ثلاثية البردة بردة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

حسن حسين

اهداء

اهداء عرفانا بالجميل أهدى هذا الجهد المتواضع إلى روح من حثني ووجهني إلى العلم إلى من أخذ بيدي إلى افاق النور والمعرفة إلى من أعطاني ووهبني من عقله سبل البحث الدائب في كتب العلم.. إلى نفس الطاهرة التي ردت إلى بارئها منذ سنوات طوال، ولكنها لا تزال تظللني بحنان الأبوة، وتفئ على بالحب والعطف. إلى روح المرحوم: الشيخ عبد الرحمن بن حمد ال ثاني حسن حسين

محتويات ثلاثية البردة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ محتويات ثلاثية البردة * الاهداء 3 * فهرس الموضوعات 5 * مقدمة 7 البردة لغويا 9 مفهوم المعارضة الأدبية 11 * الفصل الأول: كعب بن زهير ومدح الرسول (ص) 17 كعب وقصة اسلامه 19 أضواء على لامية كعب في مدح الرسول 24 شرح القصيدة 29 * الفصل الثاني: البوصيري وبردته 47 الامام البوصيري وقصيدة البردة 50 شرح البردة 54 * الفصل الثالث: أمير الشعراء ونهج البردة 87 الشاعر والقصيدة 96 شرح نهج البردة 98 * الفصل الرابع: موازنة بين الأغراض الشعرية * الفصل الرابع: القصائد الثلاث 139- 130 المقدمة الغزلية- الوصف والحكمة- في مدح الرسول والمسلمين- مولد الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) - معجزات الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) - طلب الأمان- الجهاد في سبيل الله- الشريعة الإسلامية- المقارنة بين الحضارات- الخلفاء الراشدون- المناجاة وعرض الحاجات.

* النصوص الكاملة للقصائد الثلاث 173 بردة كعب بن زهير. بردة الامام البوصيري. نهج البردة لأحمد شوقي. * المراجع 191 هذا والله المستعان

مقدمة

مقدمة برزت قصائد عدة في أدب النبوة مدحا وتعظيما لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولعل أبرز تلك القصائد (ثلاثية البردة) وهي بردة كعب بن زهير، وبردة الإمام البوصيري، ونهج البردة لأحمد شوقي، وكلها تنطلق من التعظيم والتكريم لبردة الرسول صلوات الله عليه وسلامه، التي خلعها على أول هؤلاء الشعراء.. ومن ثم رأيت أن يكون البحث في أربعة فصول مهدت لها بالحديث عن معنى (البردة) في اللغة، ومفهوم المعارضة الأدبية. وجعلت الفصل الأول للشاعر المخضرم كعب بن زهير ومدحه للرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وتناولت في الفصل الثاني الإمام البوصيري وقصيدته الميمية (البردة) ، وخصصت الفصل الثالث لأمير الشعراء أحمد شوقي وقصيدته (نهج البردة) ، أما الفصل الرابع والأخير فقد عرضت فيه موازنة أدبية بين قصائد الشعراء الثلاثة من حيث الأغراض أو الموضوعات الأساسية التي تناولها كل منهم في قصيدته، ووضحت خلال ذلك بعض وجهات النظر حول طرق التناول لتلك الموضوعات، ورأيت في نهاية البحث أن أقدم للقارئ الكريم النصوص الكاملة للقصائد الثلاث لعله يطالع هذه الأعمال العظيمة لهؤلاء الشعراء الكبار، ويحلق معهم في افاق نورانية مع مدح سيد الأنام محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام. وليغفر لي القارئ الكريم ما أراني قد قصرت فيه، فانى طالب علم وعلى بداية الطريق ... والله المستعان الدوحة في يوم الأحد 27 من رجب 1406 هـ

تمهيد

تمهيد لقد تناول كثير من الشعراء موضوع مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم ورددت الألسنة مدائحهم وبخاصة في حلقات الذكر كلما حلت مناسبة دينية وما أكثرها. وحظيت القصائد الثلاث التي نظمها الشعراء كعب بن زهير والإمام البوصيري وأحمد شوقي بمكانة طيبة بين قصائد المدح لسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، وقد جمع بين هذه القصائد خط فكري يكاد يكون واحدا انطلق من التسمية التي صارت علما عليها، فقد عرفت قصيدة كعب بالبردة، ومن بعده كانت بردة البوصيري، ثم جاءت نهج البردة لأمير الشعراء تيمنا ببردة الرسول عليه الصلاة والسلام. البردة لغويا: ورد في المعاجم اللغوية أن البردة كساء مخطط يلتحف به «1» . بل هي قطعة طولية من القماش الصوفي السميك الذي يستعمله الناس لستر أجسامهم أثناء النهار كما تتخذ غطاء في أثناء الليل وكانت البردة معروفة عند البدو ومن أشهرها برود اليمن «2» . وكان هذا النوع من اللباس معروفا في الأندلس ويبدو أن البرد معروف عند فلاحي مصر «3» . عن أنس بن مالك قال: كان أحب الثياب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبسه (الحبرة) . بل هي الحبرة بكسر الحاء وفتح الباء: وهي ضرب من نوع برود اليمن تتخذ من كتان أو قطن محبرة، أي مزينة «التحبير هو التزيين والتحسين» ..

_ (1) المعجم الوسيط. (2) الملابس عند العرب. (3) الملابس عند العرب ص 55.

عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة ببردة قالت: هل تدرون ما البردة؟ قال سهل: نعم.. هي الشملة منسوج في حاشيتها، قالت: يا رسول الله إني نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها الرسول صلّى الله عليه وسلّم محتاجا إليها. والشملة هي البردة وأن ما يميز الشملة من البردة هو حياكة شيء إضافي في أطرافها (أي بعض الزينة في حاشية البرود) «1» . وعن أنس بن مالك «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان شاكيا فخرج وهو يتكئ على أسامة بن زيد وعليه ثوب قطري قد توشح به فصلى بهم وذلك نوع من البرود» .

_ (1) مختصر الشمائل المحمدية ص 47.

مفهوم المعارضة الأدبية يقصد بالمعارضة الأدبية النسيج على غرار عمل أدبي اخر، وقد عرفت المعارضة الأدبية قديما حينما بدأ كتاب وأدباء أوروبا بتقليد غيرهم من الكتاب والنقاد وبخاصة الكلاسيكيين (اليونان والرومان) وكانت جودة العمل وقيمته الأدبية تقاس بمدى مطابقته لأعمال أولئك الكتاب، أما على الساحة الأدبية العربية فقد برزت المعارضات وظهرت منذ العصر الجاهلي وقد فسرت بعدة مفاهيم، فمن قائل بأنها احتذاء شاعر بشاعر اخر، ومن قائل أن المعارضة هي أن فلانا سار حيال فلان وعارض فلان كتاب أو قصيدة أو قصة فلان. والمعارض محب لعمل الاخر ومعجب به ومعترف ببراعة صاحبه، وهذا الاعجاب لا يتقيد بفترة زمنية محددة أو بشخصية دون شخصية «1» . ونجد هنا اعتراف أمير الشعراء أحمد شوقي باعجابه وتقديره للإمام البوصيري حيث يقول: المادحون وأرباب الهوى تبع ... لصاحب البردة الفيحاء ذى القدم ويقول: الله يشهد أنى لا اعارضه ... من ذا يعارض صوب العارض العرم وهناك أمثلة كثيرة في أدبنا العربي للمعارضات الأدبية. ولم تكن المعارضة بدافع الضعف، وإنما لاظهار القدرات من خلال التنويع والوقوف على أجود الأعمال الأدبية. كما أصبح شعر المعارضة ذا قيمة أدبية لثقافة الشاعر وما يحيط به من تيارات وروافد أخرى للوقوف على الحياة الاجتماعية التي عاشها تطورها خلال تلك الحقبة الزمنية؛ والذي يتتبع شعر المعارضة، في أدبنا العربي يجد أنه كان متجليا في جميع العصور الأدبية وقد رصد بعض النقاد حركة المعارضة الشعرية تاريخيا كوتأكدوا من ذلك وبالتالي قسموها إلى الفترات التاريخية التالية: -

_ (1) المعرضات في الشعر العربي.

1- المعارضة في الشعر الجاهلي. 2- المعارضة في الشعر الإسلامي (صدر الإسلام) . 3- المعارضة في عصر الدولة الأموية. 4- المعارضة في عصر الدولة العباسية. 5- المعارضة الأندلسية. 6- المعارضة في العصر المملوكي. 7- المعارضة في العصر الحديث «1» . ومن هذا المفهوم المعنى المعارض نقول: إن شوقي في ميميته نهج طريق البوصيري أي سلكه وعارض ميميته الميمونة مقتفيا نفس الطريق ملتزما بنفس الموضوعات التي طرقها البوصيري في القصيدة مترنما متغنيا بالرسول خلقا وخلقا ومترفقا بحال المسلمين سلوكا وعملا، ومتشفعا بسيد البشر من ذنبه تزلفا وضعفا وواصفا لأخلاق الرسول الكريم وعلو مقامه عند الله وعند البشر أجمعين تكبيرا وتعظيما. وعندما نذكر (البردة) ، نتذكر القصيدة العصماء للإمام البوصيري التي صاغها في مدح الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) ذاكرا مناقبه، من يوم مولده، ومتدرجا بها حتى بعثته الميمونة لتخرج البشرية من الظلمات إلى النور. وهذه البردة ما زالت تردد في كل بقاع العالم الإسلامي وما زالت تحتل المكان الأول بين المدائح النبوية وكل الأشعار التي خاض ناظموها هذا المجال شرفا لهم. وحين نقول (نهج البردة) فاننا لسنا بحاجة إلى تفسير كلمة نهج إذ يتبادر للذهن مباشرة أن الشاعر قد سار فيها على طريق البردة «2» . فقد حظيت البردة بمكانة لم تصل إليها أي قصيدة سواها وبخاصة عند أهل التصوف وشطرت وخمست وسبعت، وإذا كان مقياس خلود العمل الأدبي هو

_ (1) المعرضات في الشعر العربي. (2) هناك أيضا المنهج على وزن المذهب والمنهاج هو الطريق الواضح ونهج الطريق أي أبانه وأوضحه، ونهجه أيضا أي سلكه.

الاهتمام من الناس والانتشار فإن البردة نالت الخلود والشهرة في العالم الإسلامي واحتلت مكانة أدبية فريدة في الأدب العربي وفي الاداب العالمية فترجمت إلى عدة لغات كالفرنسية والألمانية والانجليزية بالاضافة إلى معرفة الفئات المسلمة لها في الهند وباكستان وإيران وغيرها، وتأثر الكثير من شعراء هذه الدول بقصيدة البردة والشعر الصوفي وبخاصة الشاعر محمد اقبال حيث نجد في قصائده الأولى تأثير الصوفية إذ يقول: قد كان هذا الكون قبل وجودنا ... روضا وازهارا بغير شميم والورد في الأكمام مجهول الشذى ... لا يرتجى ورد بغير نسيم بل كانت الأيام قبل وجودنا ... ليلا لظالمها وللمظلوم لما أطل محمد زكت الربا ... واخضر في البستان كل هشيم واذاعت الفردوس مكنون الشذى ... فاذا الورى في نضرة ونعيم «1» ويعتبر الشعراء المداحون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن البردة كالدستور للشعر والشعراء فقد نسج على منوالها كثير من الشعراء وعلى الرغم من أن هذا الاتجاه جديد في مدح خير البرية محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام إلا أنه لم يكن بالصورة التي كانت عليها بردة البوصيري وقد سارع كثير من الأدباء والنقاد إلى شرح البردة، كما لقيت هذه القصيدة من الاهتمام والدراسة والبحث والمقارنة والمعارضة والتنقيب في أغوارها للوصول إلى نفسية وروحانية الشاعر الشيء الكثير. وقد تأثر بهذه الروحانية كثير من الشعراء مثل أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته «نهج البردة» ، كما حاول محمود سامي البارودي معارضة البوصيري في أربعمائة وسبعة وأربعين بيتا يقول في مطلعها: يا رائد البرق يمم دارة العلم ... واحد الغمام إلى حي بذى سلم في بلدة مثل جوف العير لست أرى ... فيها سوى أمم تعنو إلى الصنم «2»

_ (1) ديوان محمد إقبال. (2) ديوان محمود سامي البارودي.

وعارض أبو بكر حجة الحمودي «1» وبذل جهدا مضنيا في معارضة البوصيري وكان ابن حجة شاعرا مسترسلا ومؤلفا، وشعره مملوء بأوجه البلاغة، وشهرته بدأت بمعارضته لقصيدة الإمام البوصيري (البردة) فيقول: لي في ابتداء مد حكم يا عرب ذى سلم ... براعة تستهل الدمع في العلم بالله سربى، فسربى طلقوا وطني ... وركبوا في ضلوعي مطلق السقم أما عائشة الباعونية «2» فقد حاولت معارضة البوصيري في قصيدة لها حيث تقول: في حسن مطلع أقماري بذى سلم ... اصبحت في زمرة العشاق كالعم أقول والدمع جار جار في مقلتي ... والجار جار يعذل فيه منهم يا سعد ان أبصرت عيناك كاظمة ... وجئت سلعا فسل عن أهلها القدم ولا يفوتنا أن نشير إلى تأثر البوصيري في بردته بابن الفارض «3» في قصيدته التي يقول فيها: هل نار ليلى بدت بذى سلم ... أم بارق لاح في الزوراء فالعلم أرواح نعمان هلا نسمة حمرا ... وماء وجرة هلا نهلة بفم

_ (1) هو أبو المحاسن تقي الدين أبو بكر بن علي بن عبد الله الحموي الأرزاري، ولد في حماة سنة 767 هـ، وتنقل في طلب العلم بين الموصل ودمشق والقاهرة. (2) هي الشيخة أم عبد الوهاب بنت يوسف بن أحمد بن ناصر الدين بن خليفة الباعونية الدمشقية، ولدت في دمشق وحفظت القران الكريم وكان عمرها ثمان سنوات، تلقت العلم على يد إسماعيل الخوارزمي، ثم رحلت إلى مصر وتلقت هناك حظا وافرا من العلوم، واجيزت بالأفتاء والتدريس، وقد كانت عالمة فاضلة وأدبية بارعة وشاعرة مجيدة. (3) ابن الفارض هو حفص بن عمر بن أبي الحسن الحموي الأصل المصري المولد والدار، سمى بسلطان العاشقين، من أسرة فقيرة، بدأ حياته الصوفية بالاعتكاف والتعبد في جبل المقدم، كان كثير العباده، أما الفن الشعري لابن الفارض فشعره عذب أنيق، والرمزية فيه، وتدور أغراض ابن الفارض على الحب الالهي الذي يقوم على الاتحاد أى الاعتقاد بأن جميع مظاهر الوجود متساوية في الشرف والقيامة لأنها في الحقيقة تمثل جوانب من الألوهية.

يا لائما لا في حبهم سفها ... كف الملام فلو أحببت لم تلم وحرمة الوصل، واللوذ العتيق وبالعه ... د الوثيق، وما قد كان في القدم طوعا لقاض أتى في حكمه عجبا ... أفتى بسفك دمي في الحل والحرم أيكم لم يسمع الشكورى وأيكم لم ... يحر جوابا وعم حال المشوق عمى «1»

_ (1) تاريخ الأدب العربي.

الفصل الأول كعب بن زهير ومدح الرسول (صلّى الله عليه وسلّم)

مفهوم المعارضة الأدبية

كعب بن زهير ومدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم* كعب وقصة اسلامه: يعد كعب بن زهير بن أبي سلمى رضى الله عنه واحدا من فحول الشعراء المخضرمين فهو من مضر، وأمه كبشه بنت عمار بن عدى، تزوجها زهير بن أبي سلمى، وكانت منازلهم بالحاجر من نجد، وزهير تزوجها على زوجته الأولى أم أوفى التي لم تكن يعيش لها ولد ولما تزوج كبشة أصابتها الغيره فطلقها ثم ندم بعد ذلك. أما نسب والده فهو زهير بن ربيعة بن رباح، ويعد زهير من الشعراء الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء في الجاهلية (امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني) وقد أجمع النقاد على رأي عمر بن الخطاب رضى الله عنه فيه بأنه كان لا يفاضل ويتجنب وحشى الكلام، ولم يمدح أحدا إلا بما فيه، فكان كثير التنقيح والتهذيب حتى زعموا أنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر، وينقحها في أربعة أشهر، ثم يعرضها على أصحابه في أربعة أشهر، وعاش حوالي تسعين عاما، وتوفى قبل مبعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وتحدثوا فقالوا: أن زهيرا كان كثيرا ما يلتقي بأهل الكتاب ويسمع منهم ويتحدث إليهم ويفكر فيما دعى إليه منهم، لذا جاء تفكيره واضحا من خلال ما يذكره عن الفناء والبقاء حيث يقول: بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم ... وأموالهم ولا أرى الدهر فانيا «وذات ليلة رأى زهير فيما يراه النائم أن أسباب السماء قدمت إليه، فلما هم أن ينالها نأت عنه، ثم أفاق من نومه، ولم يشك في أن لهذه الرؤيا دلالتها وتأويلها، فجمع بنيه الثلاثة (سالما وكعبا وبجيرا) وقال لهم: أنه كائن خبرا،

وأوصاهم أن يستقصرا هذا الخبر، وينتفعوا به وبما يحدث به من أخبار السماء «1» . واتفق الرواة على أن الشعر لم يتصل في الجاهلية بأحد إلا في زهير، وفي الإسلام بجرير وكعب، فوالد كعب زهير كان شاعرا، وجده أبو سلمى كذلك، عمتاه (سلمى والخنساء) وخال أبيه بشامه بن الغدير، وابنا عمته (تماضر) الخنساء، وأخوها صخر، وابنا بنته سلمى العوثبان وقريض، وأخوه بجير، وولده عقبة (المضرب) وحفيده العوام بن عقبة، فكلهم شعراء، فكعب أحد الفحول المجيدين في الشعر ومقدم على أهل طبقته، وقال كعب الشعر وهو صغير، فكان أبوه زهير ينهاه ويضربه مخافة أن يقول ما لا فيه خير ولا منفعه، ويحكي أن زهير علم باستمراره في قول الشعر، فدعاه وضربه ضربا شديدا، ثم أطلق سراحه وسرحه في بهمة فانطلق يرتجز فخرج إليه زهير وهو غضبان فدعا بناقته فأردفه خلفه ثم راح يضرب ناقته وهو يريد أن يتعرّف على ما عند كعب ويعلم ما عنده ويطلع على شعره، وتأكد بعد ذلك زهير من استرسال كعب في الشعر فأذن له فقال له: قد أذنت لك يا بني، فنزل كعب إلى أهله قائلا: أبيت فلا أهجو الصديق ومن ييع ... يعرض أبيه في المعاشر ينفق وقد ولد كعب في الجاهلية ثم أسلم وامتد به العمر حتى زمن معاوية بن أبي سفيان. وقد تأخر بجير وكعب عن الدخول في الإسلام، ولما زاد انتشار الإسلام تامر كعب ويجير ضد النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين في المدينة المنورة، فانطلقا حتى بلغا (الابرق) . قال بجير لأخيه كعب: اقم هنا حتى اتى هذا الرجل فأسمع منه واعلم علمه ثم أعود إليك، وأقام كعب وذهب بجير وبقى كعب ينتظر عودة أخيه بجير الذي امن برسالة السماء لأول وهلة رأى فيها الرسول عليه الصلاة والسلام فأقام

_ (1) طه حسين- تاريخ الادب.

مع صحابة الرسول الكريم حيث وجد الأمن والأمان والاستقرار، ويئس كعب من مقدم أخيه وطال انتظاره حتى استيقن أن أخاه بجيرا اتبع دين محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه قد صبأ، فغاظه ذلك وساءه فأرسل إلى أخيه يؤنبه برسالة يقول فيها: ألا أبلغا عنى بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا شربت مع المأمون كأس رؤية ... فانهلك المأمور منها وعلكا خالفت أسباب الورى وتبعته ... على أي شيء ريب غيرك دلكا فإن أنت لم تفعل فلست باسف ... ولا قائل أما عثرت لعالكا وتلقي بجير رسالة أخيه كعب ونقلها إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم فأباح الرسول عليه الصلاة والسلام دم كعب لتعرضه للدين وللنبي والمسلمين بالإساءة. وكان كعب كغيره من شعراء الشرك يهجو النبي عليه الصلاة والسلام ويحرض عليه ويدس إلى مجلسه من يناله بمكروه ويقول الشعر كما كان يقوله غيره من الشعراء، وعلم كعب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أباح دمه كغيره من الشعراء الذين نالوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بالاساءة ففر الكثير من هؤلاء بعد الفتح وقتل من قتل من أمثال: نضر بن الحارث الذي قتله الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكعب ليس بأقل جرما منه ومن هؤلاء الخصوم. كل ذلك ملأ قلب كعب رعبا وفزعا وخوفا مما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم وحاول كعب الفرار كغيره من أمثال ابن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب، ولكن دون جدوى فضاقت به الأرض وتخاذل الناس من أمامه ولم يجد من يمد له يد العون فأخوه بجير على غير ملته والصراع في نفسه صراع رهيب لأنه يعلم بأن المسلمين أن رأوه سيقتلونه لعلمه بأنه ليس هناك ممن نطق بالشهادتين من يرفض ما أباحه النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو هالك لا محالة ويأمل بجير أن يخطو كعب خطاه حيث الاستقرار النفسي والاطمئنان والتضحية في سبيل الحق، فما كان من بجير إلا أن بعث إلى أخيه كعب ينصحه بأن يطلب العفو من النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن النبي عليه الصلاة والسلام رؤوف رحيم، ذو خلق كريم، يأمر بالعفو ويعرض عن الجاهلين، وجاءته رسالة بجير ينشده للإسلام والشهادة:

من مبلغ كعبا فهل لك في التي ... تلوم عليها باطلا وهي أحزم إلى الله لا العزى ولا اللات واحده ... فتنجو اذا كان النجاة وتسلم لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت ... من النار الا الطاهر القلب مسلم فدين زهير وهو لا شيء دينه ... ودين أبي سلمى على محرم فلما بلغ الكتاب كعبا ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه وقد انفض عنه من كانوا بالأمس يدفعونه لهجاء الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا: (مقتول) ... فاستقرت عزيمة كعب على أن يستجير بعفو النبي من غضب النبي عليه الصلاة والسلام وانطلق حتى بلغ المدينة فاوى إلى أبي بكر الصديق رضى الله عنه كما تقول بعض الروايات- ليأخذه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهناك رواية أخرى تقول أنه نزل على رجل من جهينة كانت بينه وبين كعب صلة، فغدا به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين صلى الصبح فصلى معه صلّى الله عليه وسلّم، ثم أشار لكعب إلى الرسول فقال: هذا رسول الله فقم إليه، يقول كعب: (فعرفت رسول الله بالصفة فتخطيت حتى جلست إليه) ، وكان كعب ملثما بعمامته فقال: يا رسول الله هذا رجل جاء يبايعك على الإسلام فبسط النبي صلّى الله عليه وسلّم يده فحسر كعب عن وجهه وقال: هذا مقام العائذ بك يا رسول الله، أنا كعب بن زهير وهم به الأنصار عند معرفتهم له لما قدم من اساءة للنبي عليه الصلاة والسلام وتواثبوا يريد كل واحد منهم قتله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: دعوه فإنه قد جاء تائبا عما كان عليه، ونهاهم عنه وبايع كعب النبي عليه الصلاة والسلام وتقول بعض الروايات: أن النبي استنشد أبا بكر ما كان كعب قد قاله في هجائهم فقال صلّى الله عليه وسلّم كيف قال يا أبا بكر؟ فأنشده أياه أبو بكر، فلما بلغ قوله (فانهلك المأمور منها وعلكا) فقال كعب: لم أقل المأمور يا رسول الله وإنما قلت المأمون، فقال النبي مأمون والله مأمون ورضى النبي عليه الصلاة والسلام عن كعب بن زهير فما كان من كعب إلا أن وقف أمام الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأنشده قصيدته التي عرفت فيما بعد بقصيدة البردة، وقد أعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهذه القصيدة وبخاصة عندما وصل إلى قوله:

ان الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول وقد سر النبي عليه الصلاة والسلام بأن يكون بجانبه شاعر مجيد وقد كان من كرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتقديره لكعب أن وهبه بردته الخاصة فسميت هذه القصيدة فيما بعد ببردة كعب، وأن معاوية أراد أن يشتري البرده من كعب وأغلى له الثمن ولكن كعبا أبى أن يبيع بردة الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما مات كعب راجع معاوية أهله فاشتراها بأربعين ألف درهم وهي التي توارثها الخلفاء فيما بعد وكانوا يخرجون بها للناس في العيدين ثم انتهت إلى الخلفاء من الأتراك من بني عثمان فحفظها السلطان مراد الثاني في صندوق من الذهب ولم تزل محفوظة فيه إلى الان في الاستانة في تركيا والله أعلم..

