ثمر الثمام شرح «غاية الإحكام في آداب الفهم والإفهام»

محمد السَّنَباوي الأمير

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بين يدي الكتاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بين يدي الكتاب الحمد لله الذي أبدع الإنسان وعلَّمه البيان، جوداً وفضلاً منه وإحساناً. والصلاة والسلام على سيد الوجود أفصح من نطق بالضاد وأصدقهم لهجة وبياناً، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأبرار، وتابعيهم بإحسان. وبعد: فهاك كتاباً فريداً في بابه، نافعاً أيَّما نفعٍ لطلابه، نسجتْ سطورَهُ يراعتان مباركتان، لعالِمَينِ محققَين مدققَين، العلامة المعمَّر عمر الطَّحْلاوي، وأمير العلماء محمد الأمير السَّنَباوي المالكي. متعاصرين كانت لهما علوم العربية على طرف الثُّمام، فَحْلَينِ تتبعتْ آثارهما الأنام. خطَّ الأوَّلُ " غاية الإحكام في آداب الفهم والإفهام "، فشرحها الثاني شرحاً رائقاً مفيداً بـ " ثمر الثُّمام ". والسبب في تفرُّده هو موضوعه الذي يعالج مسألة من أهم المسائل الحيويَّة المتصلة بالنص، وهي قضيّة فهمه وتفهيمه، وطرائق الوصول

إلى مرادات كاتبه، ضمن بحث مقتضب قل نظيره بهذه الطريقة في المكتبة العربية. إذ يقدم أبرز المحطات التي يجب الوقوف عندها قبل إمرار العبارة، ويبين أهم الأخطاء التي يجب التحرز عنها كيلا نردَّ العبارة الصحيحة متوهمين خطأها. فالعجلةُ في رد النصوص والحكم عليها بالخطإ آفةٌ بشعة، ومظاهرها اليوم في ازدياد مستمر، وأهل العلم في شكاية من أولئك المتهورين الذين يسارعون في نبذ كل ما لا يفهمون ظانين بصاحبه ظن السوء، دون أدنى لفتةِ عتبٍ على أنفسهم التي تحتمل كغيرها الخطأ الناجم عن سوء الفهم كما احتملت العبارة الخطأ الناجم عن سوء الإفهام. إنها بليَّة عمَّت حتى أعمت، ولا بد لنا من كبح جماحها الهائج، وليس لكبحها دواء أنجع وأنجح من تبصير طالب العلم بحقيقة طلب العلم، ومحاربة ظاهرة التهجين العلمي التي أخذت بالانتشار، فكان من آثارها أن نصاب بأمثال تلك السرطانات المخيفة. فما إن نسمع بفلان أنه أخذ بطلب العلم .. حتى نسمع بعد غفوة خاطفة يقدم للعامة عالماً جهبذاً، ومفتياً لوذعياً، وداعية أخَّاذاً؟!!! أما والذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، لن تفلح أمة رضيت بهذا الهزال العلمي والتقهقر الثقافي إذ تُملِّكُ أمرها أطفال العلم وتناديهم بنعوت الجلال.

(ب) و" ثمر الثُّمام " عُودٌ في عجلة العجلة يحاول أن يبطىء من سيرها، ويعلِّمُ فنَّ تأمُّلِ العبارات، وتقليب النظر فيها، وفحصها وتمحيص أمرها، وإعطائها الوقت اللازم قبل قبولها أو ردِّها. كان ذلك عبر مسلك علمي ينبِّهُ طالبَ الحق لضرورة الرجوع إلى الأمهات وفهم المدلولات، وقراءة الأصول قراءة تحقيق، مع إضافات غالية نفيسة، بسطتها بنان العلامة الأمير رحمه الله تعالى. (ج) ومن اللازم قراءة " ثمر الثُّمام " بوعي واستيعاب، والأخذ بنصائحه ووصاياه في العودة إلى مآخذ العلم وأصوله، فمن صدر عن الأصول تصدَّر، ومن رضي بهزيل فهمه وقطع نسبته هوى وخسر. (ر) ولقد نالت دار المنهاج سعادة غامرة عندما قام الأستاذ عبد الله العتيق بتقديم " ثمر الثمام " لها ليخرج إلى عالم النور، فزادت إلى عنايته عناية، حيث استقدمت المزيد من النسخ الخطية لكل من " غاية الإحكام " و " ثمر الثمام "، ودفعت به إلى لجنتها العلمية، التي أعادت مقابلته ودراسته، وركَّنتْ له المقدمات المناسبة من ترجمة لمؤلِّفَيْهِ، وكلمة عن موضوعه، وحلَّته بمزيدٍ مِنَ التعليقات العلمية المفيدة.

فكان لدار المنهاج يد بيضاء في خدمة الكتاب تضاف لما صنعه الأستاذ العتيق. وفَّى الله تعالى جميع العاملين فيه خيراً وأجراً سائلين المولى الكريم النفع العميم، والإخلاص في القول والعمل إنه سبحانه القريب المجيب. الناشر

ترجمة العلامة الفقيه المحدث عمر بن علي بن يحيى الطحلاوي

ترجمة العلامة الفقيه المحدث عمر بن علي بن يحيى الطحلاوي رحمه الله تعالى صاحب المتن: " غاية الإحكام في آداب الفهم والإفهام " اسمه ونسبه الشيخ الإمام الثبت، العلامة الفقيه المحدث: عمر بن علي بن يحيى بن مصطفى الطحلاوي، المالكي، الأزهري. ونسبته الطحلاوي - كما ذكر العلامة الزبيدي في " التاج " - هي إلى قرية تدعى: (طحلاء)، مشرفة على النيل من أعمال الشرقية، وذكر الشارح في كتابنا هذا أنها نسبة إلى قرية تدعى: طحلة. ونعته المؤرخ الفاضل المرادي بالمعمر (¬1)، ولم تذكر سنة ولادته، غير أنه في عام (1147 هـ) كان له شأن عظيم وصل إلى دار السلطنة (¬2). شيوخه للعلامة الطحلاوي " ثبت " نسبه له بصري المكناسي في " ثبته "، وحلاه الحافظ الزبيدي في " معجمه " بالإمام الثبت العلامة (¬3). ¬

_ (¬1) سلك الدرر (3/ 193). (¬2) عجائب الآثار (2/ 256). (¬3) فهرس الفهارس (1/ 468).

فضله وعلمه

تفقه على الشيخ سالم النفراوي، وحضر دروس الشيخ منصور المنوفي، والشهاب ابن الفقيه، والشيخ محمد الصغير الورزازي، والشيخ أحمد الملوي، والشبراوي، والبليدي. وسمع الحديث عن الشهابين أحمد البابلي والشيخ أحمد العماوي، وأبي الحسن علي ابن أحمد الحريشي الفاسي (¬1). وأخذ عن العلامة العدوي الصعيدي كما ذكره في كتابنا هذا وأشار إلى تلمذته عليه (¬2). فضله وعلمه يقول المؤرخ الجبرتي رحمه الله: (وتمهر في الفنون، ودرَّس بالجامع الأزهر وبالمشهد الحسيني، واشتهر أمره، وطار صيته، وأشير إليه بالتقدم في العلوم. وتوجه إلى دار السلطنة في مهم اقتضى لأمراء مصر، فقوبل بالإجابة، وألقا هناك دروساً في الحديث في آيا صوفيا، وتلقى عنه أكابر العلماء هناك في ذلك الوقت، وصُرف معززاً مقضياً حوائجه، وذلك في سنة سبع وأربعين ومئة وألف. ولما تمَّمَ عثمان كتخدا القازدغلي بناء مسجده بالأزبكية في تلك السنة .. تعين المترجَم للتدريس فيه، وذلك قبل سفره إلى الديار ¬

_ (¬1) عجائب الآثار (2/ 256). (¬2) انظر (ص 122).

وفاته

الرومية، وكان مشهوراً في حسن التقرير، وعذوبة البيان، وجودة الإلقاء، وأقرأ " الموطأ " بالمشهد الحسيني، وأفاد وأجاز الأشياخ) (¬1). ويقول المؤرخ الفاضل المرادي رحمه الله: (وصار له الفضل العظيم، والعلم الغض، والفضل التام، وتصدر للتدريس والفتوى، وأقبلت عليه الأفاضل، وانتفعوا به. فمن جملة من أخذ عنه: المحقق عبد الله بن حجازي الشرقاوي، ومحمد بن عبد المعطي الحريري، والشهاب أحمد بن يونس الخليفي، والسيد محمد أبو الأنوار الوفائي وغيرهم (¬2). وفاته توفي العلامة الطحلاوي حادي عشر صفر، سنة (1181 هـ)، وصُلِّي عليه بصباحه في الأزهر في مشهد حافل، ودفن بتربة المجاورين. رحمه الله تعالى، ونَفَعَ بعُلومه .. آمين (¬3) ¬

_ (¬1) عجائب الآثار (2/ 256). (¬2) سلك الدرر (3/ 193). (¬3) سلك الدرر (3/ 193)، عجائب الآثار (2/ 256)، فهرس الفهارس (1/ 468).

ترجمة العلامة البحر المحقق محمد بن محمد بن أحمد السناوي

ترجمة العلّامة البحر المحقِّق محمّد بن محمّد بن أحمد السَّنَاوي الأمير الكبير رحمة الله تعالى 1154 - 1232 هـ اسمه ونسبه العلامة البحر العمدة، صاحب التحقيقات الرائقة، والتآليف البارعة الفائقة: أبو محمد (¬1)، محمد بن محمد بن أحمد بن عبد القادر بن عبد العزيز السَّنباوي الأزهري المالكي الشاذلي، الشهير بالأمير الكبير. وقد أخبر المصنف عن نفسه أن أصله من المغرب، نزل بعض أجداده بمصر عند الشيخ عبد الوهاب أبي التخصيص (¬2)، بناحية من قرى الصعيد غربي النيل تدعى: (سَنَبُو) (¬3)، وإليها نسبته السنباوي. إمام مالكي المذهب، شاذلي المشرب. وسبب شهرته بالأمير هو لقب جده الأدنى أحمد، كان وأباه ¬

_ (¬1) كما أثبته المصنف نفسه في مقدمة " ثبته " المشهور، والذي وقف عليه غالب من ترجم للشيخ، وفي بعض إجازاتٍ كتبت للعلامة الأمير في هذا الثبت كنِّي بأبي عبد الله، وهو كذلك في " شجرة النور الزكية " (2/ 348). (¬2) عجائب الآثار (7/ 421). (¬3) بفتح أوله وثانيه، ثم باء موحدة وواو ساكنة. (معجم البلدان) (3/ 261).

ولادته ونشأته

عبد القادر لهما إمرة بالصعيد (¬1)، فكان العلامة الأمير يلقب بالأمير الكبير لهذه الشهرة، وولده الشيخ محمد من بعده لُقِّب بالأمير الصغير (¬2). ولادته ونشأته ولد العلامة الأمير سنة (1154 هـ) بناحية سنبو المذكورة، ثم ارتحل مع والديه إلى مصر وهو ابن تسع سنين. نشأ في حجْرِ والدٍ مفضال مقرىء، كان الشيخ الأول في حياته في تلقي كلام رب العالمين. يقول الأمير عن نفسه وهو يتحدث عن القرآن المجيد: (نَشَأتْ في خدمته عزائمي، من قبل أن تناط عني تمائمي، ولله الحمد على ذلك، أماتنا الله عليه وأحياناَ عليه من كرمه، تلقيته عمَّن لا يحصى كثرة، منهم والدي رحمه الله تعالى، فقد كان من أجلاء حملته الذين يتلونه حق تلاوته (¬3). كان استقرار والده رحمه الله في القاهرة وأزهرها يومها عامرٌ بأماثل العلماء في كل فن .. سبباً رئيساً في إيقاف الصبي محمد الأمير نفسه على طلب العلم وشدِّ الهمة في السعي لتحصيله. ¬

_ (¬1) عجائب الآثار (7/ 421). (¬2) معجم المؤلفين (3/ 670). (¬3) سدُّ الأرب (ص 17).

شيوخه ومقروءاته

شيوخه ومقروءاته: وضع العلامة الأمير ثبتاً جليلاً جمع فيه أعيان العلماء الذين لازمهم وعبَّ عنهم، على اختلاف تخصصاتهم ودرجاتهم. ذكر العلامة الكتاني في " فهرس الفهارس والأثبات) (2/ 1092) أنه عثر على ظهر إحدى النسخ الموجودة بمصر مكتوباً عليها اسم لهذا الثبت، وهو: " سدُّ الأرب في علوم الإسناد والأدب ". وبالوقوف على هذا الثبت نجد الأمير رحمه الله تعالى يذكر عشرة من شيوخه ويقتصر عليهم ويقول: (ولنقتصر من ذكر الأشياخ على هؤلاء العشرة الكرام، وإن كان لنا غيرهم مشايخ عظام، عُمُدٌ فخام، لكن غالب أسانيدهم عن الأخذ عمَّن ذكرنا (¬1). وهؤلاء الأشياخ هم: - الإمام العلامة نور الدين، أبو الحسن، علي بن أحمد الصعيدي العدوي المالكي، المتوفى سنة (1189 هـ): قال فيه: (لازمته رحمه الله تعالى ما يفوق على عشرين سنة في كتب المعقول والمنقول إلى أن مات، ففي الحقيقة نسبتنا إليه، وجل انتفاعنا على يديه رضي الله تعالى عنه (¬2). وهو المراد عندما يطلق الأمير في كتبه نحو: (قال شيخنا)، وهو شيخ العلامة الطحلاوي كذلك. ¬

_ (¬1) سد الأرب (ص 16). (¬2) سد الأرب (ص 5).

وقد أجازه الشيخ العدوي إجازة أثبتها الأمير في " ثبته " المذكور. - العلامة الأستاذ محمد بن أحمد البليدي المالكي، المتوفى سنة (1176 هـ): قال فيه: (وهو من مشايخ شيخنا المتقدم، بل ومن مشايخ مشايخه (¬1). تلقى عنه الأمير: " الأربعين النووية "، و " قصة المولد الشريف " جمع الشيخ النجم الغيطي، و " شرح السعد على عقائد النسفي "، وأجازه رحمه الله تعالى. - العلامة المسند التاودي بن سودة المالكي، المتوفى سنة (1192 هـ): قال فيه: (حضرت عليه في " الموطأ " بالجامع الأزهر عام حجه، وحضره فيه كثير من المدرسين، مالكية وغيرهم، وأجازني إجازة عامة (¬2). - العلامة المسند نور الدين، أبو الحسن، علي بن محمد العربي بن علي العربي السقاط المالكي، المتوفى سنة (1183 هـ): سمع منه " الموطأ " بتمامه، و " البخاري " من باب الجنائز إلى آخره، وجملة كبيرة من أول " مسلم "، وأجازه بإجازة أثبتها في " سد الأرب " (¬3). ¬

_ (¬1) سد الأرب (ص 7). (¬2) سد الأرب (ص 8). (¬3) سد الأرب (ص 9).

- العلامة حسن بن إبراهيم الجبرتي، المتوفى سنة (1188 هـ): قال فيه: (حضرت عليه مجالس في فقه الحنفية، وعنده رحمه الله تعالى كان اشتغالنا بالعلوم الحكمية، كالهندسة والهيئة والميقات والأوفاق وغير ذلك) (¬1) ثم أثبت إجازته منه رحمه الله تعالى. - العلامة الأديب، جمال الدين، يوسف بن سالم الحفني، المتوفى سنة (1178 هـ): ويقال: الحفناوي، قال فيه: (حضرته في " شرح ملا حنفي على آداب البحث " للعضد، وفي " قصيدة: بانت سعاد "، وفي غير ذلك، وأجازنا رحمه الله تعالى " (¬2). - العلامة المحقق العارف، أبو عبد الله، بدر الدين، محمد بن سالم الحفني، المتوفى سنة (1181 هـ): وهو أخو الشيخ يوسف السابق، وقد أثنى عليه الأمير في " ثبته " ثناء حسناً، قال فيه: (حضرته في مجالس من " الجامع الصغير " و " النجم الغيطي في مولده صلى الله عليه وسلم "، وفي متن " الشمائل " للترمذي، ومات رحمه الله تعالى أثناء قراءتها، وتلقنت عليه الذكر من طريق الخلوتية، وأجازني إجازة عامة) ثم أثبت صورتها في " ثبته " (¬3). ¬

_ (¬1) سد الأرب (ص 11). (¬2) سد الأرب (ص 13). (¬3) سد الأرب (ص 13).

- شيخ الإسلام، شهاب الدين، أحمد بن الحسن الجوهري الكبير، المتوفى سنة (1181 هـ): قال فيه: (حضرته في " الشيخ عبدالسلام على الجوهرة "، وسمعت منه الحديث المسلسل بالأولية، وتلقيت عنه طريق الشاذلية من سلسلة مولاي عبد الله الشريف، وأجازني رحمه الله تعالى (¬1). - الإمام العلامة، أبو العباس، أحمد بن عبد الفتاح الملوي، المتوفى سنة (1181 هـ): أدركه بعد انقطاعه عن التدريس، وراجعه في مسائل شتا في عدة مجالس، وكان إذ ذاك مُقعداً، وكُتِبَ للأمير إجازة بإذنه، أثبت صورتها في " ثبته " (¬2). - العالم الفاضل عطية الأجهوري، المتوفى سنة (1194 هـ): قال فيه: (حضرته في " المختصر " لسعد الدين التفتازاني على " تلخيص المفتاح " وفي " تفسير الجلالين "، وفي " شيخ الإسلام على الجزرية "، وفي " شرح سيدي محمد الزرقاني على البيقونية ") (¬3). وأما عن مقروءاته التي أسندها: فهي كثيرة ومتنوعة. ففي القراءات: قرأ بالسبع من طريق " الشاطبية " و " الدرة، ¬

_ (¬1) سد الأرب (ص 14). (¬2) سد الأرب (ص 15). (¬3) سد الأرب (ص 16).

و " الطيبة " ثلاث ختمات على الشيخ المقرىء محمد بن حسن المنيِّر. وفي كتب السنة: فقد روى " الموطأ " كاملاً عن المحدث المسند شيخه السقاط، وله أسانيد فيه عديدة. وروى " البخاري " عن العلامة العدوي الصعيدي، وكان يُقرِئه بالأزهر قراءة دراية وتحقيق وإمعان وتدقيق. وروى " مسلم " بسماع جلِّه عن الشيخ السقاط. إلى غير ذلك من كتب المسانيد والمستخرجات والسنن، والأجزاء الحديثة، وكثير من المسلسلات، كما هو مثبت في " ثبته " رحمه الله تعالى. وتجدر الإشارة هنا إلى اهتمام المترجم رحمه الله بالتحقيق وإتقان الفهم، وتقديم ذلك على السرد والإكثار من المرويات، فبعد أن ذكر علُوَّ إسناده ورفعة رواياته .. ينبهنا ويقول: (وقد حُررت المتون والأسانيد في كتب الأصول التي كثرت، وتلقيت بالقبول بحيث لا يخفى ذلك على من راجعه، والغرض المهم الآن: تحصيل آلات الدراية وإتقان الفهم، لا حفظ المتن والسند، خلافاً لمن مال إلى العكس، وقد بلغني عن بعض علماء تونس أنه قيل له: فلان يحفظ كتاب كذا بأسانيده!! فقال: وماذا حصل؟ غايته أنه زِيد في مدينة تونس نسخة من ذلك الكتاب) (¬1). ¬

_ (¬1) سد الأرب (ص 26).

مكانة العلامة الأمير العلمية

ثم سرد أسانيده إلى مؤلفي كتب التفسير، وعلم الكلام، والسير والمغازي، وإلى أصحاب التصانيف العلمية في علوم شتى، كأصول الفقه، والنحو، وعلوم البلاغة، والأدب، ثم ختم ذلك بكتب التصوف والأخلاق. مكانة العلامة الأمير العلمية قال عنه المؤرخ الجبرتي رحمه الله: (إليه انتهت الرئاسة في العلوم بالديار المصرية، وباهت مصر ما سواها بتحقيقاته البهية، استنبط الفروع من الأصول، واستخرج نفائس الدرر من بحور المعقول والمنقول، وأودع الطروس فوائد وقلدها فرائد) (¬1). لقد أخذ العلامة الأمير رحمه الله عن الجلَّة من أهل العلم في عصره، وأجازوه إجازة عامة، وشهدوا له بالعلم والفضل (¬2)، وقد ألَّف المترجَم فهرسةً حافلة أتى فيها على تفصيل روايته عن هؤلاء الأعلام، والكتب المؤلفة في شتى الفنون والعلوم، وطرق سندها إلى مؤلفيها وأسمائهم ووفياتهم. ونحن أمام نصَّين شريفين يدلاَّن على المتانة العلمية التي حظي بها هذا الإمام العظيم، ونال بها الرفعة عند أهل عصره. فمن يطالع أسماء أعلام شيوخه الذين أخذ عنهم وعبَّ من علومهم .. رأى أسماء جليلة، وصدور أئمة بالعلم مشحونة، لها من المؤلفات ¬

_ (¬1) عجائب الآثار (7/ 421)، حلية البشر (3/ 1267). (¬2) عجائب الآثار (7/ 420).

العلمية التي تشهد بذلك كله، ومع هذا يقول الجبرتي رحمه الله عن علامتنا الأمير: (ومهر وأنجب، وتصدَّر لإلقاء الدروس في حياة شيوخه!! ونما أمره، واشتهر فضله خصوصاً بعد موت أشياخه) (¬1). أنْ يتصدَّر الشيخ للتدريس في حياة أشياخه وهم من هم!! هذا أمر ليس بالهين، فمن قرأ ترجمة العلامة العدوي الصعيدي، والعلامة البليدي والتاودي والنفراوي وغيرهم .. علم عظم هذه الكلمة في حقِّ العلامة الأمير رحمه الله تعالى. ويقول المؤرخ الجبرتي رحمه الله في حقِّه كذلك: (كان شيخه الصعيدي إذا توقف في موضع .. يقول: هاتوا " مختصر الأمير "!! وهي منقبة شريفة) (¬2). والعلامة الصعيدي العدوي إمام المالكية في عصره وصاحب " شرح مختصر خليل " الذي تتهافت عليه الأيدي، ومع ذلك إذا توقف في موضع .. عاد لتحرير الأمير، تلميذه النجيب الذي لازمه أكثر من عشرين سنة!! فمن أي الأمرين العجب؟ أمن تقدُّمِ العلامة الأميرِ وحسن تحريراته، أو من إنصاف العلامة العدوي وكرم نفسه؟! ولم يكن هذا الأدب الجمُّ من العلامة العدوي ليُطمعَ علامتنا الأمير ¬

_ (¬1) عجائب الآثار (7/ 421). (¬2) عجائب الآثار (7/ 422)، وهذا المختصر الذي يتحدث عنه العلامة العدوي متن سماه: " المجموع " حاذى فيه " مختصر خليل "، جمع فيه الراجح من المذهب، وشرحه شرحا نفيساً.

مسلكه التربوي والأخلاقي

في إهدال مقام الشيخ، بل هو العكس، فانظر إليه في مقدمة كتابه " مطلع النيرين " وهو يذكر مسألة رفعت للشيخ العدوي في الكلام على القدرتين، خط أصلَها ودفعها للأمير يتمم طرزها، فيقول الأمير: (دفع إليَّ مسوَّدَةَ الجواب التي نمقتْها يدُهُ الكريمة، وأفادني أموراً باللسان من عباراته النظيمة، وأمرني بضمِّ ذاك لذلك فامتثلتُ للخدمة ... ، وحيثُ سمعتَ أيها الألمعي الأديب، والسمدعي اللوذعي اللبيب لفظَ: " أقول " أو " قلت " .. فذلك كغيره للشيخ نفسه، وكلما استحسنَهُ طبعُك الكريم وذهنك المستقيم .. فهو منه وإليه، وغيره ناشىء عن قصوري في جمعي، أو سوءِ تحملي لديه) (¬1). مسلكه التربوي والأخلاقي كان علامتنا الأمير رحمه الله - كما تصفه كتب الترجمات - رقيق القلب، لطيف المزاج، ينزعج طبعه من غير انزعاج، يكاد الوهم يؤلمه، وسماع المنافر يوهنه ويسقمه (¬2)، وكل هذا وصْفٌ يدل على نبْلٍ في الطبع وصفاء في الروح. وهو على إمامته في علوم العربية والأصلين، بل وعلوم الشريعة عموماً .. كان أميرَ قلم أدبي بَليل، ونفْس رقيقة شفافة، وصاحب لُطف وظَرْف ممزوج بالتواضع والأدب. ¬

_ (¬1) مطلع النيرين (ص 5)، وانظر ترجمة المؤلف لشيخه العدوي في كتابنا هذا (ص 122). (¬2) عجائب الآثار (7/ 422).

ولعل مسلكه التربوي الأخلاقي كان من أهم العوامل لتكوين هذه الشخصية العلمية الأدبية الفذَّة. فقبل أن يجري عليه القلم طابت أنفاسه بصحبة أهل العرفان، وزكت نفسه بزكي نفوسهم، فما زال يتقلب في روضاتهم، ويحظى بأريج ورودهم وأورادهم. يحدثنا رحمه الله عن ذلك فيقول: (أول من أخذ علي العهد في ذلك - أي: تلقين الذكر - ولقنني: الأستاذ الحفني، بمقتضى أخذه في طريقة الخلوتية، عن السيد مصطفى ابن كمال الدين البكري الشامي صاحب " ورد السحر " وغيره، وذلك قبل بلوغي، ثم تلقنت من جماعة كثيرة، منهم شيخنا العدوي على طريق الشناوية أواخر عمره، ومنهم شيخنا الشهاب الجوهري في الطريقة الشاذلية، وأجازني أن أجيز بها، قال: ونرويها من طرق، منها طريق القطب مولاي عبد الله الشريف المسلسلة بالأقطاب (¬1). ثم سرد أسانيده للسادة الوفائية الشاذلية، والعيدروسية، والنقشبندية، بل - كما قال - وجميع طرق السادة الصوفية (¬2). وقد قال عند ختم " ثبته " بكتب القوم: (وإنما أخرناها لأنها الزبدة والمنتهى، فإن الشريعة علم الشرع، والعلوم الآلية وسائلُ لفهمه، ¬

_ (¬1) سد الأرب (ص 263)، وكلٌّ من شيخه المحدث السقاط والعلامة التاودي ابن سودة من رؤوس الشاذلية. (¬2) سد الأرب (ص 265).

