن يكون معهم فتركهم وعاداهم وتولى الله ورسوله، فأنزل الله تبارك ¬

_ (¬1) قاله في هامش ص208 من تفسير القرطبي 6/ 208 (¬2) هامش ص484 من الجزء الثاني لتفسير نظم الدرر للبقاعي بتحقيق عبد الرزاق المهدي. (¬3) تفسير القرآن العظيم 2/ 99

وتعالى قوله {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون} أي والحال أنهم خاضعون في كل شؤونهم لله تبارك وتعالى، ولذلك قال الله تبارك وتعالى في أول الآيات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يعني عبد الله بن أبي بن سلول لأنه كان موالياً لبني قينقاع، ولما حصلت الخصومة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاهم ونصرهم ووقف معهم وذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله يشفع لهم، أما عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه فإنه تبرأ منهم وتركهم فأنزل الله تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} ثم عقّب تبارك وتعالى بذكر صفة المؤمنين وهو عبادة بن الصامت ومن سار على دربه {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}. ومما يؤكد كونها نازلة في عبادة بن الصامت رضي الله عنه وفي المنافق عبد الله بن أبي بن سلول وبني قينقاع سياق الآيات لمن تدبرها، فإنه تعالى قد قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} فهذا نهي عن موالاة اليهود والنصارى. ثم قال {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَاتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِه} إلى قوله تعالى {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِين} فهذا وصف الذين في قلوبهم مرض، الذين يوالون الكفار كالمنافقين، ثم قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيم} فذكر فعل المرتدين وأنهم لن يضروا الله شيئاً، وذكر من يأتي به بدلهم، ثم قال {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ

وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون. وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُون} (¬1). فتضمن هذا الكلام ذكر أحوال من دخل في الإسلام من المنافقين، ومن يرتد عنه، وحال المؤمنين الثابتين عليه ظاهراً وباطناً (¬2). ثانياً: إنّ في رواية تصدق الإمام علي بخاتمه ما يدعو للعجب والاستغراب. فالإمام علي كان فقيراً في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بالكاد يملك قوت يومه وكسوة أهله حتى اشتكت من ذلك فاطمة الزهراء عليها السلام كما هو معروف في كتب الشيعة الإثني عشرية قبل كتب أهل السنة، فمن أين إذاً بلغ ماله الحول حتى يخرج منه الزكاة؟! ثم إنّ الأصل في الزكاة أن يبدأ بها المُزكّي لا أن ينتظر الفقراء حتى يأتونه ويسألونه حقهم في ماله، وليس الإمام علي بالذي يحتفظ بالزكاة عنده ويحجزها عن فقراء المدينة أو عن أهل الصفة الذين سكنوا المسجد النبوي والذين يراهم ليلاً ونهاراً حين دخوله بيته وحين خروجه منه. وقد سأل الإمام جعفر الصادق إسحاق بن عمار يوماً: يا إسحاق، كيف تصنع بزكاة مالك إذا حضرت؟ قال: يأتوني إلى المنزل فأعطيهم. فقال له: ما أراك يا إسحاق إلا قد أذللت المؤمنين، فإياك إياك، إنّ الله تعالى يقول) من أذل لي ولياً فقد أرصد لي بالمحاربة (¬3). ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية 55 - 56 (¬2) مختصر المنهاج 2/ 616 (¬3) الأمالي لشيخ الطائفة الطوسي ص195 حديث رقم (332) والأمالي للمفيد ص177 المجلس الثاني والعشرون – حديث رقم (7).

أما أنا فأبرئ الإمام علياً أن يكون ممن يذل المؤمنين بحبسه الزكاة عنهم حتى يطلبوها هم وأبرئه من الانشغال عن الصلاة وهو الخاشع الطائع ... وأبرئه من رواية كهذه لا تصح لا سنداً ولا تُعقل معنىً، وعليك أن تكون منصفاً وتنتصف للإمام علي من هذه الروايات التي تسيء له أكثر مما تمتدحه. وفضائل علي بن أبي طالب كثيرة ومثله غني عن هذه الروايات السقيمة التي تضع صاحبها ولا ترفعه. ثالثاً: إنّ الآية على فرض كونها قد نزلت في الإمام علي فإنه لا دلالة فيها على معنى الإمامة أو الإمارة، فالولاية (بالفتح) المذكورة في الآية هي ضد العداوة، والاسم منها (مولى، ووليّ) بينما الولاية (بالكسر) تعني الإمارة، والاسم منها (والي، ومتولي)، والآية إنما ذكرت لفظ (ولي) وفي هذا إثبات النصرة والمحبة لا الإمارة، فكيف تُتجاهل هذه الحقيقة اللغوية هكذا بكل بساطة؟! فلفظ (الولي) تشترك فيه معان كثيرة ... ولا يمكن أن يُراد من اللفظ المشترك معنى معين إلا بقرينة خارجة والقرينة هاهنا من السياق (يعني ما سبق هذه الآية) فهو مؤيد لمعنى الناصر لأنّ الكلام في تقوية قلوب المؤمنين وتسليتها، وإزالة الخوف عنها من المرتدين (¬1). ولو كان المراد من الآية الإمارة لقال الله (إنما يتولى عليكم الله ورسوله والذين آمنوا) بدل {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُه} فإنه لا يُقال لمن ولي عليهم وال أنهم (تولوه) بل يُقال: (تولى عليهم)، وهذا ظاهر لمن يعرف العربية. ¬

_ (¬1) مختصر التحفة ص142

وتفسير قوله تعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُم} بالإمارة لا يتفق مع وصف الله تعالى نفسه بأنه ولي المؤمنين، فإنّ الله عز وجل لا يُوصف بأنه أمير المؤمنين على عباده أو خليفتهم أو أنه إمامهم!! لأنه سبحانه وتعالى خالقهم ورازقهم وربهم ومليكهم، له الخلق والأمر، فالولاية هنا تعني النصرة والمحبة، فإنّ الله عز وجل يتولى عباده المؤمنين فيحبهم ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، وكذلك الحال في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي المؤمنين الذين عبّر الله عز وجل عنهم بـ (الذين آمنوا) سواء كان علي بن أبي طالب أو غيره. فهذه هي الولاية المقصودة في الآية، ومن يأبى إلا الإصرار على أنها في الإمامة فنحن نطالبه بأن يستبدل لفظ (وليكم) بـ (إمامكم) أو (خليفتكم) ويرينا هل يستقيم له المعنى. وللألوسي كلام نفيس في هذا الموضوع يقول فيه: (ووجه استدلال الشيعة بخبر (من كنت مولاه فعلى مولاه) أنّ المولى بمعنى الأولى بالتصرف وأولوية التصرف عين الإمامة ولا يخفى أنّ أول اللفظ فى هذا الاستدلال جعلهم المولى بمعنى الأولى، وقد أنكر ذلك أهل العربية قاطبة بل قالوا: لم يجاء مفعل بمعنى أفعل أصلاً ولم يجوّز ذلك إلا أبو زيد اللغوى متمسكاً بقول أبى عبيدة فى تفسير قوله تعالى {هِيَ مَوْلَاكُمْ} أي أولى بكم، ورُدّ بأنه يلزم عليه صحة (فلان مولى من فلان) كما يصح (فلان أولى من فلان) واللازم باطل إجماعاً فالملزوم مثله، وتفسير أبى عبيدة بيان لحاصل المعنى يعنى النار مقركم ومصيركم والموضع اللائق بكم وليس نصاً فى أنّ لفظ المولى ثمة بمعنى الأولى. والثانى: لو سلمنا أنّ المولى بمعنى الأولى لا يلزم أن يكون صلته بالتصرف بل يحتمل أن يكون المراد أولى بالمحبة وأولى بالتعظيم ونحو ذلك، وكم جاء الأولى فى كلام لايصح معه تقدير التصرف كقوله تعالى {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ

آمَنُوا} (¬1) على أنّ لنا قرينتين على أنّ المراد من الولاية من لفظ المولى أو الأولى بالمحبة إحداهما ما روينا عن محمد بن إسحاق فى شكوى الذين كانوا مع الأمير كرم الله تعالى وجهه فى اليمن كبريد الأسلمى وخالد بن الوليد وغيرهما ولم يمنع صلى الله عليه وآله وسلم الشاكين بخصوصهم مبالغة فى طلب موالاته وتلطفاُ فى الدعوة إليها كما هو الغالب فى شأنه صلى الله عليه وآله وسلم فى مثل ذلك، وللتلطف المذكور افتتح الخطبة صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم). وثانيهما قوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) فإنه لو كان المراد من (المولى) المتصرف فى الأمور أو الأولى بالتصرف لقال عليه الصلاة والسلام (اللهم وال من كان فى تصرفه وعاد من لم يكن كذلك)، فحيث ذكر صلى الله عليه وآله وسلم المحبة والعداوة فقد نبه على أنّ المقصود إيجاب محبته كرم الله تعالى وجهه والتحذير من عداوته وبغضه لا التصرف وعدمه ولو كان المراد الخلافة لصرح صلى الله عليه وآله وسلم بها، ويدل لذلك ما رواه أبو نعيم عن الحسن المثنى بن الحسن السبط رضى الله تعالى عنهما أنهم سألوه عن هذا الخبر هل هو نص على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه فقال: لوكان النبى صلى الله عليه وآله وسلم أراد خلافته لقال: (أيها الناس، هذا ولي أمرى والقائم عليكم بعدى فاسمعوا وأطيعوا) ثم قال الحسن: (أقسم بالله سبحانه أنّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لو آثرا علياً لأجل هذا الأمر، ولم يُقدّم علي كرم الله تعالى وجهه عليه، لكان أعظم الناس خطأ. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية 68

وأيضاً ربما يستدل على أنّ المراد بالولاية المحبة بأنه لم يقع التقييد بلفظ بعدي والظاهر حينئذ اجتماع الولايتين فى زمان واحد ولايتصور الاجتماع على تقدير أن يكون المراد أولوية التصرف بخلاف ما إذا كان المراد المحبة، وتمسك الشيعة فى إثبات أنّ المراد بالمولى الأولى بالتصرف باللفظ الواقع فى صدر الخبر على إحدى الروايات وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم)، ونحن نقول المراد من هذا أيضاً (الأولى بالمحبة) يعنى (ألست أولى بالؤمنين من أنفسهم بالمحبة) بل قد يقال (الأولى) ههنا مشتق من الولاية بمعنى المحبة والمعنى (ألست أحب إلى المؤمنين من أنفسهم) ليحصل تلاؤم أجزاء الكلام ويحسن الانتظام ويكون حاصل المعنى هكذا (يا معشر المؤمنين إنكم تحبونى أكثر من أنفسكم فمن يحبنى يحب علياً، اللهم أحب من أحبه وعاد من عاداه). ثم يقول: (ولو فرضنا كون الأولى في صدر الخبر بمعنى الأولى بالتصرف، فيحتمل أن يكون ذلك لتنبيه المخاطبين بذلك الخطاب ليتوجهوا إلى سماع كلامه صلى الله عليه وآله وسلم كمال التوجه، ويلتفتوا إليه غاية الالتفات فيقرر ما فيه من الإرشاد أتم تقرر، وذلك وكما يقول الرجل لأبنائه في مقام الوعظ والنصيحة (ألست أباكم) وإذا اعترفوا بذلك يأمرهم بما قصده منهم ليقبلوا بحكم الأبوة والبنوة ويعملوا على طبقهما فقوله عليه الصلاة والسلام في هذا المقام (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم) مثل (ألست رسول الله تعالى إليكم) أو (ألست نبيكم) ولا يمكن إجراء مثل ذلك فيما بعده تحصيلاً للمناسبة، ومن الشيعة من أورد دليلاً على نفي المحبة، وهو أنّ محبة الأمير كرم الله تعالى وجهه أمر ثابت في ضمن آية والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، فلو أفاد هذا الحديث ذلك المعنى كان لغواً، ولا يخفى فساده ومنشؤه أنّ المستدل لم يفهم أنّ إيجاب محبة أحد في ضمن العموم شيء وإيجاب محبته بالخصوص شيء آخر، والفرق بينهما مثل الشمس ظاهر، ومما يزيد ذلك ظهوراً

أنه لو آمن شخص بجميع أنبياء الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام ولم يتعرض لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بخصوصه بالذكر لم يكن إيمانه معتبراً. وأيضاً لو فرضنا اتحاد مضمون الآية والخبر لا يلزم اللغو بل غاية ما يلزم التقرير والتأكيد وذلك وظيفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يؤكد مضامين القرآن ويقررها بل القرآن نفسه قد تكررت فيه المضامين لذلك ولم يقل أحد إنّ ذلك من اللغو والعياذ بالله تعالى، وأيضا التنصيص على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه تكرر مراراً عند الشيعة فيلزم على تقدير صحة ذلك القول اللغوي ويجل كلام الشارع عنه) (¬1). رابعاً: لفظ الركوع المذكور في الآية يُراد به الخضوع كنحو قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُون} (¬2) والمراد أي اخضعوا واستسلموا لأمر الله تبارك وتعالى. يقول الطبري (وأما تأويل – أي تفسير – الركوع فهو الخضوع لله بالطاعة، يُقال منه ركع فلان لكذا وكذا إذا خضع له، ومنه قول الشاعر: بيعت بكسر لتيم واستغاث بها ... من الهزال أبوها بعدما ركعا يعني: بعدما خضع من شدة الجهد والحاجة) (¬3). ¬

_ (¬1) تفسير روح المعاني 6/ 195 - 199 (¬2) سورة المرسلات آية 48 (¬3) جامع البيان للطبري (تفسير آية {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِين} من سورة البقرة).

وقال الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن": (الركوع: الانحناء فتارة يُستعمل في الهيئة المخصوصة في الصلاة كما هي وتارة في التواضع والتذلل إما في العبادة وإما في غيرها) (¬1). (وكانت العرب تُسمي من آمن بالله تعالى ولم يعبد الأوثان راكعاً، ويقولون: ركع إلى الله أي اطمأن إليه خالصاً ...) (¬2). ولذلك ذكر الله عز وجل في الآية الركوع في حال الزكاة بعد ذكره لإقامة الصلاة مع أنّ الركوع إنما يكون في الصلاة لا الزكاة، ومن هنا ظهر أنّ المراد بأنهم يؤتون الزكاة وهم خاضعون مستسلمون لله، إذ المرء قد يشح عن أداء الزكاة ويستكثر أن يخرج من ماله للفقراء، والذي يخضع لله ويستسلم لأحكامه ويقبل بقلبه وبجوارحه على أدائها يكون حينئذ خاضعاً مستسلماً لله وهو المراد من الآية. خامساً: إنّ قول الحلي بأنّ (إنما) في الآية تفيد الحصر قد لا يُسلّم له، فـ (إنما) لا تفيد الحصر مطلقاً. قال الرازي في "تفسيره 12/ 30": (لا نسلّم أنّ كلمة (إنما) للحصر والدليل عليه قوله {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء} (¬3) ولا شك أنّ الحياة الدنيا لها أمثال أخرى سوى هذا المثل). ولو أننا سلّمنا بأنّ (إنما) في الآية تفيد الحصر فإنّ ذلك لن يخدم النظرية الإمامية أبداً. ¬

_ (¬1) المفردات في غريب القرآن ص202 (¬2) أساس البلاغة للزمخشري المعتزلي 1/ 368 (¬3) سورة يونس آية 24

فالحصر كما يلزم أهل السنة من جهة إخراجه أبا بكر وعمر وعثمان من استحقاق الخلافة ويحصر الاستحقاق في علي وحده، يلزم الشيعة أيضاً. فالأداة (إنما) إن أفادت الحصر فذلك يعني أحد أمرين: إما حصر الخلافة في علي فقط ونفي إمامة غيره حتى الأحد عشر الذين تنص عقيدة الشيعة على إمامتهم، لأنّ الحصر لن يخرج أبا بكر وعمر وعثمان فقط ويُدخل غيرهم وإنما يُخرج الجميع، وفي هذا بطلان إمامة كل من هم سوى الإمام علي بن أبي طالب، وهذا ما لا يطيقه أرباب النظرية الإمامية. أو أنها تحصر الخلافة فيمن يؤدي الزكاة وهو راكع وهذا أعظم من الأول لأمرين اثنين وهما: الأول: يستطيع كل أحد أن يؤدي الزكاة وهو راكع فهل أهلية إمامة المسلمين مقيدة بهذا؟!! هل كل من يؤدي الزكاة وهو راكع يستحق بمقتضى فعله هذا أن يكون خليفة للمسلمين؟!! الثاني: لم يثبت عن الأئمة الأحد العشر الباقين أنهم تصدقوا أو أدوا الزكاة وهم راكعون وفي ذلك نفي لإمامتهم، بل على فرض صحة الرواية في تصدق علي وهو راكع، فإنا نعلم أن التوافق بين كون الإمام علي يؤدي الصلاة وبين دخول الفقير إلى المسجد وطلبه الزكاة أمر لا يتكرر إلا بمحض الصدفة لا أن يتكرر لاثني عشر رجلاً إلا إذا قُصد تعمد تكرار هذا المشهد!! فالنص قد حُمّل بالفعل أكثر مما يحتمل، معناه واضح جلي والسياق الذي أتى فيه أوضح وسبب النزول المعروف في عبادة بن الصامت يزيده وضوحاً فلماذا لا نستسلم للحقيقة؟

آية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} واستدل الشيعة الإثنا عشرية بقوله تعالى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير} (¬1). وروى الكليني في "الكافي" والصّفار في "بصائر الدرجات" في تفسيرها عن الإمام جعفر الصادق قوله: (السابق بالخيرات: الإمام والمقتصد: العارف للإمام، والظالم لنفسه: الذي لا يعرف الإمام) (¬2). المناقشة: أولاً: إنّ الآية الكريمة ليس فيها ما يشير إلى آل البيت عليهم السلام والرضوان فضلاً عن أن يوجد فيها ما يشير إلى الأئمة الإثني عشر، وكذلك السنة النبوية بصحيحها وضعيفها ليس فيها ما يشير إلى ارتباط الآية بآل البيت فضلاً عن الأئمة الإثني عشر، فبأي دليل يأتي مدّعٍ مكابر ليحاجج بهذه الآية على أنها دليل على إمامة الأئمة الإثني عشر؟! ثانياً: قال الإمام ابن كثير في تفسير الآية: (يقول تعالى: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم المصدّق لما بين يديه من الكتب الذين اصطفينا من عبادنا وهم هذه الأمة ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع، فقال تعالى (فمنهم ظالم لنفسه) وهو المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات (ومنهم مقتصد) هو المؤدي للواجبات التارك للمحرمات وقد يترك بعض ¬

_ (¬1) سورة فاطر آية 32 (¬2) الكافي – كتاب الحجة – (باب أنّ من اصطفاه الله من عباده وأورثهم كتابه هم الأئمة عليهم السلام) – رواية رقم (1) وراجع كذلك: بصائر الدرجات – (باب في الأئمة أنهم الذين قال الله فيهم أنه أورثهم الكتاب وأنهم السابقون بالخيرات) وبحار الأنوار 23/ 212 - 220.

المستحبات ويفعل بعض المكروهات (ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) وهو الفاعل للواجبات والمستحبات التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} قال: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله تعالى كل كتاب أنزله، فظالمهم يُغفر له ومقتصدهم يُحاسب حساباً يسيراً وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب) (¬1). إنّ الله تعالى قد وصف أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأصنافها الثلاثة المذكورة في الآية بأنها خير أمة أخرجت للناس دون استثناء لصنف منها من هذه الخيرية على باقي الأمم فقال عزّ من قائل {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} (¬2) ووصفها بالأمة الوسط الشهيدة على الأمم السابقة فقال {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (¬3) فأي عجب في أن تكون أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم المثني عليها والمرحومة هي وارثة الكتاب من بعد نبيها؟! وأي غرابة في أن يذكر الله تعالى اصطفاء هذه الأمة لوراثة الكتاب من بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كانت الأمم السابقة ترث كتب أنبيائها وتقوم فيها؟ لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه السنة الإلهية القائمة في السابقين في سورة غافر بقوله ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم 3/ 562 (¬2) سورة آل عمران آية 110 (¬3) سورة البقرة آية 142

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَاب} (¬1) وقال {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيب} (¬2) وقال {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَاخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَاتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَاخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقّ} (¬3). وفي هذا يقول الطباطبائي – وهو من كبار مفسري الشيعة المعاصرين-: (ويمكن تأييد أول الاحتمالين بأن لا مانع من نسبة الوراثة إلى الكل مع قيام البعض بها حقيقة كما نجد نظيره في قوله تعالى {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَاب} وما في الآية من المقابلة بين الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات يعطي أنّ المراد بالظالم لنفسه من عليه شئ من السيئات وهو مسلم من أهل القرآن لكونه مصطفى ووارثاً، والمراد بالمقتصد المتوسط الذي هو في قصد السبيل وسواء الطريق والمراد بالسابق بالخيرات بإذن الله من سبق الظالم والمقتصد إلى درجات القرب فهو إمام غيره بإذن الله بسبب فعل الخيرات قال تعالى {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُون. أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُون}) (¬4). ثالثاً: لقد وقفت على كلام غاية في الروعة لموسى الجار الله يصب في هذا المعنى مُجمله ما يلي: (كل ما أنعم الله به على نبيه من فضل ونعمة، وكل ما نزل من عرش الله العظيم إلى نبيه ¬

_ (¬1) سورة غافر آية 53 (¬2) سورة الشورى آية 14 (¬3) سورة الأعراف آية 169 (¬4) تفسير الميزان 17/ 46

الكريم فكله بعده لأمته، والأمة شريكة لنبيها في كل كمال كان له في حياته، ثم ورثته بعد مماته، وكل فضل وكل نعمة ذكرها القرآن لنبيه فقد ذكرها لأمته، ومثاله: 1 - الاصطفاء والاجتباء والذكر والتشريف فقد قال سبحانه عن اصطفاء الملائكة والأنبياء {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاس} (¬1)، ثم ذكر تشريفه لأمته بهذا الفضل وهذا الاصطفاء فقال جل من قائل {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}. فذكر الإيراث، والميراث تأخذه الأحياء بعد الأموات، والكتاب محفوظ إلى الأبد، فالأمة أحياء إلى الأبد واصطفى سبحانه الأمة بنون العظمة بنفسه لنفسه ولم يكل الاصطفاء إلى غيره، وأضاف العباد إلى نون العظمة لقطع إمكان الانحراف والضلال بالإغواء أو بغيره {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان} فلا يمكن الضلال في الأمة لأنها في حمى الله بنص آية سورة الحجر. وقال سبحانه عن الأنبياء السابقين قوله {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} (¬2) وذكر في هذه الأمة {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْل} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الحج آية 75 (¬2) سورة الأنعام آية 87 (¬3) سورة الحج آية 78

وأخبر أنّ هذا الكتاب فيه عز وتشريف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِك} (¬1) وقال في تشريف الأمة {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} (¬2). 2 - الشراكة بالشهادة إنّ الله تعالى أشرك الأمة مع نبيها في الشهادة على الأمم فقال سبحانه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (¬3). 3 - الشراكة بالصلاة من الله والتسليم وأشرك هذه الأمة مع نبيها في الصلاة فقال {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (¬4) وقال {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (¬5). 4 - الشراكة في الظهور والنصر والتمكين فقد قال سبحانه لنبيه {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه} (¬6) وقال عن أمته {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} (¬7) فقد أضاف الدين إلى ¬

_ (¬1) سورة الزخرف آية 44 (¬2) سورة الأنبياء آية 10 (¬3) سورة البقرة آية 143 (¬4) سورة الأحزاب آية 56 (¬5) سورة الأحزاب آية 43 (¬6) سورة التوبة آية 33 (¬7) سورة النور آية 55

الأمة وأكَّد التمكين بالقسم وقال {دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} فدل على أنّ دين الأمة وسياسة الخلافة الراشدة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي ارتضاه الله لهم. وقال لنبيه {وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} (¬1) وقال لأمته {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين} (¬2) فأوجب النصر على نفسه بقسم مؤكد. وقال لنبيه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} (¬3) وقال عن أمته {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} (¬4) وقال لنبيه {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِه} (¬5) وقال لأمته {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} (¬6) 4 - الشراكة في إتمام النعمة وأشرك الأمة مع نبيها صلى الله عليه وآله وسلم في النعمة العامة التي أنعمها عليه فقال الله تعالى لنبيه {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْك} (¬7) وقال لأمته المرحومة {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (¬8) (¬9). ¬

_ (¬1) سورة الفتح آية 3 (¬2) سورة الروم آية 47 (¬3) سورة الفتح آية 1 (¬4) سورة الفتح آية 18 (¬5) سورة الأنفال آية 62 (¬6) سورة المجادلة آية 22 (¬7) سورة الفتح آية 2 (¬8) سورة المائدة آية 3 (¬9) الوشيعة في نقد عقائد الشيعة ص41 - 47 بتصرف

رابعاً: يزعم الإثناعشرية أنّ الأئمة الإثني عشر مستحقون للإمامة دون سائر الأمة استدلالاً بقوله تعالى {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} فقد فسّروا الظلم في الآية بالذنب، واعتبروا الأمة كلها داخلة في مسمى الـ (ظالم) لاقترافها الذنوب واستثنوا الأئمة الإثني عشر لاعتقادهم العصمة فيهم. وفي الآية التي نحن بصدد شرحها ومناقشة استدلال الإثني عشرية بها ما ينقض أحد الاستدلالين على أقل تقدير. لقد قسّم الله تعالى الناس في الآية إلى ثلاثة أقسام فقال {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَات} ومن الواضح بأنّ الفئة الأولى وهي فئة (الظالم لنفسه) هي فئة العصاة المذنبين ولذلك اختصها الله بهذه التسمية دون باقي الفئات الثلاث، ولو كانت فئة (المقتصدين) أو (السابقين بالخيرات) مستحقتان لهذا الوصف لذكرهما الله به، فعُلِم من ذلك أنّ فئة (المقتصدين) وهي بإجماع الشيعة لا يُراد بها الأئمة الإثنا عشر مستحقة للإمامة لأنها غير موصوفة بالظلم بنص كتاب الله تعالى. قال الفخر الرازي في "تفسيره 20/ 58": (ثبت بالدليل أنّ كل الناس ليسوا ظالمين لأنه تعالى قال {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} أي: فمن العباد من هو ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق، ولو كان المقتصد والسابق ظالماً لفسد ذلك التقسيم، فعلمنا أنّ المقتصدين والسابقين ليسوا ظالمين، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز أن يُقال كل الخلق ظالمون). خامساً: ذكر ابن بابويه القمي الملقّب بـ (الصدوق) في "معاني الأخبار" عن أبي جعفر محمد بن علي عن أبي عبد الله الكوفي العلوي الفقيه بإسناد متصل إلى الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام أنه سئل عن قول الله عز وجل {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا

فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} فقال: الظالم يحوم حوم نفسه، والمقتصد يحوم حوم قلبه، والسابق يحوم حوم ربه عز وجل (¬1). قال الطباطبائي في "تفسيره الميزان 17/ 50": (الحوم والحومان الدوران، ودوران الظالم لنفسه حوم نفسه اتباعه أهواءها وسعيه في تحصيل ما يرضيها، ودوران المقتصد حوم قلبه اشتغاله بما يزكى قلبه ويطهره بالزهد والتعبد، ودوران السابق بالخيرات حوم ربه إخلاصه له تعالى فيذكره وينسى غيره فلا يرجو إلا إياه ولا يقصد إلا إياه). قلت: وفي الرواية كما ترى ما ينقض دعوى الشيعة الإثنى عشرية اختصاص الأئمة الإثني بها، إذ فسّرها الإمام جعفر الصادق تفسيراً عاماً ينطبق على كثير من العلماء والصالحين على مر الزمان، فما الذي جعل الآية حكراً على الإثني عشر دون غيرهم؟! هذا عدا ما يُلاحظ في روايات الأئمة الإثنى عشر في تفسير هذه الآية من كون أغلبها متناقض مع النظرية الإثنى عشرية التي تحصر الإمامة في (تسعة من ولد الحسين رضي الله عنه) دون غيرهم من أبناء علي وفاطمة رضي الله عنهما. فقد روى ابن بابويه القمي في "معاني الأخبار" عن أبي حمزة الثمالي قال: كنت جالساً في المسجد الحرام مع أبي جعفر عليه السلام إذ أتاه رجلان من أهل البصرة فقالا له: يا ابن رسول الله، إنا نريد أن نسألك عن مسألة فقال لهما: اسألا عما جئتما. قالا: أخبرنا عن قول الله عز وجل {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير} إلى آخر الآيتين. قال: نزلت فينا أهل البيت. قال أبو حمزة فقلت: بأبي أنت وأمي فمن الظالم لنفسه؟ قال: من استوت حسناته ¬

_ (¬1) معاني الأخبار – (معنى الظالم لنفسه والمقتصد والسابق) – رواية رقم (1).

وسيئاته منا أهل البيت فهو ظالم لنفسه. فقلت: من المقتصد منكم؟ قال: العابد لله ربه في الحالين حتى يأتيه اليقين. فقلت: فمن السابق منكم بالخيرات؟ قال: من دعا والله إلى سبيل ربه، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ولم يكن للمضلين عضداً، ولا للخائنين خصيماً، ولم يرض بحكم الفاسقين إلا من خاف على نفسه ودينه ولم يجد أعواناً) (¬1). وروى ابن حمزة الطوسي (¬2) في "الثاقب في المناقب" عن أبي هاشم قال: كنت عند أبي محمد عليه السلام فسألته عن قول الله تعالى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} فقال عليه السلام: كلهم من آل محمد عليهم السلام، الظالم لنفسه الذي لا يقر بالإمام، والمقتصد العارف بالإمام، والسابق بالخيرات بإذن الله الإمام). وروى الكليني في "الكافي" عن أحمد بن عمر قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن قول الله عز وجل {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية، قال: فقال: ولد فاطمة عليها السلام والسابق بالخيرات: الإمام، والمقتصد: العارف بالإمام، والظالم لنفسه: الذي لا يعرف الإمام) (¬3). فهذه الروايات الثلاث قد حصرت (الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات) بآل محمد صلى الله عليه وسلم ولم تحدد وجهاً يتميز فيه الأئمة الإثنا عشر عن سائر إخوتهم من ¬

_ (¬1) معاني الأخبار ص105 (¬2) عماد الدين محمد بن علي بن محمد الطوسي، ذكره الخوانساري في "روضات الجنات 6/ 243" فقال: (الشيخ الفقيه المتكلم الأمين أبو جعفر الرابع عماد الدين محمد بن علي بن محمد الطوسي)، ووصفه الشيخ عباس القمي في "الكنى والألقاب 2/ 285" بأنه: (فقيه عالم واعظ). (¬3) الكافي – كتاب الحجة – (باب في أنّ من اصطفاه الله من عباده وأورثهم كتابه هم الأئمة) - رواية (3).

آل محمد، فقد يكون من أبناء الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثلاً العشرات من السابقين بالخيرات ولا عجب! وروى الطبرسي في تفسيره "مجمع البيان" عن زياد بن المنذر عن الإمام الباقر قوله: (أما الظالم لنفسه منا فمن عمل عملا صالحاً وآخر سيئاً، وأما المقتصد فهو المتعبد المجتهد وأما السابق بالخيرات فعلي والحسن والحسين عليهم السلام ومن قتل من آل محمد شهيداً) (¬1). وروى ابن طاووس (¬2) في "سعد السعود" عن أبي إسحاق أنه قال: خرجت حاجاً فلقيت محمد بن علي –الباقر- فسألته عن هذه الآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} فقال (ع): ما يقول فيها قومك يا أبا إسحاق؟ يعنى أهل الكوفة، قال: قلت: يقولون إنها لهم، قال: فما يخوفهم إذا كانوا من أهل الجنة؟ قلت: فما تقول أنت جعلت فداك؟ فقال: هي لنا خاصة يا أبا إسحاق. أما السابق في الخيرات فعلي بن أبي طالب والحسن والحسين والشهيد منا، وأما المقتصد فصائم بالنهار وقائم بالليل، وأما الظالم لنفسه ففيه ما في الناس وهو مغفور له) (¬3). فكل هذه الروايات تدل دلالة صريحة على أنّ المراد بالآيات هم آل محمد عليه الصلاة والسلام بإطلاق، فمنهم الظالم لنفسه ومنهم المقتصد ومنهم السابق بالخيرات، وقول الإمام الباقر في السابق بالخيرات بأنه (من دعا والله إلى سبيل ربه، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ¬

_ (¬1) مجمع البيان 8/ 246 وتفسير نور الثقلين 4/ 365 وبحار الأنوار 23/ 213 (¬2) أحمد بن موسى بن جعفر بن طاووس، ترجم له الخوانساري في "روضات الجنات 1/ 75" فقال: (كان مجتهداً واسع العلم، إماماً في الفقه والأصولين والأدب والرجال، ومن أورع فضلاء أهل زمانه وأتقنهم وأجلّهم، حقّق الرجال والرواية والتفسير تحقيقاً لا مزيد عليه). (¬3) سعد السعود ص107 وتأويل الآيات 2/ 481

ولم يكن للمضلين عضداً ولا للخائنين خصيماً، ولم يرض بحكم الفاسقين إلا من خاف على نفسه ودينه ولم يجد أعواناً) يستحقه كثيرون من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن ولد فاطمة رضي الله عنها على وجه الخصوص كما في الروايات. ولو أنّ زيدياً احتج بهذه الروايات على إمامة زيد بن علي بن الحسين فأي إثني عشري سيستطيع الصمود أمامه ومحاججته؟ فالروايات تصرّح بأنّ السابق بالخيرات هم (علي والحسن والحسين عليهم السلام ومن قتل من آل محمد شهيداً)، والزيدية وأغلب الإثني عشرية اليوم متفقون على أنّ الإمام زيداً مات شهيداً رضي الله عنه فبأي حق يُسلب شرف هذا الانتساب ويوضع مكانه أناس يعتقد الإثني عشرية أنهم كانوا يتعاملون بالتقية ويهابون الموت؟! أليس الإمام زيد من آل محمد؟ أليس هو من ولد فاطمة رضي الله عنها؟ ألم يُقتل شهيداً؟ فلم يبقى حينئذ إلا الإذعان للحق.

آية التطهير وحديث الكساء

آية التطهير وحديث الكساء تعتبر آية التطهير من أهم أدلة الشيعة الإثني عشرية على عصمة الأئمة، بل أستطيع القول بأنها أهمها على الإطلاق. فقد استدل علماء الشيعة الإثنى عشرية بقول عز وجل {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} في سورة الأحزاب آية 33، وحديث الكساء الذي رواه مسلم في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم غداة وعليه مرطٌ مرَحَّلٌ من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليٌّ فأدخله، ثم قال {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}) (¬1). وما رواه الترمذي عن عمر بن أبي سَلَمة - ربيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} في بيت أم سلمة فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً فجلّلهم بكساء وعليٌ خلف ظهره فجلّله بكساءٍ ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهِبْ عنهم الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تطهيراً). قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: أنتِ على مكانِكِ، وأنتِ على خير) (¬2) على عصمة أصحاب الكساء وتنزيههم عن الذنوب صغيرها وكبيرها بل عن الخطأ والنسيان البشري! ¬

_ (¬1) صحيح مسلم - كتاب فضائل الصحابة - باب (فضائل أهل بيت النبي) - حديث رقم (2424). (¬2) جامع الترمذي - كتاب تفسير القرآن - باب (ومن سورة الأحزاب) - حديث رقم (3205) ثم قال: (هذا حديث غريب من هذا الوجه من حديث عطاء عن عمر بن أبي سلمة)، قلت: والحديث ضعيف= = السند لضعف (محمد بن سليمان بن عبد الله الأصبهاني)، فقد قال عنه أبو حاتم: لا بأس به، يُكتب حديثه ولا يُحتج به، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عدي: مضطرب الحديث، قليل الحديث، ومقدار ما له قد أخطأ في غير شيء منه! وأحاديث الكساء المروية عن أم سلمة رضي الله عنها لا تخلو عادة من أحد هؤلاء الضعاف: محمد بن سليمان الأصبهاني أو عطية العوفي أو شهر بن حوشب كما سيأتي.

ثم جعلوا من آية التطهير وحديث الكساء نقطة انطلاق للقول بعصمة باقي الأئمة الإثنى عشر! والغريب أنهم استبعدوا نسل الإمام الحسن من القول بالعصمة وكذا نسل الإمام الحسين سوى تسعة من أبنائه فقط، أثبتوا لهم العصمة ذاتها! فما مدى دلالة آية التطهير وحديث الكساء على عصمة الأئمة الإثني عشر والزهراء فاطمة رضي الله عنها؟ المناقشة: أولاً: حديث الكساء المذكور قد روي بعدة صيغ بعضها صحيح والآخر ضعيف، فروي عن جمع من الصحابة هم أم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين أم سلمة وأبو سعيد الخدري والبراء بن عازب وسعد بن أبي وقاص وواثلة بن الأسقع وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم أجمعين إلا أنه لم ترد زيادة رفض النبي صلى الله عليه وآله وسلم إدخال أم سلمة في الكساء إلا في روايات أم سلمة وأبي سعيد الخدري فقط! وعند تأمل الروايات الواردة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في هذا الشأن نلحظ أنها كلها مروية عن عطية العوفي، وعطية العوفي ضعيف الحديث عند عامة علماء الجرح والتعديل كما لا يخفى.

فقد ضعفه سفيان الثوري (¬1) وابن عيينة (¬2) وهشيم (¬3) ويحيى القطان (¬4) وأحمد (¬5) ويحيى بن معين (¬6) وأبوحاتم وأبوزرعة الرازيان (¬7) وأبوداود (¬8) والنسائي (¬9) والساجي (¬10) وابن خزيمة (¬11) وابن حبان (¬12) وابن عدي (¬13) والدارقطني (¬14) والبيهقي (¬15) والذهبي (¬16). ¬

_ (¬1) قال الإمام أحمد كما في العلل (رقم 4502): (وكان سفيان - يعني الثوري - يضعف حديث عطية). (¬2) فقد أسند أبوداود كما في سؤالات الآجري (1/ 238رقم 308) أنّ الإمام الشافعي قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: (عطية، ما أدري ما عطية!). وانظر: مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 549) (¬3) فقال الإمام أحمد كما في العلل (رقم 1306): (كان هشيم يضعف حديث عطية). (¬4) وقال البخاري كما في التاريخ الكبير (4/رقم 2041): (كان يحيى يتكلم فيه). (¬5) قال ابنه عبدالله في العلل (رقم 1306): سمعت أبي ذكر عطية العوفي فقال: (هو ضعيف الحديث). (¬6) كما في رواية ابن الجنيد (رقم 234): (كان ضعيفاً في القضاء، ضعيفاً في الحديث)، وقال في رواية أبي الوليد بن أبي الجارود كما في الضعفاء للعقيلي (3/ 359): (كان عطية العوفي ضعيفاً)، وقال في رواية ابن أبي مريم كما في الكامل (7/ 84): (ضعيف إلا أنه يكتب حديثه). (¬7) كما في الجرح والتعديل (3/ 1/رقم 2125): (ضعيف، يكتب حديثه، وأبونضرة أحب إليّ منه) وقال أبوزرعة الرازي: (ليّن). (¬8) كما في سؤالات الآجري (1/ 264رقم376): (ليس بالذي يُعتمد عليه). (¬9) قال في الضعفاء والمتروكون (رقم 481): (ضعيف). (¬10) كما في تهذيب التهذيب: (ليس بحجة). (¬11) قال في (صحيحه 4/ 68): (في القلب من عطية بن سعد العوفي). (¬12) قال في (المجروحين 2/ 176) بعد أن ذكر قصته مع الكلبي: (فلا يحل الاحتجاج به، ولا كتابة حديثه إلا على جهة التعجب). (¬13) قال في (الكامل 7/ 85): (وهو مع ضعفه يكتب حديثه). (¬14) قال في (السنن 4/ 39): (ضعيف) وفي العلل (4/ 6): (مضطرب الحديث). (¬15) قال في (السنن الكبرى 8/ 126): (لا يحتج بروايته). (¬16) قال في (المغني في الضعفاء 2/ 436): (تابعي مشهور، مجمع على ضعفه).

أما روايات أم سلمة رضي الله عنها فأغلبها من طريق عطية العوفي أيضاً، ويليه شهر بن حوشب وهو ضعيف أيضاً (¬1) إلا أنّ لشهر رواية مهمة جداً تعارض رواية أم سلمة المذكورة إذ فيها ذكر دخول أم سلمة رضي الله عنها في الكساء بعد خروج أهل الكساء منه. فعن شهر قال: سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين جاء نعي الحسين بن علي، لعنت أهل العراق، فقالت: قتلوه قتلهم الله، غرّوه وذلّوه لعنهم الله، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءته فاطمة غُدّية ببرمة قد صُنعت له فيها عصيدة تحملها في طبق لها، حتى وضعتها بين يديه فقال لها: أين ابن عمك؟ قالت: هو في البيت، قال: اذهبي فادعيه وائتيني بابنيه، قال: فجاءت تقود ابنيها كل واحد منهما بيد، وعلي يمشي في إثرهما، حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأجلسهما في حجره وجلس علي على يمينه وجلست فاطمة على يساره، قالت أم سلمة: فاجتبذ كساء خيبرياً كان ¬

_ (¬1) قال ابن حبان في "المجروحين 1/ 361": (كان ممن يروي عن الثقات المعضلات وعن الأثبات المقلوبات). وقال شعبة: (لقيت شهراً فلم أعتد به). "الكاشف 1/ 490" وكان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه. "الجرح والتعديل 4/ 382" وقد سُئِل ابن عون عن حديث شهر وهو قائم على أسكفة الباب فقال: (إنّ شهراً تركوه، إنّ شهراً تركوه). "ضعفاء العقيلي 2/ 191" وقال النسائي في "الضعفاء والمتروكين 1/ 56": (ليس بالقوي). وقد قال عنه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء 4/ 39" بعد تتبع أحاديثه: (عامة ما يرويه هو وغيره من الحديث فيه من الإنكار ما فيه وشهر هذا ليس بالقوي في الحديث وهو ممن لا يحتج بحديثه ولا يتدين به). وقال ابن حجر العسقلاني في "تقريب التهذيب 1/ 269": (صدوق كثير الإرسال والأوهام)، ولعله قد استشف من توثيق بعض الأعلام لشهر بأنّ شهراً صدوق في نفسه لكن الاضطراب والخلل في أداءه لما يحفظ، ولا بد هنا أن نستصحب قاعدة معروفة لدى علماء الحديث هي (إنّ الجرح المفسّر مقدّم على التعديل)، وشهر موصوف حديثه بالنكارة كما رأيت.

بساطاً لنا على المنامة في المدينة فلفّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميعاً فأخذ بشماله طرفي الكساء وألوى بيده اليمنى إلى ربه عز وجل، قال: اللهم أهل بيتي أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، اللهم أهل بيتي أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، قلت: يا رسول الله، ألست من أهلك؟ قال: بلى فادخلي في الكساء، فدخلتُ في الكساء بعدما قضى دعاءه لابن عمه علي وابنيه وابنته فاطمة) (¬1). وبهذا ثبتت لأم سلمة شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها بأنها من أهل بيته لما سألته أم سلمة (أَلستُ مِنْ أهلك؟ قال: بلى) وبان أنّ صرفه إياها عن دخول الكساء لسببين ظاهرين: أولهما: أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد الدعاء لأصحاب الكساء (علي وفاطمة والحسن والحسين) لأنّ نساءه مشار إليهن في الآية. الثاني: أنه من غير المناسب أن تدخل أم سلمة الكساء وفيه الإمام علي، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: أنتِ من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أنتِ على خير أو مكانك أنتِ على خير، فلما دعا لأهل الكساء وأخرجهم منه أدخلها فيه تطييباً لخاطرها. وهذا ما رجحه المباركفوري في "تحفة الأحوذي 9/ 48" بقوله: (يحتمل أن يكون معناه: أنتِ على خير وعلى مكانك من كونك من أهل بيتي ولا حاجة لكِ في الدخول تحت الكساء ¬

_ (¬1) مسند أحمد والطبراني في "المعجم الكبير" و"فضائل الصحابة لأحمد 2/ 852" حديث رقم (1170) وقد حسّنه وصي الله عباس في "فضائل الصحابة"، والصواب عندي تضعيفه كما ذهب إلى ذلك الشيخ شعيب الأرنؤوط لضعف (شهر بن حوشب) فهو صدوق كثير الأوهام في أحسن أحواله، لكن تبقى الرواية حجة على الذين يستدلون بحديث عمر بن أبي سلمة السابق، فليس هذا بأسوأ سنداً من ذاك.

كأنه منعها عن ذلك لمكان علي). ثانياً: اختُلف في المراد بآية التطهير، فقيل: نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنهن من أهل بيته بدلالة الكتاب والسنة ولأنّ سياق الآيات لا يحتمل إلا ذلك. وقيل: بل هم أصحاب الكساء (علي وفاطمة والحسن والحسين) ودليل هؤلاء (حديث الكساء) والخطاب في الآية، فقالوا: إنّ الخطاب في الآية يصلح للذكور لا الإناث لأنّ الله تعالى قد قال {عَنكُم} و {يُطَهِّرَكُم} ولو كان للنساء خاصة لقال (عنكن) و (يطهركن). وجواب هذا الإشكال أن يقال: (إنّ من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن أنّ زوجة الرجل يطلق عليها اسم الأهل، وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر ومنه قوله تعالى في موسى {فَقَال لأهْلِهِ امْكُثُوا} وقوله {سآتِيكُمْ} وقوله {لَّعَلّي آتِيكُمْ} والمخاطب امرأته؛ كما قاله غير واحد، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر: فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخًا ولا برداً ويُضاف إلى ذلك كون الخطاب في الآية الكريمة يماثل قول الله تعالى لسارة زوجة إبراهيم عليه السلام {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْت} (¬1) فإنّ الله تعالى قال {عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْت} مع أنّ المخاطب هي سارة لكن لما كان المراد بالخطاب بيت إبراهيم عليه السلام فدخل في ذلك إبراهيم عليه السلام وزوجته فعُبّر عن ذلك بلفظ {عليكم} ولما كان الخطاب في آية التطهير موجهاً لنساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذُكر في الخطاب الموجه لهن بيوتهن، فقال تعالى {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنّ} وجاءت ¬

_ (¬1) سورة هود آية 73

الإشارة إلى إرادة الله تعالى تطهير هذه البيوت، ذُكر معهن رب البيت وسيده وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم فعُبّر عن ذلك بلفظ {عَنكُم} و {يُطَهِّرَكُم} وقد أجمع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجموع ونحوها. ولهذا لمّا كانت الآية نازلة في نساء النبي (أمهات المؤمنين) وفي إرادة تطهيرهن، جمع النبي عليه الصلاة والسلام أصحاب الكساء وهم من خواص أهل البيت، ليدعو لهم بأن ينالهم التطهير الذي نال أمهات المؤمنين قائلاً (اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً) طالباً من الله عز وجل أن ينالهم هذا الفضل، فحرصت أم سلمة بعد أن رأت رسول الله قد جمع علياً وفاطمة والحسن والحسين أن تكون معهم وتنال بركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام وكان ذلك قبل أن يدعو النبي عليه الصلاة والسلام وأن يقرأ الآية موضحاً سبب طلبه لهم، فقالت أم سلمة: (وأنا معهم يا رسول الله)، قال: (إنك على خير) إذ لا حاجة لأم سلمة في أن يدعو لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يُذهب الله عنها الرجس طالما أنّ الآية نزلت فيها وفي باقي نساء النبي عليه الصلاة والسلام وهذا من أبرز الدلائل على كون الآية نازلة فيهن لا في أصحاب الكساء الذين حرص النبي عليه الصلاة والسلام على الدعاء لهم، ولو كانت الآية نازلة فيهم لما جمعهم الرسول عليه الصلاة والسلام وقال فيهم ما قال. يقول الإمام القرطبي: (فالآيات كلها من قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِك} إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} منسوق بعضها على بعض فكيف صار في الوسط كلام منفصل لغيرهن؟! وإنما هذا شيء جرى في الأخبار أنّ النبي عليه السلام لما نزلت عليه هذه الآية دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين، فعمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى كساء فلفه عليهم ثم ألوى بيده إلى السماء فقال (اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم

تطهيراً) فهذه دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد نزول الآية أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بها الأزواج ومن وافقه فصيرها لهم خاصة وهي دعوة لهم خارجة من التنزيل) (¬1). فإن قال قائل: إن كان ما تذكرونه من نزول الآيات في نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم صحيحاً فكيف يتفق ذلك مع ما رواه الإمام أحمد في "مسنده (4/ 107) " بسند صحيح عن شداد أبي عمار قال دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم فذكروا علياً فلما قاموا قال لي: ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: بلى، قال: أتيت فاطمة رضي الله تعالى عنها أسألها عن علي قالت توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي وحسن وحسين رضي الله تعالى عنهم آخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل فأدنى عليا وفاطمة فأجلسهما بين يديه واجلس حسناً وحسيناً كل واحد منهما على فخذه ثم لف عليهم ثوبه أو قال كساء ثم تلا هذه الآية {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق)؟ والجواب أن يُقال: إنّ نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم المرادون بالآية الكريمة لكن لما كان قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحق منهم بهذا الوصف أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلك الأحقية بقوله (وأهل بيتي أحق) (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي 14/ 183 (¬2) قد سبق الكلام تحت عنوان (من هم آل البيت؟) عن دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مسمى (آل البيت) دخولاً فرعياً بخلاف قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أصل رسول الله وعصبته.

يقول الحافظ ابن كثير في "تفسيره 3/ 636": (ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث (وأهل بيتي أحق) وهذا يشبه ما ثبت في صحيح مسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال: (هو مسجدي هذا) فهذا من هذا القبيل، فإنّ الآية إنما نزلت في مسجد قباء كما ورد في الأحاديث الأخر، ولكن إذا كان ذاك أسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولى بتسميته بذلك والله أعلم). ويقول تقي الدين ابن تيمية في "جامع المسائل": (وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أم سلمة أنّ هذه الآية لما نزلت أدار النبي صلى الله عليه وآله وسلم كساءه على علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً) وسنته تُفسر كتاب الله وتبينه وتدل عليه وتُعبّر عنه، فلما قال: (هؤلاء أهل بيتي) مع أنّ سياق القرآن يدل على أنّ الخطاب مع أزواجه – علمنا أنّ أزواجه وإن كنّ من أهل بيته كما دل عليه القرآن، فهؤلاء أحق بأن يكونوا أهل بيته، لأنّ صلة النسب أقوى من صلة الصهر. والعرب تُطلق هذا البيان للاختصاص بالكمال لا للاختصاص بأصل الحكم، كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس المسكين بالطوّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، وإنما المسكين الذي لا يجد غني يُغنيه ولا يُتفطنّ له فيُتصدّق عليه، ولا يسأل الناس إلحافاً) (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (حديث رقم 10069) ونص الحديث كالتالي: (ليس المسكين بالطواف الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يسأل الناس إلحافاً)، قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

بيّن بذلك أنّ هذا مختص بكمال المسكنة، بخلاف الطوّاف فإنه لا تكمل فيه المسكنة لوجود من يُعطيه أحياناً، مع أنه مسكين أيضاً. ويُقال: هذا هو العالم، وهذا هو العدو، وهذا هو المسلم، لمن كمُل فيه ذلك، وإن شاركه غيره في ذلك وكان دونه. ونظير هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه (¬1) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سُئل عن المسجد الذي أُسس على التقوى، فقال: (مسجدي هذا) يعني مسجد المدينة. مع أنّ سياق القرآن في قوله عن مسجد الضرار {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين} (¬2) يقتضي أنه مسجد قباء، فإنه قد تواتر أنه قال لأهل قباء: (ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به؟) فقالوا: لأننا نستنجي بالماء. لكن مسجده أحق بأن يكون مؤسساً على التقوى من مسجد قباء، وإن كان كلٌ منهما مؤسساً على التقوى، وهو أحق أن يقوم فيه من مسجد الضرار، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه (كان يأتي قباء كل سبت راكباً وماشياً) (¬3). فكان يقوم في مسجده القيام الجامع يوم الجمعة ثم يقوم بقباء يوم السبت، وفي كل منهما قد قام في المسجد المؤسس على التقوى. ¬

_ (¬1) في كتاب الحج – باب بيان المسجد الذي أسس على التقوى – حديث رقم (1398) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) سورة التوبة آية 108 (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه – كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة – باب (إتيان مسجد قُباء ماشياً وراكباً) – حديث رقم (1194) ومسلم في صحيحه - كتاب النكاح – باب (فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه وزيارته) – حديث رقم (1399).

ولما بيّن سبحانه أنه يريد أن يُذهب الرجس عن أهل بيته ويطّهرهم تطهيراً، دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأقرب أهل بيته وأعظمهم اختصاصاً به، وهم علي وفاطمة رضي الله عنهما وسيدا شباب أهل الجنة، جمع الله لهم بين أن قضى لهم بالتطهير، وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكان في ذلك ما دلّنا على أنّ إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم نعمة من الله ليُسبغها عليهم، ورحمةٌ من الله وفضلٌ لم يبلغوهما بمجرد حولهم وقوتهم، إذ لو كان كذلك لاستغنوا بهما عن دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما يظن من يظن أنه قد استغنى في هدايته وطاعته عن إعانة الله تعالى له وهدايته إياه. وقد ثبت أيضاً بالنقل الصحيح (¬1) أنّ هذه الآيات لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أزواجه، وخيّرهن كما أمره الله، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك أقرّهنّ ولم يُطلّقهن حتى مات عنهن. ولو أردن الحياة الدنيا وزينتها لكان يُمتّعهن ويُسرّحهن كما أمره الله سبحانه وتعالى، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أخشى الأمة لربها وأعلمهم بحدوده. ولأجل ما دلت عليه هذه الآيات من مضاعفة الأجور ورفع الوزر بلغنا عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين وقُرّة عين الإسلام أنه قال: (إني لأرجو أن يُعطي الله للمحسن منا أجرين، وأخاف أن يجعل على المسيء منا وِزرين) (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه – كتاب (سورة التفسير) - حديث رقم (4785، 4786) ومسلم في كتاب الطلاق – باب (بيان أن تخييره امرأته لا يكون طلاقاً إلا بالنية) – حديث (1478) عن جابر بن عبد الله. (¬2) جامع المسائل – المجموعة الثالثة ص74 - 76

ويقول الزركشي في "البرهان في علوم القرآن 2/ 197": (وقد يكون اللفظ مقتضياً لأمر ويحمل على غيره لأنه أولى بذلك الاسم منه وله أمثلة منها: تفسيرهم السبع المثاني بالفاتحة مع أن الله تعالى أخبر أن القرآن كله مثاني. ومنها قوله عن أهل الكساء (هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً) وسياق القرآن يدل على إرادة الأزواج وفيهن نزلت ولا يمكن خروجهن عن الآية، لكن لما أريد دخول غيرهن قيل بلفظ التذكير {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْت} فعلم أنّ هذه الإرادة شاملة لجميع أهل البيت الذكور والإناث بخلاف قوله {يَا نِسَاء النَّبِيِّ} ودل أنّ علياً وفاطمة أحق بهذا الوصف من الأزواج). ومنها قوله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذى أسس على التقوى هو مسجدي هذا وهو يقتضي أن ما ذكره أحق بهذا الاسم من غيره، والحصر المذكور حصر الكمال كما يقال هذا هو العالم العدل وإلا فلا شك أنّ مسجد قباء هو مؤسس على التقوى وسياق القرآن يدل على أنه مراد بالآية). ثالثاً: هناك روايات شيعية تؤكد عدم عصمة الأئمة، فمن افترض دلالة الآية على عصمة أهل الكساء فأين هو من هذه النصوص الشيعية الملزمة؟ والنصوص كثيرة لكن حسبي أن أذكر منها ما يلي: 1 - قول الإمام علي في دعائه (اللهم اغفر لي ما أنت أعلم به مني فإن عدت فعد علي بالمغفرة، اللهم اغفر لي ما وأيت من نفسي ولم تجد له وفاء عندي، اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك بلساني ثم خالفه قلبي، اللهم اغفر لي رمزات الألحاظ وسقطات الألفاظ وسهوات الجنان وهفوات اللسان) (¬1). ¬

_ (¬1) نهج البلاغة – رقم (78) - (ومن كلمات كان يدعو بها عليه السلام).

فأثبت الإمام علي أنه كسائر الأئمة والصالحين والفضلاء يذنب ويخطئ ويزل ويسهو وأنّ كونه فاضلاً وعظيماً ومجاهداً وإماماً لا يعني أنه لا يخطئ ولا يسهو ولا يذنب، لكن المتعصبة لا يقبلون هذا منه بل يريدون صورة أخرى رسموها بأنفسهم وألزموا بها الإمام علي والمؤمنين! 2 - قول الإمام علي في "نهج البلاغة" لأنصاره: (فلا تكفو عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني) (¬1). 3 - قول الإمام علي في "نهج البلاغة" أيضاً: (الحمد لله الذي لم يصبح بي ميتاً ولا سقيماً، ولا مضروباً على عروقي بسوء ولا مأخوذاً بأسوء عملي، ولا مقطوعاً دابري، ولا مرتداً عن ديني، ولا منكراً لربي ولا مستوحشاً من إيماني، ولا ملتبساً عقلي، ولا معذباً بعذاب الأمم من قبلي. أصبحت عبداً مملوكاً ظالماً لنفسي لك الحجة علي ولا حجة لي، لا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني ولا أتقي إلا ما وقيتني اللهم إني أعوذ بك أن أفتقر في غناك أو أضل في هداك، أو أضام في سلطانك، أو اضطهد والأمر لك، اللهم اجعل نفسي أول كريمة تنتزعها من كرائمي وأول وديعة ترتجعها من ودائع نعمك عندي، اللهم إنا نعوذ بك أن نذهب عن قولك أو نفتتن عن دينك، أو تتابع بنا أهواؤنا دون الهدى الذي جاء من عندك) (¬2). ¬

_ (¬1) نهج البلاغة - رقم (216) – (من خطبة له بصفين). (¬2) نهج البلاغة – رقم (215) - (ومن دعاء كان يدعو به عليه السلام كثيراً).

وفي هذا الدعاء لفتة هامة لأولئك الذين ادّعوا أنّ الإمامة لا تنبغي إلا لمعصوم وأنّ المراد بقوله تعالى {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} أي لا ينال عهدي المذنبين، فهذا الإمام علي يصفه نفسه بأنه أصبح ظالماً لنفسه، والمراد بالظلم هنا الذنب والتقصير في حق الله، وأمام متعصبة الشيعة أمرين: إما أن يعترفوا بخطأ تفسيرهم للآية فينهدم بهذا ركن من أركان الإمامة عندهم، وإما أن يخطئوا الإمام علي ويدّعون أنه لم يُحسن الكلام عن نفسه! وأنهم أعرف به من نفسه! أما المنصفون فسيقولون: إنّ علياً وأبا بكر وعمر وطلحة والزبير وعثمان وسعد وعمار وغيرهم كلهم يخطئون ويصيبون، لكن بحار حسناتهم وتضحياتهم غمرت ذنوبهم وأخطاءهم. فلماذا نغلو فيمن نحب، والله ينهانا عن الغلو في الدين؟ 4 - دعاء الإمام علي: (ما أهمني ذنب أمهِلْتُ بعده حتى أصلي ركعتين) (¬1) وهو اعتراف صريح من الإمام أنه كسائر الصالحين والأتقياء يذنب ويتوب. 5 - وروى الميرزا النوري في "مستدرك الوسائل" عن الحجة القائم في حديث قال: (كان أمير المؤمنين (ع) يقول في سجدة الشكر: يا من لا يزيده إلحاح الملحين إلا جوداً وكرماً، يا من له خزائن السماوات والأرض، يا من له ما دق وجل لا تمنعك إساءتي من إحسانك إليّ أسألك أن تفعل بي ما أنت أهله، وأنت أهل الجود والكرم والعفو، يا الله يا الله، افعل بي ما أنت أهله، وأنت قادر على العقوبة وقد استحققتها، لا حجة لي عندك، ولا عذر لي عندك ¬

_ (¬1) نهج البلاغة – رقم (299) – (غريب كلامه المحتاج إلى تفسير).

أبوء إليك بذنوبي كلها، وأعترف بها، كي تعفو عني، وأنت أعلم بها مني، بؤت إليك، بكل ذنب أذنبته، وكل خطيئة أخطأتها، وكل سيئة عملتها، يا رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأجل الأكرم) (¬1). 6 - روى ابن بابويه القمي عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله حين حج حجة الوداع خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتى أتى مسجد الشجرة فصلى بها ثم قاد راحلته حتى أتى البيداء فأحرم منها وأهل بالحج وساق مائة بدنة وأحرم الناس كلهم بالحج لا يريدون عمرة، ولا يدرون ما المتعة، حتى إذا قدم رسول الله مكة طاف بالبيت وطاف الناس معه ثم صلى ركعتين عند مقام ابراهيم واستلم الحجر ثم أتى زمزم فشرب منها وقال: لولا أن أشق على أمتي لاستقيت منها ذنوباً أو ذنوبين، ثم قال: ابدؤوا بما بدأ الله عزوجل به، فأتى الصفا فبدأ به ثم طاف بين الصف والمروة سبعاً، فلما قضى طوافه عند المروة قام فخطب أصحابه وأمرهم أن يحلوا ويجعلوها عمرة وهو شيء أمر الله عزوجل به فأحل الناس) إلى أن قال: (وأقبل علي عليه السلام من اليمن حتى وافى الحج فوجد فاطمة عليها السلام قد أحلت ووجد ريح الطيب، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله مستفتياً ومحرشاً على فاطمة عليها السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا علي بأي شئ أهللت؟ فقال أهللت بما أهل النبي صلى الله عليه وآله، فقال: لا تحل أنت، وأشركه في هديه وجعل له من الهدى سبعا وثلاثين ونحر رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاثاً وستين نحرها بيده، ثم أخذ من كل بدنة بضعة فجعلها في قدر واحد ثم أمر به فطبخ فأكلا منها وحسوا من ¬

_ (¬1) مستدرك الوسائل 5/ 132

المرق، فقال: قد أكلنا الآن منها جميعاً، فالمتعة أفضل من القارن السايق الهدى وخير من الحج المفرد وقال: إذا استمتع الرجل بالعمرة، فقد قضى ما عليه من فريضة المتعة. وقال ابن عباس: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) (¬1). ولو كانت فاطمة الزهراء رضي الله عنها معصومة لما أنكر عليها الإمام علي بن أبي طالب وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستفتياً ومحرشاً عليها (كما في الرواية)، فإنّ المعصوم لا يُخالف الشرع فكيف جاز للإمام علي أن يظن ذلك في فاطمة إن كانت بالفعل معصومة؟! 7 - ذكر الشيخ الرضي (¬2) في كتابه "خصائص الأئمة" أنّ بعض عمال الإمام علي قد أنفذوا إليه فيما أنفذوه من مال الفيء قطفاً غلاظاً، وكان عليه السلام يفرق كل شئ يحمل إليه من مال الفئ لوقته ولا يؤخره، وكانت هذه القطف قد جاءته مساء، فأمر بعدها ووضعها في الرحبة ليفرقها من الغد، فلما أصبح عدها فنقصت واحدة فسأل عنها فقيل له: إنّ الحسن بن علي عليهما السلام استعارها في ليلته على أن يردها اليوم، فهرول عليه السلام مغضباً إلى ¬

_ (¬1) علل الشرائع ص412 (باب العلة التي من أجلها لم يتمتع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعمرة إلى الحج) ومثله مع اختلاف ألفاظ يسيرة (من لا يحضره الفقيه 2/ 237 باب حج نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول المتعة. (¬2) محمد بن الحسين بن موسى الموسوي البغدادي، ذكره الخوانساري في "روضات الجنات 6/ 177" فقال: (العالم العفيف والعلم الغطريف والعنصر اللطيف والسيد الشريف والأيد المنيف ... أخو سيدنا المرتضى علم الهدى، والملقب بالسيد الرضي عند الأحبة والعدى، لم يبصر بمثله إلى الآن عين الزمان، في جميع ما يطلبه إنسان العين من عين الإنسان، فسبحان الذي ورّثه غير العصمة والإمامة ما أراد من قِبل أجداده الأمجاد وجعله حجة على قاطبة البشر في يوم الميعاد، وأمره في الثقة والجلالة أشهر من أن يُذكر).