أضواء على لامية كعب في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم:

أضواء على لامية كعب في مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم: عندما أنشد كعب بن زهير قصيدته في مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يخرج عن المألوف عند شعراء الجاهلية إذ بدأ قصيدته كعادتهم قبل الإسلام، فقد بدأها بالغزل والتشوق إلى الحبيب. وفيه يفصح كعب عن لوعته وشوقه إلى سعاد التي بعدت عنه حتى اضناه الفراق فهو أسيرها لا يجد الوسيلة التي يستطيع أن يفك قيوده منها وما سعاد سوى هذه الحبيبة أو الزوجة كما وردت في بعض الروايات، وينهي هذا الجزء من القصيدة عند البيت الثالث عشر. وفي هذا الجزء يتعرض كعب بن زهير لوصف حسي، وقد أدهشنا فيه أنه ذكره أمام الرسول صلّى الله عليه وسلّم عقب صلاة الفجر في المسجد فلم ينهه الرسول عليه الصلاة والسلام عن إنشاد هذا الغزل بل رفع عنه العقوبة التي كان قد عاقبه بها وان دل هذا على شيء فهو يدل على تفتح افاق الإسلام وافاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وسماحة المباديء الإسلامية الغراء، وكعب بن زهير عندما تعرض لهذا الغزل لم يكن يقصد الغزل لذاته وإنما اتخذه مدخلا لما سوف يلي ذلك من إعجاب بدين الله ومدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك امتداد لما كان عليه الشعراء وبعد معرفته الإسلام وإيمانه به وعفو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يعد يتعرض في شعره للغزل الحسي. أو غير الحسي ونستطيع أن نقول أن كعبا حينما طرح صورة سعاد إنما يطرح أمام المستمع صورة خيالية متحركة كاملة ليدلل على أنه مفتون بجمالها، وتناسق أجزاء بدنها في الوقت الذي يأمل من تحقيق رغبة في الوصال واللقاء، ولكن من هي سعاد؟ هل هي تلك السعادة التي تحرك شعوره الداخلي لمبايعته للرسول عليه الصلاة والسلام بالإسلام والشهادة أم هي سعادته بدخول الدين الجديد؟ .. وإذا ما تمعنا في بداية القصيدة ونظرنا بعين المتأنى لنفسية كعب فيها تبين لنا أن سعاد ما هي إلا الدعوة الإسلامية والتي هو بعيد عنها، وأنه في شوق إليها بعد أن وصلت إليه رسالة أخيه بجير وفيها أن الرسول أخ كريم وابن أخ كريم، يعفو ويعرض عن الجاهلين، وكعب ممن حق عليهم القتل كغيره، فأحس بنشوة الإيمان

لمحتوى رسالة أخيه الذي سبقه بالإيمان ووجد الأمان في ظل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. إذن سعاد ما هي إلا الدعوة وهو في شوق إليها وإلى التلذذ بمبادئها، وشرب شرائعها السمحة. وفي الجزء الثاني من القصيدة يتعرض كعب لغرض من أغراض الشعر الجاهلي وهو وصف الناقة أو الراحلة، ولعله غرض ثابت تقريبا في أكثر من المطولات الشعرية، وأغلب هذه القصائد لا بد أن تحتوي على وصف الراحلة إن كانت ناقة أو حصانا، وهنا يبدأ كعب بتمهيد منطقي لوصف ناقته وهي وسيلته للوصول إلى محبوبته وجاءت ضرورة وصف الناقة كأداة للوصول إلى أرض سعاد البعيدة، ويصف ناقته وصف مختص فأهم عارف بطبائع وصفات هذا الحيوان، وليس ذلك بمستغرب عليه وهو يقيم بين النوق فهو يركبها، ويرعاها، ويشرف على تربيتها وولادتها. وعلى أكلها وشربها، ويعرف أنسابها وأنواعها والجيد منها وغير الجيد، والكريم وغير الكريم، والسريع وغير السريع وما إلى ذلك من صفات هذه النوق، وتعرض كعب بن زهير لهذه الناقة من خلال استخدامه المفردات البيئية التي يعيش فيها، ولا يستعير من مفردات ومعاني الحضارات المجاورة كالفارسية والرومانية، بل يعتمد في تعبيره على قاموس البيئة العربية. وهذه الصفات امتدت على مدى واحد وعشرين بيتا. ونجد كعبا قد أنهى هذا الجزء بنهاية مفاجئة بلا تمهيد، لينتقل إلى غرض اخر وهو ما يسعى إليه كعب ليطرحه أمام الرسول صلّى الله عليه وسلّم يمدحه ويظفر بعفوه، وبهذا الانتقال المفاجيء يريد أن يؤكد حقيقة واقعة لمسها إذ يكشف أمام الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عليهم رضوان الله من خلال أربعة أبيات مركزة كل التركيز، ولكنها تكشف عما في نفسه واحساسه بأن الوشاة ليس لهم إلا بث الفرقة والاساءة ومراعاة مصالحهم الذاتية وتشويه قيمة الإنسان كإنسان، هم الذين بالأمس قد أخبروه باهدار الرسول صلّى الله عليه وسلّم لدمه ولا عفو عنده ولا تراجع ولا مسامحة وهم أيضا الذين استحثوه ودفعوه إلى ذلك مما أورده هذا المورد الخطر واليوم قد تخلوا عنه ونزوعه نحو إلقاء القصيدة

يعتبر لحظة تحول في حياته، فيها كشف عن العلاقات الإنسانية مما جعله يلخصها تلخيصا شديدا في مجموعة من الحكم أو الحقائق المكثفة فلسفيا ودراميا، فقد استطاع أن يؤكد ثلاث حكم أو حقائق بليغة كل البلاغة.. 1- الحقيقة أو الحكمة الأولى: (أنه لا صديق إلا نفسه) من قوله: (كل صديق عنك مشغول؛ 2- والحقيقة أو الحكمة الثانية: (ان الله ما شاء فعل) من قوله: (وكل ما قدر الرحمن مفعول) 3- الحقيقة أو الحكمة الثالثة: (ان كل انسان مهما طالت به الحياة سينتهي إلى التراب) من قوله: (يوم على الة حدباء محمول) ولعله لا يفوتنا ونحن بصدد قوله: نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول ان نشير إلى أن كلمة نبئت عند كعب كانت شعاع نور وبداية لحياة جديدة بفضل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بعد فضل الله، فقد أحل دمه، ولكن الرسول أوعده بالعفو وأنباه بذلك أخوه بجير، ويبدو كعب بعد ذلك كالطفل الوليد مادحا من أعطاه صك الحياة مرة أخرى، ألا وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي يمثل عنده وفي هذه اللحظة بالذات، لحظة العفو والصفح الأب والأم والأسرة، وفي أثناء مدحه للرسول عليه الصلاة والسلام يأخذ في الاعتذار عن ذنوبه، وما أخطأ فيه، لقد ترك كعب الوشاة وزمرة السوء، وبدأ يلجأ إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليتخذ منهم الرفاق والصحاب، ويستبدل الماضى بالحاضر، حيث الاستقرار والصدق والفداء والتضحية، وهذا يكشف عن أحساسه بتصديق ما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعما سمعه عن المسلمين المحيطين به، كما يعتبر بداية لإيمانه برسالة هذا الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم وبتصديق ما جاء به، ويخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام بنفس مطمئنة راضية متضرعا إليه بعظمة الله سبحانه، وبعظمة القران الكريم كمعجزة نزلت عليه من السماء إذ يقول:

مهلا هداك الذي اعطاك نافلة ... القران فيها مواعيظ وتفصيل وبهذا القول يقر كعب بن زهير بأحقية الرسول في نبوته وبمعجزته الدائمة القران الكريم ويؤكد أن الرسول قادر على تنفيذ إهدار دمه، فيتوسل إليه بقوله (مهلا) ثم يقر بوجود الله فيدعو الرسول صلّى الله عليه وسلّم قائلا: (هداك الذي أعطاك نافلة القران) معترفا بأن هذا القران من عند الله ومعجزة من معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام، وهل يستطيع شاعر مهما كانت بلاغته أن يقول في بيت واحد كل هذه المعاني بلا خلل؟ وفي كلمات محدودة ما قاله كعب في القران الكريم؟ أنها نغمة إيمانية مفاجئة أصابت كعبا فبهرته، فتفتحت نفسه للإيمان وللإسلام، وتحول من يأسه وعدم مبالاته بالموت إلى إنسان يطلب العدل في مجلس الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) والأمان بين رعيته من المسلمين. ويمضي بعد ذلك كعب فيصف مجلس الرسول متخذا من القفار والوديان وحيوانات هذه القفار وتلك الوديان صور حسية تشعرنا بالأثر النفسي الذي أصابه وتملكه في مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبمدى الرعب والهلع والفزع الذي شعر به وهو جالس أمام الرسول الكريم ويرى هيبته وعظمته بين أصحابه. ويختتم كعب بن زهير لاميته المطولة في مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم بثمانية أبيات يمدح فيها الرسول الكريم ويبين أحداث الهجرة ثم حروب المسلمين مع الكفار ويفتتحها بأجمل بيت في القصيدة كلها معنى ومبنى، ألا وهو قوله: ان الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول وفيه يصف الرسول الكريم بأنه نور وسيف. وينثني كعب بعد هذا نحو وصف المسلمين في قتالهم مع الكفار بأنهم هم الأعلون قوة وشكيمة وبأسا، فهم دائما في القتال مقبلون على الموت بصدورهم لا يفرون منه لأنه قدرهم وبهذا ينهي كعب بن زهير لاميته الشهيرة في مدح الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، ويمنحه الرسول صلّى الله عليه وسلّم العفو فيعيش في ركاب الإسلام والمسلمين مرضيا عنه ذائع الصيت بينهم، مذكورا في تاريخهم، ولعل هذه القصيدة تعتبر من القصائد النموذجية للشعراء المخضرمين، فهي تمت بصلة

لبناء شعراء الجاهلية في الشكل أما من ناحية المضمون فهي قصيدة إسلامية في مدح الرسول الكريم من شاعر عاش فترة الجاهلية وعاش مواقف الكفار وهذه القصيدة أول قصيدة للشاعر بعد إسلامه، وهي سبب خلود كعب سبب تقدمه على الشعراء بعد إسلامه، عدا حسان بن ثابت هو شاعر الرسول صلّى الله عليه وسلّم.

شرح القصيدة

شرح القصيدة بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم اثرها لم يفد مكبول «1» وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... الا اغن غضيص الطرف مكحول «2» هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... لا يشتكي قصر منها ولا طول «3» تجلو عوارض ذى ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول «4» بهذه الأبيات يبدأ كعب بن زهير قصيدته، يبدؤها بالشكوى من ابتعاد محبوبته التي تيمت قلبه وأسرت لبه وقيدته بقيود حبها والمته بفراقها فهو كأسير لديها على الرغم من بعدها عنه وهو أسير لفرط جمال المحبوبة إذ يصفها بأنهال ظبية صغيرة مكحولة العينين بكحل رباني، ناعسة الأجفان، ذات صوت ناعم رقيق جميل كأنه غنة الطبي، فهي في نظر الشاعر أنثى رقيقة جميلة، ثم يصفها وهي مقبلة، إنها ضامرة البطن، دقيقة الخصر، متحركة، وإذا كانت مدبرة فهي عجزاء ذات كفل مما يوصف به النساء الحسناوات في هذا العهد، ثم أنها لا تظهر للرائي ذات طول مفرط ولا ذات قصر مغيب، ويعود لوجهها مرة أخرى، ويركز على الفم، وهنا تتأكد لنا نظرته الحسية، فهي إذا ابتسمت تظهر أسنانها اللامعة البيضاء، وإذا اقتربنا من هذا الفم أحسسنا تجاهه بالعطش، فكأنه كأس من الخمر المعتقة التي أضيفت إلى نكهتها الروائح الجميلة، فلا بد أن نشرب من هذا الكأس ونعيد الشراب حتى الثمالة.

_ (1) بانت: فارقت فراقا بعيدا. سعاد: اسم امرأة، متبول: اسقمه الحب وأضناه، متيم: ذليل مستعبد، لم يفد: لم يخلص من الأسر، مكبول: مقيد. (2) الأغن: الظبى الصغير الذي في صوته غنه، غضيض الطرف: فاترة، ومكحول: من الكحل ويعني سواد يعلو جفون العين. (3) هيفاء: ضمور البطن ودقة الخاصرة، ومقبلة: حال، عجزاء: كبيرة الردف لا يشتكى قصر: لا يشتكى الرائي عند رؤيتها قصر فيها. (4) تجلو: تصقل وتكشف، والعوارض: جمع عارضة أو عارض وهي الأسنان، الظلم: ماء الأسنان وبريقها، والمنهل: المسقى، وبالراح: متعلق بمنهل، والراح الخمر، معلول: الشرب الثاني.

وبهذه الافتتاحية يقصد شاعرنا أن يظهر رغبته في الحياة فيتذكر الأشياء الجميلة في حياته السابقة على إهدار دمه، فما أن أهدر دمه حتى فارقته تلك السعادة المتمثلة في الصديقة ذات الخصال الجميلة والصفات البديعة، ذات الجسد الممشوق والفم المرسوم المعطر ذى الرضاب الشهي الذي يعتبره الشاعر أكثر سكرا من الخمر المعتقة، ويبدو في ذلك مدى أثر قرار الرسول صلّى الله عليه وسلّم على حياة هذا الشاعر، ومدى الحرمان الذي أصابه من جراء فراقه هذه الحبيبة نظرا لعدم قدرة الشاعر على الاستقرار هربا من اهدار دمه. ويقول: شجت بذى شيم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول «1» تنفي الرياح القذى عنه وأترفه من ... صوب سارية بيض يعاليل «2» فيالها خلة لو أنها صدقت ... بوعدها أولو أن النصح مقبول لكنها خلة قد سيط من دمها ... فجع وولع واخلاف وتبديل «3» فيستمر الشاعر في وصف رضاب سعاد، بل ويركز على وصف فراق هذا الرضاب فكأنه ماء بارد زلال تعرض للرياح الشمالية حتى صار أشد بردا من كل ماء، وقد أتى هذا الماء من منعطف الوادي بعد أن مر على البطاح التي فيها دقائق الحصى فصار نقيا صافيا باردا وهي صفة من أطيب صفات الماء، الذي يعتبر في الصحراء أغلى وأشهى وأمتاع ما يتمناه البدوي الظاميء وكأنه يقول: ان رضابها الحياة لأن الماء هو أصل الحياة، ومع ندرته في البادية صار أصل الحياة النادرة،

_ (1) شجت: مزجت حتى انكشرت سورتها، ذو شيم: ماء شديد البرد، المحنية: منعطف الوادي، الأبطح: المسيل الواسع الذي فيه دقات الحصى، أضحى: أخذ في وقت الضحى قبل أن يشتد حر الشمس مشمول، الذي ضربته ريح الشمال حتى برد. (2) القذى: ما يقع في الماء من تبين أو عود أو غيره مما يشوبه ويكدره، أفرطه: سبق إليه وملأه، الصوب: المطر، الغادية: السحابة تمطر غدوة، اليماليل: الحباب الذي يعلو وجه الماء. الخلة: الصديقة. (3) سيط: أي خلط بلحمها ودمها الصفات المذكورة بالبيت، الفجع: الإصابة بالمكروه كالهجر، الولع: الكذب، أخلاف: خلف الوعد.

ووصف الشاعر لهذا الماء الذي يعتبر رمزا لرضاب معشوقته أو حبيبته من واقع البيئة، فالرياح تمر على هذا الماء فتبعد عنه القذى والأقذار وما يشوبه من شوائب كأعواد الأشجار وحبات الرمل، ويؤكد مرة أخرى أن هذا الماء البارد الصافي ليس فقط بهذه الصفة ولكنه ذو نكهة وطعم أقرب ما يكون إلى الخمر وبخاصة إذا أمطرت السحب السارية التي تأتي ليلا فتملأ هذا الماء بالحباب والفقاقيع وكأنه كأس من الخمر المعتقة. ويتداخل الجانب النفسي مع الحسي لدى الشاعر إذ إن هذا الرضاب في نظره لا يشرب للرّيّ فقط، وإنما هو ينفعل في أثناء شربه، ثم يمجد الشاعر صديقته فيقول إنها صديقة جميلة كريمة، ولو أنها صدقت في وعدها وقبلت النصح، لما اشتاق إليها، بل إنها كلما نصحت لم تقبل النصح ولو أنها قبلت هذا النصح لكانت في أكمل الصفات، وأتم الخصال، وأحسن الأحوال، ولكن الشاعر يعتبر أن هذه المرأة المعشوقة قد اختلط دمها بلحمها مما يؤلم ويفجع العاشق، فهي مصرة على الهجر والكذب والاخلال بالوعد وكأن هذه الصفات التي تبعده عنها تقربه منها، فالوصل لا يأتي إلا بالهجر والولع والرغبة في إدراك شيء ليس في متناول اليد. ثم يقول: فما تدوم على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول «1» وما تمسك بالعهد الذي زعمت ... إلا كما يمسك الماء الغرابيل «2» فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... أن الأماني والأحلام تضليل «3» كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل «4»

_ (1) فما تدوم: فما تقوم، الغول: الساحرة الجن. (2) وما: ولا، تمسك: (مضارع حذف إحدى تأيه) يشبه تمسكها بالعهد بأمساك الغرابيل للماء مبالغة في النقض. (3) ما منت: ما منتك إياه. (4) كانت: صارت، عرقوب: رجل اشتهر عند العرب باختلاف الوعد والأباطيل: جمل باطل على غير قياس.

فيصف الشاعر سعاد بأنها امرأة ذات مزاج متقلب، فهي تارة محبة مقبلة وتارة كارهة مدبرة، تارة تبدي رغبة الوصال، وطورا تبدي رغبة الهجران، أنها لا تدوم على حال، فتتلون بشتى الألوان حتى لا يعرف عاشقها حقيقة مشاعرها النفسية تجاهه؛ هل هي تحبه؟ هل هي تكرهه؟ هل تذكره؟ أم تنساه؟ هل ترغب فيه، أم تنفر منه؟ كل هذه صفاتها وهو يشبهها في ذلك بالغول الذي يعرفه بدو الصحراء بأنه ساحرة الجن تظهر في الفلاة أمام الناس بألوان وأشكال شتى جميلة موشاة حتى يتبعها من يراها، ثم تتغير إلى حال كريهة تثير الفزع والخوف في نفوس من يتبعها، وهذه المعشوقة لا تتمسك بوعد قطعته على نفسها أو عهد منحته عاشقا من عشاقها، فهي كذوب في وعودها وعهودها وكأنها غرابيل وضع فيها الماء للحفاظ عليه، فهل من الممكن أن تحفظ الماء هذه الغرابيل ذات الفتحات الواسعة والثقوب الكبيرة..؟ لا يمكن لإنسان عاقل أن يصدق أن الغرابيل تحفظ الماء، ولا يمكن أيضا من وجهة نظر الشاعر أن تحافظ سعاد على وعودها تجاهه، فلا تصدق أيها الإنسان ما تعدك به الأنثى وما تمنيك به، كما أنه لا يصدق أن سعاد ستفي بما وعدت ومنت، فإن وعودها وأمانيها ما هي إلا سراب في سراب، وأحلام في أحلام حتى أنها بدأت مثل هذا السراب للرجل الشهير بين العرب بعدم احترامه للمواعيد ولم تكن مواعيده إلا أكاذيب باطلة، وهو (عرقوب) الذي يضرب به المثل في خلف المواعيد. ويمضي الشاعر فيقول: أرجو وامل أن تدنو مودتها ... وما إخال لدينا منك تنويل «1» أمست سعاد بأرض لا يبلغها ... إلا العتاق النجيبات المراسيل «2»

_ (1) التنويل: العطاء والمراد به (هنا) الوصل. (2) العتاق: الكرام، والنجيات: جمع نجيبه وهي القوية الخفيفة أي السريعات، والمراسيل: جمع مرسال وهي السريعة.

ولن يبلغها إلا عذافرة ... فيها على الأين أرقال وتبغيل «1» من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت ... عرضتها طامس الاعلام مجهول «2» وبذلك يعود الشاعر إلى الرجاء والأمل فأنه سيأتي يوم وتدنو مودة سعاد منه وتقترب عواطفها من عواطفه، وامالها من اماله، وأحلامها من أحلامه، ويرجو أن تعود إليه مودتها كاملة قريبة وهو يكاد يلمس هذه المودة وهذا الطيف حتى ينال عطاءها ألا وهو الوصال: ولكن هيهات هذا الوصال، فإن سعاد قد نأت إلى مكان بعيد غاية في البعد حتى أنه لا يستطيع أن يبلغ مكانها، إلا إذا كانت لديه هذه الإبل العتاق الكريمة الأصول القوية السريعة الخفيفة، وهذه الناقة التي من صفاتها الصلابة الشديدة والتي لا تتعب، ومهما سارت وبأي ضرب من ضروب السير فإنها لا يبلغ منها الأعياء، أو يصل إليها التعب والكلال. وأدرك الشاعر أن بعد سعاد أصبح عقبة في سبيل الوصول إليها فيمهد ويخطط ليتخطى هذا البعد، وبروح البدوى وبإدراكه لمعطيات مجتمعه يرى أن الوسيلة الوحيدة التي تقرب بينه وبين سعاد هي هذه الناقة التي يصفها بتمكن شديد فهي من النياق النجيبات المراسيل أي قوية خفيفة سريعة كريمة الأصل، ويستمر الشاعر في وصف هذه الناقة في أثناء سيرها فهي كثيرة العرق لكثرة الجهد الذي تبذله.. وأول جزء من بدنها، ما خلف الاذان، وهذه الناقة تغز السير وتجد فيه وهي تعرف الطريق جيدا حتى لو ازيلت العلامات المميزة وأنها عارفة بالمسالك المجهولة لكثرة أسفارها وسلوكها الدائم للصحراء في أثناء هذه الأسفار.

_ (1) العذافرة: الناقة الصلبة العظيمة، والأبن، الأعياء والتعب، وارقال والتبغيل: ضربان من السير السريع. (2) النضاحة: الكثيرة رشح العرق، والذفرى: النقرة التي خلف إذن الناقة وعرضتها: همتها، وطامس الأعلام: الدارس المتغير من العلامات التي تكون في الطريق ليهتدي بها.

ويقول: ترمي الغيوب بعيني مفرد لهق ... إذا توقدت الحزان والميل «1» ضخم مقلدها فعم مقيدها ... في خلقها عن بنات الفحل تفضيل «2» غلباء وجناء علكوم مذكرة ... في دفعها سعة قدامها ميل «3» وجلدها من أطوم مايؤيسه ... طلح بضاحية المثنين مهزول «4» وهنا يستطرد كعب في وصفه هذه الناقة العجيبة فيقول: إنها في أثناء هذه الرحلة الشاقة ترمي بنظراتها يمينا ويسارا كأنها نظرات ثور برى أبيض تفرد في المكان وعرفه معرفة شديدة وألفه الفة حميمة، فهو يعيش فيه ويخرج منه، يعرف تفاصيل الرمال والكثبان والأماكن الغليظة الصلبة التي تكثر فيها الحصباء، ويشبه الشاعر هذه الناقة بهذا الثور الذي عاش في هذه المنطقة بل ويعتبر الناقة قد عرفت هذا الطريق البعيد الطويل بينه وبين محبوبته، كما عرف الثور الأبيض الوحشي مسالك منطقته الصغيرة المحدودة التي يعيش فيها. ثم يبدأ الشاعر في وصف الناقة فيصف ضخامة عنقها التي تعبر عن ضخامة في كل جسدها، ثم يصف ارتفاع سيقانها وقوائمها، وهذا يدل على سرعة وقوة السير ثم يصف قوتها وقدرتها على حمل الأثقال، ثم يذكر أنها من أفضل بنات

_ (1) الغيوب: اثار الطريق التي غابت معالمها عن العيون والمفرد الثور الوحشى الذي تفرد في مكان واللهق: (بفتح الهاء وكسرها) الأبيض، والحزان: الأمكنة الغليظة الصلبة تكثر فيها الحصباء وهي جمع حزيز، والميل: جمع ميلاء وهي العقدة الضخمة من الرمل. (2) المقلد: موضع القلادة في العنق، وفعم: ممتليء، والمقيد: موضع القيد، وبنات الفحل: الإناث من الإبل المنسوبة للفحل المعد للضراب. (3) غلياء: غليظة العنق، ووجناء: عظيمة الوجنتين، أو هي من الوجين وهو ما صلب في الأرض، وعلكوم: شديدة ومذكرة: عظيمة الخلقة وقدامها، ميل: كفنانة عن طول عنقها أو سعة خطوها. (4) الأطوم: بفتح الهمزة: سلحفاة بحرية غليظة الجلد وقيل: هي الزرافة، ويؤيسة: يذلله ولا يؤثر فيه، والطلح: القراد دوييه معروفه يلزق بالدابه، والضاحية ناحيته البارزة للشمس، والمتنان: ما يكتنف صلبها عن يمين وشمال من عصب ولحم، ومهزول: صفة لطلح أي قراد مهزول من الجوع.