تلامذته

والطريقة العمل به، والحقيقة أسرار وأنوار يثمرها العمل، (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ (¬1). ليختم حديثه عن القوم بقوله: (والمدعون اليوم أفسدوا الأوضاع، واقتصروا على الصور الظاهرية، واعلم بأن طريق القوم دارسة، وحال من يدعيها اليوم كيف ترى (¬2). تلامذته تخرَّج بالعلامة الأمير جماعة لا يحصون، من مصريين وشاميين ومغاربة وحجازيين، وقد أورد العالم المسند الفاضل، الشيخ علم الدين محمد ياسين الفاداني المكي رحمه الله أربعين ونيفاً من تلامذته الذين أجازهم الشيخ الأمير، مسنداً طريقه إليهم وهم: ولده محمد الأمير الصغير المتوفى سنة (1253 هـ) (¬3)، وأحمد منَّة الله الشباسي الأزهري المتوفى سنة (1292 هـ). ومحمد بن أحمد التميمي الخليلي المصري الحنفي، ومحمد بن صالح السباعي العدوي المتوفى سنة (1268 هـ). وأحمد بن صالح السباعي، ومصطفى البولاقي المتوفى سنة (1263 هـ)، ومصطفى البدري، وعلي خفاجة. ¬

_ (¬1) سد الأرب (ص 257). (¬2) سد الأرب (ص 267). (¬3) وانظر كذلك " عجائب الآثار " (7/ 424).

ومحمد فتح الله بن عمر السميدس، ومصطفى بن حنفي الذهبي المتوفى سنة (1280 هـ). وحسن العِدْوي الحمزاوي المتوفى سنة (1303 هـ)، وأحمد بشارة الدمياطي، ومحمد الخضري الدمياطي الكبير المتوفى سنة (1288 هـ). وأحمد المرصفي الكبير المتوفى سنة (1306 هـ)، وأحمد الصاوي المتوفى سنة (1241 هـ)، ومحمد الصفتي وكان مقرىء الأمير في درسه، توفي بعد سنة (1193 هـ). وعلي بن عيسى النجاري المتوفى سنة (1256 هـ)، وإبراهيم بن محمد الرشيدي، ومصطفى المبلط الأحمدي المتوفى سنة (1284 هـ)، وإبراهيم بن محمد الباجوري المتوفى سنة (1276 هـ)، ومحمد الفضالي المتوفى سنة (1236 هـ). وعلي سالم اللقاني، ويوسف بن مصطفى الصاوي، وأحمد الدواخلي. وأحمد بن علي الدمهوجي المتوفى سنة (1246 هـ)، وحسن بن درويش القويسني المتوفى سنة (1254 هـ). ومحمد بن صالح البنا الإسكندري، وحسن بن محمد العطار. وأحمد بن محمد الطحطاوي المتوفى سنة (1231 هـ)، ومحمد بن أحمد العروسي المتوفى سنة (1244 هـ).

وعلي بن عبد الحق القوصي، ومحمد بن علي التميمي التونسي المتوفيان سنة (1294 هـ). وعثمان بن حسن الدمياطي المتوفى سنة (1265 هـ)، وعبد الغني الدمياطي المكي. وأحمد المرزوقي المكي المتوفى سنة (1262 هـ)، ومحمد المرزوقي المكي المتوفى سنة (1261 هـ). ومحمد بن حسين الكتبي المكي. ووالد العلامة محدث الديار الشامية بدر الدين الحسني الشيخ يوسف بن بدر الدين المغربي ثم الدمشقي المتوفى سنة (1279 هـ). ومحمد أمين بن عمر الشهير بابن عابدين صاحب الحاشية المتوفى سنة (1252 هـ)، وعبد الرحمن بن محمد الكزبري المتوفى سنة (1262 هـ). وعصمة الله أحمد باي التركي المتوفى سنة (1272 هـ، أو 1275 هـ)، ومحمد بن محمد الصادق العلمي الريسوني المتوفى سنة (1234 هـ). وعبد القادر المشرفي المعروف بـ (نعبد الله)، كان حياً سنة (1247 هـ) وعبد القادر المعروف بابن الأمين الجزائري المتوفى سنة (1236 هـ). وحمودة بن محمد المُقايسي، أجازه الأمير سنة (1205 هـ).

مؤلفات العلامة الأمير

ومحمد أبو رأس المعسكري المتوفى سنة (1239 هـ)، وأبو علي حسن قنبور اللجائي (¬1). مؤلفات العلامة الأمير نعتت مؤلفات العلامة الأمير بالاشتهار وغاية التحرير، والمتأمل فيها يرى الطابع العام الذي ساد في عصره قد تجلى فيها، فغالب تآليفه حواشٍ وشروح وتحرير مسائل. فمما تم الوقوف عليه منها: في الفقه: كتاب " المجموع "، وهو من أبرز ما صنَّف، حاكى في اختصاره وحصر مسائله " مختصر خليل " في الفقه المالكي، وكان شيخه العدوي المالكي إذا توقف في موضع قال: هاتوا " مختصر الأمير "!! وقد شرحه الأمير، وحشَّى عليه كذلك، واسم الحاشية: " ضوء الشموع على شرح المجموع ". وله في الفقه المالكي كذلك: " الإكليل في شرح مختصر خليل "، وله: " حاشية على الشيخ عبد الباقي على المختصر "، و " حاشية على شرح الزرقاني على العزية "، وكتاب " الكوكب المنير "، و " حاشية على العشماوية "، وله مناسك نُعتت بـ " مناسك الأمير ". ¬

_ (¬1) الدر النثير في الاتصال بثبت الأمير (ص 3 - 17).

وله في النحو: " حاشية على مغني اللبيب " اشتهرت بـ " حاشية الأمير "، و " حاشية على شرح شذور الذهب "، و " حاشية على الأزهرية ". وله في بعض المسائل النحوية: " شرح لأبيات لا سيما للسجاعي "، وكتاب: " إتحاف الإنس في الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس ". وله في الحديث الشريف: " شرح غرامي صحيح " في علم مصطلح الحديث، وكتاب: " النخبة البهية في الأحاديث المكذوبة على خير البرية ". وله في العقائد والتفسير والأخلاق والآداب: " كفاية المريد وغنية الطالب للتوحيد "، و " حاشية على إتحاف المريد شرح الشيخ عبد السلام "، و " مطلع النيرين فيما يتعلق بالقدرتين ". وله كتاب: " انشراح الصدر في بيان ليلة القدر " لعله هو ما يسمى كذلك بـ " تفسير سورة القدر "، وله " رسالة في اللحن في القراءة والإنكار على من يقول بكفر اللاحن ". وله في الفرائض: " حاشية على الشنشوري على الرحبية ". وفي البلاغة: " حاشية على شرح الملوي على السمرقندية ".

وفي التزكية: " الوظيفة الشاذلية وأوراد الطريقة ". وفي المسائل العامة: " بهجة الأنس والائتناس شرح زارني المحبوب في رياض الآس "، و " رفع التلبيس عما يسأل به ابن خميس "، و " حسن الذكرى في شأن الإسرا " وهو حاشية على " الابتهاج فيما يتعلق بالإسراء والمعراج ". وله كتابنا " ثمر الثّمام شرح غاية الإحكام في آداب الفهم والإفهام " في آداب فهم العبارة وطرق إفهامها. وله " ثبت " جمع فيه رواياته ومسنداته، وذكر فيه شيوخه ومربيه (¬1). قال العلامة عبد الحي الكتاني في وصف هذا " الثبت ": (وثبته مدار رواية المصريين، ومعظم الحجازيين والمغاربة، وفهرسه هذا في نحو أربع كراريس، مفيد جامع للمصنفات الحديثية والكتب، رتبها على الفنون والمسلسلات والطرق، قال عنه وعن " ثبت " رفيقه الشرقاوي النور حسن العطار شيخ الجامع الأزهر في إجازته للدمنتي: " ومن أجلِّ ثبت عليه الآن الاعتماد في طريق الإسناد ثبت شيخنا الأمير والشرقاوي، وغالب بقية الأشياخ المصريين عنهما آخذ وراوي، وثبتهما مشهور، وأمرهما في الفضل غير منكور، فهذان الثبتان من ¬

_ (¬1) واسمه - كما مرَّ -: " سد الأرب من علوم الإسناد والأدب ".

وفاته

غرر مروياتي، وأفضل ما اكتسبته في حياتي "). وأنشد في حقه الفقيه الفاضل أبو العلاء إدريس بن محمد صهر العلامة الكتاني: كلامُ الأميرِ أميرُ الكلامْ ... فلا حشوَ فيهِ ولاما يلامْ إذا رمتَ تحقيقَ مسألةٍ ... فلازمْ تآليفَهُ والسلامْ وفاته يقول المؤرخ الفاضل الجبرتي رحمه الله: (وبأخرة ضعفت قواه، وتراخت أعضاؤه، وزاد شكواه، ولم يزل يتعلل، ويزداد أنينه ويتململ، والأمراض به تسلسل، وداعي المنون عنه لا يتحول .. إلى أن توفي يوم الإثنين، عاشر ذي القعدة الحرام، وكان له مشهد حافل جداً. ودفن بالصحراء بجوار مدفن الشيخ عبد الوهاب العفيفي، بالقرب من عمارة السلطان قايتباي. وكثر عليه الأسف والحزن، وخلف ولده العلامة النحرير، الشيخ محمد الأمير، وهو الآن أحد الصدور كوالده، يقرأ الدروس ويفيد الطلبة، ويحضر الدواوين والمجالس العالية) (¬1)، وكان ذلك في سنة (1232 هـ). رحمه الله تعالى، وروى ثراه بشآبيب رضوانه ¬

_ (¬1) عجائب الآثار (7/ 424).

نسبة الكتاب لمؤلفه، وتاريخ تأليفه

نسبة الكتابِ لمؤلفِّه، وتاريخ تأليفه رفع العلامة الأمير رحمه الله قلمَهُ عن هذا الشرح بعدما أتمَّه سنة (1185 هـ) أي: في حياة الشيخين الجليلين، الإمام الطحلاوي صاحب " غاية الإحكام "، وشيخهما العلامة المحقق العدوي الصعيدي رحمهم الله تعالى أجمعين. نصَّ على ذلك في نهاية شرحه هذا " ثمر الثُّمام ". والمطالع في سطور هذا الشرح يرى الإشارة لحياة الشيخين بنحو قوله: (حفظه الله، سلك الله بنا وبه فيما يرضاه ...). وقد ذكر المؤرخ الفاضل الجبرتي رحمه الله " ثمر الثُّمام " ضمن الآثار التي خلَّفها العلامة الأمير الكبير (¬1)، والكتاب نفسه للناظر فيه خير من يؤكد نسبته لمؤلفه كما لا يخفى. فصاحب المتن " غاية الإحكام " هو مَنْ طلبَ من العلامة الأمير وضع شرح عليه، لِما رأى فيه من النباهة والبراعة العلمية، وهو وإن زامل الشيخ الأمير في الطلب على العلامة العدوي، إلا أنه - بلا شك - أطعن سناً من العلامة الأمير، فقد كان من المعمَّرين كما نرى في ترجمته، وقد توفاه الله إليه في حياة شيخه العدوي، وقبل وفاة العلامة الأمير بأربعين سنة ونيف. ¬

_ (¬1) عجاب الآثار (7/ 422)، وكذا صاحب " هدية العارفين " (2/ 358).

موضوع الكتاب

موضوع الكتاب لقد عُني كل من الماتن والشارح رحمهما الله تعالى بما سماه العلامة الأمير في الورقة الأخيرة من إجازةٍ أثبتها في نهاية صورةٍ لـ " ثبته " وهو يشرط فيها بـ (مراعاة قانون التفهم والإفهام). فالفهم والتفهُّم، والإفهام والتفهيم هي الباعث والغاية في كلٍّ من المتن والشرح. والمراد بالفهم: ما يخصُّ المرء من علْم المسائل التي يبحث فيها، والتفهُّم: فهْمُ المعلوم شيئاً فشيئاً. والمراد بالإفهام: توصيل المعلوم للغير، والتفهيم: إيصالُ ذاك المعلوم شيئاً فشيئاً. والكتاب إنما هو بيان لما يجب على المتفهِّم والمفهِّم أن يعلمه في حل العبارات وطرق فهمها، عموماً دون تخصيص فن دون فن. وموضوع الفهم والإفهام ذو شأن وخطر، فكم زلت الأقدام، وتشعبت الأنام، وتقطعت الأرحام، لتعدد الأفهام!! ترى هذا جلياً فيمن يَمْتَسِكُ بأصل واحد وهم بعد ذلك طرائقُ قدداً، فإن تأمَّلت .. رأيت أن الأمر عائد أصالة لطبيعة فهم هذا الأصل وإفهامه.

وعليه: يمكننا القول: إن للغة ومدلولاتها أثراً عظيماً في تفرُّق الفرق النصيَّة وتحزُّب أحزابها، وليس العيب فيها. بل أي ظلْم نحمِّله اللغةَ إن قلنا بذلك؟! وإنما الداهية في سوء فهم مرادات القائل في هذه السياقات اللغوية. هذا بشأن النص المقدَّس الذي لا تعتوره الزلات، أما بشأن النص غير المقدس، وهو كل ما سوى الكتاب والسنة الثابتة .. فقد يكون الخطأ حقيقة من ساطر العبارة نفسِهِ، وهذا أمر يعالجه كتابنا " ثمر الثُّمام " حين ينصُّ المصنف على رد الكلام الذي لا يستقيم بعد كل محاولات الفهم. إننا نرى كتاب ربنا سبحانه وتعالى يدعونا للتأمُّل والتدبر والتفكُّر، ويأمر بمنح الفرصة للمعاند الجاحد أن يستمع بروية وتفهُّم في جوٍّ يسوده الأمْن والطمأنينة. فاتخاذ القرارات العاجلة ورد الأقوال على أصحابها خديعة تمليها النفس المتعجرفة المتكبرة التي لا ترى صالحاً سواها. قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} إلى أن قال سبحانه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. فلا حجة بعد تفصيل القول وبيانه، فإن هذا مدعاة لفهمه والتصديق

به، ولكن لا بد من تحرير المشكلة، فهُمْ في البداية قومٌ يعلمون، وفي النهاية تفصيلُ القول لقوم يعلمون. ونجد النبي صلى الله عليه وسلم يحرص كل الحرص على دقة العبارة وتحري ذلك عند نقلها، إذ يقول: «من يَقُلْ عليَّ ما لم أقلْ .. فليتبوَّأْ مقعده من النار» (¬1). لنرى بعد ذلك التنوُّع في تقسيم حديثه صلى الله عليه وسلم مراعاةً لهذه الناحية، واقتراباً من العبارة اليقينية التي نطق بها سيد الوجود عليه الصلاة والسلام. وها هو ذا سيدنا الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه يحضُّ على مسألة الفهم وبتأكيد كبير، إذ يقول لسيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (الفهمَ الفهمَ فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في القرآن والسنة، فتعرَّف الأمثال والأشباه، ثم قس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها فيما ترى) (¬2). ولنصْغِ إلى الأديبِ البحرِ عمرو بن بحر الجاحظ وهو يحدِّث عن مسألة الفهم والإفهام إذ يقول: (وقال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، لأن مدار الأمر على البيان والتبيُّن، وعلى الإفهام والتفهُّم، وكلما كان اللسان أبين .. كان أحمد، كما أنه كلما كان القلب أشد استبانة .. كان أحمد. ¬

_ (¬1) البخاري (109). (¬2) رواه البيهقي في " السنن الكبرى " (10/ 115).

والمفهم لك والمتفهِّم عنك شريكان في الفضل، إلا أن المفهِمَ أفضل من المتفهِّم، وكذلك المعلم والمتعلم) (¬1). من هنا نرى العلامة الطحلاوي رحمه الله يستعين الله ويستخيره لوضع رسالة في الفهم والإفهام. ويأذن الله تعالى بأن يطلع العلامة الأمير رحمه الله على هذا التأليف الوجيز، فيقترح تسميته بـ " غاية الإحكام في آداب الفهم والإفهام ". ثم يدفع الطحلاوي للأمير بهذه الرسالة، ليقوم بشرحها وبيان ما يشكل منها، فيُنْفِذُ الأمير هذه الرغبة الصادقة لمؤلفها، ويشرحها بـ " ثمر الثُمام ". والثُّمام: نبت ضعيف قصير لا يطول، ولذلك كان وثمرَهُ سهل المتناول، حتى قالوا في الشيء لا يستصعب الوصول إليه: هو على طرف الثُّمام. وكأن العلامة الأمير رحمه الله أراد بهذا الاسم بيان قرْبِ الفوائد التي رصفها في كتابه هذا من طالبها، لا يعسر عليه فهمها، وكذلك يومىء الاسم لتواضعه رحمه الله تعالى. ... ¬

_ (¬1) البيان والتبيين (1/ 11).

أهمية الكتاب ومزاياه

أهمِّيَّةُ الكتابِ ومزاياه إن الحديث عن طرق الفهم والإفهام منتشر في كتب العربية دون إشراعٍ لهذا المقصد. إذ يبيِّنُ الصرفيُّ مدلول المشتق ومعناه، ويبيِّنُ النحْويُّ طرقَ التراكيب، والعواملَ والمعمولات، ويظهرُ البلاغيّ وأهل الأدب والبيان مدلولات السياقات وما تحويه من خفي الأغراض بنحو التقديم والتأخير، والبسط والإيجاز، والحذف والحصر، والفصل والوصل ... إلى غير ذلك. كما توجهت غاية الأصوليين لبيان تفاوت النص في القطعية الدلالية، واحتماله لتعدد المعاني، والحديث عن إشاراته واقتضاءاته وإيماءاته، وخروجه عن معناه الأصلي للعلاقات والقرائن، وهو يشترك بذلك في كثير من الأبحاث التي تعنا بها علوم العربية. لا نبالغ إن قلنا: كل هذه العلوم كان غرضها الأساس خدمة النص بفهم معناه ومراده. وبالطبع لم يكن غرض العلامة الطحلاوي الحديث عن هذه الجزئيات التي يجب على طالب العلم تحصيلها وإتقانها، إنما كانت العناية متوجهة لبيان الخطوط العامة لفهم أي عبارة قد يستشكلها قارئها للوهلة الأولى، هذا البيان كان ضمن إلماعات سريعة، حاول الشارح

إيضاح أكبر قدْر ممكن منها، بتفسير غامضها وضبط خفيِّها، وذكر بعض العلل والأدلة، مع المحافظة على وجازة النص وبهائه. ثم لا يخفى أن فهم العبارة ومراد قائلها منها شيء، وصحتَها أو خطأها شيء آخر، فليس المراد من فهم العبائر تصحيح معانيها، فقد تردُّ العبارة لأنها غير مستقيمة على قواعد الفهم والإفهام، وقد تقبل ويفهم معناها، ثم يُردُّ هذا المعنى لدلالات خارجة عنها. فالردُّ الوارد في هذه الرسالة إنما هو من النوع الأول، ذاك الذي تردُّه قواعد الفهم المذكورة فيها. كما تبرز أهمية هذه الرسالة كذلك: بتعرضها لهذا البحث الذي يمكننا أن ندعيَ قلَّة التصنيف فيه مفرداً على هذه الطريقة الفذَّة. وبوجازته التي تعين على تصور أصول مسائله، وقد قال مصنف " المتن ": (وليس غرضنا بيان جميع الأنواع، ولا جميع الآداب). وبذلك الشرح الماتع الذي ألقى بظلاله العلامة المحقق الأمير الكبير، المعروف بنكاته العلمية، ونفاسة فوائده التي لا يُخلي كعادته تصنيفاً من تصانيفه منها. فكان هذا الشرح لـ " غاية الإحكام " مادة علمية آلية لكل علم من العلوم. فهو أشبه أن يكون علماً رياضياًّ بنظرته الشاملة، ومن هنا تبرز علاقته

بشتى العلوم، وعلى رأسها العربية والمنطق، والشارح إمام في هذا كلِّه. ولعل هذه الرسالة بشرحها تكون محفِّزاً لأولئك الذين تسبق عقولَهم ألسنتُهم لكي يقبضوا لجام اللسان في الإسراع بالقول، ويتحرَّوا جاهدين بوارق الحقائق في ثنايا العبائر، ويدركوا أن لكلِّ نفْسٍ حدّاً ومبلغاً من العلم، وما أحاط باللغة ومدلولها إلا نبي، ورحم الله من جعل ما لم يفهمه من جملة مجهولاته وكم هي كثيرة، أو ما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «فربَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع»؟! (¬1) وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم إن الذين يحاكمون أقوال جبال العلم والأئمة الصالحين إلا قوالب أفكارهم، فما ناغاها .. طبعوها بالقبول، وما قصرت أفهامهم عنها .. ردُّوها شرَّ ردٍّ. فجعلوا اللغة سككاً ضيقة، وساوَوا بين الإمام والمأموم، حريٌّ بهم أن يتمهلوا طويلاً، وأن ينظروا في أمثال كتابنا هذا وغيره الكثير من كتبِ العربية وعلى رأسها كتبُ البلاغة، وكتب المنطق وآداب البحث، وأن يعلموا أنَّ النص وحدَه أصل لا غناء عنه، ما يحيدُ عنه إلا جاهل أحمق، ولكنه لعربي النسب عجمي الفهم واللسان قد يكون مزلة قدم وهو لا يشعر، ولا بدَّ له من المرور في قنطرة أهل العلم حتى ينال من درر النص وحِكَمِه. ¬

_ (¬1) البخاري (1741).

هذه هي خلاصه الرسالة التي تؤديها هذه الرسالة: الوقوف بأدب أمام النص، وإمراره على قواعد الفهم والإفهام، ليجدَ المرء نفسه في غالب الأحايين هي بعجزها قد كانت قاصرة محتاجة لمن يبصِّرُها المراد، فيحفظ بذلك لأهل العلم حرمتهم وحقهم. أما إن استعجم المراد بعد أداء فرائض الفهم ونوافله .. فلا بدَّ من الرد، حفظاً لحرمة العلم أن تلوى عنقه بغير علم.

وصف النسخ الخطية

وصف النسخ الخطية اعتمدنا في إخراج هذا الكتاب على ثلاث نسخ خطية: فتم اعتماد نسخة نفيسة للمتن " غاية الإحكام في آداب الفهم والإفهام ". وهي ضمن مجموع من نسخ المكتبة الأزهرية، برقم (49578 عام - 1313 خاص) مكتبة إمبابي. كتبت في حياة المؤلف العلامة الطحلاوي، في (21) محرم سنة (1180 هـ)، كاتبها مصطفى سلامة الكاتب العطار. وهي مكتوبة بلونين متغايرين، تبييناً للعناوين ورؤوس الفِقَر، واضحة المعالم، خطها نسخي معتاد. تقع في (5) ورقات، في كل صفحة منها (23) سطراً، متوسط عدد الكلمات (7) كلمات. حوت هذه النسخة زيادات يسيرة ليست في نسخة الشارح، أثبتت كاملة مستقلة في أول الكتاب كما سنشير في منهج العمل. كما تمَّ اعتماد نسختين خطئتين للشرح " ثمر الثمام "، كانت كل منهما متممة للأخرى. نسخة المكتبة الأزهرية، برقم (عام 65919 - خاص 2129).

كتبت في (26) رجب سنة (1185 هـ) أي في حياة المصنف. كاتبها هو محمد بن الروبي رمضان. وهي مكتوبة بلونين متغايرين تمييزاً بين المتن والشرح، واضحة المعالم، خطها نسخي معتاد. أثبت في آخرها إجازة من المصنف الأمير بخطه للشيخ أبي محمد، محمد بن محمد بن مصطفى بن قاسم المقرىء بمدينة دبرة ببلاد الروم، كان ذلك سنة (1222 هـ). تقع في اثنتي عشرة ورقة، في كل صفحة منها (25) سطراًّ، متوسط عدد الكلمات (11) كلمة. ورمزنا لها بـ (أ). * نسخة دار الكتب المصرية، رقم (37 آداب بحث تيمور). كتبت في (12) جمادى الأولى سنة (1272 هـ). كاتبها هو الشيخ رضوان بن السيد عثمان بن السيد عثمان. وهي كأختها مكتوبة بلونين متغايرين متنا وشرحاً، واضحة المعالم، خطها نسخي معتاد. نقل في آخرها أبيات للعلامة الأمير في مدح العلامة الطحلاوي. تقع في (17) ورقة، في كل صفحة منها (19) سطراً، متوسط عدد الكلمات (11) كلمة. ورمزنا لها بـ (ب). ***

منهج العمل في الكتاب

منهج العمل في الكتاب تم نسخ النسخة (أ)، ومقابلتها وتصحيحها على النسخة (ب). ثم مرَّ الكتاب بالمراحل العلمية التالية: - وضعنا كتاب " غاية الإحكام في آداب الفهم والإفهام " مقدماً على شرحه، معتمدين على مخطوطته المشار إليها في الحديث عن النسخ الخطية (¬1). - شكلنا المتن شكلاً كاملاً، وشكل الشرح بحسب الحاجة. - زيَّنا الكتاب بعلامات الترقيم حسب المنهج المتبع بالدار. - ترجمنا لكلٍّ من العلامة الطحلاوي صاحب المتن، والعلامة السنباوي الأمير صاحب الشرح. - عرفنا بالكتاب، وحدثنا عن موضوعه وأهميته. - ترجمنا للأعلام الواردة في الكتاب. - علقنا على أبرز المسائل العلمية التي ارتأينا الحاجة لبيانها. - أحلنا النقول إلى مظانها، وقمنا بتخريج الآثار. ¬

_ (¬1) وقد وجدنا في نسخة الماتن العلامة الطحلاوي - رحمه الله تعالى - زيادات يسيرة مفيدة، لا يخل عدم اعتماد الشارح الأمير رحمه الله تعالى لها، أو إعراضه عن شرحها، أشرنا لها في محلها من الكتاب.