منزل الحسن بن علي عليهما السلام وهو يهمهم وكان من عادته أن يستأذن على منزله إذا جاء فهجم بغير إذن، فوجد القطيفة في منزله فأخذ بطرفها يجرها وهو يقول: النار يا أبا محمد النار النار يا أبا محمد، النار حتى خرج بها) (¬1). ولو كان الإمام علي يعتقد العصمة في ابنه الإمام الحسن لما خشي عليه من النار وخطأه على فعله وهو معصوم (لا يذنب بل لا يخطئ ولا يسهو عند الشيعة الإثنى عشرية!). وبهذا يتضح أنّ الشيعة لا يتبعون منهج أئمة أهل البيت القائم على الاعتدال بل يستحسنون أموراً من عند أنفسهم ثم يعتقدونها دون بينة ولا برهان! 8 - وصية الإمام علي قبل وفاته للإمام الحسن تدل على عدم عصمته: فقد ذكر الشيخ الرضي أيضاً في كتابه "خصائص الأئمة ص117" وصية الإمام علي لابنه الإمام الحسن وفيها: (واعلم يا بني أنك خلقت للآخرة لا إلى الدنيا، وللفناء لا للبقاء، وأنك لفي منزل قلعة، ودار بلغة، وطريق من الآخرة، وأنك طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه ولا يفوته طالبه، وإياك أن توجف بك مطايا الطمع فتوردك مناهل الهلكة، وإن استطعت ألا يكون بينك وبين الله تعالى ذو نعمة فافعل). وقال له: (ظلم الضعيف أفحش الظلم، وربما كان الداء دواء، والدواء داء، وربما نصح غير الناصح، وغش المستنصح. وإياك والاتكال على المنى، فإنها بضائع النوكى (¬2). وقال: (لا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك. امحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة. وإن أردت قطيعة أخاك فاستبق له من نفسك بقية ترجع إليها. لا يكونن ¬

_ (¬1) خصائص الأئمة للشريف الرضي ص78 (¬2) الحمقى

أخوك على قطيعتك أقوى منك على صلته، ولا يكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان. لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك فإنه يسعى في مضرتك ونفعك وليس جزاء من سرك أن تسوءه). وقال: (يا بني وإياك ومشاورة النساء، فإنّ رأيهن إلى أفن، وعزمهن إلى وهن، واقصر عليهن حجبهن فهو خير لهن). ووالله إنه لا يُعقل أن ينصح الإمام علي ابنه الحسن مثل هذه الوصية إلا وهو يرى أنّ ابنه ليس بمعصوم، وإلا فلِم يوصيه بتذكر الآخرة والخشية من الذنوب وآفات النفوس كالطمع والظلم والاتكال على المنى، ومن الخطأ في اختيار الأصدقاء والتعامل مع الناس ومن مشورة النساء إن كان يعلم أنه معصوم من الذنوب بل ومن الخطأ والسهو والنسيان؟! 9 - روى الكليني في "الكافي" بسند صححه المجلسي في "مرآة العقول 23/ 309" عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما السلام يقولان: بينا الحسن بن علي عليهما السلام في مجلس أمير المؤمنين (ع) إذ أقبل قوم فقالوا: يا أبا محمد أردنا أمير المؤمنين عليه السلام، قال: وما حاجتكم؟ قالوا: أردنا أن نسأله عن مسألة قال: وما هي تخبرونا بها، فقالوا: امرأة جامعها زوجها فلما قام عنها قامت بحموتها فوقعت على جارية بكر فساحقتها فألقت النطفة فيها فحملت فما تقول في هذا؟ فقال الحسن (ع): معضلة وأبو الحسن لها، وأقول: فإن أصبت فمِن الله ثم من أمير المؤمنين (ع) وإن أخطأت فمن نفسي فأرجو أن لا أخطئ إن شاء الله، يعمد إلى المرأة فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أول وهلة لأنّ الولد لا يخرج منها حتى تشق فتذهب عذرتها ثم ترجم المرأة لأنها محصنة ثم ينتظر بالجارية حتى تضع ما في بطنها ويرد الولد إلى أبيه صاحب النطفة ثم تجلد الجارية الحد، قال: فانصرف القوم من عند الحسن (ع) فلقوا أمير المؤمنين (ع)

فقال: ما قلتم لأبي محمد وما قال لكم؟ فأخبروه فقال: لو أنني المسؤول ما كان عندي فيها أكثر مما قال ابني). فهذا هو الإمام الحسن يقول لمن استفتاه، وعلى رؤوس الأشهاد، بعبارة فصيحة، لا تلجلج فيها ولا تتعتع: إنّ فتواي يا عباد الله تحتمل الصواب والخطأ، فما كان صواباً فبفضل الله تعالى ثم بفضل العلوم التي استفدتها من أمير المؤمنين، وما كان خطأ فهو من نفسي القاصرة الجاهلة، إنما أنا في ذلك على طريقة أئمة المسلمين المجتهدين، ربما أصابوا، وربما أخطؤوا. 10 - أما الإمام الحسين فقد روى أحد كبار رواة الشيعة (أبو مخنف الأزدي) في قصة مقتله عليه سلام الله ما جرى بين ابن عباس وبينه من النصح له في ألا يخرج إلى العراق فقال: (ثم قال ابن عباس: لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إياه والحجاز والخروج منها وهو يوم لا ينظر إليه أحد معك، والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني لفعلت ذلك) (¬1). ولو كان ابن عباس (ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) وأحد رجالات الإمام علي بن أبي طالب يعتقد بعصمة الإمام الحسين لما خاطبه بهذا الأسلوب، ولما أشار عليه بالذهاب إلى اليمن (¬2) وخطّأ رأي الإمام الحسين في اختيار العراق. ¬

_ (¬1) مقتل الحسين (ع) لأبي مخنف الأزدي ص65 (¬2) كما في بعض الروايات

11 - أما علي بن الحسين "زين العابدين" وسائر الأئمة الإثني عشر فمع أنهم ليسوا من أهل الكساء لكن الشيعة الإثنى عشرية يذهبون إلى عصمتهم وإلى دخولهم في التطهير الذي ذكرته الآية دون غيرهم من آل البيت، مع ثبوت روايات شيعية كثيرة نافية لعصمتهم. ففي الصحيفة السجادية الجامعة لأدعية الإمام علي بن الحسين "زين العابدين" (¬1) ما نصه: (في المناجاة عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام، قال: كان من دعاء علي بن الحسين عليهما السلام: إلهي، إن كنت عصيتك بارتكاب شئ مما نهيتني، فإني قد أطعتك في أحب الأشياء إليك، الإيمان بك، منا منك به علي لا مناً مني به عليك. وتركت معصيتك في أبغض الأشياء إليك أن أجعل لك شريكاً، أو أجعل لك ولداً أو نداً. وعصيتك على غير مكابرة ولا معاندة، ولا استخفاف مني بربوبيتك ولا جحود لحقك، ولكن استزلني الشيطان بعد الحجة علي والبيان. فإن تعذبني فبذنوبي غير ظالم لي، وإن تغفر لي، فبجودك ورحمتك يا أرحم الراحمين) (¬2). ¬

_ (¬1) قال العلامة آغا بزرك طهراني في موسوعته "الذريعة إلى تصانيف الشيعة 13/ 345" متحدثاً عن مكانتها عند الشيعة: (هي على جانب عظيم من الأهمية ومن يتصفحها ويتأمل معانيها يعرف شيئا عن مكانة الإمام عليه السلام ويعني بها شيعة أهل البيت عناية بالغة فقد سماها العلامة ابن شهرآشوب في "معالم العلماء" عند ترجمته للمتوكل بن عمير ب‍ـ (زبور آل محمد) وعند ترجمته ليحيى بن علي بن محمد الحسيني الدلفي بـ (إنجيل أهل البيت). وقد خصها الأصحاب بالذكر في إجازاتهم واهتموا بروايتها منذ القديم وتوارث ذلك الخلف عن السلف وطبقة عن طبقة وتنتهي روايتها إلى الإمام الباقر وزيد الشهيد ابني الإمام زين العابدين، ويأتي ذكر ذلك في محله مفصلاً. وبالنظر لعظيم مكانة الإمام ومزيد أهمية هذه الأدعية ألفت الشروح الكثيرة لهذه الصحيفة، كما ألفت صحائف أخرى جمعت بقية أدعيته مما لم يذكر في هذه الصحيفة المسماة بالكاملة أو الأولى، وهي الصحيفة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، والثامنة). (¬2) الصحيفة السجادية (جمع الشيخ محمد باقر نجل الشيخ المرتضى الموحد الأبطحي الأصفهاني) ص497

وفيها أيضاً دعاء آخر للإمام زين العابدين يقول فيه: (أسألك أن تعفو عني، وتغفر لي فلست بريئاً فأعتذر، ولا بذي قوة فأنتصر، ولا مفر لي فأفر، وأستقيلك عثراتي، وأتنصل إليك من ذنوبي التي قد أوبقتني وأحاطت بي فأهلكتني، منها فررت إليك رب تائباً، فتب عليّ، متعوذاً فأعذني، مستجيراً فلا تخذلني، سائلاً فلا تحرمني، معتصماً فلا تسلمني، داعياً فلا تردني خائباً. دعوتك يا رب مسكيناً مستكيناً، مشفقاً، خائفاً، وجلا فقيراً مضطراً إليك أشكو إليك يا إلهي ضعف نفسي عن المسارعة فيما وعدته أولياءك، والمجانبة عما حذرته أعداءك، وكثرة همومي ووسوسة نفسي. إلهي لم تفضحني بسريرتي، ولم تهلكني بجريرتي أدعوك فتجيبني وإن كنت بطيئاً حين تدعوني، وأسألك كلما شئت من حوائجي، وحيث ما كنت وضعت عندك سري، فلا أدعو سواك، ولا أرجو غيرك، لبيك لبيك، تسمع من شكا إليك، وتلقى من توكل عليك، وتخلص من اعتصم بك، وتفرج عمن لاذ بك. إلهي فلا تحرمني خير الآخرة والأولى لقلة شكري، واغفر لي ما تعلم من ذنوبي، إن تعذب فأنا الظالم المفرط المضيع الآثم المقصر المضجع المغفل حظ نفسي، وإن تغفر فأنت أرحم الراحمين) (¬1). ونحن نقول: إنّ الإمام زين العابدين إمام من أئمة التقوى والدين، لا نظن فيه اقتراف الموبقات، لكن النص شاهد على جواز وقوع المعصية منه كسائر الأتقياء الأنقياء، وإن كان الظن بمثل هذا الإمام الجليل قلة المعاصي والآثام لما عُرف عنه من العبادة والتقوى والأتقياء يشفقون من صغائر ذنوبهم ما لا يشفق منه إجلالاً لله تعالى، وفي الحديث (إنّ المؤمن يرى ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص377

ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإنّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه فقال به هكذا) (¬1). وفي المصدر ذاته أيضاً تحت عنوان (دعاؤه عليه السلام في المناجاة) ما نصه: (إلهي أسألك أن تعصمني حتى لا أعصيك، فإني قد بهت وتحيرت من كثرة الذنوب مع العصيان، ومن كثرة كرمك مع الإحسان، وقد أكلت لساني كثرة ذنوبي، وأذهبت عني ماء وجهي، فبأي وجه ألقاك وقد أخلقت الذنوب وجهي؟! وبأي لسان أدعوك وقد أخرست المعاصي لساني؟! وكيف أدعوك وأنا العاصي؟! وكيف لا أدعوك وأنت الكريم؟! وكيف أفرح وأنا العاصي؟! وكيف أحزن وأنت الكريم؟! وكيف أدعوك وأنا أنا؟! وكيف لا أدعوك وأنت أنت؟! وكيف أفرح وقد عصيتك؟! وكيف أحزن وقد عرفتك؟! وأنا أستحيي أن أدعوك وأنا مصر على الذنوب، وكيف بعبد لا يدعو سيده؟! وأين مفره وملجأه إن يطرده؟! إلهي، بمن أستغيث إن لم تقلني عثرتي؟! ومن يرحمني إن لم ترحمني؟! ومن يدركني إن لم تدركني؟! وأين الفرار إذا ضاقت لديك أمنيتي؟ إلهي، بقيت بين خوف ورجاء خوفك يميتني، ورجاؤك يحييني. إلهي، الذنوب صفاتنا، والعفو صفاتك. إلهي، الشيبة نور من أنوارك، فمحال أن تحرق نورك بنارك. إلهي، الجنة دار الأبرار، ولكن ممرها على النار، فيا ليتني إذا حرمت الجنة لم أدخل النار) (¬2). وقال المجلسي أيضاً: (ومنها المناجاة الخمسة عشر لمولانا علي بن الحسين صلوات الله عليهما وقد وجدتها مروية عنه عليه السلام في بعض كتب الأصحاب رضوان الله عليهم: ¬

_ (¬1) رواه البخاري – كتاب الدعوات – باب التوبة – حديث رقم (6308) (¬2) الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين (جمع الأبطحي) ص476

المناجاة الاولى مناجاة التائبين [ليوم الجمعة]: بسم الله الرحمن الرحيم، إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلتي، وجللني التباعد منك لباس مسكنتي، وأمات قلبي عظيم جنايتى فأحيه بتوبة منك يا أملي وبغيتي ويا سؤلى ومنيتي، فوعزتك ما أجد لذنوبي سواك غافراً، ولا أرى لكسري غيرك جابراً، وقد خضعت بالإنابة إليك، وعنوت بالاستكانة لديك، فإن طردتني من بابك فبمن ألوذ؟ وإن رددتني عن جنابك فبمن أعوذ؟ فوا أسفا من خجلتي وافتضاحي ووالهفا من سوء علمي واجتراحي. أسألك يا غافر الذنب الكبير، ويا جابر العظم الكسير أن تهب لي موبقات الجرائر، وتستر عليّ فاضحات السرائر، ولا تخلني في مشهد القيامة من برد عفوك وغفرك ولا تعرني من جميل صفحك وسترك، إلهي ظلل على ذنوبي غمام رحمتك وأرسل عليّ عيوبي سحاب رأفتك، إلهي هل يرجع العبد الآبق إلا إلى مولاه، أم هل يجيره من سخطه أحد سواه، إلهي إن كان الندم على الذنب توبة، فإنى وعزّتك من النادمين، وإن كان الاستغفار من الخطيئة حِطّة فإني لك من المستغفرين، لك العتبى حتى ترضى، إلهى بقدرتك على تب على، وبحلمك عني أعف عني، وبعلمك بي ارفق بي. إلهى أنت الذي فتحت لعبادك باباً إلى عفوك سميته التوبة فقلت: " توبوا إلى الله توبة نصوحا " فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه، إلهي إن كان قبح الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك، إلهى ما أنا بأول من عصاك فتبت عليه، وتعرض لمعروفك فجدت عليه، يا مجيب المضطر، يا كاشف الضر، يا عظيم البر، يا عليماً بما في السر، يا جميل الستر، استشفعت بجودك وكرمك إليك وتوسلت بحنانك وترحمك لديك، فاستجب دعائي، ولا تخيب فيك رجائي وتقبل توبتي وكفر خطيئتي بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين) (¬1). ¬

_ (¬1) بحار الأنوار 91/ 142

12 - أما الإمام الباقر فهذه الرواية كافية لدحض دعوى عصمته: روى الكليني في "الكافي" بسند حكم المجلسي بأنه (حسن أو موثّق) (¬1) عن عبد الملك قال: وقع بين أبي جعفر وبين ولد الحسن (عليهما السلام) كلام فبلغني ذلك، فدخلت على أبي جعفر (ع) فذهبت أتكلم فقال لي: مه، لا تدخل فيما بيننا فإنما مثلنا ومثل بني عمّنا كمثل رجل كان في بني إسرائيل كانت له ابنتان فزوّج إحداهما من رجل زرّاع وزوّج الأخرى من رجل فخّار، ثم زارهما فبدأ بامرأة الزرّاع فقال لها: كيف حالكم؟ فقالت: قد زرع زوجي زرعاً كثيراً، فإن أرسل الله السماء فنحن أحسن بني إسرائيل حالاً، ثم مضى إلى امرأة الفخّار فقال لها: كيف حالكم؟ فقالت: قد عمل زوجي فخّاراً كثيراً فإن أمسك الله السماء فنحن أحسن بني إسرائيل حالاً، فانصرف وهو يقول: اللهم أنت لهما، وكذلك نحن). قال المجلسي في شرح الخبر: (قوله: (وكذلك نحن) أي: ليس لكم أن تحاكموا بيننا لأنّ الخصمين كليهما من أولاد الرسول، ويلزمكما احترامهما لذلك، فليس لكم أن تدخلوا بينهم فيما فيه يختصمون كما أنّ ذلك الرجل لم يرجّح جانب أحد صهريه، ووكل أمرهما إلى الله تعالى) (¬2) فأين العصمة المدّعاة؟! 13 - أما الإمام جعفر الصادق فقد روى ابن بابويه القمي عنه أنه كان يدعو بهذا الدعاء: (إلهي كيف أدعوك وقد عصيتك، وكيف لا أدعوك وقد عرفت حبك في قلبي، وإن كنت عاصياً مددت إليك يداً بالذنوب مملوءة، وعيناً بالرجاء ممدودة، مولاي أنت عظيم العظماء وأنا أسير الأسراء، أنا أسير بذنبي مرتهن بجرمي، إلهي لئن طالبتني بذنبي لأطالبنك بكرمك ¬

_ (¬1) مرآة العقول 25/ 194 (¬2) المصدر نفسه

ولئن طالبتني بجريرتي لأطالبنك بعفوك، ولئن أمرت بي إلى النار لأخبرن أهلها أني كنت أقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، اللهم إنّ الطاعة تسرك، والمعصية لا تضرك، فهب لي ما يسرك، واغفر لي ما لا يضرك، يا أرحم الراحمين) (¬1). ومثل هذا الكلام لا يقوله من هو معصوم عن الذنوب صغيرها وكبيرها، فإنّ الإمام الصادق إنما يسأل الله تعالى أمراً جائز الوقوع، لا أمراً يستحيل وقوعه منه! وروى الكليني في "الكافي" بسند حسّنه المجلسي في "مرآة العقول 23/ 276" عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: (كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فدخل عليه عباد البصري ومعه أناس من أصحابه فقال له: حدثني إذا أخذ الرجلان في لحاف واحد؟ فقال له: كان علي عليه السلام إذا أخذ الرجلين في لحاف واحد ضربهما الحد، فقال عباد: إنك قلت لي: غير سوط فأعاد عليه ذكر الحديث حتى أعاد عليه ذلك مراراً فقال: غير سوط. فكتب القوم الحضور عند ذلك الحديث). فها هو الإمام جعفر الصادق يشهد في هذا الخبر أنه كغيره من علماء المسلمين، ربما روى حدث بالخبر فاضطرب فيه لنسيان أو لبس واشتباه، ونحوه ذلك مما يعرض للرواة، وهذا ليس قادحاً فيه ولا في غيره، لأنّ القدح في الراوي لا يكون إلا إذا فحش غلطه، وكثر اضطرابه، أما الوهم مرة بعد مرة فليس مما يستوجب القدح عند أحد من الرجاليين إذ قل أن يسلم منه أحد. ¬

_ (¬1) الأمالي للصدوق ص 438

ومثل هذا الخبر لا دخل له عند جمهور المسلمين بالعصمة، لأنهم يعتقدون أنّ النسيان والسهو أمرٌ عارضٌ للمعصوم ولغير المعصوم، أما الشيعة الإثنا عشرية فيرون أنّ المعصوم منزّه عن السهو والنسيان والخطأ، ولذلك صح الاستدلال بهذه الرواية عليهم. 14 - أما الإمام موسى الكاظم فقد روى المجلسي في "بحار الأنوار 91/ 182" عن علي ابن مهزيار أنه قال: سمعت مولاي موسى بن جعفر صلوات الله عليه يدعو بهذا الدعاء وهو دعاء الاعتقاد: (إلهي إنّ ذنوبي وكثرتها قد غبرت وجهي عندك، وحجبتني عن استئهال رحمتك، وباعدتني عن استنجاز مغفرتك، ولولا تعلقي بآلائك، وتمسكي بالرجاء لما وعدت أمثالي من المسرفين، وأشباهي من الخاطئين، بقولك {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} وحذرت القانطين من رحمتك فقلت: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّون} ثم ندبتنا برحمتك إلى دعائك فقلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين (} إلى آخر الدعاء. ولا يجوز شرعاً وعقلاً أن يدعو الإنسان ربه عز وجل ويطلب منه مغفرة ذنوبه عبثاً لكونه معصوماً عنها بل وعن الخطأ والنسيان والسهو البشري! ومثل هذه الروايات كثير لمن أراد التتبع. رابعاً: الرجس المذكور في آية التطهير هو الشك فهناك روايات صحيحة السند عند الشيعة عن أئمة آل البيت تثبت أنّ ما ذهب إليه علماء الشيعة في تفسير (الرجس) المذكور في الآية يخالف تفسير أئمة أهل البيت أنفسهم!

فقد روى الكليني في "الكافي 2/ 182" عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: سمعته يقول: إنّ الله عز وجل لا يوصف وكيف يوصف؟ وقال في كتابه {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِه} فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك، وإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يوصف وكيف يوصف عبد احتجب الله عز وجل بسبع وجعل طاعته في الأرض كطاعته [في السماء] فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} ومن أطاع هذا فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني، وفوّض إليه، وإنا لا نوصف وكيف يوصف قوم رفع الله عنهم الرجس وهو الشك، والمؤمن لا يوصف وإنّ المؤمن ليلقى أخاه فيصافحه فلا يزال الله ينظر إليهما والذنوب تتحات عن وجوههما كما يتحات الورق عن الشجر). قال عنه المجلسي: حسن كالصحيح "مرآة العقول 9/ 70 - 72" وصححها كذلك الشيخ هادي النجفي في كتابه "ألف حديث في المؤمن ص276". ويلاحظ هنا أنّ الإمام الباقر (أبو جعفر) قد فسرّ المراد من إذهاب الرجس فقال (وهو الشك). وروى الكليني أيضاً في "الكافي 1/ 287" ما نصه- في حديث طويل-: (فلما مضى علي لم يكن يستطيع علي ولم يكن ليفعل أن يدخل محمد بن علي ولا العباس بن علي ولا واحداً من ولده إذاً لقال الحسن والحسين: إنّ الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك فأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك وبلّغ فينا رسول الله صلى الله عليه وآله كما بلّغ فيك وأذهب عنا الرجس كما أذهبه عنك، فلما مضى علي عليه السلام كان الحسن عليه السلام أولى بها لكبره، فلما توفي لم يستطع أن يدخل ولده ولم يكن ليفعل ذلك والله عز وجل يقول: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} فيجعلها في ولده إذاً لقال الحسين أمر الله بطاعتي كما أمر بطاعتك وطاعة أبيك وبلّغ في رسول الله صلى الله عليه وآله كما بلّغ فيك وفي أبيك وأذهب الله عني

الرجس كما أذهب عنك وعن أبيك، فلما صارت إلى الحسين عليه السلام لم يكن أحد من أهل بيته يستطيع أن يدّعي عليه كما كان هو يدّعي على أخيه وعلى أبيه، لو أرادا أن يصرفا الأمر عنه ولم يكونا ليفعلا ثم صارت حين أفضت إلى الحسين عليه السلام فجرى تأويل هذه الآية {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} ثم صارت من بعد الحسين لعلي بن الحسين، ثم صارت من بعد علي بن الحسين إلى محمد بن علي عليه السلام. وقال: الرجس هو الشك، والله لا نشك في ربنا أبداً) (¬1). فلا يصح حينئذ تفسير الرجس بغير ما فسره أئمة أهل البيت أنفسهم والإدعاء فيهم مالم يدّعوه في أنفسهم!! خامساً: اعتراف العلامة الشيعي الكبير (الشهيد الثاني) (¬2) بأن رواة الأئمة وشيعتهم لم يكونوا يعتقدون عصمة أئمتهم! يقول آية الله العظمى محمد المهدي بحر العلوم الطباطبائي في "الفوائد الرجالية": (قد حكى جدي العلامة -قدس سره- في كتاب "الإيمان والكفر" (¬3) عن الشهيد الثاني: أنه احتمل الاكتفاء في الإيمان بالتصديق بإمامة الأئمة - عليهم السلام - والاعتقاد بفرض ¬

_ (¬1) صححه المجلسي في مرآة العقول (3/ 213) (¬2) زين الدين بن علي بن أحمد بن محمد العاملي المعروف بـ"الشهيد الثاني"، ترجم له الحر العاملي في "أمل الآمل 1/ 85" فقال: (أمره في الثقة والعلم والفضل والزهد والعبادة والورع والتحقيق والتبحر وجلالة القدر وعظم الشأن وجمع الفضائل والكمالات أشهر من أن يذكر، ومحاسنه وأوصافه الحميدة أكثر من أن تحصى وتحصر، ومصنفاته كثيرة مشهورة). (¬3) كتاب الإيمان والكفر المسمى "تحفة الغري"- مخطوط- للعلامة محمد ابن السيد عبد الكريم الطباطبائي البروجردي، الذي هو جد بحر العلوم الأدنى لأبيه.

طاعتهم وإن خلا عن التصديق بالعصمة عن الخطأ. وادعى أنّ ذلك هو الذي يظهر من جل رواتهم وشيعتهم، فإنهم كانوا يعتقدون أنهم - عليهم السلام - علماء أبرار، افترض الله طاعتهم، مع عدم اعتقادهم العصمة فيهم، وأنهم (عليهم السلام) مع ذلك كانوا يحكمون بإيمانهم وعدالتهم - قال -: (وفي كتاب أبي عمرو الكشي جملة من ذلك)) (¬1). فإذا كان هذا هو اعتقاد رواة وشيعة الأئمة الذين عاصروهم فلِم لم يقتفِ شيعة (ما بعد عصر الغيبة) أثرهم فارتاحوا وأراحوا! إنّ هذا يذكرني بقول العلامة المامقاني في "تنقيح المقال": (إنّ القدماء (¬2) كانوا يعدون ما نعدّه اليوم من ضروريات مذهب الشيعة غلواً وارتفاعاً، وكانوا يرمون بذلك أوثق الرجال كما لا يخفى على من أحاط خبراً بكلماتهم) (¬3). فالمذهب يتطور على مر الزمان ... فما كان بالأمس غلواً وانحرافاً بات بعد زمن من ضروريات المذهب التي لا تقبل التشكيك! سادساً: يكفي في الرد على الإثني عشرية في قولهم بوجوب عصمة الإمام أن نذكر ما قاله الإمام المنصور بالله (614هـ) – وهو أحد كبار علماء الزيدية – في كتابه "العقد الثمين في أحكام الأئمة الهادين ص401": (إنّ الإمامية مع تشددها في العصمة وإثباتها، جوّزت على الأئمة عليهم السلام ارتكاب المحظورات تقية، والفتوى بغير الحق، والفتاوى المتناقضة في الحكم الواحد، ومداهنة الظالمين، والاستقامة لنفوذ أحكامهم عليه وعلى أشياعهم، وهذه ¬

_ (¬1) الفوائد الرجالية 3/ 219 - 220 (¬2) يريد بذلك القميين وابن الغضائري وغيرهم من علماء الشيعة القدماء. (¬3) تنقيح المقال 3/ 23 الحجرية

حال المعصومين عند الإمامية، والزيدية لا يرون بعصمة الإمام، وأئمتهم كذلك لا يدينون بذلك، وهم لا ينفذون ظلم ظالم، ولا ينزلون على حكم غاشم، يرى قائمهم ملء الأرض جنوداً بشطر عينه، ويقدم إلى الموت بعد التيقن لموافاة حينه، يلقى الرماح باسماً والصفاح ضاحكاً. وذلك مشهور لا يحتاج إلى برهان، ولا تعلم منه المعاصي سراً ولا جهراً، فانظر إلى هذين الأمرين ما أعجبهما! رووا المعاصي على أئمتهم كرّمهم الله عنهما وشرّف أقدارهم عن حكايتهم فيهم، وقالوا: لا بد من العصمة فيهم! وهؤلاء أئمة الزيدية لا تطور المعاصي ديارهم، ولا تنكسر من مهابة الظالمين أبصارهم بل روعاتهم منهم كل يوم مجددة، وسيوفهم عليهم مجردة. وهم لهم شجى في الحلوق لا يسيغه السلسال، وقذى في العيون تصغر عنه الأجدال، فكيف يبعدون من هذه حاله عن الإمامة وينفون عنه السلامة، ويوجبون عقد الإمامة والنص بالزعامة لمن لم يدعها، ولا يلتزم أحكامها ولا ينفذها بل نفذت أحكام الظالمين عليه في نفسه وأشياعه وأعوانه وأتباعه وأضافوا إليه تغيير الأحكام ولبس الحلال بالحرام، قالوا: والتقية تجيز ذلك!). فإنّ التناقض في موضوع العصمة لا يقف عند سوء الاستدلال بالنصوص وتحميلها ما لا تحتمل بل يتعدى ذلك إلى الواقع التاريخي والروائي الشيعي وفوق هذا كله النسيج البنائي للمذهب الذي يفترض التقية في أفعال الأئمة ومهابتهم للظالمين ومسالمتهم له وغيرها من الموبقات والتي من شأنها أن تفرض عدم جواز الائتمام بالأئمة الإثني عشر.

سابعاً: التطهير من الرجس لا يعني إثبات العصمة فكما أنّ كلمة (الرجس) لا يراد بها ذنوب الإنسان وأخطاؤُه في الاجتهاد وإنما يُراد بها لغة القذر والنتن والنجاسات المعنوية والحسية (¬1)، ويُراد بها شرعاً معنى خاص هو (الشرك) كما في روايات الأئمة المذكورة آنفاً وبعض أقوال المفسرين أو يُراد بها شرعاً (العذاب) كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء، فإنّ كلمة (التطهير) أيضاً لا تعني إثبات العصمة لمن وقع عليه التطهير. فإنّ الله عز وجل يريد تطهير كل المؤمنين وليس أهل البيت فقط، وإن كان أهل البيت هم أولى الناس وأحقهم بالتطهير. فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم عن صحابة رسوله {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} (¬2) وقال {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (¬3) وقال {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} (¬4) فكما أخبر الله عز وجل بأنه يريد تطهير أهل البيت أخبر كذلك بأنه يريد تطهير المؤمنين، فإن كان في إرادة التطهير وقوع للعصمة لحصل هذا للصحابة ولعموم المؤمنين الذين نصت الآيات على إرادة الله عز وجل تطهيرهم. ¬

_ (¬1) قال الشوكاني في "إرشاد الفحول 1/ 124": (لا يخفاك أنّ كون الخطأ رجس لا يدل عليه لغة ولا شرع فإنّ معناه في اللغة القذر ويطلق في الشرع على العذاب كما في قوله سبحانه {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَب} وقوله {مِّن رِّجْزٍ أَلِيم} والرجز الرجس). (¬2) سورة المائدة آية 6 (¬3) سورة التوبة آية 103 (¬4) سورة البقرة آية 222

وقد قال الله تعالى أيضاً عن لوط عليه السلام {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُون} (¬1) ولم تكن ابنتا لوط عليه السلام معصومتين مع أنهما من الآل الذين وُصفوا بالتطهير. وقد قال تعالى عن رواد مسجد قباء من الصحابة {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (¬2) ولم يكن هؤلاء معصومين من الذنوب بالاتفاق. وقال تعالى عن أهل بدر وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَان} (¬3) ولم يكن في هذا إثبات لعصمته مع أنه لا فرق يُذكر في الألفاظ بين قول الله تعالى عن أهل البيت {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْت} وبين قوله عن أهل بدر {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَان} فالرجز والرجس متقاربان، وإذهاب الرجس مشترك، لكن الهوى هو الذي جعل من الآية الأولى دليلاً على العصمة دون الأخرى! والعجيب في علماء الشيعة أنهم يتمسكون بالآية ويصرفونها إلى أصحاب الكساء ثم يصرفون معناها من إرادة التطهير إلى إثبات عصمة أصحاب الكساء ثم يتناسون في الوقت نفسه آيات أخرى نزلت في إرادة الله عز وجل لتطهير الصحابة بل هم بالمقابل يقدحون فيهم ويقولون بانقلابهم على أعقابهم مع أنّ الله عز وجل نص على إرادة تطهيرهم بنص الآية، مفارقات عجيبة يُحار فيها العقل ولا تجد لها إلا إجابة واحدة، إنه التعصب وما يفعله في أصحابه. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف آية 82 (¬2) سورة التوبة آية 108 (¬3) سورة الأنفال آية 11

ثامناً: إرادة التطهير لا تعني بالضرورة وقوع التطهير ما ذكرته آنفاً يستند إلى أنّ المعنى من إرادة الله للتطهير وقوع التطهير، وقد يكون المراد من الآية الأمر بلزوم طاعة الله حتى يقع التطهير. وسياق الكلام الموجه لنساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتضمن توجيهاً إلهياً لهن بفعل أمور واجتناب أخرى (¬1)، وبيّن الله عز وجل أنه يريد منهن التزام هذه التوجيهات ليذهب عنهم الرجس بمقتضى أمره لهم، وبامتثالهم لأمر الله وحفظهم لوصاياه يحصل التطهير، وهذا النمط من الخطاب استخدمه الله عز وجل في آخرين كما في قوله تعالى للمؤمنين {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ} (¬2) وقوله تعالى {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} (¬3) وقوله تعالى {يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} (¬4) فالإرادة هنا متضمنة للأمر والمحبة والرضا لا أنها حصلت فعلاً، ولو كان الأمر كذلك لتطهر كل من أراد الله طهارته وأبسط مثال يوضح ذلك هو أنّ الله عز وجل يريد على سبيل المثال للبشر كلهم أن يدخلوا الجنة وهذه الإرادة هي إرادة محبة، وهناك إرادة له سبحانه كونية قدرية في هذا الشأن وهي أنه ¬

_ (¬1) ومما يؤكد أنّ الآية لا تنص على وقوع التطهير بل على إرادة التطهير أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرص على أن يلحق أصحاب الكساء ما لحق زوجاته أمهات المؤمنين اللاتي نزلت فيهن الآية وفي إرادة تطهيرهن ما رواه الترمذي بسند فيه ضعف من أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يَمُرُّ بباب فاطمة سِتةَ أشهر إذا خرج لصلاة الفجر يقول: (الصلاة يا أهل البيت، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}) إذ بالمحافظة على الفرائض وبطاعة الله يحصل التطهير، والحديث وإن كان ضعيفاً ولا يُحتج فيه إلا أنه قد يصلح كشاهد على الأقل على ما ذكرناه. (¬2) سورة المائدة آية 6 (¬3) سورة النساء آية 26 (¬4) سورة النساء آية 28

سيكون من البشر مؤمن وكافر وأنه ليس كل البشر سيدخلون الجنة، لأنّ الله سبحانه وتعالى أعطى البشر الحرية في عمل الخير أو الشر لكي يحصل العدل بمجازاته، ولو كان الإنسان مجبوراً على الخير فقط لما كان من العدل مجازاته أصلاً لأنه لو أراد الشر ما وجد إلى ذلك سبيلاً، فإرادة الله إدخال البشر كلهم إرادة محبة ولكن لا يلزم تحققها لأنّ الله نفسه لم يوجب حدوثها. تاسعاً: الاستدلال بالآية على عصمة أصحاب الكساء لا يخلو من العجب لأمر بديهي يعرفه كل أحد وهو أنّ حديث الكساء يذكر فاطمة الزهراء رضوان الله عليها كطرف من الأطراف الذين نزلت فيهم الآية، والشيعة الاثنا عشرية يقولون بأنّ الله عز وجل أضفى على الأئمة صفة العصمة لاحتياج المهمة المناطة بهم لذلك، وهي إمامة الناس وتحكيم شرع الله والسؤال: إذا كان الأمر كذلك فهل السيدة فاطمة نبية أو من الأئمة لكي تُضفى عليها صفة العصمة؟!! وما الغاية التي لأجلها أُضفيت لها العصمة؟ هل كل من يحبه الله وله مقام عند الله يكون معصوماً؟ إنّ الله عز وجل لمّا أضفى صفة العصمة على الأنبياء أضفاها عليهم لأنهم مبلغو الوحي وأمناء الرسالة السماوية، ولو أننا قبلنا عصمة الأئمة دون أن نناقشها، فإنّ ما لا يمكن تقبله لا عقلاً ولا شرعاً أن يتصف بالعصمة من ليس بنبي ولا حتى إمام!! وإذهاب (الرجس) حتى لو دل على العصمة فإنه لا يدل على استحقاق الإمامة بحال من الأحوال، ونحن بصدد البحث عن دليل على الإمامة، فإن قيل بأنّ من مستلزمات الإمامة العصمة وأنّ من كان معصوماً وجبت إمامته، قيل: وماذا تقول في فاطمة الزهراء التي هي أحد أصحاب الكساء؟ أتستطيع تطبيق نفس المبدأ عليها والقول بأنها من الأئمة؟

فإن قال: (لا) وهي الإجابة الوحيدة التي سيستطيع أن يجيب بها، قيل له: قال الله تعالى {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض} (¬1) فإما أن تطبق ما تدّعيه مائة بالمائة أو تقر ببطلانه، لكن التشبت بالدليل بما يوافق الهوى وطرح ما يخالفه ما هو في الحقيقة إلا تلاعب بالقرآن الكريم وبسنة رسوله الكريم، وما أرى من يسلك هذا الطريق يطلب الحق وهو يدّعي ما يدّعيه، ويجره التعصب إلى الإصرار على الخطأ في فهم دين الله. ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية 85

آية المباهلة

آية المباهلة (¬1) تعتبر آية المباهلة التي نزلت في وفد نجران وهي قول الله عز وجل {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِين} (¬2) إحدى أهم أدلة الشيعة الإثنى عشرية على الإمامة ويرى الإثنا عشرية أنّ وجه دلالة الآية على إمامة علي بن أبي طالب أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعله مثل نفسه بقوله {أَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} لأنه أراد بقوله {أَبْنَاءنَا} الحسن والحسين عليهما السلام وبقوله {نِسَاءنَا} فاطمة وبقوله {أَنفُسَنَا} نفسه ونفس علي عليهما السلام ... وإذا جعله مثل نفسه وجب أن لا يدانيه ولا يقاربه في الفضل أحد). وقبل مناقشة هذه الدعوى: لي مع هذه الآية الكريمة حادثة لا تُنسى .. فقد اتصل بي أحد الأصدقاء يدعوني لحضور حوار سيتم بين شابين أحدهما سني والآخر شيعي في إحدى الديوانيات حول الخلاف بين السنة والشيعة الإثنى عشرية، فرحّبت بذلك وذهبت على أمل أن يكون النقاش علمياً وأن لا تعكره أجواء التعصب. وقد كان المحاور السني قريباً من الديوانية فحضر قبل المحاور الشيعي الذي كنا ننتظره فعرّفني المحاور السني على أحد الجالسين وأخبرني بأنه مؤذن في أحد المساجد وذكر لي اسم ¬

_ (¬1) سُميت آية المباهلة بهذا الاسم كما يقول الحافظ ابن كثير في "تفسيره 1/ 180": (لأنّ كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له، ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره، وكانت المباهلة بالموت، لأنّ الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت). (¬2) سورة آل عمران آية 61

عائلة شيعية عريقة في التشيع هي عائلة هذا الشاب، وقد كان صاحبنا هذا ممن يقوم بتمثيل دور الشبيه في الحسينية قبل أن يتحول إلى أهل السنة. فانتقلت مباشرة إلى الأخ ورحّبت به وسألته عن سبب انتقاله إلى أهل السنة ودار بيننا حديث عن الصعوبات التي واجهها بسبب تسننه. لكن الشاهد من هذا كله، حوار دار بينه وبين أحد علماء الشيعة حول هذه الآية بالذات. قال الأخ: ذكرت لابن عمي يوماً أنّ من عقائد الشيعة الإثني عشرية تفضيل الإمام علي على الأنبياء، فاستنكر هذا وقال لي: أنا شيعي ولا أعرف هذا الكلام، فقلت له: لأنك عامي ولا تعرف كل العقائد أما أنا فمطّلع على هذه الأمور. يقول: فاتفقنا على أن يحسم الأمر بيننا أحد علماء الشيعة الإثني عشرية على أن أخاطبه بصفتي شيعي اثني عشري كما كنت في السابق حتى لا يتوجس من قصدي من السؤال. يقول: فسألت الشيخ (من أفضل الإمام علي عليه السلام أم الأنبياء عليهم السلام؟). فأجاب الشيخ: الإمام علي عليه السلام أفضل من الأنبياء جميعاً سوى محمد صلوات الله وسلامه عليه. فنظرت إلى ابن عمي وهو بجانبي وقلت: أرأيت؟ كلامي كان صحيحاً. ثم قلت للشيخ: ما الذي جعل الإمام علياً أفضل من الأنبياء سوى محمد عليه الصلاة والسلام؟ فقال: آية المباهلة، لأنّ الله عز وجل قد جعله نفس محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله {وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُم}.

يقول: فوقع في قلبي أن أقول للشيخ: لكنّ الله عز وجل قد قال في كتابه المجيد مخاطباً الكفار {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم} (¬1) فهل يُقال بأنّ كفار مكة هم نفس رسول الله، لأنّ الله قد قال {رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}. يقول: فصمت الشيخ. ثم ذكر لي بعد ذلك ما دار بينه وبين الشيخ حول النظرة إلى أبي بكر وعمر وحوادث أخر. ثم قدم المحاور الذي كنا ننتظره فأنهينا حديثنا الجانبي ورحّبنا بالضيف وابتدأ النقاش. إنّ آية المباهلة لا مستند فيها على ما يدّعيه الشيعة الإثني عشرية في موضوع الإمامة لعدة أسباب: أولاً: أنه على كثرة المعاني والمرادفات لكلمة (نفس) التي تستدل بها الإمامية على دلالة النص في خلافة علي بن أبي طالب لا يوجد معنى حقيقي أو مجازي يدل على الخلافة. قال الزَّبيدي: (قال ابن خالويه: النفس الأخ، قال ابن برّي: وشاهده قوله تعالى {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} (¬2) وفسر ابن عرفة قوله تعالى {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً} (¬3) أي بأهل الإيمان وأهل شريعتهم) (¬4). قال الدهلوي: (معنى (ندع أنفسنا) نحضر أنفسنا، وأيضاً لو قررنا الأمير – أي الإمام علياً– من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمصداق (أنفسنا)، فمن نقرره من قبل الكفار ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية 128 (¬2) سورة النور آية 61 (¬3) سورة النور آية 12 (¬4) تاج العروس 16/ 570

لمصداق (أنفسكم) في أنفس الكفار مع أنهم مشتركون في صيغة (ندع) ولا معنى لدعوة النبي إياهم وأبناءهم بعد قوله (تعالوا)) (¬1). وقوله تعالى {وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} مثل قوله تعالى {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً} (¬2) نزلت في أم المؤمنين عائشة في حادثة الإفك، فإنّ الواحد من المؤمنين من أنفُس المؤمنين والمؤمنات. وكذلك قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ} (¬3) أي لا يُخرج بعضكم بعضاً، فالمراد بالأنفس الإخوان: إما في النسب وإما في الدين (¬4). قلت: وقد قال الله عز وجل عن رسوله الكريم {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم} (¬5) والحجة في هذه الآية على الإمامية ظاهرة في قوله تعالى {أَنفُسَنَا} على معنى المماثلة والتطابق، فهذه الآية تتكلم عن رسول الله وعن كفار مكة، وتقول {مِّنْ أَنفُسِكُم} فمن ذا الذي يقول بأنّ نفس رسول الله كـ (أنفس) كفار مكة – عياذاً بالله -؟!! ¬

_ (¬1) مختصر التحفة الإثنى عشرية ص156 (¬2) سورة النور آية 12 (¬3) سورة البقرة آية 84 (¬4) مختصر منهاج السنة 1/ 167 - 168 بتصرف (¬5) سورة التوبة آية 128

وهنا تظهر المزاجية في تفسير آية المباهلة حين يتجاهل علماء الشيعة كل هذه النصوص ثم يأتون إلى هذه الآية الكريمة فيبالغون في معناها إلى حد قولهم بأنّ علياً هو نفس محمد صلى الله عليه وآله وسلم سوى النبوة! ولعلي أشير هنا إلى رواية شيعية تبين أنّ إطلاق لفظ أنفسنا على الأخ أو القريب أو أرباب الفئة الواحدة شيء متعارف عليه عند الناطقين بالعربية. روى الكليني عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: بعث أمير المؤمنين (ع) عبد الله بن العباس إلى ابن الكواء وأصحابه وعليه قميص رقيق وحُلّة، فلما نظروا إليه قالوا: يا ابن عباس، أنت خيرنا في أنفسنا وأنت تلبس هذا اللباس، فقال: وهذا أول ما أخاصمكم فيه {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق} وقال {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد} (¬1). فهل بعد هذه الدلائل القرآنية وبعد هذه الرواية الشيعية من كلمة يقولها المغالي؟ ثانياً: اعترف أحد أقطاب الشيعة وهو الشيخ الرضّي أنّ قوله تعالى {أَنفُسَنَا} لا يعني أنّ علياً رضي الله عنه هو نفس رسول الله كما يقول الشيعة. يقول الشيخ الرضيّ في كتابه "حقائق التأويل في متشابه التنزيل ص113" في تفسير الآية الكريمة: (قال بعض العلماء: إنّ للعرب في لسانها أن تخبر عن ابن العم اللاصق والقريب المقارب بأنه نفس ابن عمه، وأنّ الحميم نفس حميمه، ومن الشاهد على ذلك قول الله تعالى ¬

_ (¬1) الكافي 6/ 441 - كتاب الزي والتجمل - باب اللباس – حديث رقم (6).

{وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَاب} (¬1) أراد تعالى: ولا تعيبوا إخوانكم المؤمنين فأجرى الأخوة بالديانة مجرى الأخوة في القرابة، وإذا وقعت النفس عندهم على البعيد النسب كانت أخلق أن تقع على القريب السبب، وقال الشاعر: كأنا يوم قُرّى إنما نقتل إيانا. أراد: كأنما نقتل أنفسنا بقتلنا إخواننا، فأجرى نفوس أقاربه مجرى نفسه، لشوابك العصم ونوائط اللحم وأطيط الرحم، ولما يخلج من القربى القريبة، ويتحرك من الأعراق الوشيجة فأما قول الله تعالى في النور {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} فيمكن أن يجرى هذا المجرى، لأنه جاء في التفسير: أنّ معنى ذلك فليسلّم بعضكم على بعض لاستحالة أن يسلم الإنسان على نفسه، وإنما ساغ هذا القول، لأنّ نفوس المؤمنين تجري مجرى النفس الواحدة للاجتماع في عقد الديانة، والخطاب بلسان الشريعة، فإذا سلّم الواحد منهم على أخيه كان كالمسلم على نفسه، لارتفاع الفروق واختلاط النفوس) انتهى كلامه. وبهذا يتضح أنه لا حجة لدى الشيعة في دعواهم أنّ في هذه الآية ما ينص على المساواة بين رسول الله وعلي رضي الله عنه وأرضاه، فلفظ (النفس) يُطلق في لغة العرب على البعيد النسب كما يُطلق على القريب، وليس في ذلك دلالة على الإمامة من قريب ولا بعيد! ثالثاً: أنّ دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً وفاطمة والحسنين جاءت من جهة القرابة لا لإظهار الإمامة أو النص عليها، إذ إنّ المباهلة إنما تحصل الرغبة والرهبة والشعور بصدق الداعي بجمعه نفسه وأهله الذين تحن إليهم النفوس بطبيعة الحال ما لا تحن إلى غيرهم من الأبعدين في الهلاك (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الحجرات آية 11 (¬2) منهاج السنة 7/ 125 - 126

ففيها مجال التضحية أكثر وضوحاً من مجال إضفاء الفضائل أو الإمامة، ففي التضحية تُقدّم الأنفس والأبناء والنساء ولكن لا يُقدّمون للخلافة! (¬1) رابعاً: قول الشيعة الإمامية إنّ الآية تدل على المساواة بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا النبوة، كلام لا يُسلّم له أبداً، إذ أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يساويه أحد في أمور الدين لا علي ولا غيره، فأين مقام رسول الله وكماله البشري من سائر الناس؟ إنّ الإمام علياً نفسه لا يرتضي ما يقول الشيعة الإمامية عنه، والمنصف العاقل يدرك هذه القضية بكل وضوح. روى الكليني في الكافي أنّ أمير المؤمنين علياً (ع) سئل (يا أمير المؤمنين، أفنبي أنت؟ فقال: ويلك، إنما عبد من عبيد محمد صلى الله عليه وآله وسلم) (¬2) يريد بذلك عبد الطاعة والخدمة لا عبد الخضوع والذل. فإذا كان هذا هو مقام الإمام علي من صريح كلامه الذي يرويه عنه الشيعة الإثنا عشرية وهو ما ينص العقل عليه وعلى كل أحد أنه تابع لرسول الله إن أطاع سنته وهديه دخل الجنة وإن عصاه دخل النار، فكيف يجرؤ أهل الغلو على مقولتهم الآثمة أنّ علياً هو نفس محمدٍ عليه الصلاة والسلام سوى النبوة فقط! وهل كمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البشري ككمال علي البشري في نبوته صلوات الله وسلامه عليه أو حتى قبل نبوته؟! ¬

_ (¬1) أثر الإمامة في الفقه الجعفري وأصوله ص49 بتصرف. (¬2) الكافي – كتاب التوحيد – (باب الكون والمكان) – رواية رقم (5).

هل يدّعي هؤلاء أنه لا فرق بين رسول الله قبل النبوة وبين علي بن أبي طالب، وأنّ النبوة حينما جاءت لم تجد فرقاً بين محمد عليه الصلاة والسلام وبين علي بن أبي طالب، لكن الاختيار وقع على محمد عليه الصلاة والسلام هكذا لحكمة ربانية لا نعلمها لا لكونه أكمل وأفضل وأشرف مقاماً وأعظم خُلقاً واستحقاقاً من علي بن أبي طالب؟! إنّ الشيعة الإثني عشرية اليوم يغضبون من متعصبة أهل السنة الذين ينسبون إليهم القول بأنّ جبريل أخطأ في إنزال النبوة على محمد وأنها كانت ستنزل على عليّ! وهذا باطل والشيعة الاثنا عشرية بريئون من هذا القول (¬1)، لكنهم في الوقت ذاته يساوون بين نفس رسول الله ونفس علي بن أبي طالب، ويستثنون النبوة، وكأنهم يقولون من حيث لا يشعرون أنّ الله عز وجل لم يصطفِ محمداً عليه الصلاة والسلام لتميزه عن سائر الخلق إذ إنّ علياً نفسه بالضبط لكن جاءت المشيئة الإلهية بأن يكون هو النبي وأن يكون عليٌّ وصياً له! وقد قال المجلسي تعليقاً على حديث (إنّ الله اتخذ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وإنّ علياً (ع) كان عبداً ناصحاً لله عز وجل) ما نصه: (والغرض أنّ هذا الكمال الذي كان حاصلاً لنبينا قبل بعثته ونبوته، قد كان لعلي (ع) وكان في جميع الكمالات مشاركاً مع الرسول صلى الله عليه وسلم سوى النبوة فقد أخذتم بولاية من هو هكذا) (¬2). رحماك ربي ... إلى أي ضلالة يقودنا الغلو من حيث لا نشعر ... ¬

_ (¬1) إنّ الفرقة التي ادّعت ذلك في الإمام علي بن أبي طالب هي فرقة (الغرابية) وهي فرقة شيعية قديمة يغلب على الظن أنها انقرضت منذ زمن بعيد، لكن حدثني بعض الثقات عن معرفتهم لأشخاص يتبنون هذا الفكر فلعلهم من بقايا هذه الفرقة البائدة. (¬2) مرآة العقول 25/ 355

آية {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد}

آية {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَاد} واستدل الشيعة الإثنا عشرية بما رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره 13/ 72" وابن عساكر في "تاريخه 12/ 154" عن ابن عباس قال: لما نزلت {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَاد} قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا المنذر وعلي الهادي، بك يا علي يهتدي المهتدون بعدي) على أنّ الإمام علياً هو وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإمام من بعده. ولمعرفة المراد بالآية الكريمة ومدى صحة استدلال الشيعة الإثنى عشرية بهذا النص، فلا بد لنا في ذلك من طريقين: أولهما: يكون بالنظر إلى ألفاظ الآية الكريمة ومدى دلالتها على الإمام علي أو على غيره. وثانيهما: يكون بالنظر في سنة النبي عليه الصلاة والسلام الثابتة الصحيحة، فإن ثبت فيها أنّ المراد بالآية علي بن أبي طالب أو غيره أخذنا بذلك دون تردد. فأما الطريق الأول، فمن الجلي أنّ الآية لا تدل بألفاظها على أنّ المراد بالهادي هو علي بن أبي طالب أو غيره من الصحابة كأبي بكر أو عمر أو عمار أو أبي ذر أو غيرهم. وأما الطريق الثاني فبالنظر إلى الرواية السابقة نلاحظ التالي في سند الحديث: 1 - أنّ أحد رواة السند وهو (معاذ بن مسلم) مجهول 2 - أنّ في السند (الحسن بن الحسين الأنصاري العرني الكوفي) وهو متهم. قال عنه ابن عدي: (لا يشبه حديثه حديث الثقات) وقال ابن حبان: (يأتي عن الأثبات بالمُلزقات، ويروي المقلوبات)! 3 - اختلاط عطاء بن السائب.

4 - في رواية الحاكم في "المستدرك 3/ 129 - 130" وابن عساكر في "تاريخه 12/ 154" جاء النص باللفظ التالي: (قال علي: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنذر، وأنا الهادي) وفي الرواية: (حسين الأشقر) وهو متروك الحديث. ومما يُنتقد في هاتين الروايتين (الأولى والثانية) أمور منها: أولاً: أنّ قوله (بك يهتدي المهتدون بعدي) يعني أنّ كل من اهتدى من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبِالإمام علي بن أبي طالب، وفي هذا إجحاف بحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو قدوة وهداية للناس في حياته وبعد وفاته، فهو القائل عليه الصلاة والسلام (قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها. لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) (¬1) فكيف لا يكون الرسول عليه الصلاة والسلام مصدر هداية بعد وفاته، بينما يكون علياً مصدر هداية للأمة في حياته ومن بعد وفاته! فكأنّ الرسول عليه الصلاة والسلام عند هؤلاء منذر فقط وليس بهادٍ، وإنما الهادي هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه! وكون رسول الله هادياً مما لا يحتاج إلى إثبات أو تدليل أصلاً لكني أشير بهذا إلى قول الله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} (¬2). ولذلك يُقال لهؤلاء المجادلون: إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد آمن به خلق كثير واهتدوا به ودخلوا الجنة بذلك، وأغلبهم لم يسمعوا من علي كلمة واحدة يهتدون بها أو من أبي بكر أو غيرهما، وكذلك لما فُتحت الأمصار ودخل الناس في دين الله أفواجاً واهتدوا بهذا ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجة – كتاب السنة – باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين – حديث رقم (43). (¬2) سورة الشورى آية 52

الدين وبما علموه من كلام الله وكلام رسوله لم يكن هؤلاء قد سمعوا من الإمام علي بن أبي طالب بلاغاً خاصاً يهتدون به بل اهتدوا بما علموه من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. فهل يُقال عنهم مهتدون أم ضالون؟ فإن قيل (مهتدون) كان ذلك كافياً في إبطال الرواية، وإن قيل (ضالون) كان هذا خلاف ما دل عليه كتاب الله وسنة نبيه وإجماع المسلمين. كما أنّ في الرواية إجحافاً واضحاً بحق باقي الصحابة الذين اهتدى على أيديهم خلق لا يُحصون عدداً، فالرواية يُكذبها الواقع بلا ريب، فقد فتح الصحابة البلدان وانتشر العلم على يدي جماعة منهم كعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن عباس وغيرهم فاهتدى الناس لسنة نبيهم وعرفوا تعاليم دينهم من خلال هؤلاء الصحابة، فما الذي جعل الهداية حكراً على الإمام علي رضي الله عنه دون هؤلاء؟! ثانياً: قوله تعالى {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَاد} نكرة في سياق الإثبات، وهذا لا يدل على شخص معين دون غيره، فدعوى دلالة هذه الآية على علي بن أبي طالب أو أبي بكر أو عمر أو غيرهم باطلة ما دام النص القرآني لا يدل على ذلك، وما دامت الرواية المذكورة في هذا الشأن لا تصح سنداً ولا متناً. ثالثاً: قال الشيخ محمد بن الحسن الحلي (الملقب بابن العلامة) في كتابه "إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد 1/ 4" ما نصه: (نسبة الإرشاد إلى الأنبياء ونسبة التكميل إلى الأوصياء إشارة إلى قوله تعالى {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَاد} وجعل النبي للتبليغ والوصي للتكميل!). وأقول: أي قلة حياء هذه في أن يُنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه ترك مهمة إكمال الدين لغيره؟!

ثم أين ابن العلامة وأمثاله من المتجاسرين على مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}؟! (¬1) فقد تم الدين وأُكمل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنكار كمال الدين على يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنكار لما عُلِم من الدين بالضرورة، وتكذيب صارخ لكتاب الله تعالى الذي نص على ذلك، والقائل بذلك كافر بإجماع المسلمين. رابعاً: استدل بعضهم بما أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند 1/ 126" عن السدي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في تفسير الآية (المنذر والهادي: رجل من بني هاشم) على أنه دليل واضح على أنّ المراد بالهادي في الآية هو الإمام علي بن أبي طالب، وهو استدلال غريب عجيب ينبئ عن قلة فهم للآية والحديث معاً! فالله تعالى في الآية الكريمة يصف رسوله الكريم بأنه منذر فيقول {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِر} و (أنت) هنا لا تخاطب علياً أو أبا بكر أو غيرهما وإنما تخاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والرواية تجعل (المنذر والهادي) شخصاً واحداً هو رجل من بني هاشم، وهل يختلف إثنان في أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو المنذر؟ بلا شك لا، وهل يختلف إثنان أنّ رسول الله من بني هاشم؟ بلا شك لا، إذن من هو الهادي؟ هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا شك. ويكون حينئذ قول الرواية (رجل من بني هاشم) كنحو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه قبل وفاته بفترة (إنّ الله سبحانه خيّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية 3

عند الله) (¬1) وقد كان عليه الصلاة والسلام يعني بذلك نفسه الشريفة لكنه لم يصرّح بذلك لحكمة يعلمها هو صلى الله عليه وآله وسلم. هذا على فرض قبول الرواية، وإلا فالسدي المذكور في الرواية وإن كان هو (السدي الكبير) إلا أنه يُتحفظ على رواياته كثيراً. قال عنه أبو زرعة: لين الحديث، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه لكن لا يُحتج به، وقال عبد الرحمن مهدي: ضعيف، وقال يحيى بن معين: ضعيف، وهو متهم بالتفسير عند الشعبي وإبراهيم النخعي. خامساً: اختلفت أقوال المفسرين في المراد بقوله تعالى {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَاد} على قولين: فذهب ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك وعكرمة والنخعي إلى أنّ المراد بالهادي هو (الله تعالى). وذهب الحسن وعطاء وقتادة وأبو الضحى إلى أنّ المراد بالهادي هو (النبي صلى الله عليه وآله وسلم). وكلا القولين صحيح باعتبار ما يُراد من الآية، فإن أُريد بالهداية هنا (هداية السداد والتوفيق) فهذه لا تكون إلا لله عز وجل. فيكون معنى الآية: (إنما عليك الإنذار، وعلينا الهداية). وإن أُريد بالآية (هداية الإرشاد والتبليغ) فهذه واقعة في حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري – كتاب الصلاة – باب الخوخة والممر في المسجد – حديث رقم (466).

ولعله مما يُقوي قول القائلين بأنّ الهادي هو الله تعالى، التشابه الكبير بين قوله تعالى {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لولا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (¬1) وهي الآية التي نتكلم عنها، وبين قوله تعالى في السورة نفسها {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لولا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَاب} (¬2) فكأنّ الآية هذه مفسرة للأخرى والله تعالى أعلى وأعلم. ¬

_ (¬1) سورة الرعد آية 7 (¬2) سورة الرعد آية 27

مناقشة ما يستدل به على الإمامة من السنة النبوية

مناقشة ما يُستدل به على الإمامة من السنة النبوية أ - حديث غدير خم يعتبر حديث الغدير أهم أدلة الشيعة على خلافة الإمام علي على الإطلاق، ولا يرتاب أحد في أنّ هذا الحديث من أبرز مناقب الإمام علي، فيكفيه فضلاً وشرفاً رضوان الله عليه أن تُقال في مثله هذه الكلمات العظيمة، ولسنا نناقش هل الحديث من مناقب وفضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أم لا، لأنّ هذا أمر مفروغ منه، ومحسوم من الطرفين (السنة والشيعة)، لكن نقاشنا يدور حول دلالة الحديث على الإمامة بالمعنى الذي تذهب إليه الشيعة الإثنا عشرية. وحديث غدير خم رواه ابن ماجة في "السنن" بسنده عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجته التي حج، فنزل في بعض الطريق فأمر الصلاة جامعة، فأخذ بيدِ علي رضي الله عنه، فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟، قالوا: بلى، قال: فهذا وليُّ من أنا مَوْلاهُ اللهم والِ من والاهُ، اللهم عادِ من عاداهُ) (¬1). المناقشة: سُمّي الحديث باسم حديث الغدير لوقوع مكانه عند غدير خم. وهو غدير يبعد عن الجحفة ميلان (¬2) أو (ثلاثة أميال من الجحفة يسرة عن الطريق وهذا الغدير فيه عين وحوله شجر كثير ملتف وهي الغيضة التي تسمى خم) (¬3). ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجة - كتاب السنة - باب (في فضائل أصحاب رسول الله) - حديث رقم (116). (¬2) معجم البلدان 2/ 111 (¬3) معجم ما استعجم 2/ 368

وقد حدد آية الله لطف الله الصافي الكلبايكاني المسافة بين مكة وبين الجحفة في رسالته العملية "مناسك الحجّ" بـ «مائتين وعشرين كيلو متراً تقريباً» (¬1). والمتأمل لحديث الغدير ولملابساته يعلم علم اليقين أنه ليس في الحديث دلالة على معنى الخلافة بل المعنى المراد هو النصرة والمحبة، وإليك بيان ذلك: أولاً: حديث الغدير باعتراف عالمين من علماء الشيعة الإثني عشرية ليس دليلاً صريحاً أو نصاً جلياً على إمامة علي بن أبي طالب بل هو دليل ظني محتمل للتأويل، تأولته الطائفة الإثنا عشرية على ما أرادته من إثبات النص على الإمام علي بينما تأوله جمهور المسلمين على اختلاف طوائفهم ومشاربهم الفكرية على خلاف ذلك! فقد صرّح الإمام المرتضى (¬2) في "رسائله" بهذه الحقيقة قائلاً: (إنّ النص على ضربين: موسوم بالجلي، وموصوف بالخفي. وأما الجلي: فهو الذي يستفاد من ظاهر لفظه النص بالإمامة كقوله عليه السلام (هذا خليفتي من بعدي) و (سلّموا على علي عليه السلام بأمرة المؤمنين). وليس معنى الجلي أنّ المراد منه معلوم ضرورة، بل ما فسّرناه. وهذا الذي سمّيناه ¬

_ (¬1) مناسك الحج ص61 (¬2) علي بن الحسين بن موسى بن محمد المعروف باسم "الشريف المرتضى" و"علم الهدى"، وُلِد ببغداد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وترجم له الشيخ حسن الصدر في كتابه "تأسيس الشيعة ص391" قائلاً: (انتهت إليه رئاسة الإمامية في الدين والدنيا، ولم يتفق لأحد ما اتفق له من بسط اليد، وطول الباع في إحياء دوارس المذهب، كان يدرس في كل العلوم الإسلامية، لا سيما الكلام والفقه والأدب والحديث، ويجري على تلامذته رزقاً، وتخرج عليه أعلام علماء الإسلام وأئمة الفقه والكلام. وصنف أصولاً وتأسيسات غير مسبوق بمثلها، وأكثر في التصنيف في المعقولات لنصرة الدين في تلك الطبقات بتلك المصنفات فكانت له آيات بينات وكرامات كالمعجزات)!

(الجلي) يمكن دخول الشبهة في المراد منه وإن بعدت، فيعتقد معتقد أنه أراد بخليفتي من بعدي بعد عثمان، ولم يرد بعد الوفاة بلا فصل ... وأما النص الخفي: فهو الذي ليس في صريحة لفظه النص بالإمامة، وإنما ذلك في فحواه ومعناه، كخبر الغدير، وخبر تبوك) (¬1). فعدّ خبر الغدير وخبر تبوك من النصوص التي لا تدل ألفاظها بشكل صريح على معنى الإمامة. وفي هذا يقول الشيخ أحمد القبانجي–وهو أحد شيوخ الشيعة المعاصرين– في كتابه "خلافة الإمام علي بن أبي طالب (ع) بالنص أم بالنّصب؟ " ما نصه: (وقد رأيت في بعض كتابات الأصحاب أنّ المرتضى مع كونه من أساطين الإمامية ومتكلميهم إلا أنه لا يرى في كتابه (الشافي) أنّ حديث الغدير نص جلي على نصب الإمام علي بل عدّه من النص الخفي) (¬2). وقد ذكر العلامة الشيعي أبو المجد الحلبي (¬3) في كتابه "إشارة السبق إلى معرفة الحق" أنّ حديث غدير خم من الأحاديث المحتملة للتأويل فقال: (ومنها: الخفية المحتملة للتأويل أولها: نص يوم الغدير، قوله صلى الله عليه وآله (من كنت مولاه فعلي مولاه)) (¬4). ¬

_ (¬1) رسائل المرتضى 1/ 338 - 339 (¬2) خلافة الإمام علي (ع) بالنص أم بالنصب ص56 (¬3) علاء الدين أبو الحسن علي بن بن الحسن بن أبي المجد الحلبي، من أعلام القرن السادس الهجري، ترجم له المحقق أسد الله التستري صاحب "المقابس" فقال: (الشيخ الفقيه المتكلم النبيه علاء الدين أبو الحسن علي بن أبي الفضل بن الحسن بن أبي المجد الحلبي -نور الله مرقده- وهو صاحب كتاب "إشارة السبق إلى معرفة الحق" في أصول الدين وفروعه إلى الأمر بالمعروف). (¬4) إشارة السبق ص52

ثانياً: غدير خم يبعد عن مكة ما يقارب المائتين وعشرين كيلو متراً أو أكثر أو أقل بقليل فإن كان مراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنصيب علي بن أبي طالب إماماً من بعده فلِمَ لم يعلن ذلك في حجة الوداع أو يوم عرفة إذ فيهما من اجتماع المسلمين والفضيلة ما لا يتأتى في غيرهما؟ والقول بأنّ الجحفة أو غدير خم مفترق طرق الحجيج جهل أو بالأحرى محض كذب على الشرع، لأنّ مجتمع الحجيج هو مكة ومفترقهم هو مكة أيضاً، وكيف يجوز لعاقل أن يتصور أن يكون مفترق الحجيج بعيداً عن مكة أكثر من مائتين وعشرين كيلو متراً؟ ولذلك لم يكن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق عودته إلى المدينة إلا أهل المدينة ومن كان على طريق المدينة فقط، ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وآله أن يوصي بالإمامة من بعده فإنه لا يعقل أن ينتظر تفرق الناس من بعد الحج بين ماكث في مكة وعائد إلى اليمن أو الطائف، ثم يعلن بعد ذلك عن هذه القضية الهامة في منطقة تبعد عن مكة المكرمة كل هذا البعد، فلا ينصت إلى خطبته إلا أهل المدينة ومن كان على دربهم فقط؟!! ثالثاً: حديث الغدير لم يأت من فراغ بل لسبب وعلة لا ينبغي إغفالها. فقد أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه خلف خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى اليمن ليخمّس الغنائم ويقبض الخُمس. لكن قسمة الخمس كانت سبباً في إثارة الجيش على الإمام علي بن أبي طالب. روى الإمام أحمد في مسنده عن بريدة بن الحصيب قال: أبغضت علياً بغضاً لم يبغضه أحد قط، قال: وأحببت رجلاً من قريش لم أحبه إلا على بغضه علياً، قال: فبعث ذلك الرجل على خيل فصحبته ما أصحبه إلا على بغضه علياً، قال: فأصبنا سبياً، قال: فكتب إلى رسول الله

صلى الله عليه وآله وسلم ابعث إلينا من يخمّسه، قال: فبعث إلينا علياً، وفي السبي وصيفة هي أفضل من السبي فخمّس، وقسم فخرج رأسه مغطى، فقلنا: يا أبا الحسن ما هذا؟ قال: ألم تروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي، فإني قسّمت وخمّست، فصارت في الخمس ثم صارت في أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم صارت في آل علي ووقعت بها، قال: فكتب الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: ابعثني فبعثني مصدقاً، قال: فجعلت أقرأ الكتاب وأقول: صدق، قال: فأمسك يدي والكتاب، وقال: أتبغض علياً؟ قال: قلت: نعم، قال: فلا تبغضه وإن كنت تحبه فازدد له حباً، فوالذي نفس محمد بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة، قال: فما كان من الناس أحد بعد قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحب إليّ من علي) (¬1). وفي رواية عن بريدة أيضاً أنه مرّ على مجلس وهم يتناولون من علي، فوقف عليهم فقال: إنه قد كان في نفسي على عليّ شيء، وكان خالد بن الوليد كذلك، فبعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني في سرِيّة عليها علي فأصبنا سبياً، قال: فأخذ علي جارية من الخُمس لنفسه، فقال خالد بن الوليد: دونك، قال: فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعلت أحدثه بما كان، ثم قُلت: إنّ علياً أخذ جارية من الخُمس، قال: وكنت رجلاً مِكباباً قال: فرفعت رأسي، فإذا وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تغيّر، فقال: من كنت وليه فعلي وليه) (¬2). ¬

_ (¬1) مسند أحمد - حديث رقم (23017) بسند حسن (¬2) مسند أحمد – حديث رقم (23078) وفضائل الصحابة 2/ 857 - حديث رقم (1177)، قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

وفي رواية عن بريدة أيضاً أنه قال: غزوتُ مع علي اليمن فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكرت علياً فتنقصته فرأيتُ وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتغير فقال: يا بريدة، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه) (¬1). ولم يكن هذا الأمر هو الأمر الوحيد الذي أثار الناس على الإمام علي بن أبي طالب آنذاك. فلما كانت حجة الوداع، رجع علي من اليمن ليدرك الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي (¬2) واستخلف على الجند رجلاً من أصحابه، فكسا ذلك الرجل كل رجل حلة البزّ دون أذن علي بن أبي طالب، فلما قدم عليهم علي انتزعها منهم فسخط الناس عليه. قال ابن إسحاق في السيرة: (لما أقبل علي رضي الله عنه من اليمن ليلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة تعجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستخلف علي جنده الذين معه رجلاً من أصحابه فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع علي رضي الله عنه، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل، قال: ويلك ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك، انزع قبل أن تنتهي به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فانتزع الحلل من الناس فردها في البز، قال: وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم) (¬3). ¬

_ (¬1) مسند أحمد - حديث رقم (22995)، قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) ذكر مسلم في صحيحه في كتاب الحج –باب (حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم) – حديث (1218). (¬3) السيرة لابن هشام 4/ 603

قال الواقدي: قال أبو سعيد الخدري – وكان معه في تلك الغزوة –: وكان علي عليه السلام ينهانا أن نركب إبل الصدقة، فسأل أصحاب علي عليه السلام أبا رافع أن يكسوهم ثياباً فكساهم ثوبين ثوبين، فلما كانوا بالسدرة داخلين مكة، خرج علي عليه السلام يتلقاهم ليقدم بهم فيّنزلهم، فرأى علي أصحابنا ثوبين ثوبين على كل رجل، فعرف الثياب فقال لأبي رافع: ما هذا؟ قال: كلموني ففرقت من شكايتهم، وظننت أنّ هذا يسهل عليك، وقد كان من كان قبلك يفعل هذا بهم، فقال: رأيت إبائي عليهم ذلك وقد أعطيتهم!، وقد أمرتك أن تحتفظ بما خلّفت، فتعطيهم!، قال: فأبى علي عليه السلام أن يفعل ذلك حتى جرّد بعضهم من ثوبيه، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شكوا، فدعا علياً فقال: ما لأصحابك يشكونك؟ فقال: ما اشتكيتهم، قسمت عليهم ما غنموا وحبست الخمس حتى يقدم عليك وترى رأيك فيه، وقد كانت الأمراء يفعلون أموراً، فيُنفّلون من أرادوا من الخمس، فرأيت أن أحمله إليك لترى فيه رأيك، فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم (¬1). ومما أثار الجيش أيضاً ما ذكره الواقدي في المغازي عن عمر بن علي أنه قال: (وجمع علي عليه السلام ما أصاب من تلك الغنائم فجزأها خمسة أجزاء فأقرع عليها، فكتب في سهم منها (لله)، فخرج أول السهام سهم الخمس ولم ينفل أحداً من الناس شيئاً، فكان من قبله يعطون أصحابهم – الحاضر دون غيرهم– من الخمس، ثم يخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يرده عليهم، فطلبوا ذلك من علي عليه السلام فأبى، وقال: الخمس أحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيرى فيه رأيه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله ¬

_ (¬1) مغازي الواقدي 3/ 1080

وسلم يوافي الموسم ونلقاه ويصنع فيها ما أراه الله، فانصرف راجعاً، وحمل الخمس وساق معه ما كان ساق فلما كان بالفتق تعجل) (¬1). وقد تجلى سخط الجيش على علي بن أبي طالب فيما رواه الترمذي في جامعه عن عمران بن حصين قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جيشاً واستعمل عليهم علي بن أبي طالب فمضى في السرية فأصاب جارية فأنكروا عليه، وتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إذا لقينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرناه بما صنع علي، وكان المسلمون إذا رجعوا من السفر بدءوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلموا عليه ثم انصرفوا إلى رحالهم، فلما قدمت السرية سلموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله، ألم تر إلى علي بن أبي طالب صنع كذا وكذا فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قام الثاني فقال مثل مقالته فأعرض عنه ثم قام الثالث فقال مثل مقالته فأعرض عنه ثم قام الرابع فقال مثل ما قالوا، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والغضب يعرف في وجهه، فقال: ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ إنّ علياً مني وأنا منه، وهو وليُّ كل مؤمن من بعدي) (¬2). قال المؤرخ ابن كثير: (إنّ علياً رضي الله عنه لمّا كثر فيه القيل والقال من ذلك الجيش بسبب منعه إياهم استعمال إبل الصدقة واسترجاعه منهم الحلل التي أطلقها لهم نائبه لذلك ¬

_ (¬1) المصدر السابق (¬2) جامع الترمذي – كتاب المناقب – باب مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه – حديث رقم (3712) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان، وجعفر بن سليمان شيعي مُختلف في روايته، فبعضهم أخذ بروايته هذه دون ملاحظة انفراده بزيادة (من بعدي) وبعضهم لحظها وعدّ الزيادة من مناكيره.

لما رجع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من حجته وتفرغ من مناسكه، وفي طريقه إلى المدينة مرّ بغدير خم فقام في الناس خطيباً فبرأ ساحة علي، ورفع قدره ونبّه على فضله ليزيل ما وقر في قلوب كثير من الناس) (¬1). ولذلك أخّر رسول الله صلى الله عليه وآله الكلام إلى أنّ رجع إلى المدينة ولم يتكلم وهو في مكة أو يوم عرفة حيث اجتمع المسلمون وإنما أرجأ الأمر إلى طريق العودة لأنّ الأمر متعلق بأهل المدينة الذين تكلموا في علي والذين كانوا مع علي في الغزو. رابعاً: (وهو الأهم): لفظ (مولى) لا يخدم النظرية الإمامية، والاستشهاد بلفظ (مولى) على معنى الوصاية والوزارة جهل باللغة العربية، فإنّ الولاية بالفتح هي ضد العداوة والاسم منها (مولى، ووليّ)، والولاية بكسر الواو هي الإمارة، والاسم منها (والي ومتولي) والموالاة ضد المعاداة، كقوله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (¬2) وقال {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْض} (¬3) والآيات في هذا المعنى كثيرة (¬4). ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصيح بليغ ولو أراد من الحديث معنى الإمامة كما يفهمها الشيعة الإثنا عشرية لصرّح بذلك بأنسب عبارة وأوضح تعبير دون استخدام لفظ بعيد عن معنى الإمامة والولاية ويحتمل أكثر من معنى، كل معنى من تلك المعاني أبعد ما يكون عن مدلول الإمامة. ¬

_ (¬1) البداية والنهاية 5/ 95 (¬2) سورة محمد آية 11 (¬3) سورة التوبة آية 71 (¬4) الفيروز أبادي في القاموس – مادة (ولي).

ولمّا كان مقصود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الشهادة لعلي بن أبي طالب بأنه يستحق الموالاة والنصرة ظاهراً وباطناً استخدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفظ (مولى) في مكانه للدلالة على ذلك. فلو كان ما ذكره صلى الله عليه وآله وسلم في غدير خم بلاغاً للناس كافة لذكره في حجة الوداع التي اجتمع فيها المسلمون كافة تقريباً، ولو أنه ذكره في حجة الوداع لكان من اللازم أن يصرّح بأنّ علياً هو الإمام من بعده بكل بوضوح، فليست تلك الكلمات صعبة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كي يتفوه بها بدلاً من عبارة (من كنت مولاه فعلي مولاه). ولعله مما يؤكد ذلك هو تتمة حديث الغدير وهي بحد ذاتها تفسير لما أُشكل في الحديث ففي تتمة الحديث قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه) فبيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه العبارة أنّ المراد بالتولي هنا ولاء المحبة والنصرة. خامساً: فهم صحابة رسول الله للنص: فالصحابة لم يفهموا من حديث الغدير المعنى الذي يذهب إليه الشيعة الإثنا عشرية بل إنّ أقرب الناس إلى الإمام علي كأبي أيوب الأنصاري ومن معه من الأنصار قد فهموا أنّ المراد بالمولى أو الولي هو (الحب والولاء والطاعة) ولذلك عبّروا عن طاعتهم وإجلالهم لسيد أهل البيت علي بن أبي طالب بمناداته (يا مولانا). فعن رياح الحارث قال: جاء رهط إلى علي بالرحبة فقالوا: السلام عليك يا مولانا، فقال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟ قالوا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خم (من كنت مولاه فهذا مولاه)، قال رياح: فلما مضوا اتبعتهم فسألت من

هؤلاء؟ قالوا: نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري (¬1). إنّ أهم ما يُستفاد من هذا الحديث هو أنّ علي بن أبي طالب نفسه لم يكن يفهم من لفظ (مولى) معنى الإمامة والإمارة! فمن الملاحظ أنّ الإمام علياً قد استنكر منهم مناداته بـ (يا مولانا) ظناً منه أنهم يريدون بهذا النداء أنه سيدهم وهم عبيده كنحو مناداة العبد الأعجمي لسيده، فسألهم متعجباً: (كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟) فأخبروه بمرادهم من هذه العبارة. ومن الواضح في كلام الإمام علي أنه كان بعيداً عن ربط كلمة (المولى) بالإمارة، فهو عربي فصيح يدرك أنّ لفظ (مولى) لا يمكن بحال من الأحوال أن يراد به الإمارة. أما الأنصار فالأمر بالنسبة لهم طبيعي، فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الرجل الذي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحبه ونصرته، ولذلك عبّروا عن حبهم ونصرتهم وولائهم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذه الكلمات. ولقد رأينا الأنصار الذين رووا حديث الغدير وعملوا بمضمونه فنادوا الإمام بـ (يا مولانا) تطبيقاً لمعنى الحديث الشريف، هم الذين وقفوا جنباً إلى جنب مع الإمام علي في حربه ضد أهل الشام، في حين أنهم لم يجدوا أدنى حرج في تنصيب أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه خليفة على المسلمين. ولو كانوا قد فهموا من الحديث معنى الإمامة لكانوا هم أول من سلّم الإمامة لعلي فالإمامة ستخرج من أيديهم لا محالة إما لأبي بكر وإما لعلي، ولا مصلحة لهم تقتضي أن ينكروا حق علي وهم يعلمونه من رسول الله. ¬

_ (¬1) إسناده صحيح، رواه أحمد في المسند 5/ 419 وفي فضائل الصحابة 2/ 707 حديث رقم 967

سادساً: روت كتب الفريقين (السنة والشيعة) أقوالاً لبعض أئمة وعلماء أهل البيت ينفون فيها أن يكون المراد بحديث الغدير النص على إمامة علي من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقد روى الإمام محمد بن عاصم الأصبهاني عن الفضيل بن مرزوق قوله: (سألت عمر ابن علي وحسين بن علي عمّي جعفر (¬1) فقلت: هل فيكم إنسان من أهل البيت أحد مفترض طاعته تعرفون له ذلك؟ ومن لم يعرف له ذلك فمات، مات ميتة جاهلية؟ فقال: لا والله، ما هذا فينا، من قال هذا فينا فهو كذّاب. قال: فقلت لعمر بن علي: رحمك الله، إنّ هذه منزلة، إنهم يزعمون أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصى إلى علي وأنّ علياً أوصى إلى الحسن، وأنّ الحسن أوصى إلى الحسين وأنّ الحسين أوصى إلى ابنه علي بن الحسين، وأنّ علي بن الحسين أوصى إلى ابنه محمد بن علي. قال: والله لقد مات أبي (¬2) فما أوصاني بحرفين، مالهم قاتلهم الله!، إنّ هؤلاء متأكلين بنا هذا خُنيس، وهذا خُنيس الحُرّ، وما خُنيس الحُرّ. قال: قلت له: هذا المعلّى بن خُنيس؟ قال: نعم، المعلّى بن خُنيس، والله لقد أفْكرت على فراشي طويلاً أتعجب من قومٍ لبس الله عز وجل عقولهم حتى أضلهم المعلّى بن خُنيس (¬3). ¬

_ (¬1) المراد بجعفر هنا هو الإمام جعفر الصادق، والإمامان عمر وحسين هما عمّا الإمام جعفر. (¬2) أي الإمام زين العابدين (علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب). (¬3) المعلى بن خنيس هو أحد رواة الشيعة الإثنى عشرية المعدودين عندهم من جملة أصحاب الإمام جعفر الصادق، وفي الرواية تصريح من الإمامين (عمر بن علي) و (حسين بن علي) عمّي الإمام جعفر الصادق بأنّ ما يُذكر عن آل البيت من أنّ فيهم أئمة مفترضي الطاعة إنما هو محض افتراء عليهم، وقد أشار الإمام عمر ابن علي إلى أحد الذين تولوا كِبَر هذه المقالة وهو (المعلّى بن خُنيس).