الفحول، أي أنها ناقة أصيلة كريمة بنت فحل قوى كريم حسن التكوين ... وتتكرر هذه المعاني، فهي غليظة العنق عظيمة الوجنتين وصلبة وشديدة وعظيمة الخلق، وهي واسعة الجنيين والبطن، وإن خطوها واسع، ورأسها تميل إلى الأمام من فرط الطول، ثم يستطرد في وصفها بصفات جديدة ليدلل بها على قوتها، فهي ذات جلد قوي ومتين لا يؤثر فيه أي شيء حتى القراد ويؤكد أن هذا الجلد ليس متينا فقط، وإنما هو ناعم وغاية في الملاسة، وأي حشرة لا تستطيع أن تعلق به. ويقول: حرف أخوها أبوها من مهجنه ... وعمها خالها قوداء شمليل «1» يمشي القراد عليها ثم يزلقه ... منها لبان واقراب زهاليل «2» عيرانه قذفت بالنحض عن عرض ... مرفقها عن بنات الزور مفتول «3» كأنما فات عينيها ومذبحها ... من خطمها ومن اللحين برطيل «4» ليؤكد كرم أصل هذه الناقة، فهي من نسب لم يدخله غريب، وهي موصوفة بأنها مهجنة، وهي من الصفات المستحبة في الإبل، كما أنها سريعة لا

_ (1) الحرف: القطعة الحارجة من الجبل، شبه الناقة بها في القوة والصلابة، والحرف الناقة الضامرة وأخوها أبوها.. إلخ.. يريد أنها مداخلة النسب في الكرم، والمهجنة: الكريمة الأبوين من الإبل، والقوداء: الطويلة الظهر والعنق وهي من صفات الإبل التي تمدح بها، والشمليل: الخفيفة السريعة. (2) يزلقه: من الازلاق أي يسقطة، واللبان: الصدر وقيل وسطه، والأقراب: الخواصر والمراد بالجمع هنا المثنى، والزهاليل: الملس (جمع زهلول) . (3) العيرانه: الناقة المشبهة عير الوحش في سرعته ونشاطه وصلابته، والنحض: هو اللحم، وعن: بمعنى من، وعرض (بضمتين أو بضم أو فسكون) : جانب، والمرفق: يريد المرفقين، والزور: الزور وقيل وسطه، وبنات الزور: ما يتصل به مما حوله من الاضلاع وغيرها. (4) الخطم: الأنف وما حوله، واللحيان: العظمان اللذان ينبت عليهما الأسنان السفلى من الإنسان وغيره، والبرطيل: حجر مستطيل، والقاب: المقدار والمراد المسافة من وجهها إلى عينيها.

يضاهيها في السرعة شيء، وهي طويلة الظهر، طويلة العنق، ثم يردف الشاعر صفات سبق له أن ذكرها: فهي ذات صدر لا يستطيع أن يستمر القراد في الالتصاق به، فهي ملساء شديدة الملاسة، كما شبهها بأنها مثل عير الوحش في سرعته ونشاطه وصلابته، ولم يكتف بذلك، بل أضاف أنها ممتلئة اللحم وافرته من كل جنب من جوانبها، وكأنها قد امتلأت باللحم من كل صوب حتى الصدر، فلا يظهر من هذا الصدر أضلع وأكتاف من العظم، وإنما هذه الأضلع، وهذه الاكتاف ممتلئة ومغطاه باللحم ويريد الشاعر هنا أن يقول أنها تتحمل ثقل راكبها ولا يؤثر هذا الثقل في احتكاك عظامها، فقد اكتست هذه العظام باللحم، فلا تصيبك عظامها، مما يعطيها القدرة على الحركة والسرعة وراحة راكبها، ثم يلجأ إلى التشبيه فيقول: إنها مثل الحمر العريض المستطيل وجهها. فوجهها ما بين عينيها ومقدم الفكين غاية في الطول. ويقول كعب: تمر مثل عسيب النخل ذا خصل ... في غارز لم تخونه الأحاليل «1» قنواء في حرتيها للبصير بها ... عتق مبين وفي الخدين تسهيل «2» تخدي على يسرات وهي لاحقة ... ذوابل مسهن الأرض تحليل «3» سمر العجايات يتركن الحصى زيما ... لم يقهن رؤوس الأكم تنعيل «4»

_ (1) عسيب النخل: جريده الذي لم ينبت عليه الخوص، وذا خصل: يريد ذيلا له لفائف من الشعر، وفي غارز: أي على ضرع، ولم تخونه: لم تنقصه، والأحاليل: مخارج اللبن جمع أحليل بالكسر. (2) القنواء: المحدوبة الأنف، ويروى (وجناء) ، والحزتان: الأذنان، والعتق بالكسر: الكرم، والمبين: الظاهر، وتسهيل: سهولة ولين لا خشونة ولا حزونة. (3) تخدى: تسرع أي تسترخى، واليسرات: القوائم الخفاف، وهي لا حقة يعني أي والحال أنها لاحقة بالنوق السابقة عليها أو بالديار البعيدة عنها (وهي لا أهية) أي غافلة عن السير، والذوابل: جمع ذابل وهو الرمح الصلب اليابس، ومسهن أي مس تلك اليسرات للأرض أو وقعهن عليها، وتحليل: أي قليل لم يبالغ فيه. (4) العجايات: الأعصاب المتصلة بالحافر وقيل اللحمة المتصلة بالعصب المنحدر من ركبة البعير إلى الفرسن، وزيما: متفرقا، والأكم: هي الأراضى المرتفعة، والتنعيل: شد النعل على ظفر الدابة ليلقيها الحجارة.

فيتبين أن هذه الناقة الأعجوبة لها ذيل أجرد ليس فيه شعر إلا خصلة في نهايته ولها ضروع مليئة بالشعر عدا اللبن على الرغم من أنها لا تحلب، وتلك صفات تدل على قوة سيرها، كما أنها محدودبة الأنف ذات أذنين كبيرتين مما يدل على كرم أصلها، كما أن هاتين الأذنين ناعمتان لينتان، والتشبيهات كلها سبق أن أوردها الشاعر بصيغ شعرية أخرى في الابيات السابقة، ثم يصف سرعتها فيقول أنها مسترخية ولعل ذلك أبلغ في مدح النوق، تسترخي وهي مسرعة فلا تتعب راكبها، ويعتقد الشاعر أن هذه أوصاف كريمة إذ لا تكترت بالجهد، فهي لاهية لا مبالية في سيرها فكأنها تطير ولا تمشي على الأرض، كما يؤكد أن أعصابها المتصلة بالأخفاف قوية صلبة، فلا تشعر بالتعب ولا بالألم أثناء السير لصلابة هذه الأخفاف. ويقول كعب: كأن أوب ذراعيها وقد عرقت ... وقد تلفع بالقور العساقيل «1» يوما يظل به الحرباء مصطخدا ... كأن ضاحية بالشمس مملول «2» وقال للقوم حاديهم وقد جعلت ... ورق الجنادب يركضن الحصا قيلوا «3» شد النهار ذراعا عيطل نصف ... قامت فجاوبها نكد مثاكيل «4»

_ (1) الأوب: بالفتح سرعة التقلب والرجوع، وعرقت: أي عرقها لا لتعب ولا لاعياء، وتلفع: اشتمل والتحف، والقور: جمع قارة وهي الجبل الصغير العساقيل: السراب. (2) الحرباء: (بالكسر) هو حيوان بري له سنام كسنام الجمل يستقبل الشمس حيثما دارت ويتلون بألوان الأمكنة التي يحل فيها، ومصطخدا: محترقا بحر الشمس وروى (مصطخما) أي منتصبا قائما كما يروي (مرتبئا) أي مرتفعا ضاحية: ما برز للشمس منه، ومملول: موضوع في الملة وهي الرماد الحار. (3) الحادي: السائق للإبل، والورق: جمع أورق أو ورقاء وهو الأخضر الذي يضرب إلى السواد وقيل الورقة لون يشبه لون الرماد، والجنادب: جمع جندب ضرب من الجراد، ويركض الحصى: يحركنه بأرجلهن لقصد النزول بسبب الأعياء عن الطيران من شدة الحر، وقيلوا: أمر من قال يقيل قيلولة وهي الاستراحة وقت شدة الحر. (4) شد النهر: وقد ارتفاعه وهو مبالغة في شدة الحر، والعطيل: الطويلة والنصف: المتوسطة في السن وذلك حين استكمال قوتها وبلوغ أشدها فتكون أسرع في الحركة.

نواحة رخوة الضبعين ليس لها ... لما نعى بكرها الناعون معقول «1» تفرى اللبان بكفيها ومدرعها ... مشقق عن تراقيها رعابيل «2» وبذلك يستمر الشاعر في وصف قوة الناقة التي تعرق في أثناء سيرها وهذا ليس من تعب أو إعياء بل لشدة الحر، فهي تستطيع أن تمشي فوق المرتفعات والكثبان والوهاد في وقت الحر ووقت ظهور السراب ولا تأبه بأي عقبة من العقبات وأنها مهما تكن الحرارة أو البرودة تستطيع أن تسير في هذا الجو أو ذلك ومهما تكن الأرض وعرة أو ممهدة فهي مؤهلة للسير فيها على الرغم من تعب الحادي الذي يقودها أو القافلة التي تضمها، وعلى الرغم من طلب الراحة فهي نشطة قادرة على الاستمرار، ويكرر الشاعر وصفه لسرعتها في صور شعرية غاية في العظمة، فهو يشبه حركة سيقان الناقة بحركة امرأة تلطم خديها حزنا على ولدها وكأن هذه الناقة في سرعتها سرعة هذه المرأة التي تنوح وتلطم خديها عندما نعى إليها إبنها وهذا لفرط سرعتها، وتسير كأنها قد فقدت عقلها كهذه المرأة، وهذه الناقة المعجزة التي لا مثيل لها هي الوحيدة التي تستطيع الوصول به إلى حبيبته. وخلاصة القول أن كعبا يمجد الناقة لأنها الوسيلة الوحيدة التي تجمعه بحبيته وحقها عليه أن يصفها وأن يسهب في تمجيدها لأنها تحقق له أملا كان عاجزا عن بلوغه بدونها.

_ (1) النواحة: الكثيرة النوح على ميتها، ورخوة الضيعين: مسترخية العضدين والبكر بالكسر: أول للأولاد، والناعون: المخبرون بالموت النادبون له، والمعقول هنا: العقل وهو من المصادر التي جاءت على (مفعول) كمسعور. (2) تفرى: تقطع، واللبان: الصدر، والمدرع: القميص، ورعابيل: قطع متفرقة وهو جمع رعبول.

ويستمر كعب فيقول: يسعى الوشاة جنابيها وقولهم ... انك يابن ابي سلمى لمقتول «1» وقال كل صديق كنت امله ... لا الهينك اني عنك مشغول «2» فقلت خلوا سبيلى لا أبالكم ... فكل ما قدر الرحمن مفعول «3» كل ابن انثى وأن طالت سلامته ... يوما على الة حدباء محمول «4» بعد انشاد الشاعر نصف القصيدة تقريبا يبدأ في الدخول إلى مأساته الحقيقية، إذ يقول: أن الوشاة قد أبلغوه أنه مقتول لأن الرسول قد أهدر دمه ومن خلال فهمنا للبيت الأول هنا نستطيع أن ندرك أن الشاعر قد هجا الرسول وسخر من الصحابه رضوان الله عليهم فأهدر الرسول صلّى الله عليه وسلّم دمه وأحله، إذ بلغه من بعض الذين سعوا في الأمر بالوقيعة بينه وبين الرسول فأصدر القرار بإهدار دمه فبدأ يسعى لدى من كان يعتبرهم أصدقاءه الذين كان يغشى مجالسهم ليقول الشعر هجاء للرسول صلّى الله عليه وسلّم ومدحا لهم وكان هؤلاء الأصدقاء يحسنون له الأمر ويضحكون من تشبيهاته، ذهب إليهم طالبا الحماية والعون، لكن كل رفاقه قد تراجعوا وكل منهم ادعى أنه مشغول في أموره الخاصة وتهرب من نصرة كعب بن زهير فأصبح بلا أمل ولا رجاء، معرضا للقتل وسفك الدم، ويواجه أحلامه بالحياة الهانئة قد تبددت وأصبحت قاتمة مظلمة، ولكنه ينفض عنه أغلال يأسه ويرد عليهم وعلى هؤلاء الوشاة وعلى هؤلاء الأصدقاء الكاذبين يرد عليهم قائلا اتركوني لا خير فيكم فليس لأي إنسان أن يملك زمام الموت أو الحياة لأن الموت بأمر الرحمن الذي لا إاه إلا هو. ويأمل الشاعر في عفو الرسول عنه وعلى الرغم

_ (1) الغواة: المفسدون جمع غاو، جنابيها: حواليها تثنية جناب بفتح الجيم ومقتول: أي متوعد بالقتل لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان قد أهدر دمه. (2) املة: أؤمل خيره وأرتجى أعانته في الملمات، والهينك: اشغلنك (لا) فيها: نافية والتوكيد قليل مع النفي والمعنى لا أشغلك عما أنت فيه من الخوف والفزع بأن أسهله عليك وأسليك. (3) خلو سبيلي: اتركوه، وقوله لا أبا لكم: ذم لهم لكونهم لم يغنوا عنه شيئا أو مدح لهم على سبيل التهكم والاستهزاء.. (4) الالة الحدباء: النعش الذي يحمل الميت.

من خوفه واشفاقه على نفسه من القتل إلا أنه تذكر الحكمة والحقيقة التي تقول أنه ليس هناك من يبقى أو يظل خالدا يذكر ذلك ويصوغه صياغة شعرية محكمه إذ يقول «كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما» «على الة حدباء ومحمول» . ويمضي كعب في قصيدته إذ يقول: انبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول «1» مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الق ... ران فيها مواعيظ وتفصيل «2» لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... اذنب ولو كثرت في الأقاويل «3» لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لم يسمع الفيل «4» لظل يرعد الا أنّ يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل «5» حتى وضعت يمينى ما انازعه ... في كف ذى نقمات قيله القيل «6» لذلك اهيب عندى إذا اكلمه ... وقيل انك منسوب ومسئول «7» فيبين أن الوشاة قد أبنأوه بأن رسول الله قد أهدر دمه وهدده بالقتل إلا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والعفو من شيمته يعفو عن كل من يتراجع عن خطيئته وكفره،

_ (1) انبئت: أخبرت، ويروى (انبئت) وأوعدني: تهددني بالقتل، مأمول: مرجو ومطموع فيه. (2) هداك: زادك هدى أو هداك الله للصفح والعفو عني، والناقلة الزيادة. (3) لا: إن كانت ناهية بحسب وضعها لكن المراد منها التضرع والتذلل. (4) لقد أقوم: والله لقد أقوم مقاما (فهو جواب قسم محذوف) ، المقام هنا: مجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم. (5) يرعد: تأخذه الرعده، والتنويل: التأمين والمعنى لصار الفيل يضطرب ويتحرك من الفزع وإنما خصه بذلك لأنه أراد التعظيم والتهويل. (6) حتى وضعت: أي فوضعت وخص اليمين لأن الأشياء الشريفة تفعل باليمين ولا انازعه، أي حال كوني طائعا له راضيا بحكمه في غير منازع والنقمات: بفتح جمع نقمة والمراد بصاحب النقمات النبي صلّى الله عليه وسلّم حين قدم عليه وهو في المسجد ووضع يده يستأمنه. (7) اخوف: أشد أخافة وإرهابا، ومنسوب: أي إلى أمور صدرت منك كقولك لأخيك بجير (سقاك بها المأمون.. إلخ) ؛ ومسئول: أي عن سببها، أو مسئول عن نسبك فكأنه يقول من قبيلتك التي تجيرك منى؟ ومن قومك الذين يعصمونك منى فقد تبرؤا منك وتخلوا عنك.

ويستطرد مرة أخرى مخاطبا الرسول ويقول له: انتظر أيها المهدي الذي هداه الله واصفح عني وبالحق الذي منحك القران بما فيه من عظات وايات بينات عطية زائدة على حق النبوة، فأنت بهذا خير الأنبياء لأنك صاحب القران، وبحق هذا القران لا تحاسبني على أقوال هؤلاء الوشاة الذين سعوا بيني وبينك وبين المسلمين بالفساد والكذب والبهتان والنميمة لأنني لم أذنب. ويقسم كعب بأغلظ الإيمان أنه سيذهب إلى مجلس النبي ويحضره وأنه متأكد أنه سيرى بعينه وسيسمع بأذنيه ما لم يره من قبل، ولنا هنا أن نقول بأن الفيل وهو حيوان عظيم الجثة بل هو أضخم الحيوانات قاطبة لو رأى وسمع ما يحدث في مجلس الرسول لظل يرتعد خوفا على نفسه وهيبة لعظمة هذا الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) وقدرته حتى يؤمنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم على نفسه وبإذن من الله تعالى، وأن الرعدة التي تصيب الفيل قد أصابت الشاعر نفسه إلى أن تجرأ ووضع يمينه في يد الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم الشريفة وأحس برضاه فامن على نفسه. ويصل بنا كعب إلى وصف الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم إذ يقول: من ضيغم من ضراء الأرض مخدرة ... في بطن عثر غيل دونه غيل «1» يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما ... لحم من القوم معفور خراديل «2» إذا يساور قرنا لا يحل له ... ان يترك القرن إلا وهو مفلول «3»

_ (1) ضيغم: أسد، وضراء الأرض: الأرض التي فيها شجر، والمخدر: غابة الأسد، وعثر (بفتح العين وتشديد المثلثه) ، اسم مكان مشهور بكثرة السباع، والغيل: الشجر الكثير الملتف، وغيل دونه غيل: دونه غيل: أي أجمه تقربها أجمة أخرى فتكون أسدها أشد توحشا وأقوى ضراوة، والخادر: الأسد الداخل في خدره وهو حينئذ يكون أشد قوة وبأسا. (2) يغدو: يخرج في أول النهار يتطلب صيدا لشبليه، وفي رواية (يغذو) بالذال: أي يطعم ويلحم: يطعمها اللحم، والضرغام: الأسد، ويريد بالضرغامين شبليه، ومعفور: ملقى في العفر وهو التراب ووصفه بذلك لكثرته وعدم اكتراثه به لشبعه، وخراديل: قطع صغار يصف هذا الأسد بكثرة الافتراس وعظم الأصطياد. (3) يساور: يواثب، والقرن (بكسر القاف) : المقاوم في الشجاعة، وفي ذكر القرن إشارة إلى أن هذا الأسد لا يساور ضعيفا ولا جبانا، وإنما يساور مقاومة في الشجاة، والمفلول: المكسور المهزوم.

منه تظل سباع الجو نافرة ... ولا تمشى بواديه الأراجيل «1» ولا يزال بواديه أخو ثقة ... مطرح البز والدرسان مأكول «2» ومن الابيات نلحظ أن الشاعر بدأ بوصف الرسول وصفا ماديا، فهو كالأسد الذي سكن غابة تكثر فيها السباع قوة وبأسا وكأنه ملكّ عليها فهو الأسد الوحيد بينها الذي له بيت يأوي إليه مما يعطيه فضلا وقوة، وهذا الأسد يخرج في أول النهار يأكل اللحم ويطعم صغاره مما يصطاد وهو يصيد الكثير لقوته وبأسه ولكثرة صيده نرى اللحم ملقى على الأرض متربا ممزق الأوصال، وهذا الأسد لا يحارب أو يفترس إلا حيوانا شجاعا ولا يكترث بالجبناء، وهنا نجد أن الشاعر يمدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فهذا الأسد الذي يشبه الرسول صلّى الله عليه وسلّم به لا يفترس ولا يتعارك إلا مع شجاع قوى مقدام، ولعله يقصد أن الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) عندما أهدر دمه يعد ذلك اعترافا بقوة كعب وبأسه، ولو كان كعب ضعيفا خامل الذكر جبانا لما اهتم الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) بأن يهدر دمه، ثم يعود مرة أخرى إلى الوصف فيتولى: أن هذا الأسد شجاعته لا تدانيها شجاعة حتى أن كافة الأسود في هذا الوادي بالجو وهو موضع واسع كأنه معلق بين السماء والأرض نجد أن هذه الحيوانات خائفة نافرة تخشى هذا الأسد القوى الذي تخافه كافة الحيوانات والناس والدواب الاخرى وإذا رأى هذا الأسد إنسانا أو حيوانا واثقا من نفسه قويا شجاعا لا يجد نفسه إلا مدافعا عن ذويه.

_ (1) الجو: اسم موضع أو هو ما اتسع من الأدوية أو ما بين السماء والأرض، نافرة: بعيدة ويروي (ضامزة) والضامز: الذي يمسك جرته بفيه ولا يجتر ويروي (ضامرة) أي جياعا لعدم قدرتها على الاصطياد، والأراجيل: الجماعات من الرجال وهو جمع أرجال وأرجال جمع رجل ورجل اسم جمع لراجل يصف هذا الأسد بالقوة حتى خافته السباع والناس. (2) أخو ثقة: الشجاع الواثق بشجاعته، ومضرج: مخضب بالدماء ويروي (مطرح) أي مطروح، والبز: السلاح، والدرسان (بضم الدال) : اخلاق الثياب الواحد دريس، ومأكول: أي طعام لذلك الأسد.

ويقول: أن الرسول نور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول «1» في عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما اسلموا زولوا «2» زالوا فما زال انكاس ولا كشف ... عند اللقاء ولا ميل معازيل «3» شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل «4» وفيها نرى كعب بن زهير يصف الرسول وصفا روحانيا على غير عادة العرب قبل الإسلام، فالرسول (صلّى الله عليه وسلّم) في نظره نور يهدي إلى الحق، وسيف يزهق الباطل وهذا السيف يلمع فيظهر لمعانه على البعد فيهدي التائهين إلى مكان الجماعة وهذا السيف الهندي هو أعظم السيوف وأنبلها وهو لا يخرج من غمدة إلا لأمر عظيم وكأنما الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو نور في حد ذاته وهو سيف هندي صقيل وينعكس هذا النور على هذا السيف الصقيل فيظهر لمعانه على البعد فيهدي الكافرين إلى الصراط المستقيم، وانتقل المسلمون المهتدون بضياء الإسلام وهاجروا إلى المدينة، هاجروا دون ضعف ولا ذلة، هاجروا بإيمانهم للمحافظة على هذا الإيمان، وأن الله سينصرهم على القوم الكافرين المتجبرين الذين

_ (1) يستضاء به: يهتدي به إلى الحق ويروي (لسيف) في مكان (لنور) وقد كانت عادة العرب إذا أرادوا استدعاء من حولهم من القوم أن يشهروا السيف الصقيل فيبرق فيظهر لمعانة من بعد فيأتون إليه مهتدين بنوره مؤتمين بهديه، شبه الرسول بذلك، والمهند: السيف المطبوع في الهند، والمسلول: المخرج من غمده. (2) العصبه: الجماعة ويروى (في فتية) جمع فتى وهو السخى الكريم، زولوا: فعل أمر من زال التامة أي تحولوا وانتقلوا من مكة إلى المدينة. (3) الانكاس: جمع نكس (بالكسر) وهو الرجل الضعيف، والكشف: (بضم فسكون وحرك للشعر) جمع أكشف وهو الذي لا ترس معه أو هم الشجعان الذين لا ينكشفون في الحرب أي لا ينهزمون، والميل: جمع أميل وهو الذي لا سيف له أو هو الذي لا يحسن الركوب فيميل عن السرج. والمعازيل: الذين لا سلاح معهم وأحدهم معزال (بكسر الميم) . (4) شم: جمع أشم، وهو الذي في قصبة أنفة علو، مع استواء أعلاه. والعرانين: جمع عرنين وهو الأنف، اللبوس: ما يلبس من السلاح. ونسج داود: أي منسوجه وهو الدرع، والهيجا (بالقصر هنا) : الحرب والسرابيل: جمع سربال وهو القميص أو الدرع.