- قسمنا المتن إلا مقاطع أدرجت في الشرح ضمن إطار مزخرف، يجمعْ كل مقطع منها مجمل ما يقابله من الشرح. جمعاً للفكر وتقريباً للفائدة. - ميَّزنا المتن ضمن الشرح بلون مغاير ضمن قوسين. - صنعنا فهرسة تناسب الكتاب وحجمه. وختاماً: نسأل الله سبحانه أن يمنَّ علينا بمعرفة العلم، وبنور الفهم، وأن يسهل أخلاقنا بالحلم، حتى نبوء للحق بالحق، ولا نهجره طلبا لرضا الخلق. إنهُ سُبحانه خَيْر معينٍ وخَيْر مَسؤولٍ اللجنة العلمية بمركز دراسات المنهج للدراسات والنشر

صور المخطوطات المستعان بها

راموز الورقة الأولى لـ " غاية الإحكام "

راموز الورقة قبل الأخيرة لـ " غاية الإحكام "

راموز الورقة الأخيرة لـ " غاية الإحكام "

راموز ورقة العنوان للنسخة (أ) راموز الورقة الأولى للنسخة (أ)

راموز الورقة قبل الأخيرة للنسخة (أ) راموز الورقة الأخيرة للنسخة (أ)

راموز ورقة العنوان للنسخة (ب) راموز الورقة الأولى للنسخة (ب)

راموز الورقة قبل الأخيرة للنسخة (ب) راموز الورقة الأخيرة للنسخة (ب)

غاية الإحكام في آداب الفهم والإفهام

غَايَةُ الإحْكَامِ فِي آدَابِ الْفَهم والإِفهَامِ تأليف الإِمَام الْفَقِيه الْمُحدث عُمر بن عَليّ بن يحيى بن مُصْطَفَى الطَّحلاوي الْمَالِكِي الْأَزْهَرِي رَحمَه الله تَعَالَى الْمُتَوفَّى سنة 1181 هـ

[خطبة الكتاب]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَبِهِ نَسْتَعِينُ (¬1). [خُطْبَةُ الْكِتَابِ] الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي مَنَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِمَعْرِفَةِ طَرِيقِ الْعِرْفَانِ، وَوَسَّعَ دَائِرَةَ (¬2) أَفْهَامِهِمْ فَغَاصُوا بِحَاراً، فَاسْتَخْرَجُوا نَفَائِسَ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ (¬3). وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً نَنَالُ بِهَا بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيقَانِ. وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي أُوتِيَ أَنْوَاعَ الْحِكْمَةِ وَالتِّبْيَانِ. وَالصَّلَاةُ وَالسَّلامُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ خُصُّوا بِدَقَائِقِ الْعُلُومِ مِنَ التَّأَمُّلِ فِي آيَاتِ الْفُرْقَانِ. ¬

_ (¬1) ليست في نسخة الشارح. (¬2) في نسخة الشارح (ص 78) (دوائر) بدل (دائرة). (¬3) انظر (ص 78).

وَرَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ بِإِحْسَانٍ. وَبَعْدُ: فَيَقُولُ الْفَقِيرُ الْمُشْفِقُ مِنْ سُوءِ الْكَسْبِ وَالْمَسَاوِي، مُحَمَّدُ عَبْدُ اللَّطِيفِ الطَّحْلاوِيُّ، غَفَرَ الله لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ، وَمَشَايِخِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَمُحِبِّيهِ (¬1) وَإِخْوَانِهِ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ: لَمَّا وَفَّقَ اللهُ تَعَالَى لِوَضْعِ شَيْءٍ بَعْدَ الاِسْتِخَارَةِ فِي آدَابِ الْفَهْمِ وَالتَّفْهِيمِ وَنَحْوِهِ .. اطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ بَرَعَ - إِنْ شَاءَ الله- فِي الْفَضْلِ وَالْفَهْمِ الْمُنِيرِ، لاَ زَالَ اللهُ لَنَا وَلَهُ بِاللُّطْفِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ، وَاسْتَحْسَنَهُ وَأَمَرَنِي أَنْ أُسَمِّيَهُ بِـ: " غَايَةُ الْإِحْكَامِ فِي آدَابِ الْفَهْمِ وَالْإِفْهَامِ " فَامْتَثَلْتُ أَمْرَهُ، وَسَمَّيْتُهُ بِذَلِكَ بَعْدَ إِعَادَةِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضُوعِ. فَهَذَّبْتُهُ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ، وَزِدْتُ عَلَيْهِ مَا يَسَّرَ (¬2) اللهُ تَعَالَى، وَرَتَّبْتُهُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَبَابٍ: ¬

_ (¬1) في نسخة (ص 90) (ومحبيه وذريته). (¬2) في نسخة (ص 94) (يسره).

فَالْمُقَدِّمَةُ فِي: أَقْسَامِ الْمَعَانِي (¬1). وَالْبَابُ فِي: الآدَابِ وَنَحْوِهَا. وإنَّمَا رَتَّبْتُهُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الطَّالِبَ إِذَا عَرَفَ الْمَعَانِيَ إِجْمَالاً .. نَهَضَ لِطَلَبِ آدَابِ تَحْصِيلِهَا، فَكَانَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ بَاعِثَةً عَلَى فَهْمِ الْبَابِ. وَضَعْتُهُ لِنَفْسِي وَلِمِثْلِي مِنَ الْمُبْتَدِئِينَ، حَمَلَنِي عَلَى ذَلِكَ - وَإِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَهْلاً - أَنَّ الطَّالِبَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ الْفَهْمِ إِلاَّ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، كُلٌّ عَلَى حَسَبِهِ. فَرَجَوْتُ اللهَ تَعَالَى فِي تَسْهِيلِ الْفَهْمِ عَلَى مَنْ فَهِمَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ، لَكِنْ لاَ يَعْلَمُهَا الْقَاصِرُ مِنَ الْمُبْتَدِئِينَ. مُتَوَكِّلاً عَلَى مَنْ بِيَدِهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ، وَاثِقاً بِهِ، مُعْتَمِداً عَلَيْهِ، صَارِخاً بِعَجْزِي وَفَقْرِي وَذُلِّي وَضَعْفِي. وَاللهَ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنِي لِعَيْنِ الصَّوَابِ، وَيَهْدِيَنِي إِلَيْهِ، وَيَعْصِمَنِي مِنَ الْخَطَإِ وَالزَّلَلِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصاً لِوَجْهِهِ ¬

_ (¬1) في نسخة الشارح (ص 94) (المعاني) بدل (المعنى).

الْكَرِيمِ، وَسَبَباً لِلْإِقَامَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ. وَأَنْ يَجْعَلَهُ مُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ وَالرِّضَا، وَأَنْ يَغْفِرَ لِمَنْ رَأَى فِيهِ عَيْباً فَأَصْلَحَهُ بِلاَ اعْتِرَاضٍ وَازْدِرَاءٍ؟ فَإِنَّ التَّصْنِيفَ مَظِنَّةٌ لِلزَّلَلِ، خُصُوصاً إِذَا كَانَ مِنْ مِثْلِي. وَهَذَا أَوَانُ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصودِ، بِعَوْنِ الْمَلِكِ الْمَعْبُودِ؟ فَأَقُولُ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ:

المقدمة

الْمُقَدِّمَةُ فِي أَقْسَامِ الْمَعَانِي (¬1) اِعْلَمْ: أَنَّ الْمَعْنَى أَقْسَامٌ: مِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُفْرَدُ. وَمِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُرَكَّبٌ تَقْيِيدِيٌّ، أَوْ إِضَافِيٌّ. وَمِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُفْرَدَانِ فُصِلَ بَيْنَهُمَا، كـ (مَا) وَ (إِلاَّ)، فَإِنَّهُمَا يُفِيدَانِ الْحَصْرَ. وَمِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلامُ. وَمِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُهُ. وَمِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ جُمَلٍ. وَمِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صِفَةُ الْمَعْنَى؛ كالإبهام في (ما) (¬2)؛كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}، ¬

_ (¬1) في نسخة الشارح (ص 101) (المعاني) بدل (المعنى). (¬2) قوله: (كالإبهام في " ما ") ليس في نسخة الشارح.

فَإِنَّ الْإِبْهَامَ دَالٌّ عَلَى التَّفْخِيمِ. وَمِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَذْفُ اللَّفْظِ، كَالْمَعْمُولِ. وَمِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُهُ. وَمِنْهَا: غَيْرُ ذَلِكَ. وَالْعِلْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي: تَصَوُّرٌ، وَبِغَيْرِهِمَا: تَصَوُّرٌ وَتَصْدِيقٌ. وَيَنْقَسِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إِلَى: مَنْطُوقٍ وَمَفْهُومٍ. ***

باب الآداب ونحوها

بَابُ الْآدَابِ وَنَحْوِهَا اِعْلَمْ: أَنَّ فَهْمَ الْمَعَانِي الَّتِي تَحْتَ الْأَلْفَاظِ يَتَوَقَّفُ عَلَى: مَعْرِفَةِ مَوْضُوعَاتِ الْمُفْرَدَاتِ؟ لُغَةً، وَشَرْعاً، وَاصْطِلاحاً. وَمَعْرِفَةِ الْعَامِلِ، وَكَمْ لَهُ مِنَ الْمَعْمُولَاتِ. فَإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ كَلامٍ .. فَانْظُرْ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ حَيْثُ: مَعْنَاهَا، وَكَوْنُهَا عَامِلَةً أَوْ مَعْمُولَةً. فَإِنْ كَانَتْ عَامِلَةً .. بَحَثْتَ عَنْ مَعْمُولِهَا، فَإِنْ كَانَ مَحْذُوفاً .. نَظَرْتَ إِلَى الْحَالِ، فَهُوَ بِحَسَبِهِ. وَقَدْ يُفْصَلُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَمَعْمُولِهِ بِاعْتِرَاضٍ، أَوْ بِتَقْدِيمِ (¬1) الْمَعْفُولِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَزِيدِ التَأَمُّلِ. وَقَدْ يَتِمُّ الْكَلَامُ وَلَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى، فَيُنْظَرُ: ¬

_ (¬1) في نسخة الشارح (ص 110) (يتقدم) بدل (بتقديم).

فَإِنْ كَانَ فَسَادُهُ لاَزِماً .. رُدَّ. وَإِنْ كَانَ لِعَدَمِ كَلِمَةٍ أَوْ أَكْثَرَ .. قُدِّرَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَلاَ يُزَادُ عَلَيْهَا. وَإِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ أَكْثَرَ مِنْ مَعْنىً، وَبَعْضُهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ دُونَ غَيْرِهِ .. فَمَا لاَ يَحْتَاجُ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى أَقَلَّ مِنْ غَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكاً .. نَظَرْتَ لِمَعْنَاهُ وَاحِداً وَاحِداً، فَمَا كَانَ مُنَاسِباً لِلْمَعْنَى .. حَمَلْتَهُ عَلَيْهِ. وَإذَا كَانَ كُلِّي (¬1)، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعَ الْأَفْرَادِ الْمَوْجُودَةِ فَقَطْ، أَوِ الْمَوْجُودَةِ وَالْمُقَدَّرَةِ، أَوْ فَرْداً غَيْرَ مُعَيَّنٍ .. فَلاَ إِشْكَالَ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ فَرْداً مَخْصُوصاً .. تُؤُمِّلَ الْمَعْنَى لِيَظْهَرَ، فَيُنْظَرُ فِي الْأَفْرَادِ فَرْداً فَرْداً، فَمَا يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى .. فُسِّرَ اللَّفْظُ بِهِ. ¬

_ (¬1) انظر (ص 113).

وَاعْلَمْ: أَنَّ التَّفْسِيرَ: إِمَّا بِالْمُطَابِقِ، وَإِمَّا بِاللاَّزِمِ، وَإِمَّا بِالْمِثَالِ (¬1). وَقَدْ يَفْسُدُ الْمَعْنَى بِبَعْضِ الْأَلْفَاظِ، لِاعْتِقَادِ كَوْنِهِ أَصْلِيّاً. فَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ صِحَّتِهِ أَوْ فَسَادِهِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ لاَ يَأْتِي زَائِداً أَصْلاً .. فَالْمَعْنَى لاَزِمُ الْفَسَادِ، وَإِلاَّ (¬2) .. فَالْمَعْنَى صَحِيحٌ وَاللَّفْظُ زَائِدٌ. وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مَجَازاً .. نُظِرَ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ مَعَانِي ذَلِكَ اللَّفْظِ، لِيُعْلَمَ الْمَعْنَى الْمُتَجَوَّزُ عَنْهُ، فَقَدْ يَكُونُ الْمُتَجَوَّزُ مَعْنَى حَقِيقِيّاً (¬3)، وَقَدْ يَكُونُ مَجَازِيّاً، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ كُلٌّ مِنَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَالْمُتَجَوَّزِ عَنْهُ، وَقَدْ لاَ يَتَعَيَّنُ. وَالتَّعَيُّنُ إِمَّا: لِقَرِينَةٍ، أَوِ اتِّحَادِ الْمَعْنَى. وَإِذَا كَانَ تَوَابِعُ .. فَلاَ بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَتْبُوعِهَا، وَلاَ بُدَّ ¬

_ (¬1) في نسخة الشارح (ص 114) (المثال) دون الباء. (¬2) في نسخة الشارح (ص 115) (أولا) بدل (وإلا). (¬3) في نسخة الشارح (ص 115) (فقد يكون المتجوز معنى حقيقيا).

مِنَ النَّظَرِ فِي كُلِّ جُمْلَةٍ بَعْدَ النَّظَرِ فِي الْمُفْرَدَاتِ، لِيُعْلَمَ: أَيُّ الْجُمَلِ هِيَ. وَقَدْ يَصْعُبُ فَهْمُ الْكَلامِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي اخْتِصَارِهِ، فَالَّذِي يُعِينُ عَلَى فَهْمِهِ مُطَالَعَةُ الْمَبْسُوطَاتِ، وَلاَ يَقْتَصِرُ عَلَى مُطَالَعَةِ مُصَنَّفٍ أَوْ مُصَنَّفَيْنِ مَثَلاً، فَقَدْ يُهْمِلُ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ قُيُودَ الْمَسَائِلِ، فَلا بُدَّ مِنَ الْإِكثَارِ مِنْ مُطَالَعَةِ الْمُصَنَّفَاتِ الَّتِي لاَ يَجْتَمِعُ مِثْلُهَا لِكَثْرَتِهَا عَلَى تَرْكِ شَىْءٍ مِنَ الْقُيُودِ، فَمَنِ اسْتَعْمَلَ هَذَا كُلَّهُ حِينَ الْمُطَالَعَةِ .. خَرَجَتْ لَهُ الْمَعَانِي الَّتِي تَحْتَ الْأَلفَاظِ طَائِعَةً. وَأَمَّا إِخْرَاجُ النِّكَاتِ وَالدَّقَائِقِ الَّتِي يَتَنَافَسُ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، وَيَتَفَاوَتُ فِيهَا الْأَذْكِيَاءُ، وَيَتَسَابَقُ فِيهَا الْفُرْسَانُ، وَيُتَغَالَبُ بِهَا فِي الْمَيْدَانِ .. فَطَرِيقُهُ بَعْدَ الاِعْتِمَادِ عَلَى فَضْلِ اللهِ تَعَالَى: أَنْ يُكَرِّرَ إِخْطَارَ الْمَعْنَى فِي ذِهْنِهِ حَتَّى يَأْلَفَهُ، وَيُحَرِّكَ ذِهْنَهُ فِي الْمَعَانِي الْمُنَاسِبَةِ، وَيَنْظُرَ إِلَى السِّيَاقِ، وإِلَى مَجْمُوعِ الْجُمَلِ، وَصِفَاتِ الْمَعَانِي، كَالْإِبْهَامِ، وَتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ، وَحَذْفِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ الْعُلَمَاءُ.

وَإِذَا رَأَى كَلَامَيْنِ فِي مَسْأَلةٍ .. نَظَرَ: هَلْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ أَوْ لاَ؟ وَرُبَّمَا كَانَ مَوْضُوعُ الْكَلاَمَيْنَ مُخْتَلِفًا، لَكِنْ بَيْنَهُمَا قُرْبٌ، فَيَظُنُّ اتِّحَادَهُمَا، فَيَعْتَقِدُ تَنَافِيَ الْكَلاَمَيْنِ (¬1). وَرُبَّمَا اخْتَلَفَ مَسْأَلَتَانِ فِي الْوَاقِعِ مَوْضُوعاً وَحُكْماً، لَكِنْ بَيْنَ مَوْضُوعِهِمَا قُرْبٌ، فَيُعْتَقَدُ اتِّحَادُهُمَا فَيُشْرَكَانِ فِي الْحُكْمِ. وَكَثْرَةُ إِخْطَارِ الْمَعْنَى بَعْدَ ظُهُورِهِ سَبَبٌ فِي سُرْعَةِ حُضُورِهِ بَعْدَ غَيْبَتِهِ عِنْدَ حُضُورِ مَا يُلاَئِمُهُ أَوْ يُنَافِرُهُ. وَإِذَا اشْتَرَكَ مَوْضُوعَانِ فِي جَامِعٍ وَاخْتَلَفَاَ فِي الْحُكْمِ .. نَظَرْتَ لِيَظْهَرَ لَكَ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا. وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى فَهْمِ صَعْبِ الْمَسَائِلِ .. اِسْتِحْضَارُ الْأُصُولِ الَّتِي تَتَفَرَّعُ مِنْهَا (¬2). وَمِنْ عَادَةِ شَيْخِنَا - حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى - إِذَا أَرَادَ أَنْ يُقَرِّرَ ¬

_ (¬1) هذه العبارة ليست عند الشارح. (¬2) هذه العبارة ليست عند الشارح.

كَلاَماً صَعْباً أَنْ يَقُولَ: (أُقَدِّمُ لَكُمْ مُقَدِّمَةً) أَوْ: (هَذَا الْكَلَامُ لَا يَتَبَيَّنُ إِلاَّ بِتَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ). فَإِذَا فَهِمْتَ الْمَعَانِيَ وَأَرَدْتَ تَفْهِيمَ غَيْرِكَ: فَآدَابُ ذَلِكَ أَنْ تُبيِّنَ الْمَعَانِيَ الدَّاخِلَةَ تَحْتَ الْأَلْفَاظِ، ثُمَّ الْمَعَانِيَ الدَّقِيقَةَ بِمَا عَرَفْتَهُ مِنَ الآدَابِ، وَلاَ تَتَّبِعَ الْأَقْوَالَ، فَمَنْ تَتَبَّعَهَا .. لَمْ يَأْتِ مِنْهُ فَائِدَةٌ. وَأَمَّا أَنْوَاعُ الشُّرُوحِ: فَأَحْسَنُهَا: مَا يَشْتَمِلُ عَلَى تَفْسِيرِ كُلِّ كَلِمَةٍ خَفِيَّةٍ عَقِبَهَا، وَضَبْطِ مَا يَخْفَى أَمْرُهُ، وَتَقْدِيرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَكَانِهِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى سَبَبِهِ، وَإِعْرَابِ مَا يَخْفَى إِعْرَابُهُ، وَذِكْرِ الْعِلَلِ وَالْأَدِلَّةِ. وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى بِعِبَارَةٍ أَوْضَحَ مِنَ الْمَشْرُوحِ، مُصدَّرَةً بِـ (نَحْوِ) وَ (الْمَعْنَى كَذَا) أَوْ (كَأَنَّهُ قَالَ كَذَا). وَذِكْرِ الْإِيرَادَاتِ بِأَجْوِبَتِهَا إِنْ كَانَتْ، وَبَيَانِ الرَّاجِحِ أَوِ الأَرْجَحِ مِنَ الْقَوْلِ، أَوْ تَسَاوِيهَا (¬1). ¬

_ (¬1) قوله: (من الأقوال ...) ليست عند الشارح.

وَمِنْهَا: مَا لاَ يَتَعَرَّضُ لِلْمَشْرُوحِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ (¬1) قَوْلَةً قَوْلَةً، وَيَأْتِي بَعْدَ كُلِّ قَوْلَةٍ بِكَلامٍ مُسْتَقِلٍّ يَفْهَمُ مَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ مَعْنَاهَا. وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ، وَلَيْسَ غَرَضُنَا بَيَانَ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ وَلاَ جَمِيعِ الآدَابِ. وَلَكِنْ جُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ آدَابَ الْفَهْمِ: التَّدَبُّرُ وَالتَّأَمُّلُ، وَآدَابَ التَّفْهِيمِ: التَّفْكِيرُ وَالتَّذْكِيرُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} (¬2) الْآيَةَ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ بِقَلْبٍ وَاعٍ .. عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ، كَدَقَائِقِ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ، وَمَحَاسِنِ الآدَابِ وَالْأَخْلاَقِ، الَّتِي لاَ يُحِيطُ بِهَا إِلاَّ الْعَالِمُ بِكُلِّ طَوِيَّةٍ وَخَفِيَّةٍ، وَالْإِنْبَاءِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَكَبَلاَغَتِهِ وَنَظْمِهِ الْغَرِيبِ الْمُخَالِفِ لِسَائِرِ أَسَالِيبِ كَلاَمِ الْعَرَبِ الَّذِي أَعْجَزَ الْفُصَحَاءَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَعَدَمِ اخْتِلَافِهِ مَعَ طُولِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. ¬

_ (¬1) في نسخة الشارح (يذكره) بدل (يذكر). (¬2) في نسخة الشارح (أفلا يتدبرون) فقط.

فَيُسْتَفَادُ بِالْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ كَلاَمٍ تُدُبِّرَ وَتُؤُمِّلَ: اسْتُفِيدَ مِنْهُ عَلَى حَسَبِ التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ (¬1) وَالْكَلاَمِ، فَلَيْسَ كَلَامُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَكَلَامِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ... ¬

_ (¬1) ليست كلمة (التأمل) عند الشارح

وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْ تَأْلِيفِ هَذَا الْمَتْنِ الْمُفِيدِ صُبْحَ يَوْمِ عَرَفَةَ تِسْعَةً مِنْ شَهرِ ذِي الحِجَّةِ خِتَامَ سَنَةِ (1179 هـ) أَلْفٍ وَمِئَةٍ وَتِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ. غَفَرَ اللهُ تَعَالَى ذَنْبَ مُؤَلِّفِهِ وَمَشَايِخِهِ وَوَالِدَيْهِ، وَلِمَنْ قَرَأَهُ وَتَأَمَّلَهُ، وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِكَاتِبِهِ، بِجَاهِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نُسِخَتْ فِي إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ مُحَرَّمٍ الْحَرَامِ افْتِتَاحَ سَنَةِ (1180 هـ). نُسْخَةٌ عَلَى يَدِ أَفْقَرِ الْعِبَادِ مُصْطَفَى سَلاَمَةَ الْكَاتِبِ الْعَطَّارِ. ***

ثمر الثمام

ثَمَرُ الثمامِ شَرحُ «غَايَة الإحكَامِ فِي آدَابِ الْفَهمِ وَالإِفهَامِ» تأليف الإِمَام الْعَلامَة الْمُحَقِّق مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبدِ الْقَادِر السَّنَبَاوي الْأَزْهَرِي الْمَالِكِي الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بـ " الْأَمِير الْكَبِير " رَحمَه الله تَعَالَى (1154 هـ - 1232 هـ)

[خطبة الكتاب]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَبهِ نستعَينُ [خُطبَةُ الكِتَابِ] الحمدُ لله الذي جعلَ لكلِّ شيءٍ آداباً، وأشهدُ أنْ لا إلله إلا الله ربّاً، علَّمنا للمسبَّباتِ أسباباً، وأنَّ محمداً عبدُهُ ورسوله المبعوثُ لكلِّ خيرٍ باباً، صلى الله وسلم عليه وعلى آلهِ أصحاباً وأحباباً. أما بعدُ: فهذا " ثمرُ الثُّمامِ " شرح لـ " غايةِ الإحكامِ في آداب الفهم والإفهام "، نتيجةُ فكر قُرَّةِ العين، المُبرَّإِ إن شاء الله تعالى من كلِّ شين، مولانا الفهَّامةِ الفاضل، والعلاَّمة الكامل، سيدي الشيخِ محمدٍ سبطِ الشيخ عبدِ اللطيف الطحلاوي (¬1)، أبعدَ اللهُ عنَّا وعنه المساوي، حملني عليه مَن لا تسعني مخالفتُه. فأقولُ وأنا الفقير، محمد بن محمد الأمير: ¬

_ (¬1) انظر ترجمته (ص 11).

قال المصنِّفُ كان اللهُ لنا وله: ـ[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]ـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) خُصَّ الاسمُ الشريف بالتقديم في مبادىء ذوات البال، وربما اقتُصرَ عليه من بين سائر الأسماءِ لأمورٍ، منها: قول سيدي أبي العباس المرسي (¬1): (كلُّ اسم لله فهو للتخلُّق إلا اسمَ الجلالة، فإنه لمحضِ التعلُّق) (¬2)، وظاهرٌ أنَّ المقامَ مقام تعلُّقٍ بالله ليُعِينَ على هذا الشيء. قال العارفُ ابنُ عطاء في " لطائف المنن " (¬3) موضِّحاً لكلامِ الشيخ السابق: (إنَّك إذا قلت: يا كريمُ .. قال لك وارد هذا الاسم: مَن يُخاطب الكريمَ .. فَلْيَتَخلَّقْ بالكرم، أو: يا أحدُ .. قيل لك: فلتتوحَّد في كمالك الذي يرضاه لك، وهكذا في كلِّ اسم دالٍّ على صفة، وإنْ أحوج لمزيد إعمال في بعض الأسماء لخفائه، بخلاف اسم الجلالة، ¬

_ (¬1) القدوة، شهاب الدين أحمد بن عمر الأنصاري المرسي، خليفة الإمام أبي الحسن الشاذلي رحمهما الله تعالى، توفي سنة (686 هـ). " لطائف المنن " (ص 24)، " طبقات الشاذلية الكبرى " (ص 61). (¬2) لطائف المنن (ص 212). (¬3) وهو للعلامة صاحب " الحكم " أحمد بن عطاء الله السكندري المتوفى سنة (709 هـ)، ترجم فيه للشيخين الجليلين أبي العباس المرسي وأبي الحسن الشاذلي رحمهما الله تعالى.

فليس إلا للذات التي يُفزعُ إليها في كلِّ شيء، ولا مشربَ فيه للتخلُّقِ) اه بالمعنى موضحا (¬1). ثم لما حصل بالبسملة العملُ بحديثها المشهور، وكذا بحديث الذكر والحمد إلا على رواية " بالحمدُ للهِ " (¬2) على الحكاية، حيث أبقيتْ على ظاهرها .. قال للعمل بذلك قبل الشروع في مقصوده أيضاً: ـ[الْحَمْدُ للهِ الَّذِي مَنَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِمَعْرِفَةِ طَرِيقِ الْعِرْفَانِ، وَوَسَّعَ دَوائِرَ أَفْهَامِهِمْ فَغَاصُوا بِحَاراً، فَاسْتَخْرَجُوا نَفَائِسَ اللُّولُؤِ وَالْمَرْجَانِ.]ـ (الحمدُ للهِ) جملة المقصودُ منها: الإقرارُ بثبوت الثناء لله تعالى، وهذا ألْيَقُ بالأدب من أنْ يقصدَ إنشاء الثناء، كيف وسيدُ البشر يقول: «لا أُحْصِي ثناءً عليك» (¬3). واعلمْ: أنَّ الكلامَ في البسملة والحمدلة شهير، وقد أُفرد بالتأليف (¬4)، ويُخشى الملل، فالإسراع للمقصود أجل. (الذي مَنَّ) أي: تفضَّلَ، ويُحتملُ أنه من المَنِّ بمعنى الافتخار ¬

_ (¬1) انظر " لطائف المنن " (ص 212)، " تفسير الفاتحة الكبير " (ص 181). (¬2) أبو داوود (4840)، ابن ماجه (1894)، وانظر " الأقاويل المفصلة " (86). (¬3) مسلم (486). (¬4) ومن جملة من أفرد التأليف فيها الشارح نفسه كما سيذكر ذلك (ص 102)، وكذا للفخر الرازي رحمه الله تعالى مؤلَّف في ذلك هو " أحكام البسملة ".