وقد قيل للإمام الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الذي كان كبير الطالبيين في عهده وكان وصي أبيه وولي صدقة جده: ألم يقل رسول الله: (من كنت مولاه فعلي مولاه؟ فقال: بلى، والله لو يعني بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمارة والسلطان لأفصح لهم بذلك، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أنصح للمسلمين، لقال: (يا أيها الناس هذا ولي أمركم، والقائم عليكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا)، والله لئن كان الله ورسوله اختار علياً لهذا الأمر وجعله القائم للمسلمين من بعده ثم ترك علي أمر الله ورسوله لكان علي أول من ترك أمر الله وأمر رسوله) (¬1). وفي رواية: (أما والله إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو كان يعني بذلك الإمرة والسلطان، والقيام على الناس بعده لأفصح لهم بذلك، كما أفصح لهم بالصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج البيت، ولقال لهم: إنّ هذا ولي أمركم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا فما كان من وراء هذا شيء، فإنّ أنصح الناس كان للمسلمين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (¬2). وكان ابنه الإمام عبد الله يقول: (من هذا الذي يزعم أنّ علياً كان مقهوراً؟ وأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره بأمور لم ينفذها؟ فكفى بهذا إزراء على عليّ ومنقصة بأن يزعم قومٌ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره بأمر فلم يُنفذه) (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ ابن عساكر 15/ 60 ترجمة (الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب) رقم (1605). (¬2) المصدر نفسه (¬3) تاريخ ابن عساكر 29/ 256 (ترجمة عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب) رقم (3323).

وكان يقول: (ما لنا في هذا الأمر ما ليس لغيرنا) (¬1) نافياً أن تكون الإمامة حقاً لأهل البيت أو لبعضهم دون سائر الناس فضلاً عن كونها من الله تعالى. فإذا كان هذا كلام أهل البيت وهم أبناء علي والناصرون له، فما ترى غيرهم يقولون؟ سابعاً: قرأت كلاماً نفيساً للباقلاني رحمه الله في شأن هذا الحديث يقول فيه: (إنّ ما أثبته لنفسه صلى الله عليه وآله وسلم من كونه أولى بهم ليس هو من معنى ما أوجبه لعلي بسبيل لأنه قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه)، فأوجب الموالاة لنفسه ولعلي وأوجب لنفسه كونه أولى بهم من أنفسهم وليس معنى أولى من معنى (مولى) في شيء، لأنّ قوله (مولى) يحتمل في اللغة وجوهاً ليس فيها معنى (أولى) فلا يجب إذا عُقّب كلام بكلام ليس من معناه أن يكون معناهما واحداً. ألا ترون أنه لو قال: ألست نبيكم والمخبر لكم بالوحي عن ربكم وناسخ شرائع من كان قبلكم؟ ثم قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، لم يوجب ذلك أن يكون قد أثبت لعلي من النبوة وتلقي الوحي ونسخ الشرائع على لسانه ما أوجبه في أول الكلام لنفسه ولا أمر باعتقاد ذلك فيه من حيث ثبت أنه ليس معنى نبي معنى مولى فكذلك إذا ثبت أنه ليس معنى أولى معنى مولى لم يجب أن يكون قد أثبت لعلي ما أثبته لنفسه وإنما دخلت عليهم الشبهة من حيث ظنوا أنّ معنى مولى معنى أولى وأحق، وليس الأمر كذلك. وعلى أنه لو ثبت أنّ معنى (مولاه) معنى (أولى) وإن كان محتملاً لوجوه أُخر، لم يجب أن يكون المراد بقوله (فمن كنت مولاه فعلي مولاه): من كنت أولى به، وإن نُسق بعض الكلام ¬

_ (¬1) بحار الأنوار 47/ 271 - باب أحوال أقربائه وعشائره وما جرى بينه وبينهم - حديث رقم (3).

على بعض وكان ظاهره يقتضي ذلك لدليل صرفه عما يقتضيه وهو أنّ الأمة مجمعة على أنّ النبي صلوات الله وسلامه عليه أوجب ما أوجبه بقوله (ما كنت مولاه فعليّ مولاه) في وقت وقوع هذا القول في طول أيام حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلو كان إنما أثبت له الولاية عليهم وجعله أولى بهم وألزمهم طاعته والانقياد لأوامره لوجب أن يكون قد أثبته إماماً وأوجب الطاعة له آمراً وناهياً فيهم مع وجوده سائر مدته صلى الله عليه وآله وسلم فلما أجمعت الأمة على فساد ذلك وإخراج قائله من الدين، ثبت أنه لم يرد به (فمن كنت مولاه): من كنت أولى به، ولم يرد بقوله (فعلي مولاه) أنه أولى به. ويدل على ذلك أيضاً ويؤكده ما يروونه من قول عمر: (أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن) (¬1) فأخبر أنه قد ثبت كونه مولى له ولكل مؤمن فلم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدلّ على أنه قد أثبت له في ذلك الوقت ما أثبته لنفسه وليس هو الولاية عليهم ولزوم طاعتهم له فهذه دلالة تصرف الكلام عن مقتضاه لو كان معنى (مولى) معنى (أولى) وكان نسق الكلام يقتضي ذلك، فسقط ما تعلقوا به (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 8/ 284 وهو ضعيف، ففي سنده (شهر بن حوشب) وقد تقدّم الحديث عنه في بداية مناقشة الاستدلال بحديث الكساء، وفيه أيضاً: (علي بن سعيد الرملي) قال عنه ابن حجر في (لسان الميزان): يُتثبت في أمره كأنه صدوق!، وفيه أيضاً: (مطر طهمان الوراق) قال عنه ابن سعد: كان فيه ضعف بالحديث، وقال أبو داود: ليس هو عندي بحجة ولا يُقطع به في حديث إذا اختلف. (¬2) يقول الشيخ أحمد القبانجي في كتابه "خلافة علي (ع) بالنص أم بالنصب؟ ص56" ما نصه: (ومما يؤيد أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الغدير لم يقصد بالخلافة من كلمة (المولى) هو أنّ الأخبار على كثرتها لم تذكر أمر البيعة للإمام علي عليه السلام، وغاية ما ورد هو تهنئة بعض الصحابة للإمام علي بهذا المقام بقولهم (بخ بخ لك يا علي)، ومعلوم أنّ مثل هذه العبارات لا تعد بيعة، ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقصد تنصيبه لمقام الخلافة من بعده، فلماذا لم يأخذ من المسلمين البيعة للإمام واكتفى = ... = بالإعلان المذكور؟ ألم يكن الأولى أخذ البيعة منهم لإحكام الأمر وتقوية الحجة ولكيلا يختلف المسلمون بعده في مراده من كلمة (المولى)؟).

فإن قالوا: فما معنى مولى عندكم؟ وما الذي أثبته النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الكلام لعليّ وقصد به؟ قيل لهم: أما معنى (مولى) فإنه يتصرف على وجوه: فمنها المولى بمعنى الناصر، ومنها المولى بمعنى ابن العم، ومنها المولى بمعنى الموالي المحب، ومنها المولى بمعنى المكان والقرار، ومنها المولى بمعنى المعتق المالك للولاء، ومنها المولى بمعنى المعتق ومنها المولى بمعنى الجار، ومنها المولى بمعنى الصهر، ومنها المولى بمعنى الحليف، فهذا جميع ما يحتمله قوله (مولى)، وليس من معنى هذه اللفظة أنّ المولى إمام واجب الطاعة، قال تعالى في المولى بمعنى الناصر {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِين} (¬1) يعني ناصره. وقال الأخطل: فأصبحت مولاها من الناس كلهم ... وأحرى قريش أن تُهاب وتُحمدا أي فأصبحت ناصرها وحامي ذمارها. وأما المولى بمعنى ابن العم فمشهور، قال الله تعالى {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَاءِي} (¬2) يعني بني العم، قال الفضيل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب يخاطب بني أمية: مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا ... لا تُنبتوا بيننا ما كان مدفونا لا تحسبوا أن تُهينونا ونُكرمكم ... وأن نكف الأذى عنكم وتُؤذونا ¬

_ (¬1) سورة التحريم آية 4 (¬2) سورة مريم آية 5

الله يعلم أنا لا نُحبكم ... ولا نلومكم ألا تحبونا وأما المولى بمعنى المُعتق والمُعتق، فأظهر من أن يُكشف، يُقال: فلان مولى فلان يعني مُعتقه ومالك ولائه، وفلان مولى فلان يراد به مُعتق له، وأما المولى بمعنى الموالى المُحب فظاهر في اللغة، يُقال فلان مولى فلان أي محب له وولي له، وقد روي في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مُزينة وجُهينة وأسلم وغِفارُ وأشجع موالٍ، ليس لهم مولى دون الله ورسوله) (¬1) أي مُحبون موالون لهما. وأما المولى بمعنى الجار فمعروف في اللغة، قال مربع بن دعدعة، وكان جاور كُليب بن يربوع فأحسنوا جواره: جزى الله خيراً والجزاء بكفّه ... كُليب بن يربوع وزادهم حمدا هم خلطونا بالنفوس وألجموا ... إلى نصر مولاهم مسومة جُردا أي إلى نصر جارهم. وأما المولى بمعنى الصهر فمعروف أيضاً، قال أبو المختار يزيد بن قيس الكلابي في ظلامته إلى عمر في أمرائه: فلا تنسينّ النافعين كليهما ... وهذا الذي في السوق مولى بني بدر وكان الرجل صهراً لبني بدر. وأما المولى بمعنى الحليف فمذكور أيضاً، قال بعض الشعراء: موالي حلف لا موالي قرابة ... ولكن قطيناً يعصرون الصنوبرا ¬

_ (¬1) رواه مسلم –كتاب فضائل الصحابة– باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم ودوس وطيء – حديث رقم (2520).

فأما ما قصد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (من كنت مولاه، فعلي مولاه)، فإنه يحتمل أمرين: أحدهما: من كنت ناصره على دينه وحامياً عنه بظاهري وباطني وسري وعلانيتي فعلي ناصره في نصره الدين والمؤمنين سواء والقطع على سريرته وعلو رتبته، وليس يُعتقد ذلك في كل ناصر للمؤمنين بظاهره، لأنه قد ينصر الناصر بظاهره طلب النفاق والسمعة وابتغاء الرفد ومتاع الدنيا، فإذا أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّ نُصرة بعض المؤمنين في الدين والمسلمين كنصرته هو صلى الله عليه وآله وسلم قُطع على طهارة سريرته وسلامة باطنه وهذه فضيلة عظيمة) (¬1). ثامناً: وردت في روايتين عبارة (وهو وليكم من بعدي) بزيادة (بعدي) عن سائر الروايات، وفي سندي هاتين الروايتين كلٌّ من (جعفر بن سليمان) و (أجلح الكندى)، فأما (أجلح الكندي) فقد قال فيه الإمام أحمد: أجلح ومجالد متقاربان في الحديث وقد روى الأجلح غير حديث منكر، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي يُكتب حديثه ولا يُحتج به، وقال النسائي: ضعيف ليس بذاك وكان له رأي سوء، وقال أبو داود: ضعيف، وقال ابن سعد: كان ضعيفاً جداً، وقال العقيلي: روى عن الشعبي أحاديث مضطربة لا يُتابع عليها، وقال ابن حبان: كان لا يدري ما يقول جعل أبا سفيان أبا الزبير (¬2). وأما (جعفر بن سليمان) فقد اختلف فيه علماء الجرح والتعديل إلا أنّ للحافظ الذهبي عبارة أراها والله أعلم أوسط الأقوال في جعفر حيث يقول (فإنّ جعفراً قد روى أحاديث من ¬

_ (¬1) تمهيد الأوائل ص450 - 457 (¬2) تهذيب التهذيب 1/ 183

مناقب الشيخين رضي الله عنهما، وهو صدوق في نفسه، وينفرد بأحاديث عُدّت مما يُنكر واختُلف في الاحتجاج بها، منها: حديث أنس: إنّ رجلاً أراد سفراً فقال: زوّدوني. ومنها حديث: لينتهينّ أقوام عن رفع أبصارهم عند الدعاء في الصلاة .. الخ) (¬1). فجعفر بن سليمان قد أخذ عليه انفراده بأحاديث مُنكرة، فلا عجب أن تكون زيادة (من بعدي) من مناكيره. ومما يؤيد ذلك أنّ زيادة (بعدي) لم تذكر في كل طرق الحديث سوى طريق هذين الراويين (جعفر بن سليمان والأجلح الكندي). ولو فرضنا صحة الزيادة المذكورة فإنها تخالف التفسير الشيعي لقوله تعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون} لأنّ الآية – وفقاً للمفهوم الشيعي الإثني عشرية – قد أثبتت إمامة علي بن أبي طالب في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما فائدة النص على إمامته من بعد الرسول وقد نُص عليها في حياته؟! ¬

_ (¬1) ميزان الاعتدال للذهبي 1/ 410

ب - حديث الاستخلاف على المدينة

ب - حديث الاستخلاف على المدينة واستدل الشيعة الإثنا عشرية بما أخرجه النسائي في خصائص عليّ عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (لما غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة تبوك خلّف علياً كرم الله وجهه في المدينة، قالوا فيه: ملّه وكره صحبته، فتبع عليّ رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى لحقه في الطريق، قال: يا رسول الله خلفتني بالمدينة مع الذراري والنساء، حتى قالوا: ملّه وكره صحبته؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا عليّ إنما خلّفتك على أهلي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي) (¬1). قال عبد الحسين شرف الدين في "المراجعات": (ولا يخفى ما فيه من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة، على أنّ علياً ولي عهده، وخليفته من بعده، ألا ترى كيف جعله صلى الله عليه وآله وسلم وليه في الدنيا والآخرة؟ آثره بذلك على سائر أرحامه، وكيف أنزله منه منزلة هارون من موسى؟ ولم يستثن من جميع المنازل إلا النبوة، واستثناؤها دليل على العموم) (¬2). المناقشة: أقول: إن جاز أن يُستدل بهذا الحديث على الخلافة فلتعلم أيها القارئ أنّ في هذا الحديث عجباً .. فالحديث إن أُريد أن يُستدل به على الإمامة والخلافة فسيكون من أبرز الأدلة على أحقية أبي بكر الصدّيق بالخلافة!! ستقول لي: كيف ... وستتعجب من قولي، ومن حقك ذلك، فالحديث في الظاهر لا دخل له في أبي بكر من قريب ولا بعيد، لكن التأمل فيه بدقة سيأتيك بما لم يخطر على بالك من قبل. ¬

_ (¬1) رواه النسائي في (خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) بسند صحيح. (¬2) المراجعات ص214 - المراجعة رقم (26).

إن سألتك مجرد سؤال: من كان الخليفة بعد موسى عليه السلام؟ فستجيبني قائلاً: يوشع عليه السلام. لكن من هو يوشع عليه السلام؟ هو صاحب موسى عليه السلام ورفيق هجرته (¬1) الذي ذهب معه للقاء الخضر عليه السلام كما بينت ذلك سورة الكهف وحكى ذلك المفسرون من أهل السنة ومن الشيعة الإثني عشرية. وأبو بكر الصديق كان كذلك (صاحب رسول الله ورفيق هجرته)، والخلافة لم تحصل لهارون عليه السلام الذي تربطه بموسى عليه السلام رابطة النسب وإنما حصلت ليوشع عليه السلام صاحب موسى عليه السلام ورفيق دربه. فاستخلاف هارون عليه السلام كان مؤقتاً لفترة ذهاب موسى عليه السلام لمناجاة ربه في الطور، بينما كانت الخلافة من بعد موسى عليه السلام تامة ليوشع عليه السلام. وكذلك الحال في أبي بكر وعلي. قال الإمام القرطبي: (لا خلاف أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يُرِد بمنزلة هارون من موسى الخلافة بعده، ولا خلاف أنّ هارون مات قبل موسى عليهما السلام، وما كان خليفة بعده، وإنما كان الخليفة يوشع بن نون، فلو أراد بقوله: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" الخلافة، لقال: أنت مني بمنزلة يوشع من موسى، فلما لم يَقُل هذا دل على أنه لم يُرِد ¬

_ (¬1) لقد نص الحديث على استثناء النبوة ولذلك لن نشير للنبوة في المقارنة بلا شك، فيوشع عليه السلام عند أهل السنة نبي وعند الشيعة الإثنى عشرية وصي موسى عليه السلام وأبو بكر ليس بنبي، وهارون عليه السلام نبي وعلي ليس بنبي.

هذا، وإنما أراد أني استخلفتك على أهلي في حياتي وغيبوبتي عن أهلي كما كان هارون خليفة موسى على قومه لما خرج إلى مناجاة ربه) (¬1). فهارون عليه السلام قد مات قبل موسى عليه السلام فلا يصح في الأذهان أن يشبّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً رضي الله عنه بهارون عليه السلام إذ ما أراد النص على خلافته من بعده لأنّ هارون عليه السلام لم يخلف موسى عليه السلام سوى زمناً يسيراً عند ذهاب موسى عليه السلام إلى الطور وهو ما يتوافق بشكل واضح مع استخلاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي على أهله في المدينة للذهاب إلى تبوك، فمن أين أتت فكرة الاستخلاف العام؟! وللمفيد (¬2) كلام جميل في الرد على فرقة (الفطحية) (¬3) الشيعية من المهم أن نسلّط عليه الضوء. ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن – تفسير قول الله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة}. (¬2) محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي المعروف بابن المعلّم ثم اشتهر بالمفيد، ترجم له ابن شهرآشوب في "معالم العلماء ص148" بقوله: (ولقّبه بالشيخ المفيد صاحب الزمان صلوات الله عليه وقد ذكرت سبب ذلك في مناقب آل أبي طالب، له قريب مائتي مصنف كبار وصغار). وترجم له الحلي في "خلاصة الأقوال ص248" بقوله: (من أجل مشايخ الشيعة ورئيسهم وأستاذهم، وكل من تأخر عنه استفاد منه، وفضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية، أوثق أهل زمانه وأعلمهم، انتهت رئاسة الإمامية في وقته إليه، وكان حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب له قريب من مائتي مصنف كبار وصغار). (¬3) وهم القائلون بإمامة عبد الله بن جعفر الصادق، وسمّوا بذلك لأنّ عبد الله كان أفطح القدمين أي عريضهما، وقيل: كان أفطح الرأس، والأول أظهر وأشهر.

يقول المفيد: (أما الفطحية فالحجة عليها أوضح من أن تخفى لأنّ اسماعيل مات قبل أبي عبد الله عليه السلام، والميت لا يكون خليفة الحي وإنما يكون الحي خليفة الميت، ولكن القوم عملوا على تقليد الرؤساء وأعرضوا عن الحجة وما في بابها، وهذا أمر لا يحتاج فيه إكثار لأنه ظاهر الفساد، بيّن الانتقاد) (¬1). أقول: والكلام ذاته يُقال للشيعة الإثني عشرية، فهارون عليه السلام قد مات قبل موسى عليه السلام، والميت لا يكون خليفة للحي وإنما يكون الحي خليفة الميت، فكيف جاز للشيعة أن يستدلوا بهذا الحديث على كون علي بن أبي طالب خليفة لرسول الله؟! لكن القوم عملوا على تقليد الرؤساء وأعرضوا عن الحجة وما في بابها. ثانياً: الحديث المذكور له سبب هام لا ينبغي أن يُغفل وأن يُفهم الحديث دونه، وقد ورد السبب الذي من أجله قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحديث النبوي الشريف عند الفريقين السنة والشيعة. وحسبي هاهنا أن أكتفي بروايات شيعية ذكرت السبب لئلا يظن ظان أنّ روايات أهل السنة قد جاءت بما لم تأت به روايات الشيعة. يقول المفيد في كتابه "الإرشاد": (فلما بلغ أمير المؤمنين (ع) إرجاف المنافقين به أراد تكذيبهم وإظهار فضيحتهم فلحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إنّ المنافقين يزعمون أنك إنما خلفتني استثقالاً ومقتاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: ¬

_ (¬1) كمال الدين وتمام النعمة ص105

ارجع يا أخي إلى مكانك، فإنّ المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) (¬1). وقد روى الطوسي روايات كثيرة في هذا المعنى منها ما رواه أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب (ع) في غزوة تبوك اخلفني في أهلي. فقال علي: يا رسول الله، إني أكره أن يقول العرب خذل ابن عمه، وتخلف عنه، فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، قال: بلى، قال فاخلفني) (¬2). ورويت كذلك الحادثة بهذا النص (وغزونا تبوك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فودع علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ثنية الوداع وبكى، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يبكيك، فقال: كيف لا أبكي ولم أتخلف عنك في غزاة منذ بعثك الله، فما بالك تخلفني في هذه الغزاة فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أما ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، فقال علي (ع) بل رضيت) (¬3). وفي "الأمالي ص307" كذلك من حديث عامر بن سعد عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي (ع) ثلاثاً، فلأن تكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي، وخلفه في بعض مغازيه فقال: يا رسول الله، تخلفني مع النساء والصبيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي). ¬

_ (¬1) الإرشاد 1/ 156 (¬2) الأمالي للطوسي ص261 وبحار الأنوار 21/ 232 (¬3) الأمالي للطوسي ص171

وروى محمد بن سليمان الكوفي في "مناقب الإمام أمير المؤمنين (ع) " عن أسماء أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا جاء ثنية الوداع وهو يريد تبوك وعلي يبكي ويقول: يا رسول الله، أتجعلني مع الخوالف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بعدي نبي؟) (¬1). وقد أشار لذلك الطبرسي في "إعلام الورى" فقال: (فلما انتهى إلى الجرف لحقه علي وأخذ بغرز رحله وقال: يا رسول الله، زعمت قريش أنك خلفتني استثقالاً مني، فقال طالما آذت الأمم أنبياءها، أما أن ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، فقال: قد رضيت فرجع إلى المدينة، وقدم رسول الله تبوك في شعبان يوم الثلاثاء) (¬2). فكل هذه الروايات والمصادر الشيعية تؤكد وتقرر حقيقة أنّ قول النبي عليه الصلاة والسلام (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) إنما هو ترضية للإمام علي لما طعن واستخف به المنافقون. ثالثاً: لقد استخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة غير الإمام علي بن أبي طالب (¬3) فليس مجرد الاستخلاف على المدينة يجعل المستخلف خليفة على المسلمين من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ¬

_ (¬1) مناقب الإمام أمير المؤمنين (ع) 1/ 535 - 536 (¬2) إعلام الورى ص122 (¬3) لا بد من الإشارة إلى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يستخلف علياً على المدينة يوم تبوك وإنما استخلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصارى واستخلف علياً على أمهات المؤمنين وأهل علي، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام له (فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك) انظر "السيرة" لابن هشام.

فقد (سافر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة قريباً من ثلاثين سفرة وهو يستخلف فيها من يستخلفه كما استخلف في غزوة الأبواء (سعد بن عبادة) واستخلف في غزوة بواط (سعد بن معاذ) ثم لما رجع وخرج في طلب كرز بن جابر الفهري استخلف (زيد بن حارثة). واستخلف في غزوة العشيرة (أبا سلمة بن عبد الأشهل) وفي غزوة بدر استخلف (ابن أم مكتوم) واستخلف (أبا لبابة) في غزوة بني قينقاع وغزوة السويق واستخلف (عثمان بن عفان) في غزوة غطفان التي يُقال لها غزوة أنمار، واستخلفه في غزوة ذات الرقاع، واستخلف (ابن رواحة) في غزوة بدر الموعد واستخلف (سباع بن عرفطة الغفاري) في غزوة دومة الجندل وفي غزوة خيبر، واستخلف (زيد بن حارثة) في غزوة المريسيع، واستخلف (أبا رهم) في عمرة القضية) (¬1). أضف إلى ذلك أنّ استخلاف عليّ على المدينة لم يكن الأخير فقد استخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة في حجة الوداع غير عليّ، بينما نجد في المقابل أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمّر أبا بكر على الحج، واختصه أيضاً بإمامة الصلاة وحده، ولم يكن اختصاصه بسبب قرابة أو لأجل استرضائه، كما كان مع عليّ، بل اختصاص مطلق من أجل الفضيلة والاستحقاق فحسب. رابعاً: ورد عند السنة والشيعة تشبيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فإن كان في تشبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهارون عليه السلام ما يفيد المعنى الذي ¬

_ (¬1) منهاج السنة النبوية 5/ 67 - 69

يريده الشيعة فماذا يقولون في تشبيه أبي بكر وعمر بأولي العزم من الرسل الذين هم بلا شك أفضل من هارون عليه السلام؟ روى شيخ الطائفة الطوسي في كتابه "الأمالي" عن ابن مسعود قوله: لما كان يوم بدر وأُسرت الأسرى، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما ترون في هؤلاء القوم؟ فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله هم الذين كذّبوك وأخرجوك فاقتلهم، ثم قال أبو بكر: يا رسول الله هم قومك وعشيرتك ولعلّ الله يستنقذهم بك من النار، ثم قال عبد الله بن رواحة: أنت بواد كثير الحطب، فاجمع حطباً فالهب فيه ناراً وألقهم فيه، فقال العباس بن عبد المطلب: قطعك رحمك، قال: ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام فدخل وأكثر الناس في قول أبي بكر وعمر، فقال بعضهم: القول ما قال أبو بكر، وقال بعضهم: القول ما قال عمر، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: ما اختلافكم يا أيها الناس في قول هذين الرجلين: إنما مثلهما مثل إخوة لهما ممن كان قبلهما: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، قال نوح {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} (¬1) وقال ابراهيم {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيم} (¬2) وقال موسى {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيم} (¬3) وقال عيسى {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة نوح آية 26 (¬2) سورة إبراهيم آية 36 (¬3) سورة يونس آية 88 (¬4) سورة المائدة آية 118 (¬5) أمالي الطوسي ص267 وبحار الأنوار 19/ 271

ويُلاحظ في صيغة تشبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبي بكر وعمر بالأنبياء أنها أقوى من صيغة تشبيه علي بهارون عليه السلام، فالتشبيه في قوله عليه السلام (بمنزلة) أقل درجة في التشبيه من كلمة (مثل) التي هي أساس التمثيل والتشبيه في اللغة العربية.

جـ - حديث الطائر

جـ - حديث الطائر ومن أهم أدلة الشيعة الإمامية في موضوع الإمامة ما رواه الحاكم في "المستدرك" عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقُدّم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرخ مشوي فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير)، قال: فقلت: اللهم اجعله رجلاً من الأنصار، فجاء علي رضي الله عنه فقلت: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حاجة ثم جاء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (افتح، فدخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما حبسك يا علي؟ فقال: إنّ هذه آخر ثلاث كرّات يردني أنس، يزعم أنك على حاجة، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقلت: يا رسول الله، سمعت دعاءك، فأحببت أن يكون رجلاً من قومي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الرجل قد يحب قومه) (¬1). روي هذا الحديث بأسانيد لا تخلو من ضعف، ولعل من الملفت للنظر في الحديث إضافة إلى ضعف أسانيده هو كثرة الروايات المسندة إلى أنس بن مالك رضي الله عنه ومع ذلك عدم صحة سند واحد منها وهو أمر يدعو للعجب والدهشة! فأين أصحاب أنس عن هذا الحديث وقد صحبوه السنين الطوال؟ لم نر أي واحد منهم قد روى هذا الحديث، وهم أوثق الناس وأضبطهم رواية عن أنس رضي الله عنه كأمثال الحسن البصري وثابت البناني وحميد الطويل وحبيب بن أبي ثابت وبكر بن عبد الله المزني وأسعد بن سهل بن حنيف، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وأبان بن صالح وإبراهيم بن ¬

_ (¬1) المستدرك 3/ 130 - 131

ميسرة وغيرهم كثير ممن يروي عن أنس ولا يُعرف عن أحد هؤلاء الثقات طريق ثابت لهذا الحديث! وهذا ما دعا كثيراً من الحفاظ إلى الحكم بضعف أو كذب هذا الحديث، منهم: 1 - القاضي أبو بكر الباقلاني ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية 7/ 354" ما نصه (ثم وقفت على مجلد كبير في رده وتضعيفه – أي حديث الطير – سنداً ومتناً للقاضي أبي بكر الباقلاني المتكلم). 2 - أبو يعلى الخليلي صاحب الإرشاد: نقل عنه ابن حجر في التهذيب (1/ 303 - 304) قوله: (ما روى حديث الطير ثقة، رواه الضعفاء مثل إسماعيل بن سلمان الأزرق وأشباهه)، زاد محقق الخصائص النسائي (ص35) نقلاً عن الخليلي في الإرشاد قوله: (ويرده جميع أئمة الحديث). 3 - محمد بن طاهر المقدسي قال عن حديث الطير: (كل طرقه باطلة معلولة) (¬1) 4 - محمد بن ناصر السلامي: نقل عنه ابن الجوزي في "المنتظم 7/ 275" قوله عن حديث الطير: (حديث موضوع إنما جاء من سقّاط أهل الكوفة، عن المشاهير والمجاهيل، عن أنس وغيره). 5 - ابن الجوزي ذكر الحديث في "العلل المتناهية 1/ 225 - 234" وقال: (قد ذكره ابن مردويه من نحو عشرين طريقاً كلها مظلم، وفيها مطعن، فلم أر الإطالة بذلك). ¬

_ (¬1) العلل المتناهية لابن الجوزي 1/ 233 - 234

6 - أبو العباس ابن تيمية قال في "منهاج السنة 4/ 99": (حديث الطائر من المكذوبات والموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل). 7 - جمال الدين الزيلعي ذكر المباركفوري في "تحفة الأحوذي 10/ 224" أنّ الزيلعي قال في نصب الراية (كم من حديث كثرت رواته وتعددت طرقه، وهو حديث ضعيف كحديث الطير). 8 - الفيروز أبادي صاحب القاموس نقل الشوكاني في "الفوائد المجموعة ص382" عنه قوله عن هذا الحديث: (له طرق كثيرة كلها ضعيفة) (¬1). ولعل من الأمور المستنكرة في الحديث والتي تؤكد عدم صحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو ما يطرحه الحديث ذاته من معنى، إذ إنّ أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب أن يجيء أحب الخلق إلى الله ليأكل منه، فإنّ إطعام الطعام مشروع للبر والفاجر، وليس في ذلك زيادة وقربة عند الله لهذا الأكل، ولا معونة على مصلحة دين ولا دنيا، فأي أمر عظيم هنا يناسب جعل أحب الخلق إلى الله يفعله؟! وكذلك يُقال إما أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرف أنّ علياً أحب الخلق إلى الله أو ما كان يعرف، فإن كان يعرف ذلك، كان يمكنه أن يرسل يطلبه، كما كان يطلب الواحد من الصحابة أو يقول: اللهم ائتني بعليّ فإنه أحب الخلق إليك. ¬

_ (¬1) مختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك أبي عبد الله الحاكم لابن الملقّن 3/ 1472

فأي حاجة إلى الدعاء والإبهام في ذلك والشخص معروف؟! ولو سمّى علياً لاستراح أنس من الرجاء الباطل، ولم يغلق الباب في وجه علي (¬1). يضاف إلى ذلك معارضة حديث الطائر لأحاديث صحيحة ثابتة أجمع المحدّثون والحفّاظ على صحتها. يبيّن هذا كل من تأمل ما في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً) (¬2)، وهذا الحديث مستفيض بل متواتر عند أهل العلم بالحديث، فإنه قد أُخرج في الصحاح من وجوه متعددة من حديث ابن مسعود وأبي سعيد وابن عباس وابن الزبير، وهو صريح في أنه لم يكن من أهل الأرض أحد أحب إليه من أبي بكر، فإنّ الخلة هي كمال الحب، وهذا لا يصلح إلا لله، فإذا كانت ممكنة ولم يصلح لها إلا أبو بكر، عُلم أنه أحب الناس إليه (¬3). وكون علياً محبوباً عند النبي عليه الصلاة والسلام لا يعني أنه الإمام من بعده، ولا يعني كذلك أنّ إمامته من الله، فالمحبة شيء والخلافة شيء آخر، وعند هذه النقطة سنقف وقفة جديرة بالاهتمام. فهذا الإمام جعفر الصادق عُرف عنه أنه كان أحب أبنائه إليه هو إسماعيل وأكثرهم قرباً إلى نفسه. ¬

_ (¬1) هنا حُق لنا أن نتساءل (ما الحكمة في أن يعرف أنس فقط أنّ علياً هو أحب الخلق إلى الله دون أن يعلن ذلك رسول الله أمام جميع المؤمنين؟!). (¬2) صحيح البخاري – كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم – باب (قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر) - حديث رقم (3654). (¬3) مختصر منهاج السنة 2/ 763 - 764

يقول الشيخ عباس القمي في كتابه "منتهى الآمال ص207": (وكان إسماعيل أكبر إخوته – أي أكبر إخوة موسى -، وكان أبو عبد الله عليه السلام شديد المحبة له والبر به والإشفاق عليه وكان قوم من الشيعة يظنون أنه القائم من بعد أبيه والخليفة من بعده، إذ كان أكبر إخوته سناً، ولميل أبيه إليه وإكرامه له). وقد احتار الشيعة آنذاك في هذه المسألة ... كيف يكون الإمام هو موسى في حين أنّ إسماعيل هو أحب الأبناء إلى أبيه (¬1). فجاء نص صريح وجميل جداً ليضع النقاط على الحروف في هذه المسألة وهو ما رواه الكليني بسنده عن الإمام موسى الكاظم أنه حدّث ابن سليط عن رغبته في أن تكون الإمامة لابنه القاسم قائلاً: (ولو كان الأمر إليّ لجعلته في القاسم ابني لحبّي إيّاه ورأفتي عليه ولكن ذلك إلى الله عز وجل) ثم ذكر لابن سليط رؤيا منام رأى فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبره بخروج الأمر منه إلى ابنه قائلاً: (والأمر قد خرج منك إلى غيرك، فقلت – أي الإمام الكاظم -: يا رسول الله أرنيه أيّهم هو؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما رأيت من الأئمة أحداً أجزع على فراق هذا الأمر منك ولو كانت الإمامة بالمحبة لكان إسماعيل أحب إلى أبيك منك ولكن ذلك من الله عز وجل ..) (¬2). ¬

_ (¬1) والإمام عند الشيعة الإثنى عشرية معصوم ومنزّه عن مخالفة أمر الله تعالى، فلا يصح عند الإمامية أن يحب الإمام ابناً له ويُقرّبه فوق حب وتقريب الإمام المنصوص عليه وإلا كان مخالفاً لأمر الله وتعالى ومحباً لغير ما أحبه الله تعالى، ولكان النص على ابنه المقرّب من نفسه أحب إليه من النص على ابنه الآخر المنصوص عليه شرعاً!! ومن فمك أدينك. (¬2) الكافي – كتاب الحجة – باب الإشارة والنص على أبي الحسن الرضا (ع) – رواية رقم (14) وإعلام الورى بأعلام الهدى 2/ 48 - 49 ومدينة المعاجز لهاشم البحراني 6/ 251 رواية رقم (58).

ولذلك من يستدل على الإمامة بالمحبة يغالط نفسه، فهو يرتضي مبدأ المحبة ليجعل علياً إماماً من دون الناس، ثم يقف عند إمامة إسماعيل ومحبة أبيه جعفر الصادق له فيدير لها ظهره، ويقول بإمامة موسى متناسياً أنّ المحبة دليل على الإمامة! ودين الله عز وجل لا يحكمه المزاج، يكون بالمحبة تارة وبالتنصيب الإلهي تارة أخرى فإما أن تكون المحبة دليلاً على الإمامة أو لا تكون.

د - حديث الدار

د - حديث الدار ومن أهم الأحاديث التي يستدل بها الشيعة الاثنا عشرية على نصية الإمامة حديث الدار حيث يرى الشيعة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نص على إمامة علي منذ بداية البعثة وأثناء عرضه الإسلام على كفار مكة ومنذ مطالبته إياهم بترك الأوثان وإفراد الواحد القهّار بالعبادة! وفيما يلي نص الرواية: (لما نزلت هذه الآية على رسول الله {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين} (¬1) دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا علي، إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتُّ عليها حتى جاءني جبريل، فقال: يا محمد، إنك إن لم تفعل ما تؤمر به يعذِّبك ربك، فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رحل شاة، واملأ لنا عُسّاً من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلّمهم وأُبلّغهم ما أُمرت به، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصون، فيهم أعمامه: أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول الله حِذيةً (¬2) من اللحم فشقّها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال: خذوا باسم الله فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة، وما أرى إلا موضع أيديهم وايم الله الذي نفس علي بيده، وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم، ثم قال: اسق القوم، فجئتهم بذلك العُس فشربوا حتى رووا منه جميعاً، وايم الله إن كان الرجل ¬

_ (¬1) سورة الشعراء آية 214 (¬2) الحذية من اللحم: ما قُطع منه طولاً.

الواحد منهم ليشرب مثله فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكلّمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لَهَدّ ما (¬1) سحركم صاحبكم! فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول الله، فقال: الغد يا علي، إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن أكلّمهم فعِد لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثم اجمعهم إليّ. قال: ففعلت، ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقرّبته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة، ثم قال: اسقهم فجئتهم بذلك العُسّ فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثم تكلّم رسول الله فقال: يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم. قال: فأحجم القوم عنها جميعاً وقلت: وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم (¬2) عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً (¬3) أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي، ثم قال: إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع) (¬4). وفي سياق آخر (... وبدرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام فقال: أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي؟ قال: فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك ¬

_ (¬1) لَهَدّ: كلمة يُتعجب بها. (¬2) الرمص في العين كالغمص، وهو كناية عن صغر سنه. (¬3) حمش الساقين: دقيقها (¬4) تاريخ الرسل والملوك للطبري 2/ 319 - 321

بماله، قال: وسكت أنا لسِن العباس، ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس، فلما رأيت ذلك قلت: أنا يا رسول الله، قال: أنت؟ قال: وإني يومئذ لأسوأهم هيئة وإني لأعمش العينين ضخم البطن خمش الساقين) (¬1). أقول: وحديث الدار المذكور آنفاً باطل سنداً ومتناً، فأما سنداً ففيه عبد الغفار بن القاسم وعبد الله بن عبد القدوس، فأما عبد الغفار بن القاسم فهو متروك لا يُحتج به، قال عنه علي بن المديني: كان يضع الحديث، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، وروى عباس بن يحيى: ليس بشيء، وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم (أي عند علماء الجرح والتعديل)، وقال عنه ابن حبان: (يقلّب الأخبار ولا يجوز الاحتجاج به، تركه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين) (¬2) وقال النسائي: متروك الحديث (¬3). وليس عبد الله بن عبد القدوس بأحسن حالاً من سابقه بل هو مجروح أيضاً عند عامة علماء الحديث، قال النسائي: ليس بثقة، وقال الدارقطني: ضعيف (¬4). وأما من ناحية المتن فالحديث واضح البطلان لأسباب وهي: 1ـ في الحديث أنّ بني عبد المطلب (هم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه) والتاريخ يشهد أنهم لم يبلغوا العشرين رجلاً فضلاً عن الأربعين! ¬

_ (¬1) البداية والنهاية 3/ 40 (¬2) كتاب المجروحين لابن حبان ص143 (¬3) كتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي ص210 (¬4) انظر ميزان الاعتدال 2/ 457

(فإنّ بني عبد المطلب لم يُعقِب منهم كما هو معلوم إلا أربعة: العبّاس، وأبو طالب والحارث، وأبو لهب. وجميع ولد عبد المطلب من هؤلاء الأربعة وهم بنو هاشم، ولم يدرك النبوة من عمومته إلا أربعة: العباس وحمزة وأبو طالب وأبو لهب، وأما العمومة وبنو العمومة فأبو طالب كان له أربعة بنين: طالب وعقيل وجعفر وعليّ. وأما العباس فبنوه كلهم صغار، إذ لم يكن فيهم بمكة رجل، وهَبْ أنهم كانوا رجالاً فهم: عبد الله وعبيد الله والفضل، وأما قثم فوُلد بعدهم، وأكبرهم الفضل، وبه كان يكنَّى، ولم يُولد للعباس في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الفضل وعبد الله وعُبيد الله، وأما سائرهم فوُلدوا بعده. وأما الحارث بن عبد المطلب وأبو لهب فبنوهما أقل، والحارث كان له ابنان: أبو سفيان وربيعة، وبنو أبي لهب ثلاثة ذكور، فأسلم منهم اثنان: عتبة ومعتب (¬1) (¬2). 2ـ رواية الدار المذكورة آنفاً معارضة برواية أخرى اتفق أهل الحديث على صحّتها وثبوتها فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (لمّا نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين}. صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الصّفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدِي، لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: أرأيتكم أنّ خيلاً بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدقِّي، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإنِّي نذير ¬

_ (¬1) في الأصل المطبوع (مغيث) بدل (معتب) وهو تصحيف جلي يُستغرب غفلة المحقق عنه. (¬2) منهاج السنة النبوية 7/ 304 - 305 بتصرف

لكم بين يديْ عذابٍ شديدٍ، فقال أبو لهب: تباًّ لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا، فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}) (¬1). 3ـ الشيعة الإثنا عشرية طالماً ادعوا النص الصريح على خلافة عليّ وأنه هو الوصي والمستحق الوحيد لهذا المنصب، وأنّ النصوص متظافرة في إثبات ذلك، وهذا الحديث يدحض قولهم، إذ فيه أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا قومه لنصرته وأنّ من يقبل نصرته فسيصبح أخاه ووصيه وخليفته من بعده ولم يخص علياً بذلك بل وأعرض عنه ثلاث مرات، ولمّا لم يجد ناصراً غير عليّ قال له ما قال، وهذا يعني أنّ علياً لا يستحق هذا المنصب ابتداءً، وأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم اضطر مع إحجام قومه أن يجعل هذا الأمر في عليّ، فهل يتوافق هذا مع ما يدّعيه الشيعة الإثنا عشرية من أنّ علياً منصوص عليه من السماء؟! 4ـ لقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا المنصب من نصيب من يؤازره على هذا الأمر وهو الإسلام والنطق بالشهادتين، وأنا أتساءل هل مجرد إسلام الشخص ونطقه بالشهادتين يستحق به أن يصبح وزيراً ووصياً وخليفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟! ومعنى ذلك أيضاً أنّ جميع من أسلم وآزر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذا الأمر يستحق أن يصبح خليفة له، فأي ميزة لعلي عن جميع من أسلم حتى يصبح وصي وخليفة الرسول صلى الله عليه وآله بعد ذلك؟ ثم لو فرضنا أنّ اثنين أو أكثر من قومه أجابوه إلى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري - كتاب التفسير- باب (وأنذر عشيرتك الأقربين) برقم (4770).

ذلك، فهل سيكون للنبي صلى الله عليه وآله ثلاثة خلفاء في وقت واحد؟! أم سيجري انتخابات لترشيح واحدٍ منهم (¬1)؟! 5ـ لو كانت الآية قد نزلت بشأن تنصيب عليّ إماماً على المسلمين، فما السر في إجلاس النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً أكثر من مرة كلما قام معلناً تأييده له؟! أكان ينتظر من غيره أن يقوم مقامه؟ ولماذا يأمل ذلك من غيره وهو الإمام المنصوص عليه من الله؟! ثم أين أبو طالب من هذا كله؟ فأبو طالب عند الشيعة الإثني عشرية كان مسلماً موحداً بل إنّ المسلمين مجمعون على أنه كان (مؤازراً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحامياً عنه) فأين هو من حديث الدار؟ ولماذا أحجم عن مساندة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن هذا الفضل العظيم؟ كيف وقد ذكر القمي في "تفسيره" والمجلسي في "بحاره" أنه (نزلت النبوة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الإثنان، وأسلم علي عليه السلام يوم الثلاثاء، ثم أسلمت خديجة بنت خويلد زوجة النبي صلى الله عليه وآله، ثم دخل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وآله وهو يصلّي وعلي بجنبه وكان مع أبي طالب جعفر، فقال له أبو طالب: صلِ جناح ابن عمّك، فوقف جعفر على يسار رسول الله صلى الله عليه وآله، فبدر رسول الله صلى الله عليه وآله من بينهما، فكان يصلّي رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي وجعفر وزيد بن حارثة وخديجة إلى أن أنزل الله عليه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر}) (¬2). ¬

_ (¬1) بل ضللت ص438 - 440 بتصرف. (¬2) تفسير القمي 1/ 378 وتفسير نور الثقلين 3/ 32 وبحار الأنوار 22/ 272 وجامع أحاديث الشيعة 6/ 406

فالمسألة لا تقف حينئذ عند أبي طالب بل تتعداه إلى جعفر ابنه أيضاً، فأين الإثنان من واقع حديث الدار؟! 6 - تزعم الرواية الأولى أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي بعدما أحجم القوم عن مؤازرته (إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم) وليس من بعدي! فأي وجه للدلالة على إمامة علي بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام؟ فإنه يصح أن يستخلف الرجل أحداً على قومه أو أهله وهو حي كما استخلف النبي أحد صحابته على المدينة عند ذهابه إلى مكة لأداء مناسك الحج، فالحديث يذكر (خليفتي فيكم) وليس (خليفتي من بعدي) والفرق واضح. أما الرواية الثانية فتوضح بأنّ المراد الاستخلاف على أهله لا الناس جميعاً، وفي تفسير الحديث يقول الإمام ابن كثير: (ومعنى قوله في هذا الحديث من يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي يعني إذا مت، وكأنه صلى الله عليه وسلم خشي إذا قام بإبلاغ الرسالة إلى مشركي العرب أن يقتلوه فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله ويقضي عنه، وقد أمنه الله من ذلك في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} الآية) (¬1). ثم إنّ في الرواية ما نصه: (فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع)؟! ¬

_ (¬1) البداية والنهاية 3/ 40

وأنا أتساءل متعجباً، كيف يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقومٍ رفضوا مؤازرته ونصرته بل وحاربوه: (هذا خليفتي فاسمعوا له وأطيعوا؟!)، هم أنفسهم لم يطيعوا النبي المرسل فهل سيطيعون صبياً صغيراً؟! ولو فرضنا أنّ النص كان كالتالي: (إنّ هذا أخي وخليفتي من (بعدي)) وليس (فيكم) كما في الرواية الثانية، فهل هم أطاعوا النبي في الحاضر حتى يطيعوا خليفته من بعده؟! كأنّ الخطاب لجمع من المسلمين وليس لجمع من رؤوس الكفر! سبحان الله حتى المشركون أكثر فهماً من هؤلاء الذي يستدلون بالحديث على معنى الإمامة، لذلك خرجوا يضحكون على مثل هذا الكلام العجيب، ويقولون لأبي طالب، قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع! 7 - ذكر المجلسي في "بحار الأنوار" روايتين مهمتين في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم قُبيل وفاته، وهما تثبتان بما لا يدع مجالاً للشك بأنّ حديث الدار لا يدل من قريب ولا بعيد على النص على الإمام علي. فروى عن الإمام زيد بن علي عليه السلام قال: لما حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله الوفاة ورأسه في حجر علي عليه السلام، والبيت غاصّ بمن فيه من المهاجرين والأنصار والعباس قاعد قدّامه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عبّاس، أتقبل وصيّتي وتقضي ديني وتنجز موعدي؟ فقال: إني امرؤ كبير السن، كثير العيال، لا مال لي، فأعادها عليه ثلاثاً كل ذلك يردها عليه، فقال رسول الله: سأعطيها رجلاً يأخذها بحقّها لا يقول مثل ما تقول ثم قال: يا علي، أتقبل وصيتي وتقضي ديني وتنجز موعدي؟ قال: فخنقته العبرة، ولم يستطع أن يجيبه، ولقد رأى رأس رسول الله صلى الله عليه وآله يذهب ويجيء في حجره، ثم أعاد

عليه فقال له علي عليه السلام: نعم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فقال: يا بلال، ائت بدرع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتى بها، ثم قال: يا بلال، ائت براية رسول الله صلى الله عليه وآله فأتى بها، ثم قال: يا بلال، ائت ببغلة رسول الله بسرجها ولجامها فأتى بها، ثم قال: يا علي، قم فاقبض هذا بشهادة من في البيت من المهاجرين والأنصار، كي لا ينازعك فيه أحد من بعدي، قال: فقام علي عليه السلام حتى استودع جميع ذلك في منزله، ثم رجع) (¬1). وفي رواية الإمام جعفر الصادق عن أبيه عن جده أنه قال: لما حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال للعباس: يا عمّ محمد، تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته؟ فردّ عليه وقال: يا رسول الله، أنا شيخ كبير، كثير العيال، قليل المال، من يطيقك وأنت تباري الريح؟ قال: فأطرق عليه السلام هنيئة ثم قال: يا عباس، أتأخذ تراث رسول الله وتنجز عداته، وتؤدّي دينه؟ فقال: بأبي أنت وأمي، أنا شيخ كبير، كثير العيال، قليل المال، من يطيقك وأنت تباري الريح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أما أنا سأعطيها من يأخذ بحقها، ثم قال: يا علي يا أخا محمد، أتنجز عداة محمد وتقضي دينه وتأخذ تراثه؟ قال: نعم بأبي أنت وأمي) إلى آخر الرواية (¬2). فمن الواضح– على فرض صحة حديث الدار- أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعنِ بقضاء الدين وإنجاز العدة وأخذ تراثه عليه الصلاة والسلام الخلافة أو الإمامة من بعده ¬

_ (¬1) بحار الأنوار 22/ 459 (باب وصيته صلى الله عليه وآله عند قرب وفاته) – حديث رقم (5) (¬2) المصدر نفسه – حديث رقم (3).

وإنما أراد بذلك المعنى الحرفي لتلك الكلمات، ولهذا أمر بلالاً كما في الروايتين أن يُعطي علياً رضي الله عنه الراية والدرع والمغفر والدواب وما أشبهها. وكل هذا منصوص عليه في الروايتين. كما أنّ الإمامة لو كانت من الله تعالى فهل يُعقل أن يعرضها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على غير من نصّ الله تعالى عليه؟! فيعرضها على العباس في حديث الدار مرة وقُبيل وفاته عليه الصلاة والسلام مرة أخرى! هذا إذا أعرضنا عن رواية خطيرة جداً ذكرها الشيخ الرضي في "خصائص الأئمة ص78" عن الإمام الحسن بن علي عليهما السلام قال: حدثني أمير المؤمنين عليه السلام قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله، ودعا الناس في مرضه، فقال: من يقضي عني ديني وعداتي ويخلفني في أهلي وأمتي من بعدي؟ (¬1) فكف الناس عنه، وانتدبت له، فضمنت ذلك فدعا لي بناقته العضباء، وبفرسه المرتجز، وببغلته، وحماره، وسيفه، وذي الفقار، وبدرعه ذات الفضول، وجميع ما كان يحتاج إليه في الحرب) إلى آخر الرواية. فهذه الرواية - رغم التحفظ على مضمونها – تثبت أنّ الخلافة والإمامة من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليست بالنص بدليل عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياها على الناس إلى جانب قضاء دينه والاستخلاف على الأهل. والإمام علي كما في الرواية يقول وبكل صراحة: (فكف الناس عنه، وانتدبت له، فضمنت ذلك)، ولسائل أن يسأل: لو أنّ العباس أو غيره من الصحابة انتدب وضمن ذلك، أيتصور حينها الشيعة الإثني عشرية أنّ الإمامة ستنتقل إليه؟ ¬

_ (¬1) زيادة (وأمتي من بعدي) منكرة، تخالفها كل الروايات الواردة في هذا الباب.

8 - لم يصح في شأن الدار حديث كما بيّنتُ لكن أقوى ما ورد من الروايات في هذا الباب روايتان: الأولى: ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبّاد بن عبد الله الأسدي عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه الآية {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين} قال: جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل بيته، فاجتمع ثلاثون، فأكلوا وشربوا، قال: فقال لهم: (من يضمن عني ديني ومواعيدي، ويكون معي في الجنة، ويكون خليفتي في أهلي؟) فقال رجل – لم يسمِّه شريك: يا رسول الله، أنت كنت بحراً، من يقوم بهذا؟! قال: ثم قال لآخر، قال: فعرض ذلك على أهل بيته، فقال علي: أنا) (¬1). والحديث ضعيف كما هو معلوم لضعف شريك بن عبد الله النخعي وعبّاد بن عبد الله الأسدي، لكنه أقوى سنداً بل متناً من الحديث الذي يستدل به علماء الشيعة الإثني عشرية عادة. والثانية: رواها الإمام أحمد في مسنده عن ربيعة بن ناجذ عن علي رضي الله عنه أنه قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب فيهم رهط كلهم يأخذ الجذعة ويشرب الفرق، قال: فصنع لهم مُداً من طعام فأكلوا حتى شبعوا، قال: وبقي الطعام كما هو كأنه لم يُمس ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأنه لم يُمس أو لم يُشرب، فقال: يا بني عبد المطلب، إني بُعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟ قال: فلم يقم إليه أحد، قال: فقمت وكنت أصغر القوم، قال: فقال: اجلس، ثم ¬

_ (¬1) رواه أحمد في المسند – حديث رقم (883).

قال ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه، فيقول لي: اجلس، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي) (¬1). والروايتان على ضعفهما توضحان أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عرض على قرابته أمراً لا دخل له بالخلافة أو الإمامة بمفهومها الشيعي الإثني عشري، فقد عرض على من يبايعه ويسانده أن يكون معه في الجنة وأن يكون خليفته على أهله عند موته عليه الصلاة والسلام أو خروجه خارج أرضه، وكان عليه الصلاة والسلام مستعداً لقبول أي شخص من بني عبد المطلب لا علي بن أبي طالب تحديداً كما يريد الشيعة الإثنا عشرية تصوير الأمر ولذلك ردّه ثلاث مرات لأنه يريد غيره، فلما أن رأى منهم الخذلان، ضرب بيده على يد علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، فهل يرضى الشيعة الإثنا عشرية بما تشير إليه الروايات؟ ¬

_ (¬1) رواه أحمد في المسند – حديث رقم (1371) وفضائل الصحابة 2/ 887 – حديث رقم (1220) وربيعة ابن ناجذ الأزدي أو الأسدي الكوفي مُختلف فيه: قال عنه الذهبي: لا يكاد يُعرف، ووثقه العجلي وابن حبان (على ما عرف عنهما من توثيق المجاهيل كما نص على ذلك العلماء كالعلامة عبد الرحمن المعلمي في كتابيه "التنكيل" و"الأنوار الكاشفة"، والحديث عند الشيخ شعيب الأرنؤوط ضعيف وهو كما قال.

هـ - حديث (علي مني وأنا من علي)

هـ - حديث (علي مني وأنا من علي) ومن الأدلة التي استدل بها الشيعة الإثنا عشرية أيضاً على إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما رواه أبو إسحاق السبيعي عن حُبْشُي بن جُنادة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (عليٌّ مني وأنا من عليٍّ ولا يُؤَدّي عَنّي إلا أنا أو علي) (¬1). وقد ذكر محمد طاهر الشيرازي أنّ دلالة هذا الحديث على إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ظاهرة (لأنا لا نريد بالإمامة إلا المؤدي عن الرسول القائم مقامه، فحصر التأدية فيه يفيد بطلان إمامة غيره) (¬2). المناقشة: أولاً: الحديث المذكور اختُلِف في ثبوته، فإنّ الحديث مداره على أبي إسحاق السبيعي وهو مدلّس مشهور، يُكثر التدليس عن الضعفاء، فإذا صرّح بالتحديث فحديثه صحيح وإن لم يصرّح بالتحديث فإنه يُتوقف في قبول حديثه مع ما عُلِم من اختلاطه بآخره. والحديث المذكور رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" وأحمد بن حنبل في "مسنده" والطبراني في"المعجم الكبير" وابن أبي عاصم في "السنة" كلهم عن أبي إسحاق السبيعي معنعناً، وانفرد النسائي في "فضائل الصحابة" و"السنن الكبرى" بروايته الحديث عن أبي إسحاق مصرّحاً بالتحديث، لكن حديث النسائي من طريق إسرائيل حفيد أبي إسحاق السبيعي وهو حافظ ثقة لكنه لم يرو عن جده إلا بعد اختلاطه (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي - كتاب المناقب - باب (علي مني وأنا من علي) - حديث رقم (3719). (¬2) كتاب الأربعين ص76 (¬3) ذكر ذلك صالح بن الإمام أحمد عن أبيه (انظر تهذيب التهذيب- ترجمة (إسرائيل بن يونس)).

وزاد الأستاذ أبو مريم الأعظمى على ما ذكرناه: (أنّ الحديث جاء بلفظ آخر وهو: (عليّ مني وأنا من عليّ ولا يقضي ديني إلاّ أنا أو عليّ) عند الإمام أحمد (4/ 164) والطبراني في (الكبير) (3512) وقد رواه بهذا اللفظ عن أبي إسحاق حفيده إسرائيل وهو حافظ ثقة وقيس بن الربيع، ورواه عن إسرائيل يحيى بن أبي بكير وهو ثقة من رجال الصحيحين فتبقى فيه علة أبي إسحاق السبيعي فقط، وليس اللفظ الأول بأولى بالقبول من اللفظ الآخر هذا بالنسبة لحديث حبشي. إلاّ أن ما يرجح اللفظ الثاني وهو (عليّ مني وأنا من عليّ ولا يقضي ديني إلاّ أنا أو عليّ) أنّ له شواهد من حديثين آخرين غير حبشي، وهو حديث أنس عند البزار (ص268) ولفظه: (عليّ يقضي ديني)، وحديث سعد بن أبي وقاص عند البزار أيضاً (ص266) والنسائي في (الخصائص) (ص3) بلفظ: (هذا وليّ ويؤدي عني ديني وأنا موالي من والاه ومعادي من عاداه). وهذا الحديثان وإن كان في إسناديهما مقال وضعف إلاّ أنهما يصلحان شاهدين للفظ الثاني من حديث حبشي وترجيحه على اللفظ الأول، فإن كان يمكن أن يصح حديث حبشي فبهذا اللفظ فقط: (عليّ منيّ وأنا من عليّ ولا يقضي ديني إلاّ أنا أو عليّ). وهو ما فعله المحدّث الشيخ الألباني فصحح هذا اللفظ في (الصحيحة) (1980) ومنه استفدنا هذا التصحيح) (¬1). ثانياً: صدْر الحديث ثابت من وجه آخر وهو حديث البراء بن عازب رضي الله عنه في قصة تنازع علي وزيد وجعفر على كفالة ابنة حمزة، وفيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ¬

_ (¬1) الحجج الدامغات لنقض كتاب المراجعات- مخطوط.

لعلي: «أنت مني وأنا منك» والحديث في الصحيحين، لكن هذه الفضيلة ليست من فضائل علي التي اختُصّ بها عن غيره من الصحابة. فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأشعريين: (إنّ الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلّ طعامُ عيالِهِم بالمدينة، جمعوا ما كان عِندهم في ثوبٍ واحدٍ، ثمّ اقتسَمُوهُ بينهم في إناءٍ واحدٍ، بالسّوِيَّة، فهُم مِنّي وأنا مِنْهُمْ) (¬1) فذكر فيهم العبارة ذاتها التي ذكرها في الإمام علي. وخصّ بها رجلاً من أصحابه هو جُليبيب رضي الله عنه كذلك. فعن أبي برزة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في مغزى له (¬2)، فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: هل تفقِدون من أحدٍ؟ قالوا: نعم، فلاناً وفلاناً وفلاناً، ثم قال: هل تفقِدون من أحدٍ؟ قالوا: نعم، فلاناً وفلاناً وفلاناً، ثم قال: هل تفقِدون من أحدٍ؟ قالوا: لا، قال: لكنّي أفقد جُليبيباً فاطلبوه، فطُلِبَ في القتلى، فَوَجدُوهُ إلى جَنْبِ سَبْعةٍ قد قَتَلَهُمْ ثم قَتَلوهُ، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوقف عليه، فقال: قَتَلَ سَبْعَةً ثمّ قَتلُوهُ، هذا مِنّي وأنا مِنْه، هذا مِنّي وأنا مِنه) (¬3) فإن كان في حديث (علي مني وأنا من علي) أو حديث (أنت مني وأنا منك) ما يفيد معنى الإمامة لكانت الأحاديث التي ذكرت جليبيب والأشعريين تفيد المعنى ذاته فكانت الخلافة فيهم وربما في أعقابهم! ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه – كتاب الشركة – باب (الشركة في الطعام والنهد) – حديث (2486) ورواه مسلم في صحيحه – كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل الأشعريين– حديث (2500) (¬2) أي في سفر غزو. (¬3) رواه مسلم في صحيحه – كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل جليبيب– حديث (2472).

ثالثاً: على فرض ثبوت زيادة (ولا يؤدي عني إلا علي) المذكورة في الحديث فإنه يُقال: إنّ العبارة مبهمة، لم يُنص فيها على المؤدى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما هو؟ ومن المحال أن يعني بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يبلّغ عنه الدين مطلقاً إلا علي رضي الله عنه، فإنّ ذلك معارض لأصل عظيم من أصول الدين وهو وجوب نشر العلم وتبليغه كما قال عليه الصلاة والسلام: (نضّر الله عبداً سمع مقالتي هذه فحملها، فرُبّ حامل الفقه فيه غير فقيه ورب حامل الفقه إلى من هو أفقه منه) (¬1) بل ومعارضٌ لما تواتر من كونه صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث غير عليِّ رضي الله عنه إلى الناس لتبليغهم تعاليم الدين فقد بعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن، وبعث مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى أهل المدينة قبل مقدمه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وغيرهم كثير. ولكن المراد هو تأدية أمر مخصوص وهو نبذ العهد مع المشركين وإعلان البراءة منهم كما دلت على ذلك بعض الأحاديث بمجموعها. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (روى الترمذي وحسّنه وأحمد من حديث أنس قال: بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم براءة مع أبي بكر ثم دعا علياً فأعطاها إياه وقال: (لا ينبغي لأحد أن يبلّغ هذا إلا رجل من أهلي) وهذا يوضّح قوله في الحديث الآخر (لا يبلغ عني) ويُعرف منه أنّ المراد خصوص القصة المذكورة لا مطلق التبليغ) (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أحمد في المسند – حديث رقم (13374) – قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن. (¬2) فتح الباري (8/ 239)

وقال في موضع آخر: (ولهذا قال العلماء: إنّ الحكمة في إرسال عليّ بعد أبي بكر أنّ عادة العرب جرت بأن لا ينقض العهد إلاّ من عقده أو من هو منه بسبيل من أهل بيته، فأجراهم في ذلك على عادتهم، ولهذا قال: (لا يبلغ عني إلاّ أنا أو رجل من أهل بيتي) (¬1). وقال المباركفوري في "تحفة الأحوذي 10/ 152": ((ولا يؤدي عني) أي نبذ العهد (إلا أنا أو علي) كان الظاهر أن يُقال لا يؤدي عني إلا علي فأدخل (أنا) تأكيداً لمعنى الاتصال في قوله (علي مني وأنا منه)، قال التوربشتي: كان من دأب العرب إذا كان بينهم مقاولة في نقض وإبرام وصلح ونبذ عهد أن لا يُؤدي ذلك إلا سيد القوم أو من يليه من ذوي قرابته القريبة ولا يقبلون ممن سواهم فلما كان العام الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يحج بالناس رأى بعد خروجه أن يبعث علياً كرم الله وجهه خلفه لينبذ إلى المشركين عهدهم ويقرأ عليهم سورة براءة وفيها {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬2) إلى غير ذلك من الأحكام فقال قوله هذا تكريماً له بذلك). ¬

_ (¬1) فتح الباري (8/ 241) (¬2) سورة التوبة آية 28

و - أحاديث الإثني عشر إماما

و - أحاديث الإثني عشر إماماً يحتج الشيعة الإمامية الإثنا عشرية في تحديدهم عدد الأئمة (بإثني عشر رجلاً من آل البيت) بما جاء في صحيح البخاري عن جابر بن سمرة قال: (يكون إثنا عشر أميراً - فقال: كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلهم من قريش) (¬1). وفي مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة) ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: (كلهم من قريش) (¬2). وعند أبي داود ونصه كالتالي: (لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليهم الأمة) (¬3). وبالتأمل في النصوص بكل حيادية وموضوعية نلاحظ عدة أمور من شأنها أن تفنّد مثل هذا الاستدلال. أولاً: عندما درست الحديث السابق دراسة وافية فتتبعت طرقه وألفاظه للوقوف على معناه وجدت أنّ الحديث قد ذُكر بالألفاظ التالية: (لا يزال هذا الأمر صالحاً حتى يكون اثنا عشر أميراً) (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري - كتاب الأحكام - باب الاستخلاف - حديث رقم (7223). (¬2) رواه مسلم - كتاب الإمارة - باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش - حديث رقم (1821). (¬3) رواه أبو داود - كتاب المهدي - حديث رقم (4279). (¬4) مسند أحمد - حديث رقم (20960)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

وفي رواية أخرى (لا يزال هذا الأمر ماضياً حتى يقوم اثنا عشر أميراً) (¬1) وفي رواية أخرى (لا يزال هذا الأمر قائماً حتى يمضي اثنا عشر أميراً) (¬2). (إنّ هذا الدين لا يزال عزيزاً إلى اثني عشر خليفة) (¬3) وفي رواية أخرى (لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة) (¬4). (لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة) (¬5) وفي رواية أخرى (لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة) (¬6). (لا يزال هذا الدين عزيزاً أو قال لا يزال الناس بخير (¬7) إلى اثني عشر خليفة) (¬8). وفي رواية أخرى (لا يزال هذا الأمر عزيزاً منيعاً يُنصرون على من ناواهم عليه إلى اثني عشر خليفة) (¬9). (لا يزال هذا الأمر مؤاتى أو مقارباً حتى يقوم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) (¬10). ¬

_ (¬1) مسند أحمد – حديث رقم (20961)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) المعجم الكبير 2/ 197 حديث رقم (1801). (¬3) مسند أحمد – حديث رقم (20909)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬4) مسند أحمد – حديث رقم (20870) قال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح وهذا إسناد حسن من أجل (سماك)، وفي المعجم الكبير للطبراني 2/ 195 حديث رقم (1792) بلفظ (اثنتي عشرة خليفة). (¬5) رواه أبو داود – كتاب الفتن - حديث رقم (4280)، قال الألباني: حديث صحيح. (¬6) رواه مسلم – كتاب الإمارة – باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش– حديث رقم (1821). (¬7) الشك من أبي عبد الصمد وهو أحد رواة الحديث. (¬8) مسند أحمد – حديث رقم (20962)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬9) مسند أحمد – حديث رقم (20964)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬10) مسند أحمد – حديث رقم (21071)، قال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.

(لا يزال هذا الأمر في مسكة وفي علياء حتى يملك اثنا عشر من قريش) (¬1). (لا يزال هذه الأمة مستقيم أمرها حتى يكون اثنا عشر خليفة) (¬2). (لا يزال أمر هذه الأمة هادئاً على من ناوأها حتى يكون عليكم اثنا عشر أميراً) (¬3). (لا يزال أمر هذه الأمة ظاهراً حتى يقوم اثنا عشر خليفة) (¬4). (لا يزال هذا الدين ظاهراً على من ناوأه لا يضره مخالف ولا مفارق حتى يمضى من أمتي اثنا عشر أميراً كلهم من قريش) (¬5). وفي رواية أخرى (لا يزال هذا الأمر ظاهراً على من ناوأه لا يضره مخالف ولا مفارق حتى يمضي اثنا عشر خليفة من قريش) (¬6). وفي رواية (لن يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً ظاهراً على من ناوأه لا يضره من فارقه أو خالفه حتى يملك اثنا عشر كلهم من قريش) (¬7). (لا يزال أمر هذه الأمة ظاهراً حتى يقوم اثنا عشر خليفة) (¬8). والناظر لهذه الروايات بصحيحها بل وضعيفها يلاحظ أنها لا تدل على مدح هؤلاء الإثني عشر جزماً بل قد تدل على ذمهم وكون خلافتهم بداية لهوان الأمة وضياع عزها. ¬

_ (¬1) المعجم الأوسط 2/ 115 حديث رقم (1430). (¬2) المعجم الكبير 2/ 196 حديث رقم (1798). (¬3) المعجم الكبير 2/ 197 حديث رقم (1800). (¬4) المستدرك 3/ 715 حديث رقم (6586). (¬5) مسند أحمد – حديث رقم (20873)، قال شعيب الأرنؤوط: ضعيف لضعف مجالد. (¬6) المعجم الكبير للطبراني 2/ 196 حديث رقم (1796). (¬7) مسند أحمد – حديث رقم (20943)، قال شعيب الأرنؤوط: ضعيف لضعف مجالد. (¬8) المستدرك 3/ 715 حديث رقم (6586).

ويشهد لهذا أنّ (حتى) و (إلى) تفيدان الغاية وقد جاءتا في كل ألفاظ الحديث تقريباً، فما قبلهما يختلف عما بعدهما، كقوله تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر} (¬1) فما قبل (حتى) يختلف عما بعدها، وعلى هذا يكون ما قبل هؤلاء الأمراء عزة ومنعة وصلاحاً ويكون الذل والفساد من أول توليهم الأمور، كما يكون الإمساك من أول ظهور الفجر فتأمل هذا جيداً. أما المعنى الآخر المحتمل فهو كون خلافة الإثني عشر هي آخر فترة العزة والمنعة ثم من بعدهم يفشو القتل المعبّر عنه بالحديث بـ (الهرج). فكما أنّ المرء يقول: أكلت السمكة حتى ذيلها، ويحتمل قوله هذا أنه أكل السمك كلها باستثناء ذيلها، يحتمل أيضاً أنّ المراد بأنه أكل السمكة كلها من أولها إلى آخرها (أي مع ذيلها). فما الذي جعل الحديث صريحاً في الدلالة على عِظم هؤلاء الإثني عشر بل وجعل الشيعة الإثني عشرية يذهبون إلى أنّ فيه النص على إمامة إثني عشر هم (علي بن أبي طالب والحسن والحسين وتسعة من أبناء الحسين)؟! ثانياً: إنّ هؤلاء الإثني عشر المشار إليهم في الحديث النبوي قد وُصفوا بأنهم (خلفاء) أو (أمراء) أما الأئمة الإثنا عشر الذين يدّعي الشيعة النص عليهم هم أئمة وعلماء وفضلاء لكنهم ليسوا خلفاء (¬2) ولا أمراء إذ لا خليفة بلا خلافة ولا أمير بلا إمارة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية 187 (¬2) باستثناء الخليفتين الراشدين علي بن أبي طالب والحسن بن علي رضي الله عنهما.