طردوهم من ديارهم ومن أرضهم بغير حق، وهؤلاء الرجال المهاجرون لهم من علو النفس والكبرياء ما جعلهم يرتفعون بصفاتهم الحميدة فوق الدنايا وإلى مكانة سامية، واستمروا في هجرتهم يعدون أنفسهم حتى صاروا قوة لا يستهان بها ويستطيعون الان أن يظهروا قوتهم ويواحدوا شأنهم ويلتفوا تحت راية الإسلام. وفي النهاية يقول كعب: بيض سوابغ قد شكت لها حلق ... كأنها حلق القفعاء مجدول «1» لا يفرحون إذا نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا «2» يمشون مشى الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنايل «3» لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل «4» فنجده بعد أن تعرض لوصف المسلمين كأصحاب أخلاق وقيم ودين يصفهم في هذه الابيات كمقاتلين عظام، فهؤلاء المسلمون يلبسون دروعا من الحديد الذي لا يصدأ، مجلوة طويلة، تقي لابسها من أشواك النباتات في الصحراء، وهذه الدروع مجلوة ومجدولة، فهى محكمة الصنع من كافة الوجوه وهؤلاء الأبطال الذين يلبسون تلك الدروع لا يسكرهم النصر ولا تؤثر فيهم الهزيمة ولا تجعل الجزع والاشفاق يتطرق إليهم، فهم أن انتصروا يفرحونا لنصر

_ (1) بيض: مجلوة صافية مصقولة لأن الحديد إذا استعمل لم يركبه صدأ. والسوابغ: الطوال السوابل، وشكت: أدخل بعضها في بعض ويروي (سكت) بمعنى ضيقت، والقفعاء: يعني ضرب من الحسك وهو نبات له شوك ينبسط على وجه الأرض تشبه به حلق الدرع، ومجدول: محكم النعة. (2) مفاريح: كثيرو الفرح، ونالوا: أصابوا، ومجازيع: كثيرو الجزع. (3) الزهر: البيض البشرة، يعصمهم: يمنعهم، عرد: فرأو عرض عن قرنه وهرب عنه، التنابيل: جمع تنبال وهو القصير. (4) وقوع الطعن في نحورهم: دليل على أنهم لا ينهزمون حتى يقع الطعن في ظهورهم، وحياض الموت: موارد الحتف يريد بها ساحات القتال. تهليل: تأخر.

الله وأن انهزموا للحظة فهم واثقون من أن الله سينصرهم، وهؤلاء الأبطال المسلمون يمشون مشية الوقار والهدوء والسؤدد لما لقامتهم من دلائل العظمة مما يعطيهم المهابة والقوة ويبعث في نفوس أعدائهم الذعر والهلع، لأنهم عندما يحاربون لا يتقهقرون ولا يتراجعون، فلا يقع منهم شهيد إلا والسيف في صدره، ولا تجد منهم من يطعن في ظهره مطلقا، فالمحارب الذي يطعن في ظهره جبان فار ومنكسر ضعيف، فكيف يقع الطعن في ظهر هؤلاء المسلمين وهم الذين لا يخافون الحرب؟! وإنما يقبلون عليه إقبال الظمان على الماء، والموت في نظرهم ليس فناء وإنما لحياة أفضل، وهذه الشهادة ينال بها المسلم رضا الله وجنته.

الفصل الثاني البوصيري وبردته

البوصيري وبردته هو الإمام شرف الدين محمد بن سعيد بن حماد بن محسن، الصنهاجي الجد، الدلاصي المولد، المغربي الأصل، البوصيري المنشأ. وقد أشار البوصيري إلى أصله فقال: أن كان مثلي مغربيا فما ... في صحبة الأجناس من بأس وكان مولد البوصيري يوم الثلاثاء أول شوال عام 608 هـ (1212 م) . وبدأ حياته الدراسية كما كان يبدؤها معاصروه وذلك بحفظ القران الكريم ودراسة علوم الدين واللغة كالنحو والصرف والعروض، كما درس الأدب والتاريخ الإسلامي وبخاصة السيرة النبوية، ثم اتجه نحو التصوف فتلقى على يد أبي العباس المرسي الطريقة الصوفية، ودرس ادابها وأسرارها. وكان البوصيري يجيد فن الخط، ومنشدا للمدائح النبوية، كما زوال مهنة كتابة الألواح التي توضع شواهد على القبور، وقرأ المؤلفات التي وضعها النصاري واليهود تأييدا لأديانهم، وقد رأى فيها انكارا لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وقد شغله ذلك فأقبل على دراسة الإنجيل والتوراة دراسة دقيقة كما درس تاريخ ظهور المسيحية ليرد على أصحاب تلك الديانات محاولا إقناعهم بأن الأناجيل التي بين أيديهم لا تدل على ألوهية عيسى، وإنما تدل على نبوته، وأن هذه الأناجيل تخبرنا بظهور نبي من أبناء إسماعيل. وكانت حياة البوصيري جحيما، فقد رزق كثيرا من الأولاد لدرجة أنه كان يلوم زوجته لكونها ولودا، فتمنى لو كانت عقيما، وهجره أصدقاؤه وقاطعوه لشدة فقره وعلى الرغم من ذلك قام باداء فريضة الحج عن طريق البر، وعند عودته نظم قصيدته الهمزية النبوية، ولعل من أهم قصائده (البردة) والتي سماها (الكواكب الدرية في مدح خير البرية) .

الفصل الثاني البوصيري وبردته

وكان الإمام البوصيري فقيها وكاتبا وشاعرا ذاعت شهرته بعد قصيدته التي صاغها في مدح خير البرية، واشتهر بها، لما روى قصة حلمه بالرسول والتحافه ببردته صلّى الله عليه وسلّم، وسميت قصيدة البوصيري بالبردة تشبيها لها ببردة كعب بن زهير التي نظمها مدحا في الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم مستشفعا بها عنده وخلع عليها هذا الأسم لأن الرسول عليه الصلاة والسلام خلع على كعب بردته حينما سمع شعره فيه. وكذلك بردة البوصيري نظمها مدحا في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أصيب (بالفالج) واستشفع بها إلى النبي وإلى الله أن يعافيه ثم نام فرأى النبي صلّى الله عليه وسلّم يمسح على وجهه بيده المباركة وألقى عليه بردته الشريفة، فانتبه من منامه معافى قد بريء من علته. ونسج البعض حول هذه القصيدة الكثير من القصص والخيالات، بل وضعوا لها شروطا عند قراءتها مثل استقبالهم القبلة والوضوء وغيرهما، ثم جعلوا لها المناقب والفضائل، كما احتقر نسخها وتأجيرها، وشاعت هذه القصيدة وبخاصة في حلقات الذكر والمريدين وغيرهم. وظلت البردة على الرغم من طعن بعض الفقهاء فيها ذات مكانة مقدسة عند بعض المسلمين «1» . الامام البوصيري وقصيدة البردة: جزء الإمام البوصيري قصيدته البردة التي مدح بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى أجزاء عشرة، كل جزء من القصيدة يمثل واحدة قائمة بذاتها، والقصيدة تتوافر لها واحدة الموضوع وواحدة المضمون. في الجزء الأول نجد الإمام البوصيري يسير على درب غيره من الشعراء في فصيدته، فهو يبدأ بالنسيب ويتحدث عن معالم ذي سلم في الحجاز وشوقه وحنينه وتلهفه إلى الديار المقدسة، لكنه لم ينغمس انغماس غيره من الشعراء في الغزل المادي، وإنما التزم العفة والاحتشام خلال أبياته.

_ (1) ديوان البوصيري.

(وقد أكد بعض الأدباء أن على الشعراء الذين يمتدحون النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يلتزموا الاحتشام والتأدب) . وفي الجزء الثاني يتحدث الإمام البوصيري عن النفس الإنسانية والتحذير من هواها، فنتبين من خلال هذه الأبيات والتي بلغت سبعة عشر بيتا أنه عبر عن معاناة الشاعر من النفس الأمارة. وينتقل الإمام البوصيري بعد أن تحدث عن النفس وأمرها بالطهر والابتعاد عن غواية الشيطان وملذات الدنيا وبعد أن جعل نفسه طاهرة واستعد استعدادا نفسيا للمدح والحديث عن الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم في الجزء الثالث من القصيدة. ثم ينتقل بعد ذلك في الجزء الرابع من بردته ليتحدث عن مولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعن المعجزات التي حدثت أثناء الولادة وقد استغل الإمام البوصيري في هذا الجزء كثيرا من الموضوعات التي قرأها في السيرة النبوية ولعلنا لا نستطيع تأكيدها وإنما علينا طرحها كما وردت، وعلى أهل الفقه التأكدّ من صحتها، فقد انطفأت النار التي كان الفرس يعبدونها، وكذلك بحيرة ساوة العظيمة خسفت بها الأرض وجف ماؤها، وتلك أحداث ذكرها الإمام البوصيري عند حديثه عن مولد النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وعلينا أن نصدقها كمعجزات وإنما على غيرنا تأكيد صحتها وإثبات حقيقتها، ونستطيع أن نقول أن الإمام البوصيري استعاد من خلال هذا الجزء اللحظات التي سبقت مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم ليكون هذا مقدمة للحديث عن معجزات الرسول بعد البعثه. ويأتي الجزء الخامس ليطرح الإمام البوصيري فيه معجزات النبي في ستة عشر بيتا وتلك المعجزات مؤيدة بما وردت في الأحاديث ومما روى عن أصحاب الرسول الكريم رضوان الله عليهم فهى معجزات واقعية لا مكان للشك فيها وأول هذه المعجزات سجود الشجرة ومعرفة الراهب سمات النبوة في الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو طفل صغير، ويطلب من أبي طالب أن يعود بابن أخيه، وكذلك الغمامة التي تظلله، وانشقاق القمر، وغيرها من المعجزات، ويظل الإمام البوصيري

ينتقل خلال هذا الجزء من معجزة إلى أخرى حتى يختتمه بتوسلاته ودعائه. وفي الجزء السادس يتحدث الإمام البوصيري عن معجزة أخرى أعظم مكانة في الرسالة المحمدية وهي معجزة القران الكريم يتحدث عنها في سبعة عشر بيتا ولعل الإمام البوصيري ظل يتحدث حول معجزات الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو يدرك كأن هناك هاتفا يسأله: ما بالك تعدد هذه المعجزات، فيطلب منه أن يدعه في تلك اللحظات الروحانية ليتلذذ بها وتطيب خلالها نفسه وليستمد من نورها نورا لقلبه وعقله وروحه، ثم يتعرض لمعجزه القران الكريم بما فيها من شفاء ورحمة وما بها من ملائمة، ويقف أمام المعارضين الذين تصدوا لبلاغة القران أمثال: (مسيلمة الكذاب، وطليحة، وسجاح، والمثنى) ، ويبين بأنهم فشلوا فيما سعوا إليه، ثم يورد بعد ذلك قصص السابقين، ويعظم مكانة القران الكريم بما فيه من الخير والعظة والإرشاد والعدل وأن القران قد حفظه الله فلم يمسه تغيير أو تبديل. ويخصص الإمام البوصيري الجزء السابع من قصيدته للحديث عن الإسراء والمعراج ومن خلال ثلاثة عشر بيتا يتناول فيها الإمام البوصيري قصة الإسراء والمعراج في تسلسل منطقي مستمدا من القران الكريم مادار حول هذا الحدث التاريخي العظيم. أما الجزء الثامن من القصيدة فيصف فيه الإمام البوصيري بعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكيف فزعت منها قلوب الكفار، ثم يتحدث عن الغزوات وشجاعة الرسول وشجاعة المسلمين خلال اثنين وعشرين بيتا. ثم يأتي الجزء التاسع وعدد أبياته أثنا عشر بيتا يتحدث فيها عن أسفه لما قام في سابق عهده من نظم الشعر والمدح لمن لا يستحق هذا المديح تقربا إلى ذوى الشأن ويتحدث عما فعله في أيام صباه ويقر بذنوبه ولكنه يأمل الخير والمغفرة بمدحه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويعرض مقارنة بين مدحه لرسول صلّى الله عليه وسلّم وما سيناله لهذا المدح وبين ما قام به زهير حينما مدح هرم بن سنان وأجزل له هرم العطاء، ويشير إلى أن عطاء الرسول لا ينقص، فهو عطاء مستمر في الدنيا والاخرة، أما عطاء

هرم فهو عطاء دنيوي فحسب، وينهى هذا الجزء برفض ملذات الدنيا، وقد تبين أن اتجاه الإمام إلى مدح النبي كان للاطمئنان بأنه سينال خير الجزاء، بل سينال المغفرة لتلك الذنوب التي اقترفها خلال أيامه الماضية. وفي الجزء العاشر والأخير ينهى الشاعر قصيدته متوسلا ومناجيا رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو بيت القصيد ويعطي لنفسه الأمل والثقة ثم يتوجه بالدعاء إلى ربه عز وجل، وفي هذا الجزء ثلاثة نداات للإمام البوصيري، نداء لنفسه المخطئة، ونداء لشفاعة الرسول له، ونداء إلى الله ليغفر له الذنوب والخطايا. وقد نسج الإمام البوصيري قصيدته البردة على منوال قصيدة لسلطان العاشقين الشاعر الصوفي ابن الفارض ومطلعها: هل نار ليلى بدت بذى سلم ... أم بارق لاح في الزوراء فالعلم ارواح نعمان هلا نسمة سحرا ... وماء وجرة هلا نهلة بفم ولعلنا في ضوء دراستنا لقصيدة الإمام البوصيري ندرك التأثير الديني في أسلوبه بما استمده من السيرة النبوية العطرة كما انعكست ثقافته على بنائها، فقد اعتمد الإمام فيها على كثير من الصور البلاغية واختار الكلمات السهلة السلسة والاستعارات الواضحة القيامة والدلالة على ما يقصد من المعنى. ويقول الدكتور زكي مبارك (البردة ملحمة أدبية كبرى في المدائح النبوية في تاريخ الادب العربي) «1» .

_ (1) زكي مبارك في المدائح النبوية (ص 37) .

شرح البردة

شرح البردة بدأ البوصيري قصيدته كغيره من الشعراء بمطلع غزلي جميل على عادة شعراء العرب، ملتزما العفة والاحتشام لمدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو يقول: أمن تذكر جيران بذى سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم «1» أم هبت الريح من تلقاء كاظمة ... وأومض البرق في الظلماء من أضم «2» فما لعينك ان قلت اكففا همتا ... وما لقلبك ان قلت استفق يهم «3» فهو يتساءل في مطلع بردته المباركة عن أسباب انسياب دمعه- هل جرى هذا الدمع ممزوجا بدم من تذكر الديار والجيران بذي سلم؟ أم لوميض برق يضيء الظلماء، وهبوب ريح حبيبة من تلقاء كاظمة، حيث يقيم أحباؤه، وعندما يرى استنكار المخاطب لهذا القول يأخذه- بقوله- ان عينيك لا تطيعانك حينما تطلب منها الكف عن ذرف الدموع بل يزداد انهمار الدمع كما أن قلبك كلما طلبت منه أن يفيق من غرامه ازداد شوقا وهياما، فعينا الشاعر وقلبه في لهفة إلى الجيران وإلى تلك الحبيبة. ويقول: أيحسب الصب أن الحب منكتم ... ما بين منسجم ومضطرم «4» ليؤكد أن الحب لا يمكن كتمانه ويفضح العاشق بالعلامات التي تظهر عليه من سقم وتحول واضطراب.

_ (1) ذو سلم: جبل لطيء شرقي المدينة وقيل أن ذي سلم ليس جبل وإنما هو مكان بين مكة والمدينة قرب من قدير، جيران: جمع جار وهو الملاصق للإنسان والمراد بالجيران في البيت المحبوبون، مزجت: خلطت. (2) كاظمة: اسم موضع بالمدينة، أومض: لمع لمعانا خفيفا، الظلماء: الليلة المظلمة، اضم: اسم لجبل، وقيل اسم لواد بالقرب من المدينة المنورة. (3) همتا: سالتا بالدمع، استفق: أي أرجع إلى رشدك، يهم: حالة الجزم من يهم أي يتمادى في الهيام وهو جنون العشق. (4) الصب: العاشق، المنسجم: الدمع السائل، المضطرم: المراد به الفؤاد الملتهب شوقا.

ويمضي البوصيري قائلا: لولا الهوى لم ترق دمعا على طلل ... ولا أرقت لذكر البان والعلم «1» فكيف تنكر حبا بعد ما شهدت ... به عليك عدول الدمع والسقم «2» وأثبت الوجد خطى عبرة وضني ... مثل البهار على خديك والعنم «3» نعم سرى طيف من أهوى فأرقنى ... والحب يعترض اللذات بالألم «4» فهو في تساؤله يقيم الدليل تلو الدليل على ثبوت الحب ولو لم يكن هذا الحب لما سكب دمعا على أي أثر من الاثار ولا أصيب بالسهاد ولا عرف الندم، ولولا الشوق والوله لما هطل الدمع لمجرد ذكر الأطلال والديار وما الشوق هنا إلى الديار ولكنه الشوق إلى من سكن الديار، وهذا اعتراف واضحح بالحب، فهو لم يعد في حالته الطبيعية، بل هو مصاب بالأرق لتذكره طيف محبوبته وتألمه الدائم والشهود العدول القائمون عليه أربعة: خفقان قلبه، وسكب دمعه، ونحول جسمه، وانعقاد لسانه، فلا يجد الصب مهربا من الاعتراف، وقد لاح له طيف حبيبته فأرقه ولم يذق للنوم طعما عله يراه حقا، ولكن ذلك لم يتحقق وهو يجد لذة في هذا الحب، ولكنها لذة ممزوجة بالألم، فالبوصيري محروم من قرب محبوبته كما كان كعب بن زهير محروما من قرب سعاده. ويقول: يالائمى في الهوى العذري معذرة ... منى إليك ولو أنصفت لم تلم «5»

_ (1) ترق: حالة الجزم من تريق أي تسكب، الطلل: ما بقى من اثار الديار أرقت: أصابك السهد وعدم النوم، البان: شجر يسق ويطول في استواء مثل نبات الأثل، واحدته بأنه وهو شجر طيب الريح، ويتخذ منه دهن يعرف بدهن البان، العلم: الجبل والرمح. (2) شاهد عدل: أي شاهد مرضى يقنع به. (3) العبرة: البكاء وقيل العبرة الدمعة، الضنى: الضعف والهزال، البهار: البياض الذي يكون في لب الفرس، العنم: شجرة حجارزية لها ثمرة حمراء يشبه بها البنان المخضوب وقيل أن المراد من البهار في البيت ورد أصفر والمراد بالعنم ورد أحمر. (4) طيف: خيال، أرقني: اقض مضجعي وأضاع عني النوم. (5) الهوى العذرى: منسوب إلى قبيلة بنى عذره ويقصد الحب العفيف العفيف الذي يتعلق فيه صاحبه بجمال المحبوبة النفس والخلقي وشاع هذا النوع من الغزل في هذه القبيلة لأن نساءها كانوا في منتهى الجمال.

فيشرح الإمام البوصيري معاناته هذا الحب لمن يلومه، فإن حبه طاهر وعفيف، حب عذري، إذ عبر عن خوالج النفس، وأثر هذا الحب فيها دون أن يتعرض للصفات الحسية لمحبوبته، وشاع مثل هذا النوع من الغزل والتعبير عن الحب في قبيلة بني عذرة التي شاعت بين ظهرانيهم قصص الحب الخالدة. ويقول: عدتك حالى لا سرى بمستتر ... عن الوشاة ولا دائي بمنحسم «1» محضتنى النصح لكن لست أسمعه ... أن المحب عن العذال في صمم «2» فيبين أن النصح واللوم على ذلك الهوى العذري لا يجدي ولا يسمع لأنه في حالة غير حالته العادية، بل يمر بمرحلة لا شعورية خاصة وكل ما قدم له من نصح لا يدركه ولا يعيه لأن شعوره وأحاسيسه غائبة شاردة مع محبوبته بذي سلم. ويقول: انى اتهمت نصيح الشيب في عذل ... والشيب أبعد في نصح عن التهم «3» فان امارتى بالسوء ما اتعظت ... من جهلها بنذير الشيب والهرم «4» ولا أعدت من الفعل الجميل قرى ... ضيف الم برأسى غير محتشم «5» لو كنت أعلم أنى ما أوقره ... كتمت سرا بدا لى منه بالكتم «6»

_ (1) عدتك حالي: جاوزتك حالي، فهي لا تضرك ولا تعنيك، وقد علمها غيرك المنسجم: المنقطع، الوشاة: جمع واش وهو من ينقل الحديث على سبيل الإفساد والوقيعة بين الناس. (2) العذال: جمع عاذل وهو اللائم. (3) الشيب: كبر السن. (4) أمارتي بالسوء: يقصد الشاعر نفسه، نذير الشيب: المراد الشعر الأبيض الذي ظهر في رأسه وجسمه، نذير الشيب، المراد كبر السن. (5) قرى الضيف: إكرامه: محتشم: مستح. (6) أوقره: احترمه، الكتم: بفتح الكاف والتاء نبات يؤخذ منه خضاب للشعر وقيل أن الكتم نبت يخضب به كالحناء.

فيوضح الإمام البوصيري أنه اتهم من قبل العذال بالشيب وكبر سنه، ويرد عليهم أن الشيب أبعد عما يلفق له من تلك التهم، فهو لا يأبه بالشيب الذي اشتعل في رأسه، ولكنه يخشى أن تشيب النفس وهى محملة من جهلها بالمعاصى وهو يملك القدرة على اخفاء هذا الشيب بالخضاب أو الحناء، ولكنه يعجز عن كتمان ما فعلته نفسه، فإن اخفيت هذه الأفعال عن البشر فإنه لا يستطيع أن يخفيها عن ربه سبحانه وتعالى: ويقول البوصيري: من لى برد جماح من غوايتها ... كما يرد جماح الخيل باللجم «1» فلا ترم بالمعاصى كسر شهوتها ... ان الطعام يقوى شهوة النهم «2» فيقرر بأن النفس أمارة بالسوء ولا بد أن يردها الإنسان عن غوايتها، ويشبه الإمام البوصيري النفس المنحرفة عن الطريق المستقيم بالحصان الذي يجمح بفارسه فإن لم يرده راكبه فقد يقتله ويقتل نفسه، والإسراف في المعاصى لا يقتل رغبة النفس، ولكنه يزيد ميلها وانغماسها فيها كما أن كثرة الطعام تزيد رغبة النهم فيه ويقول: والنفس كالطفل أن تهمله شب على ... حب الرضاع وان تفطمه ينفطم فيخاطب المرء بأنه سيد حياته وأن ترك لنفسه الحبل على الغارب ادمنت المعاصي وأكثرت من الذنوب وأوردته نفسه مورد الهلاك، وهو إن زجرها امتنعت كالطفل إذا لم ينفطم ظل معلقا بثدى أمه- وهي حكمة بليغة يطرحها البوصيري للإنسانية جمعاء. ثم يقول: فاصرف هواها وحاذر أن توليه ... ان الهوى ما تولى يصم أو يصم «3»

_ (1) من لي: أي من يكفل لي، الجماح: الشرود، غوايتها: ضلالها، اللجم: جمع لجام. (2) لا ترم: لا تقصد ولا تطلب، النهم: الشره كثير الأكل. (3) أن توليه: تجعله اليا عليك، يصم: حالة الجزم من يصمى مضارع اصمى أي يقتل، ويصم مضارع وصم أي شاب وعاب.

وراعها وهى في الأعمال سائمة ... وان هى استحلت المرعى فلا تسم «1» كم حسنت لذة للمرء قاتلة ... من حيث لم يدر ان السم في الدسم والمراد من الهوى الذي يصم أو يصم هنا اللذة القاتلة وهي اللذة الدنيوية التي يقدم عليها الإنسان وتأمره النفس الإمارة بالجرى وراءها، ولكن ذلك يقضى عليه، ولذا يطالب المرء أن يخالف هذه النفس ويردها عن غيها وينصرف عما تقويه فيه وتزينه له من مغريات الدنيا، وقد يكون ذلك ابتلاء وتذكره له ليستغفر ربه ويرجع إليه فيعيش مطمئنا خالى البال بعيدا عن نزوات الشياطين. ومن البيت الثامن والعشرين يبدأ البوصيري حديثه كعادة الشعراء العرب الأولين بالتشوق إلى الديار والجيران وعلى نحو ما فعله كعب في ميميته وبردته الأولى التي كانت نبراسا للشعراء من بعد. ويستمر البوصيري في قصيدته قائلا: واخش الدسائس من جوع ومن شبع ... فرب مخمصة شر من التخم «2» واستفرغ الدمع من عين قد امتلأت ... من المحارم والزم حمية الندم «3» وخالف النفس والشيطان واعصهما ... وان هما محضاك النصح فاتهم «4» ولا تطع منهما خصما ولا حكما ... فأنت تعرف كيد الخصم والحكم فيوجه الإمام المجتمع إلى أخذ الحذر من مغبة الدسائس والفتن التي تحاك وهي لا تختلف بعضها عن بعض، ويستوى الأمر بين أن تملى الدسيسة على المرء

_ (1) سائمة: راعية أي متعاطية، فلا تسم: أي فلا تمكنها من الرعي وتسم من السموم وهو الرعي في العشب المباح. (2) الدسائس: هي الشبهة الخبيثة، مخمصة: جوع، التخم: جمع تخمة وهي امتلاء البطظن بالأكل وثقلة عليها. (3) المحارم: المحرمات، حمية الندم: الاحتماء بالندم والتوبة من الوقوع في المحارم، وأصل الحمية عن الشيء هي الامتناع عنه. (4) محضاك النصح: اخلصا لك النصح، فاتهم: أي فاتهمهما بالغش وقابلهما بسوء الظن لأن اخلاصهما من الأمور المستحيلة.