بالنعمة، فإنَّ ذمَّه بالنسبة لنا فقط، لكوننا لا فعلَ لنا بالحقيقة (على العلماءِ بمعرفةِ طريقِ العرفانِ) فيه براعةُ استهلال، فإنَّ كتابه هذا في فنِّ آدابِ طريق المعرفة. ثم لمَّا لم يَلزَمْ من معرفة الطريق السلوكُ فيه فضلاً عن الوصول إلى المقصود .. قال لإفادةِ ذلك معَ الترتيبِ الحسن: (وَوَسَّعَ دوائرَ أفهامِهِمْ فغاصوا بحاراً، فاستخرجوا نفائسَ اللُّولؤِ والمَرجانِ) الدوائر: جمع دائرة، وهي عند المهندسين: سطحٌ في وسطه نقطةٌ يحيط به خط، كلُّ الخطوط من النقطة للمحيط مستويةٌ، والنقطة قُطْبُها، والخطوط أنصافُ أقطارها، وهي أُسُّ الأشكال المحيط بها كثرُ من خطٍّ كلها مُقْتطعةٌ منها على ما قُرِّرَ عندهم، وقد تطلقُ الدائرة على الخطِّ المحيطِ أيضاً. وفي اللولؤِ لغاتٌ أربع: - بالهمز في الموضعين، وبه قرأ الجمهور. - وبالواو فيهما، وهو وجه عن حمزةَ في الوقف (¬1). - وبالواو في الأول والهمزِ في الثاني، وهي روايةُ السوسي (¬2) وشعبة (¬3). ¬

_ (¬1) المقرىء الشهير أبو عمارة، حمزة بن حبيب الزيات، توفي سنة (156 هـ). انظر " أحاسن الأخبار " (ص 152). (¬2) أحد رواة ابن العلاء، أبو شعيب، صالح بن زياد السوسي، توفي سنة (261 هـ). انظر " أحاسن الأخبار " (ص 258). (¬3) أحد رواة عاصم، أبو بكر بن عياش الأسدي الكوفي، توفي سنة (193 هـ). انظر " أحاسن الأخبار " (ص 295).

- وعكسه، ولا أعلم أحداً قرأ به (¬1). والتجوُّزُ في الفقرة غيرُ خفي، وتشبيه العلوم باللولؤ نظراً للإلفِ والعادة، وإلا .. فهي أعلى وأغلى. ولما وردَ في الحديثِ: «كلُّ خطبةٍ ليسَ فيها تشهُّد فهيَ كاليدِ الجذماءِ» (¬2) .. قال: ـ[وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً نَنَالُ بِهَا بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الإِيقَانِ.]ـ (وأَشْهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، شهادة ننالُ بها بفضلِ اللهِ تعالى) إشارةً لبعض ما جُمع به بين حديثِ: «لن يدخلَ أحد منكم الجنةَ بعمله» (¬3)، وقولهِ تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من أنَّ المنفيَّ عن العملِ السَّبَبِيّهُ الاستقلالية. إن قلتَ: قد علَّقَ حَرْفَي جرٍّ بعاملٍ واحد. قلتُ: تُجعل إحدى الباءين للسببيَّة والأُخرى للمعيَّة (¬4)، علما أنَّ ¬

_ (¬1) إتحاف فضلاء البشر (2/ 510). (¬2) أبو داوود (4841)، الترمذي (1106). (¬3) رواه أحمد في " مسنده " (2/ 56)، وأصله في " البخاري " (5673)، و" مسلم " (2816). (¬4) فباء السببية هي الواردة في الحديث، والأخرى - وتسمى باء المقابلة - هي التي ذكرت بقوله سبحانه: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

بعضهم اكتفى بملاحظةِ أنَّ الجارَّ الأول يتعلَّق بالعاملِ وهو مُطلَق، والثاني يتعلَّقُ به بعدَ تقييده بالأول (¬1). (أعلى درجاتِ الإيقانِ) اللائقِ بالحالِ على ما تقتضيه الحكمة، وإلاَّ .. فالأعلى المطلق إنما يكون لخاصَّةِ الخواصِّ، على أنَّ ما من كمالٍ إلا وعندَ الله ما هو أكملُ منه. ودرجاتُ اليقين: - علمُ اليقين: كعلمِ مَن لم يذهب مكةَ بها بالتواتر. - وحقُّ اليقين: كعلمِ مَن سافرَ حتى رآها. - وعين اليقين: إذا دخلَها، وعرف طرقَها ودورها وما اشتملت عليه تفصيلاً. وبعضهم يضمُّ الثانية للثالثة ويقول بمرتبتين فقط. وفي " حواشي شرح كبرى السنوسي " ما يقتضي أنَّ حقَّ اليقين أعلى من عين اليقين، وهو: - أن علمَ اليقين: ما كان من طريق النظر والاستدلال بقاطع البرهان. - وعين اليقين: ما يحصُلُ عن مشاهدة العيان، ومن طريق الكشف والنوال. - وحق اليقين: تحقيقُ صورة العيان، ويكونُ بتحقيق الانفصال عن ¬

_ (¬1) فعاد الأمر لنفيِ السببية الاستقلالية، إذ أصل الدخول للوعد بمقابلة العمل، لا العملُ ذاته.

لوثِ الصلصال بورود زائد الوصال (¬1). ثم لمَّا جمعَ اللهُ تعالى ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم مع ذكره في مواطن كثيرة، وقد فُسِّرَ به {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}، وانظر الدخول في الإسلامِ، حتى قيل للشهادتين شهادة .. قال: ـ[وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ألَّذِي أُوتِيَ أَنْوَاعَ الْحِكْمَةِ وَالتِّبيَانِ.]ـ (وَأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمداً عبدُه ورسولُهُ الذي أُوتيَ أنواعَ الحكمةِ) أي: العلم النافع المصيِّر للعمل، كذا في " تفسير الجلال " (¬2). وأما الحكمةُ باصطلاحِ الرِّياضيين .. فقال الشريفُ الحُسَيني على " هداية أثير الدين الأبهري " (¬3): (الحكمةُ: هي العلم بأعيان الموجودات على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية، تنقسم بالأول إلى: ¬

_ (¬1) وفي (عوارف المعارف " (2/ 899): (رائد) بدل (زائد). (¬2) وهو يفسر معنى (الحكمة)، انظر " تفسير الجلالين " (1/ 43)، وقوله: (وانظر الدخول في الإسلام) إذ هو أمر لا يتجزَّأ، فلا بد من النطق بالشهادتين معاً، ولهذا المعنى نعتوا الشهادتين بالشهادة دون اعتبار فرعيها. (¬3) وهو كتاب " هداية الحكمة " لأثير الدين المفضل بن عمر الأبهري المتوفى سنة (660 هـ)، وشرحه الشريف حسن معين الدين الحسيني، ومحمد بن إبراهيم الشيرازي. انظر " معجم المطبوعات " (1/ 290 - 291).

- نظرية: يُقصدُ بها ما حصل بالنظر من العلوم والإدراكات. - وعملية: تتعلَّق بكيفيةِ العمل. فالنظرية: علم يبحثُ فيه عمَّا إلينا علمُها لا عملُها، كالسماءِ والأرض. والعملية: علم يُبحثُ فيه عمَّا إلينا علمُها وعملُها، كالأفعال الصادرةِ عنَّا. وكلُّ واحدةٍ منهما ثلاثةُ أقسام: - أما النظرية: فلأن ما لا يتعلَّقُ بأعمالنا إمَّا: • ألاَّ يفتقرَ في وجوده إلى المادة، كذات الحقِّ تعالى، وَوَصْفِ ألوهيته، والوحدةِ والكثرة، والعلَّةِ والمعلول، والكليةِ والجزئية، وما أشبَه ذلك. وهو العلم الأعلى، لتنزُّهِهِ عن المادة وعوارضها التي هي مبدأُ القوة والنقصان، الموسوم بـ " الإلهي " تسميةً للشيء بأشرفِ أجزائه. • أو يفتقرَ فيه إليها، وحينئذٍ إما: أن يُمكنَ تجريده عنها في الذهنِ والتعقُّل، كالتدويرِ والتربيع، والكُرويةِ والمخروطيةِ، فإن فهمَ هذه الأمور لا يتوقَّفُ على جِرمٍ معيَّنٍ، كالخشبِ مثلا، وإن كانت لا تكونُ إلا في جرمٍ معيَّني (¬1). ¬

_ (¬1) فالتدوير والتربيع ونحوها يمكن تجريدها عن المادة في الفهم، غير أنها لا تنفك في وجودها عنها.

وهو العلمُ الأوسط، لتنَزُّهِهِ عن المادة بوجهٍ ما، الموسومُ بـ " الرياضي "، لأنهم كانوا يفتتحون به في التعاليمِ، فكان رياضةُ النفس بها أولاً. • أو لا يمكن، كالإنسانِ مثلاً، فإنك لا تفهمه إلاَّ وتحتاجُ إلى أن تعرفَ صورتَهُ في لحمٍ وعظمٍ. وهو العلمُ الأدنى، لاحتياجه إلى المادةِ مطلقاً، وليس يمكن أن يكونَ الشيءُ محتاجاً للمادة في الذهنِ دونَ الخارج، الموسومُ بـ " الطبيعي "، لكونه باحثاً عن الجسمِ الطبيعي. - وأما العملية: فإنها إما: • علم يتعلَّقُ بالانفراد، وهو علمُ الأخلاق، ويتعلَّق بكمال الشخصِ في نفسه بحسَبِ القوة العملية، لأنَّ الحكمةَ النظرية كمالٌ له في نفسه بحسب القوة العلمية. • أو علم يتعلَّقُ بالاجتماع الخاص، وهو تدبيرُ المنزل، ويتعلَّقُ بكمالِهِ العملي أيضاً، لكن بالقياس إلى الاجتماع الخاصِّ، وبه تنتظمُ المصلحةُ التي بها يكون الازدواجُ بين زوجٍ وزوجة، ووالدٍ وولده، ومالكٍ ومملوكه. • أو علم يتعلَّقُ بالاجتماعِ العامِّ، أعني: معرفةَ كيفيَّةِ المشاركة بين أشخاصِ الناس على العموم، وهو سياسةُ المدن، والفائدةُ، فيه: أنْ يتعاونوا بالاجتماعِ على المصالح التي بها بقاءُ نوع الإنسان، فهو أيضاً من تتمة تكميل القوة العملية.

فهذه جملةُ أقسام الحكمة. {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} وأما المنطقُ: فهو خارجٌ عنها، بل هو آلةٌ لتحصيلها، اللهمَّ إلا أن تفسرَ الحكمة بخروج النفسِ إلى كمالِها الممكن في جانب العلم والعمل، فحينئذ يدخلُ فيه المنطق، بل العملُ أيضاً) اه. (والتِّبيانِ) أي: تبيين تلك الحكمةِ للأمة، ويحتملُ أنه مبالغةٌ في البيان بمعنى المنطق الفصيح، على قاعدة: زيادة الحروف (¬1). ـ[وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ خُصُّوا بِدَقَائِقِ الْعُلُومِ مِنَ التَّأَمُّلِ فِي آيَاتِ الْفُرْقَانِ.]ـ (والصلاةُ والسلامُ) يرجعان إلى زيادة التعظيم، ومن البعيد حملُ السلامِ في مثلِ هذا على اسمه تعالى، أي: اللهُ راضٍ (¬2). (عليه) الضميرُ للذي سبقت الشهادةُ له بالعبودية والرسالة، ثم هذا من التنازعِ إن أجزناه بين العواملِ غير المُشتقَّةِ (¬3)، أو من مجرَّدِ ¬

_ (¬1) زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. (¬2) انظر " حاشية المصنّف على شرح عبد السلام على الجوهرة " (ص 9). (¬3) فكل من الصلاة والسلام يطلب معمولاً هو متعلَّق الجار والمجرور على قول من أجاز إعمال الجامد وإن لم يضمَّن معنى المشتق، وعليه يكون المتعلق مفرداً لا مثنى، وإلا .. فيجب تقدير المتعلق مثنى كما بيَّن.

الحذف لدليل (¬1)، أو يقدَّر المتعلق مثنىً. (وعلى آله) أي: أتباعه، قدَّمهم وأتى بـ (على) لقولهِ صلى الله عليه وسلم في تعليم الصلاة عليه: " قولوا: اللهمَّ، صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ " (¬2)، على أنَّه عطفٌ على ضميرِ خفضٍ (¬3). (وصَحبِه) الذين اجتمعوا به، عطفٌ خاصّ لشرفِه. (الذينَ خُصُّوا) تخصيصاً نَسْبيّاً، صفة للصَّحْبِ، ويحتملُ حذفُ مثلِه من " الآل " (¬4). (بدقائقِ العلوم) مِن إضافةِ الصفةِ، أو على معنا " مِن " (¬5). وأصلُ العلم: الإدراكُ، لأنه مصدرٌ، ويُطلقُ حقيقةً عُرفيةً على المَلَكاتِ والقواعدِ، و (مِنْ) في قوله: (مِن التَّأَمُّلِ) تعليليةٌ، أو ابتدائية (في آياتِ) جمعُ آية، يحتملُ أنَّ المرادَ بها الجملة من القرآن المُعبَّر عنه بـ (الفُرقان) لِفَرقِه بين الحقِّ والباطلِ، ويُحتملُ أنَّها بمعنى مُطلقِ العلامة، والفرقانُ بمعنى مطلقِ فارق، على حَدِّ: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}. ثم دعا بالرِّضا لمن اندرجَ في المتقدِّم، لأنَّ مقامَ الدعاء يقتضي الإطنابَ، أو أنه أراد بـ (الآل) سابقاً الأقاربَ، فقال: ¬

_ (¬1) أي: حذف المتعلق الثاني لدلالة المتعلق الأول عليه، فلم تعد المسألة من باب التنازع. (¬2) البخاري (3370)، مسلم (405). (¬3) أي: عطف (وعلى آله) على الضمير الظاهر المنخفض في (عليه) وهو جائز على قول. (¬4) وعليه: يشمل التخصيص بهذا الوصف الآل والصحب معاً. (¬5) فالتقدير: (بعلومِ الدقائقِ) أو (بدقائق من العلوم).

ـ[وَرَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ بِإِحْسَانٍ.]ـ (وَرضيَ اللهُ تعالى عن التابعين وَمَنْ تبِعَهُمْ مِنَ المؤمنينَ والمؤمناتِ) متعاقبين طائفةً بعد طائفة (إلا) قُرْبِ (يومِ الدِّينِ) حتى يأتيَ أمرُ الله، وتنقرضَ الطائفة الظاهرين على الحق (بإحسانٍ) ولو أصلُ الإيمان، ليعُمَّ الدعاء. ـ[وَبَعْدُ: فَيَقُولُ الْفَقِيرُ الْمُشْفِقُ مِنْ سُوءِ ألْكَسْبِ وَالْمَسَاوِي، مُحَمَّدُ عَبْدُ اللَّطِيفِ الطَّحْلاَوِيُّ - غَفَرَ اللهُ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ، وَمَشَايِخِهِ وَمُحِبِّيهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَإِخْوَانِهِ وَجَمِيعِ آلْمُسْلِمِينَ -:]ـ (وَبَعْدُ) أتى بالواوِ كغيره اختصاراً وإن كان الواردُ عنه صلى الله عليه وسلم: «أما بعد» (¬1). (فيقولُ الفقيرُ) أي: المحتاجُ بأصلِ الطبع كما هو حقيقةُ كلِّ حادثٍ في كلِّ شيء (المُشْفِقُ) أي: الخائفُ (مِنْ سوءِ الكَسْبِ) أي: الميل ¬

_ (¬1) البخاري (7)، مسلم (761).

والاختيار للأمور، أو مكسوبِهِ مِن الأعمال (والمساوي) جمعُ مساءة، ما يُذَمُّ التلبُّسُ به فيسوءُ صاحبه، وهو أعمُّ مما قبله، فإنه يشمل المجبول غير المكتسب، كالغضبِ والطمع (محمدُ عبدُ اللطيف) هو جده أبو أمه، وآثرَ النِّسْبةَ إليه دون أبيه لأنَّ أباه كانَ جُندياً، وجُدُّهُ من الفقهاءِ، وهو - حفظه الله - محبّ للعلم والعمل والنِّسبةِ إليهما، حتى إنَّا لنرجو - كما عَلِمْنا ولا أُزكِّي على اللهِ أحداً - أنَّه ممن يُظلُّ تحت العرش، حيثُ نشأَ في عبادة الله، سلك الله بنا وبه فيما يرضاه. بقيَ أنَّ هذا التركيبَ كثُرَ في كلامِ المُوَلَّدِين ولا أعلمه في كلام العرب الآن. وتخريجُه: على حذف المضافِ وإبقاءِ المضافِ إليه على جرِّه أو إقامته مقامه، والأصلُ (ابنُ عبدِ اللطيف)، ثم يصحُّ حذف تنوينِ (محمدٌ) نظراً للأصلِ وعدمه، أو على أنَّ (محمداً) مضافٌ لـ (عبد) على معنى اللام، أو أنَّ (عبد) خبر لمحذوف، أو خبره محذوف، أي: عبدُ اللطيفِ أبوه مثلاً، أو أنَّه نزَّلَ اسم الأصلِ منزلةَ لقبٍ له بجامعِ التمييز، فيُعْرَب عطفَ بيانٍ، أو أنَّ الاسمين رُكبا على هذا المسمى، لكن حكيَ حالَ التفكيكِ فيهما، لكن هذا يظهرُ في نحو: محمدٌ منصورٌ، لا ما هنا، لأنهم لا يُرَكِّبون أكثر من كلمتين. (الطَّحْلاويُّ) نسبةً لـ (طحلةَ) بلدة من أعمالِ مصرَ (¬1)، منها جدُّه ¬

_ (¬1) وذكرها العلامة الحافظ الزبيدي في " تاج العروس " (ط ح ل) فقال: (وطحلاء قريتان، بل ثلاث قرىً بمصر، من أعمال الشرقية، من إحداها - وهي المشهورة المشرفة على النيل - شيخنا المفنن المحدث، أبو علي عمر بن علي بن يحيى بن مصطفى المالكي الطحلاوي).

المتقدِّم (غفرَ اللهُ لهُ) أصلُ الغَفْرِ: السترُ. والمرادُ به: ترك المؤاخذة على الذنبِ على ما يشهدُ له حديثُ قولِ اللهِ سبحانه لعبد المؤمنِ يومَ القيامة بينه وبينه: " أنا سترتُها عليك في الدنيا، وأنا اليوم أغفرُها لك " (¬1). (وَلوالدَيه) بفتح الدال أو كسرِها، أي: كل مَنْ له عليه ولادة من أهل المغفرة. والمراد بالوالد: الشخص، أو أنه غلَّب المذكَّرَ. (وَمشايخِهِ) الذين هم والدو الروح، وقدَّم الوالدين لكثرةِ الحضِّ على حقِّهما في صريح الكتاب والسنة، وإن قيل: إن الشيخَ أكثرُ حقّاً، لتربيته الروحَ الباقية، وسمعتُ من شيخنا (¬2)، عن النووي (¬3): أنَّ عاقَّ شيخِه لا تقبلُ له توبة (¬4)، وفي النفس منه شيءٌ، فإنَّ اللهَ تعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ ¬

_ (¬1) البخاري (2441)، مسلم (2768). (¬2) شيخه هو العلامة علي العدوي المالكي الصعيدي صاحب الحواشي المشهورة، والمصنف قد لازمه قرابة عشرين سنة، وستأتي ترجمته من قِبَل المؤلف (ص 122). (¬3) الإمام الجليل محيي الدين يحيى بن شرف الدين النووي، توفي سنة (676 هـ). (¬4) حكى الإمام النووي هذا القول في " تهذيب الأسماء واللغات " (2/ 514) عن أبي سهل الصعلوكي، ولفظه: (عقوق الوالدين تمحوه التوبة، وعقوق الأستاذ لا يمحوه شيء البتة)، وفي " الرسالة " (ص 538): (عقوق الأستاذين لا توبة عنها) والمراد: أنه لا يوفق للتوبة، لا أنه يتوبُ ولا يتوب الله عليه. ورواه بسنده الأمام الناشري في " موجب دار السلام " (ص 190). وما ذكره الشيخ المصنف رحمه الله تعالى حكاه شيخه العدويُّ في " حاشيته على شرح كفاية الطالب " (1/ 436).

الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وسمعتُ ذلك عن غيره في اللواط أعاذنا الله منه، وفيه البعدُ السابق متى وُجِدَتْ حقيقةُ التوبةِ المشهورة، وكثيرا ما يُنازعُ والدي - جزاه الله عني خيرا - في تفضيل شيخ الشخصِ على والده. وممَّا يناسبُ المقامَ أيضا ما يرتضيه شيخنا من جوازِ مخالفة الوالدين في طلب العلم ولو غيرُ العينيِّ (¬1)، وفيه البعدُ السابق أيضا. وتحقيق المقام: أن الشيخَ الحقيقي المُمِدَّ في الظاهر والباطن أفضلُ حقّا بوراثة: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، ولو اطَّلَع على ذلك الشيخُ، وما أسداه .. ما ساغ أحدا إنكار أفضليته. وأمَّا شيخُكَ في لفظة، أو شيءٍ من التمشدُقِ (¬2)، أو ما تكادُ لا تضطرُّ إليه .. فالوالدُ أفضلُ حقّاً منه، فإنه جَهِدَ فيك أكثرَ منه، ولولا ذاك .. ما كان هذا غالبا، ولا عكْسَ، فقد شاركَ شيخَكَ في عملِهِ في التسبُّبِ، والدالُّ على الخيرِ كفاعله (¬3). واختصَّ بما باشر، على أنَّه أوَّلُ مشايخِكَ غالباً، فإنه يرشدُك إلى أصول الدين، وتلقين الشهادة، والأذكار، والآداب المُحتاج إليها من صغرك. نسألُ اللهَ بمنّه التوفيقَ لإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه مع القبولِ والرضا، والعفوِ عمَّا جرى به القضا. ¬

_ (¬1) حاشية العدوي على شرحه لمختصر خليل. (¬2) التمشدق: طلبُ التفصُّح في الكلام. (¬3) كما في " مسلم " (1893).

(ومُحِبِّيْهِ وذُرِّيَّتِهِ) أي: نسله، وذرُّ كلِّ شيءٍ: الصغارُ منه، بفتح الذال، فكأنها نسبةٌ على غير قياس (¬1). (وإخوانِهِ) جمع: أخٍ من صحبة أو قرابة. (وجميع المسلمينَ) وتحققُ الوعيدِ في العاصي لا يلزمُ ولا في واحد حيثُ قُدِّرَ تعليقُهُ على المشيئة. ولئنْ قلنا: آياتُ الغفران مُخَصَّصةٌ ولا بدَّ من تحقُّقِ العامِّ ولو في واحدٍ .. فَلْيَكُنْ من الكفار، أو يُراد جميعُ المسلمين غيرَ مَنْ أريد تحقُّقُ الوعيدِ فيه. ـ[لَمَّا وَفَّقَ اللهُ تَعَالَى لِوَضْعِ شَيْءٍ بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ فِي آدَابِ الْفَهْمِ وَالتَّفْهِيمِ وَنَحْوِهِ .. اطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ بَرَعَ أَقْرَانَهُ - إِنْ شَاءَ اللهُ- فِي الْفَضْلِ وَالْفَهْمِ الْمُنِيرِ، لاَ زَالَ اللهُ لَنَا وَلَهُ بِاللُّطْفِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ.]ـ (لمَّا) وما بعدها مقولُ القول، وجملةُ الدعاءِ معترضة (وَفَّق الله تعالى لِوَضْعِ شيءٍ) يعني: لما وضعتُ شيئاً بتوفيق اللهِ، لكن لمَّا كان توفيق اللهِ للشيء يستلزمُ حصولَه .. عبَّرَ بما عبَّرَ، وتبرُّؤاً وهضماً لنفسه أنْ يُسندَ له وضعاً، ولهذا المعنى عبَّرَ بـ (شيءٍ). ¬

_ (¬1) أي: كلمة (ذُرِّيّ) وتأنيثها (ذُرِّيَّة)، إذ القياس أن تكون بفتح الذال لا بضمِّها، غير أنه نسبٌ شاذّ لم يجىءْ إلا مضموم الأول.

(بعدَ الاستخارةِ) أي: طلب الخِيرة من اللهِ تعالى في كيفيَّةِ الوضع، أو أصله لاحتمال الاستغناء عنه، أو أنَّ غيرَه أولى (¬1). (في آدابِ) مُتعلق بـ (وضع)، أو صفة لـ (شيءٍ)، والآداب - جمع أدب -: ما يحمد المتلبِّسُ به، كوَلَدٍ وأولادٍ، وبَطَلٍ وأبطالٍ (الفهْمِ) في النفس (والتَّفْهيمِ) للغيرِ (وَنحوِهِ) كمقدمةِ الآداب، ويحتملُ أنْ يريدَ به أنواعَ الشروح، لكن الظاهر إدخاله في آداب التفهيم. (اطَّلَعَ عليهِ) (¬2) جواب " لمَّا " (بعضُ مَنْ برعَ) أي: فاقَ (أقرانَهُ إنْ شاءَ اللهُ) تعالى (في الفضْلِ) أي: الزيادة في الخير (والفَهْمِ المنيرِ) لا يخفى التشبيهُ بجامع الاهتداء (لا زالَ اللهُ لنا) الأحسن في مثل هذا الضميرِ أنه للمتكلم مع غيره من المسلمين، مع ملاحظتِهِ أولاً، فيجمعُ بين البداءةِ بالنفس والتعميم في الدعاء، ويكونُ ما بعده من عطفِ الخاصِّ، أو يلاحظُ في الأوَّل ما عداه. (ولهُ باللُّطفِ) أي: الرفق (وَحُسنِ التدبيرِ) كاد العطف أن يكونَ مرادفا، إذ التدبيرُ بالنسبةِ للهِ تعالى: إيقاعُ الأمور على الوجه الأحكم، والدعاءُ به إمَّا عبادة وإن كان هو شأنُهُ، أو لأنه لا يُسأَلُ عمَّا يفعل، نسألُهُ ما هو أليقُ بنا فضلاً. ¬

_ (¬1) فكانت الاستخارة لتعيينه، دون النظر إلى أصل الوضع أو كيفيته. (¬2) المراد: هو العلامة الأمير صاحب الشرح المنعوت بـ " ثمر الثُّمام " كما سيأتي صُراحاً تخصيص الدعاء له بعد أسطر قلة.