فحينما تناقش عالماً من علماء الشيعة عن إمامة الإمام الصادق مثلاً وتقول له: كيف يكون جعفر الصادق إماماً ولم يكن خليفة؟ فسيجيبك على الفور بأنّ الإمامة منصب إلهي لا يُشترط فيه أن يتولى الإمام الخلافة، لكن المرء لا يكون خليفة إلا بخلافة. فإذا علمت أنّ الأئمة الإثني عشر الذين يذكرهم الشيعة لم يلِ منهم الخلافة سوى إمامين فقط هما: (علي بن أبي طالب والحسن بن علي) ظهر تهافت وبطلان استدلالهم بالحديث. ولذا أقول: لو أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم النص على إمامة الأئمة الإثني عشر عند الشيعة لقال في حديثه الشريف (اثنا عشر إماماً) أو نصّ على الإثني عشر بأسمائهم بدلاً من قوله: (اثنا عشر أميراً) أو (اثنا عشر خليفة)! لقد دلّت صيغة الحديث الذي نطق به محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أُوتي جوامع الكلم بكل وضوح على أنّ الإثني عشر في الحديث لا يختصون بالإمام علي وأولاده دون غيرهم، ألا ترى أنه لم يقل النبي أنهم (كلهم من ولد إسماعيل) ولم يقل (كلهم من العرب) وإن كانوا في الحقيقة كذلك، ولكنه ذكر ما يميزهم عن غيرهم وهو القبيلة، فلو امتازوا بأنهم كلهم من أهل البيت أو من أبناء الإمام علي بالذات لذُكروا بذلك فلما جعلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قريش مطلقاً، عُلم أنهم من قريش ولا يختصون ببطن دون آخر، فقد يكون بعضهم من بني أسد أو بني تيم أو بني عدي أو بني زُهرة أو بني هاشم. ثالثاً: روى الطبراني من طريق أبي الطفيل عامر بن واثلة عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا ملك اثنا عشر من عمرو بن كعب كان النقف والنقاف إلى يوم القيامة) (¬1) يعني القتل. ¬

_ (¬1) فتح الباري 13/ 183

والإسناد ضعيف لكن له متابعة رواها الحافظ نعيم بن حمّاد في "الفتن 1/ 95" عن يحيى ابن سليم (صدوق سيء الحفظ) (¬1) عن عبد الله بن عثمان بن خثيم (صدوق) عن أبي الطفيل رضي الله عنه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا ملك إثنا عشر من عمرو من كعب كان النقف والنقاف إلى يوم القيامة). قال ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري 13/ 184": (وفي قوله (من بني كعب بن لؤي) إشارة إلى كونهم من قريش لأنّ لؤياً هو ابن غالب بن فهر وفيهم جماع قريش). والرواية إن قلنا باعتبارها فهي-كما هو ظاهر- دالة على سوء ملك هؤلاء الإثني عشر وأنّ ملكهم سبب للبأس بين الناس وكثرة الاقتتال والخراب، فتأمل! فإن قال قائل: إنّ رواية مسروق والتي فيها: (كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود وهو يقرؤنا القرآن فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم تملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله بن مسعود: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل) (¬2) تدل على أنّ الإثني عشر فضلاء وأنّ خلافتهم مرضيّة. ¬

_ (¬1) القول المذكور لابن حجر وهو خلاصة الخلاف في توثيق يحيى بن سليم الطائفي، فقد وثقه ابن معين وقال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، قال أبو حاتم: شيخ صالح محله الصدق لم يكن بالحافظ يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال النسائي: ليس به بأس وهو منكر الحديث عن عبيد الله بن عمرو، وقد شهد له الإمام أحمد رغم تحفّظه على أحاديثه بأنه قد أتقن حديث ابن خثيم. انظر "الكامل لابن عدي 7/ 219". أقول: والخلاف كما هو ظاهر منشؤه سوء حفظ يحيى، ومتابعة الطبراني قد ترفع الحديث إلى مرتبة الحسن والله أعلم. (¬2) مسند أحمد – حديث رقم (3781) – قال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لضعف مجالد.

أقول: إنّ الحديث منكر، ففي سنده (مجالد بن سعيد) أجمع علماء الجرح والتعديل على تضعيفه، وقد وهم الهيثمي في "مجمع الزوائد 5/ 190" فقال: (وفيه مجالد بن سعيد، وثقه النسائي وضعفه الجمهور)، وقد رجعتُ إلى "الضعفاء والمتروكين" للنسائي فوجدته قد ضعّفه وهكذا النقل عن النسائي في سائر كتب الجرح والتعديل. والحديث من انفردات مجالد بن سعيد هذا، ولم يتابعه عليه أحد. أما متن الحديث فظاهر النكارة، فإنّ فيه السؤال: (كم تملك هذه الأمة من خليفة؟) وجواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إثنا عشر) فقط! ومخالفة هذا للواقع أظهر من أن يُستدل له، ولو كان النص مادحاً أو ذاماً لإثني عشر من جملة من يملك الأمة لكان هذا واقعياً أما النص على أنّ من سيحكم الأمة هم إثنا عشر فقط فهذا ما يُستنكر بالرواية. والرواية على كل حال تنص على أنّ من سيملك الأمة من الخلفاء هم إثنا عشر كعدة نقباء بني اسرائيل، والأئمة الإثنا عشر في معتقد الشيعة الإثني عشرية ومعتقد غيرهم ليسوا بخلفاء ولا ملوك لأنهم لم يتسلموا زمام أمور الأمة (باستثناء الإمامين علي والحسن) كما تقدم. رابعاً: ليس في الحديث حصر للأئمة بهذا العدد (اثني عشر) فإنّ الخلفاء في الأمة أكثر من ذلك قطعاً لكن الحديث يشير إلى أنّ الإسلام لا يزال عزيزاً حتى حَكَم هؤلاء أو في ظل حكمهم كما ذكرنا سابقاً. خامساً: روى المفيد في "الإرشاد 2/ 372" عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (لا يخرج القائم حتى يخرج قبله اثنا عشر من بني هاشم كلهم يدعو إلى نفسه).

وعند الطوسي في "الغيبة ص437" والمجلسي في "بحار الأنوار 52/ 209": (قال أبو عبد الله (ع): لا يخرج القائم حتى يخرج اثنا عشر من بني هاشم كلهم يدعو إلى نفسه). ومن المعلوم بأنّ القائم المذكور في الرواية هو المهدي المنتظر عند الشيعة، وخروجه يكون في آخر الزمان وهو في معتقد الطائفة أحد الأئمة الإثني عشر، لكن الرواية الشيعية تفيد أنّ ثمة (إثني عشر من بني هاشم) سيخرجون قبله، كلهم يطلب الخلافة لنفسه، والسؤال هنا: لماذا لا يكون هؤلاء الإثنا عشر هم أنفسهم الإثنا عشر المذكورون في الحديث؟! لماذا يريد الشيعة الإثنا عشرية أن يتحكموا في الأمة كلها بجميع فرقها ومذاهبها ويلزمونهم باعتقاد النص على إثني عشر اختاروهم بأنفسهم ولم ينص عليهم الحديث لا بأسمائهم ولا بأوصافهم؟! سادساً: إنّ التاريخ ليشهد بأنّ الشيعة بفرقهم المتعددة مختلفون في معرفة الأئمة وفي أعدادهم اختلافاً لا يكاد يُحصى إلا بِكُلفة، كما حفلت بتصوير ذلك كتب الفرق والنحل والتي ذكرت اختلاف الشيعة بعد موت كل إمام في من يكون الإمام من بعده. ولو أخذنا بنظرية الشيعة الفطحية الذين يشترطون الوراثة العمودية في الإمامة، لأصبح الإمام الحسن العسكري هو الإمام الثاني عشر، بعد الإقرار بإمامة عبد الله بن الأفطح بن جعفر الصادق أو الاعتراف بإمامة زيد بن علي الذي اعترف بإمامته قسم من الشيعة الإمامية الأولى. فهل يصلح لمنصف عاقل أن يبني دينه وعقيدته على قاعدة هشة لا تصمد أمام النقد العلمي بهذه الصورة؟!

لا - أحاديث صحيحة في النص على الأئمة الإثني عشر بأسمائهم

لا - أحاديث صحيحة في النص على الأئمة الإثني عشر بأسمائهم سئل الخوئي هذا السؤال: (الحديث المعروف المروي عن هشام بن سالم، والذي يروي به ما جرى عليه وعلى بعض أصحابه، بل وعموم الشيعة بعد وفاة الإمام الصادق (ع)، وكيف أنه كان مع ثلة من أصحاب الصادق ثم كانوا يبحثون عن الخلف من بعده (ع)، فدخلوا على عبد الله ابن جعفر وقد اجتمع عليه الناس، فانكشف لهم بطلان دعوى إمامته، فخرجوا منه ضلاّلاً لا يعرفون مَنْ الإمام .. إلى آخر الرواية ... كيف نجمع بين هذه الرواية التي تدل على جهل كبار الأصحاب بالإمام بعد الصادق (ع)، وبين الروايات التي تحدد أسماء الأئمة عليهم السلام جميعاً منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ وهل يمكن إجماع الأصحاب على جهل هذه الروايات حتى يتحيّروا بمعرفة الإمام بعد الإمام؟ أجاب الخوئي: (الروايات المتواترة الواصلة إلينا من طريق العامة والخاصة قد حددت الأئمة عليهم السلام بإثني عشر من ناحية العدد، ولم تحددهم بأسمائهم عليه السلام واحداً بعد واحد حتى لا يمكن فرض الشك في الإمام اللاحق بعد رحلة الإمام السابق بل قد تقتضي المصلحة في ذلك الزمان اختفاءه والتستر عليه لدى الناس بل لدى أصحابهم عليهم السلام إلا أصحاب السر لهم، وقد اتفقت هذه القضية في غير هذا المورد، والله العالم) (¬1). فهذه شهادة من مرجع شيعي كبير، كان زعيماً للحوزة العلمية بالنجف التي تعتبر أعرق حوزات الشيعة الإثني عشرية على الإطلاق بأنه لا توجد روايات متواترة تحدد الأئمة الإثني ¬

_ (¬1) صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات - الجزء الثاني ص452

عشر بأسمائهم، ولا حتى أحاديث آحاد يُمكن الركون إليها دون الشك في مضامينها من الشيعة أنفسهم قبل غيرهم، إذ إنّ هذه الروايات كانت نتاج السرية ورواتها هم (أصحاب السر عند الأئمة) على حد تعبير الخوئي! والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: (ألا يُمكن عقلاً أن تتواطأ هذه القلة القليلة من الأصحاب على إدعاء ما لم يدّعيه الأئمة أنفسهم، خاصة لأنهم لا ينفردون عن الأمة الإسلامية بنقل مثل هذه الروايات فحسب وإنما ينفردون بروايات لم يروها عامة أصحاب الأئمة؟). ثم من هؤلاء الذين اختصهم الأئمة بأسرارهم دون باقي الخلق؟ يشير الشيخ علي آل محسن في كتابه "لله وللحقيقة" إلى هؤلاء النفر فيقول: (ولا يُتوهّم أنّ استحلال الإمام عليه السلام كتمان بعض أحاديثه عن المخاطبين من الشيعة أو عن أكثر الشيعة يعني كتمان باقي العلوم والمعارف عنهم، وذلك لأنّ الإمامين الصادقين عليهما السلام خصّا كثيراً من أصحابهما كأبي بصير وزرارة ومحمد بن مسلم وغيرهم بعلوم جليلة وأسرار كثيرة) (¬1). إنّ هؤلاء الذين ذكرهم الشيخ علي آل محسن ولا يخالفه في أسمائهم أحدٌ من علماء الإمامية ليسوا سوى مجموعة امتهنت الكذب على أهل البيت باعتراف الشيعة أنفسهم! فإنّ زرارة بن أعين الذي أثنى عليه عبد الحسين الموسوي في "المراجعات" وذكره الشيخ علي آل محسن وجمع غفير من علماء الشيعة الإثني عشرية قديماً وحديثاً قد وردت فيه روايات شيعية معتبرة السند عن الإمام جعفر الصادق في الطعن فيه بل ولعنه! ¬

_ (¬1) لله وللحقيقة ص79

فقد روى الكشي بسنده عن ليث المرادي قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: لا يموت زرارة إلا تائهاً (¬1). وعن مسمع كردين أبي سيار قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: لعن الله بريداً ولعن الله زرارة (¬2). وقد حسّن العلامة الشيعي محسن الأمين إسناد هاتين الروايتين في موسوعته (أعيان الشيعة) (¬3). وعن يونس بن عبد الرحمن عن ابن مسكان قال: سمعت زرارة يقول: رحم الله أبا جعفر، وأما جعفر فإنّ في قلبي عليه لفتة، فقلت له: وما حمل زرارة على هذا؟ قال: حمله على هذا لأنّ أبا عبد الله عليه السلام أخرج مخازيه (¬4). وعن مسعدة بن صدقة قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إنّ قوماً يعارون الإيمان عارية ثمّ يسلبونه يقال لهم يوم القيامة المعارون، أما إنّ زرارة بن أعين منهم (¬5). وعن الوليد بن صبيح قال: مررت في الروضة بالمدينة فإذا بإنسان قد جذبني فالتفت فإذا أنا بزرارة، فقال لي: استأذل لي على صاحبك، قال: فخرجت إلى المسجد فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام فأخبرته الخبر فضرب بيده إلى لحيته، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: لا تأذن ¬

_ (¬1) رجال الكشي ص229 ترجمة (زرارة بن أعين) - رواية رقم (240). (¬2) المصدر نفسه – رواية رقم (237). (¬3) أعيان الشيعة 10/ 388 (¬4) رجال الكشي ص225 – رواية (228). (¬5) المصدر نفسه – رواية (263).

له، لا تأذن له، لا تأذن له، فإنّ زرارة يريدني على القدر على كبر السنّ، وليس من ديني ولا دين آبائي (¬1). وعن علي بن الحكم عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام قال: دخلتُ عليه فقال: متى عهدك بزرارة؟ قال: قلت: ما رأيته منذ أيام، قال: لا تبال وإن مرض فلا تعده وإن مات فلا تشهد جنازته! قال: قلت: زرارة؟ متعجباً مما قال، قال: نعم زرارة، زرارة شر من اليهود والنصارى ومن قال إنّ مع الله ثالث ثلاثة (¬2). وعن عمران الزعفراني قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول لأبي بصير: يا أبا بصير- وكنّى اثني عشر رجلاً – ما أحدث أحد في الإسلام ما أحدث زرارة من البدع، عليه لعنة الله، هذا قول أبي عبد الله (¬3). وعن زياد بن أبي الحلال قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنّ زرارة روى عنك في الاستطاعة شيئاً فقبلنا منه وصدقناه وقد أحببتُ أن أعرضه عليك؟ فقال: هاته! قلت: فزعم أنه سألك عن قول الله عز وجل {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فقلت: من ملك زاداً وراحلة، فقال: كل من ملك زاداً وراحلة فهو مستطيع للحج وإن لم يحج؟ فقلت: نعم، فقال: ليس هكذا سألني ولا هكذا قلت، كذب عليّ والله كذب عليّ والله، لعن الله زرارة، لعن الله زرارة، إنما قال لي من كان له زاد وراحلة فهو مستطيع الحج قلت: وقد وجب عليه، قال: فمستطيع هو؟ فقلت: لا، حتى يؤذن له، قلت: فأخبر زرارة بذلك؟ ¬

_ (¬1) رجال الكشي ص237 – رواية (266). (¬2) المصدر نفسه – رواية (267). (¬3) المصدر نفسه– رواية (241).

قال: نعم، قال زياد: فقدمتُ الكوفة فلقيت زرارة فأخبرته بما قال أبو عبد الله (ع) وسكت عن لعنه، فقال: أما أنه قد أعطاني الاستطاعة من حيث لا يعلم، وصاحبكم هذا ليس له بصيرة (¬1) بكلام الرجال (¬2). فمن يكذب على الإمام جعفر الصادق في حياته وبكل جرأة ووقاحة حتى اضطر الإمام جعفر إلى لعنه والتبرأ منه وإخراج مخازيه، كيف يؤتمن على عقيدة أهل الإسلام فتُتخذ رواياته ديناً يُتعبد به؟! أما أبو بصير، فقد روى الكشي عن ابن أبي يعفور أنه قال: خرجت إلى السواد نطلب دراهم لنحجّ ونحن جماعة وفينا أبو بصير المرادي، قال: قلت له: يا أبا بصير، اتق الله وحجّ بمالك فإنك ذو مال كثير، فقال: اسكت فلو أنّ الدنيا وقعت لصاحبك لاشتمل عليها بكسائه (¬3). وعن شعيب العقرقوفي عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن امرأة تزوجت ولها زوج فظهر عليها؟ قال: تُرجم المرأة ويُضرب الرجل مائة سوط لأنه لم يسأل، قال شعيب: فدخلت على أبي الحسن (ع) (¬4) فقلت له: امرأة تزوّجت ولها زوج؟ قال: ترجم المرأة ولا شيء ¬

_ (¬1) لاحظ عبارة زرارة التي يتكلم فيها عن الإمام جعفر الصادق فيقول فيها: (صاحبكم هذا ليس له بصيرة بكلام الرجال)، ثم اسأل الإمامية: كيف توثقون من يطعن في الأئمة المعصومين ويلمزهم بمثل هذه الألفاظ؟ أهؤلاء الكذابون خير أم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين تجنيتم عليهم ووصفتوهم بأقبح الصفات لا لشيء سوى مبايعتهم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة؟! (¬2) رجال الكشي ص227 – رواية (234). (¬3) رجال الكشي ص245 ترجمة (أبو بصير ليث بن البختري المرادي) رواية رقم (285). (¬4) أي الإمام موسى الكاظم

على الرجل، فلقيت أبا بصير، فقلت له: إني سألت أبا الحسن (ع) عن المرأة التي تزوّجت ولها زوج قال: ترجم المرأة ولا شيء على الرجل، قال: فمسح على صدره، وقال: ما أظنّ صاحبنا تناهى حلمه بعد! وفي رواية (وقال بيده على صدره يحكّها: أظنّ صاحبنا ما تكامل علمه) (¬1) يريد بذلك أنّ الإمام موسى الكاظم لم يتكامل علمه ولذلك فإنه يُفتي بما لا يعرف! أما أخلاقيات أبي بصير فلا تسأل عنها، يكفيك فيها قوله: كنت أقرئ امرأة كنت أعلمها القرآن، قال: فمازحتها بشيء، قال: فقدمت على أبي جعفر (ع)، قال: فقال لي: يا أبا بصير أي شيء قلت للمرأة؟ قال: قلت بيدي هكذا، وغطّا وجهه (¬2)، قال: فقال لي: لا تعودّن إليها (¬3). أما محمد بن مسلم الذي يُعتبر كاتماً لأسرار الأئمة فتنص كتب الشيعة على أنّ الإمام جعفر الصادق قد لعنه وتبرأ منه قائلاً: (لعن الله محمد بن مسلم، كان يقول: إنّ الله لا يعلم الشيء حتى يكون!) (¬4). وقد بلغ الإمام جعفر أنّ امرأة عامر بن عبد الله بن جذاعة تقول بقول زرارة ومحمد بن مسلم في الاستطاعة وترى رأيهما، فقال: ما للنساء والرأي، والقول لها أنهما ليسا بشيء في ولاية (¬5)، قال عامر: فجئت إلى امرأتي فحدّثتها فرجعت عن ذلك القول. ¬

_ (¬1) رجال الكشي ص247 - 248 ترجمة (أبو بصير ليث بن البختري المرادي) رواية رقم (292) و (293). (¬2) لك أن تتخيل ما الحركة التي فعلها أبو بصير بيده للمرأة!! أهؤلاء هم رواتكم الذين تأخذون عنهم دينكم يا عبد الحسين شرف الدين ويا عليّ آل محسن؟! (¬3) رجال الكشي ص248– رواية رقم (295). (¬4) رجال الكشي ص245 ترجمة (محمد بن مسلم الطائفي الثقفي) رواية رقم (284). (¬5) في احدى النسخ المخطوطة وُجدت كلمة (ولايتي) بدل (ولاية)، والرواية في رجال الكشي رقم (282).

روايات شيعية دامغة!

ولحرص الإمام جعفر الصادق على التحذير منه ومن غيره من الوضّاعين قال: (هلك المتريّسون في أديانهم منهم زرارة وبريد ومحمد بن مسلم وإسماعيل الجعفي، قال الراوي أبو الصباح: وذكر آخر لم أحفظ) (¬1). وكفى الله المؤمنين القتال! روايات شيعية دامغة! بعد الاعتراف المذهل لآية الله العظمى الخوئي بأنه لا توجد روايات متواترة في النص على الأئمة بأسمائهم وإحالته الموضوع برُمته على (أهل السر) الذين وقفنا على شيء من مخازيهم وعقائدهم الرديّة، تأتي المفاجأة الكبرى وفي أهم كتاب للشيعة الإثني عشرية "الكافي" الذي عاصر صاحبه النواب الأربعة للإمام الثاني عشر عند الإمامية بالإضافة إلى كتب أخرى للإمامية تعتبر مصادراً مهمة للحديث لدى الطائفة كـ"الغيبة" للطوسي و"الخصال" للشيخ الصدوق و"كفاية الأثر" للخزاز القمي. إنّ الأئمة الإثني عشر المذكورين في روايات الشيعة ليسوا هم الأئمة الذين يعتقد الشيعة الإثنا عشرية إمامتهم النصية! فالأئمة الإثنا عشر عند الشيعة الإثني عشرية هم (علي بن أبي طالب والحسن بن علي والحسين بن علي وعلي بن الحسين (زين العابدين) ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري ومحمد بن الحسن (القائم المنتظر)). ¬

_ (¬1) رجال الكشي- رواية رقم (283).

بينما تؤكد الروايات الشيعية التالية أنّ الأئمة الإثني عشر من ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة، ليس فيهم علي بن أبي طالب نفسه! خذ عندك هذه الروايات الشيعية الدامغة، وما عليك سوى تأملها بحيادية ومن ثم تأمل التأويلات الهشة التي سيحاول البعض إيجادها للخروج من هذا المأزق! * الرواية الأولى: عن أبي جعفر عليه السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: دخلتُ على فاطمة عليها السلام وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها، فعددت إثني عشر آخرهم القائم عليه السلام، ثلاثة منهم محمد وثلاثة منهم علي (¬1). ومغزى الحديث بيان أنّ الأئمة الإثني عشر (كلهم من ولد فاطمة) بدليل نص الرواية على أنّ في اللوح (أسماء الأوصياء من ولدها) والإمام علي زوج فاطمة لا ولدها، والقرينة الثانية في الرواية هي النص على أنّ ثلاثة من الإثني عشر أسماؤهم (علي) والمراد بهم (علي بن الحسين (زين العابدين) و (علي الرضا) و (علي الهادي) فخرج بذلك الإمام علي من القائمة. * الرواية الثانية: روى الكليني في الكافي بسند صححه المجلسي عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال: (كنت حاضراً لما هلك أبو بكر واستخلف عمر) إلى قوله: (فقال له أمير المؤمنين (ع): إنّ لهذه الأمة إثني عشر إمام هدى من ذرية نبيها وهم مني، وأما منزل نبينا في الجنة ففي أفضلها وأشرفها جنة عدن وأما من معه في منزله فيها فهؤلاء الإثنا عشر من ذريته وأمهم وجدّتهم وأم أمهم وذراريهم، لا يشركهم فيها أحد) (¬2). ¬

_ (¬1) الخصال ص478 حديث رقم (42) والكافي- كتاب الحجة - باب فيما جاء في الإثني عشر والنص عليهم حديث رقم (9) والغيبة للطوسي ص139 (¬2) الكافي- كتاب الحجة - باب فيما جاء في الإثنى عشر- حديث رقم (8) والغيبة للطوسي ص153

ومغزى الحديث بيان أنّ الأئمة الإثني عشر من ذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم جميعاً أبناء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فيخرج بذلك الإمام علي نفسه من القائمة. * الرواية الثالثة: روى الكليني عن زرارة بن أعين قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: الإثنا عشر الإمام من آل محمد عليهم السلام كلهم محدّث من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن ولد علي، ورسول الله وعلي عليهما السلام هما الوالدان) (¬1). ومغزى الحديث كما هو واضح أن يكون الأئمة من أهل البيت كلهم أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي بن أبي طالب، ويعني هذا أنّ علياً نفسه ليس من الأئمة الإثني عشر المنصوص عليهم لأنه ليس من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما ابن عمه وأخوه وأبو الأئمة الإثني عشر! * الرواية الرابعة: عن أبي جعفر (ع) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني وإثني عشر من ولدي، وأنت يا علي رزّ (¬2) الأرض يعني أوتادها وجبالها، بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الإثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم ينظروا) (¬3). ¬

_ (¬1) الكافي- كتاب الحجة - باب ما جاء في الإثنى عشر والنص عليهم - حديث رقم (7) و (14). (¬2) قال المجلسي في "مرآة العقول 6/ 233": (وفي بعض النسخ جاء اللفظ بتقديم الزاء على الراء المهملة، وله أيضاً وجه بل هو أظهر، قال الفيروزآبادي: الزرّ بالكسر الذي يوضع في القميص وعظيم تحت القلب وهو قوامه، وزر الدين قوامه). (¬3) الكافي- كتاب الحجة – باب ما جاء في الإثنى عشر والنص عليهم – حديث رقم (17).

ومغزى الحديث بيان أنّ الأئمة الإثني عشر من ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي ليس منهم كما هو ظاهر في الحديث. * الرواية الخامسة: عن أبي سعيد رفعه عن أبي جعفر (ع) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ولدي إثنا عشر نقيباً، نجباء، محدّثون، مفهمّون، آخرهم القائم بالحق يملأها عدلاً كما ملئت جوراً) (¬1). ومغزى الحديث كسابقه وهو بيان أنّ الأئمة الإثني عشر من ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيخرج بذلك الإمام علي من أن يكون منهم. * الرواية السادسة: روى الخزاز القمي في كفاية الأثر عن أنس بن مالك قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حواري عيسى فقال: كانوا من صفوته وخيرته وكانوا إثني عشر - إلى أن قال - فقلتُ: الأئمة بعدي إثنا عشر من صلب علي وفاطمة، وهم حواريي وأنصاري، عليهم من الله التحية والسلام (¬2). * الرواية السابعة: روى الخزاز القمي عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلت على الحسن ابن علي بن أبي طالب عليه السلام في مرضه - إلى أن قال- فقلت: يا مولاي مالك لا تعالج نفسك؟ فقال: يا عبد الله بماذا أعالج الموت؟ فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم التفت إليّ فقال: والله إنه لعهد عهده إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد علي وفاطمة، ما منا إلا مسموم أو مقتول (¬3). ¬

_ (¬1) الكافي- كتاب الحجة - باب ما جاء في الإثنى عشر والنص عليهم - حديث رقم (18). (¬2) كفاية الأثر ص68 - 69 (¬3) منهاج الصالحين لوحيد خراساني 1/ 341 (شهادة الإمام الحسن) نقلاً عن الخزاز القمي ص227

المرتضى لا يستبعد كون الأئمة أكثر من إثني عشر!

المرتضى لا يستبعد كون الأئمة أكثر من إثني عشر! ولعل من أعجب ما قرأته في هذه المسألة جواب المرتضى على سؤال وجهه أحد الشيعة إليه يسأله فيه عن الحال بعد إمام الزمان عليه السلام في الإمامة قائلاً: إذا كان المذهب المعلوم أنّ كل زمان لا يجوز أن يخلو من إمام يقوم بإصلاح الدين ومصالح المسلمين، ولم يكن لنا بالدليل الصحيح أنّ خروج القائم يطابق زوال التكليف، فلا يخلو الزمان بعده عليه السلام من أن يكون فيه إمام مفترض الطاعة، أو ليس يكون. فإن قلنا: بوجود إمام بعده خرجنا من القول بالإثنى عشرية، وإن لم نقل بوجود إمام بعده، أبطلنا الأصل الذي هو عماد المذهب، وهو قبح خلو الزمان من الإمام. أجاب المرتضى بقوله: (إنا لا نقطع على مصادفة خروج صاحب الزمان محمد بن الحسن عليهما السلام زوال التكليف، بل يجوز أن يبقى العالم بعده زماناً " كثيراً "، ولا يجوز خلو الزمان بعده من الأئمة. ويجوز أن يكون بعده عدة أئمة يقومون بحفظ الدين ومصالح أهله وليس يضرنا ذلك فيما سلكناه من طرق الإمامة، لأنّ الذي كلفنا إياه وتعبدنا منه أن نعلم إمامة هؤلاء الإثني عشر، ونبينه بياناً " شافياً "، إذ هو موضع الخلاف والحاجة. ولا يخرجنا هذا القول عن التسمي بالإثني عشرية، لأنّ هذا الاسم عندنا يطلق على من يثبت إمامة إثني عشر إماماً". وقد أثبتنا نحن ولا موافق لنا في هذا المذهب، فانفردنا نحن بهذا الاسم دون غيرنا!!) (¬1)، إنه المأزق الذي أوقعت النظرية الإمامية الإثنا عشرية فيها نفسها ولم تجد له مخرجاً سوى مثل هذه الافتراضات غير المنطقية! ¬

_ (¬1) رسائل المرتضى 3/ 145 - 146

اعتراف خطير للشيخ حسين المدرسي الطباطبائي يقول في كتابه " تطور المباني الفكرية للتشيع في القرون الثلاثة الأولى ": (مضت سنوات طويلة على انتشار حديث شريف ومشهور جداً عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يبشِّر فيه بإثني عشر خليفة (وفي بعض الروايات بإثنى عشر أميراً) كلهم من قريش، وفي بعض نسخ هذا الحديث: أنّ هرجاً ومرجاً شديدين يعمّان الناس بعدهم. وقد أولى السُّنة هذا الحديث عناية خاصة منذ البداية ورووه جيلاً بعد جيل حتى إنّ عدداً كبيراً من الرواة كانوا يحدِّثون به الناس في كل مكان أيام خلافة الوليد الثاني (125 - 126هـ) عندما اشتد نشاط المعارضة للأمويين وظهرت طلائع الثورة التي قضت على الخلافة الأموية، واحتفّ الثوار والمعتزلة الأوائل (الذين يسمّيهم أعداؤهم بالقدرية) حول يزيد بن الوليد ليشكّلوا تهديداً لسلطة الكبت، بل الشواهد تشهد أنّ في أواخر خلافة هشام بن عبد الملك (105 - 125هـ) عندما واجهت مسألة ولاية عهده عقبات متكررة لبّدت سحبها الكثيفة سماء بني أمية، بدأت العثمانية الذين أصابهم خوف كبير يردّدون هذا الحديث وهم يمرّون بتلك الظروف، بأنه يشير إلى الخلفاء الثلاث الأوائل (الذين يسمّونهم بالراشدين) مع الخلفاء الأمويين المجمع عليهم وتاسعهم هشام، وهم يشكِّلون المدّة التي يسودها بعدها الهرج والمرج) إلى أن يقول: (وعلى عكس العثمانية الذين روّجوا الحديث وأولوه عناية خاصة في أواخر العهد الأموي فإنّ الشيعة لم يكترثوا بهذا الحديث ولم يهتم بنقله وضبطه إلا خواص أصحاب الأئمة المطّلعين على أسرارهم، وذلك لأنّ عموم الشيعة وبسبب اعتقادهم باستمرار سلسلة الإمامة حتى نهاية العالم كانوا يتوقعون أن يكون عدد الأئمة أكثر من ذلك بكثير، وفي الحقيقة فإنّ أيّاً من كتب الشيعة المتبقيّة من أواخر القرنين الثاني والثالث أو أيّاً من

كتبهم التي أُلّفت قبل أواخر القرن الثالث ولم تطلها يد التحريف لا يحوي ما يدل على أنّ هذا الحديث لفت انتباه المؤلفين الشيعة أو أنّ أحداً دار في خلده أنّ هذا الحديث يرتبط بهم بل يظهر أنهم عتّموا تماماً على هذا الحديث المشهور ولعلهم اعتبروه حديثاً مضاداً للتشيع بعد أن شاهدوا العثمانية يستقرؤونه ويستفيدون منه لصالحهم في الاضطرابات التي أودت أخيراً بخلافتهم. ولم يشر بنو نوبخت لهذا الحديث ولا لحقيقة أنّ الأئمة إثنا عشر ولا حتى سعد بن عبد الله الأشعري ولا ابن قبة في آثارهما التي بين أيدينا، وكلهم عاشوا في أواخر القرن الثالث وعاصروا الغيبة الصغرى) إلى أن قال: (إنّ أول من طرح مسألة الإثني عشر من مؤلفي الشيعة، هما المحدِّثان الكبيران علي بن بابويه القمي ومحمد بن يعقوب الكليني اللذان عاشا أواخر مرحلة الغيبة الصغرى وماتا في أواخرها عامي 328 - 329هـ. يقول علي بن بابويه القمي في مقدمة كتابه "الإمامة والتبصرة": إنه لما وَجد كثيراً من شيعة زمانه يعتريهم الشك في أسس المذهب الحق فإنه ألّف هذا الكتاب الذي ضمّنه بعض الأحاديث التي تعيّن عدد الأئمة على وجه الدقة لكي يطمئن الشيعة أنّ مذهبهم هو الصراط المستقيم. فيما أفرد الكليني في الكافي فصلاً للروايات التي تذكر أنّ الأئمة إثنا عشر، مع أنّ هذا الفصل لم يقع في مكانه المناسب، ويبدو وكأنه أُلحق بالكتاب بعد سنوات ربما من قبل المؤلف نفسه) (¬1). ¬

_ (¬1) تطور المباني الفكرية للتشيع في القرون الثلاثة الأولى ص156 - 162

واعتراف أخطر من الشيخ محمد الباقر البهبودي يقول البهبودي في كتابه "معرفة الحديث ص172" تعليقاً على إحدى روايات النص على الأئمة الإثني عشر: (على أنك قد عرفت في بحث الشذوذ عن نظام الإمامة أنّ الأحاديث المرويّة في النصوص على الأئمة جملة من خبر اللوح وغيره- كلها مصنوعة في عهد الغيبة والحيرة وقبلها بقليل، فلو كانت هذه النصوص المتوفرة موجودة عند الشيعة الإمامية لما اختلفوا في معرفة الأئمة الطاهرة هذا الاختلاف الفاضح، ولما وقعت الحيرة لأساطين المذهب وأركان الحديث سنوات عديدة، وكانوا في غنى أن يتسرّعوا إلى تأليف الكتب لإثبات الغيبة وكشف الحيرة عن قلوب الأمة بهذه الكثرة)!! فإذا كانت المسألة واضحة لديكم بهذه الصورة فلماذا تمتحنون الأمة فيما عجز عنه أساطين مذهبكم وأركان حديثكم سنوات عديدة؟! وعلى أي أساس جزمتم بأنّ الإثني عشر الذين تعتقدون إمامتهم وعصمتهم هم المرادون بهذا النص أو بغيره؟! سبحانك أي ضلالة هذه ... وأي مصادرة للحقيقة هذه!!

من هم الخلفاء الإثنا عشر؟

من هم الخلفاء الإثنا عشر؟ لقد اجتهد شراح هذا الحديث في ذكر أسماء خلفاء مسلمين ليبلغوا بهم العدد (إثني عشر) فكأنهم بفعلهم هذا قد تعجلوا قيام الساعة، فحين أخبر الحديث بحصول هذا العدد فلا بد أن يكون قد تم ذلك على عهد هذا المصنف أو ذاك أو في عهدنا الحالي! وهذا تعجل، فالزمن لا يتوقف عندهم ولا عندنا، والأحقاب التي أعقبتهم قد تفرز خلفاء قبل خروج المهدي .. من يستطيع أن يجزم بعدم حصول هذا؟! واجتهاد هؤلاء العلماء والفضلاء في تحديد الأسماء يذكرني بما فعله كثير ممن كتب في الفرق الإسلامية والملل والنحل حين قسّموا المسلمين في زمانهم إلى ثلاث وسبعين فرقة تمشياً مع الحديث الوارد بافتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة. حتى وجدنا من ألف كتاباً باسم "الثلاث وسبعين فرقة" كأبي محمد اليمني (من علماء القرن الرابع الهجري) وحدد الفرق المرادة من الحديث بأسمائها في عصره! وعلى هذا المنوال سار أغلب المؤلفين سنة وشيعة! فإذا كانت نظرة هؤلاء صحيحة فقد زاد العدد بعدهم الثلاث والسبعين! خصوصاً وأنه قد درج الكثيرون منهم على عدّ من ينفرد بقول في مسألة عقدية بأنه صاحب فرقة. ومنشأ الخطأ في رأيي أمران اثنان: أولهما: التعجل في معرفة أسماء الفرق الثلاث والسبعين، وكأنّ تلك الفرق لا بد أن تكون في زمن الشارح والمؤلف أو قبل ذلك، دون أن يُعطي المؤلف لنفسه ولو احتمالاً واحداً أنّ فرقة واحدة من تلك الفرق ستكون بعده بقرون!

تساؤلات أنتجت تنوعا في الآراء

ثانيهما: الاهتمام بعدد الفرق أكثر من المبدأ، فكأنّ شارح الحديث والناظر فيه قد أخذا على نفسيهما عهداً أن يعرفا أسماء الثلاث والسبعين فرقة المذكورين في الحديث الشريف بدلاً من الاهتمام بمغزى الحديث من ذكر هذا العدد وهو (كثرة التفرق في الأمة ووجود فرقة واحدة ثابتة على إسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم النقي بخلاف غيرها ممن تنكب الطريق). والأمر ذاته يُقال في حديث (الإثني عشر خليفة)، لقد رأينا من تعجل في تحديد الأسماء دون حاجة تدفعه لذلك وهو يقرأ قول النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: (لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش). وفي رواية (إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة). فالحديث واضح في ذكر أنّ فترة خلافة الإثنى عشر ممتدة إلى قيام الساعة، والذي يحصر فترة خلافة الإثني عشر بشخصيات مضت يخالف نص الحديث من حيث لا يشعر. تساؤلات أنتجت تنوعاً في الآراء لم يكن حديث (الخلفاء الإثني عشر) مفصّلاً بحيث لا يقع الخلاف في فهمه أو تكثر الاحتمالات فيه، بل كانت التساؤلات التي أثارتها أذهان العلماء سبباً جوهرياً لاختلاف الآراء في الخلفاء الإثني عشر المرادين من الحديث إلا أنّ علماء أهل السنة ومعهم جميع فرق الشيعة باستثناء الإثني عشرية كلهم مجمعون على أنّ المراد بهؤلاء الإثني عشر أناس غير (الإثني عشر) الذي تذكرهم الإمامية لتوافر الأدلة على بطلان كونهم المذكورين في الحديث كما أشرت آنفاً. لكن بقيت بعض الأسئلة في أذهان الشراح بلا إجابة:

هل من اللازم أن يكون الإثنا عشر متتابعين أم متفرقين؟ هل من اللازم أن تجتمع الأمة عليهم جميعاً أم أنّ الحديث يشير إلى الغلبة والأكثرية؟ أم أنّ زيادة (كلهم تجتمع عليهم الأمة) لا تصح أصلاً؟ (¬1) هل من اللازم أن يكون كل هؤلاء الإثني عشر من الأتقياء الأنقياء أم أنه يجوز أن يكون منهم الظلمة كما قال عليه الصلاة والسلام (إنّ الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر) (¬2) بحيث تكون العبرة هنا بعزة الدين أمام الكفار وبنهضة المسلمين لا بمظالم فردية وقعت على بعض الثائرين أو المعترضين على سياسة هذا الحاكم؟ هذه الأسئلة المثارة وكذا الاحتمالات العالقة بالنص ساهمت بشكل مباشر في جعل آراء العلماء متفاوتة في تحديد شخصيات الإثني عشر المشار إليهم بالحديث النبوي. على أنّ الجميع متفقون على أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشار في الحديث إلى حدث مستقبلي سيحصل للأمة، ولم يذكر في الحديث أنه يلزم كل مسلم معرفة أسماء هؤلاء الإثني عشر أو الإيمان بهم كما يؤمن المرء منا بالأنبياء والملائكة والكتب السماوية واليوم الآخر كما قال الله تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِه} (¬3). فحديث الخلفاء الإثني عشر لا يختلف كثيراً عن الغيبيات الأخرى التي أخبر عنها النبي ¬

_ (¬1) وجدت الشيخ الألباني رحمه الله قد حكم على لفظة: (كلهم تجتمع عليه الأمة) و (ثم يكون الهرج) بالنكارة "السلسلة الصحيحة - حديث (376) ". (¬2) متفق عليه (¬3) سورة البقرة آية 285

تحرير المسألة

عليه الصلاة والسلام كقوله (إنّ في ثقيف كذاباً ومبيراً) (¬1) ولم يقل عاقل من العقلاء فضلاً عن أن يدّعي عالم من علماء المسلمين المشهود لهم بالعلم والمعرفة أنه يجب على كل مسلم أن يعرف من هو كذّاب ثقيف ومبيرها، وأن يؤمن بأنهما (فلان وفلان) إيماناً جازماً لا يتسلل إليه فيه شك! فإنّ مثل هذا الكلام لا يقوله عاقل أبداً. وقد قال عليه الصلاة والسلام أيضاً (لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه) (¬2) ولم يقل أحد من الناس أنه يجب على كل مسلم أن يعرف ذاك القحطاني باسمه ونسبه وأرضه وإنما غرض مثل هذه الأحاديث الإخبار عن حدث سيحصل للأمة خيراً كان أو شراً. والأحاديث في ذلك كثيرة لمن أراد التتبع. تحرير المسألة روى سفينة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله -تعالى-، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله -تعالى-، ثم تكون ملكاً عاضاً (¬3)، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم ¬

_ (¬1) رواه مسلم - كتاب فضائل الصحابة - باب (ذكر كذاب ثقيف ومبيرها) - حديث رقم (2545). (¬2) رواه البخاري- كتاب الفتن- باب (لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل) - حديث رقم (2910). (¬3) روى الدارمي في سننه 2/ 155 عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة الجراح رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أول دينكم نبوة ورحمة ثم ملك ورحمة ثم ملك أعفر ثم ملك وجبروت يستحل فيها الخمر والحرير) فذكر (الملك والرحمة) بين خلافة النبوة والملك العضوض، والحديث ضعيف على أي حال لانقطاع السند ولو صح سنداً لجزمنا بشذوذه لمخالفته الروايات الصحيحة كرواية سفينة رضي الله عنه المذكورة.

يرفعها الله-تعالى-، ثم تكون ملكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله -تعالى ثم تكون خلافة على منهاج نبوة. ثم سكت) (¬1). فقد نص الحديث أولاً على مرحلة حكم النبوة والتي تمثلت في حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم مرحلة الخلافة على منهاج النبوة والتي تمثلت في خلافة الخلفاء الأربعة مضافة إليها خلافة الحسن بن علي بن أبي طالب (الخليفة الراشد الخامس). ثم مرحلة الملك العضوض والتي تمثلت بالفترة ما بعد خلافة الحسن إلى سقوط الخلافة العثمانية. ثم الحكم الجبري والذي تمثل بفترة ما بعد سقوط الخلافة وحتى خلافة المهدي (محمد بن عبد الله) أو قبلها بزمن حيث سيعود بالحكم إلى ما كانت عليه الخلافة الراشدة. الملفت للنظر في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام لما تكلم عن المرحلة التي تتلو مرحلة (الحكم الجبري) قال: (خلافة على منهاج النبوة) ولم يحددها بخليفة واحد وإنما أشار إلى مرحلة قد تحتمل وجود خليفة أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر. وهي مسألة غفل عنها الكثيرون - في رأيي - رغم وجود ما يشهد لها في السنة النبوية. فقد روى الإمام أحمد وأبو داود بسند ضعيف عن أم المؤمنين (أم سلمة) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله (يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من المدينة هارباً إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيُخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الركن والمقام فيُبعث إليهم جيش من الشام فيُخسف بهم بالبيداء). ¬

_ (¬1) رواه أحمد في المسند - حديث رقم (18430)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.

فقد نص هذا الحديث على أنّ خروج المهدي إنما يكون بعد موت خليفة للمسلمين مما يعني أنه ستكون هناك خلافة قائمة قبل المهدي لكنها خلافة مشبعة بظلم فيخرج المهدي بعد موت هذا الخليفة ليشيع العدل بين الناس بعد أن أُشيع فيها الظلم. وروى ابن ماجة والحاكم من طريق ثوبان، والإمام أحمد والحاكم من طريق أبي قلابة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله (يُقتل عند كنزكم ثلاثة، كلهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قِبل المشرق، فيقتلونكم قتلاً لم يُقتله قومٌ ثم ذكر شيئاً لا أحفظه، فقال: فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج، فإنه خليفة الله المهدي) (¬1). والحديث صحيح المعنى كما قال الشيخ الألباني دون زيادة (فإنّ فيها خليفة الله المهدي) لأنه لا يُقال في الشرع (خليفة الله) لما في ذلك من إيهام ما لا يليق بالله تعالى من النقص والعجز، وإنما يُقال (خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم). ورغم أنّ الحديثين لا يخلوان من كلام في السند أو المتن إلا أنهما يصلحان على الأقل كشاهدين للكلام الذي ذكرته في شرح حديث الإثني عشر. فمن ذا الذي يلزم حديث النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون خاصاً بالفترة ما بين أول خليفة راشد وحتى الخلافة الأموية أو العباسية أو يكتفي بالنظرة للأموية والعباسية ثم يخرج بنتيجة مضادة للحديث؟ ¬

_ (¬1) السلسلة الضعيفة 1/ 195

نعم ... من منا يستطيع الجزم بعدد الخلفاء الذين سيأتون في مرحلة (العودة إلى الخلافة على منهاج النبوة) حتى يناقش الأسماء اليوم ويجزم بأنّ فلاناً من الخلفاء الإثني عشر المذكورين في الحديث أم أنّ غيره أحق منه بذلك؟ الحديث نص على أمور لكنه لم يحدد فترة ولا أسماء حتى يُمكن لمعترض أن يختبر الناس في أسماء هؤلاء الخلفاء الإثني عشر! وقد أعجبني تعليق ابن كثير على هذا الحديث الشريف حيث لمست في كلامه بعده عن التعجل الذي وقع فيه بعض شراح الحديث. فقد قال رحمه الله في "تفسيره 2/ 34" (ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود إثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم بل قد وُجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة وبعض بني العباس، ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة. والظاهر أنّ منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره فذكر أنه يواطئ اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسمُ أبيه اسمَ أبيه فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً). حيث تتلمس تورّع ابن كثير عن حصر الخلفاء الإثني عشر بمن سبقه أو من عايشه من الخلفاء وإنما اكتفى بذكر من تم اتفاق العلماء عليهم وقال عن الباقي (ولا تقوم الساعة حتى ولايتهم لا محالة).

مع صحابة رسول الله

مع صحابة رسول الله ... {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} سورة التوبة آية 100

مع صحابة رسول الله ... كنت أتفكر كثيراً في اختلاف نظرتي أهل السنة والشيعة الإثني عشرية لصحابة رسول الله ... وكانت التساؤلات تحيط بي من كل جانب والأفكار تأخذني شرقاً وغرباً ... أقرأ لهذا وذاك ويرد التساؤل تلو التساؤل ... لم أترك باباً أستطيع طرقه إلا طرقته ... وشعرت أني خُضت بحراً كلما اقتربت من شاطئه زاد بُعده. لكن عناية ربانية انتشلتني إلى بر الأمان .. حينما تمسكت بقوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (¬1). لم تكن قراءاتي المتأنية وتساؤلاتي الجريئة لترسم لي وحدها طريق الحقيقة ... بل كان للعقل دوره في إثارة الكثير من علامات الاستفهام على كل ما أقرأه وأسمعه أو أشاهده. قرأت وفكّرت ... ناقشت ونوقشت ... وعشت الحرب بداخلي ... سنوات من الجدب تسبق المطر ... لكن الغيث قد يُنسيك أضعافاً مضاعفة من تلك الأيام المجدبة حينما تكتحل عيناك برؤية الحقيقة. كل ما عليك هو أن تتقدم خطوتين إلى الأمام .. تُفكر فيها ... وتحكّم ضميرك ... تتحرر من التعصب للمذهب .. وتكون وجهتك إلى الإسلام ... الدين الذي أمرك برمي أغلال التقليد للآباء والأجداد والتمسك بالدليل والبرهان حيثما كان. فعلت ذلك ... ووُجهت لي الاتهامات من متعصبة الفريقين، أرادوا لي أن أكون نسخة منهم لا أن أكون نبض ضمير المسلم المتجرد .. لقد علمت أنّ الشرع لا يُحابي أحداً، وأنّ ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت آية 69

حوار مع زميل

الحق حكر للدليل والبرهان لا حكراً على الأشخاص، فلست إمعة إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت معهم ... طريقي ضيق بين طرفي نقيض لكني أرى فيما بعده اتساعاً وراحة للضمير. وكعلمي بأهمية التجرد للحق ونبذ هوس التعصب أدركت كذلك أنّ الحوار نعمة رفع من شأنها الإسلام، وأنه جدير بالمرء أن يشكر نعمة الله عليه، ويكون شكره عز وجل من خلال استشعار نعمته وأهميتها، ومن لا يدرك النعمة فكيف له أن يشكر واهبها وأن يتنعم بها؟ حوار مع زميل قُلتُ لصاحبي ذات مرة: (لو كتب الله عز وجل لك أن ترى رجلاً قيادياً صالحاً، عليه سيما الإيمان والتقوى وأنوارهما، قد منّ الله تعالى عليه بفراسة وذكاء بحيث يستطيع معرفة أهل النفاق من أتباعه الحقيقيين من لحن قولهم، لكنك علمت بعد ذلك أنّ هذا الرجل الصالح قد أعرض عن أهل الصلاح من قومه مختاراً أهل النفاق والضلال، فسوّدهم على الناس، معطياً إياهم أهم المناصب القيادية الدينية منها والدنيوية، بل إنه لم يكتفِ بإعطائهم تلك المناصب وبتقريبهم إليه بل صاهر بعضهم وجعلهم من خاصة أصحابه الذين يخرج معهم ويروح، ويهاجر معهم ويجاهد، مع علمه بنفاقهم وعلمه بنفاق بناتهم اللاتي صرن زوجاته! ثم علمت أنّ ذاك الرجل الصالح قد مات وهنّ على ذمته، ينطقن باسمه ويتكلمن بالدين ويُفتين للناس من بعده، والناس لثقتهم وإجلالهم لهذا الرجل الصالح قد وثقوا بمن قربهم وسوّدهم عليهم، فالصالح لا يتعمد اختيار الخبثاء إلا لخبث طرأ عليه أو شهوة

عارضة أو غفلة أو غباء، والرجل الذي نتكلم عنه هو أعظم وأشرف في أعينهم من أن يُظن به ذلك. ثم علمت يا صاحبي أنّ هؤلاء المنافقين الذين مكّن لهم هذا الرجل الصالح قد تسلطوا على العباد وسلبوا المؤمنين حقهم وأساؤوا إليهم وأفسدوا في البلاد حتى صار المؤمن خائفاً على نفسه من الهلاك وعرضه من الانتهاك ودينه من الانحراف فلجأ إلى التقية والمداراة، فما قولك فيمن فعل هذا بقومه؟ قال صاحبي: أراه إما خبيثاً فاجراً استغل ثقة الناس به أسوأ استغلال أو جاهلاً مغفلاً استخدمه عدوه أبشع استخدام. قلت: فلان، قال: نعم قلت: ألا ترى أنّ الشخصية التي تشتمها وتتهمها بالسَّذاجة أو بالخبث هي نفس الشخصية التي يريدنا الشيعة الإثنا عشرية من حيث لا يشعرون أن نجعلها شخصية أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم! إنك شتمت تلك الشخصية وأنت مدرك أنها شخصية رجل صالح فقط لا دخل له بالوحي من قريب ولا بعيد، شخصية غير معصومة، قد تستقيم يوماً وتعتريها الشهوة غداً فكيف بنا ونحن نتكلم عن خليل الرحمن وخاتم الأنبياء والمرسلين؟! إننا ندرك أنّ ختم نبوته صلى الله عليه وآله وسلم يقتضي بقاء دينه بلا تحريف ولا عبث من بعده، وكيف يتأتى ذلك والشيعة الاثنا عشرية يجعلونه مصاهراً للمنافقين وزوجاً للمنافقات؟! فالشيعة الإثنا عشرية يرون أنّ رسول الله قد صاهر منافِقَيْن هما (أبو بكر وعمر) وزوّج ابنتيه إلى منافق وهو (عثمان)، وتزوج هو صلى الله عليه وآله وسلم منافِقَتيْن هما (عائشة

وحفصة) اللتان سُمّيتا في القرآن بـ (أمهات المؤمنين) بقوله تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}! وتولى خالد بن الوليد قيادة جيشه ... منافق آخر في القائمة! وكل هؤلاء يشتمهم الشيعة الإثنا عشرية ويقولون بردتهم. إنّ هؤلاء بالإضافة إلى آخرين كالزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وغيرهم ممن يعدّهم الشيعة الإثنا عشرية من جملة المنافقين هم في الحقيقة أهل النفوذ في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي اختارهم وأبرزهم هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا أحد غيره. وقد مات هذا النبي الكريم وخلّفهم من بعده وسلّمهم زمام الأمور، فمن المخطئ ومن المصيب؟ رسول الله أم الشيعة الإثنا عشرية؟ أخبرني بصراحة، وحكّم ضميرك وانس النظرة الطائفية الضيّقة وحكّم عقلك، فأنا لا أخاطبك من منطلق عصبية مذهبية ولكني أخاطبك كمسلم لا يرتضي هذا الطرح في رسول الله ولا في أصحابه. هل أخطأ رسول الله في الزواج من عائشة؟ هل أخطأ في اختيار رفيق دربه في الغار وفي الهجرة إلى المدينة؟ هل أخطأ في مصاهرتهم جميعاً؟ هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى المسلم عن جلساء السوء وزوجة السوء ثم يختار هو أهل نفاق وردة وضلال؟!! إنك لتعجب وأن تسمع وتقرأ ما يقوله الشيعة الإثنا عشرية في صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حجم التناقض بين معتقدهم في صحابة الرسول وبين اعتقادهم بأنّ الأنبياء والأوصياء يعلمون الغيب بإذن الله، فمن يعلم الغيب ويعلم ما في اللوح المحفوظ وما كان وما يكون كما في روايات الشيعة، كيف يُمكن أن يجهل ويغفل عن البشر الذين يتعامل معهم فيُقرّب منهم من لا يستحق التقريب؟!

المرء على دين خليله

يعتقد الشيعة الإثنا عشرية أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الإثنى عشر أطهار، وهم يصرّحون بتنزيههم جميعاً عن الأقذار صغيرها وكبيرها بل عن الخطأ والنسيان لكنهم في الوقت ذاته ينسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخطأ والغفلة والقذر بإدعائهم أنه غفل وأخطأ في اختيار من يُقرّب من أصحابه ومن يُصاهر منهم! صمت صاحبي برهة ثم قال لي: معك حق. كان صادقاً مع نفسه ... لم يجد حرجاً في الاعتراف بحقيقة جسّها ضميره .. ولا يعيب الإنسان أن يبحث ويفكر بهدوء بعيداً عن البطانة التي يقودها التعصب والهوى والتي تسوّل له الاستمرار في الخطأ. ما أحوجنا إلى هذا التجرد، وما أحوجنا إلى التفكر في الطريق الذي نسير فيه .. قبل أن نهلك أو يعمّنا الهلاك. المرء على دين خليله هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... وتلك وصيته الخالدة في أن لا يصحب المؤمن التقي إلا أهل الإيمان والتقوى وأن لا يقترن الصالح إلا بامرأة صالحة تحفظه في دينه ودنياه. روى الطوسي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل). (¬1) ¬

_ (¬1) أمالي الطوسي ص518 حديث رقم (1135).

وحديثه صلى الله عليه وآله وسلم عن الجليس الصالح والجليس السوء أشهر ما يكون، إذ يقول: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يُحرق ثيابك وإما أن تجد ريحاً خبيثة) (¬1). وعلى هذا النسق توالت الأحاديث النبوية وكذا أحاديث الأئمة. فقد روى الإمام الصادق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أولى الناس بالتهمة من جالس أهل التهمة) (¬2). ويقول الإمام علي فيما كتبه إلى الحارث الهمداني: (واحذر صحابة من يقبل رأيه ويُنكر عمله، فإنّ الصاحب معتبر بصاحبه) (¬3). ويقول الإمام جعفر الصادق: (خمس خصال من فقد منهن واحدة لم يزل ناقص العيش زائل العقل، مشغول القلب، فأولها صحة البدن، والثانية الأمن، والثالثة السعة في الرزق والرابعة الأنيس الموافق، قلت: وما الأنيس الموافق؟ قال: الزوجة الصالحة، والولد الصالح والخليط الصالح، والخامسة وهي تجمع هذه الخصال: الدعة) (¬4)، فكيف يصح في العقل أن ينسب الشيعة الإثنا عشرية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (الزوجة السوء) و (الخليط السوء) ثم يدّعون بعد ذلك أنهم لاينسبون إلى رسول الله السوء؟! ¬

_ (¬1) مجموعة ورام 2/ 266 باب (ذكر جمل من مناهي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه). (¬2) بحار الأنوار 72/ 90 ومعاني الأخبار ص196 (¬3) بحار الأنوار 71/ 199 ومستدرك الوسائل 8/ 335 (باب تحريم مصاحبة الكذّاب) حديث رقم (9590). (¬4) الخصال ص284 (خمس خصال من لم تكن فيه واحدة) حديث رقم (34) وبحار الأنوار 71/ 186

وعن الإمام جعفر الصادق أيضاً أنه قال: (لا تصحب الفاجر فيعلمك من فجوره، ثم قال: أمرني والدي بثلاث ونهاني عن ثلاث (¬1)، فكان فيما قال لي: يا بني مَنْ يصحب صاحب السوء لا يسلم (¬2)، ومن يدخل مداخل السوء يُتهم ومن لا يملك لسانه يندم) (¬3). وقد روي عن نبي الله سليمان عليه السلام أنه قال: (لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا إلى من يصاحب، فإنما يُعرف الرجل بأشكاله وأقرانه، ويُنسب إلى أصحابه وأخدانه) (¬4) فما أعظمه من حديث وما أقواها من دلالة. وفي هذا يقول الشاعر: ... عن المرء لا تَسَلْ وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي بعد استعراض هذه الروايات ماذا يستطيع أن يقول المرء عن صحابة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن الرجل الذي اختارهم ورضي بصحبتهم وقرّبهم وصاهرهم أو كانوا أصهاراً له؟! أولى الناس بالتهمة من جالس أهل التهمة ... لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا إلى من يصاحب، فإنما يُعرف الرجل بأشكاله واقرانه، ويُنسب إلى أصحابه وأخدانه ... ما صدى هذه الكلمات في نفسك وفي ضميرك؟ ¬

_ (¬1) لاحظ أنّ الوصية هنا من الإمام الباقر إلى ابنه الإمام الصادق – وكلاهما معصومان عند الشيعة الإثني عشرية – فانظر إلى حرص الباقر على الصحبة الصالحة وانظر بالمقابل إلى الذين ينسبون إلى رسول الله أنه ما أحسن اختيار أصحابه ولا أصهاره ولا حتى زوجاته! ولا حول ولا قوة إلا بالله (¬2) نعم لا يسلم من يصاحب صاحب السوء، لا يسلم من تشويه السمعة، ومن الاتهام بالباطل، ومن نسبة أفعال صاحبه إليه. (¬3) بحار الأنوار 71/ 191 (¬4) بحار الأنوار 71/ 188 عن كنز الفوائد للكراجي

ماذا عن امرأتي نوح ولوط عليهما السلام؟

ما أثر هذه الكلمات في نفس مسلم يرى صحابة نبيه في قفص الاتهام .. وليته كان اتهاماً فحسب بل هو القذف الصريح لهذه الفئة المختارة بالفسق والكفر والردة! قد حكم الإمام الصادق بزوال عقل وانشغال قلب ونقصان عيش من افتقد الزوجة الصالحة والخليط الصالح، فإلى ماذا ينسب علماء الشيعة الإثني عشرية رسولنا الكريم وهم يدّعون أنّ زوجته كانت ضالة أو كافرة وأنّ أصهاره وخلطاءه كفار ومرتدون على أعقابهم؟! أسئلة ترد على البال ومن حق كل مسلم أن يثيرها ويُحاكم فيها ضميره ... إنه الاختلاف الجذري بين رؤية أهل السنة والجماعة إلى صحابة رسول الله وزوجاته وبين رؤية الشيعة الإثني عشرية ... هذه مقدّمته والكلام في تفاصيله أعظم دلالة على الحق وبياناً للجرم. ماذا عن امرأتي نوح ولوط عليهما السلام؟ لعل قائلاً يقول: هذا نوح ولوط عليهما السلام قد قال الله تعالى عن زوجتيهما {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} (¬1) فكيف لا تُتصور الخيانة في زوجات النبي عليه الصلاة والسلام؟ أقول: قد ثبت عند أولي الألباب أنّ الله عز وجل قد نزّه نوحاً ولوطاً عليهما السلام من هاتين المرأتين في حياتهما، فشهد هذان النبيان الكريمان عقاب الله لتينك المرأتين، وطهرهما الله عز وجل منهما، فتبيّن من ذلك أنه لو كان في زوجة من زوجات رسول الله صلى الله عليه وآله ¬

_ (¬1) سورة التحريم آية 10

وسلم ما يوجب تنزيه رسول الله عنهن أو التبرأ منهن لحصل ذلك في حياة رسول الله فلما لم يحصل ذلك، ثبت أنهنّ أهل لميثاق الزواج الذي جمعهن برسول الله. كيف لا وقد خيّرهن الله تعالى بين زينة الدنيا ومتاعها وبين الارتباط برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة فقال في سورة الأحزاب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً. وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً}. فاخترن جميعاً الله ورسوله والدار الآخرة، ولو قُدّر أنّ إحداهن اختارت ذلك وأضمرت في نفسها نفاقاً لأظهر الله تعالى ذلك لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم لئلا يغتر بها مغتر، فمكان الأزواج من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عظيم. وعجيب أن يدندن الشيعة الإثنا عشرية حول آية التطهير وحول معنى تطهير الله لأهل البيت، ثم لا يعتقدون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد أهل بيته وخيرهم وأطهرهم قد طهّره الله عز وجل من الاقتران بالمنافقات والفاسدات! ولسنا ندّعي بذلك أنّ زوجات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معصومات لا يُخطئن بل هنّ كغيرهنّ من المؤمنات الصالحات القانتات، يخطئن ويصبن، يعصين ويتبن، لكن لم ولن تبلغ إحداهنّ ما يدّعيه الشيعة الإثنا عشرية فيهن ولا معشاره (¬1). ¬

_ (¬1) يكفي أن تتصفح الكتب الشيعية التي تكلمت عن أم المؤمنين عائشة لترى العجب العجاب! فهذا البياضي يسميها في كتابه الصراط المستقيم باسم (أم الشرور) طاعناً في كتاب الله الذي سماها باسم (أم المؤمنين) في قوله الله تعالى عن النبي والمؤمنين {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم} والمجلسي يصفها بالنفاق وذاك يجوّز لعنها، والقمي يروي في تفسيره ما يطعن في عرضها رضي الله عنها، وكلٌ يدلو بدلوه باسم حب أهل البيت وحب علي بن أبي طالب، وأهل البيت من هذا المعتقد وأصحابه براء.

ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين فلا نبي بعده ولا وحي بعده، فكيف يجوز لعاقل أن يتصور أن تُترك لزوجاته فرصة الخيانة والارتداد من بعده وهنّ أمهات للمؤمنين ومكانهنّ من رسول الله يوجب هلاك الأمة للاغترار بقربهنّ من رسول الله؟! إنّ مثل هذا الكلام لا يقوله عاقل أصلاً. هذا وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} (¬1) والشيعة الإثنا عشرية يتهمون أم المؤمنين عائشة تارة بالكفر وتارة بالنفاق، فكيف جاز لرسول الله أن يبقيها زوجة له. وقد روى علي بن إبراهيم القمي والحر العاملي عن الإمام الباقر في قوله تعالى {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} يقول: (من كانت عنده امرأة كافرة، يعني على غير ملة الإسلام وهو على ملة الإسلام فليعرض عليها الإسلام، فإن قبلت فهي امرأته وإلا فهي بريئة منه، فنهى الله أن يستمسك بعصمتها) (¬2). فأم المؤمنين عائشة إن كانت كافرة أو مرتدة أو منافقة – برأها الله من هذا الإفك – ففي جميع الحالات كان من الواجب تطليقها التزاماً لكتاب الله، اللهم إلا إذا كان رسول الله المبلّغ عن الله لم يعلم نفاقها وعَلِمَ ذلك علماء الشيعة، فتلك مسألة أخرى! ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة آية 10 (¬2) تفسير القمي 2/ 363 ووسائل الشيعة 20/ 542

حديث (قرن الشيطان) هل أريد به عائشة رضي الله عنها؟

حديث (قرن الشيطان) هل أُريد به عائشة رضي الله عنها؟ وما دام الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فلا بأس أن نقف عند شبهة يكررها خصوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجه. فقد ذكر لي أحدهم يوماً أنّ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها موسومة بأنها رأس الكفر بنصّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! فقلت له: هات ما عندك لنرى. فجاء بحديث البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة، فقال: هنا الفتنة ثلاثاً من حيث يطلع قرن الشيطان) (¬1). فقلت له: وأين الشاهد؟ قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد وصفها بأنها قرن الشيطان حينما أشار إلى مسكنها. فقلت له: هناك فرق في اللغة العربية بين (نحو) وبين (إلى) والحديث فيه (فأشار نحو بيت عائشة) لا (فأشار إلى بيت عائشة)، وهذا أمر يدركه من له أدنى بمعرفة باللغة العربية لكن يبدو أنّ بغضك وحقدك على أم المؤمنين عائشة قد أعمى قلبك وبصرك. ولأسألك سؤالاً يُجلي لك الحقيقة أقول فيه: (أتُرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُشير إلى بيت عائشة وإلى كونها قرن الشيطان ثم يُساكنها في بيت واحد وفي حجرة واحدة؟) ¬

_ (¬1) رواه البخاري-كتاب فرض الخمس- باب (ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم) - حديث رقم (3104)

لأنسى أم المؤمنين عائشة التي افتريتَ عليها ولأسألك: (أهذه قيمة رسولنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نظرك؟ يرتضي المبيت مع امرأة بهذا المستوى؟). والله لو حكّمت عقلك لا هواك لما نطقت بهذه الضلالة. والحديث الذي ذكرته قد ورد عن عبد الله بن عمر كذلك بصيغة أخرى تبين أنّ المراد من الإشارة نحو بيت عائشة إنما هو الإشارة إلى المشرق وما عُرف في أرض المشرق من القلاقل والفتن التي أنهكت الأمة، فالقدرية والخوارج والكيسانية والمعتزلة وغيرهم كلهم قد خرجوا من جهة المشرق (¬1). فقد روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشير إلى المشرق، فقال: ها إنّ الفتنة ها هنا، إنّ الفتنة ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان) (¬2). ثم أليس بيت عائشة هو بيت رسول الله كذلك؟! أيزعم هؤلاء بأنّ بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو قرن الشيطان - عياذاً بالله؟! إنّ الذي يصدق عليه مسمى (قرن الشيطان) لهو الفكر الذي يوجّه سهامه وبكل ضراوة تجاه زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بهذه الصورة. ¬

_ (¬1) ولا يعني ذلك أن لا يخرج في تلك الأراضي الأئمة والعلماء والصالحون فهؤلاء معلومون لكن القصد هو الإشارة إلى الصفة الغالبة لتلك الأراضي. (¬2) رواه البخاري - كتاب بدء الخلق - باب (صفة إبليس وجنوده) - حديث رقم (3279).

أم المؤمنين عائشة وموقعة الجمل

إنّ هؤلاء الطاعنين لم يتناسوا القيم والأخلاق مع رسول الله ومع زوجاته وأصحابه فقط بل تناسوا قول الله عن نبيه {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} (¬1) فإذا كانت زوجته رمزاً للخيانة وكذا أصحابه فأي ذكر يذكر به الذاكرون محمداً صلى الله عليه وآله وسلم؟! أم المؤمنين عائشة وموقعة الجمل قال لي أحدهم يوماً في مجلس جمعني به: إنك تمتدح عائشة ولا ترتضي الطعن فيها! فقلت: وما الضير في هذا وهي زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأم المؤمنين بنص القرآن، إنما الخلل فيمن يطعن فيها ويتجاسر عليها! فقال: أما تعلم أنها خرجت على إمام زمانها أمير المؤمنين عليه السلام؟ أما فعلت في موقعة الجمل كذا وكذا؟ فقلت له: إنّ الأدلة التي تحتج بها على إدانة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي نفسها أدلة إدانتك من حيث لا تدري. لست بصدد تحليل خروج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مع من معها إلى العراق أصواب هو أم خطأ؟ وما أسباب ذلك الخروج؟ فمن المتفق عليه أنّ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ليست معصومة، فهي لذلك تصيب وتخطئ كسائر المؤمنين، وإنما سأقول لك بكل صراحة ووضوح: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخبر عن خروجها إلى العراق في حديث الحوأب المروي عند السنة والشيعة هو نفسه الذي رضي بها زوجة له وأحبها وقرّبها إليه. ¬

_ (¬1) سورة الشرح آية 4

فهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخطئاً حينما ارتضاها لنفسه وأحبها وهو يعلم أنها ستختلف مع علي وسيدور بينهما قتال؟ هل تظن في نفسك الورع والتقوى أكثر من رسول الله كي تنزه نفسك عن الزواج من مثيلاتها وهي الطاهرة النقية التي اختارها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكون رفيقة دربه في حين أنك تنسب لرسول الله ما تنزه نفسك عنه؟! هل أنت أتقى وأنقى وأورع وأعقل من رسول الله الذي استبقاها معه حتى وفاته؟! فصمت الرجل ولم يستطع أن يقول شيئاً. وكيف لعاقل أن ينطق بغيرهذه الحقيقة؟! مَنْ مِنْ هؤلاء الشتامين اللعانين يجرؤ على ادعاء أنه أكثر فهماً وإدراكاً ووزناً للأمور من رسول الله؟ ليأت هذا الرجل وليقلها على الملأ ليعرف الناس حقيقته بدلاً من تعمية الحقائق والطعن المبطن في رسول الله وفي زوجاته وفي أصحابه. بعدها استئنفت كلامي قائلاً: الآن حان الوقت لنقاش موضوع (موقعة الجمل) معك، ما دليلك على أنّ أم المؤمنين عائشة فعلت كذا وكذا في موقعة الجمل؟ ستقول لي وبكل ثقة: التاريخ. وسأجيبك قائلاً: أي تاريخ هذا؟ ما الرواية التاريخية التي استندت إليها في فهمك لحادثة (الجمل)؟ إنّ أغلب أحداث موقعة الجمل انفرد بروايتها (سيف بن عمر الضبّي) وهو كذّاب مشهور، منصوص على كذبه عند جمع من علماء أهل السنة وعند الشيعة الإثني عشرية أيضاً!