الخير والنعيم أو تجعله على طرف الفقر فيرفض المرء هذا وذاك ويخاطبه فيقول: إذا كان رائدك هو الشيطان وقائدك هو النفس فلا تطع أيا منهما لأن النفس من جنود الشيطان، وأن الشيطان ذو كيد عظيم، والنفس وسيلة لتنفيذ كيده. وإن زين لك الشيطان أمرا وحفزتك النفس لفعل معصية ورسمت لك طريقا سهلا فلا بد أن تعود إلى عقلك ورشدك وتحكم إيمانك وترغب عن طريق الأمارين بالسوء وبذلك تنجو من بؤس الدنيا وتنال ثواب الاخرة، ويقول له: ثم اسكب دموع الندم على فعلة فعلتها وهي محرمة، واحتم بالتوبة، وأقلع عن تكرارها والوقوع فيها. ويتفق الإمام البوصيري مع ما هدف إليه كعب من معاناة وإن كانت معاناة كعب خاصة ومعاناة الإمام البوصيري عامة، ثم ينتقل الإمام البوصيري بعد ذلك ليعتذر إلى خير البرية فيقول: استغفر الله من قول بلا عمل ... لقد نسبت به نسلا لذى عقم «1» امرتك الخير لكن ما ائتمرت به ... وما استقمت فما قولى لك استقم ولا تزودت قبل الموت نافلة ... ولم أصل سوى فرض ولم أصم «2» فيدعو المرء للاستغفار عما يعلنه من قول بلا عمل، ولم يكن له من هم سوى الحديث عن الناس وكشف أسرارهم، وينصحه بأن يتزود قبل فوات الأوان بحسنات قد تنفعه يوم القيامة، وليسأل نفسه ما إن كان قد أدخر لنفسه عملا صالحا يلقي به الله. فهذه الأبيات مليئة بالحكمة والتوجيه والإرشاد إلى التمسك بمباديء وأهداف الإسلام والقيم الإنسانية. ويقول: ظلمات سنة من أحيا الظلام إلى ... ان اشتكت قدماه الضر من ورم وشد من سغب احشاءه وطوى ... تحت الحجارة كشحا مترف الادم «3»

_ (1) ذي عقم: العقيم من لا يولد له. (2) تزودت: اتخذت زادا، نافلة: النافلة العمل الصالح على سبيل التطوع. (3) السغب: الجوع، الكشح: هو ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف وهي أقصر الأضلاع واخرها وهي من لدن السرة إلى المتن، مترف: المنعم ويقصد به المكان الناعم من الجلد، والادم: الجلد.

وراودته الجبال الشم من ذهب ... عن نفسه فأراها أيماشمم «1» وأكدت زهدة فيها ضرورته ... ان الضرورة لا تعدو على العصم «2» وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم فالرسول صلّى الله عليه وسلّم هو القدوة، والرسول (صلّى الله عليه وسلّم) هو الإمام الأعظم، والرسول (صلّى الله عليه وسلّم) لا ينطق عن الهوى، والرسول (صلّى الله عليه وسلّم) هو القائل: (أديني ربي فأحسن تأديبي) ، محمد هو صفوة الباري وخير خلقه، مدحه ربه سبحانه وتعالى بقوله الحق «وأنك لعلى خلق عظيم» ، ونبى هذه صفاته وهذه أصول تربيته وهذا منطقه وهذا سلوكه، ألا يكون أسوة حسنة؟ فيا أيها المؤمنون الذين امنتم بمحمد، ويا أيها المنكرون الذين كابرتم وعاندتم وأنكرتم بعثته وراعتكم دعوته حتى لم تعودوا تبصرون أو تحكمون العقل لتعلموا أنه يدعو إلى الحق، وأنه الصادق الأمين، وأنه الصابر العابد، وأنه الجلد الثابت، وأنه الزاهد في عرض الدنيا، ولو تحولت له جبالها ذهبا. إنه يدعوكم لما يحييكم، ويبشركم بجنة عرضها السموات والأرض، وهو الشفيع يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وهو الذي اثر أن يكون مع المؤمنين فيعيش مثلهم ويحيا حياتهم ويتألم لالامهم، وكيف لا؟. وهو الذي أرسله ربه بشيرا ونذيرا وقائدا ملهما، وهكذا تظهر إنسانية الرسول عليه الصلاة والسلام. ولعل الإمام البوصيري هنا يتمثل بصبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم حينما قاطعته قريش، في صبره على ما هو فيه من مرض وعلة، ويدعو الله لأجل رسوله أن يحن عليه ويتفضل بشفائه، وهو زاهد عن هذه الدنيا وملذاتها، ولذته في التقرب إلى الله وفي التمسك بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

_ (1) راودته: خادعتهخ، الشم: العالية الشامخة الجلد الشمم والاباء. (2) ضرورته: حاجته، العصم: يكسر العين وفتح الصاد جمع عصمة وهي الحفظ أي أن الحاجة والضرورة لا سبيل لهما على من عصمه الله وحفظة.

ويقول: محمد سيد الكونين والثقلين ... والفريقين من عرب ومن عجم «1» نبينا الامر الناهي فلا أحد ... أبر في قول لا منه ولا نعم هو الحبيب الذي ترجى شفاعته ... لكل هول من الأهوال مقتحم «2» دعا الله فالمستمسكون به ... مستمسكون بحبل غير منفصم «3» فاق النبيين في خلق وفي خلق ... ولم يدانوه في علم ولا كرم وكلهم من رسول الله ملتمس ... غرفا من البحر أورشفا من الديم «4» فمحمد صلّى الله عليه وسلّم سيد الخلق جميعا، سيد الأنس والجن، سيد العرب والعجم، له مكانته التي لا تدانيها مكانة لأحد، وهو حبيب الله المرجوة شفاعته لأمته، الشجاع الذي جاء للدعوة إلى الهدى وإلى التمسك بدين الله عز وجل، عظمه ربه وقدمه على سائر الأنبياء. ويمضي فيقول: وواقفون لديه عند حدهم ... من نقطة العلم أو من شكلة الحكم «5» فهو الذي تم معناه وصورته ... ثم اصطفاه حبيبا باريء النسم «6» منزه عن شريك في محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم دع ما ادعته النصاري في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم «7»

_ (1) الثقلان: الأنس والجن. (2) مقتحم: بفتح الحاء، مهجوم عليه ومتورط فيه. (3) منفصم: منقطع. (4) رشفا: مصا بالشفتين، الديم: بكسر الدال وفتح الحاء جمع ديمه وهي مطر يدوم في سكون بلا رعد ولا برق، ومعنى هذا أن ما جاء به الأنبياء السابقون صلوات الله عليهم من الهدى إذا قيس إلى هدى محمد صلّى الله عليه وسلّم كان كغرفة من بحر أو رشفة من مطر. (5) الحكم: جمع حكمة وهي وضع الأشياء في مواضعها. (6) النسم: الأرواح جمع نسمه وهي الروح أو الإنسان. (7) احتكم: تصرف في المدح كما تشاء.

ليؤكد الإمام البصيري أن كل الناس يقفون أمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرتبة أقل من مرتبة الند والشريك، يطلبون من الرسول الكريم (صلّى الله عليه وسلّم) جزا من علمه أو قبسا من حكمته لعلمهم أنه هو الذي خلقه الله في تمام المعنى والفعل والشكل والجسم وهو الذي قد اختاره خالق الخلق حبيبا له، وأن حسنه اكتسب من اختيار الله سبحانه وتعالى حسنا فوق حسن البشر لأن أساس الحسن في الرسول الكريم (صلّى الله عليه وسلّم) هبة ربانية، ويذكر أن ما ادعته النصاري في سيدنا عيسى عليه السلام من الوهية هي دعوة كاذبة لا يقبلها ذو الفطرة السليمة ولا يرضاها الإسلام، وإذا تركنا هذه الدعوة الباطلة فإننا نستطيع كمسلمين أن نحكم بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد منحه الله الحسن عقلا والحسن معنى والحسن صورة وجسما. ويقول: وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف ... وانسب إلى قدره ما شئت من عظم فإن فضل رسول الله ليس له ... حد فيعرب عنه ناطق بفم لو ناسبت قدره آياته عظاما ... احيا اسمه حين يدعى دارس الرمم «1» وهنا يوجه الشاعر خطابه إلى كل مسلم فيقول: قل عن الرسول ما شئت وانسب إليه ما استطعت أن تنسب من الشرف والفخار والحلم والعلم والشجاعة والكرم والأمانة ولكل هذه الصفات العظيمة والأخلاق الحميدة لا يصل إلى مكانته أحد، وإن قدر الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) غاية العظمة، فهو عربي من نسل سيدنا إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام، فجمع الشرف والنسب، وأنه لعظمة مكانته لو ذكر اسمه لأحيا ذكره الجثث الها مدة وقامت من سباتها وكأنها دعيت إلى الحياة يوم القيامة.

_ (1) الدارس: البالي، الرمم: جمع رمة وهي أجساد الموتى.

ثم يقول: لم يمتحنا بما تعى العقول به ... حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم «1» أعيا الورى فهم فليس يرى في الق ... رب والبعد فيه غير منفحم «2» كالشمس تظهر للعينين من بعد ... صغيرة وتكل الطرف من أمم «3» ويريد الإمام البوصيري بهذا أن يؤكد وضوح الرسالة النبوية فيقول أنها رسالة سمحة واضحة ليس فيها ما يحير العقول ولا ازدواج يجعل الناس ترتاب ولا كهانة تجعلهم يتوهون في أسرار كالنحل القديمة. وشبه الرسالة المحمدية بالشمس في نجليها واضحة تبدو صغيرة على البعد ولكنها أن اقتربت منها تكل طرفك ولا تستطيع النظر إليها والإحاطة بها وكذلك معنى هذه الرسالة فعلى الرغم من وضوحها الشديد فإنه يحتاج إلى فهم ومعاناه من يريد الوصول والوقوف على الحقيقة الواضحة الكاملة. ويقول البوصيري: وكيف يدرك في الدنيا حقيقته ... قوم نيام تسلوا عنه بالحلم فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وانه خير خلق الله كلهم وكل اى أتى الرسل الكرام بها ... فانما اتصلت من نوره بهم «4» فانه شمس فضل هم كواكبها ... يظهرن أنوارها للناس في الظلم «5» فيطلب الإمام الشاعر إظهار حقيقة كانت خافية على الناس فعندما بعث محمد عليه الصلاة والسلام ولم يدرك قومه مكانة هذه الرسالة ولم يكن الرسول

_ (1) نرتب: حالة الجزم من نرتاب أي نشك، نهم: فضل بفتح النون وكسر الهاء من وهم يهم إذا أخطأ وسها. (2) أعى: أتعب وأعجز، منفحم: مغلوب بالحجة وقبل أن المنفحم هو الساكت عجزا في المناظرة. (3) تكلل: تتعب، من أمم: من قرب. (4) مبلغ العلم: غايته. (5) اي: جمع اية أي معجزة.

الكريم (صلّى الله عليه وسلّم) إلا بشرا رسولا اصطفاه ربه من بينهم، فهو خيرهم ليهداهم إلى الخير وينشر على يديه نور الإسلام وعلى أيدي صحابته يعم الافاق ويبدد ظلمات الجهالة والكفر. ويقول: أكرم بخلق نبى زانه خلق ... بالحسن مشتمل بالبشر مبتسم «1» كالزهر في ترف والبدر في شرف ... والبحر في كرم والدهر في همم «2» كأنه، وهو فرد من جلالته ... في عسكر حين تلقاه وفي حشم «3» ليؤكد أن كل ما جاء به الأنبياء من معجزات سابقة كانت قبسا من نوره الموجود منذ الأزل، ولما أصبح النور محمدا وتجسد في كيانه عليه الصلاة والسلام زانه الله بالخلق العظيم. ويشبهه الشاعر بالزهرة في نعومتها والبدر في نوره والبحر في عطائه، ويصف جلال الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه حين تلقاه منفردا فإنك تخشع أمام هيبته وجلاله وتغض النظر مهابة، فهو وإن كان فردا من أفراد البشر إلا أنك تراه عظيما يحيط به عسكره وحشمه وحاشيته. وكذلك يقول: كأنما اللؤلؤ المكنون في صدف ... من معدنى منطلق منه ومبتسم لا طيب يعدل تربا ضم أعظمه ... طوبى لمنتشق منه وملتثم «4» ولعله هنا يستعير من الطبيعة ما يستعين به في تعبيره عن أفكاره، فهو يستعير من البحر جوهره الثمين ليصف بذلك محاسن الرسول الكريم عليه

_ (1) مشتمل: ملفوف أي أن الحسن حاطة من كل ناحية، مبتسم: معلم أي أن بشره وطلافقة وجهة من علاماته المميزة وقيل أن متسم متصف. (2) ترف: أي رقة وقيل أن الترف هو النعمة والمترف هو المنعم، شرف: علو. (3) جلالته: عظم قدره، حشم: خدم. (4) الطيب: كل ذي رائحة عطرة، يعدل: يساوي، طوبي: من الطيب قلبوا الياء وواوا لضمة ما قبلها والمراد منها الحسنى والسعادة والجنة. منشق: شام، ملتثم: مقبل، أي أن السعادة لمن يشمه ويقبله.

الصلاة والسلام فهو يشبهه بلؤلؤة داخل صدفتها يحيط به الجلال من ناحيتين: ناحية الدين والمنطق، وناحية البشاشة وحسن الاستقبال، ثم يواصل الشاعر مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد الممات فيقول أنه دفن في أكرم وأعطر تربة ضمت جسده الطاهر، فهذه التربة المباركة والتي تنبعث منها رائحة الطيب تفوق رائحتها كل العطور، وبالسعادة من يتنسمها ويشمها ويالهناءة من يقبل هذه التربة الطاهرة «1» . ومهد الإمام البوصيري لتقديم شخصية الرسول صلّى الله عليه وسلّم بذكر الصفات الحميدة الدالة على مكانة وعظمة الموصوف، فجمع بين الصبر والأمانة والوفاء والكرم والخلق والاستقامة والجمال والقوة والهيبة والجلالة والعلم والسيادة إلى الزهد والاقتناع والفضل والحلم والشرف قبل أن يقدم لنا شخصية الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ثم يقول الإمام البوصيري: ابان مولده عن طيب عنصره ... يا طيب مبتدأ منه ومختتم «2» يوم تفرس فيه الفرس أنهم ... قد انذروا بحلول البؤس والنقم «3» وبات ايوان كسرى وهو منصدع ... كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم «4» والنار خامدة الانفاس من أسف ... عليه والنهر ساهي العين من سدم «5» وساء ساوة أن غاضت بحيرتها ... ورد واردها بالغيظ حين ظمى «6» كأن بالنار ما بالماء من بلل ... حزنا وبالماء ما بالنار من ضرم «7»

_ (1) هذا شرع غير جائز ولكنه لحبه للرسول (صلّى الله عليه وسلّم) كتبها. (2) عنصره: أصله يعنى ما أطيب بدايته ونهايته. (3) تفرس: ترسم وتعرف بالظن الصائب، البؤس: العذاب والخوف. (4) الأيوان: بيت مستطيل، كسرى: ملك الفرس، منصدع: متشق، ملتئم: مجتمع. (5) ساهي العين: ساكنها، سدم: هم أو غيظ مع الأحزان. (6) ساوة: بلد من بلاد الفرس بين الرى وهمذان، غاضت: جف ماؤها وأردها: الاتى إليها ليستقي، ظمى: عطش. (7) ضرم: التهاب.

ثم يتناول ميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام ذاكرا أن المعجزات التي حدثت في هذا اليوم هي دلالات قاطعة على أنه مختار ومصطفى من السماء، ويذكر هذه المعجزات وأهمها ما حدث في فارس، فقد تصدع أيوان كسرى وخدمت نار المجوس، وجفت بحيرة ساوة مما أصاب الناس بالخوف والهلع لهذا الحدث العظيم، إنه مشهد درامى ينقله لنا الإمام البوصيري، فيه تفرقت جماعة كسرى، وجفت عيون الماء وأصيبوا بالظمأ، ووقع القوم في حيرة من أمرهم. ويطرح بعد ذلك صورة طريفة لنار المجوس وبحيرة ساوة، فقد بدت النار المطفأة كأنما أصابها وابل من البلل فخبت وكأن البحيرة قد أصابتها نار هائلة فتبخر ماؤها وجفت. ويقول: والجن تهتف والأنوار ساطعة ... والحق يظهر من معنى ومن كلم عموا وصموا فاعلان البشائر لم ... تسمع وبارقة الانذار لم تشم «1» من بعد ما أخبر الأقوام كاهنهم ... بأن دينهم المعوج لم يقم وبعد ما عاينوا في الأفق من شهب ... منقضة وفق ما في الأرض من صنم «2» والمراد حين علمت الجن بمولد الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم من خلال العلامات التي ظهرت، هتفت واستبشرت وقد سطعت أنوار السماء ابتهاجا باقتراب ظهور الحق على لسان الرسول القادم الذي سيظهر المعنى والكلمة لدين الحق من خلال القران الكريم، لكن الكافرين أصابهم العمى والصمم. وعلى الرغم من البشارة والمعجزات التي صاحبت مولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم فإن الكافرين أدعوا الغافلة فلم يسمعوا هذا النداء ولم يروا هذا النور لعلمهم أن فيه نهايتهم، وعلى الرغم من إخبار هؤلاء الكفار من قبل الكهان والرهبان بأن كل

_ (1) لم تشم: لم تر ولم تنظر. (2) وفق: أي الموافق أو المماثل والمقصود من هذه الكلمة الموافقة في سقوطها لسقوط الأصنام في الأرض.

النحل والملل والأديان التي سبقت ظهور هذا الرسول قد شجبت إلا أنهم أصروا على غيهم وظلوا في ضلالهم وجهلهم وعلى الرغم من علمهم بأن أديانهم بها أعوجاج إلا أنهم ظلوا على استكبارهم وتماديهم في الباطل. ويؤكد الإمام البوصيري جحودهم، فإنه يذكر أنهم ظلوا على غيهم على الرغم مما شاهده في الأفق من شهب تهوى من السماء منقضة كالصاعقة لتدمر أصنامهم وهياكلهم. ويستمر فيقول: حتى غدا عن طريق الوحى منهزم ... من الشياطين يقفو أثر منهزم كأنهم هربا أبطال أبرهة ... أو عسكر بالحصى من راحتيه رمى «1» نبذا به بعدد تسبيح ببطنهما ... نبذا لمسبح من أحشاء ملتقم «2» فيؤكد الإمام البوصيري أنه بمجرد نزول الوحي بدأت شياطين البشر وشياطين الجن في الانهزام الواحد أثر الاخر، فكلما حاولوا إيذاء الرسول وإيذاء من آمنوا به أنزل الله بهم الهزيمة فباتوا على كفرهم ملومين، وهذا هو أبو جهل (الحكم بن هشام) يحاول التحريض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيأمر القوم باختيار شاب قوي من كل قبيلة لقتل الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) ليلة الهجرة، ولكن الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم الذي ظل يسبح بحمد الله يؤمر بالخروج إليهم وإلقاء التراب براحتيه الكريمتين في وجوههم فيصيبهم العمى فلا يشعرون بخروجه ولا يتمكنون من قتله وإيذائه وهو هنا يشبه إنهزام الكافرين من شياطين الجن والأنس بأنهم كجيش أبرهة الذي

_ (1) أبرهة: كان ملكا لليمن من قبل نجاشي الحبشة قبل البعثة، أراد هدم الكعبة فأهلكة الله وجيشه بطير ألقت عليهم حجارة وقصته مذكورة في القران الكريم. (2) نبذا به: أي رميا به أي بالحصا، المسبح: المراد به يونس عليها السلام إذ قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فنبذه الحوت الذي كان قد التقمه من أحشائه، والمعنى أن معجزة محمد أو ايته هي نجاته- صلّى الله عليه وسلّم- من قومه إذ بيتوا قتله وذلك برميهم بالحصى بعد تسبيحها في راحتيه وحجب الله له عن أبصارهم لاية نجاة يونس عليه السلام بنبذ الحوت إياه عند تسبيحه في بطنه.

سلط الله عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، ويشبه الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم بأنه وهو في داره كأنه سيدنا يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت يسبح باسم الله حتى نبذه الحوت على شاطيء الأمان. ويقول كذلك: جاءت لدعوته الأشجار ساجدة ... تمشى إليه على ساق بلا قدم كأنما سطرت سطرا لما كتبت ... فروعها من بديع الخط في اللقم «1» مثل الغمامة أني سار سائرة ... تقيه حر وطيس للهجير حمى «2» اقسمت بالقمر المنشق أن له ... من قلبه نسمة مبرورة القسم «3» ويقطع الإمام البوصيري الشك ياليقين ليقول للجاحدين بالأمس. امن من كانوا على دين النصاري، فهذا الراهب بحيرا يرى غمامة تظلل النبي دون غيره، ثم تأكد من الطعام الذي قدمه له بأنه النبي الذي جاء يبحث عنه في هذه الصحراء، فيقول لأبي طالب: أرجع بابن أخيك فإن له شأنا، هذا الراهب وقع في قلبه الإيمان قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام. ويختار الإمام البوصيري إيمان الأعرابي أمام أدلة مادية، فعندما جاءه أعرابي وطلب منه إظهار نبوته أمر الأشجار أن تأتي إليه، ثم أمرها أن تعود كما كانت وبهذا الأمر خطت وسطرت الأشجار سطورا على الأرض. مؤكدة معجزة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فامن الإعرابي بعينه بما لم يؤمن به بقلبه.

_ (1) اللقم: وسط الطريق. (2) الوطيس: التنور أي المخبر والمراد به لازمه وهو الحرارة، الهجير هو المهاجرة وهي وسط النهار أيام القيظ. (3) وإنشقاق القمر اية ومعجزة من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام حينما سأله كفار مكة عن أية، فأراهم إنشقاق القمر فلقتين، كل فلق فوق جبل، فقال لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: اشهدوا، فقالوا: قد سحر محمد أعيننا فأبعثوا إلى أهل الأفاق لسؤالهم: هل رأوا مثل ما رأينا؟ فأخبر أهل الافاق أنهم رأوه منشقا، فقال الكفار: هذا سحر (البرده المباركة ص 152) .

ويشير الإمام البوصيري إلى فزع حليمه السعدية حينما أخبرها أبنها بما فعله الملكان بصدر النبي محمد عليه الصلاة والسلام وهما طفلان صغيران يمرحان فقط طرد خطر الشيطان منه. ويقول: وما حوى الغار من خير ومن كرم ... وكل طرف من الكفار عنه عمى فالصدق في الغار والصديق لم يرما ... وهم يقولون ما بالغار من إرم «1» ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خير البرية لم تنسج ولم تحم وقاية الله اغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عال من الأطم «2» في هذه الأبيات يحكى الإمام البوصيري قصة مطاردة الكفار لرسول صلّى الله عليه وسلّم وصديقه (أبى بكر الصديق) رضى الله عنه- وكيف أنهما بعد دخولهما الغار وبأمر من الله تعالى نسج العنكبوت نسيجا كثيفا، واستقرت الحمامة وباضت عند مدخل الغار مما جعل الكفار لا يبصرون من بداخله، ويتوهمون بأنه خال لم يدخله أحد منذ أمد بعيد، ويؤكد البوصيري أن هذه المعجزة هي وقاية من الله للصاحبين المهاجرين، وهي خير من أقوى الحصون وأشد الدروع. ونمضي مع البوصيري في قصيدته حتى نصل إلى أبياته التالية: ما سامنى الدهر ضيما واستجرت به ... الا ونلت جوارا لم يضم «3» ولا التمست غنى الدارين من يده ... الا استلمت الندى من خير مستلم «4» لا تنكر الوحى من رؤياه ان له ... قلبا اذا نامت العينان لم ينم «5» وذاك حين بلوغ من نبوته ... فليس ينكر فيه حال محتلم «6»

_ (1) لم يرما: لم يبرحا ولم يزولا عنه من رام المكان إذا زال عنه وفارقه. أرم: على وزن كتف العلم والاثر والمقصود من كلمة رام في البيت المقيم. (2) الأطم: بضم الهمزة والطاء بمعنى الحصن وجمعها اطام. (3) سامني: كلمنى وحملني، ضيما: ظلما وقهرا، جوارا: أمانا وعهدا بالحماية. (4) الندى: العطاء، مستلم: مكان الاستلام أي من خير مصدر للجود. (5) رؤياه: حلمه. (6) محتلم: الحالم الذي يرى الحلم في النوم فحلم النبي كما يقول وحي لا ينكد.