وعناني - حفظه الله - بهذا البعض، وأقولُ اقتداء بالصدِّيقِ رضي الله تعالى عنه: (اللَّهُمَّ، اجعلني خيراً مما يقولون، واغفرْ لي ما لا يعلمون) (¬1). وقد نظرَ هذه الرسالةَ وهي معيَ بعضُ الأذكياء فقال: عندي أنَّ هذا دور، إذ لا تُفْهم إلا بآدابٍ، فقلتُ له: هي كالشاةِ من أربعين، تُزكِّي نفسَها وغيرَها!! ـ[وَاسْتَحْسَنَهُ وَأَمَرَنِي أَنْ أُسَمِّيَهُ بِـ: " غَايَةُ الِإحْكَامِ فِي آدَابِ الْفَهْمِ وَالإِفْهَامِ " فَامْتَثَلْتُ أَمْرَهُ، وَسَمَّيْتُهُ بِذَلِكَ بَعْدَ إِعَادَةِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضُوعِ.]ـ (وَاسْتَحْسَنَهُ) أي: عدَّهُ حسناً ونسبَه للحُسْنِ، وهذا أحد استعمالاتِ (السين والتاء)، وتأتي للصيرورةِ، ومنها المطاوعة، وللطلبِ، وزائدة للتوكيد (¬2). ¬

_ (¬1) مصنف ابن أبي شيبة (36853). (¬2) فمثال الصيرورة: استنسر البُغاث، واستنوق الجمل، ويدعى بالتحول كذلك، ومثال المطاوعة: أحكمت الأمرَ فاستحكم، أي: مطاوعة فعله، ومثال الطلب: استغفر واستطعم، ومثال الزيادة للتوكيد: استقام بمعنى قام. انظر " همع الهوامع " (3/ 306)، " تفسير البحر المحيط " (1/ 13، 26).

(وَأمرني أنْ أُسَمِّيَهُ بـ " غايةُ) أي: نهاية (الإحكامِ) - بكسرِ الهمزةِ - أي: الإتقان (في آدابِ الفَهمِ والإفهامِ " فامتثلتُ أمرَهُ) هوَ ونحوه، من التجوزِ في النسبةِ الإيقاعية، أي: أطعته في أمره. (وَسَمَّيْتُه بذلكَ) توضيحٌ لِمَا قبله، واشتُهِرَ أنَّ أسماءَ العلوم أعلامُ أشخاصٍ، وأسماءَ الكتبِ أعلامُ أجناس، وبحثَ فيه بعضهم بأنه تحكُّمٌ، إذْ كلاهما قابلٌ لتعدُّدِ الشيءِ بتعدُّدِ محلِّهِ وعدمهِ (¬1). (بعدَ إعادةِ النظرِ) بالبصيرةِ أو معَ البصرِ (في ذلك الموضوعِ). ـ[فَهَذَّبْتُهُ عَلَى قَدْرِ ألطَّاقَةِ، وَزِدْتُ عَلَيْهِ مَا يَسَّرَهُ اللهُ تَعَالَى، وَرَتَّبْتُهُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَبَابٍ:]ـ ¬

_ (¬1) وهذه مسألة تدور في كثير من مقدمات الشروح والحواشي، والمراد بأسماء العلوم: كالنحو والفقه والتفسير، والمراد بأسماء الكتب: عناوينها، كالكتاب لسيبويه، والكافية والشافية لابن الحاجب، والسؤال: هل هذه الأعلام من قبيل علم الجنس أو علم الشخص؟ قال العلامة الشرواني في " حاشيته على تحفة المحتاج " (1/ 35): (والتحقيق: أن كلاّ من أسامي العلوم وأسامي الكتب من حيز علم الجنس، لاتفاق الحكماء والمتكلمين على أن لمحال الأعراض مدخلاً في تشخُّصِها). وعند العلامة العظم في " السر المصون على كشف الظنون " (ص 61): (اعلم أن الذي عليه المعول في أسماء العلوم والكتب أنها أعلام شخصية لتلك الألفاظ ... ، واختلاف اللافظ وتعدده كتعدد أمكنة زيد، لا يغير تشخُّصه، لأنها غير معتبرة فيه ... ، وفي " شرح الفوائد الغياثية ": أسماء العلوم كأسماء الكتب أعلامُ أجناس عند التحقيق وضعت لأنواع وأعراض تتعدد لتعدد محالها القائمة بها).

(فهذَّبْتُهُ) بِأَنْ طرحتُ منه ما ينبغي طرحُهُ (على قَدْرِ الطاقةِ) أي: الوُسْع والقدرة البشرية. (وَزِدْتُ عليهِ ما يسَّرَهُ اللهُ تعالى، وَرَتَّبْتُهُ) الترتيبُ: وضعُ الأشياء في مراتبها، والظاهرُ أنه هنا بمعنى: قسَّمته. و (على) في قوله: (على مُقَدِّمَةٍ وبابِ) بمعنى: (إلى)، ويُلاحظُ الإجمالُ والتفصيلُ. ـ[فَالْمُقَدِّمَةُ فِي: أَقْسَامِ ألْمَعَانِي. وَالْبَابُ فِي: الآدَابِ وَنَحْوِهَا.]ـ (فالمُقَدِّمَةُ: في أقسامِ المعاني) يعني: من حيثُ ما يدلُّ عليها، كما يأتي. (والبابُ: في الآدابِ ونحوِها) كأنَّه أرادَ بهِ ما يتعلَّقُ بالشُروح. ـ[وَإِنَّمَا رَتَّبْتُهُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الطَّالِبَ إِذَا عَرَفَ الْمَعَانِيَ إِجْمَالاً .. نَهضَ لِطَلَبِ آدَابِ تَحْصِيلِهَا، فَكَانَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ بَاعِثَةً عَلَى فَهْمِ الْبَابِ.]ـ (وَإنَّما رتَّبْتُهُ على ذلكَ) ولم أقتَصِر على الآداب، ولا جعلتُها معَ

أقسامِ المعاني مختلطةً، ولا أَخَّرْتُ أقسامَ المعاني، بل ذكرتُ أقسامَ المعاني أولاً ثم الآداب، (لأن الطالبَ إذا عرفَ المعاني إجمالا) في المُقَدِّمةِ .. (نَهَضَ) أي: تشوَّقَ بسرعةٍ (لِطلب آداب تحصيلها) المذكورةِ في الباب (فكانت هذهِ المُقَدِّمةُ باعتةً على فَهمِ الباب). ولمَّا استشْعَرَ سؤالاً هو: أنَّ الطلبةَ المُشتغلين بالعلومِ قد تحقَّقُوا بهذه الآداب بتربية الأشياخِ لهم وحسنِ تبصُّرِهم، فهم يعلِّمون غيرَهم كما تعلَّموا، فلا حاجةَ لهذا الوضعِ .. أجابَ عنه بقوله - ـ[وَضَعْتُهُ لِنَفْسِي وَلِمِثْلِي مِنَ الْمُبْتَدِئِينَ، حَمَلَنِي عَلَى ذَلِكَ - وَإِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَهْلاً- أَنَّ الطَّالِبَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ الْفَهْمِ إِلاَّ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، كُلٌّ عَلَى حَسَبِهِ.]ـ (وضَعته لنفسي ولمثلي مِنَ المبتدئينَ) في العلم، بياءٍ مُشدَّدةٍ (¬1)، أو همزٍ محقَّقٍ أو مُسَهَّلٍ. (حملني) أي: بعثني ووجَّهني، فـ (على) في قوله (على ذلك) بمعنى: (إلى). و (الواو) في قوله: (وإنْ كنت لستُ أهلاً) واو الحال، و (إن) زائدة. ¬

_ (¬1) أي: المبتدئين.

(أنَّ الطالبَ لا يعلمُ كيفتةَ الفهمِ) تُسمَّى صِفةُ الشيءِ: كيفية، لأنه يُسألُ عنها بـ (كيف)، كما يُسمَّى قدرُهُ: كمية، وعِلَّتُه: لميَّة (¬1) (إلا بَعدَ مدةٍ) اسمٌ لجملةٍ من الزمنِ، لامتدادها (طويلةٍ) والطولُ مقولٌ بالتشكيك، كما أشار له بقوله: (كُل على حسبِه) ذكاءً وبلادةً. ـ[فَرَجَوْتُ اللهَ تَعَالَى فِي تَسْهِيلِ الْفَهْمِ عَلَى مَنْ فَهِمَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ، لَكِنْ لاَ يَعْلَمُهَا الْقَاصِرُ مِنَ الْمُبْتَدِئِينَ.]ـ (فَرَجَوْتُ اللهَ تعالى) الرجاءُ: تعلُّق بما أخذَ في سببه، وقد أخذ في السبب بوضع هذا الموضوع (في تسهيلِ الفهمِ على مَنْ فهمَ هذهِ الكلماتِ) أي: تسهيله على نفسه وعلى غيره، وهو الإفهامُ، وتيسُّرُهُ بفهم شيءٍ قليل، كما أشارَ له بجمع القلَّةِ، والإشارةِ القريبةِ .. أقربُ من الصبرِ لقراءة كتب شتَّى في أزمنةٍ مختلفةٍ في فنونٍ متغايرة، فإنَّ ما جمعه - حفظه الله تعالى - في هذه الرسالة لا يتحقَّقُ به الشخصُ إلا بذلك. وأمَّا قوله: (وهيَ وإنْ كانتْ ظاهرةً عندَ المحصِّلينَ لكنْ لا يعلمُها القاصرُ مِنَ المُبْتَدئينَ) فمعلومٌ ممَّا قبله، لكنْ مقامُ الاستعذارِ لا يجبُ فيه الاختصار، بل يُسْتَحْسَنُ البَسْطُ. ¬

_ (¬1) فإنه يُسألُ عنه بـ (لم).

ـ[مُتَوَكِّلاً عَلَى مَنْ بِيَدِهِ الأَمْرُ كُلُّهُ، وَاثِقاً بِهِ، مُعْتَمِداً عَلَيْهِ، صَارِخاً بِعَجْزِي وَفَقْرِي وَذُلِّي وَضَعْفِي.]ـ (مُتَوكِّلاً) يقالُ: وَكَلَ أمرَهُ يَكِلُه لفلانٍ، إذا تركه له، وصيغةُ التَّفَعُّلِ للتمامِ والمبالغة، ويُعَدَّى بـ (على) لتضمينِهِ معنى الاعتماد، فمعنى (توكلتُ على الله): فوَّضْتُ أمري له معتمداً عليه، وهو حالٌ مِن فاعل: (وضعتُ) أو (رجوتُ اللهَ)، فيكون قوله: (على مَنْ بيده الأمرُ كلُّه) إظهاراً في محلِّ الإضمار (¬1)، ولطولِ الفصلِ، ولأنَّه أدعى للتوكُّلِ وأقربُ للإجابة. (واثقاً) مُتمسِّكاً (به، مُعْتَمِداً عليهِ) كلاهما كالتأكيدِ للتوكُّل (صارخاً) أي: سائلاً بلهفةٍ، ملتبساً (بعجزي وفقري، وذُلِّي وضعفي) الأربعة متقاربة، ويحتملُ أنه ظرف لغو متعلِّقٌ بـ (صارخ). ـ[وَاللهَ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنِي لِعَيْنِ الصَّوَابِ، وَيَهْدِيَنِي إِلَيْهِ، وَيَعْصِمَنِي مِنَ الْخَطَإِ وَالزَّلَلِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصاً لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسَبَباً لِلإِقَامَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ.]ـ (واللهَ أسألُ أنْ يوفقَني لعينِ الصوابِ) أبلغُ مِن قولِ غيرِه: صَوب الصواب، فإنَّ صوبَ الشيءِ جهتُهُ. ¬

_ (¬1) والإظهار هنا مختص بقوله: (رجوت الله).

(وَيهديَني إليه) توكيدٌ (وَيَعْصِمَني) فيهِ طلبُ العِصمةِ، ولا بأسَ به، فإنَّ الخاصَّ بالأنبياءِ الواجبةُ (¬1)، أي: يُبَرِّئني ويُطهرني (مِن الخطإِ والزَّلَلِ) عطفٌ مرادِفٌ، أو أنَّ الأوَّلَ: سلوكُ غيرِ الطريق المستقيم، والثاني: الخطأُ في كيفيةِ سلوك المستقيم. (وأنْ يجعلَهُ خالصاً لِوجهِهِ الكريمِ) يُؤَوَّلُ الوجهُ بالذاتِ، ويكفي أن يقالَ: لهُ وجهٌ لا كالحوادث. والكرمُ: مجمعُ صفاتِ المدح اللائقةِ بالممدوحِ، ضدُّ اللؤم. والمرادُ: لا رياءً وسمعةً، فلا ينافي قولَهُ: (وسبباً للإقامةِ في دارِ النَّعيم) أو أنه طلبَ جعلَها فائدة وعلةً غائيةً له، فلا يلزمُ أن تكونَ غرضاً وعلةَ باعثة (¬2). ـ[وَأَنْ يَجْعَلَهُ مُتَلَقّىً بِالْقَبُولِ وَالرِّضَا، وَأَنْ يَغْفِرَ لِمَنْ رَأَى فِيهِ عَيْباً فَأَصْلَحَهُ بِلاَ اعْتِرَاضٍ وَازْدِرَاءٍ، فَإِنَّ التَّصْنِيفَ مَظِنَّةٌ لِلزَّلَلِ، خُصُوصاً إِذَا كَانَ مِنْ مِثْلِي.]ـ (وَأنْ يجعلَهُ متلقىً بالقبولِ) ضد الردِّ (والرِّضَا) ضد السُّخط، وهما متلازمان غالباً. ¬

_ (¬1) أي: العصمة الواجبة، وهي منفية عن السائل. (¬2) فلو جعل تأليف الرسالة علة باعثة .. لكان الغرض من التأليف طلب هذه الفائدة (الإقامة في دار النعيم)، وبجعلها علة غائية .. يحصل المطلوب من غير قصد، كالزارع يطلب الثمر من زرعه فينال بغير قصد منه ظلَّ ما زرع.

(وأنْ يغفرَ لمَنْ رأى فيهِ عيباً فأصلَحَهُ) أي: التمسَ له وَجهَ إصلاحٍ (بِلا اعتراضٍ وازدراءٍ) أي: تحقير، وظاهر حُسْنُ طلب الغفْرِ لمن غفر، وأنه لا يلزمُ من الإصلاخ عدمُ الاعتراض. (فإنَّ) علَّةٌ لما أفاده السباقُ مِن ترقُّبِ العيبِ، أو انبغاءِ الاستعذارِ (التصنيفَ مَظِنَّةٌ للزَّلَلِ) أي: موضع لظنِّ الزَّلَلِ. وأصلُ التصنيف: جعل شيءٍ ذا أصنافٍ، والغالبُ أنَّ بين الصنفينِ مناسبةً وأُلْفَة ما، فيقالُ: تأليف، وكادوا الآن يخصُّوا مادةَ التصنيفِ بذوي المتون. (خُصوصاً) مفعولٌ مطلقٌ، أي: أخصُّ التأليف بكونه مظنَّةَ الزَّلَلِ تخصيصاً، أو اختُصَّ بذلك اختصاصاً، يعني: بزيادة ما ذكر. (إذا كانَ مِنْ مثلي) ولم يذكر الصفةَ التي فيها المماثلةُ، لاعتقادِ شُهْرَتِها ودِلالةِ ما سبقَ عليها. ـ[وَهَذَا أَوَانُ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصودِ، بِعَوْنِ الْمَلِكِ الْمَعْبُودِ، فَأَقُولُ وَهُوَ حَسْبِي وَنعْمَ الْوَكِيلُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ:]ـ (وهذا) الزمن الحالُّ عرفاً، إذ هوَ يتناولُ أوائلَ المستقبلِ (أَوَانُ)

لم تقلب واوُه ألفاً لسكونِ ما بعدها، وقد قال في: " الخلاصة ": مِنْ يَاءٍ أوْ وَاوٍ بِتَحْرِيكٍ أُصِلْ ... أَلِفاً ابْدِلْ بَعْدَ فَتْحٍ مُتَّصِلْ إِنْ حُرِّكَ التَالِي ...... ... .......... (¬1) (الشروعِ في المقصودِ بعونِ) أي: إعانة (الملكِ المَعبود) سبحانه وتعالى (فأقولُ) الفاءُ للتفريع، ومقولُ القول المقدِّمةُ ... إلخ، وما بينهما اعتراضٌ (وَهُوَ) أي: المعهودُ المُتَقَدِّم في الذكر (حَسْبي) أي: كافيَّ (وَنِعْمَ الوكيلُ) هو (ولا حولَ) أي: تحوُّلٌ عن شيءٍ (ولا قوَّةَ) على شيءٍ (إلا باللهِ العلي العظيمِ): ¬

_ (¬1) انظر " متن ألفية ابن مالك " (ص 62)، بتقديم (الياء) عن (الواو) كما في نسخة الأزهري وابن الناظم. والشاهد: عدم قلب واو (أوَان) ألفاً مع انفتاحها، لأن ما بعدها جاء ساكناً ولم يكن لاماً أي: لام الفعل - مثل: بَيَان، وطَوِيل، انظر " شرح ابن عقيل " (2/ 567).

المقدمة

ـ[المقدّمة في أقسام المعاني]ـ (المُقَدِّمَة) بكسرِ الدال، أي: مُتَقَدِّمَةٌ، أو مقدِّمة مَن عرفها، وفتحِها، أي: مذكورة أولاً، أو محكومٌ عند أولي النظرِ باستحقاقها التقديم، ولا يلزمُ أنَّ تاءها للنقلِ، وإن قيلَ، بناءً على أنَّ التأنيثَ فرعُ التذكيرِ، وفي النقلِ فرعيةٌ (¬1). كما أنه لا وجهَ لتخصيص مقدِّمةِ الكتاب بالألفاظ ومقدِّمة العلم بالمعاني، وإن اشتُهِرَ تبعاً للسَّعدِ (¬2)، إذِ الظاهرُ التسوية بالمعنى فيهما أو اللفظ فيهما كما أشار له الخبيصي في " شرح التهذيب " (¬3). ¬

_ (¬1) قال العلامة العطار في " حاشيته على شرح الخبيصي لتهذيب السعد " (ص 14): (ومعنى كون التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية: أن اللفظ إذا صار بنفسه اسماً لغلبة الاستعمال بعدما كان وصفاً .. كانت اسميته فرعاً عن وصفيته، فشبه بالمؤنث، فإن المؤنث فرع المذكر، فتجعل التاء علامة للفرعية، كما جعلت تاء " علاَّمة " للدلالة على كثرة العلم ... ، واختار آخرون أن التاء ليست للنقل، بل باقية على أصلها وهو التأنيث). (¬2) العلامة المحرر المحقق مسعود بن عمر المشهور بسعد الدين التفتازاني، شارح " الشمسية " وملتقط دررها في " التهذيب " في علم المنطق، توفي سنة (791 هـ). وانظر لبيان المعنى " إتحاف السادة المتقين " (1/ 53). (¬3) العلامة فخر الدين عبيد الله بن فضل الله الخبيصي، شرح متن السعد المذكور وسماه: " التذهيب على شرح التهذيب "، توفي في حدود سنة (1050 هـ). انظر " هدية العارفين " (1/ 650).

وفي أسماءِ التراجم ما علمته في أسماءِ الكتبِ (¬1)، وفي مُسَمَّاها وإعرابها أوْجهٌ شتَّى منها الغريبُ والمشهور، وقد بسطتُ ذلك في " شرح رسالة البسملة ". (في أقسامِ المعاني) من حيثُ ما يدلُّ عليها كما يفيدُهُ كلامه الآتي، ولا يخفى ما يتعلَّقُ بالظرفيةِ والأقسام. والمعاني: جمعُ معنىً، مَفْعَل من عناهُ: قصدَه، كمَذْهَب ومَذاهِب، وتصريفه كفتيّ، ويُقالُ: مَعْنِيٌّ بتشديد الياءِ اسم مفعولٍ، وأصله: مَعْنِوْي، ويُجمع على معنيَّات، فإنَّ وَصْفَ غيرِ العاقلِ يَنقاسُ جمعه بالألف والتاءِ، وكلاهما يُستعملُ في المدلولِ استعمالَ الأسماءِ، كالمفهومِ والموضوع، لكن بحيثيات لا تخفى. ـ[اعْلَمْ: أَنَّ الْمَعْنَى أَقْسَامٌ: مِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُفْرَدُ. وَمِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُرَكَّبٌ تَقْيِيدِيٌّ، أَوْ إِضَافِيٌّ. وَمِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُفْرَدَانِ فُصِلَ بَيْنَهُمَا، كـ (مَا) وَ (إِلاَّ)، فَإِنَّهُمَا يُفِيدَانِ الْحَصْرَ.]ـ ¬

_ (¬1) انظر (ص 93)، والمقصود بـ (أسماء التراجم) العناوين التي يذكرها المؤلف في ثنايا كتابه، كالمقدمة والفصل والتنبيه ونحو ذلك. انظر " حاشية الصبان على شرح الأشموني " (1/ 10).

(اعلمْ: أنَّ المعنى أقسامٌ: منها:) ساق الأقسامَ بـ (مِنْ) لعدم الجزم بالحصرِ فيما ذكر. (ما يدلُّ عليهِ المُفْرَدُ، ومنها ما يدلُّ عليهِ مُرَكَّبٌ تقييديٌّ، أو إضافيٌّ) واجتمعت الثلاثةُ في أوَّلِ الفاتحةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فلفظُ الجلالةِ مفردٌ دلَّ على الذَّاتِ الأقدس، وذلك معَ {رَبِّ} تقييدي، وَ {رَبِّ الْعَالَمِينَ} إضافي. وأرادَ بالتقييدي: ما عدا الإضافي، فصحَّ العطف بـ (أو)، وإن كان التقييدي بمعنى: كلّ كلمتين جُعِلَتْ ثانيتهما قيداً لأوْلاهما .. يشملُ الإضافي. (ومنها: ما يدلُّ عليهِ مُفردانِ فُصِلَ بينهما، كـ " ما " وَ " إلا " فإنَّهما يفيدانِ الحصرَ) نحو: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ}. ـ[وَمِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلاَمُ. وَمِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُهُ. وَمِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ جُمَلٍ.]ـ (ومنها: ما يدلُّ عليهِ الكلامُ) وهو تامُّ الإفادة، إخبارياً كانَ نحوَ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى}، أو إنشائياً نحوَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. (ومنها: ما يدلُّ عليه سياقُهُ) أي: سياق الكلام، بالمُثنَّاةِ،

بمعنى: سَوْقِه الشامل لسباقه - بالمُوحَّدَةِ - ولَحاقِه، كـ (الشمس) (¬1) المُفَسِّرَةِ للضميرِ في قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} فإن سَبْقَ العشيِّ والخيرِ - وهو صلاة العصرِ - ولحوقَ الحجابِ معَ التواري يدلُّ عليها. (ومنها: ما يدلُّ عليهِ مجموعُ جُمَلٍ) نحو: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} الآيةَ. واعلم: أنَّ كلاًّ مِن مجموعِ الجُمَلِ والمُفْرَدَيْن المفصولِ بينهما قد يكونُ كلاماً، وقد لا يكون (¬2). ـ[وَمِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صِفَةُ الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}، فَإِنَّ الإِبْهَامَ دَالٌّ عَلَى التَّفْخِيمِ.]ـ (ومنها: ما يدلُّ عليه صِفةُ المعنى) أتى بالظاهرِ دون الضميرِ (¬3) لأنَّ المعنى المدلول غيرُ الموصوف كما سيظهر (كقَولِهِ تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} فَإنَّ الإبهامَ) وهو صفةٌ للمعنى المُستعمَلةِ فيه (ما) أي: ¬

_ (¬1) تمثيل للسياق، لا للسباق أو اللحاق، وهذا السياق هو قوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}. (¬2) فإن كان تام الإفادة وحسن السكوت عليه. فهو كلام، وإلا .. لا. (¬3) فلم يقل: (صفته) مع أن الحديث عن المعنى، بل قال: (صفة المعنى) للعلة التي سيذكرها.

شيءٌ أوحاه، وتوصفُ (ما) نفسُها أيضاً بالإبهام (دالّ على التفخيمِ) وهو معنىً، أي: تعظيم ذلك الشيء، فكأنَّ العبارةَ لا تحيط به تفصيلاً. ـ[وَمِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَذْفُ أللَّفْظِ، كَالْمَعْمُولِ. وَمِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُهُ. وَمِنْهَا: غَيْرُ ذَلِكَ.]ـ (ومنها: ما يدلُّ عليه حذفُ اللفظِ كالمعمولِ) في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} فإنَّ حذفَه يدلُّ على العموم، أي: كلَّ أحدٍ. (ومنها: ما يدلُّ عليهِ تقديمُه) أي: تقديم اللفظِ، نحو: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فإنَّ تقديمَ المعمولِ للحصرِ، أي: لا نعبُدُ إلاَّ إيَّاكَ. (ومنها: غير ذلك) كالدوام المأخوذِ من اسميَّةِ الجملةِ، نحو: الحمدُ لله، والتجدُّدِ المدلولِ لِفعليَّتِها، نحوَ: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا}، والحصرِ مِن تعريفِ طرفيْها، وغير ذلك مما لو استُقْصِيَ .. قُصِيَ، حتى إنَّ كيفيةَ التكلُّمِ تدلُّ على المعاني عُرفاً. ألا ترى أنك إذا نطقتَ بقولكَ: (جاءَ زيدٌ) مُستفهِماً .. أتيتَ به على غيرِ وجهِ الإخبارِ؟ وأما غيرُ النُّطق من الدوالِّ .. فلا ينحصرُ أيضاً.

ـ[وَالْعِلْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالأَوَّلِ وَالثَّانِي: تَصَوُّرٌ وَبِغَيْرِهِمَا: تَصَوُّرٌ وَتَصْدِيقٌ. وَيَنْقَسِمُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إِلَى: مَنْطُوقٍ وَمَفْهُومٍ.]ـ (والعلمُ المُتعلِّقُ بالأولِ) المُفْرَد (والثاني) أرادَ به المُركَّبَ بِقِسْمَيْه (¬1) (تَصَوُّرٌ) ليس إلا. إن قلتَ: إن المفردَ كـ (نعم) قد يكون للتصديق. قلت: ذاك في التحقيقِ من كلامٍ مُقدَّرٍ بعدها (¬2)، وقد شذَّ ابن طلحةَ فجعلَ حرفَ الجوابِ كلاماً مُفْرداً (¬3). (وَبِغَيْرِهما تَصَوُّرٌ) تارةً (وتَصْدِيقٌ) أُخرى. إن قلتَ: من الغيرِ: الكلامُ (¬4)، ولا يكون إلا تصديقاً. ¬

_ (¬1) التقييدي والإضافي. (¬2) فانتفى بذلك أن تكون من المفرد، إذ (نعم) حرف ناب مناب جملة، فلا إيراد. (¬3) قال المرادي في " الجنى الداني " (ص 296): (وزعم ابن طلحة أن الكلمة الواحدة وجوداً وتقديراً تكون كلاماً إذا نابت مناب الكلام، نحو " نعم " و " لا " في الجواب، وهو فاسد، وإنما الكلام هو الجملة المقدرة بعد " نعم " و" لا "). وابن طلحة: هو محمد بن طلحة بن محمد الأموي الإشبيلي، أبو بكر المعروف بابن طلحة، إمام في العربية، توفي سنة (618 هـ). انظر " بغية الوعاة " (1/ 121). (¬4) بنوعيه: الإخباري والإنشائي، والمقصود بقوله: (من الغير) أي: ما سوى المفرد والمركب.