وإنّ كتب التاريخ التي تُقرأ اليوم كـ"البداية والنهاية" لابن كثير و"الكامل في التاريخ" لابن الأثير و"المنتظم" لابن الجوزي وغيرها كلها معتمدة على رواية (سيف بن عمر الضبّي) المذكورة في "تاريخ الطبري" وإنّ هؤلاء الذين يكثرون من تسطير أسماء كتب التاريخ في الحواشي بُغية إعطاء نوع من المصداقية لما ينقلونه من مطاعن في الصحابة يجهلون أو ربما يتجاهلون أنّ أغلب هذه الكتب إنما تنقل عن "تاريخ الطبري" اعتماداً على رواية سيف المشار إليها، ولهذا لا يصح أن يحتج محتج بما تضمنته تلك الرواية بحجة أنها مذكورة في الكتاب التاريخي الفلاني دون النظر إلى إسنادها وعرضها على مائدة النقد العلمي. كيف والرواية انفرد بذكرها (سيف بن عمر الضبّي) وهو كذاب مشهور؟! قال فيه أبو نعيم الأصبهاني: (متهم في دينه مرمي بالزندقة ساقط الحديث، لا شيء). وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. وقال أبو حاتم: متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي. وقال الدارقطني: متروك الحديث، وفي قول آخر له: ضعيف، وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عدي: (بعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة لم يتابع عليها) أما الشيعة، فرأيهم في (سيف بن عمر) واضح وجلي لا يحتاج إلى إثبات. فقد ألف مرتضى العسكري كتابه "عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى" اعتماداً على فكرة أساسية هي كون (سيف بن عمر الضبّي) وهو الراوي الوحيد لقصة ابن سبأ مطعون فيه عند علماء الجرح والتعديل عند السنة والشيعة (¬1). ¬

_ (¬1) انفرد سيف بن عمر بذكر الدور الخارق لابن سبأ في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، ولا بد أن نفرّق بين انفراده بذكر الدور الخارق لابن سبأ وبين صحة وجود شخصية باسم (عبد الله بن سبأ)، فإنّ هذه = ... = الشخصية ثابتة بلا ريب بروايات سنية في تاريخ ابن عساكر وغيره -بعضها صحيح السند- وبروايات شيعية –بعضها صحيح السند عند علماء الشيعة - في رجال الكشي والغارات للثقفي وغيرهما، وأقوال العلماء المتقدمين من السنة والشيعة في وجود هذه الشخصية وفي كون إطارها الحقيقي إنما هو الغلو في الإمام علي والطعن في الشيخين مما لا ينكره إلا أحد إثنين: إما جاهل بأقوالهم أو معاند مكابر. وقد كفانا الشيخ علي آل محسن- وهو من علماء الشيعة المعاصرين- مؤونة التفصيل إذ قال في كتابه "لله وللحقيقة ص34" في رده على (حسين الموسوي): (وإنّ العجب ممن يدَّعي الفقاهة والاجتهاد كيف تخفى عليه مسألة بسيطة من أبسط المسائل الرجالية، وهي أنّ المشهور الذي كاد أن يكون إجماعاً بين علماء وفقهاء الإمامية قديماً وحديثاً أنّ عبد الله بن سبأ شخصية كان لها وجود، وقد نصَّ العلماء على ذلك في كتبهم الرجالية المعروفة)، ويقول أيضاً في ص36: (إنّ مشهور علماء الشيعة- ومن جملتهم كاشف الغطاء- قد ذهبوا إلى وجود عبد الله بن سبأ، وأنه ادّعى الألوهية لأمير المؤمنين عليه السلام فأحرقه بالنار في جملة رجال ادّعوا ذلك معه، وهذا يعرفه كل من بحث في كتب الرجال وتفحّص الأقوال).

وهو ما قرره آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي في "معجم رجال الحديث 11/ 207" بقوله: (إنّ أسطورة ابن سبأ وقصص مشاغباته الهائلة موضوعة ومختلقة اختلقها سيف بن عمر الوضاع الكذّاب)، فإذا كان الأمر كذلك، فما بالكم تكيلون بمكيالين؟! حينما يكون الكلام عن ابن سبأ يكون (سيف بن عمر الضبي) كذّاباً وحينما يكون الكلام عن أم المؤمنين عائشة تكون الرواية صحيحة ومُلزمة (¬1) وبهذا تنالون من زوجة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم (¬2)؟! ¬

_ (¬1) لا يعني كلامي هذا إنكار ما تواتر في التاريخ من وقوع موقعة الجمل ومشاركة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيها وإنما الكلام عن تفاصيل تلك الموقعة التي نالها الكثير من التزييف من جهة الوضاعين والمغرضين. (¬2) وينبغي لي أن أسجل اعتراضاً أيضاً على بعض المؤلفين الذين اعتمدوا على روايات سيف بن عمر الضبي في موضوع (مقتل عثمان بن عفان) حيث إنّ رواية سيف للأحداث تخالف الروايات الصحيحة في مقتل عثمان وفيها من تضليل الحقائق ولمز بعض الصحابة كعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري وأم المؤمنين عائشة وغيرهم ما لا يتنبه له إلا المتمعن في مضمون الروايات ومخالفتها لما صح من التاريخ.

مع مبغض لعمر بن الخطاب رضي الله عنه

مالكم تركتم الثوابت وتعلقتم بالأكاذيب؟ أما قال الله تعالى عن زوجات نبيكم {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} فأثبت أنّ عائشة وحفصة وسودة وأم سلمة وميمونة وغيرهن هن أمهات للمؤمنين، ويلزم من ذلك أنّ من رفض أمومة هؤلاء الزوجات فهو جاحد للنص القرآني كافر به؟ إنّ تتبع المتشابه وترك المُحكم الواضح دليل صارخ على الزيغ عن الهدى كما قال الله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة} (¬1). مع مبغض لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد صدور الطبعة الأولى من كتابي هذا، ذهبت كعادتي إلى بعض المكتبات الشيعية لاقتناء بعض الكتب التي كانت تنقص مكتبتي. وعند ركن من أركان المكتبة حيث كنت أتأمل بعض الكتب العقائدية والتاريخية خرقت سمعي عبارة غريبة مصدرها رجل كان بجانب البائع. ورغم أني لم أكن منتبهاً لكلام الاثنان بل كنت منهمكاً في تصفح الكتب والاطلاع على فهارسها إلا أنّ هذه العبارة استرعت انتباهي للكلام الذي كان يدور بينهما. عبارة (إنه ابن صهاك) مع شيء من الضحك تلتها إشارة صوتية من البائع للرجل بأن يصمت، وكأنّ البائع يقول له: انتبه، في المكتبة سني! هذا ما سمعته ... ثم عاد الكلام بينهما لكن بعيداً عن الكلام عن (صهاك)، وقد كنت حينها قد اخترت الكتب التي أريد اقتنائها ووقفت عند البائع. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية 7

عند هذه اللحظة بدأت نفسي تتجاذبني، أأتكلم وأُنكر عليهما ما ذكراه في حق صحابي جليل كـ (عمر بن الخطاب) نصر الله به الإسلام والمسلمين، ونال شرف مصاهرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له أم أكتفي بالصمت ما دام الموضوع بينهما وهما على عقيدة ترتضي مثل هذه الأمور (¬1)؟ لكني أشفقت عليهما من الاغترار بالباطل وسلوك طريقه، ورأيت أنّ من واجبي أن أنصحهما، فقلت: المعذرة على المقاطعة لكن لدي كلمة أود أن أقولها. فقال البائع: تفضل. ¬

_ (¬1) إني وأنا أتحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الكتاب استشعر حنق القارئ الشيعي الإثني عشري عليه وربما عليّ أيضاً لتمجيدي ومدحي لمثل هذه الشخصية، فشخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه عالقة بالذهن الشيعي بقصة الاعتداء على الزهراء وإسقاط جنينها كما تذكر ذلك بعض الروايات البائسة التي لا ترتقي لمستوى الاعتبار لا سنداً ولا متناً، وقد قمت بدراسة روايات هذه الأسطورة في أدبيات الفريقين ونقدها نقداً علمياً متناً وسنداً، وسأرفق هذا المبحث في كتاب لي عن فاطمة الزهراء رضي الله عنها أسأل الله تعالى أن ييسر لي الانتهاء منه وإخراجه في أقرب فرصة ممكنة. ولهذا أقول للقارئ الشيعي الذي يزعجه الثناء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إنّ الشخصية المرسومة في الذهن الشيعي عن هذا الصحابي الكبير ليس بالضرورة أن تكون صحيحة، فبين عمر وبين نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه وآل بيته مصاهرتان تشهدان بإيمان وجلالة قدر عمر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حفصة بنت عمر رضي الله عنهما دليل واضح على عمق العلاقة بينهما، وزواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما دليل محبة وود متبادل بين عمر وعلي، وما الثناء الذي يذكره كتاب "نهج البلاغة" الشيعي في عمر بن الخطاب -كما سيأتي- إلا دليل آخر على عمق العلاقة بينهما وعلى زيف قصة الاعتداء على الزهراء، والتي شكك فيها بعض كبار علماء الشيعة مثل المرجع الديني الكبير محمد حسين فضل الله، فما أحلى أن نضع الأمور في نصابها الصحيح بعيداً عن التطرف والتمسك بالأساطير.

قلت: أسألك بالله تعالى ... لو أنّ يهودياً أو نصرانياً قال لكما: أيها المسلمون، إنكم تعتقدون بأنّ نبيكم محمداً قد صاهر عمر بن الخطاب، وتدّعون في الوقت ذاته بأنّ عمر بن الخطاب الذي صاهره نبيكم هو ابن زانية اسمها (صهاك) (¬1) وأنّ أباه أنجبه من زنية بصهاك. ويشهد قرآنكم بأنّ أزواج نبيكم هنّ أمهات للمؤمنين، ويشهد التاريخ بأنّ حفصة بنت عمر بن الخطاب هي زوجة نبيكم وهي حسب دعواكم من نسل صهاك! فأي نبي هذا الذي تدعوننا إلى اتباعه وهو يرتضي لنفسه مثل هذا النسب؟! بعدها نظرت إلى الرجل الذي كان يحدّث البائع فإذا بوجهه قد تلون، وشعرت حينها أنّ كلماتي على بساطتها ورغم هدوئي النسبي في طرح الفكرة كانت شديدة الوطأة عليه والتأثير فيه، فأتممت كلامي قائلاً: والله إني لا أكلمكما من منطلق كوني منتسباً إلى أهل السنة والجماعة أو إلى غيرهم ... إنما أنا مسلم يغار على دينه وعلى رسوله، والله إنكم لتسيئون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمثل هذه الدعاوى الباطلة التي تطلقونها على زوجاته وأصهاره. لقد بالغتم في موضوع الإمامة حتى أخرجتم الخلاف فيها عن الحد المعقول ... قلتم: اغتصب الصحابة الخلافة وطعنتم في عدالتهم وقلتم عنهم (انقلبوا على أعقابهم)، فحاولنا تقبل هذا منكم على مضض، لعلنا نصل وإياكم في الحوار إلى حل، لكن لماذا الكلام في الأعراض؟! ثم وجهت كلامي للبائع وقلت: أسألك سؤالاً وأود منك أن تجيبه بكل صراحة ووضوح. ¬

_ (¬1) الكشكول للبحراني 3/ 212 وكتاب (لقد شيعني الحسين) ص177

قال لي وقد بدى على وجهه الإحراج: تفضل. قلت: لو عُرضت عليك امرأة منحدرة من عائلة معروفة بالزنا، أو لنقل من عائلة تنتسب إلى زانية، أكنت تقبل بها زوجة لك؟ قال: معاذ الله .. لا أقبل بها بلا شك. قلت: إذن كيف زعمتم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارتضى لنفسه أن يصاهر عمر بن الخطاب، وعمر - في زعمكم- هو ابن زانية؟! أتراك أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نزّهت نفسك عن أمر ارتضيته فيه أم ماذا؟ حينها قال لي البائع: ليس كل ما في الكتب صحيح، وهؤلاء أصحاب الرسول وبينهم وبينهم مصاهرات، ونحن لا نطعن في نسب عمر بن الخطاب! نظرت إليه وقلت في نفسي: (سبحان الله .. منذ قليل كان يتكلم هو وصاحبه في عمر بن الخطاب بكل وقاحة، والآن تغير الأمر، وصار عمر من قرابة الرسول ومن الصحابة الكرام، أي عقيدة هذه التي تعلم المرء أن يتلون كالحرباء بدل أن يكون صريحاً وواضحاً أمام نفسه وأمام الآخرين)! هكذا بكل بساطة أنكر الرجل ما يعرفه يقيناً عن طعن الطائفة في نسب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكني آثرت على نفسي أن لا أجادله في أمر ينكره ظاهراً حتى لو كان يعتقده بالباطن، فكذّبت أُذناي وصدّقته وأوكلت نيته إلى رب العباد. ثم قلت له: لا بأس .. إنّ كلامي كان إجمالياً، وليس من الضرورة أن يكون موجهاً إليكما طالما أنكما لا تعتقدان مثل هذا الاعتقاد، ثم دفعت قيمة الكتب التي كانت معي وخرجت من المكتبة.

شرعنة الكذب وعقلنة اللامعقول!

شرعنة الكذب وعقلنة اللامعقول! لا يوجد دين من الأديان أو أمة من الأمم تقدّس الكذب وتُعطي له الشرعية والمصدّاقية باستثناء الشيعة الإثني عشرية! لقد كنت في بداية دخولي هذا المعترك الصعب أستغرب قول تقي الدين ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية 1/ 58": (وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أنّ الرافضة (¬1) أكذب الطوائف والكذب فيهم قديم ولهذا كان أئمة الإسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب) بل وأعتبره من الأقوال المتشددة المتشنجة التي تمليها عادة التعصبات المذهبية القائمة آنذاك، لكني سبرت هذا القول وتفحصته جيداً فوجدته دقيقاً! فعلماء الشيعة الإثنا عشرية ومراجعهم الكبار يسبغون على الكذب صفة الشرعية ويجاهرون بذلك دون استحياء. فقد سُئِل آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي: هل يجوز الكذب على المبتدع أو مروّج الضلال في مقام الاحتجاج عليه إذا كان الكذب يدحض حجته ويبطل دعاويه الباطلة؟ فأجاب: إذا توقف رد باطله عليه جاز (¬2)! ¬

_ (¬1) أطلق علماء أهل السنة والجماعة هذا المصطلح على الشيعة الإمامية لاعتبارات منها: أنهم رفضوا الإمام الجليل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما تولّى الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لبغضهم لهما فسمّاهم الإمام زيد بالرافضة، وقيل: إنما سمّوا رافضة لرفضهم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. انظر: "مجموع الفتاوى 4/ 435" و"العبر 1/ 28". (¬2) صراط النجاة في أجوبة الاستفتائات 1/ 447 سؤال رقم (1245).

ولذلك لا تعجب من كثرة الأكاذيب التي شُحنت بها كتب الإثني عشرية ولا كثرة الكذب على الخصوم وعلى الصحابة بالذات إن عجز العالم الشيعي عن إثبات اعتقاده أو الرد على ما يثيره الخصوم. نعم، لا تعجب إن مرّت بك روايات شيعية صحيحة الإسناد عند الطائفة لا تكذب على الخصوم ولا الصحابة بل تتجاوز ذلك لتكذب على الكواكب والمجرّات الأخرى! روى الكليني عن عجلان أبي صالح قال: دخل رجل على أبي عبد الله (ع) فقال له: جعلت فداك، هذه قبة آدم عليه السلام؟ قال: نعم، ولله قباب كثيرة، ألا إنّ خلف مغربكم هذا تسعة وثلاثون مغرباً أرضاً بيضاء مملوّة خلقاً يستضيئون بنوره لم يعصوا الله عز وجل طرفة عين، ما يدرون خُلق آدم أم لم يُخلق، يبرؤون من فلان وفلان! قال المجلسي: قوله عليه السلام (من فلان وفلان) أي من أبي بكر وعمر (¬1). مخلوقات في كواكب أخرى ... لكنها تتبرأ من أبي بكر وعمر!! إنّ مثل هذه الروايات مسطّرة في بعض أبرز كتب الحديث المعتمدة عند الشيعة الإثني عشرية وقد حكم عليها بعض المحققين من علماء الإمامية بالصحة والاعتبار كالمجلسي في كتابه "مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول" وقد تتبعت هذه الرواية فوجدتها قد رويت بعدة أسانيد وألفاظ متقاربة المعنى بلغت عند الشيخ الصفّار وحده (إثني عشر رواية) (¬2)! ¬

_ (¬1) الكافي – كتاب الروضة – حديث (301)، قال المجلسي في (مرآة العقول 26/ 167 - 168): صحيح. (¬2) بصائر الدرجات ص509 (باب في الأئمة أنّ الخلق الذي خلف المشرق والمغرب يعرفونهم ويأتونهم ويبرؤون من أعدائهم).

المحقق الثاني وعادة لعن الشيخين (أبي بكر وعمر)!!

هكذا تمتزج الخرافة بالعقيدة، وتتجسد نزعات التشفي في أصحاب رسول الله! فلا حول ولا قوة إلا بالله ... المحقق الثاني وعادة لعن الشيخين (أبي بكر وعمر)!! مِنَ الناس من يُذكر بعد رحيله عن الدنيا بقيام ليلٍ يُضرب به المثل أو بصيام نهار وعبادة يعجب منها المقصّر. لكننا أمام نموذج لسبّابٍ لعّان، ترك لنا ميراثاً ثقيلاً حمل وزره عند ربه يوم يلقاه. هو الشيخ المحقق الكركي العاملي الذي ترجم له العلامة الشيعي عباس القمّي واصفاً إياه بأنه (مروّج المذهب والملة، ورأس المحققين الأجلة، شيخ الطائفة في زمانه وعلامة عصره وأوانه، الشيخ الأجل نور الدين علي بن عبد العالي الكركي العاملي) (¬1). ذكر يوسف البحراني في "لؤلؤة البحرين" تحت ترجمة (نور الدين علي بن عبد العالي المشهور الآن بالمحقق الثاني) نقلاً عن نعمة الله الجزائري ما نصه (وكان - رحمه الله - لا يركب ولا يمضي إلا والباب يمشي في ركابه مجاهراً بلعن الشيخين ومن على طريقتهما)! ويبدو أنّ عادة لعن الشيخين كان تستهويه جداً إلى حد تصنيفه كتاباً في ذلك سمّاه (رسالة نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت) (¬2) ذكره البحراني من جملة مصنفاته. (¬3) فعجباً لتلك القلوب كم فيها من أحقاد ... لكن ما سيأتي بعده أعجب منه ... ¬

_ (¬1) الكنى والألقاب 3/ 161 (¬2) يريد بالجبت (أبو بكر) وبالطاغوت (عمر) عياذاً بالله. (¬3) لؤلؤة البحرين ص153

أحسن طريقة لسب صحابة نبيك!!

أحسن طريقة لسب صحابة نبيك!! لو سألت عالماً شيعياً من أولئك الذين يُكثرون لعن الشيخين وسائر الصحابة في الحسينيات أو في المجالس الخاصة أو في التسجيلات الصوتية المُسجّلة لهم: هل سببت يوماً أبا لهب أو أبا جهل أو غيرهم من كفار مكة لارتسمت على وجهه علامة الاستغراب، إذ أنّ هذه الشخصيات التي آذت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحاربت الإسلام بكل ما أُوتيت من قوة هي شخصيات ليست ذات أهمية بالنسبة له! فهؤلاء قد بُرمِجوا أو لِنقل برمَجوا أنفسهم على أنّ أعداءهم الأولين والآخرين هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين صاهر منهم من صاهر وقرّب منهم من قرّب واختص منهم من اختص! فإذا كان المحقق الكركي قد أخذ على عهده أن يلعن الشيخين الجليلين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قياماً وقعوداً وعلى جنبه فإنّ العلامة الشيعي الكبير محمد نبي التوسيركاني الملقّب عند الطائفة بـ (عمدة العلماء والمحققين) لديه طريقة مبتكرة لإكرام صحابة نبيه صلوات ربي وسلامه عليه، فما هي تلك الطريقة؟ يقول التوسيركاني في كتابه "لئالي الأخبار 4/ 92": (اعلم أنّ أشرف الأمكنة والأوقات والحالات وأنسبها للعن عليهم - عليهم اللعنة - إذا كنت في المبال، فقل عند كل واحد من التخلية والاستبراء والتطهير مراراً بفراغ من البال، اللهم العن عمر ثم أبا بكر وعمر ثم عثمان وعمر ثم معاوية وعمر ثم يزيد وعمر ثم ابن زياد وعمر ثم ابن سعد وعمر ثم شمراً وعمر ثم عسكرهم وعمر. اللهم العن عائشة وحفصة وهنداً وأم الحكم والعن من رضى بأفعالهم إلى يوم القيامة)!!! تباً لك ... هكذا سوّل لك شيطانك هذه الجهالات فأعماك وأصمّك فتنكّبت الطريق ...

وكأني بالإمام محمد بن صُبيح بن السماك (¬1) يرد على التوسيركاني ومن يحذو حذوه قائلاً "علمت أنّ اليهود لا يسبون أصحاب موسى عليه السلام- وأنّ النصارى لا يسبون أصحاب عيسى - صلى الله عليه وسلم - فما بالك يا جاهل سببت أصحاب محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – وقد علمت من أين أُتيت، لم يشغلك ذنبك ... أما لو شغلك ذنبك لخفتَ ربك، لقد كان في ذنبك شغل عن المسيئين فكيف لم يشغلك عن المحسنين، أما لو كنت من المحسنين لما تناولت المسيئين ولرجوت لهم أرحم الراحمين، ولكنك من المسيئين، فمن ثَّم عبت الشهداء والصالحين، أيها العائب لأصحاب محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – لو نمت ليلك وأفطرت نهارك لكان خيراً لك من قيام ليلك وصوم نهارك مع سوء قولك في أصحاب محمد، فويحك! لا قيام ليلٍ ولا صوم نهار وأنت تتناول الأخيار، فأبشر بما ليس فيه البشرى إن لم تتب مما تسمع وترى" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في تاريخ بغداد 5/ 368 (¬2) رواه المعافى بن زكريا الجريري في كتابه الجليس الصالح (2/ 392) بأطول من هذا.

{قُلْ بِئْسَمَا يَامُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِين} أيها الناس ... لنكن أكثر صراحة مع بعضنا البعض، إنّ مشكلتنا الحقيقية التي لا يمكننا التغاضي عنها ولا تجميلها مهما حاولنا ذلك ونحن نفتح هذا الملف الصعب والمتشعب هي أننا نجابه خصوماً غير نزيهين، خصوماً نجزم بأنهم ما اشتمّوا في حياتهم رائحة الأدب ولا الأخلاق ولا النزاهة ولا الشرف، أقولها هكذا بكل صراحة ووضوح ودون أن أشعر بالذنب، وإلا فبماذا يمكنك أيها القارئ مهما كان انتماؤك العقائدي أو الفكري أن تعلق على ما يقوله محمد طاهر الشيرازي ومُفلح البحراني وعالم سبيط النيلي عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ تعال فلننظر ماذا يقولون ويترّهون: ذكر الشيخ محمد طاهر الشيرازي النجفي (¬1) في كتابه "الأربعين في إمامة الأئمة الطاهرين" تحت عنوان: (في ذكر نسب أبي بكر وبيان دناءته وخساسته): إنّ أبا قحافة أبا أبي بكر كان أجيراً لليهود يُعلّم لهم أولادهم فاشتهر عنه أنه كان يلوطهم ... وكان أبو قحافة في قريش مشهوراً باللواط. ¬

_ (¬1) محمد طاهر بن محمد حسين الشيرازي النجفي القمي، والشيرازي نسبة إلى بلده شيراز، والنجفي نسبة إلى النجف حيث كان منشأه ومراحل تحصيله واكتسابه العلوم والمعارف فيها، وله إجازة من بعض الأعلام فيها والقمي نسبة إلى بلدة قم، وذلك لأنه بعد اتمام مراحل تحصيله في النجف الأشرف انتقل إلى قم وصار زعيماً ومرجعاً فيها، وحظي بمرتبة شيخ الإسلام! وإمام الجمعة والجماعة فيها! وكان رئيساً مطاعاً فيها! قال فيه المولى الأردبيلي في "جامع الرواة 2/ 133" بعد ذكر اسمه: (مد ظله العالي، الإمام العلامة المحقق المدقق، جليل القدر عظيم المنزلة، دقيق الفطنة، ثقة، ثبت، عين، دين، متصلب في الدين، لا تحصى مناقبه وفضائله، جزاه الله تعالى أفضل جزاء المحسنين)!!

وأم أبي بكر سلمى من ذوات الأعلام في مكة، وكانت لها راية في الأبطح لأنّ العرب كانوا يأنفون من أن تنازلهم البغايا فكانوا يبعدونا عن قرب منازلهم، وكانت رايتها حمراء تدل على فجورها وعهرها) (¬1). وقال تحت عنوان (بيان دناءة عمر وقلة حيائه وسوء مولده): (إنّ عمر كان قبل الإسلام نخاس الحمير، أبو عمر بن الخطاب قطعت يده في سوق عكاظ، ومن قلة حياء عمر أنه قال على المنبر: ألا إني فسوت وها أنا أنزل لأعيد الوضوء) (¬2)! وقال عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: (إنّ عثمان ممن يُلعب به ويتخنّث وكان يضرب بالدف) (¬3). أما الشيخ مُفلح بن حسن الصميري البحراني (¬4) فقد ذكر في كتابه (إلزام النواصب بإمامة علي بن أبي طالب عليه السلام) نقلاً عن الإخباري هشام بن محمد بن السائب الكلبي (¬5) أنّ أبا قحافة (والد أبي بكر الصدّيق) كان أجيراً لليهود يُعلّم أولادهم! (¬6) وأنّ عفان (أبو عثمان) كان ممن يُلعب به ويُفتحل به (¬7)! ¬

_ (¬1) الأربعين 509 - 532 (¬2) الأربعين ص573 - 575 (¬3) الأربعين ص579 (¬4) مُفلح بن الحسن الصميري البحراني، ترجم له العلامة علي البلادي البحراني في "أنوار البدرين ص69" فقال: (وهذا الشيخ من رؤساء الطائفة المحقة وفتاويه كثيرة منقولة مشهورة في كتب الأصحاب كالجواهر والمقاييس ومفتاح الكرامة وغيرها)، وقال عنه الحر العاملي في "أمل الآمل 2/ 324": (فاضل علامة فقيه). (¬5) قال عنه السمعاني في "الأنساب 5/ 86": (يروي عن أبيه ومعروف مولى سليمان والعراقيين العجائب والأخبار التي لا أصول لها) و (كان غالياً في التشيع، أخباره في الأغلوطات أشهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفها). (¬6) إلزام النواصب ص162 (¬7) إلزام النواصب ص165

وأنّ أم طلحة بن عبيد الله كانت من البغايا وذوات الرايات في الجاهلية (¬1)! أما عالم سبيط النيلي فيقول عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إني أُنبّه السادة علماء النفس إلى ضرورة تخصيص دراسة كاملة عن أثر الحِرمان الجنسي على سلوك عائشة!) (¬2). شُلّت ألسِنتكم ولُعِنتم بعدد قِطرْ السماء وحبات الرمل ... لا رحمكم رب السماوات والأرضين ... أمحمد رسول الله يُقال في عِرضه وفي أصهاره وأصحابه مثل هذه الكلمات القذرة؟! أيها الناس ... إن لم تكن مثل هذه الكلمات التي يشيب لها الرأس وتأنف من سماعها الأفئدة الحرة الشريفة زندقة فلا أدري ما الزندقة ... إنّ هؤلاء تجاسروا على عقيدة الإسلام وعلى التاريخ وعلى الصحابة وعلى كل شيء، حتى الأخلاق والقيم لم تسلم منهم! إنّ أقذر مشرك على وجه الأرض من أي ملة كانت لم يتكلم في عِرض نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الأسلوب فكيف بهؤلاء وهم يزعمون أنهم مسلمون ويحبون آل البيت! كيف نعيب على الدنمارك شتمهم لرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثم نسكت عن هؤلاء الذين يقولون في عِرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما هو أشنع وأزرى؟! لكن ... ليس ما ذكرته آنفاً إلا القليل النادر مما زخرت به كتب الشيعة الإثني عشرية في حق أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أعرضت عن الكثير خشية الإطالة وفيما يلي هذه السطور ما يدمي قلوب المؤمنين. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ص173 (¬2) الشهاب الثاقب للمحتج بكتاب الله في الرد على الناصب أحمد الكاتب ص276

تشبيه الاسترابادي أم المؤمنين عائشة بحيوان!

تشبيه الاسترابادي أم المؤمنين عائشة بحيوان! لقد أثبت الله عز وجل لأم المؤمنين عائشة زوجة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مقاماً عرفه المسلمون ونصّ عليه مخالفوها، فقال عز من قائل {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (¬1). فعائشة هي أم المؤمنين بنص كتاب الله شاء الشيعة الإثنا عشرية أم أبوا، ولن يستطيع أحد محو هذه الآية لا من الأذهان ولا من الصدور ولا من رسم المصحف. كانت أحب زوجاته له بعد خديجة بنت خويلد .. وإن حاول أحد سلبها هذا الحب كنحو سلبه إياها الفضائل التي ذُكرت فيها، فلن يستطيع أحد سلب ميثاق الزواج الذي جمعها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت واحد وتحت سقف واحد. تلك الأم التي نالت من العقوق والنكران لحقها ما لم تنله أمٌّ على وجه الأرض. لكنها في نظر الإمام علي على خلاف ما يتوقعه الشيعة أنفسهم، فقد عَرف الإمام علي لأم المؤمنين عائشة حقها وقدّرها التقدير المناسب لمثلها، فأكرمها وردّها إلى بيتها معززة مكرّمة عارفاً لحقها ومقامها عند الله وعند رسول الله، راداً على المتجاسرين عليها من الخوارج وضعاف النفوس، وهذا منصوص عليه في كتب السنة والشيعة. روى النوري الطبرسي (¬2) في "المستدرك"عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه لما هزم أهل الجمل، جمع كل ما أصابه في عسكرهم مما اجلبوا به عليه، فخمّسه وقسّم أربعة أخماسه ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب آية 6 (¬2) الحسين بن محمد تقي بن علي محمد النوري الطبرسي، ترجم له تلميذه الطهراني في "نقباء البشر 2/ 545" فقال: (كان الشيخ النوري أحد نماذج السلف الصالح التي ندر وجودها في هذا العصر، فقد امتاز بعبقرية فذة، وكان آية من آيات الله العجيبة، كمنت فيه مواهب غريبة، وملكات شريفة أهلته لأن يُعدّ في الطليعة من علماء الشيعة الذين كرّسوا حياتهم طوال أعمارهم لخدمة الدين والمذهب، وحياته صفحة مشرقة من الأعمال الصالحة)! وقال عنه الشيخ عباس القمي في "الكنى والألقاب 2/ 445": (شيخنا الأجل ثقة الإسلام الحاج ميرزا حسين بن العلامة محمد تقي النوري الطبرسي صاحب "مستدرك الوسائل"،شيخ الإسلام والمسلمين، مروج علوم الأنبياء والمرسلين الثقة الجليل والعالم الكامل النبيل، المتبحر الخبير، والمحدث الناقد البصير، ناشر الآثار وجامع شمل الأخبار، صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة والعلوم الغزيرة، الباهر بالرواية والدراية، والرافع لخميس المكارم أعظم راية، وهو أشهر من أن يذكر وفوق ما تحوم حوله العبارة). قلت: وهو مؤلف كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" ألفه لإثبات دعواه الآثمة الفاجرة بأنّ القرآن الكريم محرّف! كما سيأتي تحت عنوان (من المرتد؟ صحابة رسول الله أم هؤلاء؟) فقارن بين صنيعه هذا وبين ثناء الطهراني والقمي عليه ثم احمد الله على نعمة الإسلام والإنصاف.

على أصحابه ومضى (¬1)، فلما صار إلى البصرة قال أصحابه: يا أمير المؤمنين، اقسم بيننا ذراريهم وأموالهم، قال: ليس لكم ذلك، قالوا: وكيف أُحلت لنا دماؤهم ولم تحلل لنا سبي ذراريهم؟ قال: حاربنا الرجال فقتلناهم، فأما النساء والذراري فلا سبيل لنا عليهنّ، لأنهن مسلمات وفي دار هجرة، فليس لكم عليهنّ من سبيل وما أجلبوا به واستعانوا به على حربكم وضمّه عسكرهم وحواه فهو لكم، وما كان في دورهم فهو ميراث على فرائض الله، لذراريهم وعلى نسائهم العدّة، وليس لكم عليهنّ ولا على الذراري من سبيل، فراجعوه في ذلك، فلما أكثروا عليه قال: هاتوا سهامكم، فاضربوا على عائشة أيّكم يأخذها وهي رأس الأمر؟!) فقالوا: ¬

_ (¬1) المتفق عليه أنه لا تُغنم أموال البغاة ولا تُخمّس لأنهم مسلمون بل ولا يجوز إتلافها وإنما يجب أن ترد إليهم لكن ينبغي أن يحبس الإمام أموالهم دفعاً لشرهم بكسر شوكتهم حتى يتوبوا.

نستغفر الله، قال: فأنا أستغفر الله فسكتوا ولم يتعرض لما كان في دورهم ولا لنسائهم ولا لذراريهم (¬1). قلت: ولو كانت أم المؤمنين عائشة عند أحد أدعياء التشيع اليوم لما عرف لها حقها ولا مكانتها ولربما كان أول من يُفتي بجواز سبيها وتعذيبها بل وقتلها. لكن أيها المسلم ... يا من تشهدت بشهادة أن (لا إله إلا الله. وأنّ محمداً رسول الله) .. أستحلفك بالله الذي رفع السماء بغير عَمَد ... أتستطيع أن تتصور رجلاً يدّعي الإسلام وموالاة أهل البيت يُمكن لقلمه أن يخط وصفاً قبيحاً لزوجة النبي الذي يدّعي أنه يؤمن به؟ واصفاً تلك الأم الطاهرة بأنها (حيوان ضعيف)!! روى شرف الدين الحسيني الاسترابادي (¬2) عن سالم بن مكرم عن أبيه قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول في قوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} (¬3) قال: هي الحميراء. ثم قال الاسترابادي معلّقاً: (ومعنى هذا التأويل إنما كنى عنها بالعنكبوت، لأنّ العنكبوت حيوان ضعيف اتخذت بيتاً ضعيفاً أوهن البيوت وأضعفها لا يجدي نفعاً ولا ينفي ضرا وكذلك الحميراء حيوان ضعيف لقلة حظها وعقلها ودينها اتخذت من رأيها الضعيف وعقلها السخيف في مخالفتها وعداوتها لمولاها بيتاً مثل بيت العنكبوت في الوهن والضعف ¬

_ (¬1) مستدرك الوسائل 11/ 56 (باب حكم سبي أهل البغي وغنائمهم) - حديث رقم (1). (¬2) شرف الدين علي الحسيني الاسترابادي النجفي، ذكر آغا بُزُرك الطهراني في "الذريعة إلى تصانيف الشيعة 3/ 304" أنه (تلميذ المحقق الكركي، وقد توفي سنة 940هـ). (¬3) سورة العنكبوت آية 41

لا يجدي لها نفعاً بل يجلب عليها ضرراً في الدنيا والآخرة، لأنها بنته على شفا جرف هار فانهار بها في نار جهنم، هي ومن أسس لها بنيانه وشد لها أركانه وعصى في ذلك ربه وأطاع شيطانه واستغوى لها جنوده وأعوانه فأوردهم حميم السعير ونيرانه، وذلك جزاء الظالمين والحمد لله رب العالمين) (¬1). لست هنا في مقام الدفاع عن أم المؤمنين عائشة، فمقام تلك الأم وشرفها محفوظ بحفظ مقام زوجها نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والطعن فيها طعن في الرجل الذي ارتضاها زوجة له حتى وفاته!! كما إنني لست بصدد مناقشة الدعوى التي ادّعاها الرجل، لأنّ النقاش مع أناس عشعش الغل في قلوبهم، وتربوا على البحث عما يشفي غليلهم بأي طريقة كانت ولو بالتلاعب بآيات القرآن، نقاش لا جدوى من ورائه. لكني أوجه رسالة إليك أيها العاقل .. في أن تبرأ إلى الله من العقيدة التي تتبنى مثل هذا الفكر .. لا تكلّف نفسك ما لا تطيقه ... أتراك تطيق موقفاً يكون خصمك فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ ... يقتص لزوجته منك ويتبرأ من فعلك ويتخلى عنك ويتركك وحيداً مع الذين تسوقهم الملائكة إلى النار، وهي تقول لرسول الله (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك). ¬

_ (¬1) تأويل الآيات الظاهرة ص422 وبحارالأنوار 32/ 286 نقلاً عنه وعن كنز الفوائد.

سب صحابة رسول الله كفر عند أئمة أهل البيت

سب صحابة رسول الله كفر عند أئمة أهل البيت لقد كان أئمة أهل البيت عليهم السلام والرضوان يجلون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إجلالاً عظيماً، ما كانوا يرضون بالتطاول الذي نراه اليوم على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا الجرأة غير المعهودة في الكلام عنهم. فقد رووا عن جدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم تكفيره لساب أصحابه واستحقاقه الحد عقوبة على تطاوله على الصحابة (¬1). فقد روى الحر العاملي في "وسائل الشيعة 28/ 213" والمجلسي في "بحار الأنوار 76/ 222" نقلاً عن صحيفة الرضا عليه السلام أنه روى عن آبائه عليهم السلام أنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سبّ نبياً قُتل، ومن سبّ أصحابي جُلِد). وروى الشيخ محمد السبزواري في كتابه "جامع الأخبار" عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من سبني فاقتلوه ومن سب أصحابي فقد كفر). وفي خبر آخر: (من سب أصحابي فاجلدوه) (¬2). وقد نقل آية الله العظمى محمد صادق الروحاني في "فقه الصادق (ع) " عن "مسالك الأفهام" للشهيد الثاني قوله: (وفي إلحاق باقي الأنبياء عليهم السلام بذلك قوة لأنّ كمالهم وتعظيمهم عُلِم من دين الإسلام ضرورة فسبهم ارتداد ظاهر) ثم علّق عليه بقوله: (ولكن في صدق الارتداد في جميع الموارد إشكالاً، ثم إنّ المرتد لا يجوز قتله مطلقاً. فالصحيح أن ¬

_ (¬1) رغم أنّ ساب الصحابي كافر - كما في الرواية المشار إليها - إلا أنّ حد ساب الصحابي هو الجلد لا القتل لاعتبار مهم أشار إليه الإمام جعفر الصادق في إحدى رواياته وهو (التفريق بين التطاول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي يستحق فاعله عليه القتل وبين التطاول على غيره). (¬2) جامع الأخبار ص456 (الفصل الخامس والعشرون والمائة: في السب).

الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) يتبرأ من مبغضي الصحابة

يُستدل له بالنبوي الخاص "من سبّ نبياً قُتل ومن سب صاحب نبي جُلد)، المنجبر بالفتوى) (¬1). أقول: وفي اعتداد مرجع تقليد كبير كالروحاني بهذا الحديث في هذا المورد المهم بالذات ما يفيد حجيته عنده، لكن أين واقع السَّبابين الشتامين اللّعانين اليوم من هذا كله؟ وأين دور الروحاني نفسه من إنكار ظاهرة سب الصحابة عند الشيعة؟ هذا إن لم يكن هو نفسه أولهم سباً ولعناً للصحابة! الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) يتبرأ من مبغضي الصحابة قَدِم على الإمام زين العابدين نفر من أهل العراق فقالوا له في أبي بكر وعمر وعثمان كلاماً قبيحاً فلما فرغوا من كلامهم قال لهم الإمام زين العابدين: (قال تعالى {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} - الآية تعني المهاجرين- قال الإمام زين العابدين لهم: أأنتم هؤلاء؟ قالوا: لا، ثم تلا زين العابدين الآية التي بعدها {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الفَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} - الآية تعني الأنصار- فقال الإمام زين العابدين: أأنتم هؤلاء؟ قالوا: لا، قال الإمام زين العابدين: أما أنتم قد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم {وَالَّذِينَ ¬

_ (¬1) فقه الصادق (ع) 25/ 476

من هو جد الإمام جعفر الصادق؟

جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا} (¬1) اخرجوا عني، فعل الله بكم!) (¬2). من هو جد الإمام جعفر الصادق؟ إنه أبو بكر الصدّيق ... حقيقة أشبه بالخيال، هل يمكن أن يكون الرجل الذي تلعنه الشيعة الإثنا عشرية ليل نهار هو جد أحد أئمتها؟ وهل يُعقل أن يفخر هذا الإمام الذي تعتقد الشيعة الإثنا عشرية فيه العصمة بمن تلعنه الشيعة الإثنا عشرية ويكنّ له كل التقدير والوفاء؟! أمر غريب بالفعل! وهل يُعقل أن يطعن البحراني والشيرازي وأمثالهما في نسب وعِرض جد الإمام جعفر الصادق الذين يدّعون الانتساب إلى مذهبه؟! ذاك أمر أعجب! لقد كان جعفر الصادق يفخر قائلاً: (لقد ولدني أبو بكر مرتين) (¬3) وذلك لأنّ نسبه ينتهي إلى أبي بكر من طريقين: الأول: عن طريق والدته أم فروة (قريبة) بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر. الثاني: عن طريق جدته أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر (هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر. ¬

_ (¬1) سورة الحشر آية 10 (¬2) كشف الغمة في معرفة الأئمة 2/ 291 (¬3) المصدر نفسه 2/ 374

ولم يكن أبو عبد الله ليفتخر بأبي بكر إلا لشرف هذا النسب وشرف الانتساب لرجل بإيمان أبي بكر وفي عطائه للإسلام والذب عن دين الله. وفي ذلك يقول الشيخ الرضي: وحُزْنا عتيقاً وهو غاية فخركم ... بمولد بنت القاسم بن محمد يقول العلامة الشيعي محمد صالح الحائري المازندراني (¬1) في رسالته "منهاج عملي للتقريب": (إنّ الإمام جعفر بن محمد الصادق وولده المعصومين من ولد إمامهم الأعظم أبي بكر الصديق من قبل أمه، فإنّ أمه أم فروة بنت القاسم الفقيه ابن محمد بن أبي بكر وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصّديق، وهي بنت عم القاسم المذكور، فالإمام محمد بن علي الباقر صهر الصّديق على ابنة حفيده القاسم، وكان يقول جعفر بن محمد (ولدني أبو بكر مرتين) يعني بهما محمداً والقاسم) (¬2). ويقول المولى علي محمد التبريزي الأنصاري في "اللمعة البيضاء": (وإنه كان يقال للصادق عليه السلام كثيراً: أنت ابن الصدّيق، لأنّ أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وزوجة القاسم كانت بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان (ع) يقول: ولدني أبو بكر مرتين) (¬3). لكن هذا الحفيد الذي تتناقل كتب الشيعة الإثنى عشرية افتخاره بجده أبي بكر هي ذاتها التي تتناقل سب وشتم جد إمامها وتتفاخر بلعنه! فإنا لله وإنا إليه راجعون. ¬

_ (¬1) من كبار علماء (سمنان) بإيران (¬2) مسألة التقريب بين المذاهب لعبد الله العلايلي. (¬3) اللمعة البيضاء ص41

حب الإمام علي للصحابة

حب الإمام علي للصحابة بين ركام هائل من الروايات الشيعية الشاتمة لصحابة رسول الله، والأدعية اللاعنة لهم تبقى حقيقة لن تخفيها تلك المرويات، حقيقة الحب الذي يكنه علي بن أبي طالب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تلك الذكريات وتلك المشاهد العظيمة التي شاركهم فيها جنباً إلى جنب، وبقيت في ذاكرته وأمام عينيه لحظة بلحظة وحادثة بحادثة، على عكس الأطروحة الشيعية التي لا تظهر علاقته بهم وبالأخص الخلفاء الثلاثة إلا بمظهر البغضاء والتنافر ولا تصوره إلا بصورة الحاقد الصامت الذي لا يتعامل معهم بحضرتهم إلا بتقية وحذر ولا يتحدث عنهم من ورائهم إلا بسوء ولعن وكلام يُنبئ عن رغبة في الانتقام! الصورة الحقيقية الناصعة البياض تبقى وما سواها يطيش، إنها تتجلى في أهم كتاب عند الشيعة الإثني عشرية "نهج البلاغة"، تلك النصوص كفيلة بهدم الأطروحة القائمة على لعن وسب صحابة رسول الله والقول بردتهم وانقلابهم على أعقابهم من بعده! ولنقف مع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقفة تأمل وهو يصوّر لنا صحابة رسول الله كما رآهم وعاينهم، فيقول: (لقد رأيت أصحاب محمد فما أرى أحداً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سُجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم كأنّ بين أعينهم ركب المعزى (¬1) من طول سجودهم ¬

_ (¬1) ركب جمع ركبة موصل الساق من الرجل بالفخذ. وإنما خص ركب المعزى ليبوستها واضطرابها من كثرة الحركة، أي أنهم لطول سجودهم يطول سهودهم، وكأنّ بين أعينهم جسم خشن يدور فيها فيمنعهم عن النوم والاستراحة.

نهج البلاغة والثناء العطر على عمر بن الخطاب!

إذا ذُكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء الثواب) (¬1). وهو يتحسر على فراقهم ويرثيهم بعد موتهم كحال أي محب فارق من يحبه فيقول: (أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرأوا القرآن فأحكموه وسلبوا السيوف أغمادها وأخذوا بأطراف الأرض أطرافها زحفاً زحفاً وصفاً صفاً، مُره العيون من البكاء، خُمص البطون من الصيام، ذُبل الشفاه من الدعاء، صُفر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين، أولئك إخواني الذاهبون، فحق لنا أن نظمأ إليهم، ونعضّ الأيدي على فراقهم) (¬2). نهج البلاغة والثناء العطر على عمر بن الخطاب! قد يبدو غريباً أن يحتوي نهج البلاغة على مدح عمر بن الخطاب لكنها الحقيقة التي لم يستطع إغفالها حتى الشيخ الرضي مؤلف كتاب "نهج البلاغة" رغم انتسابه إلى الشيعة الإثني عشرية. وهنا حُق للعاقل أن يتأمل هذه المسألة جيداً وأن يُذعن للحقيقة كي لا يكون ممن قال الله تعالى فيهم {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}؟ (¬3) هذا علي بن أبي طالب يخاطب عمر بن الخطاب بعد أن استشاره في غزو الروم فيقول: (إنك متى سرت إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة (¬4) دون ¬

_ (¬1) نهج البلاغة ص189 - خطبة رقم (97). (¬2) نهج البلاغة ص234 - خطبة (121). (¬3) سورة الأحزاب آية 67 (¬4) عاصمة يلجؤون إليها، من كنفه أي صانه وستره، وفي هذا إقرار بشرعية خلافة عمر، فتأمل.

أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء (¬1) والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تُحب، وإن تكن الأخرى، كنت ردأً (¬2) للناس ومثابة (¬3) للمسلمين) (¬4). ويخاطب عمر قائلاً: (فكن قطباً، واستدر الرحا بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك. إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكَلِبهم عليك وطمعهم فيك) (¬5). ويمدح عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد موته قائلاً: (لله بلاء فلان (¬6)، فلقد قوّم الأود (¬7)، وداوى العمد (¬8)، وأقام السنة، وخلّف الفتنة (¬9) ذهب نقي الثوب، وقليل العيب. ¬

_ (¬1) أهل المهارة في الحرب، والبلاء: هو الإجادة في العمل وإحسانه. (¬2) الردء بالكسر هو الملجأ (¬3) المثابة: المرجع (¬4) نهج البلاغة - خطبة رقم (134) (ومن كلام له وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم). (¬5) نهج البلاغة - خطبة رقم (146) (ومن كلام له (ع) وقد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه) (¬6) أي لله ما فعل من الخير (¬7) قوّم الاعوجاج (¬8) العمد – بالتحريك -: العلة (¬9) أي تركها خلفه، لا هو أدركها ولا هي أدركته

أصاب خيرها، وسبق شرها. أدّى إلى الله طاعته، واتقاه بحقه. رحل وتركهم في طرق متشعبة، لا يهتدي بها الضال، ولا يستيقن المهتدي) (¬1). يقول ابن أبي الحديد تعليقاً على هذا النص في "شرحه لنهج البلاغة": (ويروى (لله بلاء فلان) أي: لله ما صنع، وفلان المكنى عنه عمر بن الخطاب، وقد وجدت النسخة التي بخط الرضي أبي الحسن جامع نهج البلاغة وتحت فلان عمر، حدثني بذلك فخّار بن معد الموسوي الأودي الشاعر. وسألت عنه النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي، فقال لي: هو عمر فقلت له: أيثني عليه أمير المؤمنين (ع) هذا الثناء، قال: نعم، أما الإمامية فيقولون إنّ ذلك من التقية واستصلاح أصحابه!! وأما الصالحيون من الزيدية فيقولون إنه أثنى عليه حق الثناء ولم يضع المدح إلا في موضعه ونصابه. وأما الجارودية من الزيدية فيقولون إنه كلام قاله في أمر عثمان أخرجه مخرج الذم له والتنقص لأعماله كما يُمدح الآن الأمير الميت في أيام الأمير الحي بعده فيكون ذلك تعريضاً به!!! فقلت له: إلا أنه لا يجوز التعريض والاستزادة للحاضر بمدح الماضي إلا إذا كان ذلك المدح صدقاً لا يخالطه ريب ولا شبهة، فإذا اعترف أمير المؤمنين بأنه أقام السنة وذهب نقي الثوب قليل العيب وأنه أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه فهذا غاية ما يكون من المدح، وفيه إبطال قول من طعن في عثمان بن عفان، لم يجبني بشيء، وقال: هو ما قلت لك! ¬

_ (¬1) نهج البلاغة – خطبة رقم (228) (ومن كلام له (ع) في الثناء على عمر بن الخطاب).

فأما الراوندي فإنه قال في الشرح: (إنه (ع) مدح بعض أصحابه بحسن السيرة وإنّ الفتنة هي التي وقعت بعد رسول الله من الاختيار والأثرة، وهذا بعيد لأنّ لفظ أمير المؤمنين يشعر إشعاراً ظاهراً بأنه يمدح والياً ذا رعية وسيرة، ألا تراه كيف يقول (فلقد قوّم الأود وداوى العمد وأقام السنة وخلف الفتنة) وكيف يقول (أصاب خيرها وسبق شرها) وكيف يقول (أدى إلى الله طاعته) وكيف يقول (رحل وتركهم في طرق متشعبة)) (¬1). وليس هذا الثناء العطر حبيس تلك الكلمات فقد أثنى علي بن أبي طالب رضي الله عنه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعبارات أخرى سطّرها التاريخ، ومنها قوله في نهج البلاغة: (ووليهم وال فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه) (¬2). يقول ابن أبي الحديد: (الجران مقدم العنق، وهذا الوالي هو عمر بن الخطاب) (¬3). وليس أدل على هذه العلاقة الطيبة المتينة بين عمر وعلي من تزويج علي ابنته أم كلثوم لعمر بن الخطاب كما اعترفت بذلك كتب ومصادر الشيعة الإثني عشرية (¬4). ¬

_ (¬1) شرح نهج البلاغة 12/ 3 (¬2) نهج البلاغة ص107 (باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام) رقم (467). (¬3) شرح نهج البلاغة 20/ 218 (¬4) إنّ هذا الزواج يبطل الروايات المكذوبة والتي تحكي أنّ عمر بن الخطاب ضرب فاطمة برجله حتى سقط جنينها!! هب أنّ رجلاً ضرب زوجتك وتسبب في قتل ولدك، هل تزوجه من ابنتك؟!! وهل ترضى أن يكون صهرك؟!! بل وتسمي أحد أبنائك باسمه!! للاطلاع على هذه الحقيقة التاريخية يمكنك مراجعة كتاب (زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب- حقيقة لا افتراء) للأستاذ السيد أحمد إبراهيم الإسماعيلي.

هل يسمي الرجل أبناءه بأسماء أعدائه؟!

هل يُسمّي الرجل أبناءه بأسماء أعدائه؟! ربما يتفاجأ كثير من عامة الشيعة اليوم عندما يطّلعون على حقيقة ظلت مخفية عنهم لزمن طويل، لم تخطر لهم على بال، بل هي عند الأكثرين من الاستحالة بمكان ما دامت مرتبطة بمحبة أبي بكر وعمر. فعادة ما يُظهر علماء الشيعة الإثني عشرية علاقة أهل البيت بكبار صحابة رسول الله (أبي بكر وعمر) وغيرهم من الصحابة بمظهر البغض المتبادل لكننا أمام دليل ملموس على نوع خاص من المعزّة والتقدير، يعبّر فيها أهل البيت عن حبهم وإجلالهم لأصحاب رسول الله حين يسمّون أبناءهم وبناتهم بأسماء ارتبطت ذهنياً عند الشيعة الإثني عشرية بالنفاق والكفر والانقلاب على الأعقاب. فقد سمّى الإمام علي ابناً له من ليلى بنت مسعود بن خالد التميمية باسم (أبي بكر) (¬1) وابناً آخر له من أم حبيب بنت ربيعة باسم (عمر) (¬2) وابناً آخر له من أم البنين بنت حزام بن خالد باسم (عثمان) (¬3). وسمّى الإمام الحسن ابنه أبا بكر (¬4)، وذكر الطبرسي ابناً آخر له أسماه الإمام الحسن باسم (عمر) (¬5). ¬

_ (¬1) مقاتل الطالبيين ص91 (¬2) الإرشاد 1/ 354 (¬3) المصدر نفسه (¬4) كشف الغمة 2/ 198 وإعلام الورى 1/ 416 (¬5) إعلام الورى 1/ 416

أما الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) فقد سمّى أحد أبنائه باسم (عمر) (¬1). كل ذلك تبركاً وتيمناً بصاحبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أبي بكر وعمر). وقد سمّى الإمام موسى بن جعفر (الكاظم) إحدى بناته (عائشة) (¬2)، وذكر الأربلي في كشف الغمة أنّ من أبناء هذا الإمام الجليل (عمر) (¬3). وقد ائتسى الإمام علي بن موسى (الرضا) بأبيه الكاظم فسمّى ابنته بـ (عائشة) (¬4). وكذلك فعل الإمام علي بن محمد (الهادي) فسمّى ابنته عائشة (¬5). كل هذه الحقائق مذكورة ومسطرة في كتب الشيعة. إنّ كل ذلك يؤكد أنّ الشيعة الإثني عشرية لا يقفون من الصحابة موقف أهل البيت من الصحابة، وإلا فهل من الشيعة من يرضى أن يُسمي ولده أبا بكر أو عائشة ما دام أهل البيت فعلوا ذلك؟ أم أنّ هذا خطأ آخر ارتكبه الأئمة يُضاف إلى جانب خطئهم في مبايعة أبي بكر وعمر وتنازل الحسن عن الخلافة!! إننا بهذا نضع (حب الشيعة الإثني عشرية لأهل البيت) تحت الاختبار والمحك: فهل يقتدي الشيعة الإثنا عشرية بأهل البيت في تسمية أبنائهم بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة كما فعل أهل البيت حسبما تروي كتب الشيعة الإثنى عشرية أنفسهم؟ فإن لم يفعلوا ذلك كان حبهم لأهل البيت ضرباً من الادعاء وما أسهل الدعاوى. ¬

_ (¬1) منتهى الآمال 2/ 59 وكشف الغمة 2/ 302 والإرشاد 2/ 155 وإعلام الورى 1/ 493 (¬2) الإرشاد 2/ 244 وإعلام الورى 2/ 36 (¬3) كشف الغمة 3/ 31 (¬4) كشف الغمة 3/ 60 (¬5) كشف الغمة 3/ 177

مالك الأشتر والشيخين أبو بكر وعمر

مالك الأشتر والشيخين أبو بكر وعمر وهذا مالك الأشتر النخعي صاحب علي بن أبي طالب رضي الله عنه المقرب كما تسّطر كتب التاريخ، يثني على الشيخين أبي بكر وعمر ثناء عطراً، لا يكاد يُذكر أو يُشار إليه في المجالس الحسينية التي لا تخلو عادة من الطعن في الشيخين والحديث عن الخلافة المغتصبة! كحال بعض أسماء شهداء كربلاء من آل علي وآل الحسين الذين حملوا أسماء أبي بكر وعمر اللذين تتهمهما الشيعة الإثنا عشرية الإمامية بأنهم أعداء أهل البيت! فقد خطب الأشتر في الناس قائلاً: (أيها الناس، إنّ الله تبارك وتعالى بعث فيكم رسوله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بشيراً ونذيراً وأنزل عليه كتاباً بيّن فيه الحلال والحرام والفرائض والسنن، ثم قبضه إليه وقد أدى ما كان عليه، ثم استخلف على الناس أبا بكر فسار بسيرته واستن بسنته، واستخلف أبو بكر عمر فاستن بمثل تلك السنة) (¬1). ويقول في خطبة أخرى: (أما بعد، فإنّ الله تبارك وتعالى أكرم هذه الأمة برسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجمع كلمتها وأظهرها على الناس، فلبث بذلك ما شاء الله أن يلبث، ثم قبضه الله عز وجل إلى رضوانه ومحل جنانه صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً، ثم ولي من بعد قوم صالحون عملوا بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجزاهم بأحسن ما أسلفوا من الصالحات) (¬2). ¬

_ (¬1) الفتوح لابن أعثم الكوفي 1/ 396 (¬2) المصدر نفسه 1/ 385

بيعة الرضوان تشهد لعثمان بن عفان بالرضوان

بيعة الرضوان تشهد لعثمان بن عفان بالرضوان حين ينسى علماء ورواة الشيعة الإثني عشرية الإمامة قليلاً وينسون الرغبة بالتشفي في أصهار وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تظهر على السطح حقائقُ لم يكن لها أن تطفو أو أن ترى النور. بيعة الرضوان ... تلك البيعة التي بايع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه على القتال واضعاً يده الشريفة على يده الأخرى قائلاً (هذه لعثمان) بعد أن جاءه النبأ بمقتل عثمان رضي الله عنه. حديث صحيح ومشهور لكني استبعدت أن يذكره الشيعة الإثني عشرية الذين أشبعوا عثمان سباً ولعناً وطعناً حتى لا تكاد تتصور أنهم يذكرونه بخير. لكن حديثاً شيعياً مرّ بي أثناء القراءة من شأنه أن يغير نظرة الشيعي المنصف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه وأن يبين قيمة عثمان ومكانته عند رسول الله وفي الإسلام بشكل عام. روى الكليني في "الكافي" عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة الحديبية خرج في ذي القعدة فلمّا انتهى إلى المكان الذي أحرم فيه أحرموا ولبسوا السلاح ... وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يبعث عمر فقال: يا رسول الله، إنّ عشيرتي قليل وإني فيهم على ما تعلم ولكني أدلّك على عثمان بن عفان فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: انطلق إلى قومك من المؤمنين فبشّرهم بما وعدني ربي من فتح مكة. فلمّا انطلق عثمان لقي أبان بن سعيد فتأخر عن السرح، فحمل عثمان بين يديه ودخل عثمان فأعلمهم وكانت المناوشة، فجلس سهيل بن عمرو عند رسول الله صلى الله عليه وآله

وسلم وجلس عثمان في عسكر المشركين، وبايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين وضرب بإحدى يديه على الأخرى لعثمان، وقال المسلمون: طوبى لعثمان، قد طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما كان ليفعل، فلمّا جاء عثمان، قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أطفت بالبيت؟ فقال: ما كنت لأطوف بالبيت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يطف به) (¬1). فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين من أجل عثمان وضرب باحدى يديه الشريفتين على الأخرى لعثمان ثم ترى ثقته بعثمان جلية وهو يرد على المسلمين قائلاً: (ما كان ليفعل) .. وفي هذا كله الدليل الساطع والبرهان القاطع على حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعثمان وثقته به. وانظر إلى فعل عثمان بن عفان وهو يقول: (ما كنت لأطوف بالبيت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يطف به) .. ما أعظم إكباره لرسول الله. ¬

_ (¬1) الكافي - كتاب الروضة - حديث رقم (503)، قال المجلسي في (مرآة العقول 26/ 438 - 448): حديث حسن.

شرف صحبة رسول الله

شرف صحبة رسول الله ما من صحبة أعظم في تاريخ البشرية من صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كم تمنيت وتمنى كل مسلم لو تشرّفت أعيننا وتكحلت برؤية المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. لكن مبغضي الصحابة الذين احترفوا تشويه الحقائق، وقلب الفضيلة إلى منقصة، جعلوا صحبة خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم واللقاء به والجلوس في مجلسه، صحبة مسلوبة القيمة والشرف ... بل تجرأ المفيد فشبّه صحبة الصحابة لرسول الله بصحبة البهيمة للعاقل! يقول المفيد في احتجاجه على عدم دلالة الصحبة على فضل الصحابي: (فإنّ اسم الصحبة يُطلق بين العاقل وبين البهيمة، والدليل على ذلك من كلام العرب الذي نزل القرآن بلسانهم لقول الله عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِه} أنهم سمّوا الحمار صاحباً فقالوا: إنّ الحمار مع الحمار مطيّة ... فإذا خلوت به فبئس الصاحب. وأيضاً فقد سموا الجماد مع الحي صاحباً فقالوا ذلك في السيف وقالوا: زرت هنداً وذاك غير اختيار * ومعي صاحب كتوم اللسان (يعني السيف) فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر وبين العاقل والبهيمة وبين الحيوان والجماد فأي حجة لصاحبك فيه؟) (¬1)، فصحبتهم لرسول الله عند المفيد لا شرف لها ولا مقدار، فكما أنّ الكافر يصاحب المؤمن والعاقل يصاحب البهيمة، والحيوان يصاحب الجماد فكذلك حال الصحابة مع خير البشر محمد صلى الله عليه وآله وسلم! ¬

_ (¬1) بحار الأنوار 27/ 329 - 330

ولو سألت عاقلاً ما فضيلة الحجر الأسود لذكر لك من تلك الفضائل أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد وضعه بيديه الشريفتين، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد قبّله بفمه الطاهر، فيكفيه ذاك شرفاً. وما قيمة الثوب الذي لبسه رسول الله أو النعل الذي انتعله؟ لقال لك يكفيهما شرفاً أن مسا جسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فكيف بمن صحبه وجالسه وصلى خلفه وربما عانقه يوماً أو دافع عنه بنفسه وأهله وماله؟ هؤلاء عند المفيد وأمثاله بلا قيمة ولا شرف! بل صحبتهم لرسول الله وصحبة البهيمة للعاقل سواء! إنّ فضيلة صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم معلومة، لا يكاد يرتاب فيها وفي فضلها إلا من في قلبه مرض. فمن الأدلة الصحيحة الصريحة على شرف هذه الصحبة ما رواه الإمام مسلم في صحيحه أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يأتي على الناس زمان، يغزو فئام من الناس فيُقال لهم: فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيُقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيُقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم) (¬1). وقد ذكر الشيخ الطوسي في "الأمالي" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً بما يلقى بعده فبكى (ع)، وقال: يا رسول الله ¬

_ (¬1) رواه مسلم-كتاب فضائل الصحابة- باب (فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ...) - حديث رقم (2532).

أسألك بحقي عليك وقرابتي منك، وحق صحبتي إياك، لما دعوت الله (عز وجل) أن يقبضني إليه ...) (¬1). فهذا هو الإمام علي - كما تنص على ذلك هذه الرواية الشيعية - يسأل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بحق هذه الصحبة إلا دعا له، والمتعصبة الذين يدّعون التشيع لهذا الإمام الجليل يقللون من شأن هذه الصحبة ولا يعرفون لها قدرها ومنزلتها. والمرء ليعجب من هؤلاء المتعصبة الذين يرددون دوماً وفي كل حين عبارة (يا ليتنا كنا معكم)، وهم يرجون من كل قلوبهم لو أنهم صحبوا الحسين عليه السلام في ذهابه للعراق فنصروه وذبوا عنه، فيرى أحدهم في صحبته للحسين ابن رسول الله الشرف والقيمة، في حين يقف عند صحابة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو خير الخلق والنبي الخاتم الذي أُرسل للناس كافة، وتمالأت عليه قوى الكفر فنصره هؤلاء وضحوا بدمائهم وأهليهم ووقفوا معه في أحلك الظروف، فيجعل هذا المتعصب صحبة هؤلاء لرسولنا الكريم كصحبة البهيمة للعاقل! وقاحة ما بعدها وقاحة. هذه قيمة صحبة رسول الله وهذه هي فضيلتها عند الغلاة الجفاة ... فإلى الله المشتكى .. ولا حول ولا قوة إلا بالله ... ¬

_ (¬1) الأمالي للطوسي ص501 - 502 (المجلس الثامن عشر) - حديث رقم (1098).

المقدس الأردبيلي - من الذي قدسه؟

المقدّس الأردبيلي - من الذي قدّسه؟ إنّ الشيعة الإثني عشرية يعتبرون من لقي القائم المنتظر مقدّساً وفوق مرتبة الجرح والتعديل كما صرّح بذلك علي الحسيني الصدر في " الفوائد الرجالية ص140 - 141" حيث يقول: (إنّ من أمارات المدح ومن موجبات الاطمئنان بل مما يفيد علو الرتبة وكمال الوثاقة كون الراوي ممن تشّرف وفاز برؤية الطالع الأزهر للإمام المنتظر أرواحنا فداه فإنه لا تحصل هذه المكرمة إلا للأوحدي من الصالحين كما يستفاد من حديث أحمد بن إسحاق القمي الذي جاء فيه: (لولا كرامتك على الله عز وجل وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا) فكل من أحرز جداً فوزه بهذه السعادة العظمى فهو ممن يحصل به الطمأنينة الوثقى .. وهم ثلة خيّرة وجماعة كثيرة نالوا هذه المرتبة في زمان الإمام العسكري (ع) ثم في أيام الغيبة الكبرى ... أما الذين تشرّفوا في أيام الغيبة الكبرى فهم كثيرون جداً ... جمع ذكرهم بعض الأعلام في كتب مستقلة كالبحراني في "تبصرة الولي فيمن رأى القائم المهدي" والمحدّث النوري في "النجم الثاقب" و"جنة المأوى" والشيخ الميثمي العراقي في "تذكرة الطالب فيمن رأى الإمام الغائب" والجمال الطباطبائي في "بدائع الكلام فيمن اجتمع بالإمام" والميرزا الألماسي في "البهجة فيمن فاز بلقاء الحجة" والشيخ النهاوندي في "العبقري الحسان في تواريخ صاحب الزمان"). فالمحقق الأردبيلي هو أحد أولئك الذين نالوا شرف اللقاء بصاحب العصر والزمان، وقد ذكر قصة ذاك اللقاء المزعوم الخوانساري في "روضات الجنات 1/ 88 " نقلاً عن شيخه المجلسي في " بحار الأنوار".

صحابة رسول الله كما تصورهم كتب الشيعة الإثني عشرية وعلماؤها

وقال الشيخ علي أصغر البروجردي في "طرائف المقال 2/ 399": (وهو من جملة من رأى القائم (ع) ومن جملة من انفتحت له أقفال الروضة المقدّسة وكلّمه الإمام في حكاية ذكرها السيد الجزائري في الأنوار النعمانية). وكان من الواجب على الشيعة الإثني عشرية أن يعتبروا الصحابة مقدّسين أيضاً لأنه رأوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الذي ينص الشيعة على أنه أفضل من القائم، لكن هؤلاء الصحب الكرام لا مكانة لهم عند الشيعة ولا احترام بل هم عندهم شرار الخلق والخليقة! صحابة رسول الله كما تصورهم كتب الشيعة الإثني عشرية وعلماؤها عندما كنت أتصفح كتب الشيعة الإثني عشرية وهي ترمي صحابة رسول الله مرة بالانقلاب على أعقابهم ومرة بالتآمر على الإمام علي والسعي إلى إزهاق روح الدين، كان يُخيل لي بأني أتصفح سيرة عتاة مكة وكفارها أمثال أبي جهل أو أبي لهب أو أمية بن خلف أو غيرهم لكن عيني ترى شيئاً آخر! إنّ هذه الفئة الملعونة الظالمة الجارية وراء مصالحها كما تذكر ذلك كتب الشيعة الإثني عشرية ليست إلا الفئة التي قاتلت مع رسول الله في بدر وأحد والخندق وغيرها والتي صبرت وجاهدت وتركت الأهل والولد في سبيل رفعة هذا الدين!!! وما أنقله هنا ما هو إلا نموذج بسيط لما يُقال في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يصفهم التيجاني السماوي (¬1) بقوله: (الصحابة أغضبوا رسول الله، استأجروا ضعفاء ¬

_ (¬1) هذه الكلمات كانت متفرقة في كتابه (ثم اهتديت) اعتنيت بجمعها لبيان رأيه في صحابة رسول الله.

العقول ليرووا لهم الأحاديث الموضوعة في فضائلهم، خالفوا أمر ربهم، انقلبوا على أعقابهم .. لا يستحقون ثواب الله ولا غفرانه، تثاقلوا عن الجهاد وركنوا إلى الدنيا، ارتدوا على أدبارهم بدّلوا وغيّروا وقالوا سمعنا وعصينا). ويصفهم النوري الطبرسي فيقول: (الذين آمنوا بألسنتهم ليحقنوا دماءهم وهم بين جاهل غبي ومعاند غوي، ولاه عن الدين وتاه في شيع الأولين، وصارف همته في ترويج كفره، وجبار يخاف من مخالفة نهيه وأمره وليس فيهم من يُرجى خيره ويؤمن شره، لا يكاد يُشك أنهم أخس قدراً وأعجز تدبيراً وأضل سبيلاً وأخسر عملاً وأجهل مقاماً وأشر مكاناً وأسفه رأياً وأشقى فطرة) (¬1). ويصفهم الخميني قائد الثورة الإيرانية والنائب السابق للإمام الغائب في كتابه كشف الأسرار ما ترجمته: (أولئك الصحابة الذين لم يكن يهمهم إلا الدنيا والحصول على الحكم دون الإسلام والقرآن، والذين اتخذوا القرآن مجرد ذريعة لتحقيق نواياهم الفاسدة، قد سهل عليهم إخراج تلك الآيات من كتاب الله التي تدل على خلافة الإمام علي بلا فصل، وعلى إمامة الأئمة، وكذلك تحريف الكتاب السماوي، وإقصاء القرآن عن أنظار أهل الدنيا على وجه دائم، بحيث يبقى هذا العار في حق القرآن والمسلمين إلى يوم الدين) (¬2). ويقول عنهم يوسف البحراني: (غير خفي - على ذوي العقول من أهل الإيمان وطالبي الحق من ذوي الأذهان - ما بُلي به هذا الدين من أولئك المردة المعاندين بعد موت سيد ¬

_ (¬1) النوري الطبرسي في كتابه فصل الخطاب ص47 الباب الأول (الدليل الثاني). (¬2) كشف الأسرار ص114 الترجمة الشرعية.

المرسلين، وغصب الخلافة من وصيه أمير المؤمنين، وتواثب أولئك الكفرة عليه، وقصدهم بأنواع الأذى والضرر إليه) (¬1). ويقول كلاماً آخر أقبح من سابقه: (اعلم أنه قد استفاضت الأخبار عن أهل العصمة عليهم السلام بارتداد الصحابة بعد رحلته صلى الله عليه وآله من بين أظهرهم، وهو مصداق قوله سبحانه {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (¬2) ومن المعلوم أنه ليس منشأ ذلك الارتداد إلا العكوف على عجل السامري (¬3)، ونقض بيعة الوصي) (¬4). ويقول مرتضى محمد الحسيني النجفي: (إنّ الرسول ابتلي بأصحاب قد ارتدوا من بعده عن الدين إلا القليل) (¬5). ويقول نعمة الله الجزائري: (فإنّ أغلب الصحابة كانوا على النفاق لكن كانت نار نفاقهم كامنة في زمنه، فلمّا انتقل إلى جوار ربه برزت نار نفاقهم لوصيّه ورجعوا القهقرى، ولذا قال عليه السلام (ارتد الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وآله إلا أربعة سلمان وأبو ذر والمقداد وعمّار) وهذا مما لا إشكال فيه!) (¬6). هذه هي الصورة التي يعرفها هؤلاء عن صحابة رسول الله، وقرآن المسلمين يعرف حقيقة أخرى ويجهر بها ليصك بها أسماعهم! ¬

_ (¬1) الحدائق الناضرة 1/ 4 - 5 (¬2) سورة آل عمران آية 144 (¬3) يريد بذلك أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه. (¬4) الشهاب الثاقب في معنى الناصب ص202 (¬5) السبعة من السلف ص7 (¬6) الأنوار النعمانية ص81 (نور مرتضوي).