ويريد أن يقول: عندما استجير بالرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم من وقوع الضرر والظلم علىّ من الدهر، أجد الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم إلى جواري بروحه وحكمته وبسنته لينير لي الطريق ويرفع عني الظلم، فهو صاحب الفضل على كل من يحبه، وعند التماسي الغني في الدنيا أو في الاخرة تتأكد لي عظمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقد سلمني ما التمسته، ثم يؤكد أن رؤيا الرسول صلّى الله عليه وسلّم في المنام رؤيا حق ولا يستطيع الشيطان أن يظهر بصورته صلّى الله عليه وسلّم. وكذلك قوله: تبارك الله ما وحى بمكتسب ... ولا نبي على غيب بمهتم «1» كم أبرأت أوصايا باللمس راحته ... واطلقت اربا من ريقة اللمم «2» وأحيت السنة الشهباء دعوته ... حتى حكت غراة في الأعصر الدهم «3» بعارض جاد أو خلت البطاح بها ... سيب من اليم أو سيل من العرم «4» وفي ذلك يؤكد الإمام البوصيري أن الوحي لا يهبط على إنسان لعمل يقوم به أو بالنسب والحسب، وإنما هو قدر مقدر. ويظهر الشاعر قدرات الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم على ابراء المرضى وقضاء الحاجات ورفع الكرب عن المكروبين والمأزومين، وأن السنة الطاهرة البيضاء عم بياضها الناصع كل العصور التاريخية السابقة على الرسالة حيث انتشر الظلم والفساد، فقد كانت عصورا مظلمة سوداء، أصبحت بظهور السنة المحمدية وكأنما هي أرض مجدبة قد أرسل الله عليها سحبا ممطرة فغدت خضراء مزدهرة

_ (1) بمكتسب: أي لا ينال بعمل من الإنسان، بمتهم: يظنون به الكذب. (2) أبرأت: شفيت، وصبا: مريضا، أربا: المحتاج أو الكلف بالمعاصي، ريقه: القيد، اللمم: الخطايا، وقيل أن اللمم هو الجنون. (3) السنة الشهباء: المجدبة، غرة: بياضا، الدهم: جمع أدهم وهو الأسود. (4) بعارض: بسحاب ممطر، أو خلت: أي إلى أن خلت، البطاح: الأرض المنبسطة وقيل البطاح جمع أبطح وهو ميل الماء والمقصود من أو خلت: إلى أن توهمت. السيب: الجرى، اليم: البحر، العرم: الوادي وقيل أن سيل المطر الشديد فإذا أضيفت للعرم كان معنى سيل العرم.

صالحة للحياة والأمن والاستقرار، وأن سنته المكرمة باقية أبد الدهر، فإنها نتاج دعوته للعالمين، وقد أضاءت حياتهم وأخذت بأيديهم إلى نور المعرفة وسماحة الإيمان. ويقول: دعنى ووصفى ايات له ظهرت ... ظهور نار القرى ليلا على علم فالدر يزداد حسنا وهو منتظم ... وليس ينقص قدرا غير منتظم فما تطاول امال المديح إلى ... ما فيه من كرم الاخلاق والشيم «1» ايات حق من الرحمن محدثة ... قديمة صفة الموصوف بالقدم «2» فيتبين أن القران الكريم عندما نزلت آياته هدى للناس ورحمة كانت ظاهرة وواضحة جلية ولا مجال لانكارها تماما كالنار التي يشاهدها الساري ليلا. والقران الكريم في مجمله دستور منظم للحياة الإنسانية وللبشرية، ويحوي الكثير من القيم والمباديء السامية التي تهدف إلى إصلاح الأمم وكل اية من آياته تعتبر معجزة تفوق إدراك الإنسان، وهذه الايات نظمت بوحي من الله فأصبحت كالعقد المنتظم الذي يزين صدور المؤمنين. فيؤكد الإمام البوصيري أن ايات القران الكريم عندما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت نورا يهدي التائهين في الحياة وللحياري في دروب الكفر وحانات العصيان مثلها كالنار التي كان يوقدها كرام العرب على قمم الجبال ليهتدي بها كل ضال في متاهات الصحراء، وخلاصة القول أن الإمام البوصيري يقول: إن دعوة محمد عليه الصلاة والسلام كانت كالنور يضيء الحياة بعد الظلام ويأخذ بأيدي التائهين إلى بر الأمان وأن المرء ليقف أمامه عاجزا عن مدحه لما فيه من حكم وبيان وهدى للنفس فتسمو به إلى أعلى مرتبة من مراتب الإيمان وأن ايات

_ (1) فما تطاول: فما امتداد أي كيف يمتد بالمادح أمله إلى وصف اي القران وما فيها من الحكم الرائعة وأصل جملة تطاول إلى كذا أي طلب الوصول إليه. (2) محدثة: أنزلها الله حديثا.

القران الكريم قديمة لأنها من كلام الله عز وجل وكانت مدونة في اللوح المحفوظ ثم نزلت متفرقة على النبي عليه الصلاة والسلام ليرشد الناس إلى حقيقة الإيمان بالله عز وجل. ويقول الشاعر الإمام: لم تقترن بزمان وهى تخبرنا ... عن المعاد وعن عاد وعن ارم «1» دامت لدينا ففاقت كل معجزة ... من النبيين إذ جاءت ولم تدم محكمات فما تبقين من شبه ... لذى شقاق وما تبغين من حكم «2» ما حوربت قط الا عاد من حرب ... اعدى الاعادى اليها ملقى السلم «3» ردت بلاغتها دعوى معرضها ... رد الغيور يد الجاني عن الحرم «4» فحينما حدثنا القران عن عاد وثمود وارم ذات العماد كان يطوف بنا في دهاليز التاريخ القديم ويقص علينا أحسن القصص ويثبت لنا أنه ايات حق من الرحمن وحجة لنبيه على المنكرين، وأن هذا القران لم يقترن بزمن محدد، وإنما هو شامل لكل عصر ووقت ومعجزة القرون وستظل باقية حتى قيام الساعة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) . ألم ييأس الذين كفروا من التحدي لهذه المعجزة والإرادة النافذة؟ هل نسوا أنهم كسائر الخلق لا يصمدون للتحدي ولا يقدرون عليه؟ ألم يفكروا بأن كلام الله وكتابه ووحيه إلى نبيه أشرف الرسل وخاتمهم؟ مادام الأمر كذلك فهذا الكتاب لم ينزل ليحدث العرب عما في زمن النبي فحسب وإلا كان محمد صلّى الله عليه وسلّم قد أرسل لأهل الجزيرة فقط كغيره من الأنبياء وإنما هو قد أرسل للناس كافة ولن يأتي رسول بعده فهو وهذا الكتاب اخر تعليمات من

_ (1) ارم: هو والد عاد الأولى أو الأخيرة. (2) محكمات: أي يحتكم إليها في المنازعات وذلك بنص القران، بتغين: تطلبين. الحكم: القاضى. (3) الحرب: بفتح الراء اشتداد الغضب. (4) معارضها: الذي يحاول الاتيان بمثلها، الحرم: بضم الحاء والراء معناه هنا ما يحميه الرجل ويقاتل دون جمع حريم وهو أهل الرجل أي زوجته وأولاده.

الله إلى البشر ومن امن به وبالكتاب نجا وظفر ومن لم يؤمن كبا وكفر وخسر. ويقول: لها معان كموج البحر في مدد ... وفوق جوهره في الحسن والقيم «1» فما تعد ولا تحصى عجائبها ... ولا تسام على الإكثار بالسأم «2» قرت بها عين قاريها فقلت له ... لقد ظفرت بحبل الله فاعتصم «3» ان تتلها خيفة من حرنا ولظى ... اطفأت نار لظى من وردها الشبم «4» كأنها الحوض تبيض الوجوه به ... من العصاة وقد جاؤه كالحمم «5» فيوضح الإمام البوصيري أن معاني هذا القران كالبحر الواسع الذي لا تستطيع إدراكه حيث أن هذا القران كثير العطاء لا ينتهي مدده، وأن هذه الايات بها من العجائب والحكم والمواعظ ما لا يخضع لعد أو حصر ولا يسأم المؤمن من كثرة تلاوتها، فالمؤمن الذي يقرأ هذه الايات يجد المتعة النفسية في ظلالها والقران الكريم نور الله في أرضه ومن أعتاد تلاوته وقراءته شعر بالصفاء النفسي والوجداني، وهذه هي قمة السعادة الروحية التي يحرص المؤمن على التمسك بها لأن تلاوة القران تقي المؤمن نار جهنم، ويؤكد الإمام البوصيري أن الإنسان العاصي مهما عمل من ذنوب وتمسك بعد ذلك بالقران وتلاوته وبحفظه وتفسيره وتطهر به وسار عليه فإنه يتطهر من هذه الذنوب وينير قلبه ووجهه. ويقول الشاعر الإمام: وكالصراط وكالميزان معدله ... فالقسط من غيرها في الناس لم يقم «6» لا تعجبن لحسود راح ينكرها ... تجاهلا وهو عين الحاذق الفهم «7»

_ (1) المدد: من البحر أو الموج، ارتفاعه وامتداده إلى البر. (2) لا تسام بالسام: يعني لا تقابل بالمل إذا اكتثرت تلاوتها أي يوليها السامع الضجر والملل. (3) قرت: برزت سرورا وانقطع بكاؤها، حبل الله: كتابه الذي فيه دينه، فاعتصم: فاحتم به. (4) لظى: اسم لجهنم، البم: البارد. (5) الحمم: جمع حمة وهي الفحم وكل ما احترق من النار. (6) معدله: استواء واستقامة. (7) الحاذق: الماهر العارف.

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم أن ايات القران الكريم وهو دستور سماوي يحقق العدل في الدنيا، ومن لم يحكم به فلا يعدل أبدا، فالعدل من غير القران لا يقوم، وإن هذا القران الكريم مهما أنكره الجاهلون فهم يؤمنون بصدق وحق بما جاء به في قرارة نفوسهم، ولكن مصالحهم الدنيوية تجعلهم يحقدون على هذه الايات وينكرون حقيقتها، ولكن لا مجال للإنكار، فلا أحد يستطيع إنكار حقيقة القران ومعجزاته وآياته حتى الأعمى الذي لا يرى الأشياء المحسوسة فإنه يرى نور هذه الايات، وترشده عن طريق العقل والقلب، ومن لم يرها فهو ليس بأعمى، ولكنه جاحد لحقيقة هذه المعجزة الإلهية. ويقول مخاطبا رسول الله مادحا: يا خير من يمم العافون ساحته ... سعيا وفوق متون الأنيق الرسم «1» ومن هو الاية الكبرى لمعتبر ... ومن هو النعمة العظمى لمغتنم «2» سريت من حرم ليلا إلى حرم ... كما سرى الدر في داج من الظلم «3» وبت ترقى إلى أن نلت منزلة ... من قاب توسين لم تدرك ولم ترم وقدمتك جميع الأنبياء بها ... والرسل تقديم مخدوم على خدم وأنت تخترق السبع الطباق بهم ... في موكب كنت فيه صاحب العلم «4» حتى إذا لم تدع شأوا لمستبق ... من الدنو ولا مرقى لمنتسم «5» خفضت كل مقام بالإضافة إذ ... نوديت بالرفع مثل المفرد العلم

_ (1) يمم: قصد، العافون: طلاب الفضل والرزق، ساحته: ناحيته، متون: جمع متن وهو الظهر، الأنيق: جمع ناقة وفي هذا الجمع قلب مكاني إذا أصلها أنيق فلما حدث فيها القلب صارت الأنيق، الرسم بضم الراء مشدودة والسين: جمع رسوم بفتح الراء وهي التي تؤثر إخفاقا في الأرض من شدة الوطء أو أن الرسم التي ترسم أي تعملها. (2) لم ترم: لم يرمها أحد لعزتها عليه، وقاب قوسين: أي مقدار القوس أي مسافة البعد بين طرفيه. (3) سريت: سرت ليلا، الحرم: المكان الذي لا يحل انتهاكه، والحرمات في البيت هما الحرم المكي وحرم المسجد الأقصى. (4) الطباق: المطابقة. (5) شأوا: غاية، المستبق: المسابق المباري، مرقى: مصدر ميمى بمعنى الرقي مكانا للرقي.

فها هو البوصيري يمدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو خير إنسان ظهر على وجه الأرض، وخير إنسان سعى إليه الناس مشيا على الأقدام أو ركوبا على ظهور النياق. ثم يتحدث عن معجزة أخرى من معجزات الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد القران فيتعرض لذكر الإسراء والمعراج، وتدور أبيات القصيدة حول ليلة الإسراء والمعراج وكيف بدأت رحلته من مكة إلى المسجد الأقصى، ومن المسجد الأقصى إلى السموات العلا ثم الوصول إلى سدرة المنتهى، ولقاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم بربه وفرض الصلوات الخمس عليه وعلى أمته ثم العودة إلى مكة والتحدث بما رأى خلال هذه الرحلة التي لم تستغرق سوى ليلة واحدة مع ما قدم من وصف دقيق وصحيح في وضوح وتفصيل أذهل عقول المشركين وحير أفكارهم، والمقصود بالتفصيل أنه بين عظمة هذه المعجزة وهي نعمة نالها الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم ولم ينلها قبله بشر ولن ينالها من بعده إنسان، فقد اسرى به من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس في فلسطين وكأنه في عصرنا هذا يركب طائرة أو صاروخا أسرع من الصوت ثم يعرج به إلى السموات العلا حيث لم يحدث هذا من قبل لأي إنسان حتى في الأساطير، وليس هذا فقط وإنما يصعد إلى سدرة المنتهى، ويكون أقرب إلى العرش العظيم، وهي غاية لم يدركها ولن تخطر على قلب بشر، ويصور رحلة الرسول عليه الصلاة والسلام تصويرا صوفيا تجلى من خلاله وجده وشوقه فيقول: بأن جميع الأنبياء والرسل بكافة طبقاتهم قد قدموك يا رسول الله عليهم وأنت تقودهم مخترقا السموات السبع قائدا لهم في موكب لا يمكن وصفه حتى إذا وصل كل نبي عند موضع رتبته وصلت أنت إلى مكانة لم يدع إليها سابق لك ولن يدعى إليها لا حق بك حتى إنك وأنت على رأسهم أصبحت المفرد العلم.

ويقول البوصيري: كيما تفوز بوصل أي مستتر ... عن العيون وسر أي مكتتم «1» فحزت كل فخار غير مشترك ... وحزت كل مقام غير مزدحم «2» وجل مقدار ما وليت من رتب ... وعز إدراك ما أوليت من نعم «3» بشرى لنا معشر الإسلام أن لنا ... من العناية وكنا غير منهدم «4» لما دعا الله داعينا لطاعته ... بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم «5» ليؤكد أن ما حدث، حدث بأمر من الله كي يميز الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن كافة الأنبياء والرسل بميزة الصلة والقرب من الذات الالهية وبهذا فقد وصل النبي الكريم إلى أعلى مرتبة من مراتب الفخر، وتعدي كل مقام بلا مزاحمة من أحد فما أكثر ما أعطاك الله يا محمد من نعم تفوق الخيال والحصر، وكل ما سبق يؤكد لنا نحن المسلمين بأن الله قد أعطانا البشرى والخير والفرحة فكنا خير أمة أخرجت للناس، فنحن أكرم الأمم لأننا نتبع أكرم الرسل، إنه الرسول العظيم الكريم المكرم الذي حاز كل فضل وكل فخر، فطوبي لأمة الإسلام، وطوبي للتابعين، فإنا معشر المسلمين لنا من عناية الله حصانة وحجابة. ثم يمضي الشاعر الإمام البوصيري فيصف جهاد النبي صلّى الله عليه وسلّم فيقول: راعت قلوب العدا أنباء بعثته ... كنبأة أجفلت غفلا من الغنم مازال يلقاهم في كل معترك ... حتى حكوا بالقنا لحما على وضم ودوا الفرار فكادوا يغتبطون به ... اشلاء شالت مع العقبان والرخم تمضى الليالى ولا يدرون عدتها ... ما لم تكن من ليالى الأشهر الحرم

_ (1) غير مزدحم: لا يزاحمك فيه أحد. (2) أوليت: أعطيت ومنحت. (3) كنبأة: كصوت، أجفلت: شردت، غفلا: مهلة. (4) معترك: ميدان قتال، حكوا: اشبهوا، بالقنا: بالرماح أي بطعنها، الوضم: قطعة الخشب التي يقطع القصاب أي الجزار عليها اللحم. (5) يغطبون: يتمنون مثل حال غيرهم، اشلاء: جمع شلو وهو العضو من الجثة. شالت: ارتفعت، العقبان: جمع عقاب وهو طائر من الجوارح، الرخم: جمع رخمة وهي طائر أبقع يشبه النسر.

فقد فزعت قلوب المشركين والكفار وغيرهم بنبأ ظهور البعثة المحمدية وشبه الإمام البوصيري هؤلاء المشركين والكفار بقطعان من الغنم تفرقت خوفا وفزعا من ذلك النبأ الغريب على اذانهم والموقظ لجاهليتهم فوقفوا ضد هذا النبأ محاربين له مقاومين لكلمته، ولكن الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم صاحب هذا النبأ لم يتركهم وإنما حاربهم بالكلمة والسيف والرمح ولم يتركهم حتى أنهم ودوا الفرار من أمامه من شدة وطأة هذه الحرب، ويشبه فلولهم كأنها جثث ممزقة هامت عليها العقبان وجوارح الطير وكتب عليهم الضياع والقلق والاستعداد الدائم للحرب وانهم لا يدرون من أيامهم إلا أيام الأشهر الحرم التي اتفق العرب على عدم حمل السلاح والقتال فيها ولا يدرون عدتها. ثم يقول: كأنما الدين ضيف حل ساحتهم ... بكل قرم إلى لحم العدا قرم «1» يجر بحر خميس فوق سابحة ... يرمى بموج من الأبطال ملتطم «2» من كل منتدب لله محتسب ... يسطو بمستأصل للكفر مصطلم «3» حتى غدت ملة الإسلام وهي بهم ... من بعد غربتها موصولة الرحم «4» فقد اجتمع جند المسلمين وزجوا بأنفسهم للدفاع عن هذا الدين مجيبين لدعوة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم راجين أن ينالوا ثواب الدنيا والاخرة، إما النصر أو الشهادة، فكلاهما له أجر، يصولون ويجولون في المعركة بخطة عسكرية محكمة، ويدافعون بثبات عن هذه الدعوة، ويقطعون دابر الكفر من جذوره لكي يبنوا بعد ذلك دولة إسلامية تتخذ كتاب الله وسنة نبيه دستورها، لا فرق

_ (1) القرم: بفتح القاف وسكون الراء بمعنى السيد أو الشجاع والقرم بفتح القاف وكسر الراء بمعنى المشتهى وقيل هي شدة الشهوة إلى اللحم. (2) خميس: جيش، وبحر خميس يعني جيس كالبحر في تموجه وزخرته، سابحة، النيل: العائمة. (3) منتدب: مجيب، محتسب: مدخر أجر عمله، يسطو، يصول ويثب، بمستأصل: يعني بسيف قاطع للأصل أي مبيد، مصطلم: قاطع للشيء من أصله. (4) الرحم: القرابة.

بين أفرادها في الحق والواجب، فقد ظهرت دولة المسلمين بعد أن كانت غريبة لا أثر لها. ويقول الشاعر الإمام: مكفولة أبدا منهم بخير أب ... وخير بعل فلم تيتم ولم تئم «1» هم الجبال فسل عنهم مصادمهم ... ماذا رأى منهم في كل مصطدم «2» وسل حنينا وسل بدرا وسل أحدا ... فصول حتف لهم أدهى من الوخم «3» المصدرى البيض حمرا بعد ما وردت ... من العدا كل مسود من اللمم «4» ويستطرد الإمام البوصيري فيقول: إن المسلمين يحرصون على الحفاظ على هذا الدين الجديد، كما يصونون المحارم، ويراعون مصلحة أبناء الشهداء كأبنائهم ويدافعون عن هذه الدعوة الإسلامية في كل زمان ومكان، وأن هؤلاء الرجال في دفاعهم عن الدعوه الإسلامية كالجبال التي تصد الرياح العاتية التي تمنع الجيوش المهاجمة ضد هذه الدعوة والدليل على ذلك ما أظهره المسلمون من بلاء حسن ضد المشركين في موقعة حنين وبدر وأحد، ويستدل على هذا برسم صورة لسيوف المسلمين وهي تنهش أجساد الأعداء بحيث أصبحت هذه السيوف حمرا بدمائهم. ويقول: والكاتبين بسمر الخط ما تركت ... أقلامهم حرف جسم غير منعجم «5»

_ (1) لم تيتم: لم تصر يتيمة، لم تئم: لم تصر إيما أي فاقدة بعلمها أو صلى تئم من التايم وهي فقدان الزوج. (2) مصطدم: مكان الاصطدام أي ملتقى الجيش. (3) حنين وبدر وأحد: أسماء أماكن وقعت فيها بين المسلمين والمشركين وقائع مشهورة، فصول: قطع من الأخبار، حتف: هلاك، أدهى: أشد بلاء، الوخم: داء كالباسور وقيل الوخم: الوباء. (4) البيض: السيوف، إصدارها: جذبها من أجساد الأعداء، العدا: الأعداء. (5) الخط: من معاينة مرفأ السفن وكانت تباع فيه الرماح وسميت لذلك الرماح الخطية والمراد بسمر الخط الرماح السمراء، حرف الجسم: طرفه وأي ناحية فيه، منعجم: منقوط الدم وقوله ما تركت أقلامهم حرف جسم غير منعجم: أي لم تترك أسنة رماحهم طرف جسم من أجسام الكفار غير نوال عجمته.

شاكى السلاح لهم سيما تميزهم ... والورد يمتاز بالسيما من السلم «1» تهدى إليك رياح النصر نشرهم ... فتحسب الزهر في الاكمام كل كمى «2» كأنهم في ظهور الخيل نبئت ربا ... من شدة الحزم لا من شدة الحزم «3» طارت قلوب العدا من بأسهم فرقا ... فما تفرق بين البهم والبهم «4» فيستطرد الإمام البوصيري ليصف فرسان المسلمين بأن رماحهم كانت تصل إلى أجسام الأعداء ولا تترك لهم جزا إلا وبه طعنة رمح أو ضربة سيف، وهذه الأسلحة التي كانت عند المسلمين تمتاز بقوة فتكها وإن الرياح كانت تنقل أخبار نصرهم وتحمل معها رائحة عطرة ندرك من خلالها حلاوة النصر. ويشبه المسلمين في حزمهم وثباتهم وثقتهم بأنفسهم وهم على ظهور خيلهم كأنهم نبات ضارب بقوة في أرض قوية، وهذا النبات مرده إلى الثقة بالنفس والعقيدة التى اندفعوا للدفاع عنها وليس مردة قوة ربط الحزام وإمساكهم اللجام وعند لقائهم بالأعداء انخلعت قلوب هؤلاء الأعداء من شدة بأسهم وتفرقوا في كل مكان يستوى في ذلك منهم الجبان والشجاع كالماشية حينما تجفل من الخوف. ثم يقول الشاعر الإمام: - ومن تكن برسول الله نصرته ... ان تلقه الأسد في اجامها تجم «5» ولن ترى من ولى غير منتصر ... به ولا من عدو غير منقصم «6»

_ (6) شاكو السلاح: ذو وشوكة واحدة في أسلحتهم، سيما: علامة، السلم: شجر له شوك يشبه شجر الورد وقيل شجر يدبغ به، تميزهم: تعينهم عن غيرهم لهم سيما تميزهم، لهم علامة تميزهم عن غيرهم. (1) نشرهم: رائحتهم، الأكمام: جمع كم بكسر الكاف: وهو غطاء الزهر، الكي: الشجاع ولا بس الة القتال. (2) ربا: جمع ربوة وهي الأرض المرتفعة، الحزم: بفتح الحاء وسكون الزاي ضبط الأمر والأخذ فيه بالثقة، الحزم: بضم الحاء والزاي: جمع حزام وهو ما يشد بمسرج الفرس أو ما يشد به الوسط. (3) بأسهم: شددتهم، فرقا: خوفا، البهم: بفتح الباء وسكون الهاء وهي السخلة البهم بضم الباء وفتح الهاء جمع بهمة وهو الشجاع الذي يستبهم مأثاة على أقرانه أي تخفي عليهم مقاتله. (4) اجامها: غياباتها، تجم: تسكت غما وكمدا. (5) منقصم: منكسر.