قلت: الكلامُ الإنشائي لا تصديقَ فيه، على أنَّ التصديقَ لا بُدَّ معه من تصوُّر، فَلْيُتَأَمَّل. (وَينقسمُ) المعنى (مِنْ وَجْهٍ آخرَ إلى منطوقٍ) وهو: ما دلَّ عليه اللفظُ مِنْ حيثُ استعمالُه فيه، كدلالة: {لَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} على حُرْمةِ التأفيف. (وَمَفْهُومٍ) وهو: ما دلَّ عليه اللفظُ لا في محلِّ النُّطْقِ، كدلالة الآية على حُرمةِ الضرب. وتقسيمُه إلى موافقةٍ ومخالفة، وبيانِ أقسام كلٍّ، وما يتعلَّقُ بذلك .. مسطورٌ في الأصول. ***

باب الآداب ونحوها

(بَابُ الْآدَابِ وَنَحْوِهَا) ـ[اِعْلَمْ: أَنَّ فَهْمَ الْمَعَانِي الَّتِي تَحْتَ الأَلْفَاظِ يَتَوَقَّفُ عَلَى: مَعْرِفَةِ مَوْضُوعَاتِ الْمُفْرَدَاتِ، لُغَة، وَشَرْعاً، وَاصْطِلاَحاً. وَمَعْرِفَةِ الْعَامِلِ، وَكَمْ لَهُ مِنَ الْمَعْمُولاَتِ.]ـ (اعلمْ: أن فَهْمَ المعاني التي تحتَ الألفاظِ) يعني: معانيَ الكلام التركيبيَّة (يَتوقَّفُ على معرفَةِ) هذا معَ تعبيرِه أولاً بالفهْمِ تفنُّنٌ (مَوْضُوعاتِ المُفْرَدَاتِ) جمعُ موضوعٍ، فإنَّ وصفَ غير العاقلِ يَنْقاسُ بالألفِ والتاء كما مرَّ (¬1). وأصلُه من الحذفِ والإيصال، أي: الموضوعُ له، وظاهرٌ توقُّفُ الكل على أجزائه. (لُغةً، وشرعاً، واصطِلاحاً) تمييزٌ لنسبةِ الوضعِ، أو بنزعِ الخافضِ، و (الواوُ) بِمعنى (أو)، فإنَّ التوقُّفَ على الواحدِ المقصود الفهم فيه، وأرادَ بِـ (الاصطلاحِ) ما عدا الشرع. (و) يتوقَّفُ أيضاً على (معرفَةِ العاملِ و) معرفةِ جوابِ (كَمْ له مِن المعمولاتِ). ¬

_ (¬1) انظر (ص 102).

ـ[فَإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ كَلاَمٍ .. فَانْظُرْ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ حَيْثُ: مَعْنَاهَا، وَكَوْنُهَا عَامِلَةً أَوْ مَعْمُولَةً.]ـ (فإذا أردْتَ فَهْمَ) معنى (كلامٍ .. فانظُر في كلِّ كلمةٍ مِنْ حيثُ: معناها) في اصطلاحِ هذا المتكلِّم، إنْ نحْوِياً، وإنْ شرعياً، فإنْ لم يدُلَّكَ دليلٌ على اصطلاحٍ .. فاللُّغَةُ. (وكونُها عاملةً أو معمولةً) لعاملٍ لفظي أو معنوي، وقد يجتمعُ كونها عاملةً ومعمولة، وقد ينفرِدُ كونها معمولةً أو عاملة. الأولُ: كالمُبْتدإ، بناءً على أنه عاملُ الخبرِ. والثاني: كالخبر في نحوِ: هذا غلام. والثالث: نحو {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} بناءً على الصحيحِ من أنَّ أسماءَ الأفعال عاملة غير معمولة، لا أنها مُبتدأٌ أغنى مرفوعُها عن الخبر، ولا مفاعيلُ مُطلقة مُقَدَّرٌ لها عاملٌ مِن معناها (¬1). وقد تكون لا عاملةً ولا معمولة كـ (سوفَ). ¬

_ (¬1) انظرا " الدر المصون " (8/ 341).

ـ[فَإِنْ كَانَتْ عَامِلَةً .. بَحَثْتَ عَنْ مَعْمُولِهَا، فَإِنْ كَانَ مَحْذُوفاً .. نَظَرْتَ إلَى الْحَالِ، فَهُوَ بِحَسَبِهِ.]ـ (فإن كانت عاملةً .. بَحَثْتَ عَن معمولها) إنْ قلتَ: هذا دَورٌ، فإنَّ معرفةَ كونها عاملةً .. بعد معرفةِ المعمولِ. قلتُ: ذاك كونها عاملةً بالفعل، وإنما أرادَ إنْ كانَ شأنُها العملُ ولَم تَقُمْ قرينةُ قطعِ النظرِ عن المعمولِ والتنزيل منزلة اللازم. (فإنْ كانَ محذوفاً .. نظرْتَ إلى الحالِ، فهوَ) مقدَّرٌ (بحَسَبهِ) إنْ عامّاً أو خاصّاً. وأما قولهم: (حذفُ المعمولِ يُؤْذِنُ بالعموم) .. فليسَ كُلِّيّاً، وقد يُعكسُ فيُحذَفُ العاملُ ويبقى المعمولُ، وقد يُحْذفان معاً، نحو: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} أي: لَرأيْتَ أمراً فَظيعاً. ـ[وَقَدْ يُفْصَلُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَمَعْمُولِهِ بِاعْتِرَاضٍ، أَوْ يَتَقَدَّمُ الْمَعْمُولُ، فَلاَ بُدَّ مِنْ مَزِيدِ التَأَمُّلِ.]ـ (وَقَدْ يُفصَلُ بينَ العاملِ ومَعمولِهِ باعتراضٍ) أي: بكلامٍ مُعْتَرِضٍ بينهما، كقوله تعالى: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ

أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} فإنَّ قولهم (¬1): {أَنْ يُؤْتَى} معمولٌ لـ {تُؤْمِنُوا} أي: لا تُقِرُّوا بإيتاءِ أحدٍ كتاباً مثلكم إلا لمن لا يفارقُ دينكم، أو كراهة إيتاءِ أحدٍ شهرةَ دين كدينكم، وجملةُ {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} اعتراضٌ. (أو يتقدَّمُ المعمولُ) نَحوَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} و، (فلا بدَّ مِنْ مزيدِ التأمُّلِ) لئلا يتوهَّمَ حذف المعمولِ حينئذٍ، أو يُظنّ ما ليس معمولاً معمولاً. ـ[وَقَدْ يَتِمُّ الْكَلاَمُ وَلاَ يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى، فَيُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ فَسَادُهُ لاَزِماً .. رُدَّ. وَإِنْ كَانَ لِعَدَمِ كَلِمَةٍ أَوْ أَكْثَرَ .. قُدِّرَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَلاَ يُزَادُ عَلَيْهَا.]ـ (وَقَدْ يَتِمُّ الكلامُ) بأنْ تأخذَ العواملُ معمولاتِها والإسنادُ أركانَهُ (ولا يستقيمُ المعنى، فَيُنْظَرُ: فإنْ كانَ فساده لازِماً) لا يُمكن التخلُّصُ منه .. (رُدَّ) الكلامُ، ولا يصحُّ له مثالٌ في كلامٍ مُعْتبَر. (وَإنْ كانَ) فسادُه الظاهري (لِعدمِ كلمةٍ أوْ أكثر .. قُدِّرَ بِحَسَبِ ¬

_ (¬1) الضمير في قوله: (فإن قولهم) عائدٌ للطائفة المذكورة في الآية قبلها: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} على خلاف في ذلك. انظر " المحرر الوجيز " (1/ 454).

الحاجةِ، ولا يُزادُ عليها) فإنَّ الحذْفَ تكلُّفٌ ينبغي تقليلُهُ مهما أمكنَ، فيقال في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} التقدير: واسألْ أهلَ القريةِ، لا أهلَ تلكَ القرية. ـ[وَإِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ أَكْثَرَ مِنْ مَعْنَىً، وَبَعْضُهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ دُونَ غَيْرِهِ .. فَمَا لاَ يَحْتَاجُ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ مَا يَحْتَاجُ إلَى أَقَلَّ مِنْ غَيْرِهِ.]ـ (وَإذا احتمَلَ اللفظُ أكثرَ منْ معنىً، وبعضُهُ) أي: بعض ما ذكرَ من الأكثر من معنى (يحتاجُ) يعني: اللفظ إذا حُمِلَ عليه (إلا تقديرٍ دونَ غيرِهِ .. فما لا يحتاجُ أَوْلَى) ظاهرُهُ: ولو كانَ معنىً مجازياً، كَكونِ القريةِ عبارة عن أهلها، فيكون مارّاً، على أنَّ المجازَ المُرْسَلَ أَولى مِن المجازِ بالحذفِ. (وكذلك ما يحتاجُ إلى) تقديرٍ (أقل مِنْ غيرِهِ) أي: أَولى مما يحتاجُ لأكثر. ـ[وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكاً .. نَظَرْتَ لِمَعْنَاهُ وَاحِداً وَاحِداً، فَمَا كَانَ مُنَاسِباً لِلْمَعْنَى .. حَمَلْتَهُ عَلَيْهِ.]ـ (وإذا كانَ اللفظُ مُشْترَكاً) اشتراكاً لفظياً، كما هو المرادُ عند

الإطلاق .. (نظرْتَ لمعناهُ) الإضافةُ للجنسِ، يعني: لمعانيه (واحداً واحداً) هو على حَدِّ: باباً باباً، أي: واحداً فواحداً (فما كانَ مناسِباً) من معانيهِ (للمعنى) الذي سيقَ له الكلامُ، أو لأَنْ يكونَ مَعنياً من اللفظِ (حَمَلْتَهُ عليهِ). وأشارَ للمشترَك المعنوي بقوله: ـ[وَإِذَا كَانَ كُلِّي، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعَ الأَفْرَادِ الْمَوْجُودَةِ فَقَطْ، أَوِ الْمَوْجُودَةِ وَالْمُقَدَّرَةِ، أَوْ فَرْداً غَيْرَ مُعَيَّنٍ .. فَلاَ إِشْكَالَ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ فَرْداً مَخْصُوصاً .. تُؤُمِّلَ الْمَعْنَى لِيَظْهَرَ، فَيُنْظَرُ فِي الأَفْرَادِ فَرْداً فَرْداً، فَمَا يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى .. فُسِّرَ اللَّفْظُ بِهِ.]ـ (وإذا كان كُلي) هكذا مرسومٌ بلا ألفٍ، على لُغةِ ربيعة، فإنهم يُجيزون تسكينَ المنصوبِ وَقْفاً، أو أنه فاعل (¬1) (فإنْ كانَ المرادُ منه ¬

_ (¬1) أي: لكان التامة، فلا نصب حينئذٍ. والوقف على المنون تنوين نصب وغيره بحذفه وسكون الآخر مطلقاً نسبه الإمام ابنُ مالك لربيعة القبيلة المشهورة، كما قال ذلك في " شرح الكافية الشافية " (4/ 1980). قال العلامة الصبان في " حاشيته على سْرح الأشموني " (4/ 204): (قال: ابن عقيل: والظاهر أن هذا غير لازم في لغة ربيعة، ففي أشعارهم كثيراً الوقف على المنصوب المنون بالألف، فكأن الذي اختصوا به جواز الإبدال).

جميعَ الأفرادِ الموجودةِ فقطْ، أو الموجودةِ والمُقَدَّرَةِ، أو فرداً غيرَ مُعَيَّنٍ .. فلا إشكالَ) حيثُ دلَّ الدليلُ على المرادِ من ذلك. (وإنْ كانَ المرادُ فرداً مخصوصاً .. تُؤُمِّلَ المعنى) المَسُوقُ له الكلام (ليظهرَ) ذلك المخصوص (فيُنظرُ) بعد معرفةِ ما سيقَ له الكلام (في الأفراد فرداً فرداً، فما يقتضيهِ المعنى .. فسِّرَ اللفظُ بهِ) وقد يتَّضِحُ الدليلُ على تعيينِ المخصوص المراد ابتداءً، فلا إشكال. ـ[وَاعْلَمْ: أَنَّ التَّفْسِيرَ: إِمَّا بِالْمُطَابِقِ، وَإِمَّا بِاللاَّزِمِ، وَإِمَّا الْمِثَالِ. وَقَدْ يَفْسُدُ الْمَعْنَى بِبَعْضِ الأَلْفَاظِ، لِاعْتِقَادِ كَوْنِهِ أَصْلِيّاً. فَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ صِحَّتِهِ أَوْ فَسَادِهِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ لاَ يَأْتِي زَائِداً أَصْلاً .. فَالْمَعْنَى لاَزِمُ الْفَسَادِ، أَوْ لاَ .. فَالْمَعْنَى صَحِيح وَاللَّفْظُ زَائِدٌ.]ـ (واعلمْ: أنَّ التفسيرَ: إمَّا بالمُطابِقِ) وهو: ما وُضِعَ له اللفظُ. (وإمَّا باللازمِ) لما وُضِعَ له، وكأنه أدرجَ التفسيرَ بالجزءِ، كتفسير الإنسانِ بالناطقِ في هذا، فإنَّ الجزءَ لازمٌ للكلِّ. (وَإما المثال) جُزئياً كان، نحو: (الإنسان كزيدٍ)، أو مبايناً مشابهاً، نحو: (العلم كالنورِ).

(وَقدْ يَفْسُدُ المعنى) أي: يُعتقد فسادُهُ (ببعضِ الألفاظِ، لاعتقادِ كونِهِ أصلياً. فطريقُ معرفةِ صحتِهِ) في نفس الأمر (أو فسادِهِ: أنَّهُ إنْ كانَ) ذلك اللفظ (لا يأتي .. زائداً أصلاً .. فالمعنى لازمُ الفسادِ) ولا يقعُ ممَّن به اعتداد، وأراد المعنى الذي يقتضيه الكلام، فلا يقال: جاز صحة المعنى وفساد اللفظ باستعمال ما لم يسمع زائداً .. زائدٌ. (أو لا) بأن كان يأتي زائداً .. (فالمعنى صحيح واللفظُ زائدٌ) كالكافِ في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وإلا .. فسدَ بثبوتِ المِثلِ، وقيل، مثل بمعنى وَصف وشأن، وقيل: من باب: مثلك لا يبخل، أي: فأوْلى هو، وقيل: يلزمُ من نفي مِثْلِ مثلِه نفيُ مثلٍ له، وإلا .. كان هو مثلاً لمثلِه، لأنه معلومُ التحقُّق، والغرضُ أنه لا مِثْلَ لمثلِه، فهو على حَدِّ: ليس لأخِ زيدٍ أخٌ، أي: لا أخَ لزيد. ـ[وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مَجَازاً .. نُظِرَ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ مَعَانِي ذَلِكَ اللَّفْظِ، لِيُعْلَمَ الْمَعْنَى الْمُتَجَوَّزُ عَنْهُ، فَقَدْ يَكُونُ الْمُتَجَوَّزُ مَعْنَى حَقِيقِيّاً، وَقَدْ يَكُونُ مَجَازِيّاً، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ كُلٌّ مِنَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَالْمُتَجَوَّزِ عَنْهُ، وَقَدْ لاَ يَتَعَيَّنُ.]ـ (وإذا كان اللفظُ مجازاً .. نُظِرَ في هذا المعنى المجازيِّ) أشارَ له لأنه في ضمنِ اللفظ (وغيرِهِ من معاني ذلكَ اللفظِ) التي يُسْتعمَلُ فيها،

وإنْ كان غيرَ موضوعٍ لها (لِيُعْلَمَ المعنى المُتَجَوَّزُ عنهُ) منها. إنْ قلنا: هذا غيرُ محتاج للنظر في المعنى المجازي نفسِهِ .. قلتُ: بل يُحتاجُ له لتحقيقِ العلاقةِ بينهما (فقد يكونُ المُتَجَوَّزُ معنىً حقيقياً، وقدْ يكونُ مجازياً) بناءً على جوازِ المجازِ على المجاز (¬1)، حيثُ قَرَّ اللفظُ على المعنى بالعلاقةِ لا على منعه، بناءً على أنه أخْذُ الشيءِ من غير مالكه. (وقدْ يتعيَّنُ كلٌّ مِنَ المعنى المجازيِّ) الآن، وهو المُتَبادَرُ من قوله سابقاً: " نظر في هذا المعنى المجازي " (والمُتَجَوَّزِ عنهُ) ولو مجازاً أوِّلَ كما علمتَ (وقدْ لا يتعيَّنُ) بأن يصلُح لأحد معنيين فأكثَر. ـ[وَالتَّعَيُّنُ إِمَّا: لِقَرِينَةٍ، أَوِ اتِّحَادِ ألْمَعْنَى. وَإِذَا كَانَ تَوَابِعُ .. فَلاَ بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَتْبُوعِهَا، وَلاَ بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي كُلِّ جُمْلَةٍ بَعْدَ النَّظَرِ فِي الْمُفْرَدَاتِ، لِيُعْلَمَ: أَيُّ الْجُمَلِ هِيَ.]ـ (والتعينُ إما: لقرينةٍ، أو اتحادِ المعنى) لكن اتحاد المعنى المجازي عزيز حيثُ اكتُفيَ بسماع نوعِ العلاقة. (وإذا كان) في الكلام (توابعُ .. فلا بُدَّ مِنْ معرفةِ مَتبُوعِها) وتدقيقِ ¬

_ (¬1) أي: إن كان المتجوَّز عنه مجازياً.

النظرِ فيما يلتبسُ منها، كالبدلِ وعطفِ البيان. (ولا بُدَّ مِنَ النظرِ في كلِّ جُملةٍ) إنْ تعدَّدَتِ الجُمَلُ (بَعْدَ النَّظرِ في المُفْرَدَاتِ، لِيُعْلَمَ) جواب (أيُّ الجُمَلِ هيَ) ألَها محلٌّ مِن الإعرابِ أو لا، وعلى كلٍّ، فَمن أيِّ نوعٍ، كالصفةِ والصِّلَةِ. ـ[وَقَدْ يَصْعُبُ فَهْمُ الْكَلاَمِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي اخْتِصَارِهِ، فَالَّذِي يُعِينُ عَلَى فَهْمِهِ مُطالَعَةُ الْمَبْسُوطَاتِ، وَلاَ يَقْتَصِرُ عَلَى مُطَالَعَةِ مُصَنَّفٍ أَوْ مُصَنَّفَيْنِ مَثَلاً، فَقَدْ يُهْمِلُ بَعْضُ ألْمُصَنِّفِينَ قُيُوْدَ الْمَسَائِلِ.]ـ (وَقدْ يصعُبُ فهمُ الكلامِ منَ المُبالَغةِ في اختصارِهِ، فالذي يُعينُ على فهمِهِ مُطالعةُ المَبْسُوطاتِ) ويدخلُ فيها شروحُهُ. (ولا يقتَصِرُ على مطالعةِ مُصَنَّفٍ أو مُصَنَّفَيْنِ مثلاً) ومِن هذا القبيل: لا يقتصرُ على شيخٍ أو شيخين، أو عِلْمٍ أو عِلْمَين، ورُبَّ شيخٍ إذا اجتمعَ طالبُهُ بغيرِهِ. تغيَّرَ عليه، فإنا للهِ وإنا إليه راجعون!! نعم، لا يُقصد إلا أهلُ الفضل العارفون. (فقد يُهْمِلُ بعضُ المُصَنِّفِينَ قُيُودَ المسائلِ) أو يُخطىءُ فيها، فيسلِّم الآخر.

ـ[فَلاَ بُدَّ مِنَ الإِكْثَارِ مِنْ مُطَالَعَةِ الْمُصَنَّفَاتِ الَّتِي لاَ يَجْتَمِعُ مِثْلُهَا لِكَثْرَتِهَا عَلَى تَرْكِ شَىْءٍ مِنَ الْقُيُودِ، فَمَنِ اسْتَعْمَلَ هَذَا كُلَّهُ حِينَ الْمُطَالَعَةِ .. خَرَجَتْ لَهُ الْمَعَانِي الَّتِي تَحْتَ الألفَاظِ طَائِعَةً.]ـ (فلا بُدَّ مِن الإكثارِ مِنْ مطالعةِ المصنَّفاتِ التي لا يجتمعُ مثلُها لكثرتِها على ترْكِ شيءً مِنَ القُيُودِ، فَمنِ استَعملَ هذا كلَّهُ) كلَّ شيءٍ في محلِّه (حينَ المُطالعةِ .. خرجَتْ) أي: ظهرتْ (لهُ المعاني التي تحتَ الألفاظِ طائعةً). ـ[وَأَمَّا إِخْرَاجُ النِّكَاتِ وَالدَّقَائِقِ الَّتِي يَتَنَافَسُ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، وَيَتَفَاوَتُ فِيهَا الأَذْكِيَاءُ، وَيَتَسَابَقُ فِيهَا الْفُرْسَانُ، وَيُتَغَالَبُ بِهَا فِي الْمَيْدَانِ .. فَطَرِيقُهُ بَعْدَ الِاعْتِمَادِ عَلَى فَضْلِ اللهِ تَعَالَى:]ـ (وأمَّا إخراجُ النِّكاتِ) جمع: نُكْتَهٍ، وهي: البحثُ في الأرضِ بعودٍ ونحوه، أو لون صغيرٍ بين مُتَّسِعٍ مخالفٍ له (¬1) وشأنه يُسْتَحْسَنُ، ¬

_ (¬1) كسوادٍ قليل في بياض كثير، أو عكسه.

كالخالِ، أُطلق على المعنى لأن الفكر فيه يصاحبُ الأول، أو لمشابهته الثاني في الحُسْنِ. (والدَّقائقِ) عطفٌ عامٌّ من وجهٍ، فقد تكون النكتةُ غيرَ دقيقةٍ، كما أن الدقيقَ يكون غيرَ نكتةٍ، كالاعتراضِ. (التي يتنافسُ) أي: يتغالب، فإنَّ المُغالِبَ يبذلُ النفيسَ لتحصيلِ مُرادِه (فيها العلماءُ، ويتفاوتُ فيها الأذكياءُ، ويتسابقُ فيها الفُرْسانُ (استعارَهُم للنُّظَّارِ (ويتغالبُ بها في الميدانِ) الباءُ بمعنى (في)، ولم يُعبِّر بـ (في) بعداً عن تعلُّقِ حرفينِ مُتَّحِدَيْن بعاملٍ (¬1)، أو أنه شبَّهها بالسلاحِ أو الخيلِ، ولا يخلو الكلامُ عن تَكرارٍ للتأكيد. (فطريقُهُ بَعدَ الاعتمادِ على فضلِ اللهِ تعالى) خصَّ هذا بهذا لمزيدِ الاعتناء، وإلاَّ .. فلا بُدَّ من الاعتمادِ عليه في كلِّ شي؟. ـ[أَنْ يُكَرِّرَ إِخْطَارَ الْمَعْنَى فِي ذِهْنِهِ حَتَّى يَأْلَفَهُ، وَيُحَرِّكَ ذِهْنَهُ فِي الْمَعَانِي الْمُنَاسِبَةِ، وَيَنْظُرَ إِلَى السِّيَاقِ، وإِلَى مَجْمُوعِ الْجُمَلِ، وَصِفَاتِ الْمَعَانِي، كَالإِبْهَامِ، وَتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ، وَحَذْفِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ الْعُلَمَاءُ.]ـ (أن يُكرِّرَ) مُريدُ ذلك (إخطارَ المعنى في ذهنِهِ) أراد بالتكرار ¬

_ (¬1) أي: لكيلا يكرر (في) مرتين في سياق واحد فيقول: (ويتغالب فيها في الميدان).

ما يشمل الإطالةَ في المرةِ الواحدة (حتى يألفَهُ، ويُحرِّكَ ذهنَهُ في المعاني المناسبةِ) لذلك المعنى. (وينظرَ إلى السياقِ، وإلى مجموعِ الجُمَلِ، وصفاتِ المعاني، كالإبهامِ، وتقديمِ المعمولِ، وحذفِه، ونحوِ ذلك مما بيَّنَه العلماءُ) ودوَّنوا له فنّاً مُسْتقلاً سَمَّوْهُ علم المعاني، ذكروا فيه ثمرة كلِّ ذلك وأمثلَته، وهو فنٌّ مهمٌّ جداً، فَلْيُطْلَبْ. ـ[وَإِذَا رَأَى كَلاَمَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ .. نَظَرَ: هَلْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ أَوْ لاَ؟]ـ (وإذا رأى) أي: علِمَ مِن كتابٍ أو شيخٍ (كلامينِ في مسألةٍ .. نظرَ) جوابٌ (هل بينَهُما موافقةٌ) فإذا وجدهما متَّفِقَيْن .. فَلْيَنْظُرْ في موجَبِ التَّغايُرِ، فيعقِلُ ذهنه، ويتأسَّى بأحسَنِهِما مَساقاً (أَوْ لا) فَيُحرِّرُ أيَّهما الصواب بقوةِ المدرك أو صحةِ النقلِ. أُتِيَ لـ (هل) بمعادلٍ، وهو خلافُ الأفصح، لا أنه لحن، وقد بيَّن ذلك شُرَّاحُ " المغني " (¬1). ـ[وَرُبَّمَا اخْتَلَفَ مَسْأَلتَانِ فِي الْوَاقِعِ مَوْضُوعاً وَحُكْماً، لَكِنْ بَيْنَ مَوْضُوعِهِمَا قُرْبٌ، فَيُعْتَقَدُ اتِّحَادُهُمَا فَيُشْرَكَانِ فِي الْحُكْمِ.]ـ ¬

_ (¬1) ومن جملتهم المصنف رحمه الله تعالى، انظر " حاشيته على مغني اللبيب " (1/ 14).