صورتان متضادتان لا يحتاج المسلم التالي لكتاب الله الكريم أن يتجشم عناء دراسة علم التفسير حتى يستشعر التفاوت الكبير بل التضاد بين رؤية القرآن الكريم للصحابة وبين رؤية الشيعة الإثني عشرية لهم، بين الآيات التي تبشرهم بالجنان وبرضا الله عنهم وبين روايات الطعن فيهم واللعن لهم عند الشيعة الإثني عشرية. تُرى هل كان رب العزة والجلال الذي مدحهم في القرآن يجهل من هم الصحابة وما سيفعلونه قبل مماتهم؟! كلا والله وحاشاه سبحانه عن هذا الإفك، إذاً كيف يمدحهم ويثني عليهم ويبشرهم بمغفرته ورضوانه وجنانه وهم مرتدون منقلبون على أعقابهم لم ينج منهم إلا القليل؟!! هنا يكمن السؤال ... لكن استعراضاً سريعاً لبعض النصوص القرآنية يكفي لإدراك مدى تفاوت النظرتين: 1 - القرآن يترضى عن الصحابة والشيعة الإثنا عشرية تلعنهم!!! قال سبحانه وتعالى {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} (¬1). فالآية صريحة الدلالة على رضاء الله سبحانه وتعالى عن المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، وتبشيرهم بالفوز العظيم والخلود في جنات النعيم. ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية 100

فأي عاقل يلعن من يترضى الله عنهم؟!! وأي لسان يستطيع أن يشتم ويلعن من زكّاهم رب العالمين؟! وأي ضمير يستطيع أن يقول بردتهم وقد وعدهم الله الذي لا يخلف الميعاد أنهم سيغادرون الدنيا إلى جنات تجري تحتها الأنهار وأنهم خالدين فيها أبداً وأنهم من الفائزين؟! وقال سبحانه {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} (¬1). فمن أخبرنا الله سبحانه أنه علم ما في قلوبهم ورضي عنهم وأنزل السكينة عليهم فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم ولا الشك فيهم البتة (¬2). وممن بايع تحت الشجرة كما هو معروف الخلفاء الراشدون وجميع من ينعتهم الشيعة الإثنا عشرية بالانقلاب على أعقابهم والردة من الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا متفق عليه عند السنة والشيعة الإثني عشرية. فهل علم الشيعة الإثنا عشرية عن الصحابة ما لم يعلمه الله حين امتدحهم ثم تبين بعد ذلك أنهم غير أهلٍ للمدح؟!! هل كان مدحهم خطأ؟!! حاشا الله عز وجل ذلك. 2 - القرآن يعدهم بالحسنى والشيعة الإثنا عشرية تنزلهم منزلة أهل النفاق!!! قال سبحانه وتعالى {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الفتح آية 18 (¬2) ابن حزم في الفصل 4/ 116 (¬3) سورة الحديد آية 10

فوعد الله عز وجل الصحابة الذين أنفقوا قبل الفتح وبعده بالحسنى، وقد حكم الله لمن وعد بالحسنى بالأمن من عذاب يوم القيامة بقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ. لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (¬1). فهل بدا لله بعد ذلك أنّ من قال فيهم هذه الآيات لا يستحقونها وأنهم ارتدوا على أعقابهم وسلبوا علياً حقه في الخلافة وفعلوا وفعلوا؟!! أم نقول: صدق الله في جميع أقواله وكذب من قال بغير قوله؟ 3 - القرآن يفتخر بهم والشيعة الإثنا عشرية تتبرأ منهم!!! قال تعالى {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (¬2). فهل ذكر الله أوصافاً كهذه لصحابة رسول الله في التوراة التي يقرأها اليهود، والإنجيل الذي يقرأه النصارى تعظيماً لشأن الصحابة وافتخاراً بهم كخير صحب لخير نبي وهو سبحانه يعلم أنهم سيرتدون وينقلبون على أعقابهم ويثبتون عكس ما قيل فيهم في تلك الكتب السماوية لكي تُعطى الحجة بعد ذلك لليهودي والنصراني بأن يطعن في صدق نبوة ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء آية 102 - 103 (¬2) سورة الفتح آية 29

محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنّ أصحاب ذاك النبي المبشر عندهم مذكورون بالإيمان والصلاح والتقوى ونصرة الدين بينما أصحاب محمد مرتدون ومنقلبون على أعقابهم وهم ليسوا أشداء على الكفار ورحماء بينهم بل أشداء بينهم وأرأف بالكفار منهم بقرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم!! هل كان الله يفتخر برجال لم يثبت على الإيمان منهم سوى سبعة؟!! إنّ رجالاً كهؤلاء ممن لهثوا وراء الدنيا ونسوا نبيهم وكلام ربهم لعنة السماء أولى بهم فكيف يعدهم الله بالحسنى وبخير العاقبة؟!! بل كيف يفاخر بهم الأمم السابقة (اليهود والنصارى) وهم ليسوا أهلاً للفخر بل للاستحياء؟!! 4 - الله يتوب عليهم ويغفر لهم زلاتهم والشيعة الإثنا عشرية لا تذكرهم إلا بتلك الزلات!!! قال تعالى {وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} (¬1) وقال تعالى {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَاخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬2). فهذه الآيات تحدثت عن الصحابة وبيّنت سعة رحمة الله لمن أذنب منهم، وبيّنت كذلك إرادة الله ومحبته للتوبة عليهم وغفران ذنوبهم، وبيّنت بالمقابل ما يريده أرباب الشهوات والضلالة بأصحاب رسول الله من الميل. ¬

_ (¬1) سورة النساء آية 27 (¬2) سورة التوبة آية 102 - 104

ويُضاف إلى هذه الآيات العامة ما قاله تعالى فيمن أخطأ يوم أحد ففر من القتال كعثمان ابن عفان رضي الله عنه {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيم} (¬1). لكنك تجد الشيعة الإثني عشرية إلى اليوم يعيبون عثمان بن عفان ويذكرون من جملة هذه المعائب (فراره من أحد)!! سبحان الله ... أما يكفي أن يعفو الله عنه؟! من ذا الذي يستطيع أن يسلب العباد رحمة ربهم ويستبدل عفو الله لهم بسخطه فيُعيّرهم بذنوبهم وأخطائهم التى تجاوز الله عنها وندموا هم عليها؟ لو أنّ الله عز وجل قد ملّك أحداً من البشر خزائن رحمته لما رأينا أحداً في الجنة {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً} (¬2). لكن قف عند قول الله عز وجل {وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} (¬3) وتفكّر، من ذا الذي يجرؤ على مخالفة ما يريده الله، فيريد في قرارة نفسه أن يفتك بهؤلاء الصحابة، لاعناً كبارهم شاتماً صغارهم، طاعناً في أعراض أمهاتهم (أمهات المؤمنين) ثم يدّعي بعد ذلك أنه متبع للقرآن والسنة وأهل البيت؟! ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية 155 (¬2) سورة الإسراء آية 100 (¬3) سورة النساء آية 27

الطعن في الصحابة يستلزم الطعن في الدين الذي نقلوه لهذه الأمة

الطعن في الصحابة يستلزم الطعن في الدين الذي نقلوه لهذه الأمة إنه لا يمكن لأحد أن يثبت تواتر القرآن أو السنة النبوية إلا عن طريق الصحابة، ولن يستطيع أحد إثبات أنّ القرآن الذي بين أيدينا هو نفسه الذي أُنزل على محمد دون الرجوع إلى الصحابة، وإذا ما وُجهت السهام إلى نقلة القرآن ونقلة السنة النبوية وقُدح في ذممهم وفي دينهم سقط اعتبار ما نقلوه وتطرق إليه الشك. ولهذا قال الإمام أبو زرعة الرازي: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة) (¬1). كلمات ثقيلة العبارة ... شديدة الألفاظ ... لكن أبا زرعة لا يتصور من مسلم ينطق بالشهادتين ويؤمن بالقرآن وبسنة نبيه أن يشكك ويطعن في من نقل إليه هذا القرآن وهذه السنة ثم يدّعي بعد ذلك أنه مسلم يحب الإسلام ويقدّس القرآن والسنة! إنّ الشيعة الإثني عشرية حينما يطعنون في عدالة الصحابة ويجرحونهم الليل والنهار لا يستطيعون أن يثبتوا بالمقابل تواتر القرآن الكريم من طريق غير طريق الصحابة، لأنّ من جمع القرآن هو أبو بكر والصحابة (الجمع الأول) ثم عثمان بن عفان والصحابة (الجمع الثاني) فإن كان هؤلاء منافقين فليبحث الشيعة حينئذ عن قرآن آخر! ¬

_ (¬1) الكفاية ص49

ولو فرضنا جدلاً أنهم يُمكن نقل القرآن عن الإمام علي دون غيره من الصحابة فأين ذاك الإسناد الشيعي الذي يستند عليه الشيعة؟! إنّ أهل السنة يفخرون بأنهم هم نقلة القرآن الكريم، ولديهم أسانيد متواترة للقرآن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينما ليس للشيعة ولو إسناد واحد ينقلون فيه القرآن عن آل البيت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوى أسانيد أهل السنة (¬1)! وقد طُولِب علماء الشيعة مراراً وتكراراً بأن يأتوا بإسناد شيعي واحد للقرآن يبتدأ برواة الشيعة وينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مروراً بأئمة أهل البيت فلم نسمع شيئاً ولن نسمع. أما السنة النبوية وهي المصدر الثاني للتشريع في الإسلام، فالطعن فيها آكد وأوضح، فقد أعرض الشيعة الإثني عشرية عن روايات الصحابة لأنهم منقلبون على أعقابهم، وتمسّكوا بروايات زرارة وأبي بصير وابن مسلم وأمثالهم من الكذّابين الوضّاعين الذين ابُتلي بهم أئمة أهل البيت! ولعل في هذا ما يفسر ندرة الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتب الحديث عند الشيعة الإثني عشرية في مقابل الأحاديث المروية عن الإمام علي أو الإمامين الباقر وجعفر الصادق! حتى ليضطر المنصف إلى التساؤل: من هو الرسول المبلّغ عن الله تعالى الذي أُمرنا باتباعه؟ أمحمد بن عبد الله هو أم جعفر الصادق أم من؟ وما هي مكانة الرسول الذي نتكلم ¬

_ (¬1) فحتى الأسانيد التي عن الإمام جعفر الصادق فكلها سنية! وليس للشيعة منها سندٌ واحدً!

عنه في المذهب الشيعي الإثني عشري؟ وأين تعاليمه؟ طالما حلّ محله غيره بهذا الشكل وصارت الكلمة للأئمة لا لرسول الأئمة وإمام الأئمة! حاول بنفسك أن تتصفح أهم كتب الحديث عند الشيعة الإثني عشرية "الكافي، من لا يحضره الفقيه، تهذيب الأحكام، الاستبصار وغيرها" لترى قلة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقارنة بأحاديث الإمامين الباقر والصادق، وتأمل كيف صارت سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مهمّشة في هذه الكتب وصار الأصل هو سنة الإمام! حتى الأحاديث القليلة المروية عن رسول الله لا يخلو الكثير منها من حيث السند من ضعف، فلو أمسكت كتب الجرح والتعديل عند الشيعة الإثني عشرية (¬1) ورحت تتفحص الروايات على قلّتها فإنه سيتضح لديك أنّ أغلب هذه الأحاديث ضعيفة السند! بينما ترى بأم عينك الفارق حينما تتصفح كتب الحديث عند أهل السنة، حيث تجد نفسك تعيش مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أقواله وعباراته وأوصافه، وتجد أنّ كلمات رسول الله هي الأصل وأنه الجوهر وكلمات غيره ثانوية يؤخذ منها ويُرد. هذه حقيقة ملموسة، لا ينكرها إلا جاهل بكتب الحديث الشيعية المذكورة أو معاند مكابر. إنّ غاية ما يبرر به علماء الشيعة هذه الفجوة الكبيرة بين الشيعة وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسنته هو حديث الإمام جعفر (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله وحديث رسول الله قول الله عز ¬

_ (¬1) كـ"رجال الكشي وابن الغضائري والنجاشي والطوسي وابن داود الحلي وغيرها".

وجل) (¬1) مع أنّ الحديث ضعيف عند علماء الشيعة أنفسهم لوجود (سهل بن زياد) الكذّاب (¬2) في سنده! أو ربما يستدلون بحديث جابر الجعفي وغيره أنّ الإمام جعفر الصادق قال: (والله لو كنا نحدث الناس أو حدثناهم برأينا لكنا من الهالكين ولكنا نحدثهم بآثار عندنا من رسول الله صلى الله عليه وآله يتوارثها كابر عن كابر نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم) (¬3) مع أنّ هذه الرواية كافية بحد ذاتها لنسف المذهب كله، إذ كيف يكون رأي الإمام – الذي يُعتقد عصمته – موجباً للهلاك؟! ثم ما هي تلك الكنوز التي ينسبها الشيعة الإثنا عشرية إلى الأئمة؟ أهي الروايات الشيعية المتواترة القائلة بتحريف القرآن (¬4)؟! ¬

_ (¬1) الكافي – كتاب فضل العلم – باب (رواية الكتب والحديث) - حديث رقم (14). (¬2) قال النجاشي في "رجاله ص185": (سهل بن زياد أبو سعيد الآدمي الرازي، كان ضعيفاً في الحديث، غير معتمد عليه فيه، وكان أحمد بن محمد بن عيسى يشهد عليه بالغلو والكذب وأخرجه من قم إلى الري وكان يسكنها). (¬3) بصائر الدرجات ص320 – باب (في الأئمة أنّ عندهم أصول العلم) - حديث رقم (6). (¬4) مثل أبي الحسن العاملي في "المقدمة الثانية لتفسير مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار ص36" وعدنان البحراني في "مشارق الشموس الدرية ص126" والمجلسي في "مرآة العقول 12/ 525" ويوسف البحراني في "الدرر النجفية ص298" الذين نصّوا على تواتر الروايات القائلة بالتحريف صراحة كما سيأتي. بل إنّ آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي – الزعيم الراحل للحوزة العلمية بالنجف- الذي عدّ القول بالتحريف خرافة وشنّع على القائلين به لم يستطع أن يخرج من مأزق كون بعض روايات التحريف ... معتبرة السند في المذهب بل ومقطوع بصدورها عن الأئمة المعصومين حيث يصرّح في كتابه "البيان في تفسير القرآن ص226" قائلاً: (إنّ كثيراً من الروايات، وإن كانت ضعيفة السند، فإنّ جملة منها نُقِلت من كتاب أحمد بن محمد السياري الذي اتفق علماء الرجال على فساد مذهبه وأنه يقول بالتناسخ، ومن علي= ... = ابن أحمد الكوفي الذي ذكر علماء الرجال أنه كذاب وأنه فاسد المذهب إلا أن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين عليهم السلام ولا أقل من الاطمئنان بذلك، وفيها ما روي بطريق معتبر فلا حاجة بنا إلى التكلم في سند كل رواية بخصوصها)!! فأين يذهب الذين يزعمون أنّ نِسبة القول بالتحريف للشيعة الإثني عشرية إنما هو فِرية من أعداء الدين وأعداء أهل البيت عليهم السلام؟! ألا يقرأ هؤلاء ما تُسطّره كتب علمائهم؟!

أم تِلك الروايات التكفيرية لعموم المسلمين النافية لقبول أعمالهم عند الله تعالى (¬1)؟! ¬

_ (¬1) فقد روى الكليني في "الكافي" عن الفضيل بن يسار عن الإمام الباقر أنه قال: (إنّ الله نصب علياً عليه السلام علماً بينه وبين خلقه، فمن عرفه كان مؤمناً، ومن جاء بولايته دخل الجنة، ومن أنكره كان كافراً، ومن جهله كان ضالاً، ومن نصب معه شيئاً كان مشركاً، ومن جاء بعداوته دخل النار) وقد حكم بوثاقة الرواية آية الله العظمى الخميني في "كتاب الطهارة 3/ 316". وروى البرقي في "المحاسن" والكليني في "الكافي" وغيرهما عن محمد بن مسلم عن الإمام الباقر أنه قال: (والله يا محمد من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله ظاهر عادل أصبح ضالا تائها وإن مات على هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق، واعلم يا محمد أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله قد ضلوا وأضلوا فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون من ما كسبوا على شئ ذلك هو الضلال البعيد)، وقد حكم بصحة الرواية كل من البحراني في "الحدائق الناضرة 13/ 294" والميرزا القمي في "مناهج الأحكام ص646" والعاملي في "مدارك الأحكام 6/ 202" والخوانساري في "جامع المدارك 6/ 101".

أم هي الفتاوى الجنسية الغريبة التي يستحي المرء من ذكرها (¬1)؟! ¬

_ (¬1) فقد روى الكليني في الكافي بسند صححه كل من المجلسي في "مرآة العقول 22/ 404" والمحقق يوسف البحراني في "الحدائق الناضرة 5/ 530" وآية الله العظمى محسن الحكيم في "مستمسك العروة 2/ 189" وآية الله العظمى محمد صادق الروحاني في "فقه الصادق (ع) 1/ 169" عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل نظرك إلى عورة الحمار)!! وقد أخذ بهذه الفتوى كل من الشيخ الصدوق والحر العاملي من القدماء، ومن المعاصرين آية الله العظمى محمد حسين فضل الله كما نقل ذلك عنه الشيخ جعفر مرتضى العاملي في كتابه "خلفيات مأساة الزهراء – الجزء الخامس" قول فضل الله: (إنّ حرمة النظر ناشئة من حرمة الجسد لدى صاحبه، مما يخفيه منه، لا من خلال حالة تعبدية في مثل هذه الموارد، ولذلك ورد أنه لا مانع من النظر إلى عورة الكافر فهي كعورة الحمار، من خلال عدم الإحترام له من قبل الشرع أو من قبل صاحبه. وفي ضوء ذلك قد يشمل الموضوع النظر إلى العورة عندما تكشفها صاحبتها، كما في نوادي العراة، أو السابحات في البحر في بعض البلدان أو نحو ذلك. بل قد يستوحي الإنسان جواز النظر إلى عورة الرجل، إذا كان ممن لا ينتهي إذا نهي تمرّداً أو مزاحاً، أو نحو ذلك، لأنه لا خصوصية للمرأة في تلك الرخصة، بل ربما كان التحفظ من المنع بالنسبة إلى المرأة أكثر من الرجل)!! ويبدو أنّ الخطيب عدنان الموسوي قد أخذ بهذه الرواية بشكل جريء إذ صرّح في كتابه (كيف يلتقي الزوجان في مخدع الحب؟ ص221 طبعة دار المحجة البيضاء- بيروت) بأنه كان يشاهد أفلام جنسية غربية تعلم منها بعض طرق الجماع! ولا لوم على الرجل، فالفيلم الذي كان يشاهده لا يعدو أن يكون تصويراً لعورات ونكاح جماعة من الحمير لا يُستنكر النظر إليهم!! قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون)، نسأل الله العافية.

أم هي الروايات ذات النفس العنصري الشعوبي البغيض (¬1)؟! ¬

_ (¬1) فقد نصت الروايات الشيعية على أنّ موقف الإمام جعفر الصادق وسائر الأئمة من بعض العرقيات كان موقفاً عنصرياً للغاية، وقد اعتمدت في نقل هذه النظرة على كتب الفقه المعتمدة لدى الطائفة لإثبات الأثر الكبير لهذه الكنوز على فقهاء الطائفة. ففي السند والهند والقند والخزر ينص فقهاء الشيعة الإثني عشرية ومنهم الشيخ الجواهري في "جواهر الكلام 30/ 116" على أنه: (يكره نكاح الزنج، قال أمير المؤمنين عليه السلام: (إياكم ونكاحهم، فإنهم خلق مشوه) وقال الصادق عليه السلام: (لا تناكحوا الزنج والخزر، فإنّ لهم أرحاماً تدل على غير الوفاء، قال: والسند والهند والقند ليس فيهم نجيب، يعني القندهار)). وفي الأكراد يقول العلامة الحلي في "منتهى المطلب 2/ 1003 الطبعة الحجرية": (مسألة: يكره له معاملة الأكراد ومخالطتهم ويتجنب مبايعتهم ومشاركتهم ومناكحتهم لما رواه الشيخ عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله (ع) قلت: إنّ عندنا قوماً من الأكراد وإنهم لا يزالون يجتنبون مخالطتهم ومبايعتهم، فقال (ع): يا أبا ربيع، لا تخالطوهم، فإنّ الأكراد حي من أحياء الجن كشف الله عنهم الغطاء فلا تخالطوهم). وفي المصريين يقول العلامة يوسف البحراني في موسوعته الفقهية "الحدائق الناضرة 5/ 537": (روى في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن أسباط عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لا تغسلوا رؤوسكم بطين مصر، فإنه يذهب بالغيرة ويورث الدياثة)، أقول - الكلام للبحراني-: في قصة عزيز مصر حيث علم من زوجته مع يوسف على نبينا وآله وعليه السلام ما علم وغاية ما صدر عنه في المقام أنّ قال {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِين})!! وفي رواية الكليني في "الكافي 6/ 391 - رواية رقم (3) " عن الإمام علي بن أبي طالب أنه قال: (ماء نيل مصر يميت القلوب)، وروى المجلسي في "بحار الأنوار 57/ 210" عن ابن بابويه القمي (الملقب بالصدوق) عن الإمام جعفر الصادق قوله: (كان أبو جعفر يقول: نِعم الأرض الشام وبئس القوم أهلها اليوم، وبئس البلاد مصر، أما إنها سجن من سخط الله عليه من بني إسرائيل، ولم يكن دخل بنو إسرائيل مصر إلا من سخطة ومعصية منهم لله، لأنّ الله عز وجل قال "ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" يعني الشام فأبوا أن يدخلوها وعصوا فتاهوا في الأرض أربعين سنة. قال: وما كان خروجهم من مصر ودخولهم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الشام إلا من بعد توبتهم ورضا الله عنهم. ثم قال أبو جعفر (ع): إني أكره أن آكل شيئاً طبخ في فخار مصر، وما أحب أن أغسل رأسي من طينها مخافة أن تورثني تربتها الذل وتذهب بغيرتي). وروى الحميري القمي بإسناد عالٍ في "قرب الإسناد ص374 - 376" عن الإمام الرضا أنه قيل له: إنّ أهل مصر يزعمون أنّ بلادهم مقدسة. قال: وكيف ذلك؟ قلت: جعلت فداك، يزعمون أنه يحشر من جبلهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب. قال: لا، لعمري ما ذاك كذلك، وما غضب الله على بني إسرائيل إلا أدخلهم مصر، ولا رضي عنهم إلا أخرجهم منها إلى غيرها. ولقد أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى عليه السلام أن يخرج عظام يوسف منها، فاستدل موسى على من يعرف القبر، فدل على امرأة عمياء زمنة، فسألها موسى أن تدله عليه فأبت إلا على خصلتين: فيدعو الله فيذهب بزمانتها ويصيرها معه في الجنة في الدرجة التي هو فيها. فأعظم ذلك موسى، فأوحى الله إليه: وما يعظم عليك من هذا، أعطها ما سألت. ففعل، فوعدته طلوع القمر، فحبس الله القمر حتى جاء موسى لموعده، فأخرجه من النيل في سفط مرمر، فحمله موسى. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لا تغسلوا رؤوسكم بطينها، ولا تأكلوا في فخارها، فإنه يورث الذلة ويذهب الغيرة). قلنا له: قد قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال: نعم). وقد خلُصَ فقيه الإمامية (الشهيد الأول) في "الدروس في فقه الإمامية 3/ 47" من هذه الروايات المتظافرة إلى حقيقة أنّ (ماء نيل مصر يميت القلوب، والأكل في فخارها وغسل الرأس بطينها يذهب بالغيرة ويورث الدياثة)!!

أم هي المسمّاه بطب الأئمة والتي فيها من الخرافة والعجائب المضحكة ما فيها (¬1)؟! ¬

_ (¬1) لقد حشدت كتب الحديث الشيعية الكثير من غرائب الاستطباب التي لا يقبلها عقل أو شرع، وقد أعرضت عن أكثرها لئلا يُدّعى بأني قد حشدت في هذا الهامش الموضوعات والمكذوبات ورميت بها الطائفة ظلماً وعدواناً، فاخترت من تلك الروايات ما حكم المجلسي محقق "الكافي" بصحته أو حُسنه أو غيره من علماء الشيعة البارزين، وهي كالتالي: روى الكليني في الكافي بسند صححه كل من المجلسي في "مرآة العقول 22/ 129" وآية الله العظمى محسن الحكيم في "مستمسك العروة 5/ 537" وآية الله العظمى الخوئي في "كتاب الصلاة 2/ 277" عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (اللحم ينبت اللحم، ومن ترك اللحم أربعين يوماً ساء خلقه ومن ساء خلقه فأذّنوا في أُذنه)!! ولا عزاء للفقراء! وروى الكليني أيضاً بسند حسّنه المجلسي في "مرآة العقول 22/ 177" عن الإمام جعفر الصادق أنه قيل له: (إنّ الناس يروون أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنّ العدس بارك عليه سبعون نبياً، فقال: هو الذي يسمّونه عندكم الحُمّص ونحن نسمّيه العدس)!! فعليكم بالعدس لتحل عليكم بركات النبوة! سبحان الله .. كأنّ الرواية تتكلم عن المنّ والسلوى لا العدس الذي استبدل به بنو اسرائيل عطاء الله فقيل لهم {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْر}. وروى الكليني أيضاً بسند صححه المجلسي في "مرآة العقول 22/ 191" عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (ما من شيء أُشارك فيه أبغض إليّ من الرمّان، وما من رمّانة إلا وفيها حبة من الجنة فإذا أكلها الكافر بعث الله عز وجل إليه ملكاً فانتزعها منه)!! وكأنّ مهمة الملائكة هي انتشال حبات الرمان المفقودة من أفواه الكفار! وروى الكليني أيضاً بسند صححه المجلسي في "مرآة العقول 22/ 192" عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (من أكل حبّة من رمّان أمرضت شيطان الوسوسة أربعين يوماً)!! فكيف بمن يأكل عشرات الحبات؟ أظنه سيقضي على شيطان الوسوسة بالضربة القاضية ومن الجولة الأولى! وروى الكليني أيضاً بسند حسّنه المجلسي في "مرآة العقول 22/ 193" عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (من أكل رمّانة على الريق أنارت قلبه أربعين يوماً)!! ما هذه الرمّانة العجيبة التي تؤثر كل هذا التأثير؟! وروى الكليني أيضاً بسند موثق كالصحيح عند المجلسي في "مرآة العقول 22/ 198" عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (من أكل سفرجلة أنطق الله عز وجل الحكمة على لسانه أربعين صباحاً)!! فلو جمعت بين أكل سفرجلة ورمّانة فحتماً ستكون من أهل الجنة!

لا بد من التمييز بين الصحبة اللغوية والصحبة الشرعية

لا بد من التمييز بين الصحبة اللغوية والصحبة الشرعية لقد استغل أعداء أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم خلط كثير من الناس بين مفهوم الصحبة والصاحب في اللغة وبين إطلاقه الشرعي، بحيث أظهر الطاعن في الصحابة نفسه بمظهر الناصح الأمين المشفق على دين الله تعالى كما قال الله تعالى حاكياً عن الشيطان وهو يحاول جاهداً إقناع آدم عليه السلام بالأكل من الشجرة بحجة أنه ناصح أمين له {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِين} (¬1)، مسوح الضأن على قلوب الثعالب! ولهذا وجب على المتصدّي لهذه الحملة الشرسة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقف عند هذه المسألة لتحرير القول فيها قبل الخوض فيما يليها. ولهذا أقول وبالله التوفيق: إنّ الصحبة في اللغة واسعة النطاق، تشمل الصحبة الحقيقية من ملازمة ومصاحبة وتشمل كذلك الصحبة المجازية التي قد تُطلق مثلاً على من تمذهب بمذهب معين كقول القائل (أصحاب الشافعي، أصحاب أحمد ...) وكقول المجتهدين من العلماء عن نظرائهم من علماء المذهب ذاته الذين سبقوهم بقرون (قال أصحابنا)، وقد تُطلق ويُراد بها المعية فيقال (فلان بصحبة فلان) أي بمعيته. وقد تُستخدم في الإضافة كأن يُقال (صاحب مال، صاحب علم ...)، وقد تُطلق ويُراد بها القائم على الشيء كنحو قول الله عز وجل {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} (¬2) أي وما جعلنا القائمين على النار إلا ملائكة. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف آية 21 (¬2) سورة المدثر آية 31

ونظراً لهذا الاتساع في المعنى اللغوي للصحبة جاز أن تُطلق الصحبة اللغوية على الصحبة الحسنة والسيئة والحقيقية والمجازية والكثيرة واليسيرة. فأُطلقت الصحبة اللغوية على صحبة المؤمن للكافر والعكس كقوله تعالى {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} (¬1) وقوله تعالى {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} (¬2). ويجوز في اللغة إطلاق لفظ (الصحبة) على المنافقين كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة المنافق عبد الله بن أبيّ بن سلول عندما طلب الصحابة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقتله فلم يقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر لهم السبب وهو (حتى لا يتحدث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه) (¬3)، وعبد الله بن أبيّ لا يعتبر صحابياً لأنه منافق لكن أُطلق عليه لفظ الصحبة هنا لأمرين: الأول: إطلاق لغوي والإطلاق اللغوي لا يُعتبر فيه الإيمان من النفاق ¬

_ (¬1) سورة الكهف آية 37 (¬2) سورة الكهف آية 34 (¬3) نص الحديث كما رواه البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ للبخاري أنّ جابراً رضي الله عنهما قال: (كنا في غزاة، فكَسَعَ رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما بال دعوى الجاهلية؟) قالوا: يا رسول الله، كسع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: (دعوها فإنها منتنة)، قال جابر: وكانت الأنصار حين قدِم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر، ثمّ كثُرَ المهاجرون بعْدُ. فقال عبد الله بن أُبيّ: أوَ قَدْ فَعَلُوها، واللهِ لئِنْ رَجَعْنا إلى المدينةِ ليُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلُّ، فقال عُمَرُ بن الخطّاب: يا رسُولَ اللهِ أضْرِبْ عُنُقَ هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: دَعْهُ، لا يَتَحَدَّثُ النّاسُ أنّ محمداً يَقْتُلُ أصحابَه).

الثاني وهو الأهم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (حتى لا يتحدث الناس) والناس المشار إليهم هنا هم فئة مقابلة للصحابة، والقرآن الكريم حينما يخاطب أهل الإيمان كان يخاطبهم بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وحينما كان يوجه الكلام للكفار أو للناس مؤمنهم وكافرهم كان خطابه {يَا أَيُّهَا النَّاس} والكفار هم أكثر الناس حرصاً على الطعن في رسول الله ودعوته ولذلك حينما يقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن أبي، فلن يقول الكفار بأنه قد قتل منافقاً يستحق القتل بل سيُقال (إنّ محمداً يقتل أصحابه) حتى يصدون الناس عن قبول هذه الدعوة ومن الالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ويجوز في اللغة إطلاق الصحبة على العدو كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قلت- والكلام هنا لأبي بكرة رضي الله عنه-: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) (¬1). ويجوز إطلاق الصحبة في اللغة على من التقيت به مرة واحدة كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصحابه: اختر) (¬2)، فسمى المشتري صاحب مع أنه قد يلتقي مرة واحدة مع البائع ويشتري منه السلعة. ويجوز في اللغة إطلاق لفظة (الصحبة) على من لا يعرف صاحبه ولم يلتق به يوماً كما في حديث عبد الرحمن بن عوف أنه قال: (بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما فغمزني أحدهما، فقال: يا عمِّ! هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن ¬

_ (¬1) رواه البخاري -كتاب الإيمان- باب {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} - حديث (31). (¬2) رواه البخاري - كتاب البيوع - باب (إذا لم يُوقِّت الخيار، هل يجوز البيع؟) - حديث رقم (2109).

أخي؟ قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي نفسي بيده! لئن رأيته لا يُفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال مثلها، قال: فلم أنشبْ أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال: فابتدراه، فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبراه، فقال: أيكما قتله، فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: هل مسحتما سيفيكما، قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه ..) (¬1). ولهذا لا يُعرف للصحبة اللغوية ضابط، ولو كان الصحابي يُعرف بالصحبة اللغوية لكنا نحن صحابة أيضاً إذ لا يُشترط في اللغة دائماً المصاحبة ولا اللقاء كما في حديث عبد الرحمن بن عوف السابق، ولكان من التقى برسول الله من اليهود والنصارى والمنافقين والمشركين صحابة أيضاً، لأنّ الصحبة اللغوية لا تشترط الايمان (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري – كتاب فرض الخمس – باب (من لم يُخمّس الأسلاب) – حديث رقم (3141)، ورواه مسلم – كتاب الجهاد – باب (استحقاق القاتل سلب القتيل) – حديث رقم (1752) واللفظ لمسلم. (¬2) أمر آخر لا بد من الإشارة له وهو أنّ الاستناد إلى اللغة في الحكم على العقائد والعبادات مع تجاهل حقائقها الشرعية ليس بسديد، تصور لو أنّ رجلاً أنكر الزكاة زاعماً أنّ الزكاة في اللغة تعني النماء ولا تعني الحق المالي المخصوص الذي يخرجه المسلم عند اكتمال النصاب وحلول الحول، وينكر الصلاة (العبادة المخصوصة) قائلاً بأنّ الصلاة في اللغة تعني الدعاء، وعلى هذا المنهج يسير من حكم على صحبة الرسول وصحابته من خلال التعريف اللغوي مهملاً التعريف الشرعي.

هل في الصحابة منافقون؟

هل في الصحابة منافقون؟ لا أدري كيف يمكن أن ينسب الشيعة الإثنا عشرية النفاق إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هكذا بكل سهولة وهم يقرأون قول الله تعالى في محكم كتابه العزيز عن المنافقين مخاطباً الصحابة {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُون} (¬1). قضية حسمها القرآن بكل وضوح، لكنا لا نزال نجادل فيها ونناقشها. ولذا تقرر عند العلماء أنّ الصحابي هو من لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مؤمناً ومات على الإيمان، أما المنافقون والمرتدون فلا يُعدون من الصحابة ولا كرامة، وقد يجوز إطلاق عليهم لفظ (الصحبة اللغوية) دون (الصحبة الشرعية) كنحو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عبد الله بن أبيّ المنافق: (حتى لا يتحدث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه) (¬2) مع علمه أنه منافق مندس بين صفوف المسلمين. ومن الجهل بمكان أن يدّعي أحدهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدّ عبد الله ابن أبيّ المنافق صاحباً له، فأنت الذي لا تُقارن برسول الله إيماناً وورعاً وتقوى تتورع أن تعتبر المنافق صاحباً لك فكيف تنسب ذلك إلى خير الخلق وأورعهم وأتقاهم لله؟! فتبين من ذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد الصحبة اللغوية التي تعارف عليها الناس مؤمنهم وكافرهم دون الصحبة الشرعية التي علمناها من الشرع. ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية 56 (¬2) أشرت تحت عنوان (الصحبة اللغوية والشرعية) إلى نص الحديث كاملاً فليراجع.

وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أنّ هناك منافقين مندسِّين بين الجماعة المسلمة فقال: (في أصحابي إثنا عشر منافقاً، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيهم الدُّبيْلة) (¬1). أما الشيعة الإثنا عشرية فوجهوا السهام نحو جماهير الصحابة فحكموا عليهم بالردة والضلال والانقلاب على الأعقاب واستثنوا أفراداً قيل إنهم لم ينقضوا العهد. وهؤلاء الذين تمتدحهم الشيعة الإثنا عشرية لا يقلون عن ثلاثة ولا يتجاوزون السبعة كما بينت الروايات الشيعية: فقد روى الكليني في "الكافي"عن حمران بن أعين قال (قلت لأبي جعفر (ع) جُعلت فداك ما أقلنا لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها؟ قال: ألا أحدثك بأعجب من ذلك، المهاجرون والأنصار ذهبوا إلا – وأشار بيده ثلاثة) (¬2) وهؤلاء الثلاثة هم المقداد بن الأسود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي كما بينت رواية الكشي في رجاله (عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان الناس أهل الردة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثة، فقلت: ومن الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي) (¬3). وهناك نصوص أخرى تشير إلى أنّ هؤلاء الثلاثة لحق بهم أربعة آخرون ليصل عدد المؤمنين في عصر الصحابة عند الشيعة الإثني عشرية إلى سبعة، ولكنهم لم يتجاوزوا هذا العدد، وهذا ما تتحدث عنه الروايات الشيعية حيث تقول (عن الحارث بن المغيرة النصري ¬

_ (¬1) رواه مسلم – كتاب صفات المنافقين وأحكامهم – باب صفات المنافقين – حديث رقم (2779). (¬2) الكافي 2/ 244 (باب في قلة عدد المؤمنين) – حديث رقم (6). (¬3) رجال الكشي ص67 ترجمة (سلمان الفارسي) – رواية (12)، الكافي 8/ 245 – حديث رقم (341).

قال: سمعت عبد الملك بن أعين يسأل أبا عبد الله (ع) فلم يزل يسأله حتى قال له: فهلك الناس إذا؟ (¬1) فقال: إي والله يا ابن أعين هلك الناس أجمعون، قلت: من في الشرق ومن في الغرب؟ قال: فقال: إنها فتحت على الضلال إي والله هلكوا إلا ثلاثة، ثم لحق أبو ساسان (¬2) وعمار (¬3)، وشتيرة (¬4)، وأبو عمرة (¬5)، فصاروا سبعة) (¬6). وعن أبي جعفر (ع) قال: كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثة فقلت: ومن الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي رحمة الله وبركاته عليهم، ثم عرف أناس بعد يسير، وقال: هؤلاء الذين دارت عليهم الرحا وأبوا أن يبايعوا حتى جاؤوا بأمير المؤمنين عليه السلام مكرهاً فبايع وذلك قول الله تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِين} (¬7). فكان كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الردة غير (المقداد وسلمان الفارسي وأبي ذر) ثم أناب إلى الله بعد ذلك (أبو ساسان ثم عمار وشتيرة وأبو عمرة) فصاروا سبعة! ¬

_ (¬1) أي: بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ومبايعة الناس لأبي بكر. (¬2) أبو ساسان اسمه الحصين بن المنذر (¬3) عمار بن ياسر (¬4) قال الأردبيلي في جامع الرواة 1/ 398: (شتيرة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام). (¬5) قال الأردبيلي في جامع الرواة 2/ 408: (أبو عمرة الأنصاري من الأصفياء من أصحاب أمير المؤمنين). (¬6) رجال الكشي ص68 ترجمة (سلمان الفارسي) – رواية رقم (14). (¬7) الكافي 8/ 245 حديث رقم (341)، قال المجلسي في مرآة العقول 26/ 213 - 214: حديث حسن أو موثق، وتفسير العياشي 1/ 199 حديث رقم (148) وبحار الأنوار 22/ 333 حديث رقم (45).

وتؤكد جملة من النصوص الشيعية على أنّ العدد لم يزد على ذلك لفترة من الزمان، قال أبو جعفر: (وكانوا سبعة، فلم يكن يعرف حق أمير المؤمنين عليه السلام إلا هؤلاء السبعة) (¬1) وكان أبو عبد الله يُقسم على ذلك فيقول (فوالله ما وفى بها إلا سبعة نفر) (¬2). غير أنّ هؤلاء السبعة أو قُل الأربعة الأبرز فيهم (المقداد وسلمان وعمار وأبو ذر) لم يسلموا من الانتقاص المبطّن. فعن عمرو بن ثابت قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قُبض ارتد الناس على أعقابهم كفاراً إلا ثلاثة: سلمان والمقداد وأبو ذر الغفاري، إنه لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء أربعون رجلاً إلى علي بن أبي طالب (ع) فقالوا: لا والله لا نعطي أحداً طاعة بعدك أبداً، قال: ولم قالوا إنا سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيك يوم غدير، قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم، قال: فأتوني غداً محلقين قال: فما أتاه إلا هؤلاء الثلاثة، قال: وجاءه عمار بن ياسر بعد الظهر فضرب يده على صدره ثم قال له: ما آن لك أن تستيقظ من نومة الغفلة ارجعوا فلا حاجة لي فيكم، أنتم لم تطيعوني في حلق الرأس فكيف تطيعوني في قتال جبال الحديد، ارجعوا فلا حاجة لي فيكم (¬3). وعن ابن عيسى يرفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: إنّ سلمان كان منه إلى ارتفاع النهار فعاقبه الله أو وجئ في عنقه حتى صيرت كهيئة السلعة حمراء، وأبو ذر كان منه إلى وقت الظهر فعاقبه الله إلى أن سلط عليه عثمان حتى حمله على قتب وأكل لحم أليتيه وطرده عن ¬

_ (¬1) رجال الكشي ص73 (ترجمة سلمان الفارسي) – رواية (24). (¬2) قرب الإسناد للحميري ص38، بحار الأنوار 22/ 322، الاختصاص للمفيد ص63 (¬3) الاختصاص ص6 وبحار الأنوار 28/ 259

جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأما الذي لم يتغير منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى فارق الدنيا طرفة عين فالمقداد بن الأسود، لم يزل قائماً قابضاً على قائم السيف عيناه في عيني أمير المؤمنين (ع) ينتظر متى يأمره فيمضي (¬1). بل لم يكن التعامل بين هؤلاء النفر على نمط الأخوة المعتادة بين أهل الإيمان الواحد. ففي رجال الكشي (قال أمير المؤمنين: يا أبا ذر، إنّ سلمان لو حدثك بما يعلم لقلت رحم الله قاتل سلمان) (¬2). وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا سلمان لو عُرض علمك على مقداد لكفر، يا مقداد لو عُرض علمك على سلمان لكفر) (¬3). وهو تعامل قائم على أساس التقية والكتمان لا على أساس المصارحة والوضوح، فعن جعفر عن أبيه (ع) قال: ذكرت التقية يوماً عند علي (ع) فقال: إن علم أبوذر ما في قلب سلمان لقتله، وقد آخى رسول الله بينهما فما ظنك بسائر الخلق) (¬4) فحتى تلك الفئة المؤمنة والتي لا تتعدى سبعة نفر تتناكر قلوبها وتتعامل بالتقية مع بعضها البعض. ثم لحق بركب هذه الفئة من المرتدين التائبين آخرون ذكرهم الكشي نقلاً عن الفضل بن شاذان فقال: (إنّ من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام أبو الهيثم بن ¬

_ (¬1) الاختصاص ص9 وبحار الأنوار 28/ 259 (¬2) رجال الكشي ص77 (ترجمة سلمان الفارسي) – رواية رقم (33). (¬3) رجال الكشي ص72 (ترجمة سلمان الفارسي) – رواية رقم (23). (¬4) رجال الكشي ص79 (ترجمة سلمان الفارسي) – رواية رقم (40).

التيهان وأبو أيوب وخزيمة بن ثابت وجابر بن عبد الله وزيد بن أرقم وأبو سعيد الخدري وسهل بن حنيف والبراء بن مالك وعثمان بن حنيف وعبادة بن الصامت ثم ممن دونهم قيس بن سعد بن عبادة وعدي بن حاتم وعمرو بن الحمق وعمران بن الحصين وبريدة الأسلمي وبشر بن كثير) (¬1). فوفقاً لهذه الروايات يتضح للقارئ أنّ الصحابة المؤمنين في اعتقاد الشيعة الإثني عشرية – في بداية الأمر – إنما هم ثلاثة (المقداد وسلمان وأبو ذر) والبقية مرتدون أناب بعضهم وتابوا إلى الله فصاروا بعد ذلك في قسم الممدوحين المرضيّ عنهم (الصحابة المؤمنين)! هذه حقيقة لا يعرفها كثير من عامة الشيعة الإثني عشرية وقد لمست هذا من خلال مناقشتي لكثير منهم ... يردد بعضهم اسم خزيمة بن ثابت وعماراً وأصحاب بدر الذين قاتلوا مع الإمام علي في صفين دون أن يدري أنّ هؤلاء جميعاً وفقاً لمرويات الشيعة الإثني عشرية كانوا أهل ردة مع باقي الصحابة ثم تابوا وأنابوا ورجعوا إلى الإمام بعد ذلك وأنّ منهم من تأخرت توبته حتى موقعة صفين! أي إنه كان على الردة طول فترة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان! ومن هؤلاء الصحابي خزيمة بن ثابت (ذو الشهادتين) الذي يفتخر به الشيعة الإثنا عشرية عادة. ذكر عباس القمي في "منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل" عن البهائي في "الكامل" قوله: إنّ خزيمة بن ثابت وأبا الهيثم الأنصاريين كانا جديين في نصرة أمير المؤمنين (ع) في يوم ¬

_ (¬1) رجال الكشي ص107 (ترجمة حذيفة وعبد الله بن مسعود) – رواية رقم (78).

صفين، وإنه (ع) قال: مع أنهما خذلاني في أول أمرهما غير أنهما تابا أخيراً وعرفا سوء ما فعلا!) (¬1). أما إذا أردنا أن نرى القسم الآخر من الصحابة وهم الذين يعتبرون عند الشيعة الإثني عشرية منافقين أو أرباب مصالح، فتحت هذا القسم يدخل جميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء السبعة الذين أشارت إليهم الروايات. وهذه الحقيقة لم أكتشفها لوحدي بل قررها علماء الشيعة الإثني عشرية منذ زمن لكن عباراتهم لا تكاد تُذكر للناس حتى يعلموا الحقيقة الغائبة ويُدركوا أي ظلم ظلمه المذهب لأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم. يقول يوسف البحراني في "الشهاب الثاقب في معنى الناصب" بكل صراحة ووضوح: (ويدل على ما قلناه من هذا التفصيل ما سيأتيك في الأخبار بالنسبة إلى أصحاب الصدر الأول أنهم أصحاب ردة، وأنهم لم ينج منهم إلا القليل، ثم رجع بعض الناس بعد ذلك شيئاً فشيئاً) (¬2). ويقول آية الله العظمى محمد الوحيدي في "إحقاق عقائد الشيعة": (إنّ حديث ارتداد الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأحاديث المعتبرة المتواترة، ووجهه أنّ إنكار ضروري الدين والمذهب يوجب الارتداد، فلما كانت الإمامة والخلافة أصلاً من أصول الدين، ومما آتاه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالقطع فمن ردّ على الرسول الأكرم ¬

_ (¬1) منتهى الآمال ص173 (¬2) الشهاب الثاقب ص63 (الفائدة الأولى).

صلى الله عليه وآله وسلم وأنكر ما جاء به يكون مرتداً بإجماع المسلمين. وهذا معنى ارتداد الناس بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا الثلاثة المذكورة (سلمان وأبوذر والمقداد)) (¬1). والعجب كل العجب فيما قاله عبد الحسين شرف الدين في "الفصول المهمة" عن نظرة الشيعة الإمامية للصحابة حيث يقول بكل بساطة ودون أدنى اكتراث لهذه الروايات: (رأي الإمامية في هذه المسألة أوسط الآراء!! إذ لم يفرّطوا تفريط الغلاة، ولا أفرطوا إفراط الجمهور) (¬2)، فبالله عليك، إذا كانت هذه هي الوسطية فكيف يكون الجور والبهتان؟! ولك أن تتساءل: إذا كان صحابة رسول الله بهذا المستوى بحيث تكون الخيرة في قلة منهم بينما الكثرة الغالبة أرباب مصالح أو منافقون، فعن أي صحابة كان يتكلم القرآن ويمتدحهم غير مرة؟! لا أظن أحداً سيغالط العقل والمنطق فيدّعي أنّ القرآن كان يمتدح تلك القلة القليلة التي لا تتجاوز السبعة فحسب. لأنّ مجتمعاً فاسداً منقلباً على عقبيه يوجد به قلة صالحة لا يُحكم عليه كله بالخير ولا الصلاح ولا الفلاح، فكيف يتحدث القرآن عن الصحابة واصفاً إياهم بالصلاح والفلاح ومبشراً لهم بالجنة وهم بهذا المستوى؟! فها هم أصحاب السبت (اليهود) الذين ذكرهم القرآن كان فيهم الصالح وفيهم المصلح وهم الأقلية، ومع ذلك أتاهم العذاب فنجىّ الله المصلحين منهم ومسخ الأكثرية الفاسدة وحكم على مجتمعهم بالفساد والخيبة واللعنة إلى يوم الدين. ¬

_ (¬1) إحقاق عقائد الشيعة ص108 (¬2) الفصول المهمة ص189

فقال عز من قائل {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْت} (¬1). ولك أن تتساءل أيها القارئ ... إن كان أهل النفاق بهذه الكثرة وهذه العدّة، وكانت السطوة والكلمة لهم، فكيف انتشر الاسلام وكيف سقطت فارس والروم وفُتح بيت المقدس؟ ثم ما دام هؤلاء هم المنافقون فمالهم لم يتفقوا مع الكفار على القضاء على البقية الباقية التي لا يتجاوز عدد أفرادها عدد أصابع اليد الواحدة أو اليدين. إنّ فئة المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن مجهولة في مجتمع المدينة بل كانت فئة مفضوحة مخزية عُلم بعضها بعينه وعُرف البعض الآخر منها بالأوصاف المذكورة في القرآن. فضحهم الله عز وجل في سورتي (المنافقين، والتوبة) مبيناً حالهم ودسائسهم وما تكنه صدورهم تجاه رسول الله والمؤمنين، وقد سُميت سورة التوبة بالفاضحة والمدمدمة لما أظهرته من صفاتهم ونواياهم وبما أظهرته من حال من قابلهم من المؤمنين. ومن يقرأ الآيات من قوله تعالى {لاَ يَسْتَاذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} (¬2) إلى قوله تعالى {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِين} فسيقف على صورة متكاملة لأهل النفاق يستطيع من خلالها أن يميز الخبيث من الطيب. ويكفينا بياناً لهذا الفرق، كيف فضح الله عز وجل المنافقين أمام الخلائق وبين حقيقتهم للناس بعد ما كان مكرهم سراً وفي الخفاء وذلك في قوله تعالى {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم ¬

_ (¬1) سورة النساء آية 47 (¬2) سورة التوبة آية 44

مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (¬1). والمنافقون معلومون بدليل أنهم بنوا مسجد الضرار فالمسجد معروف ومن بناه معروف. وقد جاء تأييداً لهذا المعنى في تفسير العياشي (¬2) تفسيراً لقوله تعالى {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} رواية سلام أنه قال: كنت عند أبي جعفر (ع) فدخل عليه حمران بن أعين فسأله عن أشياء فلما همّ حمران بالقيام قال لأبي جعفر (ع): أخبرنا أطال الله بقاك وأمتعنا بك إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا وتسلو أنفسنا عن الدنيا وتهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا؟ قال: فقال أبو جعفر (ع): إنما هي القلوب مرة يصعب عليها الأمر ومرة يسهل، ثم قال أبو جعفر (ع): أما إنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا رسول الله تخاف علينا النفاق؟، قال: فقال لهم: ولم تخافون ذلك؟ قالوا: إنا إذا كنا عندك فذكّرتنا رُوّعنا ووجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا فيها حتى كأنّا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل والأولاد والمال نكاد أن نحوّل عن الحال التي كنا عليها عندك وحتى كأنّا لم نكن على شيء، أفتخاف علينا أن ¬

_ (¬1) سورة محمد آية 29 - 30 (¬2) محمد بن مسعود الكوفي المعروف بـ (العياشي)، ترجم له الطوسي في "الفهرست ص212" فقال: (جليل القدر، واسع الأخبار بصير بالروايات، مطلع عليها)، ووصفه ابن شهرآشوب في "معالم العلماء ص134" بأنه أفضل أهل المشرق علماً وأنّ كتبه تزيد على مئتي مصنف.

يكون هذا النفاق؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كلا! هذا من خطوات الشيطان ليرغبنكم في الدنيا، والله لو أنكم تدومون على الحال التي تكونون عليها وأنتم عندي في الحال التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء ولولا أنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقاً لكي يذنبوا ثم يستغفروا فيغفر لهم، إنّ المؤمن مفتن توّاب أما تسمع لقوله تعالى {إنّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِين} (¬1) وقال {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (¬2) (¬3). لقد أبى الله عز وجل إلا أن يميز الخبيث من الطيّب، وألا يترك الحقيقة معمّاه، فهو القائل في محكم كتابه {مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّب} (¬4). يقول محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآية: (اندس في صفوف المسلمين منافقون لمجرد الهدم والتخريب، وقد فرض سبحانه على النبي والمسلمين أن يعاملوا كل من نطق بكلمة الإسلام معاملة المسلمين، ومن أجل هذا حار رسول الله! وكيف يقبلهم وهم يفسدون ويعاكسون؟ فقال سبحانه للنبي وللمسلمين: مهلاً، سأسلط عليهم الأضواء حتى يفتضحوا أمام الناس، ولا يبقى لهم منفذ للكيد والإفساد) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية 222 (¬2) سورة هود آية 3 (¬3) الكافي- كتاب الإيمان والكفر- (باب في تنقل أحوال القلب) – حديث (1) وحلية الأبرار 1/ 382 (الباب السادس والخمسون) – حديث رقم (20). (¬4) سورة آل عمران آية 179 (¬5) التفسير المبين (سورة آل عمران آية 179) ص78

ويتجلى هذا الافتضاح بما يجريه الله عز وجل من البلاء الشديد حتى تظهر صورهم الحقيقية وتنكشف أمام المؤمنين، قال تعالى {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُون} (¬1). و (المراد بالفتنة هنا افتضاح المنافقين على الملأ، وإظهار حقيقتهم لدى الجميع، وذلك بأنّ الله سبحانه كان يخبر نبيه الأكرم بما يبيّتون ويمكرون، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدوره يعاتبهم ويفضحهم، وقد تكرر هذا في كل عام مرة أو أكثر) (¬2). يقول الحافظ ابن كثير: (وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية، لأنّ مكة لم يكن فيها نفاق بل كان خلافه من الناس من كان يظهر الكفر مستكرهاً وهو في الباطن مؤمن، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم وكانوا ثلاث قبائل بنو قينقاع حلفاء الخزرج وبنو النضير حلفاء الأوس وبنو قريظة، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج وقلّ من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضاً لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تُخاف، بل قد كان صلى الله عليه وآله وسلم وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر وأظهر الله كلمته وأعز الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبي بن سلول وكان رأساً في المدينة وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية 126 (¬2) التفسير المبين (سورة التوبة آية 126) ص212

عليهم فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر قال: هذا أمر الله قد توجه، فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته وآخرون من أهل الكتاب فمن ثم وُجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد نافق لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرهاً بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة) (¬1). و (إنّ من المعلوم بالاضطرار والمتواتر من الأخبار أنّ المهاجرين هاجروا من مكة وغيرها إلى المدينة، وهاجر طائفة منهم كعمر وعثمان وجعفر بن أبي طالب هجرتين: هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة، وكان الإسلام إذ ذاك قليلاً والكفار مستولون على عامة الأرض وكانوا يُؤذون بمكة ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله وهم صابرون على الأذى، متجرعون لمرارة البلوى، فارقوا الأوطان، وهجروا الخلان لمحبة الله ورسوله والجهاد في سبيله كما وصفهم الله تعالى بقوله {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون} (¬2). وهذا كله فعلوه طوعاً واختياراً من تلقاء أنفسهم، لم يكرههم عليه مكره، ولا ألجأهم إليه أحد، فإنه لم يكن للإسلام إذ ذاك من القوة ما يُكره به أحد على الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ ذاك – هو ومن اتبعه – منهيين عن القتال، مأمورين بالصفح والصبر فلم يسلم أحد إلا باختياره، ولا هاجر أحد إلا باختياره. ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/ 50 (¬2) سورة الحشر آية 8

ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من العلماء: إنه لم يكن من المهاجرين من نافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار لما ظهر الإسلام بالمدينة، ودخل فيه قبائل الأوس والخزرج، ولما صار للمسلمين دار يمتنعون بها ويقاتلون دخل في الإسلام من أهل المدينة وممن حولهم من الأعراب من دخل خوفاً وتقية، وكانوا منافقين. كما قال تعالى {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم} (¬1). ولهذا إنما ذكر النفاق في السور المدنية، وأما السور المكية فلا ذكر فيها للمنافقين، فإنّ من أسلم قبل الهجرة بمكة لم يكن فيهم منافق، والذين هاجروا لم يكن فيهم منافق، بل كانوا مؤمنين بالله ورسوله، محبين لله ولرسوله، وكان الله ورسوله أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وأهلهم وأموالهم. وإذا كان كذلك علم أنّ رميهم – أو رمي أكثرهم أو بعضهم – بالنفاق، كما يقوله من يقوله من الشيعة الإثني عشرية الإمامية من أعظم البهتان، وكذلك دعواهم عليهم الردة من أعظم الأقوال بهتاناً، فإنّ المرتد إنما يرتد لشبهة أو شهوة، ومعلوم أنّ الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى، فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام، كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته وانتشار أعلامه؟! وأما الشهوة: فسواء كانت شهوة رياسة أو مال أو نكاح أو غير ذلك، كانت في أول الإسلام أولى بالاتباع، فمن خرجوا من ديارهم وأموالهم، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والعز حباً لله ورسوله، طوعاً غير إكراه، كيف يعادون الله ورسوله طلباً للشرف والمال؟! ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية 101

ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة، وقيام المقتضى للمعاداة، لم يكونوا معادين لله ورسوله، بل موالين لله ورسوله، معادين لمن عادى الله ورسوله، فحين قوي المقتضى للموالاة، وضعفت القدرة على المعاداة، يفعلون نقيض هذا؟! هل يظن هذا إلا من هو من أعظم الناس ضلالاً؟ وذلك أنّ الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه، وكمال الإرادة له وجب وجوده، وهم في أول الإسلام كان المقتضى لإرادة معاداة الرسول أقوى، لكثرة أعدائه وقلة أوليائه، وعدم ظهور دينه، وكانت قدرة من يعاديه باليد واللسان حينئذ أقوى، حتى كان يعاديه آحاد الناس، ويباشرون أذاه بالأيدي والألسن. ولما ظهر الإسلام وانتشر، كان المقتضى للمعاداة أضعف، والقدرة عليها أضعف، ومن المعلوم أنّ من ترك المعاداة أولاً، ثم عاداه ثانياً لم يكن إلا لتغير إرادته أو قدرته. ومعلوم أنّ القدرة على المعاداة كانت أولاً أقوى، والموجب لإرادة المعاداة كان أولاً أولى ولم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم ولا قدرتهم، فعُلم علماً يقيناً أنّ القوم لم يتجدد عندهم ما يوجب الردة عن دينهم البتة، والذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن أسلم بالسيف، كأصحاب مسيلمة وأهل نجد، فأما المهاجرون الذين أسلموا طوعاً فلم يرتد منهم – ولله الحمد – أحد) (¬1). ¬

_ (¬1) منهاج السنة النبوية 7/ 475 - 478 بتصرف

عدالة الصحابة

عدالة الصحابة عندما نتكلم عن مفهوم (العدالة) في حق صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإننا أمام نوعين من العدالة، لا بد من تأملهما جيداً. النوع الأول: عدالة الرواية، والثاني: عدالة السيرة. فأما النوع الأول وهو (عدالة الرواية) فهو المعني عند أهل السنة والجماعة بمصطلح (عدالة الصحابة) لا غيره، وفي هذا يقول اللكنوي رحمه الله: (وقد تُطلق العدالة على التجنب عن تعمد الكذب في الرواية والانحراف فيها بارتكاب ما يوجب عدم قبولها، وهذا المعنى هو مراد المحدّثين من قولهم: الصحابة عدول. فقد قال السخاوي في "فتح المغيث": قال ابن الأنباري: ليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية منهم، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلّف البحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا أن يثبت ارتكاب قادح ولم يثبت ذلك. انتهى. وقال العلامة الدهلوي مؤلف "التحفة الإثنا عشرية" وغيرها: في بعض إفاداته: إنّ ما تقرر في عقائد أهل السنة أنّ الصحابة كلهم عدول قد تكرر ذكره غير مرة، ووقع في البحث والتفتيش عن معناه حضرة الوالد المرحوم (¬1) فتنقّح بعد البحث أنّ المراد بالعدالة في هذه الجملة ليس معناها المتعارف بل المراد العدالة في رواية الحديث لا غير، وحقيقتها التجنب عن تعمد الكذب في الرواية والانحراف فيها، ولقد تتبعنا سيرة الصحابة كلهم حتى من دخل ¬

_ (¬1) ولي الله الدهلوي مؤلف كتاب (حجة الله البالغة).

منهم في الفتنة والمشاجرات، فوجدناهم يعتقدون الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد الذنوب، ويحترزون عنه غاية الاحتراز كما لا يخفى على أهل السير) (¬1). قال العلامة المعلمي في رسالته "الاستبصار في نقد الأخبار ص16": (وقد كان العرب يتحاشون من الكذب، وتأكد ذلك فيمن أسلم، وكان أحدهم وإن رق دينه لا يبلغ به أن يجترئ على الكذب على الله ورسوله، وكانوا يرون أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوافرون، وأنه إن اجترأ أحد على الكذب افتُضح. ولو قال قائل: إنّ الله تبارك وتعالى منع القوم من تعمد الكذب على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بمقتضى ضمانه بحفظ دينه ولا سيما مع إخباره بعدالتهم لما أبعد. ومن تدبر الأحاديث المروية عمن يمكن أن يُتكلم فيه من الطلقاء ونحوهم ظهر له صدق القوم، فإنّ المروي عن هؤلاء قليل، ولا تكاد تجد حديثاً يصح عن أحد منهم إلا وقد صح بلفظه أو معناه عن غيره من المهاجرين والأنصار، وقد كانت بين القوم إحن بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلو استساغ أحد منهم الكذب لاختلق أحاديث تقتضي ذم خصمه، ولم نجد من هذا شيئاً صحيحاً صريحاً. وفوق هذا كله فأهل السنة لم يدعوا عصمة القوم، بل غاية ما ادعوه أنه ثبت لهم أصل العدالة ثم لم يثبت ما يزيلها، والمخالف يزعم أنه قد ثبت عنده في حق بعضهم ما يزيل العدالة فانحصر الخلاف في تلك الأمور التي زعمها، فإذا أثبت أهل السنة أنها لم تصح وأنّ ما صح منها لا يقتضي زوال العدالة استتب الأمر. ¬

_ (¬1) ظفر الأماني في مختصر الجرجاني للكنوي ص506 - 507.

فأما من ثبتت شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالمغفرة والجنة فقد تضمن ذلك تعديلهم أولاً وآخراً، والله الموفق). أقول: ولهذا النوع من العدالة شاهد من كلام أهل البيت في كتب الشيعة الإثني عشرية يتجاهله المتجاسرون على الصحابة عن قصد أو جهل لما فيه من الدلالة على ما ذكرناه. فقد روى الكليني في الكافي عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله (ع): ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب ثم يجيئك غيري فتجبيه فيها بجواب آخر؟ فقال: إنا نجيب الناس على الزيادة والنقصان، قال: قلت: فأخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدقوا على محمد أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا، قال: قلت فما بالهم اختلفوا؟ فقال: أما تعلم أنّ الرجل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب ثم يجيبه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب فنسخت الأحاديث بعضها بعضاً) (¬1). فهذه شهادة صريحة تنقلها كتب الإمامية عن الإمام جعفر الصادق، ينص فيها على صدق الصحابة رضي الله عنهم وانتفاء الكذب عنهم، فمن ادّعى الانتساب إلى مذهب هذا الإمام فلا بد له أن يُذعن لشهادته هذه وإلا كانت دعواه الانتساب لمذهبه كذباً محضاً. والحقيقة أنه لم ينقل عن الإمام جعفر الصادق – في كتب الإمامية- في الشهادة بعدالة الصحابة هذه الرواية فحسب، فمن الروايات الحاكمة بعدالة صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً ما رواه ابن بابويه القمي عن إلإمام جعفر الصادق أنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس بمنى في حجة الوداع في مسجد الخيف فحمد الله وأثنى ¬

_ (¬1) الكافي- كتاب فضل العلم - (باب اختلاف الحديث) – حديث رقم (3).

عليه، ثم قال: نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، ثم بلّغها إلى من لم يسمعها فرُبّ حامل فقه غير فقيه وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغلّ عليهن قلب امرئ مسلم إخلاص العمل لله والنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم. المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم (¬1). فإن لم يكن الصحابة عدولاً، فكيف يأتمنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تبليغ كلامه إلى من لم يسمعه؟! إنّ الشهادة لا يصلح لها إلا العدل، وإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد شهد لصحابته بهذا النص بأنهم أهل للنقل عنه دون قيد أو شرط. هذا ما يخص (عدالة الرواية)، وبقي الحديث عن النوع الثاني من العدالة وهو (عدالة السيرة) (¬2) فإنه يتطلب منا بعض الوقفات الهامة التي من شأنها أن توصل القارئ الكريم إلى حقيقة الأمر. ¬

_ (¬1) الخصال ص149 - 150 (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم) حديث رقم (182). (¬2) إنّ أعدل الأقوال في تعريف العدالة وأنسبها هو القول بأنها (عدم الفسق) وقد سألت العلامة محمد الحسن ولد ددو الشنقيطي عن أصح تعاريف العدالة فأكد لي أنّ أصحها هو ما ذكرته آنفاً. وإليه ذهب الإمام الشافعى حيث يقول: (لو كان العدل من لا ذنب له لم نجد عدلاً، ولو كان كل مذنب عدلاً لم نجد مجروحاً، ولكن العدل من اجتنب الكبائر؛ وكانت محاسنه أكثر من مساويه) "الروض الباسم فى الذب عن سنة أبى القاسم" لابن الوزير اليمانى 1/ 28 وقريب منه تعريف الشيخ المفيد للعدالة الذي يقول في "المقنعة ص725": (العدل من كان معروفاً بالدين والورع عن محارم الله تعالى).

الوقفة الأولى: إنّ الإيمان بأصالة عدالة الصحابة بمفهومها الثاني (عدالة السيرة) مرده إلى ثناء الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم على الصحابة الكرام. فقد قال الله تعالى فيهم {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} (¬1). وقال عز من قائل {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (¬2). وقال فيهم أيضاً {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُون} (¬3). وبمثل هذا الثناء العطر جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية 100 (¬2) سورة الفتح آية 29 (¬3) سورة الحجرات آية 7

فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة عن أبيه قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي العشاء، قال: فجلسنا فخرج علينا، فقال: ما زلتم ههنا؟ قلنا: يا رسول الله، صلينا معك المغرب، ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال: أحسنتم أو أصبتم، قال: فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) (¬1). وورد الحديث ذاته من طريق الشيعة عن الإمام موسى الكاظم عن آبائه (ع) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أنا أمنة لأصحابي، فإذا قبضت دنا من أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا قبض أصحابي دنا من أمتي ما يوعدون، ولا يزال هذا الدين ظاهراً على الأديان كلها ما دام فيكم من قد رآني) (¬2). وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الناس خير؟ قال: قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه، وتبدر يمينه شهادته) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب (بيان أنّ بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمان لأصحابه وبقاء أصحابه أمان للأمة) – حديث رقم (2531). (¬2) بحار الأنوار للمجلسي 22/ 309 - 310 عن (نوادر الراوندي ص23). (¬3) رواه البخاري – كتاب الأيمان والنذور – باب (إذا قال: أشهد بالله أو شهدت بالله) – حديث (6658) ورواه مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب (فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) – حديث رقم (2533) واللفظ لمسلم.

وبسبب ما تضمنته هذه الآيات والأحاديث وغيرها من الثناء على صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً، تظافرت الروايات عن أئمة أهل البيت في الثناء على الصحابة بما هم أهل له. فهذا الإمام علي بن أبي طالب يذكر الصحابة فيثني عليهم قائلاً: «لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما أرى أحدًا يشبههم منكم، لقد كانوا يصبحون شعثًا غبراً وقد باتوا سجدًا وقيامًا، يراوحون بين جباههم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم كأنّ بين أعينهم ركب المعزى (¬1) من طول سجودهم، إذا ذُكِر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفًا من العقاب ورجاء للثواب» (¬2). وهذا هو حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن العباس رضي الله عنه يقول عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الله – جل ثناؤه وتقدست أسماؤه – خصّ نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصحابة آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم الله في كتابه فقال {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (¬3) قاموا بمعالم الدين وناصحوا ¬

_ (¬1) جمع ركبة موصل الساق من الرجل بالفخذ. وإنما خص ركب المعزى ليبوستها واضطرابها من كثرة الحركة، أي أنهم لطول سجودهم يطول سهودهم، وكأنّ بين أعينهم جسم خشن يدور فيها فيمنعهم عن النوم والاستراحة. (¬2) نهج البلاغة ص189 - خطبة رقم (97). (¬3) سورة الفتح آية 29

الاجتهاد للمسلمين حتى تهذبت طرقه وقويت أسبابه وظهرت آلاء الله، واستقر دينه ووضحت أعلامه، وأذل بهم الشرك، وأزال رؤوسه ومحا دعائمه، وصارت كلمة الله العلياء وكلمة الذين كفروا السفلى فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزكية والأرواح الطاهرة العالية فقد كانوا في الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها) (¬1). فهذه الصفات التي وصفهم بها عبد الله بن عباس رضي الله عنه كلها مناقب وثناء حسن يذكرون به في الآخرين وقد كانوا رضي الله عنهم كما وصفهم، فقد خصهم الله تعالى وشرفهم بصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام، وآثروه بأموالهم وأنفسهم، وأقاموا معالم الدين الإسلامي الحنيف، ونصحوا للأمة واجتهدوا في نشر الإسلام وتثبيت دعائمه حتى استقر في الأرض وأذل الله بهم الشرك وأهله وأزيلت رؤوسه، ومحيت دعائمه وأعلى الله بهم كلمته ودحر بهم كلمة الباطل، وبذلك كانت نفوسهم زكية وأرواحهم طاهرة فكانوا أولياءَ لله في هذه الحياة الدنيا فرضوان الله عليهم أجمعين. أما الإمام علي بن الحسين فكان يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويدعو لهم في صلاته بالرحمة والمغفرة لنصرتهم سيد الخلق في نشر دعوة التوحيد وتبليغ رسالة الله إلى خلقه فيقول: (فاذكرهم منك بمغفرة ورضوان، اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا ¬

_ (¬1) مروج الذهب ومعادن الجوهر 3/ 75

بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته، اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الحق عليك، وكانوا من ذلك لك وإليك، واشكرهم على هجرتهم فيك ديارهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ومن كثرة في اعتزاز دينك إلى أقله، اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان خير جزائك، الذين قصدوا سمتهم، وتحروا جهتهم، لو مضوا إلى شاكلتهم لم يثنهم ريب في بصيرتهم، ولم يختلجهم شك في قفو آثارهم والائتمام بهداية منارهم مكانفين ومؤازرين لهم يدينون بدينهم، ويهتدون بهديهم، يتفقون عليهم، ولا يتهمونهم فيما أدوا إليهم) (¬1). وأما الإمام زيد بن علي بن الحسين، فقد ذكر الإمام (المنصور بالله) عبد الله بن حمزة –وهو من أئمة الزيدية الكبار – في كتاب له اسمه (جواب المسائل التهامية) نظرته للصحابة فقال: (فإنه عليه السلام أثنى عليهم على الإجمال وعدّد مزاياهم على غيرهم) ثم قال: (فهم خير الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده فرضي الله عنهم وجزاهم عن الإسلام خيراً، ثم قال: فهذا مذهبنا لم نخرجه غلطة ولم نكتم سواه تقية، ومن هو دوننا مكاناً وقدرة يسب ويلعن ويذم ويطعن ونحن إلى الله – سبحانه – من فعله براء، وهذا ما يفضي به علم آبائنا منا إلى علي عليه السلام) إلى قوله: (وفي هذه الجهة من يرى محض الولاء سب الصحابة ش والبراء منهم، فيبرأ من محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حيث لا يعلم وأنشد: ... وإن كنت لا أرمي وترمي كنانتي ... تصب جائحات النبل كشحي ومنكبي (¬2) (¬3) ¬

_ (¬1) الصحيفة الكاملة للإمام زين العابدين ص39 وأعيان الشيعة 1/ 645 (¬2) الكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف، والمنكب: العضو الرابط بين كتف الإنسان ويده. (¬3) الرياض المستطابة ص300

وأما الإمام جعفر الصادق فقد نقل عنه ابن بابويه القمي أنه وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فقال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله اثني عشر ألفاً، ثمانية آلاف من المدينة، وألفان من مكة، وألفان من الطلقاء، ولم يُر فيهم قدريّ ولا مرجي ولا حروري ولا معتزلي ولا صاحب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار ويقولون: اقبض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير) (¬1). فإذا لم يكن في الصحابة مرجيء ولا حروري ولا معتزلي ولا صاحب رأي، فكيف يكون فيهم من هو أشد من هذا وذاك (المنافق!) كما يدّعي المتطرفون؟! إنّ ما يحكيه الإمام الصادق في هذه الرواية هو عين التزكية القرآنية التي جاءت لتمدح صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبشرهم برضا الله عليهم وبجنان الخلد، فأين هذا كله من الروايات السقيمة التي تدّعي ارتداد صحابة رسول الله إلا بضعة رجال لا يتجاوزن عدد أصابع اليدين العشرة! ولهذا كان من الوصايا التي حفظها الإمام الصادق عن آبائه عن الإمام علي قوله: «أوصيكم بأصحاب نبيكم لا تسبوهم، الذين لم يحدثوا بعده حدثًا، ولم يؤووا محدثًا؛ فإنّ رسول الله أوصى بهم الخير» (¬2). أما حفيده الإمام العسكري فموقفه تجاه الصحابة لا يختلف عن موقف سائر أهل البيت فهو القائل: «لما بعث الله تعالى موسى بن عمران واصطفاه نجيًا، وفلق له البحر، ونجَّى بني إسرائيل، وأعطاه التوراة والألواح رأى مكانه من ربه تعالى، فقال موسى: يا رب، فإن كان ¬

_ (¬1) الخصال ص638 - 639 (كان أصحاب رسول الله اثني عشر ألف رجل) - حديث رقم (15). (¬2) بحار الأنوار 22/ 305 - 306

آل محمد كذلك، فهل في أصحاب الأنبياء أكرم عندك من صحابتي؟ قال الله تعالى: يا موسى، أما علمت أنّ فضل صحابة محمد على جميع صحابة المرسلين كفضل آل محمد على جميع آل النبيين، وكفضل محمد على جميع النبيين، فقال موسى: يا رب، ليتني كنت أراهم! فأوحى الله إليه: يا موسى، إنك لن تراهم، فليس هذا أوان ظهورهم، ولكن سوف تراهم في الجنات -جنات عدن والفردوس- بحضرة محمد، في نعيمها يتقلبون، وفي خيراتها يتبحبحون» (¬1). الوقفة الثانية: إنّ القول بعدالة سيرة الصحابة رضوان الله عليهم لا يعني أنهم معصومون من المعاصي والمخالفات، أو أنهم لا يخطئون ولا يغلطون، بل هم كسائر الناس من بني آدم في الطبائع والنقص البشري. فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحيح مسلم: (والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) (¬2). وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً في قوله تعالى {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَم} (¬3): (إن تغفر اللهم، تغفر جمّاً، وأي عبد لك لا ألمّا) (¬4). ¬

_ (¬1) تأويل الآيات 1/ 418 والمحتضر للحلي ص273 - 274 وتفسير الإمام العسكري ص31 - 32 وبحار الأنوار 13/ 340 - 341 و89/ 246 (¬2) رواه مسلم – كتاب التوبة – باب (سقوط الذنوب بالاستغفار والتوبة) – حديث رقم (2749). (¬3) سورة النجم آية 32 (¬4) رواه الترمذي – كتاب تفسير القرآن – باب (ومن سورة والنجم) – حديث رقم (3284).