احل امته في حرز ملته ... كالليث حل مع الأشبال في أجم «1» كم جدلت كلمات الله من جدل ... فيه وكم خصم البرهان من خصم «2» كفاك بالعلم في الأمى معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم ثم يقول الإمام البوصيري: من يستنصر بالله ورسوله لا يقف في طريقه أحد حتى الأسود في عرينها لا تتحرك لمواجهته، ولن نجد أحد منصورا إلا إذا كان مستمدا نصره من رسول الله، ولن نجد عدوا له منكسرا مهزوما، فالرسول يحمي أمته في حصنه المنيع ألا وهو الإسلام، كالأسد يحمي أشباله في غابته، وكثيرا ما جاء المنافقون والمجادلون بالبراهين والأدلة على أنهم على حق، ولكن كلمة الله هي العليا نصرة لرسوله والإسلام، فكانت براهينهم وأدلتهم كالهباء المنثور، ومجادلتهم كانت عظيمة، وتكفيهم معجزتك يا رسول الله إنك أمي لا تعرف القراءة والكتابة، ولكنك كنت عالما بما أوحى الله إليك، ومع إنك يتيم فقد شهد لك الجميع بأدبك وحميد أخلاقك ولا غرو فقد رباك الله على عينه فأحسن تربيتك. ثم يتوسل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فيقول: خدمته بمديح استقبل به ... ذنوب عمر مضى في الشعر والخدم «3» إذ قلدانى ما تخشى عواقبه ... كأننى بها هدى من النعم «4» اطعمت في الصبا في الحالتين وما ... حصلت الا على الاثام والندم «5»

_ (1) حرز: حصن، الليث: الأسد، الأشبال: جمع شبل وهو ولد الأسد، أجم: جمع أجمه وهي الغابة. (2) جدل: صراع الجدالة: الأرض، جدلت: رمت في الأرض، جدل: بكسر الدال هو كثير الجدل وبفتح الدال الخصام والخصام بفتح الصاد غلب في الخصام، خصم بكسر الصاد مخاصم أو شديد الخصومة. (3) استقيل: أطلب الإقالة أي العفو، الخدم: جمع خدمة وهي المهنة والعمل للناس. (4) قلداني: فرضاني والمراد هنا الزماني، النعم: الإبل والشاء، الهدى: ما يهدي به إلى الحرم من النعم ليذبح. (5) غي: ضلال، الصبا: الشباب، الإثام: الذنوب.

فياخسارة نفس في تجارتها ... لم تشتر الدين بالدنيا ولم تسم «1» ومن يبع اجلا منه بعاجله ... يبن له الغبن في بيع وفي سلم «2» فيوضح الإمام البوصيري أن مدحه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس إلا محاولة لطلب الشفاعة منه عن ذنوب ارتكبها في أيامه الماضية سواء في شعره أو في عمله الدنيوى لقد أوردنه الشعر والعمل مورد التهلكة، وساقاه إلى ما تخشى عواقبه كأنه هدى يساق ليذبح ويقول، وبالشعر والعمل السيء ما جنيت إلا الذنوب والندم، فيتوجع ويبكي بما قدم في أيامه السابقة إذ فضل الدنيا على الدين وكانت هذه هي الخسارة الكبرى. ويصل البوصيري إلى الخلاصة الحكيمة التي انتهى إليها فكره ووجدانه وهي أن من يبيع اخرته بملذات دنياه فهو الخاسر في الدنيا والاخرة. إذ يقول: ان ات ذنبا فما عهدى بمنتقض ... من النبي ولا حبلى بمنصرم «3» فإن لى ذمة منه بتسميتى ... محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم «4» ان لم يكن في معادى اخذا بيدى ... فضلا والا فقل يازلة القدم «5» حاشاه أن يحرم الراجى مكارمه ... أو يرجى الجار منه غير محترم «6» فيتوجه البوصيري مخاطبا الرسول صلّى الله عليه وسلّم معتذرا متوسلا به فيقول: إن كنت قد اذنبت فما ذلك من كفر أو نكث عهد أو جحود أو قطع لأسباب الوصال لأن

_ (1) سم البائع السلعة: عرضها للبيع، وسامها المشترى: طلبها للشراء. (2) الغبن: الخديعة في البيع والشراء، السلم: نوع من البيع يؤجل فيه تسليم المبيع أو هو البيع المؤجل الدفع. (3) بمنتقض: بمنكوث أي محلول، منصرم: منقطع. (4) ذمة: عهدا والذمم العهود. (5) في معادي: العودة إلى دار الجزاء يوم القيامة، الأخذ باليد: الخلاص من الشدة، فضلا: تبرعا، تطوعا. الزلة: العثرة والسقطة وزلة القدم هي الوقوع في الشدة وتعذر الخلاص منها. (6) حاشاه: إنزه (صلّى الله عليه وسلّم) ، يحرم: يمنع، الراجي: من الرجاء أي الأمل في الحصول على الشيء، المكارم: جمع مكرمة وهي الفضل والخير والمراد هنا الشفاعة، الجار: المستجير.

لي به انتسابا، إن اسمي محمد فأنا على العهد بإيماني وبأسمي، والرسول أو فى الخلق بالعهود، فإذا لم يأخذ بيدي رسول الله ولم يكن شفيعى في اخرتى بفضله وكرمه أكون من الخاسرين. ثم يقول الشاعر الإمام: ومنذ الزمت أفكارى مدائحه ... وجدته لخلاصى خير ملتزم «1» ولن يفوت الغنى منه يد تربت ... ان الحيا ينبت كالأزهار في الأكم «2» ولم ارد زهرة الدنيا التي اقتطفت ... يدا زهير بما اثنى على هرم «3» ويريد منذ أن تحرك عشقى لرسول الله ومنذ أن هز وجداني حب الرسول ومنذ أن هامت روحى حول رحابه وتعلق قلبي به وبالملة السمحاء تحرك يراعي فأوقفت شعرى على مدحه والقيت عليه أحمال ذنوبي ورجوته للشفاعة، ووجدت فيه المتكفل بخلاصي من هذه الاثام والذنوب وبخلاصي من نفسي الاثمة- عندما فعلت ذلك هاجرا حياة الصبا وشطحات النفس ووسوسة الشيطان ووجدت من سنته خير شفيع وناصح، وعافت النفس عرض الدنيا ورجوت ثواب الاخرة، لا كما فعل اخرون مثل زهير بن أبي سلمى عندما مدح هرم بن سنان. ويقول مناجيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أكرم الخلق مالى من الوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم «4» ولن يضيق رسول الله جاهك بى ... إذا الكريم تجلى باسم منتقم «5»

_ (1) ملتزم: متكفل، مدائح: جمع مديح وهو الثناء الحسن. (2) تربت اليد: اشتد فقرتها وكأنها ألتصقت بالتراب، الحيا: المطر، الأكم: جمع أكمه وهي الربوة أي المرتفع من الأرض. (3) زهير: هو زهير بن أبي سلمى الشاعر المعروف، أثنى: من الثناء وهو المدح أي مدح. (4) الوذ به: احتمى به والجأ إليه، حلول: وقوع وحدوث، الحادث العمم: الهول الشامل، يقصد يوم القيامة، لأن العمم هو العام الشامل للجميع. (5) الكريم: المتجاوز عن الذنوب وهو المولى عز وجل، تحلي: أتصف، المنتقم: المعاقب.

فان من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم «1» فيناجي البوصيري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويعدّ مناقبه، إنه أكرم خلق الله عند الله، لقد اختصه بشفاعته يوم القيامة دون الأنبياء فيكون ملاذا لجميع المؤمنين والاملين في شفاعته يوم الحساب فالرسول صلّى الله عليه وسلّم لن يضيق بي يوم القيامة حين استنجد بشفاعته لذنوب ارتكبتها في الدنيا عندما يحاسب الله عباده يوم العرض عليه، ومن كرم الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه يشمل المؤمنين برعايته وشفاعته ففي الدنيا كل خير وإصلاح وسنته الشريفه خير سبيل، وفي الاخرة هو الشفيع للمؤمنين فهو واحده الذي يعلم علم اللوح والقلم بما أنزله الله سبحانه وتعالى من قران هدى به البشر والأمم. ثم يقول: يا نفس لا تقنطى من زلة عظمت ... ان الكبائر في الغفران كاللمم «2» لعل رحمة ربى حين يقسمها ... تأتى على حسب العصيان في القسم «3» يا رب واجعل رجائى غير منعكس ... لديك واجعل حسابى غير منخرم «4» والطف بعبدك في الدارين ان له ... صبرا متى تدعه الأهوال ينهزم «5» فيؤمل الإمام البوصيري نفسه مخاطبا إياها ألا تيأس من كثرة الذنوب التي ارتكبها لأن الله سبحانه وتعالى يقبل توبة العبد التائب مهما عظمت ذنوبه وأن هذه الذنوب لا تعظم على الله في غفرانه وأن الله سبحانه وتعالى يشمل من يشاء برحمته.

_ (1) الجود: الكرم، الدنيا: خير الدنيا والمقصود نعمة الإسلام، ضرتها: معناها في أصل اللغة عدوتها والمقصود هنا الاخرة وخيرها بنعيم الجنة أو تكرم رسوا الله صلّى الله عليه وسلّم علينا بالشفاعة يوم القيامة وكل هذا من فضله وكرمه. (2) القنوط: اليأس، الزله: الذنب الكبير، عظمت: كبرت، الكبائر: جمع كبيرة الذنوب العظيمة، الغفران: المغفرة، اللمم: الذنوب الصغيرة. (3) حسب: بفتح الاسين مقدار، القسم: بكسر القاف وفتح السين جمع قسمة وهي ما يقسمه الله تعالى لخلقه أي يعطيهم نصيبهم. (4) الرجاء: الأمل، منعكس: مقلوب وراجع ومخالف للظن، لديك: عندك، حسابي: المراد هنا الاعتقاد، منخرم: منقوض، منقطع. (5) الطف: أرفق، الدارين: الدنيا والاخرة، الهول: الأمر الكبير المشقة، الانهزام: الهرب.

ويدعو الله ألايرد عليه رجاءه وأمله وأن يجعل حسابه غير منقوص من الرحمة وأن يشمله بلطفه عند المحن لأن صبره لا يقوى على مجابهة الشدائد. ويقول الشاعر الإمام: - وأذن لسحب صلاة منك دائمة ... على النبي بمنهل ومنسجم «1» ما رنحت عذابات البان ريح صبا ... وأطرب العيس حادى العيس بالغنم «2» ويرجو الإمام البوصيري من الله عز وجل أن يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاة دائمة مستمرة كالمطر رقيقة ومنسجمة وكأن هذه الصلوات الطيبات التي يرسلها الله على النبي رقيقة كرقة غصن البان أو كأنغام صوت حادي الإبل يردد أنغامه لتطرب به الإبل وتستمر في مسيرتها حيث المقصد. وقد ورد بيتان ذكر بعض الشراح بأنهما تذييل للقصيدة يقول فيها الشاعر: ثم الرضا عن أبى بكر وعن عمر ... وعن على وعن عثمان ذى الكرم «3» والال والصحب ثم التبابعين فهم ... أهل التقى والنقى والحلم والكرم «4» كما وردت عدة أبيات أخرى نسبت إلى الإمام البوصيري وإلى البردة ذكرت في بعض الكتاب ولم تذكر في بعض الاخر، وقد أورد المحقق والناقد فتحي عثمان في طبعة دار المعرفة لعام 1973 م أن هذه الابيات وردت خارج البردة، وهذه الابيات تضم مديحا ودعاء لأصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعن الخلفاء الراشدين.

_ (1) إذن: بمعنى الإباحة والسماح، سحب: جمع سحاب وهو الغيم والمقصود هنا الكثرة. (2) رنحت: أمالت وهزت، هذبات: جمع عذبه وهي الغصن، البان: نوع من الشجر لطيف الأغصان طيب الرائحة، الصبا: الريح الشرقية، الأطراب: أحداث الطرب أي السرور العيس: جمع الأعيس للذكر وعيساء للأنثى وهي كرائم الإبل التي تتميز باللون الأبيض الذي يخالطة شقرة أو ظلمة، الحداء: بضم الحاء هو الغناء، حادي العيس: قائدها الذي يسوقها ويغني لها لتسير في نشاط، النغم: جمع نغمه وهي التطريب في الغناء. (3) الرضا: في أصل اللغة الاختيار وأيضا عكس الاسخط وهو الغضب. (4) الال: أهل بيت النبوة رضوان الله عليهم، الصحب: الصحابة، التقى: خشية الله تعالى النقي: النقاء الخلو من العيوب والخلو من الخطايا، الحلم: سعة الخلق ضد الغضب.

فيقول: يا رب بالمصطفى بلغ مقاصدنا ... واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم «1» واغفر الهى لكل المسلمين بما ... يتلوه في المسجد الأقصى وفي الحرم «2» بجاه من بيته في طيبة حرم ... واسمه قسم من أعظم القسم «3» وهذه بردة المختار قد ختمت ... والحمد لله في بدء وفي ختم «4» أبياتها قد أتت ستين مع مائة ... فرج بها كربنا يا واسع الكرم «5» وإني أرى أن هذه الأبيات قالها الأمام البوصيرى ليؤكد أن البردة تضم مائة وستين بيتا وهذه الأبيات الخمسة تعتبر خاتمة وتذييلا ليحدد به عدد أبيات البرده من ناحية ولتكون هذه الأبيات الخمسة السهلة في البنى والمعنى تتمة لدعاء المسلمين.

_ (1) بلغ: من البلاغ أي الوصول، مقاصدنا: أهدافنا ومرادن، أغفر: أصل الغفر هو الستر أي أستر وأصفح. (2) المسجد الأقصى: بيت المقدس، الحرم: الكعبة المشرفة. (3) جاه: قدر ومنزلة وعزة من الوجاهة وهي رفعة القدر وعظم المرتبة، طيبة: المدينة المنورة ومن أسمائها المحببة المحبوبة، يثرب، الناحية، المباركة. (4) المختار: هو سيدنا المصطفى، ختمت: انتهت، الحمد: الشكر. (5) ستين مع مائه: مائه وستون، فرج: الفرج هو الخلوص من الشدة، الكرب: الهم.

رقم الإيداع بدار الكتاب القطرية 419 لسنة 1987 م

الفصل الثالث أمير الشعراء ونهج البردة

أمير الشعراء ونهج البردة ولد أحمد شوقي في حي من أحياء القاهرة يسمى (الحنفي) في اكتوبر عام 1870 «1» من أسرة اختلط فيها الدم العربي بدماء أخرى. ويقال أن جدته كانت وصيفة في قصر الخديوي اسماعيل دخلت بحفيدها حين كان في الثالثة من عمره على الخديوي، فنظر إليه فوجد بصره مشدودا إلى السماء فيطلب بدره من الذهب رماها عند قدمي الطفل، فتحولت عين الطفل إليها وأخذ يلعب بها. فقال الخديو لجدته: افعلي ذلك معه حتى يتعود، فأجابت إجابتها المشهورة (هذا دواء لا يخرج إلا من صيد ليتك) فقال: تعالي به إلى متى شئت حتى أنثر الذهب تحت قدميه، وقد عاش أحمد شوقي معها في جو مترف فنشأ نشأة ارستقراطية. دخل شوقي وهو في الرابعة من عمره (كتاب الشيخ صالح) وكانت الدراسة فيه تعتمد على التلقين والحفظ، ثم انتقل إلى مدرسة المبتديان الابتدائية فوجد أن الوسط التعليمي فيها مما يروقه، فانتعشت نفسه، ومال إلى الدرس والتطلع إلى المعرفة، فواصل التحصيل ثم انتقل إلى التجهيزية، وهناك تفوق تفوقا عظيما فكان ترتيبه الثاني على المدرسة كلها. وينتهي شوقي من دراسته الثانوية في سن مبكرة (1885) ثم ينتهي من دراسة الحقوق والترجمة عن الفرنسية (1889) وكان في أثناء دراسته للحقوق يتلقى نوعا اخر من الدراسة الأدبية إذ تتلمذ على يد الشيخ/ حسين المرصفي وقرأ معه كتاب (الكشكول) لبهاء الدين العاملي، وشعر البهاء زهير، وكذلك اتصل بالشيخ حفني ناصف ولم يكد ينل إجازة مدرسة الترجمة حتى دعاه الخديوي توفيق وهنأه ووعده بالحاقه بالعمل في القصر، وظل شوقي ينتظر تحقيق هذا الوعد إلى

_ (1) كانت مصر تحت حكم الخديوي إسماعيل.

أن صدر قرار بإيفاده في بعثة دراسية إلى فرنسا ليدرس الحقوق، واختار له جامعتي مونبلييه وباريس ليلتحق بهما على التوالي، ونصحه بألا يغافل عن دراسة الأدب الفرنسي إلى جانب دراسته للحقوق، ولعل (توفيقا) كان يهدف من ذلك أن يصقل شوقي موهبته الشعرية ليصبح فيما بعد شاعر القصر (وأحاطت بالشاعر مظاهر العناية والرعاية ذلك أن الخديوي قد كتب إلى مدير البعثة المصرية في فرنسا يأمره بالاهتمام بأمر شوقي) ، وكانت باريس تعج أثناء إقامة شوقي بالمذاهب الأدبية والفنية المختلفة، فضلا عن النشاط المسرحي العريض، فجذب ذلك (شوقي) الذي خضع على وجه الخصوص لشعر شعراء ثلاثة هم: (فيكتور هيجو، والفريد دي موسيه ولا مرتين) . وبعد أن نال شوقي إجازة الحقوق عاد إلى وطنه فألحق بالديوان الخديوي حيث ظل موضع رعاية الخديوي عباس الثاني ونشأت بين حاكم مصر والشاعر علاقة ود وثيقة تمثلت في إيفاد شوقي في بعض مهامه السياسية، ويحب الخديوي شاعره، ويختار له زوجة، هي أبنة رجل ثري كريم، فتتحسن أحواله، وتقبل عليه الدنيا، ويظل الشاعر متعلقا بولي نعمته. وفي عام 1914 «1» نفى الشاعر إلى اسبانيا ومكث في منفاه خمس سنوات. وحين أعلنت الهدنة إثر الحرب العالمية الأولى، أصبح من حقه أن يتجول في أسبانيا حسبما يريد، فتنقل بين مدنها الكبيرة، وشاهد اثار مجد العرب والعروبة في جنتهم المفقودة، وحاز لنفسه ثقافة تاريخية عميقة بفضل ما قرأ من تاريخ العرب في الأندلس، وأخذ يتعمق في دراسة الشعر الأندلسي واستيقظت روح الشاعر بعد سبات عميق وامتد بصره إلى أعماق تاريخ العرب. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، تلكأت الحكومة المصرية بوحي من الإنكليز في استدعاء الشاعر من منفاه، وما أن بلغ القاهرة حتى خرج الشعب المصري عن بكرة أبيه يستقبله ويحتفي به، ولقد حمله على الأعناق والدموع تنهمر من العيون إذ اعتبره شعبه بطلا من أبطاله، لا يهادن الاستعمار ولا يتواطأ مع

_ (1) الذي خلع فيه الخديوي.

الأعداء على حكام وطنه ولا على أبناء شعبه، ويلتفت شوقي إلى وطنه ويزجى إليه كل ما في نفسه من الحب والود فيقول: - يا وطني لقيتك بعد يأس ... كأني قد لقيت بك الشبابا وكل مسافر سيؤوب يوما ... إذا رزق السلامة والإيابا أدير إليك قبل البيت وجهي ... إذا فهت الشهادة والمثابا ولا ينسى في فيض العاطفة الجياشة أن يذكر شباب مصر وقد خفوا لاستقباله ذلك الاستقبال الرائع، تقديرا له فيقول: - وحيا الله فتيانا سماحا ... كسوا عطف من فخر ثيابا ملائكة إذا أحبّوك يوما ... أحبك كل من تلقى وهابا وإن حملتك أيديهم بحورا ... بلغت على أكفهم السحابا وعاد شوقي إلى وطنه فوجد أرضه مخضبة بدماء الشهداء وكل شيء فيه يتحول ويتغير، فظل ملتصقا بالشعب يعيش حياته الجديدة. فجعل بيته منتدى الأدباء والشعراء وكبار رجال عصره وقد زاره عام (1926) (طاغور) شاعر الهند الكبير. وفي عام 1927 اختير عضوا في مجلس الشيوخ المصري وانتهز محبوه وأصدقاؤه المناسبة فأقاموا حفل تكريم استحال إلى مهرجان قومي عربي عظيم اشتركت فيها وفود الدول العربية وقد أعلن فيه تتويج أحمد شوقي أميرا للشعر العربي وأعلن حافظ إبراهيم باسمه وباسم شعراء العرب مبايعتهم له بإمارة الشعر في قصيدته الشهيرة التي يقول فيها: بلابل وادي النيل بالمشرق أسجعى ... بشعر أمير الدولتين ورجّعى أعيدي على الاسماع ما غردت به ... براعة شوقي في ابتداء ومطلع إلى أن يقول: - أمير القوافي قد اتيت مبايعا ... وهذي وفود الشرق قد بايعت معي لقد حقق شوقي مجدا أدبيا بصلاته بالشعوب العربية يشاركها أفراحها واتراحها وأصبح أمل الشباب فيها، وصار شعره يردد في كل مكان، وظل متربعا

على عرش إمارة الشعر العربي بقية حياته. وكان شوقي يتمتاع برؤية حضارية لافتة للنظر ومثيرة للبحث والتقصي، فإنه واسع الاطلاع، وملم إلماما واعيا بتاريخ مختلف الأمم ولا سيما تلك التي يتصل تاريخها اتصالا مباشرا بتاريخنا العربي والإسلامي، ومن الطبيعي أن ينحاز شوقي في أغلب أشعاره إلى حضارة أمته العربية إزاء مواجهة الحضارات الاخرى، واحتفى بالتراث الكلاسيكي اليوناني والروماني، كما احتفى بتراث أمته العربي والإسلامي. وقد ألم شوقي بشيء من فكر أرسطو السياسي وربما اطلع على نظام الاثينيين وإلا فكيف نفسر قول شوقي في الهمزية النبوية مخاطبا الرسول صلّى الله عليه وسلّم: - داء الجماعة من ارسطاليس لم ... يوصف له- حتى أتيت- دواء فرسمت بعدك للعباد حكومة ... لا سوقة فيها ولا امراء فالشاعر يقول أن أفكار أرسطو السياسية لم تحل مشكلة الحكم حتى تفاقمت على مر العصور وحتى جاءت الرسالة النبوية ورسمت للناس حكما لا سوقة فيه ولا أمراء أي أن الحكومة الإسلامية هي الحل لكل مشاكل السياسة، ومن المدهش حقا أن شوقي يبدي الماما عميقا ببعض دقائق الفكر الأغريقي، ففي ثنايا حديثه عن الديانة الإسلامية السمحة الغراء يقول في الهمزية أيضا ما يثير الانتباه ويلفت النظر: بنيت على التوحيد وهي حقيقة ... نادى بها سقراط والقدماء وليس غريبا أن يعرف شوقي قصة سقراط (469- 399 ق م) الذي حوكم بعد أن الصقت به تهمة افساد الشباب والاعتقاد في الهة غريبة غير تلك الالهة التقليدية التي كان يؤمن بها أهل زمانه في أثينا، إن قصة سقراط هذه مشهورة ولا شك أن شوقي قد عرفها. وتأثر شوقي بشعراء عرب قدامى كثيرين منهم ابن زيدون الذي نجد التقارب عظيما بينه وبين شوقي، ويظهر هذا التقارب في نونية شوقي التي عارض

فيها نونية ابن زيدون: يا نائح الطلح أشباه عوادينا ... نشجى لواديك أو نأسى لوادينا ويلاحظ أن نونية ابن زيدون كلها لوعة وحرقة وشكوى من البين والأعداء والزمن معاتبا ولاده. أما شوقي فاستهل قصيدته بمناجاة طائر حزين يرسل شجواه بوادي الطلح وكأنه يعبر عن حزنه ولوعته مسترسلا في مناجاته رغم أحزانه وفراقه لوطنه. ووقف خاشعا أمام المتنبي وشعره وأشاد بكثير من الشعراء مثل: أبي فراس وأبي العلاء، وأبي العتاهية، والعباس بن الأحنف، والبهاء زهير، والبحتري. وقد عارض شوقي طائفة من فحول شعراء العرب ومنهم البوصيري في قصيدته المشهورة (البردة النبوية) فقد عارضه شوقي بقصيدته (نهج البردة) ، وقد جاراه شوقي مستلهما نفس العناصر الفكرية التي صورها من حيث الغزل الصوفي وبيان حبه للرسول صلّى الله عليه وسلّم ثم تحذيره النفس من غرور الدنيا. وتتسع دائرة الثقافة والابداع عند شوقي حيث تعامل مع التراث القديم بنظرة شاملة تواحد ما بين الشرق والغرب وما بين المحافظة والتجديد في ان واحد، وقرأ شوقي الأدب الانجليزي وتأثر بمسرحيات شكسبير، كما يظهر من خلال مسرحيته (مصرع كليوباترا) ، كما تأثر بالثقافة الأوربية واختلف إلى مسارح الغرب ورأى أمام عينيه حركات التجديد الشعرية وقد أخذ بحركات التجديد التي سادت في مطلع القرن العشرين وقرأ أشعار المجددين وحاول أن يسير على إثرهم كما فعل في الأدب العربي ورأى في الأفق الغربي عالما اخر لا بد من الإفادة منه، فأخذ يقلد خرافات لا فونتين وغيره، ويعتبر شوقي رائدا للمسرح الشعري في العالم العربي إذ إنه أول من كتب المسرحية الشعرية مسرحية (مجنون ليلى) ثم ست مسرحيات أخرى. ولمعرفة شوقي على الصعيد الثقافي نجد أنه قد عاصر مرحلتين مهمتين في تاريخنا الأدبي هما مرحلة الأحياء ومرحلة التجديد.