(ورُبَّما اختلفَ مسألتانِ في الواقعِ موضوعاً وحُكْماً، لكنْ بينَ موضوعِهِما) جعلَ الإضافة للجنس فأغناهُ ذلك عن تثنيةِ المضاف (قُرْبٌ، فيُعتقدُ) لعدمِ التأمُّلِ (اتِّحادُهُما) موضوعاً (فَيُشْرَكَانِ في الحُكم) بأن يثبتَ حكمُ كل للأُخرى مع حكمِها، فيقعُ الخطأُ، فلا بُدَّ من مزيدِ التأمُّلِ، لتحصل السلامة من مثل ذلك. ـ[وَكَثْرَةُ إِخْطَارِ الْمَعْنَى بَعْدَ ظُهُورِهِ سَبَبٌ فِي سُرْعَةِ حُضُورِهِ بَعْدَ غَيْبَتِهِ عِنْدَ حُضَورِ مَا يُلاَئِمُهُ أَوْ يُنَافِرُهُ. وَإِذَا اشْتَرَكَ مَوْضُوعَانِ فِي جَامِعٍ وَاخْتَلَفَا فِي الْحُكْمِ .. نَظَرْتَ لِيَظْهَرَ لَكَ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا.]ـ (وكَثرةُ إخطارِ) أي: إحضار (المعنى بعدَ ظهورِهِ سببٌ في سرعةِ حضورِهِ) وسهولة إحضاره (بعدَ غَيْبَتِهِ عندَ حضورِ ما يُلائمُهُ أو ينافرُهُ). (وإذا اشتركَ موضوعانِ في جامعٍ واختلفا في الحكمِ .. نظرتَ ليظهرَ لكَ فرقٌ بينَهُما) فإن لم يظهر فرق .. فالحكمان متقابلان، يُطلَبُ ترجيحُ أحدِهما بما مرَّ. ***

ـ[وَمِنْ عَادَةِ شَيْخِنَا - حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى - إِذَا أَرَادَ أَنْ يُقَرِّرَ كَلاَماً صَعْباً أَنْ يَقُولَ: (أُقَدِّمُ لَكُمْ مُقَدِّمَةً) أَوْ: (هَذَا الْكَلاَمُ لاَ يَتَبَيَّنُ إِلاَّ بِتَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ).]ـ (ومِنْ عادةِ شيخِنا - حفظَهُ اللهُ تعالى - إذا أرادَ أنْ يُقَرِّرَ كلاماً صعْباً أنْ يقولَ: " أُقَدِّمُ لكمْ مُقَدِّمةً، أو: " هذا الكلامُ لا يَتَبَيَّنُ إلا بتقديمِ مُقَدِّمَةٍ ") تنويعٌ في التعبيرِ بحسبِ ما يقع من الشيخِ، وهو نورُ الدين، أبو الحسن، عليُّ بنُ أحمد بنِ مكرم الله الصعيديُّ العَدَويُّ، نِسبةً لـ (بني عديّ)، مِن قُرى (الصعيد) (¬1)، ويقالُ: المَنسفيسي، لأن أصوله من (منسفيس)، بلدة من أعمال مصر، وكان ولادتُهُ على ما أخبرني هو به عامَ اثني عشرَ ومئةٍ وألفٍ، وأخذ على عدةِ مشايخ، منهم: في أول الأمر: الشيخُ عبد الوهاب المَلَّوي، والشيخ جلبي البُرُلُسِي (¬2)، ¬

_ (¬1) كذا هو اسم هذه القرية (بني عدي)، والنسبة إليها: (العَدَوي) بفتحتين، وهي ليست (عِدْوة) اسم لثلاث قرىً في مصر، والنسبة إليها: (العِدْوي) بكسرة فسكون، وإليها ينسب الشيخ حسن العِدْوي الحمزاوي. انظر " الخطط التوفيقية " (9/ 248) و (14/ 119). (¬2) الإمام العلامة محمد صلاح الدين البُرُلُّسي المالكي، الشهير بـ (جلبي) أو (شلبي)، أخذ عن الشيخ أحمد النفراوي، والشيخ عبد الباقي القليني، والشيخ منصور المنوفي، توفي سنة (1154 هـ). انظر " عجائب الآثار " (2/ 30)، " شجرة النور الزكية " (2/ 291).

والشيخ سالم النَّفْرَاوي (¬1)، والشيخُ عبد الله المغربي، والشيخ محمد السَّلَمُوني (¬2)، كلاهما من تلامذة الخَرَشِي (¬3) وأقرانه، والشيخ محمد الصغير (¬4)، والشيخ إبراهيم الفَيُّومِي (¬5)، قال: وبشَّرني بالعلم حين قبَّلْتُ يده وأنا صغير، وسيدي محمد بن زَكريِّ المغربي (¬6)، والشيخ ¬

_ (¬1) العلامة المفتي سالم بن أحمد النفراوي المالكي الأزهري المصري الضرير، أخذ عن شارح " المواهب " - الحافظ الزرقاني - وغيره، وانتهت إليه رئاسة المالكية بمصر، وبها توفي سنة (1168 هـ). انظر " عجائب الآثار " (2/ 88)، " فهرس الفهارس " (2/ 978)، " شجرة النور الزكية ". (¬2) العلامة الفاضل محمد بن عبد الرحيم بن محمد السلموني الأزهري المالكي، كان حيّاً سنة (1173 هـ)، من آثاره: " شرح غزيرة المعاني "، فرغ منه في السنة المذكورة. انظر " شجرة النور الزكية " (2/ 248)، " معجم المؤلفين " (3/ 406). (¬3) الفقيه العلامة أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي، شيخ المالكية، إليه انتهت الرئاسة بمصر، أخذ عن والده والبرهان اللقاني والنور الأجهوري، وأخذ عنه محمد النفراوي ومحمد السلموني، له شيرح كبير على " المختصر "، توفي سنة (1101 هـ). انظر " عجائب الآثار " (1/ 166)، " شجرة النور الزكية " (2/ 245). (¬4) العالم الفاضل محمد بن أحمد الورزازي المصري، المعروف بالصغير، كان فقيهاً مالكياً، توفي سنة (1137 هـ) ودفن بمقابر المالكية بمصر. انظر " عجائب الآثار " (1/ 186)، " فهرس الفهارس " (2/ 1110). (¬5) العالم الفقيه الفاضل شيخ الأزهر، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الفيومي، تفقه بالشيخ الخرشي، وأخذ عن الزرقاني والشبراملسي، والأجهوري والبرماوي، له شرح على " العزية " في مجلدين، توفي سنة (1137 هـ). انظر " عجائب الآثار " (1/ 219)، " شجرة النور الزكية " (2/ 247). (¬6) الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن زكري - وأصله: زكريا - الماسي، محدث مسند وصوفي مشارك، أخذ عن الشيخ عبد القادر الفاسي، وميارة الصغير، وله مؤلفات منها: " شرح فريدة السيوطي "، و"شرح الحكم العطائية "، و " حواشٍ على البخاري "، توفي سنة (1144 هـ). انظر " شجرة النور الزكية " (2/ 284)، " معجم المؤلفين " (3/ 393).

محمد السِّجِّيني (¬1)، والشيخ أحمد المَلَّوي (¬2)، والشيخ عيد النُّمْرُسي (¬3)، والشيخ أحمد الدَّيَرْبِي (¬4)، والشيخ مصطفى العَزِيزي (¬5)، والشيخ محمد العَشْماوي (¬6)، والشيخ محمد بن سيف، والشيخ أحمد ¬

_ (¬1) الإمام العلامة محمد السجيني الشافعي الضرير، أخذ عن الشيخ الشرنبابلي ولازمه طويلاً، والشيخ عبد ربه الديوي والشيخ مطاوع السجيني، كان فقيهاً نحوياً أصولياً منطقياً، توفي سنة (1158 هـ). انظر " عجائب الآثار " (2/ 27). (¬2) الإمام العلامة المتقن المعمر، مسند الوقت وشيخ الشيوخ، أحمد بن عبد الفتاح الملوي الشافعي الأزهري، أخذ عن كبار علماء عصره، كالمنوفي والبشبيشي والنمرسي، له شروح كثيرة، منها: شرحان على " متن السلم " وآخران على " السمرقندية "، توفي سنة (1181 هـ) وعند الكتاني سنة (1182 هـ). انظر " عجائب الآثار " (2/ 252)، " فهرس الفهارس " (2/ 559). (¬3) الشيخ المحقق النحرير عيد بن علي المرسي القاهري الشافعي، أخذ عن الجمال البصري والشرنبابلي والزرقاني، وجاور في أخريات حياته المدينة المنورة ودرَّس بالحرم الشريف، توفي سنة (1140 هـ). انظر " سلك الدرر " (3/ 273)، " فهرس الفهارس " (2/ 805). (¬4) الإمام العلامة أحمد بن عمر الدَّيربي الشافعي الأزهري، أخذ عن عمه الشيخ علي الديربي، وعن القليوبي والشنشوري والنفراوي وغيرهم، من مؤلفاته: " غاية المرام فيما يتعلق بأنكحة الأنام " و " غاية المراد لمن قصرت همته من العباد "، توفي سنة (1151 هـ). انظر " سلك الدرر " (4/ 200)، " عجائب الآثار " (2/ 34)، " فهرس الفهارس ". (¬5) الشيخ الإمام مصطفى بن أحمد المصري الشافعي الشهير بالعزيزي نسبة إلى قرية تسمى بالعزيزية، أخذ عن الشيخ عبد ربه الديوي والشمس الشرنبابلي الشافعي، وبرع واشتهر بالفضل والذكاء، توفي في حدود سنة (1160 هـ). انظر " سلك الدرر " (4/ 178)، " عجائب الآثار " (2/ 36). (¬6) العلامة الفقيه محمد بن أحمد بن حجازي الأزهري الشافعي الشهير بالعشماوي، محدث محقق مدقق، أخذ عن العلامة الصبان وغيره، توفي سنة (1167 هـ). انظر " سلك الدرر " (4/ 32)، " عجائب الآثار " (2/ 87).

الأَسْقاطي (¬1)، والشيخ أحمد البَقَري (¬2)، والشيخ أحمد العَماوي (¬3) والسيد علي الحنفي، والشيخ حسن المَدابِغي (¬4)، والشيخ محمد الدَّفري (¬5)، والسيد محمد البُلَيْدِي (¬6)، والشيخ محمد الحَفْناوي (¬7)، وغيرهم. ¬

_ (¬1) الشيخ العالم أحمد بن عمر القاهري الحنفي الشهير بالأسقاطي، أخذ عن الشيخ عبد الحي الشرنبلالي، والشيخ الزرقاني والمنوفي وغيرهمِ، توفي سنة (1159 هـ). انظر " سلك الدرر " (1/ 149)، " عجائب الآثار " (2/ 41). (¬2) الإمام الفاضل أحمد بن رجب البقري الشافعي المقرىء، حضر على المدابغي والحفني، واشتهر بالعلم والصلاح والولاية، توفي سنة (1189 هـ) وهو متوجه إلى الحج. انظر " عجائب الآثار " (3/ 119)، " هدية العارفين " (1/ 179). (¬3) الإمام العالم أحمد بن أحمد العماوي المالكي، أخذ عن العلامة الزرقاني والشبراملسي، وتصدر للإقراء بعد وفاة العلامة الشبراملسي، توفي سنة (1155 هـ). انظر " عجائب الآثار " (2/ 30)، " شجرة النور الزكية " (2/ 292)، " فهرس الفهارس " (2/ 830). (¬4) الشيخ الإمام حسن بن علي بن أحمد الشافعي الأزهري المنطاوي الشهير بالمدابغي، أخذ عن الشيخ عيد النمرسي ومحمد الورزازي والتنبكتي، له حاشية على شرح الخطيب على " أبي شجاع "، توفي سنة (1170 هـ). انظر " عجائب الآثار" (2/ 123)، " هدية العارفين " (1/ 268). (¬5) العلامة الثبت محمد الدفري الشافعي، أخذ العلم عن الأشياخ من الطبقة الأولى، وانتفع به فضلاء كثيرون، منهم العلامة الشيخ محمد المصيلحي والشيخ عبد الباسط السنديوني وغيرهما، توفي سنة (1161 هـ). انظر " عجائب الآثار " (2/ 44). (¬6) خاتمة المحققين محمد بن أحمد الحسني المغربي المالكي الشهير بالبليدي، نزيل مصر، أخذ عن العلامة البقري والبشيشي والديوي والنفراوي، من مؤلفاته: حاشية على " تفسير البيضاوي "، وحاشية على " شرح الأشموني على الألفية "، توفي سنة (1176 هـ). انظر " سلك الدرر " (4/ 110)، " شجرة النور الزكية " (2/ 295). (¬7) الشيخ الفقيه المحدث، محمد بن سالم الحفناوي، ويقال له: الحفني، ولد بحفنة، قرية قريبة من بلبيس، انتفع به أخوه يوسف كثيرا، من مؤلفاته: " حاشية على شرح الهمزية "، توفي سنة (1181 هـ). انظر " سلك الدرر " (4/ 49).

وقد باركَ الله تعالى في أصحابه طبقةً بعد طبقة كما هو مشاهد. وله مؤلفات كثيرة، منها: " حاشية ابن تركي "، و " حاشية الزُّرْقاني على العِزِّيَّة). و " حاشية أبي الحسن على الرسالة " في مجلدين ضخمين. و " حاشية الخرشي " وهو مشتغلٌ بها الآن، أتمَّها اللهُ تعالى بخير، و " حاشية الزرقانى على المختصر " (¬1). و" حاشية الهدهدي على الصغرى "، و " حاشيتان على الشيخ عبد السلام على الجوهرة " كبرى وصغرى (¬2). و" حاشية الأخضري على السلم " (¬3)، و" حاشية ابن عبد الحق على بسملة شيخ الإسلام "، و " حاشية شيخ الإسلام على ألفية العراقي في مصطلح الحديث " (¬4). قال: طالما كنتُ أبيتُ بالجوعِ في مبدإِ اشتغالي بالعلم، وكنتُ لا أقدِرُ على ثمنِ الورق، ومع ذلك إذا وجدتُ شيئاً .. تصدقتُ. وقد تكرَّرَتْ له بِشاراتٌ حسنة، مناماً ويقظة، كان إذا حكى لنا شيئاً من ذلك .. قال: هكذا كان الإمام مالكٌ يُخبرُ أصحابَه بالرؤيا ويقول: (الرؤيا تُسرُّ ولا تغر). ¬

_ (¬1) وكلها في الفقه المالكي. (¬2) وهذه الحواشي في علم التوحيد. (¬3) في علم المنطق. (¬4) عجائب الآثار (3/ 116 - 119)، وفيه كلمة (على) بعد ذكر كل حاشية.

منها: ما وقع للشيخ محمود الكردي (¬1) من صلحاءِ أصحاب البدر الحفني (¬2) قال: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يقول: علي الصعيدي خليفتي، فلما انتبهتُ وخطرَ ببالي الشيخُ .. قلت: علي الصعيدي غيرُه كثير، فنمتُ، فرأيته ثانيةً يقول: علي الصعيدي هذا ويُشيرُ للشيخ. ورأى بعضُ الصلحاءِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام في محراب الأزهر، والطلبةُ تعرِضُ عليه تقاييد الأشياخِ، فلما رأى ما قُيِّدَ عن الشيخِ .. صار يقول بِذُلٍّ وانكسارٍ: يا علي، ويُكرِّرُها. ورآه الشيخُ نفسُهُ في المنام وقال له: أجزني، فقال: أجزتك. وأمثالُ ذلك كثير. ورأى غيرُ واحدٍ من الصُّلحاءِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام يأمرُهم بالحضورِ عليه. وآخرُ رأى مالكاً والشافعيَّ في مجلِسِ تدريسِهِ. ويشهد له بالمعرفةِ والصلاحِ مَنْ أنصَفَ من أهل عصرِه، وكثيراً ما يُوصينا مَن اجتمعنا عليه من الصالحين بملازمتِهِ مع الاعتناء، ولقد ¬

_ (¬1) الإمام العلامة محمود بن محمد بن يزيد الكوراني الكردي الخلوتي، أخذ العهد عن الشمس الحفني المذكور، ونزل القاهرة وتوفي بها سنة (1195 هـ). انظر " عجائب الآثار " (3/ 238)، " هدية العارفين " (2/ 417). (¬2) شمس الدين محمد بن سالم الحفني المتقدم ترجمته.

سمعتُ سيدي عبد الوهَّاب العفيفي (¬1) في مرضِ موته يقول: الشيخُ ناجٍ، والذي يحضره ناجٍ، أو كلاماً هذا معناه (¬2). ... ¬

_ (¬1) الإمام المعمر العلامة عبد الوهاب بن عبد السلام العفيفي المالكي البرهاني، يعود نسبه للعلامة مرزوق الكفافي، توفي سنة (1172 هـ). انظر " عجائب الآثار " (2/ 141). (¬2) انظر ترجمة العلامة العدوي في " سلك الدرر " (3/ 206)، " عجائب الآثار " (3/ 116 - 119)، " فهرس الفهارس " (2/ 713)، " هدية العارفين " (1/ 409)، " شجرة النور الزكية " (2/ 301). قال عنه العلامة الأمير الشارح في مقدمة رسالة " مطلع النيرين " (ص 2): (إنسان عين التحقيق وعين إنسانه، أفضل من جمع درر المعاني في صدف الألفاظ ببيانه، ونشر مسك المداد على كافور الصحائف ببنانه، محيي العلوم بعد أن درست، ومنوِّر أقمار الفهوم بعد أن كسفت، ملحق الأواخر بالأوائل، وموضح كل كمين بكشف الشبهات وشرح الدلائل، شيخنا ومربينا وشيخ مشايخنا ومربيهم).

ولما فرغَ مِن آدابِ الفهم .. شرعَ يذكرُ آدابَ الإفهام، وأنها بأنْ يسلكَ بمن يُفهِّمُهُ فيما تقدم، فقال: ـ[فَإِذَا فَهِمْتَ الْمَعَانِيَ وَأَرَدْتَ تَفْهِيمَ غَيْرِكَ: فَآدَابُ ذَلِكَ أَنْ تُبيِّنَ الْمَعَانِيَ الدَّاخِلَةَ تَحْتَ الألفَاظِ، ثُمَّ الْمَعَانِيَ الدَّقِيقَةَ بِمَا عَرَفْتَهُ مِنَ الآدَابِ، وَلاَ تَتَبَّعِ الأَقْوَالَ، فَمَنْ تَتبَّعَهَا .. لَمْ يَأْتِ مِنْهُ فَائِدَةٌ.]ـ (فإذا فهمتَ المعانيَ) بما تقدَّم (وأرَدْتَ تفهيمَ غيرِك .. فآدابُ ذلكَ) التفهيمِ (أنْ تُبَيِّنَ) له (المعانيَ الداخلةَ تحتَ الألفاظِ) مُفْرَدةً مركَّبَةً (ثُمَّ المعانيَ الدقيقةَ) والنكات (بما عرفتَهُ من الآدابِ، ولا تَتَبَّعِ الأقوالَ) قبل تفهيمِ ما أنت فيه (فَمَنْ تتبَّعَها) وجعلَهَا جُلَّ قصدِه قبلَ أنْ يفهمَ ما هو فيه، ولم يعلم المُعَوَّلَ عليه منها .. (لم يأتِ منهُ فائدةٌ). ـ[وَأَمَّا أَنْوَاعُ الشُّرُوحِ: فَأَحْسَنُهَا: مَا يَشْتَمِلُ عَلَى تَفْسِيرِ كُلِّ كَلِمَةٍ خَفِيَّةٍ عَقِبَهَا، وَضَبْطِ مَا يَخْفَى أَمْرُهُ، وَتَقْدِيرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَكَانِهِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى سَبَبِهِ، وَإِعْرَابِ مَا يَخْفَى إِعْرَابُهُ، وَذِكْرِ الْعِلَلِ وَالأَدِلَّةِ.]ـ

(وأمَّا أنواعُ الشُّرُوحِ .. فأحسنُها: ما يشتملُ على تفسيرِ كلِّ كلمةٍ خَفِيَّةٍ عَقِبَها، وضبْطِ ما يخفى أمْرُهُ، وتقديرِ ما يُحتاجُ إليهِ في مكانِهِ، والتنبيهِ على سببِهِ، وإعرابِ ما يخفى إعرابُهُ، وذكرِ العللِ والأدلَّةِ) للأحكام، والظاهرُ أنَّ العطفَ مرادفٌ. ـ[وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى بِعِبَارَةٍ أَوْضَحَ مِنَ الْمَشْرُوحِ، مُصَدَّرَةً بِـ (نَحْوِ) وَ (الْمَعْنَى كَذَا) أَوْ (كَأَنَّهُ قَالَ كَذَا).]ـ (والتعبيرِ عن المعنى بعبارةٍ) مِنْ عبَرَ المكانَ: دخلَهُ، لأنَّ اللفظَ كالمكان الذي يدخلُ فيه للمعنى، أو من تعبيرِ الرؤيا ونحوها: تفسيرها، فإنها تدلُّ على المعنى. (أوضحَ من المشروحِ مُصَدَّرةً بـ " نحو " و " المعنى كذا " أو " كأنَّهُ (أي: صاحبُ المشروح (قالَ كذا ") وهذا إنما يُحْتاجُ له ويَحْسُنُ في المقامِ الصَّعْبِ. ـ[وَذِكْرِ الإِيرَادَاتِ بِأَجْوِبَتِهَا إِنْ كَانَتْ، وَبَيَانِ الرَّاجِحِ أَوِ الأَرْجَحِ.]ـ

(وذكرِ الإيراداتِ) أي: الاعتراضاتِ المُوْرَدَة (بأجوبتِها) الباءُ بمعنى: " معَ " (إنْ كانتْ، وبيانِ الراجحِ) ومقابلُهُ مرْجوحٌ (أوِ الأرْجَحِ) ومقابلُهُ راجحٌ لا يُساويهِ. وأراد بالرُّجْحانِ: ما يشملُ المشهوريَّة، أو كونه معمولاً به. وأصل الرُّجحان: قُوةُ المدرك، ويقابلها الضعيف. والمشهوريةُ: كثرةُ القائل، وهي مُقَدَّمةٌ عند المقلِّدين، لأن الأكثر إنما يعدلُ لأمرٍ وإن لم نطَّلع عليه، وما به العمل مُقَدَّمٌ على الجميع، وفي جوازِ العمل بالضعيفِ خلافٌ (¬1). ـ[وَمِنْهَا: مَا لاَ يَتَعَرَّضُ لِلْمَشْرُوحِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ قَوْلَةً قَوْلَةً، وَيَأْتِي بَعْدَ كُلِّ قَوْلَةٍ بِكَلاَمٍ مُسْتَقِل يَفْهَمُ مَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ مَعْنَاهَا.]ـ (ومنها) أي: الشروح (ما لا يتعرَّضُ للمشروحِ بشيءٍ مِنْ ذلكَ، وإنَّما يذكرُ) من المشروحِ (قولَةً) بعد (قولة، ويأتي بعدَ كلِّ قولةٍ بكلامٍ مُسْتَقِلٍّ يَفهَمُ مَنْ وقفَ عليهِ معناها). ثم منهم: مَنْ يرجع بعد ذلك لكلامِ المتن، فَيُنْزِلُهُ على ما ذكره. ¬

_ (¬1) هذا بشأن الأقوال المجتهدة، لا بشأن النقول المأثورة، فتلك لها ضوابط خاصة.

وهل للشارحِ تغييرُ إعرابِ المتن (¬1)؟ ثالثها: إنْ كانَ مزجاً، والأظهرُ إن اضْطُرَّ له في أمر يُعْتَدُّ به. وهل يكفيهِ في الجوابِ عن الإيرادِ المرادُ؟ ثالثها: الأظهرُ إن قامتْ قرينة، وبقدْرِ ظهورها يقوى دفع الإيراد. والمتنُ أصلُه، الظهر، والأرض الصَّلْبَة، وبيضة الجَدْي، فشبَّهَ المشروحَ بالظهر الذي تُحملُ عليهِ الأشياءُ، فإنَّ الشرحَ كأنه محمولٌ عليه، أو بالصلبةِ في الصُّعوبَةِ، أو بالبيضةِ التي يُشَقُّ عنها الجلد لإظهارها (¬2). وسُمِّيَ الشرْحُ شرحاً لأنه أوسعُ منه، وشَرْحُ الصَّدْرِ: توسيعُهُ. ـ[وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ، وَلَيْسَ غَرَضُنَا بَيَانَ جَمِيعِ الأَنْوَاعِ وَلاَ جَمِيعِ الآدَابِ.]ـ (وهذا القدرُ كافٍ) حُسْنُ اختتامٍ بتوريةٍ، أي: هذا القدر المحتوي عليه بعضُ الشروح الذي يذكر قولةً بعد قولةٍ .. كافٍ في الشرح، أو هذا القدر الذي ذكرناه في هذه الرسالة .. كافٍ في مقصودنا. ¬

_ (¬1) كما صنع المصنف قبل قليل حين قال: (قولة بعد قولةٍ) على سبيل المزج. (¬2) يقال: مَتَن الكبشَ، إذ شقَّ صفْنَه واستخرج بيْضَهُ بعروقها.

(وليسَ غرضُنا بيانَ جميعِ الأنواعِ) للشروح (ولا جميعِ الآدابِ) للفهم والتفهيمِ، إذْ مثل ذلك مُتَعذِّرٌ أو مُتَعَسِّرٌ. وأما المتون: فأحسنُ أنواعها: المختصرُ المفيدُ بلا تعقيد، والحواشي من قبيل الشروح. ومما ينبغي التحرُّزُ عنه: التعمُّقُ في المناقشة اللفظية التي لا تعود بنفع في أصل المراد، كما يرتكبُهُ مَن زعمَ أنه تحقيقٌ، ولَعَمْري، إنه حقيقٌ بما قيل: تحقيقٌ حُذِفَتْ تاؤه وحاؤه (¬1). وإذا أراد أن يُقَيِّد شيئاً خصوصاً بالطُرَّةِ (¬2) .. فَلْيَتَحَرَّ الاختصارَ بقدر الحاجه، وانسجام الكلام. ولا يكن ممن (¬3) يكتبُ كلَّ ما سمعَ غثّاً أو سميناً، وربما ساقَ الشيخُ معنى الشرح بقالبٍ آخرَ، أو ارتكبَ شيئاً تسمُّحاً في التدريس، أو تقريباً للقاصرين، أو تمريناً للمُبْتَدِئين، فيكتبه بعضُ الناسِ كما هو، ويحسبون أنهم على شيءٍ، ورُبَّما نَفَقَتْ هذه البضائعُ المُزْجاةُ عند مَن اتَّخَذ علمَهُ هواه، والأمرُ كلُّهُ لله (¬4). ¬

_ (¬1) فعاد (قيقاً)، يشير به إلى طول فاحش مذموم. (¬2) أي: أراد كتابة ملحق أو حاشية أو قيْدٍ ونحو ذلك، والله أعلم. (¬3) في النسخ: (مما). (¬4) فينبغي عند كتْبِ الفوائد والتقاييد عن أهل العلم: مراعاةُ مراد العالم من الكلمة التي صدرت عنه، فلا يكتب كلَّ ما يقول من الكلام، بل ينتخب منه الغالي النفيس.