والواقع يصدّق ما قلناه في الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم قد صدرت منهم معاصي لا تضر بعدالتهم ومن ورد في حقه منهم ارتكابه لكبيرة من الكبائر فإنه قد ورد عنه أيضاً إتباعها بتوبة صادقة أو بحد دنيوي مكفّر للذنب كالغامدية التي زنت ورجمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكالرجل الذي كان يشرب الخمر ويؤتى به إلى رسول الله فأقام عليه الحد مراراً، والمخزومية التي سرقت، وحاطب بن أبي بلتعة الذي أخبر قريشاً بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاتحاً، وهؤلاء جميعاً تابوا إلى الله عز وجل إما باستغفار وإنابة إلى الله عز وجل أو بإقامة حد دنيوي، والحدود كفارات كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن أصاب شيئاً من ذلك (أي من الزنا أو السرقة أو قتل النفس بغير حق) فعوقب فهو كفارة له) (¬1)، ولذلك فالحديث عنهم بسوء أو استغلال هذه المعاصي التي تابوا منها لا في القدح فيهم فحسب بل لنقض عدالة غيرهم هو من الظلم البيّن بل من التجني! يقول الألوسي – رحمه الله – في "الأجوبة العراقية ص 23 - 24": " ليس مرادنا من كون الصحابة – رضي الله عنهم – جميعهم عدولاً: أنهم لم يصدر عن واحد منهم مفسَّق أصلاً، ولا ارتكب ذنباً قط، فإن دون إثبات ذلك خرط القتاد، فقد كانت تصدر منهم الهفوات .... " إلى أن قال: " ثم إنّ مما تجدر الإشارة إليه، وأن يكون الإنسان على علم منه: هو أنّ الذين قارفوا إثماً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم حُدّوا هم قلة نادرة ¬

_ (¬1) نص الحديث كالتالي: (عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس، فقال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذّبه) والحديث في صحيح مسلم – كتاب الحدود – باب الحدود كفارات لأهلها – حديث رقم (1709).

محمد حسين فضل الله ومفهوم العدالة

جداً، لا ينبغي أن يُغَلَّب شأنهم وحالهم على الألوف المؤلفة من الصحابة - رضي الله عنهم - الذين ثبتوا على الجادة والصراط المستقيم، وحفظهم الله - تبارك وتعالى - من المآثم والمعاصي، ما كبُر منها وما صغر، وما ظهر منها وما بطن، والتاريخ الصادق أكبر شاهد على هذا". وقد صرّح المجلسي في "بحار الأنوار" بما يؤكد كلامنا السابق من أنّ العدالة إذا زالت بارتكاب كبيرة فإنها تعود إلى صاحبها بعد تطبيق الحد الشرعي عليه أو توبته. يقول المجلسي: (وإذا زالت العدالة بارتكاب ما يقدح فيها فتعود بالتوبة بغير خلاف ظاهراً، وكذلك من حُدّ في معصية ثم تاب رجعت عدالته وقُبلت شهادته، ونقل بعض الأصحاب إجماع الفرقة على ذلك) (¬1). وما دامت المسألة كذلك، فلماذا يستمر مسلسل الطعن في عدالة الصحابة ويُعرض هؤلاء الصحابة كمثال للفساق - عياذاً بالله- وقد تاب الله عليهم؟! محمد حسين فضل الله ومفهوم العدالة مَنْ يتمسك ببعض الروايات المتضمنة لخطأ صحابي أو ذنب اقترفه يغالط نفسه ... إذ كل عدل يذنب وإلا كان معصوماً! هذا بعد افتراض أنّ هذا الصحابي قد تعمد اقتراف الذنب مع معرفته بحكمه، وإلا فبعضهم اقترف بعض الذنوب لعدم بلوغه دليل التحريم أو بلغه لكنه تأوله على غير تأويله الصحيح ظناً منه بأنه المراد. ¬

_ (¬1) بحار الأنوار 85/ 30 - 31

ولهذا أقول: لا يبحث عن زلات الصحابة أو عامة المؤمنين إلا من في قلبه مرض، إذ ليس من أخلاق المؤمنين الصادقين تتبع عثرات أهل الإيمان، فمن ذا الذي ما ساء قط، ومن ذا الذي له الحسنى فقط! لقد شكى أحد مقلدي آية الله العظمى محمد حسين فضل الله له تشدد بعض العامة في عدالة إمام الجماعة بقوله: (يتوهم بعض الناس أنّ العدالة من الأمور التي يصعب إدراكها والتعرف عليها، وكثيراً ما يطلب الناس في إمام الجماعة صفات تقرّب من العصمة، فكيف نتثبت من عدالة الإمام، وهل يكفي ذكر أهل بلده له بالخير وكمال الدين ... رغم أنّ المخبرين ليسوا عدولاً؟ أجاب فضل الله: (العدالة ليست العصمة ... فقد يعصي المؤمن العادل ثم يتوب بعد انتباهه لذلك، على هدى قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُون} (¬1) أما كيف تثبت العدالة، فذلك بحسن الظاهر في سلوكه العام في المجتمع، بحيث يرى الناس فيه الإنسان المستقيم في دينه وفي أخلاقه الفردية أو الاجتماعية المرتبطة بالحدود الشرعية، كما تثبت بالشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان وبخبر الثقة بعدالته ولا قيمة لخبر الفاسق في العدالة سلباً أو إيجاباً) (¬2). وهذا ما يقوله أهل السنة في صحابة رسول الله ... فإنهم لا يقولون بعصمتهم بل يقولون بأنهم مؤمنون يذنبون ويتوبون ... فلماذا تُعطى قضية عدالة الصحابة أكبر من حجمها الطبيعي؟ ¬

_ (¬1) سورة الأعراف آية 201 (¬2) المسائل الفقهية ص174 الجزء الثاني

بعض أهل السنة أساءوا لمفهوم (العدالة)

بعض أهل السنة أساءوا لمفهوم (العدالة) وهذه حقيقة لا يستطيع أحد إنكارها ... فبعض المنتسبين لأهل السنة لما رأوا ما في كلام الشيعة الإثني عشرية من الطعن في أصحاب رسول الله والقول بردتهم ورأوا السباب والشتائم والأدعية المتضمنة للعن الشيخين أبي بكر وعمر (¬1)، ورأوا بالمقابل عبارات مُجملة لقدماء علماء أهل السنة في التنصيص على عدالة الصحابة بجُملتهم، تمسكوا بحرفية تلك العبارات دون فهم المراد منها والتفصيل اللازم لها، فصار هؤلاء يشنّعون على من يضع الأمور في نصابها، وقد ساهم هؤلاء المتعصبة للأسف الشديد في إيجاد فجوات وثغرات في ¬

_ (¬1) كدعاء صنمي قريش، والمراد بصنمي قريش عند الإثني عشرية (أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما)، ونص الدعاء كما في كتاب المحتضر للشيخ حسن بن سليمان الحلي (من علماء القرن الثامن) كالتالي: اللهم صلِ على محمد وآل محمد، والعن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وإفكيهما وابنتيهما اللذين خالفا أمرك وأنكرا وحيك، وجحدا إنعامك، وعصيا رسولك، وقلبا دينك وحرّفا كتابك) إلى آخر الدعاء. وقد اعتنى علماء الشيعة بهذا الدعاء اعتناء خاصاً، فقد ذكر آغا بزرك الطهراني جملة من الشروح له أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: (ذخر العاملين في شرح دعاء الصنمين) وعلّق الطهراني بعدها قائلاً: (وهما اللات والعزى (أبو بكر وعمر) للمولى محمد مهدي بن المولى على أصغر بن محمد يوسف القزويني ألفه باسم الشاه سلطان حسين الصفوي. و (شرح دعاء صنمي قريش) للشيخ أبي السعادات أسعد بن عبد القاهر، أستاذ المحقق الخواجة نصير الطوسي وغيره. و (شرح دعاء صنمي قريش) لشيخنا الميرزا محمد علي المدرس الچهاردهي النجفي، كان بخطه عند حفيده مرتضى المدرسي.

موضوع عدالة الصحابة حتى اعترى بعض العامة الشك في عدالة صحابة نبيهم ووجدوا إلى ذلك سبيلاً ما كانوا ليجدونه لو التزموا الفهم الصحيح لمفهوم العدالة. فالقول بعدالة سيرة الصحابة إجمالاً لا يعني خروج الآحاد منهم عنها لأدلة شرعية أو لفسق ظاهر لا يحتمل التأويل وإحسان الظن بهم. قال الأمير الصنعاني في "توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار 2/ 436": (وأهل الحديث وإن أطلقوا القول بعدالة الصحابة كلهم عند الإجمال فإنهم يستثنون من هذه صفته عند تفاصيلهم لأفراد الصحابة وإنما لم يذكروه في مقام الإجمال لندوره، فنزّلوا النادر منزلة العدم فإنهم قدبينوا ذلك الاستثناء في كتب معرفة الصحابة). وقال أيضاً في "أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآمل": (وأئمة الحديث وإن أطلقوا بأنّ الصحابة كلهم عدول فقد بيّنوا أنه من العام المخصوص وخرّجوا جماعة منهم مثل الوليد بن عقبة وغيره كما بيّنه السيد محمد في التنقيح وزدناه توضيحاً في شرحنا في التوضيح، وأما الأدلة على عدالة الصحابة فكثيرة جداً قد استوفيناها في التوضيح أيضاً من آيات قرآنية وأحاديث نبوية. واعلم أنّ الذي نختاره أنّ الأصل عدالة الصحابة إلا من ظهر اختلالها منه بارتكاب مفسق وهم قليل كما أفاده النظم، وهذا الذي ذهب إليه أئمة أهل البيت ... وهذا بعينه هو مذهب المحدثين كما قرره السيد محمد في العواصم والتنقيح) (¬1). ¬

_ (¬1) إجابة السائل 1/ 130 - 131

أقول: وبالمثال تتجلى الصورة، فلو أنك قلت (كل أهل السودان طيبون) فلا يعني قولك هذا أنك إن مررت في حياتك بسوداني شرير أو خبيث أنّ ذلك يعني انتقاض القاعدة في أهل السودان جميعاً، فلكل قاعدة استثناءات ولا عيب في هذا إلا عند المتشددين من الناس. وكذلك الحال فيما لو قال رجل بأنّ (كل أهل الجزائر كرماء)، فوجدت بخيلين أو ثلاثة قد خرجوا عن القاعدة لأسباب خاصة، فلا يعني ذلك نقض القاعدة في أهل الجزائر جميعاً! ومشكلة متعصبة أهل السنة أنهم يتصورون أنّ خروج أحد من الصحابة عن قاعدة العدالة لنص شرعي ورد فيه قد يؤثر على مبدأ العدالة، فيتعصبون جهلاً لمفهوم العدالة فيردون النص الشرعي أو ربما يقبلونه ولكنهم يعطّلون معناه، فلا يخرجون ذاك الصحابي من العدالة رغم تبشير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له بالنار أو حكمه عليه بالفسق! (¬1) وهؤلاء يحسبون أنهم يحسنون صنعاً بصنيعهم هذا، ولا يدركون أي جُرم ارتكبوا في حق أصحاب رسول الله وفي حق الناس. فبسبب تعصبهم وتجاهلهم للحقائق الجلية وجد الطاعنون في الصحابة سبيلاً للطعن وفي استغلال ما ورد في الظالمين والفاسقين لصبه في محيط حسنات الصالحين والصالحات! ¬

_ (¬1) إنّ عدالة الصحابة معلومة وثابتة في الكتاب والسنة، لا يماري في ذلك إلا جاهل لحقهم أو مبغضٍ لهم، لكنه ينبغي أن يُعلم أنّ من ثبت في حقه منهم دليل صحيح صريح لا يحتمل التأويل ولا إحسان الظن لثبوت انتفاء جهل الصحابي لحرمة الفعل الذي ارتكبه أو تأوله فيه أو توبته منه أو تطهره منه بحد فإنه يُحكم بخروجه من العدالة لا سيما إذا ورد في حقه نص لا يحتمل سوى الجزم بذلك كما في حادثة كركرة والرجل الذي قتل نفسه كما سيأتي. أما الظنون والترجيحات أو الروايات الضعيفة والمكذوبة فلا عبرة بها ولا يصح أن ننفي بها عدالة مسلم فضلاً عن أن ننفي بها عدالة من أثنى الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم عليهم!

وأهل السنة والجماعة وسط بين طرفي الغلو، لا يرتضون الطعن في صحابة رسول الله ولا أمهات المؤمنين ولكنهم مع ذلك يدينون الله تعالى بما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حق أشخاص أساءوا الصحبة. ولنأت بمثالين حيين لما نذكره: - كِرْكِرَة: روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: كان على ثقل (¬1) النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ يقال له كِرْكِرَةُ، فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (هو في النار)، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها (¬2) (¬3). قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري": (وقوله "هو في النار" أي يعذب على معصيته أو المراد هو في النار إن لم يعف الله عنه) (¬4). وقال الحافظ بدر الدين العيني في "عمدة القاري" قوله: (هو في النار)، قال ابن التين عن الداودي: يُحتمل أن يكون هذا جزاؤه إلا أن يعفو الله، ويحتمل أن يصيبه في القبر، ثم ينجو من جهنم، ويحتمل أن يكون وجبت له النار من نفاق كان يسره أو بذنب مات عليه مع غلوله أو بما غل، فإن مات مسلماً فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) (¬5). ¬

_ (¬1) الثَقَل (بفتح الثاء والقاف) هو ما يثقل حمله من الأمتعة. (¬2) الغلول هو ما أخذه من الغنيمة بغير وجه حق. (¬3) صحيح البخاري- كتاب الجهاد والسير- باب (القليل من الغلول) - حديث رقم (3074). (¬4) فتح الباري 6/ 188 (¬5) عمدة القاري 15/ 8

أقول: قد أحسن ابن حجر والعيني فيما قالا، فعِلم الآخرة عند الله تعالى، فقد يكون المرء مستحقاً للعقاب أو الحد في الدنيا ويكون عند ربه عز وجل من المغفور لهم والمرحومين فالأمر عند الله تعالى إن شاء عفا وإن شاء عذبه. وكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم - كما قال الحافظ ابن حجر- قد يحتمل أنّ كركرة من أهل النار وأنه يعذب فيها لذنبه، وقد يحتمل أنه مستحق للعذاب فيها إن لم يعف الله عنه. وكلا الاحتمالين لن يغيّرا من الأمر شيئاً، فكلامنا عن العدالة مرتبط بالدنيا لا بالآخرة فلا يصح لعاقل أن يستدل بكلام ابن حجر السابق لِلي عنق النص بحيث يُجعل المستحق لدخول النار بنص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدلاً، فمن يجرؤ على الإدعاء بأنّ من شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل موته بالنار (عدل في الدنيا)! فإن كان كركرة عدلاً مستقيماً، فلِم شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنار؟! (¬1) أما احتمال ابن التين أن تكون النار قد وجبت له من نفاق كان يسره، فهو احتمال بعيد لا يملك أحدٌ منا دليلاً عليه، والجزم بخروج كِرْكِرَة من العدالة أهون من جعله في زمرة المنافقين كما تعلم! فأما المتعصبون فسيكونون فريقين، فريق يتعصب للعدالة دون النص فيجعل كركرة عدلاً مع دخوله النار! وفريق آخر سيتعصب لهواه فيجعل الصحابة كلهم (كركرة)! ¬

_ (¬1) إنّ هذا ليذكرني بتعليق للشيخ الألباني رحمه الله على حديث (قاتل عمار في النار) حيث ذكر في تعليقه على الحديث في السلسلة الصحيحة 5/ 19بأنه أبو الغادية الجهني، وذكر جزم ابن معين بأنه قاتل عمار ثم قال معلقاً على قاعدة العدالة: (فالصواب أن يقال: إنّ القاعدة صحيحة إلا ما دلّ الدليل القاطع على خلافها فيُستثنى ذلك منها كما هو الشأن هنا، وهذا خير من ضرب الحديث الصحيح بها، والله أعلم).

وأما أهل الإنصاف فسيجعلون لكل شيء قدره دون إفراط ولا تفريط فيقولون (كركرة) نموذج لصحابة خرجوا من عدالة السيرة لدليل شرعي ولفسق ظاهر لا تأويل فيه ولذلك استحق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم. - الرجل الذي قتل نفسه: روى مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (أُتيَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل قتل نفسه بِمَشَاقِصَ (¬1)، فلم يُصلِ عليه) (¬2). والانتحار كبيرة من كبائر الذنوب، وقد مات هذا الرجل على هذه الكبيرة، ولذلك لم يُصلِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه، ونحن وإن كنا لا نجزم له بجنة أو بنار على اعتبار أنّ مرد علم ذلك إلى الله تعالى، فقد يغفر له وقد يعاقبه على ذنبه إلا أننا نملك الجزم بأنه مات في الدنيا على غير العدالة. فالصحابة في مجموعهم عدول لكنّ ذلك لا يعني عدم خروج آحادهم من العدالة لدليل شرعي أو فسق ظاهر لا تأويل فيه (¬3). ¬

_ (¬1) سهام عراض، واحدها مشقص. (¬2) صحيح مسلم - كتاب الجنائز - باب (ترك الصلاة على القاتل نفسه) - حديث رقم (978). (¬3) إنّ انتفاء عدالة السيرة عن صحابي لفعله كبيرة من كبائر الذنوب أو إصراره على صغيرة لا يعني انتفاء عدالة الرواية، لأنّ إجلال الصحابة لرسول الله ومعرفتهم لعظم جريمة الكذب على رسول الله مما يعرفه كل عاقل فمن ادّعى غير ذلك فعليه أن يأتي بالدليل، ولن يجد دليلاً واحداً على صحابي واحد أنه كذب على رسول الله، وغاية ما يثيره أهل الأهواء هو الطعن في أبي هريرة بشتى الطرق، وقد أفادنا الأستاذ عبد الله الناصر في كتابه (البرهان في تبرئة أبي هريرة من البهتان) بما يدحض كل الشبهات المثارة على أبي هريرة. فأكد أنه ما من حديث رواه أبو هريرة إلا وقد رواه الشيعة عن الإمامين الباقر والصادق على وجه الخصوص بنفس الألفاظ أو مع اختلاف بسيط في اللفظ أو بما يطابق المعنى! ... =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أما ما يذكر عن روايته لـ 5374 حديثاً، فالصحيح أنّ هذا العدد هو لكل ما روي عن أبي هريرة وليس كل ما أسنده الرواة لأبي هريرة هو صحيح، فيضم هذا الرقم أحاديثاً ضعيفة وأحاديثاّ مكررة، وإذا ما أخرجناها من جملة مرويات أبي هريرة فسيصفو لنا أقل من هذا العدد بكثير، يقول الدكتور محمد ضياء الأعظمي في كتابه (أبو هريرة في ضوء مروياته): فالذي نُسب إليه بأنه روى (5374) حديثاً كما جزم به ابن حزم في جوامع السيرة ص275 وابن الجوزي في (تلقيح فهوم أهل الأثر) ص184 ثم كتاب مصطلح الحديث، فكل ذلك باعتبار تكرار الأسانيد وأكبر ما يدل على ذلك هو عمل الإمام أحمد بن حنبل في مسنده الضخم، فإنّ مرويات أبي هريرة تستغرق 313 صفحة بالقطع الكبير من مسند يبلغ عددها أكثر من خمسة الآف حديث بالأسانيد المكررة، بينما أني لما قمت بدراسة ما رواه الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة (الإمام البخاري والإمام مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي) لم يبلغ جميع ما رواه أبوهريرة في هذه الكتب السبعة إلا (1336) حديثاً فقط) انتهى كلامه. فكثرة عدد الأحاديث التي تُنسب لأبي هريرة منشأها المكررات هذا بخلاف الروايات الضعيفة التي لا تصح نسبتها إلى أبي هريرة كما هو معلوم. وزيادة على هذا أقول: ليس من المستحيل لرجل تفرغ لصحبة رسول الله ونال بركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام أن يحفظ هذا العدد خصوصاً وأنّ الأحاديث عبارة عن جُمل قصيرة يسهل حفظها لمن وفقه الله تعالى لذلك، بل إنّ المتتبع لروايات أبي هريرة رضي الله عنه في الكتب التسعة (الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وموطأ مالك ومسند أحمد والدارمي) يجد أنّ كثيراً من الصحابة اشتركوا مع أبي هريرة في كل مروياته تقريباً، فلم ينفرد عنهم فيما روته عنه الكتب التسعة (البخاري ومسلم في صحيحيهما والترمذي في جامعه والنسائي وابن ماجة وأبو داود في سننهم وأحمد في المسند ومالك في الموطأ والدارمي في سننه) إلا برواية ثمانية أحاديث فقط! ألا يكفي هذا بياناً لصدقه؟ والغريب في الشيعة أنه يعدّون كثرة الرواية دليل على وثاقة الراوي فينسبون للإمام الصادق قوله: (اعرفوا منازل الرجال على قدر رواياتهم عنا) ويعدّون لأجل ذلك زرارة والجعفي وأمثالهما من الكذابين المكثرين ثقات فلا يستنكرون رواية الجعفي لسبعين ألف حديثاً عن الإمام الباقر كما صرّح بذلك الحر العاملي في (وسائل الشيعة 30/ 329)، ولا يستنكرون رواية زرارة لألفين وأربعة وتسعين رواية عن الإمامين الباقر والصادق كما صرّح بذلك الخوئي في معجم رجال الحديث (8/ 254 تحت عنوان (طبقته في الحديث)) لكنهم يستأسدون على أبي هريرة رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!

فالشيعة الإثنا عشرية تطرفوا فقدحوا في عدالة المجموع من أجل بعض الأفراد دون الاكتراث بنصوص القرآن والسنة المادحة لمجموع الصحابة، في حين أفرط متعصبة أهل السنة في المسألة فلم يُجوّزوا خروج أحد من هذا الثناء بدليل شرعي أو فسق ظاهر، فبحثوا عن تأويلات لمن أساء الصحبةحماية لقاعدة العدالة، وكلا الفريقين تكلّم في العدالة وليس في كلامه عدالة بل هو التطرف والظلم اللذان لا يرضى الله بهما. وإن كنا نرى أنّ الذي أحسن الظن بالمسيء خير ممن رمى الصالح بالتهمة وسوء الظن، لا يستويان مثلاً.

ماذا وراء طرح موضوع العدالة؟

ماذا وراء طرح موضوع العدالة؟ عندما يطرح علماء الشيعة الإثني عشرية موضوع عدالة الصحابة فإنهم لا يريدون أعرابياً أسلم وأهمله التاريخ أو صحابية كالغامدية زنت ثم اعترفت باقترافها الذنب طالبة إقامة الحد عليها لتتطهر وتموت نقية من الذنب فيغفره لها رب العالمين! (¬1) ولا يريدون كذلك حاطب بن أبي بلتعة الذي أفشى سر قدوم المسلمين لمكة خوفاً على أهله هناك، ورغبة في أن تكون له يد على قريش حتى يحفظوه في أهله، فعفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه بعد معاتبته ونهى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن التعرض له (¬2). لكنهم يريدون كبار الصحابة (أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة والبقية) ويريدون تمهيد الطريق لضرب هؤلاء الأعلام بكسر حاجز العدالة ... فحين يتحطم الجدار ¬

_ (¬1) قال عنها عليه الصلاة والسلام: (لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وَجَدْتَ توبةَ أفضلَ من أنْ جادت بنفسها لله تعالى؟) صحيح مسلم (كتاب الحدود - باب من اعترف على نفسه بالزنى). (¬2) نص الحديث كما في البخاري (كتاب الجهاد والسير - حديث رقم (3007) من حديث علي رضي الله عنه: (... فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا حاطب، ما هذا؟ قال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرأً مُلصقاً في قريش، ولم أكنْ من أنْفُسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفراّ ولا ارتداداً، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد صدقكم، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، (وفي رواية: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فأضرب عُنقه)، قال- أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم -: إنه شهد بدراً! وما يُدريك لعل الله أن يكون قد اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

ويجوز الطعن في صحابي من هؤلاء الصحابة الكرام يصبح الطعن بأبرز الصحابة وأكثرهم ثقلاً أمراً سهلاً للغاية! وبالذات إذا جاء هذا الطعن وهذا الشتم والتنقيص تحت مسمى الاعتدال أو الموضوعية والمنهجية العلمية! ما كنت أعجب منه خلال قراءاتي في كتب الفريقين هو استنكار علماء الشيعة الإثنى عشرية القول بعدالة الصحابة وإعطائهم للقضية حجماً أكبر من حجمها في حين أنهم يتناسون أنّ الأصل في المسلم العدالة (¬1) وأنّ الصحابة ليسوا بأهل إسلام وإيمان فقط بل مزكّون من الله ورسوله! فحتى لو ادعى مدّع أنه لا يوجد دليل واحد على عدالة الصحابة فإنه سيقف عند هذه النقطة التي أثرناها عاجزاً عن الإجابة .. إنّ الأصل في المسلم العدالة وعلى الذي يقدح في عدالة أي مسلم أن يأتي بالدليل وليس العكس! فعلى أي أساس يطالبون بالإتيان بأدلة عدالة الصحابة؟! يقول شيخ الطائفة الطوسي في كتابه "الخلاف": (إنّ الأصل في المسلم العدالة، والفسق طارئ عليه يحتاج إلى دليل) (¬2)، وهذا أمر بدهي عند كل مسلم، لا يحتاج حتى إلى استدلال. ¬

_ (¬1) المراد بالعدالة في هذه القاعدة الشرعية هي (السلامة من الفسق)، فالأصل في كل مسلم أنه سالم من الفسق حتى يثبت فسقه. (¬2) كتاب الخلاف – كتاب آداب القضاء – المسألة رقم (10).

عدالة الصحابة مستحيلة وعدالة (مراجع التقليد) لا غبار عليها!

عدالة الصحابة مستحيلة وعدالة (مراجع التقليد) لا غبار عليها! إنّ قول الله عز وجل في كتابه المجيد {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين} (¬1) ليس محصوراً في مكيال البيع والشراء بل في كل ما يُكال للناس به. حينما يُكال لأصحاب رسول الله بمكيال يُحاسبون فيه على كل سَعْلَة وهمسة وحركة وسَكَنَة، بينما يُخصص لعلماء الشيعة الإثني عشرية ومراجع التقليد مكيالٌ آخر يتغاضى عن أمور كثيرة تُستنكر في صحابة رسول الله وتُقام لها الدنيا وتقعد بينما لا تُستنكر وليس لها أدنى أثر حينما يكون الكلام عن علماء الشيعة الإثني عشرية ومراجعها. إنها أزمة الإنصاف وأزمة تحكيم الضمير ... خصوصاً ونحن لا نتكلم عن أصحابنا في المدرسة أو زملائنا في العمل وإنما عن صحابة وأصهار سيد الخلق (محمد عليه الصلاة والسلام). والغريب في علماء الشيعة الإثني عشرية ومفكريهم أنهم يستنكرون على أهل السنة إثباتهم لعدالة من زكاهم الله ورسوله، وبذلوا الغالي والرخيص في سبيل هذا الدين، ويشنعون عليهم أشد التشنيع ويعدّون القول بعدالتهم تقديساً لا يستحقونه! لكن حينما يأتي الكلام عن مراجع التقليد يختلف الميزان وتصير كلمة (عدالة) كلمة عادية لا تستحق التشنيع ولا الوقوف عندها أصلاً! ¬

_ (¬1) سورة المطففين آية 1 - 2

لا تتصور أني أبالغ ... هذه حقيقة واضحة جلية يستشعرها كل منصف يرتضي الدليل والبرهان. كنت ولا زلت أتساءل كيف لشيعي منصف أن يردد طعونات علماء الشيعة الإثني عشرية في عدالة الصحابة ويناقش القضية بحماس وانفعال في حين يتجاهل أموراً ربما يقرأها يومياً في رسالة مرجع التقليد الذي يقلده دون توقف عندها أو وزنها بالميزان نفسه الذي يزن به أصحاب رسول الله. هذا هو آية الله العظمى الخوئي يقول في رسالته العملية لمقلديه ولمن تتلمذ على يديه من مراجع التقليد الحاليين: (مسألة 29 - العدالة المعتبرة في مرجع التقليد عبارة عن الاستقامة في جادة الشريعة المقدسة، وعدم الانحراف عنها يميناً ولا شمالاً، بأن لا يرتكب معصية بترك واجب أو فعل محرم، من دون عذر شرعي، ولا فرق في المعاصي من هذه الجهة، بين الصغيرة والكبيرة) (¬1). وقد ذكر مثل هذا آية الله السيستاني في رسالته العملية لمقلديه "منهاج الصالحين 1/ 16" وآية الله محمد صادق الروحاني في رسالته العملية "منهاج الصالحين 1/ 12" بلفظ (العدالة المعتبرة في مرجع التقليد عبارة عن الاستقامة في جادة الشريعة المقدسة، وعدم الانحراف عنها يميناً ولا شمالاً بأن لا يرتكب معصية بترك واجب أو فعل محرم من دون عذر شرعي ولا فرق في المعاصي في هذه الجهة بين الصغيرة والكبيرة). ¬

_ (¬1) منهاج الصالحين 1/ 12

فتزكية رب العالمين ورسوله الكريم للصحابة فيها نقاش وجدال وبحث عن كل خطأ وزلة ثم تلميعها، وتزكية مراجع التقليد والنص على عدالتهم بهذه الصورة المبالغ فيها لا يُحتاج فيها إلى نقاش ولا استنكار من أي شيعي! عجباً لأولئك المتباكين على الإنصاف والموضوعية والبحث العلمي؟! بماذا سيبررون العدالة التي ينسبونها إلى مراجع التقليد؟ أليس اشتراط الخوئي والسيستاني والروحاني وباقي مراجع التقليد عند الشيعة الإثنى عشرية لعدالة المرجع بهذه الصورة المبالغ فيها هو قول بعصمة هذا المرجع (¬1)؟! يكفيك أن تقرأ قول الخوئي بعدها مباشرة: (مسألة 30 - ترتفع العدالة بمجرد وقوع المعصية، وتعود بالتوبة والندم، وقد مرّ أنه لا يفرق في ذلك بين الصغيرة والكبيرة) لتتساءل (أيعقل أن يمر أسبوع من حياة المرجع (لن أقول يوم) دون أن يرتكب معصية تخرجه من العدالة؟! وهل سيبقى مرجع التقليد على وضعه كمرجع تقليد بعد اقترافه للإثم وقبل توبته أم أنه يخرج من المرجعية ثم يعود إليها بعد رجوع العدالة إليه؟! إنّ نظرة فاحصة في الصراعات الداخلية بين مراجع التقليد ومقلديهم أظنها كافية لأَنْ تؤكد بأنّ ما يذهب إليه الإثنا عشرية اليوم من القول بعدالة ونزاهة مراجع التقليد وتورعهم عن ارتكاب الصغائر من الذنوب فضلاً عن الكبائر كالظلم والكذب والتجني والضلال هو أمر واقعي للغاية! ¬

_ (¬1) إذ أنّ المرجع كما في النصوص السابقة منزه عن ارتكاب الصغيرة والكبيرة! ولولا الحياء من الأئمة الإثني عشر لنُفي عن المرجع السهو والنسيان!

إنّ مقلدي الشيرازي يتهمون الخامنئي بظلم مرجعهم الراحل محمد الحسيني الشيرازي بفرض الإقامة الجبرية عليه أكثر من عشرين عاماً وبالاعتداء على جنازته بعد وفاته ودفنه بخلاف وصيته، وبالاعتداء على زوار ضريحه الذي سُوّي بالأرض، وبالعبث بالتشيع الحق إلى حد إطلاق بعضهم لقب (طاغوت) أو (أبو بكر) أو (عمر) أو (يزيد) على الخامنئي كنوع من التشهير به وانتقاصه! وبالمقابل يتهم مقلدو الخامنئي مرجعية الشيرازي بالإنحراف والغلو وبإثارة الفتن مع التشكيك في استحقاق الشيرازي للمرجعية، ومع ذاك ما زال الخامئني عند غالبية الشيعة عدلاً بل هو (ولي أمر المسلمين) عند القائلين بولاية الفقيه، وما زال الشيرازي عند الشيرازية هو (المرجع الأعلى للطائفة الشيعية) كما ورد ذلك في نص النعي الذي نشرته ممثلية الشيرازي بعد وفاته! أما مقلدو التبريزي ووحيد خراساني وآخرون فإنهم يعتبرون المرجع محمد حسين فضل الله ضالاً مضلاً وأنّ تقليده غير مجزئ، وبالمقابل ترى بعض مقلدي فضل الله يتهمون (¬1) التبريزي وخراساني ومن معهم بأنهم تكفيريون أو متمصلحون أو مغالون، وما زال كلا الطرفين (عدول)! أما آية الله جنتي (رئيس مجلس صيانة الدستور الإيراني) فقد وصف المرجع السيستاني بالعمالة للإنجليز (¬2)، فيما وصف (مقتدى الصدر) نجل المرجع محمد محمد صادق الصدر ¬

_ (¬1) لا أعلم أهذه نظرة سائدة عند مقلدي فضل الله أم أنها نظرة خاصة لبعض أتباعه النشطين عندنا في البلد. (¬2) نشرت الخبر صحيفة الوطن الكويتية - تاريخ 4/ 2/2004م تحت عنوان (كروبي ينتقد جنتي لاتهامه السيستاني بالعمالة للإنجليز).

مرجعية (السيستاني) بأنها المرجعية الصامتة عن الحق في مقابل مرجعية أبيه الناطقة. وقد كتب المفكر الشيعي زهير الأسدي مقالاً بعنوان (السيستاني في الميزان) ألقى فيه الضوء على كثير من الحقائق الهامة من بينها (إلغاء السيستاني لموضوع الجهاد) من الرسالة العملية التي ذكر في مقدمتها أنها في الأصل لأستاذه أبو القاسم الخوئي، وأنّ دوره فيها فحسب هو تنقيح بعض الأحكام التي يخالف فيها أستاذه، فإذ به يحذف موضوع (الجهاد) الذي هو ذروة سنام الإسلام! وبالمقابل سمعنا من بعض مخالفي التياري الصدري أنهم يتهمون المرجع محمد محمد صادق الصدر بالعمالة لنظام صدام حسين قبل وفاته وأنّ ما حصل له كانت مسألة تصفية جسدية لعميل انتهى دوره! حتى المرجع الراحل محمد باقر الصدر لم يسلم من الطعن في عدالته، ومن أستاذ كبير في الحوزة العلمية بـ (قم) هو العلامة علي الكوراني (¬1)، حيث صرّح في مقدمته لكتاب "الحق المبين" بأنّ فكره (التقاطي) و (انتقائي) لا يمثل خط أهل البيت الحقيقي! أما الشيخية فصراعهم التاريخي المرير مع باقي المرجعيات لا يكاد ينتهي. أيها القارئ الكريم ... إنّ ما ذكرته لك ههنا لا يُمثل كل ما يخص مراجع التقليد وعدالتهم المزعومة وإنما هو غيض من فيض، عفّ عن إكماله اللسان والقلم. إنّ هؤلاء المراجع هم أولئك الذين يُراد لك أن تعتقد عدالتهم وأنت مغمض العينين وتسير وراءهم دون هدى من الله بحجة أنهم نواب الإمام الحجة العدول إلى حين يخرج. ¬

_ (¬1) وهو عضو سابق في حزب الدعوة الإسلامية الذي أسسه محمد باقر الصدر، فإذا بالتلميذ ينقلب على الحزب ويتناول مؤسسه بالطعن بعد أن تبين له مخالفة الصدر للتشيع الحق!

الخلل قديم!

إنك لتعجب من الشيعة الإثني عشرية (علماء وعامة) وهم يبالغون ويغالون في (مراجع التقليد) إلى حد التقديس، رغم علمهم بما يدور بين أتباع كل مرجعية وبالخلافات الحادة بين بعض المرجعيات والتي تصل أحياناً إلى حد التشكيك في استحقاق المرجعية أو التفسيق أو التكفير! في حين أنهم يوجّهون سهامهم للصحابة وبكل ضراوة، حتى إنّك لتعجب أحياناً من تعسفهم في فهم بعض النصوص ومحاولة قلبها إلى منقصة لصحابي أو إساءة الظن بعبارة قالها دون خشية من الله، وبيننا وبين المنصفين التفتيش. الخلل قديم! إنّ أولئك الذين يشككون في عدالة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستهجنون القول بعدالتهم لا يجدون غضاضة في القول بعدالة وتوثيق (مشايخ الإجازات) عندهم. وشيخ الإجازة كمصطلح، يُراد به (الأستاذ في الإجازة وهو الذي يشتهر في الوسط العلمي بمنحه الإجازات برواية الكتب المشهورة وجوامع الحديث) (¬1). فقد نص قدماء علماء الجرح والتعديل عند الإثني عشرية وتابعهم على ذلك جُملة من المتأخرين على وثاقة مشايخ الإجازات وعدم حاجتهم إلى التنصيص على وثاقتهم. فقد قال الداماد في "الرواشح السماوية ص179": (ومما يجب أن يُعلم ولا يجوز أن يُسهى عنه أنّ مشيخة المشايخ الذين هم كالأساطين والأركان أمرهم أجلّ من الاحتياج إلى تزكية مزكٍ وتوثيق موثق)! ¬

_ (¬1) أصول علم الرجال ص147

لكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين زكّاهم القرآن وزكّتهم السنة النبوية وقدّموا للإسلام الكثير يحتاجون إلى من يزكيهم ويوثقهم حتى يرضى عنهم الإثني عشرية! ويقول الشيخ علي محمد بن محمد بن دلدار علي الهندي في "الجوهرة العزيزة في شرح الوجيزة": (لم يُحتج في مشايخ الإجازة – عطّر الله مضاجعهم – وبرّد مهاجعهم – إلى جرح وتعديل وتثبّت وتبيين، فإنهم نواب الأئمة وأُمناء أُمناء الله على تلك الأمة بتّاً وجزماً وقطعاً وحتماً. بل وتوثيق جلّهم صار من ضروريات الدين يحذو حذو اعتقاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، فروحي الفداء ونفسي الوِقاء لهؤلاء الأجلّة، الذين بذلوا في إعلاء كلمة الله العليا جهدهم وجِدّهم، وصرفوا فيه طول أعمارهم كدّهم، ولم يزالوا يتحمّلون أعباء الشريعة، ويتولّون أمر أيتام الشيعة، نيابة عن سادتهم المعصومين، بل وجَدِّهم سيّد المرسلين، بل عن الله رب العالمين، حتى مضوا لسبيلهم ولقوا الله سبحانه وحلّوا رضوانه، شكر الله تعالى سعيهم وأجزل رَعْيهم) (¬1). فهؤلاء هم مشايخ الإجازة عند الإثني عشرية، لا يُحتاجون إلى جرح ولا تعديل ولا تثبّت ولا تبيّن لأنهم نواب الأئمة! توثيقهم صار من ضروريات الدين لما عُلم من بذلهم وعطائهم وتحمّلهم لأعباء الشريعة! أما أصحاب رسول الله الذين نقلوا لنا القرآن ونقلوا لنا السنة النبوية وفتحوا الفتوح ودخل الناس في سبيل الله أفواجاً بسبب جهودهم وجهادهم وتضحياتهم فهؤلاء توثيقهم بات خراباً للدين في عرف تلاميذ (مشايخ الإجازة)! وعِش رجباً ترى عجباً! ¬

_ (¬1) رسائل في دراية الحديث 2/ 433 - 434

منقلبون على أعقابهم ومرتدون من أجل ماذا؟!

منقلبون على أعقابهم ومرتدون من أجل ماذا؟! أن تُخرج رجلاً من الإسلام وتنعته بالمرتد والمنقلب على عقبيه لأنه أشرك أو كفر فهذا معروف واعتيادي بل هو حكم شرعي لا بد من التصريح به والتدين به. لكن أن يُنعت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمرتدين أو بالمنقلبين على أعقابهم من أجل تسليمهم الخلافة لغير علي بن أبي طالب أو الأئمة فهذا أمر عجاب! منذ متى صارت كراسي الحكم مقرونة بالتوحيد وبأركان الإيمان الستة (¬1) وبأركان الإسلام الخمسة (¬2)؟! ثم ما الذي سيجنيه الصحابة إن هم سلّموا الخلافة لأبي بكر بدلاً عن علي بن أبي طالب؟ الأموال؟ هم تركوا أموالهم وأهليهم في مكة من أجل الله ورسوله وكانت تجارة قريش مضرب المثل (رحلة الشتاء والصيف) وزعماء قريش على أتم الاستعداد لشراء الذمم والضمائر في سبيل دحر دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك تحمّل الصحابة الفقر والغربة والعذاب في سبيل هذا الدين، فما الذي تغير اليوم؟! المكانة الاجتماعية؟ ما الذي تغير في خلافة أبي بكر حتى يبيع الرجل دينه ويشتري بالمقابل تلك المكانة الاجتماعية في مجتمع يرى التقوى ميزاناً لعلو الشخص وانخفاضه! ¬

_ (¬1) أركان الإيمان الستة هي: الإيمان بالله، الإيمان بالأنبياء، الإيمان بالملائكة، الإيمان بالكتب السماوية، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالقدر خيره وشره. (¬2) الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج.

فمجتمع المسلمين في حياة نبي الله وبعد مماته هو نفسه الذي أعزّ بلالاً الحبشي وصهيباً الرومي وسلمان الفارسي ولم يعرف لقبائل العرب المرتدة نسبها ومكانتها الاجتماعية بل سدد السهام نحوها وأقام عليها حد الردة لما ارتدت وجهرت بالكفر. ثم هذه قريش بعزتها وجبروتها وبعروضها المغرية على من أراد الدخول في دين الله، لم تستطع زحزحة صحابة رسول الله عن مواقفهم بل زادت في ثباتهم وإيمانهم، فما الذي تغير اليوم حتى تستطيع سقيفة بني ساعدة الصغيرة أن تغير كل هؤلاء الأشداء الصامدين؟! لا توجد إجابة مقنعة تركن إليها النفس وتطمئن إليها القلوب تقنع المرء بهذا الطرح العجيب الذي لا يقبله عقل ولا منطق .. يذكر علماء الشيعة الإثني عشرية كثيراً حب الأنصار لعلي بن أبي طالب وأنهم كانوا كثرة في جنده في موقعة صفين ... فلماذا لم يسلّموا الخلافة إليه وسلّموها لأبي بكر؟! لن تجد إجابة مقنعة تسلّي بها نفسك. إنّ نظرة الأنصار ومن قبلهم المهاجرين أبعد وأصوب منا جميعاً ... لقد كانت هذه الفئة المؤمنة تُفرّق بين الخلافة وبين الارتباط العاطفي مع قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولذا رأينا الكتب الشيعية التي تمتدح هؤلاء الأنصار ووقوفهم جنباً إلى جنب مع الإمام علي في موقعة صفين هي الكتب نفسها التي تنعتهم بالردة والانقلاب على الأعقاب في حادثة السقيفة! ميزان عجيب يُكال به أصحاب رسول الله ... إن كانوا مع الإمام علي في أمر من الأمور صاروا خير الناس، وإن كان موقفهم مع من خالف علياً أو قُل في غير الاتجاه الذي أراده الإمام علي صاروا أهل ردة ومصلحة ونفاق!

فإن قالوا حكمنا عليهم بالردة والانقلاب على أعقابهم لأنهم أنكروا النص على علي بن أبي طالب، قيل لهؤلاء المستنكرين: أو ليس الشيعة الإثنا عشرية يذكرون أنّ حديث الغدير متواتر وأنّ مئات من الصحابة قد رووه فأين الإنكار؟ عندما أقول بلساني إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: (من كنت مولاه فعلي مولاه) فأين إنكاري للنص؟! فإن قيل: أنكروا المعنى. قيل لهؤلاء: ومن ذا الذي قال بأنّ ما ذهبتم إليه في تفسير الحديث هو الحق؟! هل أنتم أفهم وأعقل من صحابة رسول الله الذين عاشوا تلك اللحظات وسمعوا الحديث بآذانهم؟! أم أنكم أفهم بالعربية منهم حتى صرتم تعقلون من الحديث ما لم يعقلوه هم؟!! ما الذي بين المهاجرين والأنصار وبين علي بن أبي طالب حتى ينكروا إمامته؟! وما الذي بينهم وبين أبي بكر الصدّيق حتى يثبتوا له الخلافة؟! ليتنا نتجرد للحق ونزِن الأمور بميزانها الصحيح. ومن تأمل نقاشنا لحديث الغدير وبقية الأحاديث سيعلم علم اليقين بأنّ صحابة رسول الله كانوا أكثر إدراكاً وفهماً للنصوص من الذين يدندنون حول هذه الأحاديث التي لم يعيشوا لحظاتها ولم يدركوا مغزاها ولم يتلمسوا مدلولاتها أو يدركوا حتى معاني ألفاظها!

من المرتد - صحابة رسول الله أم هؤلاء؟

من المرتد - صحابة رسول الله أم هؤلاء؟ أيها القارئ الحصيف ... لن تحتاج معي إلى مزيد جهد أو إلى كثير إنصاف حتى تدرك الاعوجاج الواضح في الميزان الذي يُكال به صحابة رسول الله بل يُكال به كتاب الله المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. أمامنا فريقان: فريق طعن في كتاب الله مدعياً وقوع التحريف والتبديل فيه، على رأسه النوري الطبرسي - مؤلف كتاب المستدرك أحد الأصول الحديثية الثمانية لدى الاثني عشرية - والذي ألفّ كتاباً باسم "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" يقول فيه عن القرآن وعن وقوع التحريف فيه ما نصه: (فإنّ الاختلاف فيه كما يصدق على اختلاف المعنى وتناقضه كَنَفْيِه مرة وإثباته أخرى، وعلى اختلاف النظم كفصاحة بعض فقراتها البالغة حد الإعجاز وسخافة بعضها الآخر) (¬1). وعدنان البحراني القائل: (الأخبار التي لا تحصى كثرة وقد تجاوزت حد التواتر ولا في نقلها كثير فائدة بعد شيوع القول بالتحريف والتغيير بين الفريقين وكونه من المسلمات عند الصحابه والتابعين بل وإجماع الفرقة المحقة وكونه من ضروريات مذهبهم وبه تضافرت أخبارهم) (¬2). ¬

_ (¬1) فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب ص211 (¬2) مشارق الشموس الدرية ص126

والمجلسي القائل في معرض شرحه لحديث هشام بن سالم: (فالخبر صحيح، ولا يخفى أنّ هذا الخبر وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره، وعندي أنّ الأخبار في هذا الباب متواترة معنى، وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأساً بل ظني أنّ الأخبار في هذا الباب لا يقصر عن أخبار الإمامة فكيف يثبتونها بالخبر؟) (¬1). ويوسف البحراني القائل: (لا يخفى ما في هذه الأخبار من الدلالة الصريحة والمقالة الفصيحة على ما اخترناه ووضوح ما قلناه ولو تطرق الطعن إلى هذه الأخبار على كثرتها وانتشارها لأمكن الطعن إلى أخبار الشريعة كلها كما لا يخفى إذ الأصول واحدة وكذا الطرق والرواة والمشايخ والنقلة، ولعمري إنّ القول بعدم التغيير والتبديل لا يخرج من حسن الظن بأئمة الجور وأنهم لم يخونوا في الأمانة الكبرى مع ظهور خيانتهم في الأمانة الأخرى التي هي أشد ضررا على الدين) (¬2). طعن هذا الفريق بالقرآن بكل وضوح قائلاً بوقوع التحريف فيه! وفريق آخر (وهم صحابة رسول الله) ... خطيئته التي لا يغفرها له الشيعة الإثنا عشرية هي أنه سلّم الخلافة لأبي بكر بدلاً من علي! الفريق الأول الذي طعن في كتاب الله يعتذر له علماء الشيعة الإثني عشرية، وغاية ما يقولون فيه هي كلمة (أخطأوا)، (اجتهدوا وتأولوا ولا نوافقهم على ما ذهبوا إليه)، وليت شعري متى صارت مسألة حفظ كتاب الله أو تحريفه مناطاً للاجتهاد؟! وأي اجتهاد في قول هذا المجرم أنّ (في القرآن آيات سخيفة)! والله إنها لطامة كبرى. ¬

_ (¬1) مرآة العقول 12/ 525 (¬2) الدرر النجفية ص298

لكن علماء الشيعة اليوم يعتذرون للقائلين بالتحريف ولا يتبرأون منهم. فهذا الشيخ علي الميلاني – من كبار علماء الشيعة اليوم –يقول في رسالته "عدم تحريف القرآن ص34" مدافعاً عن المجرم (الميرزا نوري الطبرسي) مؤلف كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب": (الميرزا نوري من كبار المحدّثين، إننا نحترم الميرزا النوري، الميرزا نوري رجل من كبار علمائنا، ولا نتمكن من الاعتداء عليه بأقل شيء، ولا يجوز، وهذا حرام، إنه محدّث كبير من علمائنا)! ويقول آية الله العظمى علي الفاني الأصفهاني في كتابه "آراء حول القرآن" بعد أن ذكر القائلين بالتحريف ورد على شبهاتهم: (الثاني: أنّ القائلين بالتحريف أوقعهم في شبهة التحريف كمال ورعهم وجمودهم على الأخبار وعدم دقتهم في أسانيدها ودلالاتها، وإلا فليس القول بالتحريف خرافة إذ هي ما لا أساس لها كالقصص الخيالية والأوهام المنسوجة والأحاديث المفتعلة الكاذبة)! (¬1) انظر إلى التلطف بالعبارة مع القائلين بالتحريف وإلى إعذارهم بل والثناء عليهم ووصفهم بالورع! يا لذلك الورع البارد! بينما لا يجد علماء الشيعة الإثني عشرية أدنى حرج في إطلاق ألفاظ الكفر والردة على الفريق الثاني (أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم)! فإن تساءلت: ما ذنب هؤلاء الصحابة؟ هل عبدوا غير الله؟ هل طعنوا في كتاب الله؟ ليس هذا ولا ذاك، إنما هو جرم أكبر ... أعطوا الخلافة لأبي بكر ولم يعطوها لعلي بن أبي طالب! ¬

_ (¬1) آراء حول القرآن ص131

هل بشر القرآن الصحابة بردتهم وكفرهم؟

هل بشّر القرآن الصحابة بردتهم وكفرهم؟ إنه من السهل على المرء أن يُمسك بين يديه القرآن الكريم ويُقلّب صفحاته يميناً وشمالاً ثم يختار منه ما يشاء من آيات ويُفسرها بالتفسير الذي يحلو له ويناسب هواه دون أدنى فهم للسياق الذي جاءت به والمعاني التي اقتضاها ذلك السياق، كأن يُفسر لك قوله تعالى حكاية عن قول يعقوب عليه السلام {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} (¬1) بأنّ يعقوب عليه السلام لم يكن يبكي على ابنه النبي الكريم يوسف عليه السلام وإنما على يوسف ابن الجيران الذي تُوفي بالأمس وبكى عليه أهل الحي!! وقد يأتي لقوله تعالى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} (¬2) ليقول بأنّ أسماء تلك الحيوانات ما هي إلا كنايات عن قبائل أو عائلات بينه وبينها نزاع طويل. تماماً كما يفعل العياشي (¬3) مثلاً مع قوله تعالى {إنّ اللهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} (¬4) حين يفسّر الكلمات الثلاث (الفحشاء والمنكر والبغي) بأنها ولاية أبي بكر وعمر وعثمان! أو كما فعل الكليني (¬5) مع قوله تعالى {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَان} حين يذكر أنّ المراد بهذه الكلمات الثلاث (أبو بكر وعمر وعثمان)! ¬

_ (¬1) سورة يوسف آية 84 (¬2) سورة النحل آية 16 (¬3) تفسير العياشي 2/ 267 - 268 رواية رقم (62). (¬4) سورة النحل آية 90 (¬5) الكافي- كتاب الحجة- (باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية) - حديث رقم (71)، ومناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 2/ 289

والأمثلة في ذلك تطول .. والتلاعب بكتاب الله مستمر ما دامت التعصبات قائمة في نفوس أصحابها. لكني أرمي إلى قضية أخرى بالغة الأهمية وهي أنّ لتفسير القرآن الكريم أصوله وقواعده التي يُفسر من خلالها وإلا كان ألعوبة للجميع، ألعوبة لكل حزب ولكل فرقة ومِلّة!! ولذا ينبغي للمفسر قبل الشروع في تفسير آية أن يُحيط بسبب نزولها وهل نُسخت أم لا؟ وأن يكون ملماً باللغة العربية إلماماً جيداً مع فهم سياق الآيات وما ترمي إليه وما وجه ترابطها وتناسبها بما قبلها وما بعدها. ولو أنّ طاعناً لم يرد الطعن في الصحابة بل في الرسول ذاته باستخدام هذا النمط من التفسير الذي يفسر به القمي والعياش والكليني وغيرهم معتمداً على الهوى لا على الأصول العلمية للتفسير لكان له ذلك، تماماً كما يفعل المستشرقون والقساوسة عادة في الآيات التي تخاطب النبي عليه الصلاة والسلام!! قارن بين أقوال جولدزيهر وأمثاله من المستشرقين في رسول الله وأساليبهم في التعامل مع النصوص التي تتضمن عتاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم على أمر فعله كنحو قوله تعالى {عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} (¬1) أو {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم} (¬2) وبين استغلال التيجاني مثلاً للآيات التي تعاتب الصحابة على تباطؤهم بالقتال أو على خطأ وقعوا فيه أو تقصير للطعن فيهم والتشنيع عليهم ووصفهم بالردة والكفر! وجهان لعملة واحدة، وعليك أن تعي ذلك جيداً .. ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية 43 (¬2) سورة التحريم آية 1

نموذجان حيان للمزاجية في تفسير النصوص الشرعية

نموذجان حَيّان للمزاجية في تفسير النصوص الشرعية ليس من الإنصاف للحقيقة أن يعطي المرء رأيه في مسألة دون نقاشها أو دراستها، إذ إنّ الحقائق تعرف بالدراسة والبحث لا بالعاطفة والأحاسيس والكشف الصوفي، ولذا آليت على نفسي أن أقرأ أهم ما استدل به الشيعة الإثنا عشرية على ردة الصحابة وانقلابهم على أعقابهم ثم أسطّر بعد ذلك الحقيقة التي خرجت بها من ذلك البحث. أ - آية آل عمران استدل الشيعة الإثنا عشرية بقول الله تعالى في كتابه العزيز {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ. وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِين} (¬1) وادّعى التيجاني (¬2) أنّ هذه الآية صريحة في الدلالة على انقلاب الصحابة بعد رسول الله وعدّ الصحابة المنقلبين على أعقابهم هم الكثرة الغالبة من الصحابة فيما ثبت من الصحابة قلة قليلة وهي الفئة التي ترى الشيعة الإثنا عشرية ثبوتها على الإسلام. ويطبّق التيجاني ومن سبقه إلى هذا الفهم من علماء الشيعة هذه الآية على ما حصل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حادثة السقيفة بانتخاب أبي بكر خليفة المسلمين!! ولي مع هذه الدعوى وقفات أقول فيها: ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية 143 - 144 (¬2) ثم اهتديت ص114

أولاً: لقد نصت كتب التفسير عند أهل السنة وكذا كتب التاريخ وبعض كتب الشيعة الإثني عشرية على أنّ هذه الآية قد نزلت في واقعة محددة وهي (غزوة أحد)، فما الذي حوّلها إلى سقيفة بني ساعدة وإلى الصراع السني الشيعي الإثني عشري؟! وكأنّ التيجاني وكُتّاب الشيعة المعاصرين لم يقرأوا ما قاله المفسر الشيعي محمد جواد مغنية في تفسيره الكاشف من أنّ الآية تشير (إلى واقعة معينة وهي وقعة أحد) (¬1) أو ما قاله آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره (الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل): (سبب النزول أنّ الآية الأولى من هاتين الآيتين ناظرة أيضاً إلى حادثة أخرى من حوادث معركة أحد، وهي الصيحة التي ارتفعت فجأة في ذروة القتال بين المسلمين والوثنيين أنّ محمداً قد قتل) (¬2). وقد كانت لموقعة أحد ظروفها الخاصة وملابساتها ولذلك جاءت الآيات الكريمات في سورة آل عمران وفقاً لتلك الظروف والملابسات، واستخدام الآية الكريمة للاستدلال على وقائع أخرى كحادثة السقيفة أو موقعة الجمل لا يخلو من غرابة ومن مزاجية. فالاستدلال بها على قضية الإمامة أو حادثة السقيفة أو موقعة الجمل استدلال مزاجي، لا يمتّ للمنهجية العلمية بصلة. ثانياً: تعتبر هذه الآية من أكبر الدلائل على عظم إيمان أبي بكر وحكمته وتفانيه في الدفاع عن دين الله، فموقفه الثابت يوم أن تُوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير شاهد على ذلك ¬

_ (¬1) الكاشف 2/ 169 (¬2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل 2/ 717

يوم أن وقف وقفته الثابته مخاطباً الناس بعد ما أصابهم الوهن والضعف على فقد رسول الله فقال: (إنّ الله عز وجل يقول {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُون} (¬1) ويقول ({وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِين} (¬2) فمن كان يعبد الله عز وجل، فإنّ الله عز وجل حي لا يموت، ومن كان يعبد محمداً فإنّ محمداً قد مات). وموقفه الصارم من الذين ارتدوا على أعقابهم واستبدلوا الإيمان بالكفر فاتبعوا مسيلمة وسجاح وطليحة بن خويلد والأسود العنسي وأمثالهم، ومن الذين قالوا نصلّي ولا نزكّي فأسقطوا شعائر الإسلام بالهوى لأروع مثال على عظمة أبي بكر والصحابة وعلى حرصهم على الدين. وقد روى الطوسي في "الأمالي" ما يؤكد هذه الحقيقة: فعن إبراهيم أنه قال: ارتد الأشعث بن قيس وناس من العرب لما مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: نصلّي ولا نؤدي الزكاة، فأبى عليهم أبو بكر ذلك، وقال: لا أحل عقدة عقدها رسول الله، ولا أنقصكم شيئاً مما أخذ منكم نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ولأجاهدنكم، ولو منعتموني عقالاً مما أخذ منكم نبي الله صلى الله عليه وآله لجاهدتكم عليه ثم قرأ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُل} حتى فرغ من الآية ...) (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الزمر آية 30 (¬2) سورة آل عمران آية 144 (¬3) أمالي الطوسي ص262 حديث رقم (480) وبحار الأنوار 28/ 11

علّق المجلسي على هذه الرواية قائلاً: (قال ابن طاووس: ذكر العباس بن عبد الرحيم المروزي في تاريخه (لم يلبث الإسلام بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طوائف العرب إلا في أهل المدينة وأهل مكة وأهل الطائف، وارتد ساير الناس ثم قال: ارتدت بنو تميم والرباب واجتمعوا على مالك بن نويرة اليربوعي وارتدت ربيعة كلها وكانت لهم ثلاثة عساكر: عسكر باليمامة مع مسيلمة الكذّاب، وعسكر مع معرور الشيباني، وفيه بنو شيبان وعامة بكر بن وائل، وعسكر مع الحطيم العبدي، وارتد أهل اليمن، ارتد الأشعث بن قيس في كندة، وارتد أهل مأرب مع الأسود العنسي، وارتدت بنو عامر إلا علقمة ابن علاثة) (¬1). فقد (ارتد بسبب موت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولما حصل لهم من الضعف جماعات من الناس، قوم ارتدوا عن الدين بالكلية وقوم ارتدوا عن بعضه، فقالوا: لا نصلّي ولا نزّكي، وقوم ارتدوا عن إخلاص الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم فآمنوا مع محمد بقوم من النبيين الكذّابين كمسيلمة الكذّاب وطليحة الأسدي وغيرهما، فقام إلى جهادهم الشاكرون الذين ثبتوا على الدين، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار والطلقاء والأعراب ومن اتبعهم بإحسان، الذين قال الله عز وجل فيهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} (¬2) هم أولئك الذين جاهدوا المنقلبين على أعقابهم الذين لم يضروا الله شيئاً. وما أنزل الله في القرآن من آية إلا وقد عمل بها قوم، وسيعمل بها آخرون، فمن كان من الشاكرين الثابتين على الدين، الذين يحبهم الله – عز وجل – ورسوله، فإنه يجاهد المنقلبين على ¬

_ (¬1) بحار الأنوار 28/ 12 (¬2) سورة المائدة آية 54

أعقابهم، الذين يخرجون عن الدين، ويأخذون بعضه ويدعون بعضه كحال هؤلاء القوم المجرمين المفسدين، الذين خرجوا على أهل الإسلام، وتكلم بعضهم بالشهادتين، وتسمّى بالإسلام من غير التزام شريعته) (¬1). لكن ما حيلتنا مع من يجادل عن بعض أصناف أهل الردة ويتأول لهم قائلاً بأنّ اتفاقهم على منع الزكاة لا يعني ردتهم في حين لا يجد أي حرج في توجيه السهام إلى أبي بكر والصحابة الذين انتصروا للإسلام وثبتوا على دين الله بعد خذلان أكثر الناس له والطعن فيهم والقول بردتهم وانقلابهم على أعقابهم من أجل عدم إعطائهم الخلافة لعلي! إنّ هؤلاء العاذرين لا يجهلون عظم فريضة الزكاة التي قرنها الله بالصلاة مراراً في القرآن بل يجهلون حتى أحاديث أهل البيت التي بينت بكل وضوح أنّ ما فعله أبو بكر تجاه مانعي الزكاة هو عين الصواب، وأنّ فعله ذاك علامة فقهه رضي الله عنه. روى الكليني في الكافي عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (من منع قيراطاً من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم، وهو قوله عز وجل {رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَاءِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون} (¬2) وفي رواية (لا تقبل له صلاة) (¬3). وعنه أيضاً عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: من منع قيراطاً من الزكاة فليمت إن شاء الله يهودياً أو نصرانياً (¬4). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى 14/ 227 و28/ 227 (¬2) سورة المؤمنون آية 99 - 100 (¬3) الكافي- كتاب الزكاة- (باب منع الزكاة) - حديث رقم (3). (¬4) المصدر نفسه – حديث رقم (14).

وعنه أيضاً عن الإمام محمد الباقر أنه قال: (إنّ الله عز وجل قرن الزكاة بالصلاة، فقال {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاة} (¬1) فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة لم يُقم الصلاة) (¬2). فأين هذه الأحاديث الواضحة وكذا فعل الإمام علي الذي وقف جنباً إلى جنب مع الخليفة الراشد أبي بكر الصديق في تلك المحنة من التيجاني وشرف الدين الموسوي وفلان وفلان من أئمة وعلماء الشيعة الإثني عشرية الذين ما زالوا يدندون حول قضية قتال مانعي الزكاة محاولين تبرئة ساحتهم ورمي أبي بكر والصحابة بالمقابل بالأباطيل والردة! أبو بكر ... ذاك الرجل الذي عاش قضية الإسلام فكانت شغله الشاغل، والذي يذكر ابن شهرآشوب في كتابه (متشابه القرآن) في تفسير قول الله عز وجل {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (فهذا عام في جميع المواضع ويدخل فيه سجدة الشكر بعد الصلاة، وقد سجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أُتي برأس أبي جهل، وسجد علي لما وجدوا ذا الثدية، وسجد أبو بكر لما بلغه فتح اليمامة وقتل مسيلمة (¬3). رجل يسجد شكراً لله وفرحاً بانتصار الإسلام وهلاك مدّعي النبوة مسيلمة، ومع ذلك يُتهم بالردة والانقلاب على عقبيه! ... يُتهم في عرضه وفي دينه وفي كل شيء! أما الشعار الإيماني الذي قاتل تحت لوائه الصحابة مسيلمة ومن معه فيذكر النوري الطبرسي في "مستدرك الوسائل 11/ 113" عن الإمام علي بن الحسين أنه قال: كان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم مسيلمة (يا أصحاب سورة البقرة). ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية 43 (¬2) الكافي- كتاب الزكاة- (باب منع الزكاة) – حديث رقم (23). (¬3) متشابه القرآن 2/ 173

يا له من شعار ... ويا لعظمة أولئك الرجال. أيها القارئ ... إنّ النصوص التي ذكرتها لك ودلت بمجموعها على تفاني هؤلاء الرجال في نصرة هذا الدين وعلى رأسهم الخليفة الراشد أبي بكر الصدّيق، إنما هي حقائق سطّرتها كتب الشيعة الإثني عشرية الذين احترفوا لعن هؤلاء الأخيار ووصفهم بالنفاق والردة وأبشع الأوصاف! وإنّ المرء ليعجب من أولئك الذين يدّعون اتباع أئمة أهل البيت والتمسك بهديهم، أين هم عن مثل هذه الروايات؟ وأين أخلاقهم عن هذه الأخلاق الرفيعة التي تمثلها أهل البيت؟ لقد ضرب لنا الإمام أبو جعفر (محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب) أروع الأمثلة في سلامة الصدر من الحقد على المؤمنين الصادقين حين يمتدح أبا بكر الصدّيق ويُسمّيه بـ (الصدّيق) كما ذكر ذلك الأربلي في "كشف الغمة في معرفة الأئمة 2/ 360" عن عروة أنه قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن حلية السيوف، فقال: لا بأس به، قد حلّى أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه سيفه، قلت: فتقول الصدّيق؟! قال: فوثب وثبة واستقبل القبلة وقال: نعم، الصدّيق نعم، الصدّيق نعم، فمن لم يقل له الصدّيق فلا صدق الله له قولاً في الدنيا ولا في الآخرة). فرحم الله الإمام أبا جعفر ... ورحم الله كلماته التي طوتها صحف الأمس ولم تنطق بها ضمائر اليوم. ثالثاً: قد يجد من يريد الطعن في الصحابة أنّ حجته في تطبيق الآية الكريمة على مبايعة الناس أبا بكر على الخلافة غير منطقية، فيأتي للنص ليستخدمه كمطعن في أبي بكر والصحابة من خلال غزوة أحد نفسها.

ولذلك أقول بياناً لأحداث تلك الغزوة: في إطار الحديث عن غزوة أحد التي نزلت بسببها تلك الآيات، أُشيع بعد هزيمة المسلمين التي كان السبب الجوهري فيها ترك الرماة لمواقعهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قُتل. فانقسم الناس بسبب هذه الصدمة المفاجئة إلى ثلاثة أقسام: قسم استمر على ما هو عليه كأبي بكر الصدّيق (¬1) وعلي بن أبي طالب وأنس بن النضر وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وأبي دجانة والزبير بن العوام ورجال من المهاجرين والأنصار. فحين توجهت السهام تجاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جهة من أرض القتال وأشيع في الجهات الآخرى مقتله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يدركوا ما كان يواجه رسول الله ومن معه في تلك الجهة، قام خمسة من الأنصار فقاتلوا دون رسول الله رجلاً رجلاً يُقتلون دونه، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة بن زياد بن السّكن، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم فاءت من المسلمين فئة حتى أجهضوهم عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ادنوه مني فأدنوه منه فوسّد قدمه، فمات وخدّه على قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وترّس دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو دجانة بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه، حتى كثرت فيه النبل، ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال ¬

_ (¬1) يقول ابن أبي الحديد المعتزلي (الشيعي الغالي سابقاً) في "شرح نهج البلاغة 15/ 21": (ولم يختلف الرواة من أهل الحديث في أنّ أبا بكرلم يفر يومئذ وأنه ثبت فيمن ثبت، وإن لم يكن نُقل عنه قتل أو قتال، والثبوت جهاد وفيه وحده كفاية).

سعد: فلقد رأيته يناولني ويقول: ارم فداك أبي وأمي .. حتى إنه ليناولني السهم ما فيه نصل فيقول: ارم به! (¬1) فأما طلحة بن عبيد الله فيكفيه شرفاً أن شُلت يده وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وآله، يقول قيس بن أبي حازم رضي الله عنه: (رأيت يد طلحة شلاّء، وقى بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد). (¬2) ومن حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما كان يوم أحد وولّى الناس، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ناحية في اثني عشر رجلاً من الأنصار وفيهم طلحة بن عبيد الله فأدركهم المشركون، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (من للقوم؟)، فقال طلحة: أنا، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كما أنت، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فقال: أنت، فقاتل حتى قُتِل، ثم التفت فإذا المشركون، فقال: من للقوم؟ فقال طلحة: أنا، قال: كما أنت، فقال رجل من الأنصار: أنا، فقال: أنت، فقاتل حتى قُتل، ثمّ لم يزل يقول ذلك ويخرج إليهم رجل من الأنصار فيُقاتل قِتال من قبله حتى يُقتل حتى بقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطلحة بن عبيد الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من للقوم؟ فقال طلحة: أنا، فقاتل طلحة قِتال الأحد عشر حتى ضُربت يده فقُطعت أصابعه فقال: حسّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو قلت بِسم الله، لرفعتك الملائكة والناس ينظرون) ثم ردّ الله المشركين) (¬3). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 2/ 66 (¬2) رواه البخاري-كتاب المغازي- باب {إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليّهما} - حديث (4063). (¬3) رواه النسائي- كتاب الجهاد - باب (ما يقول من يطعنه العدو) - حديث رقم (3151).

وحينما استعصى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صعود صخرة قعد طلحة ليصعد رسول الله عليه فيعتلي الصخرة، فعن الزبير رضي الله عنه أنه قال: (كان على النبي يوم أحد درعان، فنهض إلى الصخرة فلم يستطع، فقعد طلحة تحته حتى استوى على الصخرة، قال الزبير: فسمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أوجب طلحة) (¬1). وقد أنزل الله عز وجل خلال تلك الفترة النعاس على المؤمنين وأبقى في قلوب المنافقين الرعب، يقول أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه: (رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يمييد تحت حَجَفتِهِ من النعاس، فذلك قوله تعالى {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً}) (¬2). ويتحدث عن الطائفة التي لم يغشها النعاس قائلاً: (والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم إلا أنفسهم أجبن قوم وأرعبه، وأخذله للحق) (¬3). وفي رواية ابن حبان (والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم همّ إلا أنفسهم، أجبن قوم وأذله للحق، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، أهل شك وريبة في أمر الله) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي- كتاب الجهاد - باب (ما جاء في الدرع) - حديث رقم (1692) وأحمد في المسند 1/ 165 حديث رقم (1417) بسند حسن. (¬2) أخرجه الترمذي- كتاب تفسير القرآن – باب (ومن سورة آل عمران) - حديث رقم (3007) وهو صحيح على شرط مسلم (راجع كتاب الصحيح المسند للوادعي- حديث رقم 366). (¬3) أخرجه الترمذي-كتاب تفسير القرآن- باب (ومن سورة آل عمران) -حديث رقم (3008) بسند صحيح. (¬4) صحيح ابن حبان - ذِكر أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه – حديث رقم (7180).

يقول القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" في تفسيره لقوله تعالى {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} (¬1): (يعني المنافقين: معتب بن قشير وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعاً في الغنيمة وخوف المؤمنين فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسفون على الحضور ويقولون الأقاويل). وقد كان الزبير بن العوام ممن غشيهم النعاس أمنة من الله وفضلاً، يقول الزبير رضي الله عنه: (لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين اشتد الخوف علينا، فأرسل الله علينا النوم، فما منّا من رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم (لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا ههنا) فحفظتها، وفي ذلك أنزل الله {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} لقول معتب) (¬2). أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمن الثابت في التاريخ أنه كان يقاتل في أحد، فلما دارت الدائرة على المسلمين وأُشيع مقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرض المعركة حتى رأى الناس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقد روى الطبري بسنده عن ابن إسحاق أنه قال: (فكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وقول الناس: (قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم) كعب بن مالك أخو بني سلمة، قال: عرفت عينيه تزهران تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين: أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليّ رسول الله أن أنصت، فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به، ونهض نحو الشعب معه علي بن ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية 154 (¬2) أخرجه ابن إسحاق في (المغازي) – ومن طريقه الطبري في (جامع البيان 4/ 94) وإسحاق بن راهويه في (مسنده) كما في (تخريج أحاديث الكشاف) للزيلعي 1/ 233 رقم 242 وغيرهم، والسند حسن.

أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام والحارث بن الصمة في رهط من المسلمين. قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه، إذ علت عالية من قريش الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم عن الجبل، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدُن فظاهر بين درعين فلما ذهب لينهض فلم يستطع، جلس تحته طلحة بن عبيدالله فنهض حتى استوى عليها. ثم إنّ أبا سفيان حين أراد الانصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إنّ الحرب سجال، يوم بيوم بدر، (اعل هبل) أي: أظهر دينك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: قم فأجبه فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فلما أجاب عمر رضي الله عنه أبا سفيان، قال له أبو سفيان: هلم إليّ يا عمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ائته فانظر ما شأنه؟ فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمدا؟ فقال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن فقال: أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر) (¬1). وفي رواية البخاري (فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قُحافة؟ ثلاث مرات، ثم قال: أفي القوم ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره لقوله تعالى {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} من سورة آل عمران، والرواية صححها الألباني في تحقيقه لكتاب (فقه السيرة) للغزالي - حديث رقم (258).

ابن الخطاب؟ ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قُتِلوا، فما ملك عُمرُ نفسه، فقال: كذبت والله يا عدو الله! إنّ الذين عدَدْت لأحياءٌ كلهم، وقد بقي لك ما يسوءك قال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، والحربُ سِجال، إنكم ستجدون في القوم مُثْلةً لم آمر بها ولم تسُؤْني، ثم أخذ يرتجِزُ: اُعْلُ هُبَلْ، اُعْلُ هُبَلْ. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تجيبوه؟، قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل، قال: إنّ لنا العزى ولا عُزّى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تجيبوه؟ قال: قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم) (¬1). وعند أحمد بسند حسن (فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل (اعل هبل) مرتين - يعني آلهته-، أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: يا رسول الله، ألا أجيبه؟ قال: بلى، قال: فلما قال (اعل هبل) قال عمر: الله أعلى وأجل، قال: فقال أبو سفيان: يا ابن الخطاب، إنه قد أنعمت عينها، فعاد عنها أو فعال عنها، فقال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر وها أنا ذا عمر، قال: فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، الأيام دول وإنّ الحرب سجال قال: فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) (¬2). هذا هو عمر الذي ينسبون له الردة والانقلاب على عقبيه يوم أحد! ¬

_ (¬1) رواه البخاري-كتاب الجهاد والسير- باب (ما يُكره من التنازع والاختلاف في الحرب) - حديث رقم (3039). (¬2) مسند أحمد - حديث (2609)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.

غير أنّ الأمانة العلمية تدعوني إلى عدم إغفال رواية القاسم بن عبد الرحمن بن رافع وفيها: انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله (¬1) في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتل محمد رسول الله (¬2) قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا كراماً على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ..) (¬3) لكن توقف هؤلاء الصحب هذه اللحظات لا يعني أنهم لم يوفقوا إلى مواقف مشرفة في هذه الغزوة، ينصرون بها دين الله عز وجل. فيظهر من هذه الرواية أنّ قسماً من الصحابة فاجأته الصدمة فلم يعد يعرف ماذا يفعل فاكتأب وتوقف عن القتال مع إيمانه برسول الله وحسرته على موته المفاجئ، فتوقف عن القتال ¬

_ (¬1) والحديث ضعيف لأمور متعلقة بالسند وبالمتن كذلك: فأما التي في السند فإنّ ابن حميد: هو يعقوب بن حميد بن كاسب؛ ضعفه أبو حاتم وغيره، ووثقه بعضهم وأمره لا يخلو من الضعف. وسلمة: هو ابن رجاء التميمي، وفيه ضعف أيضاً مقارب لسابقه. والقاسم بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج لا يعرف وروايته هذه منقطعة. وأما المتن فلأنّ من الثابت بأسانيد صحيحة عند السنة والشيعة أنّ طلحة بن عبيد الله كان ممن يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين انهزم المسلمون وأنّ يده شُلت بسبب ذلك بينما تذكر هذه الرواية الضعيفة أنه ممن ألقى السلاح، فلو أنّ هذه الرواية صحت وخالفت غيرها من الروايات الصحيحة الثابتة لكفانا ذلك تضعيفاً لها، فكيف وإسنادها ضعيف؟ (¬2) في هذا رد على من يريد الطعن في هؤلاء الصحابة ويدّعي ردتهم، فإنهم بقوا على الإيمان وعلى شهادة أنّ محمداً رسول الله لكن صدمة الإشاعة جعلتهم يحتارون ماذا يفعلون، ولو كانوا مرتدين لما قالوا (قُتل محمد رسول الله!) وإنما (قُتل محمد) ولقالوا مثل ما قاله المنافقون (لنلحق بعبد الله بن أُبي سلول) أو غيره. (¬3) تاريخ الطبري 2/ 66

حينها لكنه لم يرتد أو يلحق بعبد الله بن أبي سلول أو بجيش الكفار، وإنما كان أسير الصدمة الكبيرة. فلعل عمر بن الخطاب وبعض الصحابة توقفوا حينها بعد سماعهم لنبأ مقتل رسول الله، ثم لما حفزّهم أنس بن النضر دب الحماس في نفوسهم إلى اللحاق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنان الخلد فقاموا وقاتلوا من جديد. هذا إن صحت الرواية وإلا فهي كما ذكرنا ضعيفة الإسناد. وهناك قسم بقي على الإيمان كمن سبقه ولكنه انسحب من القتال وهم عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان (رجلان من الأنصار) (¬1) وغيرهم، وهؤلاء الصحابة قد تجاوز الله عنهم زلتهم في كتابه الكريم بقوله {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيم} (¬2) فبيّن الله أنه قد عفا عن جميع من تولى يوم أحد، فدخل فيهم من هو دون عثمان في الفضل والسابقة، فكيف بعثمان الذي قدّم للإسلام الكثير؟ روى البخاري أنّ رجلاً حج البيت فرأى قوماً جلوساً فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر، فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء، أتحدثني؟ قال: أنشدك بحرمة هذا البيت، أتعلم أنّ عثمان بن عفان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم، قال: فتعلمه تغيّب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: فتعلم أنه تخلّف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 2/ 69 (¬2) سورة آل عمران آية 155

قال: نعم، قال: فكبّر، قال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبيّن لك عما سألتني عنه: أما فراره يوم أحد فأشهد أنّ الله عفا عنه. وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت مريضة فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه). وأما تغيّبه عن بيعة الرضوان فإنّه لو كان أحد أعز ببطن مكّة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه، فبعث عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عُثمان إلى مكّة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده اليمنى: (هذه يد عثمان، فضَرَبَ بها على يَدِهِ، فقال: هذه لِعُثْمان، اذْهَبْ بِهذا الآن مَعَك) (¬1). أما القسم الأخير وهم الذين ارتدوا على أعقابهم فلم أجد في حقهم رواية معتبرة يمكن الركون إليها، فقد رويت في شأنهم روايات ضعيفة جداً لا ترتقي إلى مستوى الاستدلال. ولعلهم بعض المغترين بعبد الله بن أبيّ بن سلول كما يظهر من مجموع الروايات. فأين هذه الحقائق ممن يمزجون الحق بالباطل فيجعلون أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وغالب أصحاب رسول الله من أهل الردة؟! ولا يجعلون من الآية دليلاً على ردة هؤلاء في غزوة أحد فحسب بل على ردتهم بعد موت رسول الله في انتخابهم أبي بكر خليفة للمسلمين! أي إنصاف هذا؟ وأي ضمير يرتضي هذا التجني؟! ¬

_ (¬1) رواه البخاري-كتاب المغازي- باب (قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَان} - حديث رقم (4066).

ب - حديث المذادة عن الحوض

ب - حديث المذادة عن الحوض ولعل من أبرز ما استدل به الشيعة الإثنا عشرية على ردة الصحابة وانقلابهم على أعقابهم حديث المذادة عن الحوض والذي روي بأكثر من لفظ عند أهل السنة والشيعة الإثني عشرية. فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليرِدنّ عليّ ناسٌ من أُصيحابي الحوض حتى إذا عرفْتُهُمُ اخْتُلِجوا دوني فأقول: أصحابي، فيقول: لا تَدْري ما أحدثوا بعدك) (¬1). وعن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إني فرطكم على الحوض، من مرّ عليّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يُحال بيني وبينهم)، قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم، فقال: أشهَدُ على أبي سعيد الخدري لسمعتُهُ وهو يزيد فيها: (فأقول: إنهم مني، فيُقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي) (¬2). وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّي على الحوض حتى أنظر من يرِد عليّ منكم، وسيؤخذ ناسٌ دوني، فأقول: يا ربّ منّي ومن ¬

_ (¬1) رواه البخاري - كتاب الرقاق - باب (في الحوض) - حديث رقم (6582). (¬2) المصدر نفسه - حديث رقم (6583).

أُمتي؟، فيُقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما بَرِحوا يرجعون على أعقابهم. فكان ابن أبي مُليكة يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نُفتن عن ديننا) (¬1). وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه (وليُرفَعَنّ رِجال منكم) وفي أخرى (يرد عليّ يوم القيامة رهطٌ من أصحابي فيُجلون عن الحوض) وفي ثالثة (فإذا زُمرةٌ حتى إذا عرفتهم) (¬2). وفي رواية ابن المُسَيّب عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يَرِد على الحوض رجال من أصحابي فيُجلون عنه) (¬3). المناقشة: لقد أغمض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عينيه عن رجال من أصحابه كانوا على الإيمان فزلزل الله عز وجل من في قلبه مرض فارتد عن الإسلام واتبع مسيلمة الكذّاب وطليحة بن خويلد والأسود العنسي وسجاح. يقول المؤرخ الشيعي سعد القمي في "المقالات والفرق": (وارتد قوم فرجعوا عن الإسلام، ودعت بنو حنيفة إلى نبوة مسيلمة وقد كان ادعى النبوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعث أبو بكر إليهم الخيول عليها خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي فقاتلهم وقُتل من قُتل ورجع من رجع منهم إلى أبي بكر فسمّوا أهل الردة) (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري – كتاب الرقاق – باب (في الحوض) – حديث رقم (6593). (¬2) المصدر نفسه – حديث رقم (6576) و (6585) و (6587). (¬3) المصدر نفسه – حديث رقم (6586). (¬4) المقالات والفرق ص4

ويقول الإمام علي عن إمساكه عن بيعة الخليفة الراشد أبي بكر في بادئ الأمر ثم مبايعته لأبي بكر ومؤازرته له وللصحابة في دحر المرتدين: (فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل ..) (¬1). ويقول: (فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته ونهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق، وكانت كلمة الله هي العليا ولو كره الكافرون، فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسّر وسدد وقارب واقتصد، فصحبته مناصحاً وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهداً) (¬2). ولذلك وجد الشيخ محمد كاشف آل الغطاء نفسه مضطراً للاعتراف بهذه الحقيقة فقال عن الإمام علي: (وحين رأى أنّ الخليفتين – أعني الخليفة الأول والثاني – بذلا أقصى الجهد في نشر كلمة التوحيد وتجهيز الجنود وتوسيع الفتوح ولم يستأثرا ولم يستبدا، بايع وسالم) (¬3). أقول: وحديث الحوض يشير إشارة واضحة إلى هؤلاء النفر (أي بني حنيفة وأمثالهم) الذين مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم على الإيمان فانقلبوا على أعقابهم واستبدلوا الإيمان بالكفر فسلّط الله عليهم جند الإيمان الأذلة على المؤمنين، الأعزة على الكافرين، فمات من هؤلاء المرتدين من مات ليلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيُذاد ¬

_ (¬1) نهج البلاغة – (ومن كتاب له (ع) إلى أهل مصر) - رقم (62). (¬2) الغارات للثقفي 1/ 306 - 307 (¬3) أصل الشيعة الإثني عشرية وأصولها ص123 - 124

به عن الحوض ورجع إلى الإيمان من رجع و (إنّ الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) (¬1). لكن ماذا يريد علماء الشيعة الإثني عشرية من إثارة هذا الحديث أمام البسطاء من الناس؟ لعلك أدركت أيها القارئ أنّ علماء الشيعة الإثني عشرية أرادوا الطعن في كبار صحابة رسول الله (أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة والزبير وطلحة وغيرهم) والحديث بالنسبة لهم صيد ثمين، إذ يُمكن لهم أن يجعلوا هؤلاء الصحب ممن أحدثوا بعد رسول الله فيستحقون البوار والخسران يوم القيامة، هكذا بكل سهولة! ولذا تجد أنّ علماء الشيعة الإثني عشرية قد اجتهدوا في عدّ وحصر ما يرونه إحداثاً في دين الله من قبل هؤلاء الصحب وألّفوا في ذلك المصنفات لإقناع الناس بصحة ما يدّعونه في صحابة رسول الله، لكن ماذا يفعل هؤلاء الحماسيون لو أنّ حماسهم ورغبتهم في التشفي من أصحاب رسول الله قابله حماس آخر من أباضي أو ناصبي حاقد على الإمام علي ففعل مع الإمام علي ما يفعله هؤلاء مع باقي الصحابة؟ فالظلم والبهتان لا يُعرف له صاحب، ولا يظنن أحدٌ أنّ الظلم يقع على أناس دون آخرين، وأنّ سهامه التي يوجهها لصحابة رسول الله ستصيب قوماً وتستثني آخرين. فالحديث عام لا يستثني عمار بن ياسر ولا المقداد بن الأسود ولا أبا ذر ولا سلمان الفارسي ممن يجلهم الشيعة الإثنا عشرية بل لا يستثني الحديث علياً نفسه! وكل من في قلبه غل على صحابي يستطيع وفقاً لميزانه الأعوج أن يجعله ممن انقلبوا على أعقابهم! ¬

_ (¬1) مسند أحمد - حديث رقم (6160)، قال عنه شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.

ولتقرأ معي ما سيقوله الناصبي الحاقد بتمعن وإنصاف لترى كيف يُمكن للنظرية الشيعية أن تنسف نفسها بنفسها! على أني منذ البداية أبرأ إلى الله من الطعن في الإمام علي صراحة أو ضمناً، فالإمام علي إمام هدى، وله من المكانة والتقدير في قلوبنا ما يستحقه أمثاله من أرباب المناقب والمآثر العظيمة إلى جانب قرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا نرتضي فيه طعناً أو انتقاصاً كما لا نرتضي ذلك في باقي الصحابة. لكني أريدك أيها القارئ الكريم أن تستشعر معي ظلم الشيعة الإثنى عشرية لأبي بكر وعمر وعثمان وباقي الصحابة، وتتلمس كيف يُمكن أن ينقلب هذا الظلم ظلماً لعلي بن أبي طالب كذلك حينما تكون الكلمة للناصبي والعدو المستهدف هو علي بن أبي طالب. يقول الناصبي: لقد رأيت في علي بن أبي طالب مثالاً للإحداث بعد رسول الله! ولهذا أبغضته وتبرأت منه! ترك الإمامة وهي أعظم أركان الدين والتي وردت فيها روايات شيعية كثيرة في بيان منزلتها وكونها أصلاً للدين لا يقوم إلا به! وتخلى عن الزهراء عليها السلام يوم أن ضُربت وصُبّت عليها المصائب! ولم يقدّم تجاه قضية فدك المغصوبة أي شيء فلم ينتصر لبنت رسول الله! وحكّم الرجال في كتاب الله وكل من شارك في التحكيم كافر (علي وأبو موسى الأشعري ومعاوية وعمرو بن العاص). وحجتي في الحديث ظاهرة، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال في نص الحديث: (فأقول: يا رب مني ومن أمتي؟). وفي هذا دلالة قاطعة على أنّ المراد بالحديث هو علي بن أبي طالب!

فإنكم تروون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في علي بن أبي طالب: (علي مني وأنا من علي)، تلك قرينة! وقرينة أخرى أستدل بها على أنّ المراد بالحديث (علي بن أبي طالب) هي إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المبدّلين من بعده بقوله: (أمراء يكونون من بعدي فمن غشي أبوابهم فصدّقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد عليّ الحوض) (¬1) وقد غشي علي بن أبي طالب الظلمة أبا بكر وعمر وعثمان (¬2) وكان مستشاراً ووزيراً لهم كما تشهد بذلك كتب الشيعة الإثني عشرية من أولها إلى آخرها. وقد توعده النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث بسحب المنزلة التي أُعطيت له بقوله (فليس مني ولست منه ولا يرد عليّ الحوض) لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يعلم بما سيحدثه من بعده من الركون للظلمة وحب الدنيا والأُعطيات والامتيازات. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (فإذا جئتم قال الرجل: يا رسول الله، أنا فلان بن فلان فأقول أما النسب فقد عرفته ولكنكم أخذتم بعدي ذات الشمال وارتددتم على أعقابكم القهقرى) (¬3) يؤكد تماماً أنّ المراد بالحديث هو علي بن أبي طالب لا غيره!! فالرجل الذي أتى رسول الله لم يقل له (أنا فلان بن فلان) لتعريف النبي صلى الله عليه وآله وسلم به، لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد صرّح بالحديث ذاته بمعرفته له ولمن ¬

_ (¬1) جامع الترمذي-كتاب الزكاة - باب (ما ذُكر في فضل الصلاة) - حديث رقم (614)، قال الألباني: حديث صحيح. (¬2) وفقاً لرؤية الشيعة الإثني عشرية. (¬3) سيأتي تخريجه.

معه فقال: (أما النسب فقد عرفته) وقال: (أعرفهم ويعرفوني) لكن الرجل أراد الإشارة إلى نسبه وقربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ظناً أنّ ذلك سيشفع له فيجيبه الرسول بقوله (أما النسب فقد عرفته) أي أنّ النسب والقرابة لها مقامها لكن ليس مع الإحداث من بعدي، وهذا ما حصل حين تركت ابنتي تُضرب ولم تفعل شيئاً وحين فعلت كذا وكذا. ويقول الناصبي: وما يؤكد أنّ ذاك الرجل هو علي بن أبي طالب هو صدر حديث المذادة عن الحوض حيث يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تزعمون أنّ قرابتي لا تنفع قومي والله إنّ رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، إذا كان يوم القيامة يُرفع لي قوم يُؤمر بهم ذات اليسار، فيقول الرجل: يا محمد، أنا فلان بن فلان، ويقول الآخر: أنا فلان بن فلان، فأقول: أما النسب قد عرفت، ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم على أعقابكم القهقرى) (¬1). وفي رواية المفيد والطوسي في (أماليهما) عن أبي سعيد الخدري قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول على المنبر: ما بال أقوام يقولون: إنّ رحم رسول الله لا ينفع يوم القيامة؟ بلى والله إنّ رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة، وإني أيها الناس فرطكم يوم القيامة على الحوض، فإذا جئتم قال الرجل: يا رسول الله أنا فلان بن فلان، فأقول: أما النسب فقد عرفته، لكنكم أخذتم بعدي ذات الشمال، وارتددتم على أعقابكم القهقرى) (¬2) ¬

_ (¬1) مسند أحمد - حديث رقم (11154) وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره، ورواه المجلسي في بحار الأنوار 7/ 239 نقلاً عن أمالي الطوسي. (¬2) الأمالي للمفيد (المجلس الثامن والثلاثون) ص327 - 328 حديث رقم (11) والأمالي للطوسي ص94 حديث رقم (144).

فالرجل قد جاء متصوراً أنّ رحمه وقرابته ونسبه سيشفعان له إحداثه وتبديله لدين المصطفى، فقرر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الرواية الشيعية أنّ القرابة شافعة لكنها لن تنفع من أحدث وارتد على عقبيه. ومما يؤكد أنّ المراد هنا علي بن أبي طالب هو ما ورد في كتب الشيعة الإثني عشرية من أحاديث كثيرة تفيد أنّ الناس يُدعون يوم القيامة بأسماء أمهاتهم (¬1)، لكن الرجل الذي أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هو من رحم رسول الله، وقد أخبر الرسول الكريم بكل صراحة أنّ هذا الرجل سيقول (أنا فلان بن فلان) لا (فلان بن فلانة). ويكمل الناصبي كلامه قائلاً: فإن حاولت الدفاع عن علي بن أبي طالب واستشهدت بحديث لعمار أو سلمان أو المقداد فأخبرك منذ البداية أنهم ممن انقلبوا على أعقابهم مع علي بن أبي طالب والحديث يشملهم فارتضاؤهم له وتزكيتهم له وقبولهم لإمامته كافٍ لاستحقاقهم المصير ذاته، فإن قلت: وأين ¬

_ (¬1) روى الحر العاملي في "الفصول المهمة في أصول الأئمة 1/ 348" – حديث رقم (435) والمفيد في "الأمالي ص311 (المجلس السابع والثلاثون) " وفي "الإرشاد 1/ 43" (الأخبار الدالة على أنّ ولايته علم على طيب المولد) والأربلي في "كشف الغمة 1/ 140" عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي (ع): ألا أبشرك ألا أمنحك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: فإني خلقت أنا وأنت من طينة واحدة ففضلت منها فضلة فخلق منها شيعتنا، فإذا كان يوم القيامة دعي الناس بأمهاتهم إلا شيعتك فإنهم يدعون بآبائهم لطيب مولدهم. وفي كتاب "صفات الشيعة ص16" عن محمد بن يحيى بن سدير قال: قال أبو عبد الله (ع): إذا كان يوم القيامة دعي الخلائق بأمهاتهم ما خلانا وشيعتنا فإنا لا سفاح بيننا. ومن أراد المزيد فليراجع "الفصول المهمة" للحر العاملي الذي ذكر جملة من الروايات في هذا الشأن ثم أعقبها بقوله: (والأحاديث في ذلك كثيرة جداً)!!

الأحاديث التي وردت في فضل علي وعمار وفلان وفلان أجبتك بأنّ فضائل أبي بكر وعمر وفلان وفلان لم تشفع لهم عندكم بل قلتم بانقلابهم على أعقابهم وشككتم بتلك الفضائل وكذلك الحال في علي بن أبي طالب ولا فرق! هذا بعض ما يُمكن أن يقوله الناصبي في الإمام علي بن أبي طالب والمقربين منه. أقول مخاطباً أرباب الضمائر الحية: هكذا تنسف النظرية الشيعية نفسها بنفسها .. ولن يستطيع الرد على هذا الناصبي الحاقد إلا أهل السنة، الذين عرفوا لصحابة رسول الله حقهم وفضائلهم وأدركوا أبعاد أحداث الفتنة وأسبابها، وقالوا للناصبي وللشيعي الإمامي: على رسلكما ... إنّ الذين أحدثوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فئة ارتدت عن الإسلام ... قاتلها أبو بكر وعلي والصحابة ... فلقي حتفه من تلك الفئة من لقي وهو على الكفر، ليذاد يوم القيامة عن الحوض والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أصحابي أصحابي) والملائكة تجيبه (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك). ما أجمل الإنصاف وأندره ... وما أجمل أن يدرك المرء المعاني الجليلة التي يذكرها هذا الحديث ... لكن ماذا تفعل مع التعصب وأهله؟!

التعامل مع الصحابة من خلال أخطائهم

التعامل مع الصحابة من خلال أخطائهم الصالح يخطئ ويتعثر بعض الأحيان لكنه سرعان ما يتدارك نفسه ويقف مستوياً من جديد، ذاك رجل عرف الصلاح وحفظ له صلاحه مقامه عند الله وعند الناس رغم تعثره وما أخل بمكانته ولا بشرفه خطأ أو معصية بشرية لما كانت العصمة في أنبياء الله ورسله دون غيرهم من الناس، فكيف بمن قال الله عنهم {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَان}؟ (¬1) هل يمكن أن يُنظر إلى هذه الفئة المزكّاة على أنها منافقة وراعية لمصالحها الشخصية وأنها بكبيرها وصغيرها إلا قلة لا تتعدى اليد الواحدة مرتدة كافرة؟! كل ذلك من أجل الإمامة التي لا يوجد نص واحد صريح فيها لا يقبل النقاش؟! رصيد هذه الفئة المؤمنة المجاهدة من هذا الجهاد العظيم ومن الإسلام الذي نشروه وأوصلوه إلينا وإلى الأمم أن يُطعن فيهم وفي نزاهتهم وفي عقيدتهم وفي كل شيء. ولذلك قيل قديماً (بعض الناس مثل الذباب لا يقع إلا على الجرح) وهذا دأب من لا يعرف في غيره إلا أخطاءهم ليُشنّع عليهم ويرميهم بالتهم، ولا يريد أن يرى فيمن يبغضه ويلعنه إلا كل الشر ... إنها منهجية البحث في القمامة كما يصفها المفكرون اليوم. ولا يخفى على المؤمن النجيب أيّ بعد عن تعاليم الإسلام وأخلاقه تلك المهاترات التي تجعله ينظر نظرة طعن ونقيصة إلى الصالحين بل إلى أناس تربوا على يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتخرجوا من مدرسته. ¬

_ (¬1) سورة الحجرات آية 7

إنّ تربية الإسلام علمتنا أنّ المسلم طيب السريرة والقلب كما هو طيب اللسان والتعامل وأنه أبعد ما يكون عن جمع الزلات وتتبع العثرات لأنّ خُلقه الإسلامي يترفع به عن هذا المستوى. فالرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم هو القائل (إنّ المؤمن ليس باللعان والطعّان ولا الفاحش ولا البذيء) (¬1). وما أجمل ما قاله العالم الرباني "تقي الدين ابن تيمية" ناصحاً تلميذه "ابن القيم": (لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل الإسفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليه صار ممراً للشبهات) (¬2). وقد انتفع التلميذ النجيب بهذه الوصية أيما انتفاع فقال: (إنّ من قواعد الشرع والحكمة أنّ من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يُحتمل له ما لا يحتمل لغيره ويُعفى عنه ما لا يُعفى عند غيره، فإنّ المعصية خبث والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى خبث) (¬3). لكن حينما يتشرب القلب هذه الشبهات ولا ينطق إلا بها، ضارباً بجميل الصحابة عليه عرض الحائط، ناكراً لجهادهم ودعوتهم وللآيات القرآنية المزكّية لهم، فإنّ مكيال الدنيا قبل الآخرة كفيل بأن يُظهر له من الحق والحجة الباهرة ما لم يخطر على قلبه. ¬

_ (¬1) رواه أحمد في المسند - حديث رقم (3948)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح (¬2) مفتاح دار السعادة 1/ 176 (¬3) المصدر نفسه

وبالمكيال الذي تكيل تكال

وبالمكيال الذي تكيل تُكال إنّ من يكيل الناس بمكيال عليه أن يقبل أولاً أن يكيل نفسه وأحبابه بالمكيال ذاته الذي يكيل به الآخرين ... كي يتبين له كم يظلم عدوه ويتجنى عليه دون أن يشعر. وقد قيل عند أولي الألباب: (كما تدين تُدان وبالمكيال الذي تكيل تُكال)، ذلك أنّ السهم المسموم يقتل صاحبه أيضاً إن جاز له أن يقتل الآخرين. ومن عادى أولياء الله عز وجل فقد آذنه الله بالحرب وبهتك ستره وبالفضيحة يوم يلقاه. فهؤلاء الذين يتصيدون العثرات لصحابة رسولهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين دافعوا عنه ونصروه وتركوا أهليهم وأموالهم في مكة مهاجرين في سبيل الله إلى المدينة ويتصيد للأنصار الذين تقاسموا مع إخوانهم المهاجرين لقمة العيش من أجل الله عز وجل ومن أجل الإسلام، لا بد لهم أن يروا أي ألم وأي جريمة يرتكبون في حق الإسلام وفي حق أنفسهم إذا ما وقفوا يرون السهام التي يجرحون بها الأبرياء هي نفس السهام التي تجرح من يحبون أو من يدّعون حبه. ولو أنّ رجلاً من الخوارج الذين قاتلهم الإمام علي بقي الغل في قلبه فأعماه عن رؤية علي بن أبي طالب الحقيقي وأراد أن ينظر إليه بنفس نظرة الشيعة الإثنى عشرية لأبي بكر وعمر وباقي الصحابة ويتشفى فيه، فأمسك بيده القلم وبدأ ينقّب في سيرة هذا الإمام العطرة عن خطأ أو ذنب أو زلة لسان لأظهر لك صورة مختلفة تماماً عن صورة هذا الرجل العظيم!! فبالطريقة ذاتها التي يستخدمها الشيعة الإثنا عشرية في إظهار أبي بكر وعمر وعثمان وباقي الصحابة بمظهر المبدّلين لشرع الله المغيرين لسنة رسول الله يمكن لرجل من النواصب أن يُظهر علياً بهذه الصورة!!

رؤية ناصبي للإمام علي

إننا على يقين بأننا أحقر من أن نقيّم علي بن أبي طالب .. ذاك الرجل العظيم الذي خالط الإيمان قلبه وتجسد في حياته ... لكني أريد من القارئ المنصف أن يتلمس المعاني التي أريدها من طرح هذه الفكرة. رؤية ناصبي للإمام علي لنفترض الآن أنّ ذاك الناصبي بدأ ينقب في كتب الشيعة الإثنى عشرية دون غيرها ويتصيد العثرات ويعنون لكل ما يسطره من روايات بعناوين توحي بمضامينها حسب فهمه فإنّ ما سيجده هو الآتي: 1 - الإمام علي والدّين فمن الأمور التي سيقف عليها هذا الناصبي الخبيث المتصيّد للعثرات حديث رواه الحر العاملي في "وسائل الشيعة 18/ 317" عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أعوذ بالله من الكفر والديّن، قيل: يا رسول الله، أتعدل الدّين بالكفر؟ قال: نعم). فيأتي برواية شيعية أخرى رواها الحر العاملي عن علي بن طاووس بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: قُبض علي عليه السلام وعليه دين ثمانمائة ألف درهم، فباع الحسن عليه السلام ضيعة له بخمسمائة ألف فقضاها عنه وباع بيعة له بثلاثمائة ألف فقضاها عنه) (¬1). ويقول لك الناصبي: انظر .. هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعدل الديّن بالكفر، وهذا علي يموت وعليه دين، بالضبط كما يفعل الشيعة الإثنا عشرية عادة مع أبي بكر ¬

_ (¬1) وسائل الشيعة 18/ 322 وكشف المحجة ص125 والحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة 20/ 103

2 - إهانة اسم الله!

وعمر وباقي الصحابة، لا يريد المرء منهم أن يتفهم النصوص ولا أن يجمع بينها ولا يتأكد من ثبوتها ولا أن يُحسن الظن ولا أن يعرف لهؤلاء الصحابة فضلهم ويعلم أنهم بشر يخطئون ويصيبون. فأما الشيعي الإثنا عشري فسيقف مبهوتاً أمام هذا الناصبي الخبيث .. كل ما سيفعله أحد أمرين: إما تكذيب الروايات (السابقة منها واللاحقة) أو شتم الناصبي ولعنه، لأنه لن يستطيع الطعن في منهجية ذاك الناصبي، فالمنهجية بينهما مشتركة، هذا يطعن في علي ويستخدم النصوص بغير حق، وذاك يطعن في أبي بكر وعمر والبقية ويستخدم النصوص بغير حق فيهم! فإن قال له الشيعي: (الإمام علي له من الفضائل كذا وكذا فكيف تقول عنه هذا وتحمّل النصوص ما لا تحتمل) فسيقول له الناصبي: (ليست مشكلة، أنتم تناسيتم فضائل أبي بكر وعمر وطعنتم فيهما ولم تجدوا حرجاً في ذلك، فما الحرج في فعلي؟ وعلي عندي ممن أحدثوا في الدين من بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أم أنكم تكيلون خصومكم بغير ما تكيلون به أنفسكم؟). 2 - إهانة اسم الله! وسيستدل الناصبي بما رواه شيخ القميين عبد الله بن جعفر الحميري في "قرب الإسناد ص154" عن جعفر الصادق عن أبيه الباقر قال: (كان نقش خاتم أبي محمد بن علي (ع): العزة لله جميعاً، وكان في يساره يستنجي بها، وكان نقش خاتم علي (ع): الملك لله، وكان في يده اليسرى يستنجي بها).

ويُلحق هذه الرواية بتعليق المحقق الأردبيلي عليها والذي يقول فيه: (ويمكن استفادة استحباب التختم باليسار منهما وعدم تحريم التنجيس أيضاً إلا أن يكون ذلك ثابتاً بالإجماع ونحوه، أو يحمل على عدم وصول النجاسة إليه) (¬1). فيقول: انظر .. هذا هو إمامكم علي يهين اسم الله بهذه الصورة، يستنجي باليد التي وضع فيها خاتماً عليه (الملك لله)! وهذا هو الكفر بعد الإيمان. أما الشيعي الإثنا عشري فلن يستطيع أن يرد على هذا الناصبي إلا بتكذيب للرواية وشتم للناصبي (¬2). وسيرد عليه الناصبي قائلاً: سبحان الله! .. ها أنتم تقبلون كل الروايات التي تطعن فينا نحن النواصب، وتقبلون كذلك الروايات التي تطعن في أهل السنة وغيرهم من الفرق وتقبلون قبل كل هذا الروايات الطاعنة في أبي بكر وعمر وعثمان والزبير وطلحة وغيرهم فما الذي جعل الروايات الطاعنة في علي دائماً ضعيفة مكذوبة، والروايات الطاعنة فينا وفي غيرنا دائماً صحيحة، اللهم إلا الهوى! ¬

_ (¬1) مجمع الفائدة 1/ 97 (الشرح). (¬2) لا يفوتني أن أشير هنا إلى احدى الطرائف التي وقفت عليها عند الاستدلال بهذه الرواية، فقد وجدت المحقق النراقي قد ذكر الرواية ذاتها بإسناد آخر في كتابه "مستند الشيعة في أحكام الشريعة 1/ 402" وحملها على التقية قائلاً: (وأما خبر وهب:"كان نقش خاتم أبي (العزة لله جميعاً) وكان في يساره يستنجي بها وكان نقش خاتم أمير المؤمنين (ع): (الملك لله) وكان في يده اليسرى يستنجي بها". فمحمول على التقية مع أنه لا ضير في صدور المكروه عنهم أحياناً فليحمل الخبر عليه). ومن حقنا أن نعجب من تقية تكون في الخلاء وعند قضاء الحاجة!! فأي مخالفٍ هذا الذي سيكون بُقربِ الإمام وهو يقضي حاجته؟!

3 - النظرة السلبية للمرأة

وهكذا يفعل الهوى في أصحابه، ولو التزم الفريقان الإنصاف وتقوى الله في تحري الحق ودراسة أسانيد الروايات حق الدراسة لما وجدنا من يطعن في صحابي. 3 - النظرة السلبية للمرأة قال الناصبي: لقد كرّم الله تعالى المرأة، وقرر مساواتها للرجل في أصل الخلق، وفي التكاليف، وفي الجزاء، فقال عزّ من قائل {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (سورة النساء: 1) وقال {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (سورة الأحزاب: 35) وقال {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْض} (سورة آل عمران: 195). لكن إمامكم علي بن أبي طالب له رؤية أخرى، لا توافق الكتاب ولا السنة! فهو القائل: (المرأة عقرب حلوة اللبسة) (¬1) والقائل أيضاً: (المرأة شر كلها، وشر ما فيها أنه لا بد منها) (¬2). فأيّ نظرة جائرة هذه؟! ومن أين استقى إمامكم هذه النظرة الظلامية للمرأة؟ ولماذا أعرض عن القرآن والسنة وتأثر بالجاهلية في نظرتها السلبية للمرأة؟ ¬

_ (¬1) نهج البلاغة- (باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام) - حكمة رقم (61). (¬2) المصدر نفسه - حكمة رقم (238).

4 - اتهام الإمام علي بخيانة صحابي استضافه في بيته!

فبماذا سيجيبه الشيعي؟ أتراه سيُكذّب (نهج البلاغة)؟! أم يتأول هذه النصوص ويحملها على غير محملها خروجاً من المأزق؟ 4 - اتهام الإمام علي بخيانة صحابي استضافه في بيته! وسيستدل الناصبي بما ذكره العلامة الشيعي الكبير يوسف البحراني في "الكشكول 3/ 76": (قال السيد الجليل المحدّث نعمة الله الجزائري في كتابه "زهر الربيع" المشهور بين الناس: وذكر صاحب كتاب "إحقاق الحق" أنّ السبب في تحريمه (¬1) متعة النساء أنه أضاف أمير المؤمنين (ع) ليلة وأنامه معه في داره، فلما أصبح قال له: يا علي، ألست قد قلت: من كان في البلد فلا ينبغي له أن يبات عزباً؟ فقال عليه السلام: اسأل أختك، وكان عليه السلام قد تمتع بها في تلك الليلة)! فإلى هذه الدرجة يصل الانحطاط .. حين يريد هؤلاء التشفي بعمر بن الخطاب رضي الله عنه بِنسبة استمتاع الإمام علي بن أبي طالب بأُخته! بالله عليكم ... أمن الدين أم مِن الأخلاق أن تستضيف رجلاً في بيتك فتتفاجئ به وقد تعدّى على محارمك بهذه الصورة؟! أترى هؤلاء الذين يدّعون التشيع للإمام علي بن أبي طالب يعرفون شيئاً عن أخلاق ودين وقيم الإمام علي؟! ¬

_ (¬1) أي تحريم عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمتعة هذا مراده، ومتعة النساء حرمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأحاديث صحيحة صريحة، وإنما وقع المنع منها في زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بلغه تمتع ربيعة بن أمية بامرأة فحرمها قانوناً من موقعه كخليفة للمسلمين وإلا فتحريمها شرعاً لا يكون إلا من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وليس لأحد من الناس أن يحرم أو يحلل ما يريد.

خلاصة الكلام

خلاصة الكلام إنّ الروايات السابقة روايات شيعية إثني عشرية لا دخل للنواصب ولا الزيدية ولا أهل السنة ولا المعتزلة ولا أي طائفة بها بل هي شيعية اثني عشرية صرفة، فالحجة فيها قائمة على الإثنى عشرية إن استدل بها النواصب على معتقدهم في الإمام علي. إنّ نظرة عوراء لرجل مؤمن مجاهد مبشر بالجنة كتلك التي رأيناها كفيلة بأن تستوقفك أيها الشيعي المنصف. إنّ هذه النظرة العوراء التي جعلت فرقة كالخوارج تطعن في الإمام علي على كل ما يُنسب له صحيحاً كان أم ضعيفاً، متناسية فضله وتضحياته للإسلام وطاعته لله وللرسول وجهاده مع الصحابة إلى حد أن باتت تلك الفرقة تكفّره وتلعنه وتطعن فيه ليل نهار!! هذه النظرة العوراء في حقيقتها هي أخت شقيقة لنظرة عوراء أخرى لا زالت الشيعة الإثنا عشرية تنظر بها إلى صحابة رسول الله الذين قدموا للإسلام ما قدّموا، وضحّوا بأرواحهم وأموالهم ولطخوا الأرض بدمائهم في سبيل رفعة هذا الدين، حتى لا يكاد كتاب شيعي يخلو من طعن في صحابي من صحابة رسول الله، وكأنّ تلك الفئة المختارة لصحبة خاتم الأنبياء والمرسلين لم تكن إلا فئة تجري وراء الدنيا ووراء مصالحها وأهوائها. عجباً لأولئك النفر الذين يتصيدون العثرات لأصحاب رسول الله! أما تفكروا في ذنوبهم؟ أما يخافون من سوء العاقبة والمنقلب وهم يعادون الأخيار ويتهمونهم بأشنع التهم؟!

خاتمة

خاتمة وهنا توقف قلمي عن الكتابة وفي محبرتي ما يُسطر الكثير ... لقد تجلت لي الحقيقة بكل أطرافها. أبصرتها حينما أزلت الغشاوة عن عيني ... حينما آليت على نفسي أن أعرف الحق بالدليل. أبصرتها حينما علمت أنّ الحقيقة لا تُعرف بالعاطفة والحماسة بل بالدليل والبرهان. أبصرتها حينما وازنت بين ما تطرحه العقيدة الشيعية وبين ما يطرحه القرآن وتطرحه السنة النبوية. أبصرتها حينما علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لن يسامحني على كلمة سوء أقولها في زوجاته وآل بيته وأصحابه. أبصرتها حينما علمت أنّ الغلو في الصالحين هو داء الأمم السابقة الذي به تنكبوا عن الطريق. فيا أيها الشيعي المنصف الحر ... هذه حقائق تتحرك لها الجبال الرواسي ولست أطالبك بأكثر من التفكر فيها ووزنها بميزان العقل والمنطق. فكّر ملياً وتفحص كلامي تفحص الباحث عن الحق، ولا يذهب بك التعصب بعيداً وأنت تقرأ قول الله تعالى {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}. فلا تكن ممن قال الله فيهم {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} حين جعلوا أحبارهم ورهبانهم حكماً على الدين ولم يجعلوا الدين حكماً عليهم، وجعلوا أقوال علمائهم وتشريعاتهم حكماً على حكم الله ورسوله. هذه كلمات ناصح في زمن ندر به الناصحون. وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين. محمد الخضر الجمعة 10 من ذي الحجة 1427 هـ 29/ 12/2006م

مراجع البحث

مراجع البحث 1 - القرآن الكريم - كتاب الله الخالد الذي لا يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه. 2 - أثر الإمامة في الفقه الجعفري وأصوله - د. علي السالوس - دار الثقافة - قطر - طبعة 1985م. 3 - إحقاق عقائد الشيعة - لآية الله محمد الوحيدي - تحقيق الشيخ هاشم الصالحي - نشر محمد الوفائي - الطبعة الأولى 1418هـ. 4 - إحياء علوم الدين - لأبي حامد الغزالي - دار الفكر العربي- دار نهر النيل. 5 - الاختصاص - الشيخ المفيد - تحقيق علي أكبر غفاري ومحمود الزرندي - دار المفيد - بيروت - لبنان - الطبعة الثانية 1414هـ - 1993م. 6 - آراء حول القرآن - آية الله العظمى الفاني الأصفهاني - دار الهادي - الطبعة الأولى 1411هـ. 7 - الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - مؤسسة آل البيت لتحقيق التراث - دار المفيد - لبنان - الطبعة الثانية 1414هـ-1993م. 8 - استجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول وذوي الشرف - محمد بن عبد الرحمن السخاوي تحقيق خالد بن أحمد بابطين - دار البشائر الإسلامية - 2000م. 9 - أصل الشيعة وأصولها - الشيخ كاشف الغطاء - تحقيق علاء آل جعفر - مؤسسة الإمام علي - الطبعة الأولى 1415هـ. 10 - أصول علم الرجال - الدكتور عبد الهادي الفضلي - الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية - الطبعة الأولى 1994م. 11 - الاعتصام - للشاطبي - تحقيق سليم بن عيد الهلالي - دار ابن عفان - الخبر - الطبعة الثانية 1993م وطبعة محمد رشيد رضا - دار المعرفة - بيروت. 12 - الاعتقادات في دين الإمامية - الشيخ الصدوق - تحقيق عصام عبد السيد - دار المفيد - بيروت لبنان - الطبعة الثانية 1414هـ- 1993م. 13 - إعلام الورى بأعلام الهدى - الفضل بن الحسن الطبرسي - مؤسسة آل البيت لإحياء التراث - الطبعة الأولى - ربيع الأول 1417هـ.

14 - أعيان الشيعة - محسن الأمين - تحقيق حسن الأمين - دار التعارف للمطبوعات - بيروت. 15 - إلزام النواصب بإمامة علي بن أبي طالب عليه السلام - مفلح بن الحسين (الحسن) البحراني - تحقيق الشيخ عبد الرضا النجفي - الطبعة الأولى 1420هـ. 16 - الأمالي - الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد - تحقيق الحسين الأستاذ ولي علي أكبر غفاري - دار المفيد - بيروت - لبنان - طبعة 1414 - 1993م. 17 - الأمالي - شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي - دار الثقافة - قم - الطبعة الأولى 1414هـ. 18 - الإمامة عند الشيعة الإثنى عشرية - جلال الدين محمد صالح - مكتبة ابن تيمية - الطبعة الأولى 1413 هـ. 19 - الإمامة في جذورها القرآنية- عبد الله دشتي- بدون دار نشر! - الكويت- الطبعة الأولى 2002م. 20 - الأمثال في الحديث النبوي - أبي محمد عبد الله بن محمد الأصبهاني - تحقيق د. عبد العلي عبد الحميد حامد - الدار السلفية - الهند - الطبعة الثانية 1987م. 21 - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - آية الله العظمى ناصر مكارم الشيرازي. 22 - أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والإحساء والبحرين - الشيخ علي بن الشيخ حسن البلادي البحراني - مؤسسة الأعلمي - بيروت - الطبعة الأولى - 1994م. 23 - أنوار الملكوت في شرح الياقوت - الحسن بن يوسف (ابن المطهر الحلي) - تحقيق محمد نجمي الزنجاني - مطبعة أمير انتشارات المرضي - الطبعة الثانية 1363هـ. 24 - آية التطهير - رؤية مبتكرة - لآية الله محمد الفاضل اللنكراني وآية الله إشراقي (صهر الخميني) - تحقيق ونشر مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام - قم - إيران. 25 - إيثار الحق على الخلق - محمد بن المرتضى اليماني (ابن الوزير) - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الثانية 1987م. 26 - إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة - محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني - محمد صبحي بن حسن حلاّق - دار ابن حزم - الطبعة الأولى 1999م.

27 - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار – لمحمد باقر المجلسي – طبعة إحياء التراث العربي – بيروت – الطبعة الثالثة 1403هـ. 28 - البداية والنهاية – الحافظ ابن كثير – دار إحياء التراث العربي – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى 1408 - 1988م. 29 - البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي – أحمد بن محمد بن الصدّيق الغماري الحسني –الطبعة الأولى 1969م. 30 - البرهان في تبرئة أبي هريرة من البهتان – عبد الله الناصر – دار النصر – القاهرة – الطبعة الأولى 1998م. 31 - بصائر الدرجات- محمد بن الحسن الصفار- تصحيح الحاج ميرزا حسن علي كوجة- مؤسسة الأعلمي- طهران- طبعة 1404هـ. 32 - بل ضللت – لخالد العسقلاني – دار البيارق – الأردن – الطبعة الثالثة. 33 - البيان في تفسير القرآن - أبو القاسم الخوئي - دار الزهراء - بيروت - الطبعة الرابعة 1975م. 34 - تاج العروس للزبيدي – طبعة دار الفكر 1994م 35 - تأويل الآيات في فضائل العترة الطاهرة – شرف الدين الحسيني الاسترابادي النجفي – مؤسسة الإمام المهدي (ع) – الطبعة الأولى رمضان 1407هـ. 36 - التبيان في تفسير القرآن – لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي – تحقيق أحمد حبيب قصير العاملي – مكتب الإعلام الإسلامي - الطبعة الأولى 1409هـ 37 - تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه – أحمد الكاتب – دار الشورى – الطبعة الأولى 1997م. 38 - تطور المباني الفكرية للتشيع في القرون الثلاثة الأولى – د. حسين المدرسي الطباطبائي- نشر نور وحي – إيران - الطبعة الأولى 1423هـ. 39 - تعارض الأدلة الشرعية – آية الله العظمى محمد باقر الصدر – دار الكتاب اللبناني – بيروت – الطبعة الثانية – 1980م.

40 - تعليقات على ما صححه الحاكم في المستدرك – د. عبد الله بن مراد السلفي – دار الفضيلة – الطبعة الأولى 1998م. 41 - تفسير الإمام الحسن العسكري – تحقيق مدرسة الإمام المهدي بقم – الطبعة الأولى – ربيع الأول 1409هـ. 42 - تفسير الإمام الرضا (ع) - الشيخ عزيز الله عطاردي الخبوشاني – المؤتمر العالمي للإمام الرضا طبعة 1406هـ. 43 - تفسير العياشي – محمد بن مسعود العياشي – تحقيق هاشم الرسولي المحلاتي – المكتبة العلمية الإسلامية – طهران. 44 - تفسير القرآن العظيم – الحافظ ابن كثير – دار المعرفة – بيروت – لبنان – طبعة 1412 - 1992م. 45 - تفسير القمي – تحقيق طيب الجزائري – مؤسسة دار الكتاب – قم – الطبعة الثالثة 1404هـ. 46 - تفسير الكاشف – محمد جواد مغنية – بيروت – دار العلم للملايين – الطبعة الثالثة – 1981. 47 - التفسير المبين – محمد جواد مغنية - مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر - الطبعة الرابعة 1995م بيروت – لبنان. 48 - تقريب التهذيب – لابن حجر العسقلاني – تحقيق مصطفى عبد القادر عطا – دار الكتب العلمية بيروت - الطبعة الثانية 1415هـ 49 - تهذيب الأحكام – شيخ الطائفة الطوسي – تحقيق حسن الموسوي الخرسان – دار الكتب الإسلامية – طهران – الطبعة الرابعة 1365هـ. 50 - تهذيب الكمال في أسماء الرجال- الحافظ المزي – دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى 1425هـ. 51 - توضيح المقال في علم الرجال – الملا علي كني – تحقيق محمد حسين مولوي – مركز بحوث دار الحديث – الطبعة الأولى – 1421م.

52 - ثواب الأعمال – الشيخ الصدوق – تحقيق محمد مهدي الخرسان – منشورات الشريف الرضي قم – الطبعة الثانية 1368هـ. 53 - جامع الأخبار أو معارج اليقين في أصول الدين – الشيخ محمد بن محمد السبزواري – تحقيق علاء آل جعفر – مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث. 54 - جامع الرواة – محمد علي الأردبيلي – مكتبة المحمدي. 55 - جامع المدارك في شرح المختصر النافع – أحمد الخوانساري - تحقيق علي أكبر الغفاري - مكتبة الصدوق – طهران – الطبعة الثانية 1405هـ. 56 - جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام – لابن قيم الجوزية – تحقيق محيي الدين مستو – دار الكلم الطيب وابن كثير – الطبعة الثالثة 1996م. 57 - حتى لا ننخدع – لعبد الله الموصلي – دار سلامة – القاهرة. 58 - الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة – يوسف البحراني – مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم. 59 - حقائق التأويل في متشابه التنزيل – الشريف الرضي – شرح محمد الرضا آل كاشف الغطاء – دار الأضواء – بيروت – الطبعة الأولى 1986م. 60 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء – أبو نعيم الأصبهاني – دار الكتاب العربي – بيروت – الطبعة الرابعة 1405هـ. 61 - خصائص الأئمة – الشريف الرضي – تحقيق د. محمد هادي الأميني – مجمع البحوث الإسلامية – مشهد – 1406هـ. 62 - الخصائص الحسينية – للشيخ جعفر التستري – انتشارات الشريف الرضي – الطبعة الأولى 1416هـ. 63 - خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – الإمام النسائي – تحقيق الدّاني بن منير آل زهوي – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت- طبعة 1421هـ.

64 - الخصال – الشيخ الصدوق – تحقيق علي أكبر غفاري – جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم طبعة 1403هـ. 65 - الخلاف – شيخ الطائفة الطوسي – تحقيق علي الخراساني وجواد شهرستاني وشيخ محمد مهدي نجف – مؤسسة النشر الإسلامي – قم – الطبعة الأولى 1417هـ. 66 - دراية الحديث – الشيخ محمد حسين الحسيني الجلالي – مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2004م. 67 - الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية- يوسف البحراني – دار المصطفى لإحياء التراث – الطبعة الأولى 1423هـ-2002م. 68 - الدروس في فقة الإمامية – محمد بن مكي العاملي – مؤسسة النشر الإسلامي – الطبعة الأولى 1412هـ. 69 - الدين بين السائل والمجيب – للحاج ميرزا حسن الحائري الإحقاقي – مكتبة الإمام الصادق العامة – الكويت – الطبعة الثانية 1992م. 70 - ديوان شعراء الحسين – نشره: محمد باقر الأرواني – طبعة طهران 1374هـ. 71 - رجال الكشي – الكشي – تحقيق محمد تقي الميبدي وأبو الفضل الموسويان – وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي. 72 - رجال النجاشي- أحمد بن علي النجاشي- مؤسسة النشر الإسلامي- الطبعة الخامسة 1416هـ. 73 - الرد الشافي على نجاح الطائي في كتابه صاحب الغار (أبو بكر أم رجل آخر) – علاء الدين البصير – بدون طبعة أو دار نشر. 74 - رسائل المرتضى- تحقيق مهدي الرجائي- نشر دار القرآن الكريم- قم- طبعة 1405هـ. 75 - رسائل في دراية الحديث – إعداد أبو الفضل حافظيان البابلي – مركز تحقيقات دار الحديث – قم – الطبعة الأولى – 1425هـ.

76 - الرعاية في علم الدراية – الشهيد الثاني – تحقيق عبد الحسين محمد علي بقال – مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي – قم – الطبعة الثانية 1408هـ. 77 - روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات – ميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري الأصبهاني الدار الإسلامية - بيروت - الطبعة الأولى 1411هـ-1991م. 78 - روضة الواعظين – الفتال النيسابوري – تحقيق محمد مهدي الخرسان – منشورات الشريف الرضي – قم. 79 - الروضة في فضائل أمير المؤمنين – شاذان القمي – تحقيق علي الشكرجي – الطبعة الأولى 1423هـ. 80 - زاد المعاد في هدي خير العباد – لابن قيم الجوزية – تحقيق شعيب وعبد القادر الأرنؤوط – مؤسسة الرسالة – الطبعة الخامسة عشر – 1987م. 81 - زوائد تاريخ بغداد على الكتب الستة – د. خلدون الأحدب – دار القلم – دمشق – الطبعة الأولى – 1996م. 82 - سعد السعود – ابن طاووس – الطبعة الحيدرية – الطبعة الأولى 1369هـ. 83 - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة – محمد ناصر الدين الألباني – مكتبة المعارف للنشر والتوزيع – الرياض – الطبعة الأولى 2002م. 84 - السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية – د. مهدي رزق الله أحمد – دار إمام الدعوة للنشر والتوزيع – الرياض – الطبعة الثانية 1424هـ. 85 - الشافي شرح أصول الكافي – عبد الحسين بن عبد الله المظفر – مطبعة الغري – النجف – الطبعة الثانية 1389هـ. 86 - شرح السنة – الإمام البغوي – تحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرناؤط – المكتب الإسلامي – الطبعة الثانية 1983م. 87 - الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب – المحدث يوسف البحراني – تحقيق مهدي الرجائي – الطبعة الجديدة الأولى 1419هـ - قم.

88 - الشهاب الثاقب للمحتج بكتاب الله في الرد على الناصب أحمد الكاتب – عالم سبيط النيلي – منشورات القصديّة – بغداد - الطبعة الأولى 1426هـ - 2005م. 89 - الشيخية – نشأتها وتطورها ومصادر دراستها – محمد حسن آل الطالقاني – الطبعة الأولى – 1999م. 90 - صحيح السيرة النبوية – ابراهيم العلي – دار النفائس للنشر والتوزيع – الطبعة الثانية 1996م. 91 - الصحيح من سيرة النبي الأعظم – جعفر مرتضى العاملي – دار السيرة – بيروت – لبنان – الطبعة الرابعة 1414هـ. 92 - الصحيفة السجادية – الإمام زين العابدين – مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين بقم – طبعة 1404هـ. 93 - الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم – زين الدين علي بن يونس العاملي البياضي – المكتبة الرضوية لإحياء الآثار الجعفرية. 94 - الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم – لأبي محمد علي بن يونس النباطي البياضي – تحقيق محمد الباقر البهبودي – المكتبة المرتضوية – الطبعة الأولى – 1384هـ. 95 - صفات الشيعة – الشيخ الصدوق – انتشارات عابدي – طهران. 96 - الصواعق المحرقة على أهل الرفض الضلال والزندقة – لأبي العباس أحمد بن حجر الهيتمي – تحقيق عبد الرحمن التركي وكامل محمد الخرّاط – مؤسسة الرسالة – الطبعة الأولى 1997م. 97 - طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال- علي أصغر البروجردي- تحقيق مهدي الرجائي- منشورات مكتبة المرعشي النجفي - الطبعة الأولى 1410هـ. 98 - ظفر الأماني في مختصر الجرجاني – لأبي الحسنات محمد اللكنوي – تحقيق تقي الدين الندوي – الجامعة الإسلامية – أعظم كده – الهند – الطبعة الأولى 1995م. 99 - العصمة – علي الميلاني – مركز الأبحاث العقائدية – قم – إيران – الطبعة الأولى 1421هـ. 100 - عقائد الإمامية – الشيخ محمد رضا المظفر- تحقيق د. حامد حنفي– انتشارات أنصاريان – قم.

101 - العقد الثمين في أحكام الأئمة الهادين – المنصور بالله عبد الله بن حمزة – تحقيق عبد السلام بن عباس الوجيه – مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية – الطبعة الأولى 1421هـ - 2001م. 102 - علل الشرائع -ابن بابويه القمي - منشورات المكتبة الحيدرية- 1385هـ‍- 1966م. 103 - العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ – العلامة صالح بن المهدي المقبلي – مكتبة دار البيان – دمشق. 104 - علم المحجة – آية الله العظمى الميرزا محمد حسين المامقاني- تحقيق أحمد عبد الوهاب البُوشفيع- لجنة إحياء تراث مدرسة الشيخ الأوحد الأحسائي- ط الأولى 2000م-بيروت. 105 - عمدة عيون صحاح الاخبار في مناقب إمام الأبرار - الحافظ يحيى بن الحسن الأسدي الحلي -مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم. 106 - عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية – ابن أبي جمهور الإحسائي – تحقيق المرعشي والشيخ مجتبى العراقي – مطبعة سيد الشهداء بقم – الطبعة الأولى 1403هـ- 1983م. 107 - عون المعبود شرح سنن أبي داود – محمد شمس الحق العظيم آبادي – دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الثانية 1415هـ. 108 - عيون أخبار الرضا – الشيخ الصدوق – تحقيق حسين الأعلمي – مؤسسة الأعلمي – بيروت لبنان – طبعة 1404هـ- 1984م. 109 - غاية التبجيل وترك القطع في التفضيل – محمود سعيد ممدوح – مكتبة الفقيه – أبوظبي - الطبعة الأولى 2004م. 110 - فاسألوا أهل الذكر – محمد التيجاني السماوي – مؤسسة الفجر (لندن) – 1991م. 111 - الفتوح – أبو محمد أحمد بن أعثم الكوفي – دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 1986م. 112 - الفصل في الملل والأهواء والنحل – ابن حزم الظاهري – مكتبة الخانجي – القاهرة. 113 - الفصول المهمة في تأليف الأمة – شرف الدين الموسوي –قسم الإعلام الخارجي لمؤسسة البعثة – الطبعة الأولى.

114 - فضائل الصحابة – لأبي عبد الله أحمد بن حنبل – تحقيق وصي الله بن محمد عباس – دار ابن الجوزي – الطبعة الثانية – 1999م. 115 - فقه الصادق (ع) – محمد صادق الحسيني الروحاني – مؤسسة دار الكتاب – قم – الطبعة الثالثة 1414هـ. 116 - الفهرست – شيخ الطائفة الطوسي – مؤسسة الوفاء – بيروت – لبنان – الطبعة الثالثة 1983م. 117 - الفوائد الرجالية – علي أبو الحسن الموسوي – مكتبة ذوي القربى – الطبعة الأولى – قم. 118 - قرب الإسناد – الحميري القمي – مؤسسة آل البيت لإحياء التراث – ط الأولى 1413هـ. 119 - الكافي – الكليني – تحقيق علي أكبر غفاري – دار الكتب الإسلامية – طهران – ط 1363هـ. 120 - كتاب الأربعين- محمد طاهر القمي الشيرازي- تحقيق مهدي الرجائي- الطبعة الأولى 1418هـ. 121 - كتاب الحجة – صدر الدين الشيرازي – مؤسسة التاريخ العربي – الطبعة الأولى 2004م. 122 - كتاب الشريعة – الإمام الآجري– جمعية إحياء التراث الإسلامي – الطبعة الأولى 2000م. 123 - كتاب الصلاة (التنقيح في شرح العروة الوثقى) – أبو القاسم الخوئي – دار الهادي للمطبوعات - قم- الطبعة الثالثة 1410هـ. 124 - كتاب العين – الخليل بن أحمد الفراهيدي – مؤسسة دار الهجرة - الطبعة الثانية 1409هـ 125 - كتاب المؤمن – الحسين بن سعيد – مدرسة الإمام المهدي – الطبعة الأولى 1404هـ. 126 - كسر الصنم – للسيد البرقعي – ترجمة عبد الرحيم البلوشي – دار البيارق – الطبعة الأولى 1998م. 127 - كشف الغمة في معرفة الأئمة – الأربلي – دار الأضواء – بيروت – الطبعة الثانية 1405 - 1985م. 128 - كشف المحجة لثمرة المهجة – ابن طاووس – المطبعة الحيدرية – النجف – طبعة 1370هـ- 1950م.

129 - كشف المراد – الحسن بن يوسف (ابن المطهر الحلي) - انتشارات مصطفوي – قم- إيران. 130 - الكشكول – يوسف البحراني – انتشارات الشريف الرضي – الطبعة الأولى 1374 هـ - إيران. 131 - كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر- الخزاز القمي- تحقيق عبد اللطيف كمري الخوئي- انتشارات بيدار-قم- طبعة 1401هـ. 132 - الكفاية في علم الرواية – الخطيب البغدادي – تحقيق أبو عبد الله السورقي وابراهيم حمدي المدني – المكتبة العلمية – المدينة المنورة. 133 - كمال الدين وتمام النعمة – ابن بابويه القمي الملقب بـ (الصدوق) – مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى المحققة 1991م. 134 - الكنى والألقاب – عباس القمي - تقديم محمد هادي الأميني – مكتبة الصدر – طهران. 135 - لئالى الأخبار – لعمدة المحققين محمد نبي التويسركاني – منشورات مكتبة العلامة – قم – طبعة 1413هـ. 136 - لؤلؤة البحرين – يوسف البحراني – تحقيق محمد صادق بحر العلوم – دار الأضواء – بيروت – لبنان – الطبعة الثانية – 1986م. 137 - لسان العرب – ابن منظور – دار إحياء التراث العربي – الطبعة الأولى 1405هـ. 138 - لقد شيعني الحسين – إدريس الحسيني – دار النخيل للطباعة والنشر– الطبعة الثالثة 1995م. 139 - لله وللحقيقة – الشيخ علي آل محسن – دار الهادي – بيروت - الطبعة الأولى – 2004م. 140 - اللمعة البيضاء في شرح خطبة الزهراء (ع) – تحقيق هاشم الميلاني – مؤسسة الهادي – قم – إيران – الطبعة الأولى. 141 - مجمع البحرين – فخر الدين الطريحي – تحقيق أحمد الحسيني – مكتب نشر الثقافة الإسلامية الطبعة الثانية 1408هـ 142 - المحتضر- الحسن بن سليمان الحلي- تحقيق علي أشرف- انتشارات المكتبة الحيدرية- إيران.

143 - مختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك أبي عبد الله الحاكم – لابن الملقن – تحقيق الشيخ سعد آل حميد – دار العاصمة – الرياض – الطبعة الأولى 1411هـ. 144 - مختصر بصائر الدرجات – الحسن بن سليمان الحلي – منشورات المطبعة الحيدرية – النجف – الطبعة الأولى 1370 - 1950م. 145 - مختصر منهاج السنة – لأبي العباس أحمد بن تيمية – اختصره الشيخ عبد الله الغنيمان – دار الأرقم – بريطانيا – الطبعة الأولى 1991م. 146 - مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام - محمد بن علي العاملي - مؤسسة آل البيت لإحياء التراث – قم- الطبعة الأولى 1410 هـ. 147 - مدينة المعاجز – هاشم البحراني – تحقيق الشيخ عزة الله المولائي الهمداني – مؤسسة المعارف الإسلامية – قم – إيران – الطبعة الأولى 1413هـ. 148 - مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول – المجلسي – دار الكتب الإسلامية – الطبعة الأولى – 1408هـ. 149 - المراجعات – عبد الحسين شرف الدين الموسوي – تحقيق حسين الراضي – مؤسسة دار الكتاب الإسلامي – لا توجد سنة طبع. 150 - مرجعية المرحلة وغبار التغيير – جعفر الشاخوري البحراني – دار الأمير- لبنان- الطبعة الثانية 1998م. 151 - المسائل الفقهية – لآية الله محمد حسين فضل الله – دار الملاك – الطبعة الثامنة – 1998م. 152 - مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة – د. ناصر القفاري – دار طيبة للنشر والتوزيع – الطبعة الثانية 1413هـ. 153 - مستمسك العروة الوثقى - محسن الحكيم - منشورات مكتبة المرعشي النجفي - قم - طبعة 1404هـ. 154 - مسند الإمام الرضا – الشيخ عزيز الله عطاردي الخبوشاني – المؤتمر العالمي للإمام الرضا – طبعة ربيع الآخر 1406هـ.

155 - مشارق الشموس الدرية - عدنان البحراني - المكتبة العدنانية – البحرين. 156 - مصباح الفقاهة – أبو القاسم الخوئي – مكتبة الداوري بقم – الطبعة الأولى المحققة. 157 - معاني الأخبار – الشيخ الصدوق – تحقيق علي أكبر غفاري – مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين بقم – طبعة 1379هـ. 158 - معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع – عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي- تحقيق مصطفى السقا – عالم الكتب – بيروت - الطبعة الثالثة 1403هـ. 159 - معدن الجواهر – أبو الفتح الكراجي – تحقيق أحمد الحسيني – الطبعة الثانية 1394هـ- قم. 160 - معرفة الصحابة عند المحدّثين دراسة توثيقية مقارنة – د. أحمد بن عبد الله الباتلي – مكتبة الرشد – الرياض – الطبعة الأولى 1426هـ - 2005م. 161 - مغازي الواقدي – للواقدي – مؤسسة الأعلمي – الطبعة الثالثة 1989م. 162 - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة – ابن القيم– دار الكتب العلمية – بيروت. 163 - مفردات غريب القرآن – الراغب الأصفهاني – دفتر نشر الكتاب - الطبعة الأولى 1404هـ. 164 - المقالات والفرق – سعد بن عبد الله الأشعري القمي – تحقيق محمد جواد مشكور – مركز انتشارات علمي – إيران. 165 - مقتطفات ولائية – لآية الله العظمى وحيد خراساني - ترجمة عباس النخي – مؤسسة الإمام للنشر والتوزيع - الطبعة الأولى 1998م. 166 - مقتنيات الدرر وملتقطات الثمر– مير علي الحائري – دار الكتب الإسلامية – طهران. 167 - مقدمة ابن خلدون – دار الفكر – الطبعة الأولى – 1981م. 168 - المقنعة – محمد بن النعمان المفيد - مؤسسة النشر الإسلامي - الطبعة الثانية 1410هـ. 169 - المكاسب المحرّمة–الخميني– مؤسسة تنظيم ونشر آثار الخميني-قم– الطبعة الأولى 1415هـ. 170 - من فقه الزهراء – آية الله العظمى محمد بن مهدي الشيرازي –تحقيق مؤسسة الرسول الأعظم الطبعة الأولى – 1415 هـ.

171 - من لا يحضره الفقيه – ابن بابويه القمي – منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم – الطبعة الثانية 1404هـ. 172 - مناسك الحج – الميرزا جواد التبريزي – الطبعة الأولى 1415هـ 173 - مناسك الحج – فاضل اللنكراني – الطبعة الثالثة – 1373هـ - قم. 174 - مناسك الحج – لطف الله الصافي الكلبايكاني – دار القرآن الكريم – الطبعة الأولى 1414هـ. 175 - مناقب آل أبي طالب – ابن شهرآشوب – المكتبة الحيدرية – النجف – ط 1363هـ-1956م. 176 - مناقب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) - محمد بن سليمان الكوفي - تحقيق الشيخ محمد باقر المحمودي - مجمع إحياء الثقافة الإسلامية - الطبعة الأولى محرم 1412 - قم. 177 - مناهج الأحكام - الميرزا القمي- مؤسسة النشر الإسلامي- الطبعة الأولى 1420هـ. 178 - منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل – للشيخ عباس القمي – الدار الإسلامية – بيروت – الطبعة 1994م. 179 - منتهى المقال في الدراية والرجال – الشيخ حسين عبد الله مرعي- مؤسسة العروة الوثقى – الطبعة الأولى 1996هـ-1417م. 180 - منهاج السنة النبوية – تقي الدين ابن تيمية – تحقيق د. محمد رشاد سالم – مؤسسة قرطبة – الطبعة الأولى 1406هـ. 181 - المنهج القرآني الفاصل بين أصول الحق وأصول الباطل- د. طه الدليمي- مكتبة غرناطة-الطبعة الأولى 1427 - 2006م. 182 - موسوعة أهل السنة في نقد فرقة الأحباش – للشيخ عبد الرحمن دمشقية – دار المسلم للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى 1997م. 183 - الموضوعات في الآثار والأخبار (عرض ودراسة) – هاشم معروف الحسني – دار التعارف للمطبوعات – بيروت – 1987م. 184 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال – لأبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي – تحقيق علي البجاوي – دار المعرفة – بيروت – لبنان.

185 - النفيس في بيان رزية الخميس - عبد الله دشتي - طبعة الكويت 2002م - بدون دار نشر. 186 - نقد الرجال- مصطفى بن الحسين التفريشي- مؤسسة آل البيت - الطبعة الأولى 1418هـ. 187 - نهج البلاغة - تحقيق صبحي الصالح - دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني - بيروت. 188 - نهج البلاغة- شرح الشيخ محمد عبده - دار الذخائر- قم- الطبعة الأولى 1412 هـ. 189 - نور العينين في زيارة قبر الحسين (ع) - الشيخ محمد حسن الاصطهباناتي - دار الميزان - بيروت - لبنان -الطبعة الأولى 1995م. 190 - هذه هي الحقيقة في شؤون ولاية آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم - الشيخ فاضل الفراتي - الطبعة الأولى 1419هـ. 191 - هذه هي مفاهيمنا - للشيخ صالح آل الشيخ - دار البخاري - لا توجد سنة طبعة. 192 - ودايع النبوة في الولاية والمقتل - هادي الطهراني - مكتبة دار العلم - 1391هـ. 193 - وسائل الشيعة إلى مسائل الشريعة - الحر العاملي - تحقيق الشيخ عبد الرحيم الشيرازي- دار إحياء التراث العربي - بيروت - الطبعة الخامسة - 1983م. 194 - وسائل الشيعة إلى مسائل الشريعة - الحر العاملي - مؤسسة آل البيت لإحياء التراث - الطبعة الثانية 1414هـ. 195 - الوشيعة في نقد عقائد الشيعة - الشيخ موسى جارالله - مطبعة الكيلاني - طبعة 1369هـ.

§1/1