ـ[وَلَكِنْ جُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ آدَابَ الفَهْمِ: التَّدَبُّرُ وَالتّاَمُّلُ، وَآدَابَ التفْهِيمِ: التَّفْكِيرُ وَالتَّذْكِيرُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ} والآيَةَ.]ـ (ولكنْ جُمْلَةُ القولِ) أي: القول المُجمل الجامع لما تفرَّقَ: (أنَّ آدابَ الفهمِ) يجمعها: (التدَبُّرُ والتأمُّلُ) عطف تفسير. (وآدابَ التفهيمِ) وهو: ثمرة الشروح أيضاً: (التفكيرُ والتذكيرُ. قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ} يتأمَّلون، والاستفهامُ: للتوبيخِ، والفاءُ: عاطفة على محذوفٍ، أي: أَعَمُوا فلا يتدبَّرون؟ أو أنَّ الفاءَ مُزحلَقةٌ، لعراقةِ الهمزةِ في الصدارةِ، والأصلُ: فألا يتأمَّلُ هؤلاءِ الكفارُ {الْقُرْآنَ} بالهمزِ، وقرأَ ابنُ كثيرٍ (¬1) بنقلِ حركتِه لما قبله وحذفه (¬2)، من القرْءِ، وهو: الجمع، لجمعه المعاني، أي: مُهمها وأصولها، أو كلُّها بالنسبةِ لما يفهمه الراسخون، أو اختصَّ به تعالى. (الآيةَ) مفعولٌ لمحذوفٍ، أو بدل كلٍّ مِن بعضٍ، أو مِن كلّ، على ¬

_ (¬1) الإمام المقرىء، عبد الله بن كثير بن عمر المكي الكناني، توفي سنة (120 هـ). انظر " أحسن الأخبار " (ص 40). (¬2) الضمير عائد على الهمز، فابن كثير حذف الهمز ونقل حركته - وهي الفتح - إلى الحرف الذي قبله، فقرأ: (القُرَان).

التجوُّزِ من الجملةِ قبله (¬1)، على حدِّ ما يُقال في: [من الخفيف] رَحِمَ اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوها ... بِسِجِسْتانَ طَلْحَةِ الطَّلَحاتِ (¬2) إن قلتَ: إنما يقولون ذلك إذا تعلَّقَ الغرضُ بآخر الآية. قلتُ: هنا كذلك، فإنَّ تمامها {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ} أيّا كان، من أساطير الأولين، أو كهانة، أو تقوُّلٍ .. {لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} تناقضاً في معانيه، وتبايُناً في نظمه، فإنَّ ما فيه من المعاني البديعة، والسياقاتِ الرفيعة لو سلكها غيرُ القادرِ على كلِّ شيءٍ مَعَ الطولِ وكثرة التكرار .. لوقع في الاضطراب، وخرج عن حدِّ البلاغة رغماً عنه، وقد جاء هو مع ذلك في الطرف الأَعلى منها كما يشهد به التأمُّلُ، فكان ذلك أتمَّ دليلٍ لهم، وأقوى باعثٍ على الإيمان، لكنهم لم يعملوا بمقتضاه، فكفروا واستغنى الله. ¬

_ (¬1) فكأنه جعل ذكر بعضها كذكرها كاملة، فصار بدل كل من كل. (¬2) اليت لعبيد الله بن قيس الرقيات، كما في " ديوانه " (ص 20)، وفيه: (نضَّرَ) بدل (رحم). والشاهد فيه هنا: على رواية النصب في (طلحة)، فهو إما منصوب بفعل مضمر تقديره: (أعني) على سبيل المدح، أو هو بدل كل من بعض، إذ أعْظُم طلحة بعض طلحة، أو بدل كل من كل بجعل أعْظُم من قبيل ذكر البعض وإرادة الكل، وهذا الأخير ما صححه أبو حيان. أما على رواية الخفض .. فهو على تقدير محذوف مضاف، أي: أعظمَ طلحةِ، أو مضاف لسجستان على الحقيقة، لأنه كان والياً عليها. انظر ذلك كلَّه في " خزانة الأدب " (8/ 14 - 15).

ـ[فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ بِقَلْبٍ وَاعٍ .. عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ الإِعْجَازِ، كَدَقَائِقِ الْعُلُومِ الإِلَهِيَّةِ، وَمَحَاسِنِ الآدَابِ وَالأَخْلاَقِ، الَّتِي لاَ يُحِيطُ بِهَا إِلاَّ الْعَالِمُ بِكُلِّ طَوِيَّةٍ وَخَفِيَّةٍ، وَالإِنْبَاءِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَكَبَلاَغَتِهِ وَنَظْمِهِ الْغَرِيبِ الْمُخَالِفِ لِسَائِرِ أَسَالِيبِ كَلاَمِ الْعَرَبِ الَّذِي أَعْجَزَ الْفُصَحَاءَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَعَدَمِ اخْتِلاَفِهِ مَعَ طُولهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.]ـ (فإنُّه) أي: قوله تعالى السابق (يدلُّ) كما علمتَ (على أنَّ مَنْ تدبَّر القرآنَ بقلبٍ) أي: عقلٍ (واعٍ) حافظٍ مُتقِنٍ .. (علمَ) بسبب ذلك (أنَّهُ) أي: القرآن (مِنْ عندِ اللهِ تعالى) عند هنا للمكان المجازي، أي: أنَّ الله هو الذي قاله، بمعنى: تولى نظمه مِن غيرِ كسبِ أحدٍ في أصل نظمه، أو أنَّ المرادَ منها: لا مِن عندِ غيرِه؟ كما يقولون: وجوده لذاته، أي: لا من غيره، لا أنَّ الذاتَ أثَّرَتْ في نفسها. (لِما اشتملَ) القرآنُ (عليهِ مِنْ وجوهِ الإعجازِ) أي: الطرق والأمور التي أعجزَ بها الفصحاءَ البلغاءَ من العرب العرباءِ وغيرهم، حيثُ طُلِبُوا أنْ يأتوا بمثله، أو بعَشْرِ سوَرٍ منه، أو بأقصرِ سورة منه، معَ النكيرِ عليهم، والتشنيعِ بالعجزِ الذي يُثيرُ الحميَّةَ كلَّ الإثارة، معَ سبِّهم

وسبِّ دينهم وآبائهم وألهتهم .. فعجزوا عن ذلك، مع أنهم كانوا يتباهَونَ بالفصاحةِ والمروءة. ثم منهم مَن حملَهُ ضيقُ هذا المجال إلى أن يُخاطِرَ بِمهْجَتِهِ الأسِنَّةَ وسيوفَ القتالِ، ومنهم مَن هذى بما صيَّرَه ضُحْكةً كمُسَيْلِمة. ومثَّلَ لوجوهِ الإعجازِ بقوله: (كدقائقِ العلوم الإلهيَّةِ) ويندرجُ فيها نِكات البلاغة (ومحاسنِ الآدابِ) إضافة بيانيَّة، أَو من إضافةِ الصِّفَةِ، أو بمعنى: مِنْ، أي: أحسنها، وهو عطفٌ خاصٌّ، أو أراد بالدقائقِ ما عداها. (والأخلاقِ) جمعُ خُلُقٍ بالضمِّ: الصفة (التي لا يُحيطُ بها إلا) اللهُ تعالى (العالمُ بكلِّ طويّهٍ وخفيّهٍ) عطف تفسيرٍ، فإن الطويَّةَ فعيلة بمعنى مفعولةٍ، أي: مطويةٌ مخبَّأة (والإنباءِ) أي: الإخبار (عنِ المُغَيَّباتِ) مما مضى وما هو آتٍ. (وكبلاغتِهِ) أي: مُطابقته لمُقْتضياتِ الأحوال مع فصاحته (ونَظْمِهِ) أي: تركيبه (الغريبِ المخالفِ لسائرِ أساليبِ) أي: طُرُق (كلامِ العربِ) فإنَّه ليس على قانون بحرٍ مِن بُحورِ النَّظْمِ، ولا على دأبِ السَّجع المحضِ بينهم (الذي أعجزَ الفصحاءَ عَنْ معارضتِهِ) كما تقدَّمَ (وعدمِ اختلافِهِ مع طولِهِ، وغيرِ ذلكَ) مما يُدرَك بالتبيانِ أو الوِجْدانِ، وقد سمع أعرابيٌّ قولَهُ تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} فسجد، وقال: (سجدتُ لِحُسْنِ هذا الكلامِ) (¬1). ¬

_ (¬1) انظر " سبل الهدى والرشاد " (9/ 578).

ثم رجعَ لأصلِ الغرضِ فقال: ـ[فَيُسْتَفَادُ بِالْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ كَلاَمٍ تُدُبِّرَ وَتُؤُمِّلَ: اسْتُفِيدَ مِنْهُ عَلَى حَسَبِ التّدَبُّرِ وَالْكَلاَمِ، فَلَيْسَ كَلاَمُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَكَلاَمِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.]ـ (فيُسْتَفادُ بالقياسِ: أنَّ كلَّ كلامٍ تُدُبِّرَ وتُؤُمِّلَ .. اسْتُفِيدَ منهُ على حسَبِ التدبُّرِ والكلامِ) قوة وضعفا، وحذف المستفاد، أي: ما يفتح اللهُ به. وفرَّعَ على قوله: (والكلام) قولَهُ: (فليسَ كلامُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ولو حديثاً قُدسِيّاً (ككَلامِ اللهِ تعالى، وعلى هذا القياسُ) مُبْتدأٌ وخبرٌ، أو القياسُ بدل من هذا، أو مفعول لمحذوف، أي: وأجْرِ على هذا القياسَ، أو وَقِسِ القياسَ على هذا الذي ذكرتُهُ، فليس كلامُ العلماءِ ككلامِ الرسول، ولا كلامُ المحققينَ ككلامِ غيرهم. والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

تمَّ الشرْحُ صبيحةَ الجُمُعةِ الأولى مِن جمادى الأُولى سنةَ ثمانينَ ومئةٍ وألْفٍ والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله اللهم اغفر لكاتبه والمسلمين (¬1) ... ¬

_ (¬1) جاء في خاتمة النسخة (أ): وقد وافق فراغه ليلةَ الأحد المبارك، الذي هو السادسُ والعشرون من شهر رجب الأصبِّ الأصمِّ على يد كاتبه الفقير إلى الملك الرحمن، محمد بن الرُّوبي رمضان، غفر الله له ولوالدِيه، وإخوانه ومحبيه. والحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، آمين آمين وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم وجاء في خاتمة النسخة (ب): وكان الفراغ من نسخه على يد العبد الفقير إلى الله تعالى، الشيخ رضوان بن السيد عثمان بن السيد عثمان، يوم الأحد المبارك اثني عشر من جمادى الأول من سنة (1272 هـ)، ألف ومئتين واثنين وسبعين من هجرة من له كمال العز والشرف. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

أهم مصادر ومراجع التحقيق

أهمّ مصادر ومَراجع التحقيق (¬1) - إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، للإمام الكبير الشريف محمد بن محمد الزَّبيدي الحسيني المعروف بـ: مرتضى الزبيدي (ت 1205 هـ)، ط 1، (1994 م)، طبعة مصورة لدى دار إحياء التراث العربي، لبنان. - إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر المسمى " منتهى الأماني والمسرات في علوم القراءات "، لعالم القراءات الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد الدمياطي المعروف بـ: البنّاء (ت 1117 هـ)، تحقيق الدكتور شعبان محمد إسماعيل، ط 1، (1987 م)، عالم الكتب، لبنان. - أحاسن الأخبار في محاسن السبعة الأخيار، للعلامة الفقيه الأديب عبد الوهاب بن أحمد الحارثي المعروف بـ: ابن وَهْبان (ت 768 هـ)، تحقيق عبد الجليل العطا البكري، ط 1، (2002 م)، دار النعمان للعلوم، سورية. - الأقاويل المفصلة لبيان حديث الابتداء بالبسملة، للإمام المحدث الشريف محمد بن جعفر الكتاني الحسني (ت 1345 هـ)، تحقيق ¬

_ (¬1) اعتمدنا في فهرسة المصادر على التالي: اسم الكتاب، اسم المؤلف وتاريخ وفاته، اسم المحقق، رقم الطبعة، تاريخ طبع الكتاب، اسم الدار الناشرة ومقرها.

الشريف العلامة محمد الفاتح محمد المكي الكتاني والشريف محمد عصام يوسف عرار الحسني، ط 1، (1998 م)، نشره محققه، سورية. - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، للإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 1، (1964 م)، طبعة مصورة لدى المكتبة العصرية، لبنان. - البيان والتبيين، لكبير أئمة الأدب عمرو بن بحر بن محبوب الليثي المعروف بـ: الجاحظ (ت 255 هـ)، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، ط 7، (1998 م)، مكتبة الخانجي، مصر. - تاج العروس من جواهر القاموس، للإمام الكبير الشريف محمد بن محمد الزَّبيدي الحسيني المعروف بـ: مرتضى الزبيدي (ت 1205 هـ)، تحقيق عبد الستار أحمد فراج وجماعة من أئمة التحقيق، ط 1، (1385 هـ)، وزارة الإرشاد والأنباء، الكويت. - تفسير ابن عطية المسمى " المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز "، للإمام الفقيه المفسر عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن الغرناطي المعروف بـ: ابن عطية (ت 546 هـ)، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، ط 1، (2001 م)، دار الكتب العلمية، لبنان. - تفسير الجلالين وبهامشه " لباب النقول في أسباب النزول " و " معرفة الناسخ والمنسوخ " و " ألفية الإمام أبي زرعة العراقي في تفسير غريب القرآن " ورسالة فيما ورد في القرآن الكريم من لغات القبائل "،

للإمامين الكبيرين العلامة جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (ت 864 هـ) والعلامة جلال الدين عبد الرحمدن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ)، ط 1، (1342 هـ)، طبعة مصورة عن نشرة مطبعة عيسى البابي الحلبي لدى مكتبة الإيمان، مصر. - تفسير الفاتحة الكبير المسمى " البحر المديد في تفسير القرآن المجيد "، للعلامة المفسر المشارك الشريف أحمد بن محمد بن المهدي الحسني المعروف بـ: ابن عجيبة (ت 1224 هـ)، تحقيق بسام محمد بارود، ط 1، (1999 م)، دار الحاوي، لبنان. - التفسير الكبير المسمى البحر المحيط وبهامشه تفسير النهر الماد من البحر للمؤلف والدر اللقيط من البحر المحيط لابن مكتوم (ت 749 هـ)، للإمام النحوي محمد بن يوسف بن علي الأندلسي المعروف بـ: أبي حيان (ت 745 هـ)، ط 2، (1995 م)، طبعة مصورة لدى دار إحياء التراث العربي، لبنان. - تهذيب الأسماء واللغات، للإمام الحافظ يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ)، تحقيق عبده علي كوشك، ط 1، (2006 م)، دار الفيحاء ودار المنهل، سورية. - الجنى الداني في حروف المعاني، للإمام المفسر الأديب الحسن بن قاسم المرادي (ت 749 هـ)، تحقيق الدكتور فخر الدين قباوة والأستاذ محمد نديم فاضل، ط 1، (1992 م)، دار الكتب العلمية، لبنان.

- حاشية الأمير على شرح عبد السلام على الجوهرة في علم الكلام المسمى " إرشاد المريد شرح جوهرة التوحيد " وبهامشها الشرح المذكور، للإمام العلامة المحقق محمد بن محمد بن أحمد السَّنَباوي المعروف بـ: الأمير الكبير (ت 1232 هـ)، ط 1، (1956 م)، مطبعة محمد علي صبيح، مصر. - حاشية الأمير على مغني اللبيب، للإمام العلامة المحقق محمد بن محمد بن أحمد السَّنَباوي المعروف بـ: الأمير الكبير (ت 1232 هـ)، ط 1، بدون تاريخ، دار إحياء الكتب العربية، مصر. - حاشية الصبان على شرح الأشموني (ت نحو 955 هـ) على ألفية ابن مالك ومعه شرح الشواهد للعيني (ت 855 هـ)، للعلامة الأديب اللغوي محمد بن علي الصبان (ت 1256 هـ)، ط 3، (1419 هـ)، طبعة مصورة لدى إنتشارات زاهدي، إيران. - حاشية العطار على " شرح الخبيصي لتهذيب التفتازاني " المسمى " التذهيب في شرح التهذيب " وبهامشه " تشحيذ التذهيب " للحجري، للعلامة شيخ الأزهر حسن بن محمد بن محمود العطار (ت 1250 هـ)، ط 1، (1965 م)، دار إحياء الكتب العربية لصاحبها عيسى البابي الحلبي، مصر. - حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، للعلامة الشيخ عبد الرزاق بن حسن البيطار (ت 1335 هـ)، تحقيق محمد بهجة البيطار، ط 2، (1993 م)، طبعة مصورة عن نشرة مجمع اللغة العربية بدمشق لدى دار صادر، لبنان.

- حواشي الشرواني بهامش تحفة المحتاج بشرح المنهاج، للعلامة عبد الحميد الشرواني (ت 1301 هـ)، ط 1، (1315 هـ)، طبعة مصورة لدى دار صادر، لبنان. - خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب لعلامة الأدب والتاريخ عبد القادر بن عمر البغدادي (ت 1093 هـ)، تحقيق عبد السلام هارون، ط 2، (1979 م)، مكتبة الخانجي، مصر. - الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة، للمؤرخ النابغة الوزير علي باشا بن مبارك بن سليمان الروجي (ت 1311 هـ)، أعيد نشره وتحقيقه بإشراف مركز تحقيق التراث بدار الكتب، ط 3، (2004 م)، دار الكتب والوثائق القومية. - الدر النثير في الاتصال بثبت الأمير، للعلامة المحدث المسند محمد ياسين بن عيسى الفاداني (ت 1410 هـ)، ط 1، بدون تاريخ، نشره مؤلفه، السعودية. - الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، للإمام المفسر عالم العربية أحمد بن يوسف المعروف بـ: السمين الحلبي (ت 756 هـ)، تحقيق الدكتور أحمد محمد الخراط، ط 1، (1987 م)، دار القلم، سورية. - ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات برواية الحسن السكري عن ابن حبيب، لشاعر قريش الأموي عبيد الله بن قيس بن شريح المعروف بـ: ابن قيس الرُّقيَّات (ت نحو 75 هـ)، تحقيق الدكتور محمد يوسف نجم، ط 1، بدون تاريخ، دار صادر، لبنان.

- الرسالة القشيرية، لزين الإسلام الإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري (ت 465 هـ)، تحقيق العلامة الدكتور عبد الحليم محمود والدكتور محمود بن الشريف، ط 2، (1989 م)، دار الشعب، مصر. - سد الأرب من علوم الإسناد والأدب، للإمام العلامة المحقق محمد بن محمد بن أحمد السَّنَباوي المعروف بـ: الأمير الكبير (ت 1232 هـ)، تحقيق العلامة محمد ياسن الفاداني، ط 1، بدون تاريخ. - السر المصون على كشف الظنون، للأديب جميل بن مصطفى بك العظم (ت 1352 هـ)، تحقيق محمد خير رمضان يوسف، ط 1، (2004 م)، دار البشائر الإسلامية، لبنان. - سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر المسمى (تاريخ المرادي)، لمفتي الشام ونقيب أشرافها المؤرخ محمد خليل بن علي بن محمد الحسيني المرادي (ت 1206 هـ)، ط 1، (1301 هـ)، طبعة مصورة عن نشرة بولاق لدى دار البشائر الإسلامية - دار ابن حزم، لبنان. - سنن ابن ماجه، للإمام الحافظ محمد بن يزيد القزويني المعروف بـ: ابن ماجه (ت 275 هـ)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط 1، (1954 م)، دار إحياء الكتب العربية لصاحبها عيسى البابي الحلبي، مصر. - سنن أبي داوود وبهامشه معالم السنن للخطابي، للإمام الحافظ أبي داوود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 هـ)، تحقيق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، ط 1، (1997م)، دار ابن حزم، لبنان.

- سنن الترمذي المسمى الجامع الصحيح، للإمام الحافظ محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (ت 279 هـ)، تحقيق أحمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي وإبراهيم عطوة، ط 1، (1938 م)، طبعة مصورة لدى دار إحياء التراث العربي، لبنان. - السنن الكبرى وبذيله الجوهر النقي لابن التركماني، للإمام الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ)، بعناية السيد هاشم الندوي، ط 1، (1356 هـ)، طبعة مصورة عن دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد الدّكّن لدى دار المعرفة، لبنان. - السيرة الشامية المسماة (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد صلى الله عليه وسلم)، للإمام المحدث محمد بن يوسف الصالحي الشامي (ت 942 هـ)، تحقيق مجموعة من المحققين بإشراف الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 1، (1997م)، وزارة الأوقاف - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، مصر. - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، للعالم المفتي محمد بن محمد بن عمر مخلوف التونسي (ت 1360 هـ)، تحقيق الدكتور علي عمر، ط 1، (2007 م)، مكتبة الثقافة الدينية، مصر. - شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، لإمام النحاة عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله القرشي المعروف بـ: ابن عقيل (ت 769 هـ)، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 2، (1990 م)، طبعة مصورة عن نشرة المحقق، مصر. - شرح الكافية الشافية، لإمام العربية محمد بن عبد الله الجيَّاني المعروف بـ: ابن مالك (ت 672 هـ)، تحقيق الدكتور عبد المنعم أحمد

هريدي، ط 1، (1982 م)، دار المأمون للتراث، سورية. - صحيح البخاري المسمى بالجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسننه وأيامه (الطبعة السلطانية العثمانية)، لإمام الدنيا الحافظ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري (ت 256 هـ)، عني به الدكتور محمد زهير بن ناصر الناصر، ط 1، (1422 هـ)، دار طوق النجاة، لبنان. - صحيح مسلم المسمى الجامع الصحيح، للإمام الحافظ مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت 261 هـ)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط 1، (1954 م)، دار إحياء الكتب العربية لصاحبها عيسى البابي الحلبي، مصر. - طبقات الشاذلية الكبرى المسمى (جامع الكرامات العلية في طبقات السادة الشاذلية)، للعلامة المؤرخ الفقيه الحسن بن محمد بن قاسم الكُوهِن الفاسي المغربي (ت بعد 1347 هـ)، عني به مرسي محمد علي، ط 1، (2001 هـ)، دار الكتب العلمية، لبنان. - عجائب الآثار في التراجم والأخبار المعروف بـ: (تاريخ الجبرتي)، لمؤرخ مصر ومدون سير رجالها عبد الرحمن حسن الجبرتي (ت 1237 هـ)، تحقيق حسن محمد جوهر وعبد الفتاح السرنجاوي والسيد إبراهيم سالم، ط 1، (1958 م)، لجنة البيان العربي، مصر. - عوارف المعارف ومعه (غنية العارف بتخريج أحاديث عوارف المعارف) للسيد أحمد الغماري، للإمام المحدث شيخ الصوفية

عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي (ت 632 هـ)، تحقيق أديب الكمداني ومحمد محمود المصطفى، ط 1، (2001 م)، المكتبة المكية، السعودية. - فهرس الفهارس والأنسات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات، للعلامة المحدث الشريف محمد عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني الحسني (ت 1382 هـ)، عني به الدكتور إحسان عباس، ط 2، (1982 م)، دار الغرب الإسلامي، لبنان. - كفاية الطالب الرباني لرسالة بن أبي زيد القيرواني ومعه حاشية الإمام العدوي (ت 1189 هـ)، للعلامة الفقيه علي بن محمد المنوفي (ت 939 هـ)، عني به الدكتور محمد محمد تامر، ط 1، (2003 م)، مكتبة الثقافة الدينية، مصر. - لطائف المنن والأخلاق وبهامشه كتاب (لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية)، للإمام المجدد عبد الوهاب بن أحمد بن علي الشعراني (ت 973 م)، بدون تحقيق، ط 1، (1311 هـ)، طبعة مصورة عن نشرة المطبعة العامرة لدى دار الحكمة، سورية. - متن ألفية ابن مالك، لإمام العربية محمد بن عبد الله الجياني المعروف بـ: ابن مالك (ت 672 هـ)، عني به الدكتور عبد اللطيف محمد الخطيب، ط 1، (2006 م)، دار العروبة، الكويت. - مسند الإمام أحمد ابن حنبل، للإمام الحافظ أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (ت 241 هـ)، تحقيق مجموعة من العلماء بإشراف شعيب الأرنا ؤوط، ط 1، (1995 هـ)، مؤسسة الرسالة، لبنان.

- المصنف، للإمام الحافظ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (ت 235 هـ)، تحقيق محمد عوامة، ط 1، (2006 م)، دار القبلة، السودية. - مطلع النيرين في ما يتعلق بالقدرتين، للإمام العلامة المحقق محمد بن محمد بن أحمد السَّنَباوي المعروف بـ: الأمير الكبير (ت 1232 م)، ط 1، (1896 م)، طبعة مصورة عن نشرة المطبعة العمومية، مصر. - معجم البلدان، للعلامة المؤرخ الأديب ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي (ت 626 هـ)، عني به المستشرق وستنفيلد، ط 2، (1995 م)، دار صادر، لبنان. - معجم المؤلفين، للأستاذ المؤرخ عمر رضا كحالة (ت 1408 م)، عني به مكتب تحقيق الدار، ط 1، (1993 م)، مؤسسة الرسالة، لبنان. - معجم المطبوعات العربية والمعرَّبة وهو شامل لأسماء الكتب المطبوعة في الأقطار الشرقية والغربية مع ذكر أسماء مؤلفيها ولمعة من ترجمتهم وذلك من يوم ظهور الطباعة إلى نهاية السنة الهجرية 1339 الموافقة لسنة 1919 ميلادية، للأديب الكاتب يوسف بن إليان بن سَركيس (ت 1351 هـ م)، ط 1، (1410 هـ)، طبعة مصورة لدى مكتبة المرعشي النجفي، إيران. - موجب دار السلام في بر الوالدين وصلة الأرحام، للعلامة الفقيه الأديب محمد بن عبد السلام الناشري (ت 906 هـ)، تحقيق أحمد جاسم المحمد، ط 1، (2006 م)، دار المنهاج، السعودية.

- هدية العارفين أسماء المؤلفين وأثار المصنفين من كشف الظنون، لعالِم الكتب البحاثة إسماعيل باشا بن محمد أمين بن مير سليم البغدادي (ت 1339 هـ)، ط 1، (1364 هـ)، طبعة مصورة لدى دار الكتب العلمية، لبنان. - همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، للإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ)، تحقيق الدكتور عبد الحميد الهنداوي، ط 1، (2555 م)، المكتبة التوفيقية، مصر. ***

§1/1