في المرحلة الأولى: مرحلة إحياء التراث القديم فقد حاول تطوير فنه داخل الشكل القديم وبخاصة في المقدمة الغزلية أو الخمرية أو المدح متأثرا بسلفه العظيم محمود سامي البارودي في شعر الوصف ثم شعر الوجدان والشعر الوطني. أما في المرحلة الثانية: التي عاصرها شوقي فهي معاصرته لمدرسة التجديد الرومانسية التي تنسق رؤيتها الأدبية مع الفلسفة الاجتماعية والفكرية للطبقة المثقفة الجديدة التي استمدت ثقافتها من أوربا فما الفن- في مفهومها- إلا تعبير عن الذات سواء أكان هذا التعبير تغنيا بالامال الفردية أو بكاء عليها أو هروبا من ضغوط المجتمع إلى رحابة الطبيعية، وهذه المدرسة دخلت عالم الشعر بثقافة جديدة تستمد جذورها من الأدب الأوربي ويفهم جديد مغاير لماهية الشعر القديم ووظيفته. وننتهي من هذا كله إلى أن شوقي عاصر مدرستين أدبيتين، وأنه لم ينتم لمدرسة معينة منهما فلا هو كلاسيكي ولا رومانسي، ولكنه استطاع أن يعبر الحدود، ويحطم القيود، وشخص ببصره في كل شيء فاستطاع أن يكتب في كافة أغراض الشعر قديمه وحديثه، بل أضاف إلى استخدامات الشعر استخدام المسرح الشعري من مأساة وملهاة. وكان شوقي بقصائده الإسلامية حربا على أعداء الإسلام، التي أشاد بالإسلام فيها ومجده، وأثبت بها إيمانه العميق بقدسية وجلال هذا الدين الحنيف، فقد كان رحمه الله قارئا للقران الكريم والأحاديث النبوية، وكان عميق الإيمان، لم يذكر اسم الله مجردا قط بل كان يتبعه بقوله: سبحانه وتعالى ولم يذكر اسم النبي إلا وقال صلّى الله عليه وسلّم، وإذا رأى جنازة مارة أمامه وقف خاشعا معظما لها، رافعا سبابته بالتشهد، طالبا الرحمة داعيا بحسن المقام في الاخرة. وكان سمحا ضحوكا خفيف الروح، يحب الخلوة إلى نفسه، وكان يكره الموت أو التحدث عنه، متواضعا، لم يتعال على إنسان مهما صغر شأنه، وفي أيامه الأخيرة وبالتحديد في السنتين الأخيرتين من عمره تغيرت عادات شوقي، فامتنع عن كل

ما يغضب الله واقتصر في حياته على القراءة في كتب الدين الإسلامي فقها وتشريعا وسنة وجعل لكل حركة من حركاته بداية، هي اسم الله، وقد أصيب في أثناء ذلك بمرض عضال ألح عليه واحتار الطب في الداء فما كان من شوقي إلا أن اقتدى بصاحب البردة الإمام البوصيري حينما تشفع بالرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يبرئه الله من مرضه فشفاه، تشفع شوقي بالرسول خاشعا ممتثلا طالبا الشفاء والصحة فشفاه الله. وكانت لهذه الحادثة أثرها على شوقي فعاش بقية حياته يعيش عيشة الخاشعين المقدسين لله التابعين باحسان لماثر الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وقد برزت هذه الصفات الإسلامية من خلال مشاعره وأحاسيسه المرهفة في أشعاره الأخيرة التي غلب عليها طابع التدين والاقتراب من الإسلام والبعد عن كل ما نهى عنه الدين الحنيف، وبرزت أشعاره خالصة صادقة نابعة من وجدانه الذي تجدد بعمق إيمانه واتفقت عواطفه مع عواطف إخوانه المسلمين في أنحاء البلاد الإسلامية فكان معبرا عن عواطفهم الدينية محلقا في الافاق البعيدة باحثا ببصيرته في ملكوت الله سبحانه وتعالى فيصيبه الذهول من روعة وقدرة الخالق القادر على ما أبدع فتتصدع نفسه أكبارا ورهبة، وتنهمر دموعه خشوعا وتقديسا وتكريما لرب العالمين فيخر ساجدا وتنهمر أشعاره كما تنهمر دموعه راجيا عفو الله ومغفرته ما جناه في أيام شبابه وظل هكذا في خشوع وتبتل ودعاء لرب العالمين إلى ليلة الثالث عشر من أكتوبر عام 1932، وفي تمام الساعة الثانية صباحا حين فارقت الروح الجسد، وتمزقت أوتار قيثارة الشرق وانهارت قمة من القمم الشعر والأدب العربي في العصر الحديث؛ مات شوقي وارتفع النواح والنشيج في العالم العربي والإسلامي، ورثاه كافة الشعراء حتى شاعر الهند العظيم (رابندنات طاغور) ، وشاعر باكستان العظيم (محمد إقبال) ، وأفل النجم الأدبي الذي خرج من حارات مصر بعد حياة حافلة بالصراع الوطني والديني وبعد اثرائه المكتبة العربية بديوان عظيم ومسر حيات شعرية عظيمة.

الفصل الثالث أمير الشعراء ونهج البردة

الشاعر والقصيدة تأثر الشاعر أحمد شوقي في قصيدته (نهج البردة) بالشاعرين: كعب بن زهير والإمام البوصيري، وإذا تنقلنا مع شوقي بين أجزاء قصيدته نجده قد بدأها بالنسيب وقد أسرف شوقي في هذا الجانب حتى بلغ عدد أبياته أربعة وعشرين بيتا ولعلها من أجود ما كتب الشعراء في الغزل ثم تطرق إلى الحكمة وضرب الأمثال، وهو غرض من أغراض الشعر الكلاسيكي، وجعل لذلك أربعة عشر بيتا لجأ بعدها إلى التضرع والتوسل في ستة أبيات بلغت من التركيز وقوة التصوير مدى بعيدا، وكانت له معبرا إلى مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأبراز صفاته الطيبة الكريمة في أربعة وعشرين بيتا ولم ينس شوقي وهو يمتدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يشير إلى معجزته الكبرى القران الكريم ويبين منزلته بين الكتاب السماوية الاخرى في ستة أبيات محكمة البناء بالغة الدلالة والمعنى، كما تناول بعد ذلك مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم وتحدث عن البشائر التي أنبأت بمجيئه في ثمانية أبيات، ثم تحدث عن الاسراء والمعراج في ثمانية أبيات أخرى لم يفته فيها أي حدث تم في هذه الليلة الغراء، كما بين مكانة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في ثلاثة أبيات انتقل بعدها إلى الحديث عن الهجرة وكيف نجى الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه فلم تصل إليهما يد الكفر والشرك. وشوقي في قصيدته التي سار فيها على درب سلفة الإمام البوصيري لا يتجرد من ثوب التواضع أمامه فله فضل السبق ولا قبل له بالوقوف أمامه في صوغ مديحه. وكان ذلك التعبير عن التواضع في ستة أبيات تعتبر خروجا عن الغرض الرئيسي للقصيدة، وخروجا على الشكل الكلاسيكي للقصيدة الدينية إلا أنه ليس مخلا بالموضوع العام، وإنما هو محاولة تجديدية من قبل شوقي بقصد كسر حدة الرتابة، بعده يعود لموضوعه الأساسي فيتحدث عن صفات الرسول صلّى الله عليه وسلّم ويركز على شجاعته وهيبته بين أصحابه، فضلا عن جمال طلعته وفيض كرمه وعطائه.

وتناول شوقي بعد ذلك في أثنى عشر بيتا انتقل بها إلى الحديث عن جهاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الإسلام وخصص شوقي له سبعة عشر بيتا يحث الشاعر في نهايتها المسلمين على العودة إلى منابع الشريعة الإسلامية وإحياء الفريضة السادسة وهي الجهاد في سبيل الله، وفي اطار هذا يمدح المسلمين الأوائل الذين أعانوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم في دعوته وناصروه في سبعة أبيات ينفذ من خلالها إلى الحديث عن جوهر الشريعة الإسلامية التي غيرت مجرى التاريخ في ثلاثة عشر بيتا يبين في اخرها أن التمسك بكتاب الله يؤدي إلى السعادة في الدارين، ولا يفوته بعد ذلك أن يفرد عشرة أبيات يعقد فيها مقارنة بين الحضارات السابقة وحضارة المسلمين، وأخيرا نجد أمير الشعراء يمتدح الخلفاء الراشدين ويجعل خامسهم عمر بن عبد العزيز ويبين صفاتهم السامية، كما يتناول شوقي ماثر وأعمال الخلفاء في اثنى عشر بيتا استمد الخيال فيها من البيئة العربية، وقد قصد شوقي أن ينهي حديثه عن الخلفاء الراشدين بأبي بكر الصديق ليزيد من تكريمه وليكون مسك الختام فأبو بكر مقدم على سائر الصحابة وسائر الخلفاء. وينهي شوقي قصيدته الميمية المطولة بالصلاة والسلام على الأنبياء وعلى رأسهم الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم الذي هو خير الرسل وخاتم النبيين في أربعة عشر بيتا جاءت غاية في الطلاوة ونهاية في الحلاوة ثم يتحول شوقي ويتجه مرة أخرى إلى العالم الإسلامي المعاصر فيدعو له بما يرفع من شأنه ويطلب من المسلمين أن يهبوا من رقادهم، فكم من شعوب لا تدين بالإسلام قد استيقظت من رقادها وسادت في موكب النهضة. ثم يتوجه إلى الله عز وجل طالبا السعادة والهناء والنعيم لشعوب الأمة الإسلامية ويطلب بحق الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم أن يخفف العناء عن المسلمين ويحسن ختامهم، كما أحسن بدأهم. وتنهي القصيدة العصماء ببيت يقول فيه: يا رب أحسنت بدء المسلمين به ... فتمم الفضل وامنح حسن مختتم

شرح نهج البردة

شرح نهج البردة يقول أمير الشعراء في مطلع قصيدته: ريم على القاع بين البان والعلم ... أحل سفك دمي في الأشهر الحرم «1» رمى القضاء بعيني جؤذر أسدا ... يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم «2» يبدأ شوقي قصيدته نهج البردة كما بدأ قبله كل من كعب بن زهير والإمام البوصيري بالغزل، واعتاده الشعراء القدامى، مقتفيا نهجهم باتخاذ الغزل مطلعا للقصيدة فتخيل محبوبته الظبى الجميل الذي يقف في أرض بين أشجار ألبان والجبل، وهذا الظبى استحوذ على مشاعره أكثر من منظر الغابة الخضراء الجميلة ومنظر الجبل، وهو هنا قد شغله جمال الظبى ولم يبهره منظر الغابة الخضراء والأغصان الملتفة والروابي أو الجبال، وأن هذا الجمال الذي بهره كما لو كان قد سفك دمه على الرغم من تحريم سفك الدماء خلال الأشهر الحرم. ولعل جمال الغزال يبرز في عينيه اللتين يتعلق بهما من يراهما ولو كان أسدا في قسوته ووحشيته وجبروته، وهذا الأسد يسكن الأجم ويطلب النجدة والرحمة من هذا الظبى الرقيق الذي لا يثبت أمام جماله شيء. ثم يقول: لما رنا حدثتني النفس قائلة ... يا ويج جنبك بالسهم المصيب رمى «3» جحدتها وكتمت السهم في كبدي ... جرح الأحبة عندي غير ذى الم «4»

_ (1) الرئم: الظبى الخالص البياض، القاع، الأرض السهلة المطمئنة، البان: ضرب من الشجر، العلم: الجبل، الأشهر الحرم: (أربعة) ثلاثة متتابعة هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد مفرد وهو رجب، وكانت العرب لا تستحل فيها القتال. (2) الجؤذر: ولد البقرة الوحشية، الأجم: جمه أجمه وهي الشجر الكثيف الملتف وهو مسكن الأسد. (3) رنا: ادام النظر مع سكون الطرف، يا ويح: الشدة والمكروه. (4) جحدتها: الجحود هو الانكار مع العلم.

ويعبر شوقي عما أحسه عند رؤيته هذا الغزال وقد ثبت نظراته الرقيقة وصويها نحوه فحدثته نفسه بأن قلبه قد أصيب بسهم تلك النظرات ولا يستطيع إنسان أن يخرجه من كبده. وقد اختار الشاعر عضوا يصعب على الطب معالجتها، ألا وهو الكبد، فكل عضو من جسم الإنسان يمكن معالجته ما عدا الكبد، فهو هنا يبين مدى الجرح الذي أصيب به، ولكن الشاعر كرجل كتم هذا الهوى وهذا الحب وأنكر وجوده تماما لاعتقاده أن أي الم يسببه المحبوب لا يمكن أن يؤثر في نفسه وقلبه على الرغم من لوعته ومعاناته حب هذه الأنثى التي تضارع الغزال جمالا وفتنة. ويقول: رزقت أسمح ما في الناس من خلق ... إذا رزقت التماس العذر في الشيم «1» يا لائمي في هواه والهوى قدر ... لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم «2» فيوضح صفات المحب المثالي إذ يذكر أن الإنسان الكريم سمح الخلق لا يعتبر كريما ولا سمحا إلا إذا كان قادرا على التماس الأعذار للناس وهذا هو الخلق الطيب عند العرب، ولذا يطلب ممن يلومه ويؤنبه على أنه قد أحب هذا الغزال أن يلتمس له العذر فلو مر بتجربته لما كان عاذلا. وفي قول شوقي: لقد انلتك اذنا غير واعية ... ورب منصت والقلب في صمم «3» يخاطب لائمه ويقول له: يا أيها اللائم أنني انصت إليك حقا، ولكن هل أنت متأكد من أنني أسمع لما تقوله أو أعيه؟ انى قد انلتك أذني ولكن قلبي بعيد عنك لا يسمعك ولا يعي لومك ولا عتبك لما هو فيه من الوجد والحب منذ رؤية هذا الظبى.

_ (1) الشيم: جمع شيمة وهي الخلق. (2) شفة الوجد: هزلة وانحل جسمه. (3) انتصت: سكت سكوت مستمع.

ويقول: يا ناعس الطرف لاذقت الهوى أبدا ... أسهرت مضناك في حفظ الهوى فنم «1» وبهذا يعود شوقي إلى الحبيبة ويظهر بعض صفاتها الجمالية، فهي ناعسة الطرف، وسنانة العينينن، يدعو لها ألاتذوق الحب الذي يثقل كاهل المحب ويعذبه ويضنيه كما أضناه هو وأرقه، ويدعو لمحبوبته أن تنام هانئة قريرة العينين. ويقول شوقي: افديك إلفا ولا ألو الخيال فدى ... أغراك بالبخل من أغراه بالكرم «2» سرى فصادف جرحا داميا فأسا ... ورب فضل على العشاق للحلم «3» ويريد شوقي أن يؤكد لحبيبته أنه يستطيع أن يعطيها كل ما حاك بخياله من حب وشفقة ورحمة على الرغم من أن حبيبته تبخل عليه بأقل القليل، ويلجأ شوقي للمقابلات بين البخل والكرم وبين المنع واطلاق الخيال، وبين السهر والنوم، وبين الوعى والصمم لتأكيد المعنى المعبر عن حالته النفسية في حبه، وعن حال محبوبته بما فيها من تناقض بينه وبينها مسترجعا ما سمع من الام المحبين واهاتهم في العشق ورغبتهم الدائمة في وصل الحبيب، وشاعرنا لم ير هذا الحبيب إلا عن بعد، ولكنه يأمل أن يراه في الحلم، وربما تكشف له الاحلام عن حقيقة هذا المحبوب. ويقول: من المؤانس بانا بالربى وقنا ... اللاعبات بروحي السافحات دمى «4» السافرات كأمثال البدور ضحى ... يغرن شمس الضحى بالحلى والعصم «5»

_ (1) الناعس: الوسنان، الطرف: العين، والمضني: الذي أثقله المرض، ومضناك: الذي أضنيته مما لحقه من الوله عليك. (2) الألو: المنع والتقصير، اغراك: زينة له وحرضه عليه. (3) سرى: المشى في الليل، وأسا الجرح يأسوه: داواه. (4) الموانس: المتبختره، البان: ضرب من الشجر، القنا، جمع قناة وهي الرمح وسفح الدم: سفكه وأساله. (5) السافرات: سفرت المرأة أي كشفت عن وجهها، والحلي: ما تزين به المرأة من مصوغ المعادن، والعصم: القلائد.

القاتلات بأجفان بها سقم ... وللمنية أسباب من السقم فيرى الشاعر أن هناك من جمال المرأة ما يشبه شجرة ألبان في طولها وتمايلها كالرماح التي تسفح دم الرجل، وهنا يعرض أنماطا من النساء، اللعوب التي تعبث بمشاعر الرجل، والتي تتمكن فيه وتصيبه وتسفح دمه، وهؤلاء النسوة الكاشفات وجوههن يشبهن البدور في جمالهن حتى أن الشمس تغير منهن حينما يتحلين بالحلي والأحجار الكريمة والقلائد لانعكاس أشعة الشمس على هذه الحلي وما لها من لمعان وبريق فوق صدورهن؛ ويؤكد الشاعر أن حركة الجفن لهؤلاء النسوة لها تأثير يصل بالمرء إلى المنية ويطرح بعد ذلك حقيقة وحكمة فيقول: أن للموت أسبابا كثيرة، ويربط بين حركة الجفن والمؤثرات الاخرى التي تؤدي إلى الموت وربما كان الشاعر يقصد أن صورة انسدال الجفن وما بها من جمال تكون صورة جميلة قد تؤدي بالمرء إلى المنية لشدة وقع ذلك عليه، وهذا تأكيد لما سبق حينما شبههن بالبدر لجمالهن الذي يصرع من يتعرض لهن. ويقول شوقي: العاثرات بألباب الرجال وما ... اقلن من عثرات الدل في الرسم «1» المضرمات خدودا أسفرت وجلت ... عن فتنة تسلم الأكباد للضرم «2» الحاملات لواء الحسن مختلفا ... اشكاله وهو فرد غير منقسم «3» من كل بيضاء أو سمراء زينتنا ... للعين وللحسن في ارام كالعصم «4» برعن للبصر السامي ومن عجب ... اذا اشرن اسرن الليث بالعنم «5» وضعت خدي وقسمت الفؤاد ربي ... يرتعن في كنس منه وفي أكم «6»

_ (1) العثرة: الزلة والسقطة، الدل: السكينة والوقار في الهيئة والمنظر، الرسم: حسن المشي. (2) الضرم: اشتعال النار. (3) اللواء: العلم وحمل لواء الحسن كناية عن نهاية الحسن فيه. (4) العصم: بياض اليدين. (5) برعن: يخفن: العنم: شجرة حجازية لها ثمرة حمراء تشبه بها البنان المخضوبة. (6) وضع الخد: كناية عن الخضوع والاستسلام، الكنس: مستقر الظباء في الشجر الأكم: جمع أكمة وهي الموضع يكون أشد ارتفاعا مما حوله.

إن الصورة المركبة التي يحاول الشاعر أبرازها من خلال الأبيات نستدل منها على أن مشية هؤلاء النسوة بما فيهن من حسن المنظر وجمال الخطوة ومهابة ووقار يلعب بقلوب الرجال وتطأ أقدامهن هذه القلوب دون أن يحاولن انقاذها، وهؤلاء النسوة عندما تحمر خدودهن خجلا فأنها تبدو كما لو كانت قد أشعلت فيها النار، ولعلها تشعل النار في أكباد الرجال وقلوبهم عندما يكشفن عن جمال وجوههن، فلا سلامة ولا أمان لقلب الرجل أمام هذا الجمال الذي يحملن لواءه، ولا حدود لهذا الجمال، فهو جمال متنوع في أشكاله، متعدد في ألوانه، وهو في نفس الوقت جمال كامل، وحسن مطلق، ولا يحدد الحسن بلون البشرة ولا تهمه إن كانت هذه الحسناء بيضاء أو سمراء أو غير ذلك، وإنما ما يهمه فيها هو الحسن الذي يشبهه بالقمة المرتفعة التي يعتصم بها الإنسان وكأنه يريد أن يجعل الحسن في حد ذاته نوعا من أنواع العصمة أي أن الذي يرى هذا الحسن يخشاه ويهابه، وليس هناك أي إنسان قادر على مواجهة المرأة باهرة الجمال، رائعة الحسن، فهذه النوعية من النساء الشهيرات بالجمال لا يحس بجمالهن إلا من يقدر الجمال، ومع ذلك فانهن إذا ابنّ جمالهن فإنهن يصر عن حتى من تحصن بالعصمة منهن، ويصف الشاعر الكف المخضبة بالحناء فهي بجمال خضابها تأسر الرجل باشارة من كفها ولا يأسرن الرجل فقط، بل انهن يأسرن الأسد بهذه الاشارة. واستسلم الشاعر لهذا الحسن وخضع له حتى انه وضع خده وفؤاده وقلبه بساطا لهذه الظباء يرتعن في ذلك كيفما شئن ويلعبن في وديان قلبه ومرتفعاته وهو يؤكد خضوعه وضعفه أمام هذا الحسن البارع وهذا الجمال الرائع. ويقول شوقي: يا بنت ذى اللبد المحمى جانبه ... القاك في الغاب أم القاك في الأطم «1» ما كنت أعلم حتى عن مسكنه ... ان المنى والمنايا مضرب الخيم «2»

_ (1) اللبد: جمع لبده وهي الشعر المتراكب بين كتفي الاسد، والغاب: جمع غابه وهي الشجر المتكاثف، الأطم: القصر. (2) المنايا: المنية وهي الموت.

من أنبت الغصن من صمصامة ذكر؟ ... وأخرج الريم من ضرغامه قرم «1» فنستدل من قول الشاعر على أنه اكتشف أن محبوبته الحسناء بنت لأحد العظماء، وبين حيرته تجاه هذا الرجل العظيم إذ كيف يستطيع أن يقابل (هذه المحبوبة في السر حيث الأغصان الملتفة والظلام هربا من بطش أبيها، أم أنه سيستطيع أن يلقاها في النور حيث البيوت والقصور، ويؤكد أن معرفته بمكانة أبيها قد وضحت وأن أمانيه في الحياة واستمرار حبه هذه الفتاة أصبح ذلك مقرونا بخوفه من الموت، فقد اجتمعت أمانيه ومنيتّه في مكان واحد وهو منزل أبيها، ويعود الشاعر ليضرب الأخماس في الأسداس متسائلا: كيف يخرج من ظهر هذا الفحل الضخم القاسي الشرس هذه النبتة الصغيرة الرقيقة وهذه الزهرة الناعمة العطرة؟! .. كيف يخرج من حيوان شرس مفترس هذا الغزال الرقيق الناعم الأبيض..؟! ويقول: بيني وبينك من سمر القنا حجب ... ومثلها عفة عذرية العصم «2» لم أغش مضناك إلا في غضون كرى ... مضناك أبعد للمشتاق من أرم «3» فيؤكد شوقي مرة أخرى فقده الأمل في الوصال بينه وبين.. المحبوبة وهناك عائقان: الأول؛ والدها ذو الحسب والنسب والمكانة، والاخر عفتها وعذريتها اللتان تعصمانها من حبه ومن وصله، ويؤكد أنه لا يستطيع الوصول إليها ووصالها إلا في الأحلام، فوصال محبوبته حلم من الأحلام، وأسطورة من الأساطير بعيدة عن الواقع كما تبعد عنه مدينة ارم ذات العماد التي ورد ذكرها في القران الكريم.

_ (1) الصمصامة: السيف، والضرغامة: الأسد، والقرم: شديد الشهوة إلى اللحم. (2) العفة العذرية: نسبة لقبيلة بني عدرة اشتهر شبابها بالعشق والعفاف، والعصم: جمع عصمة وهي المنع والحفظ. (3) اغشى مضناك: المنزل الذي عنى به أهله، الكرى: النوم، ارم: هي ارم ذات العماد التي ورد ذكرها في القران الكريم.

ويقول: يا نفس دنياك تخفى كل مبكية ... وان بدا لك منها حسن مبتسم «1» قضى بتقواك فاها كلما ضحكت ... كما يفيض اذى الرقشاء بالثرم «2» ويريد الشاعر بهذا أن ينصح نفسه بأن لا تغتر بمباهج الدنيا وابتسامتها، فقد تخفى في الغيب ما يبكي ويحزن فمثلها في ذلك مثل الحية الرقطاء، لها لون جميل ولكنها تخفي في فمها السم، والابتسام لا يأتي إلا من الفم، والسم لا يأتي إلا من الفم كذلك، فوضع شوقي ابتسام الدنيا الزائف نظيرا لسم الحية القاتل. ثم يقول: مخطوبة منذ كان الناس خاطبة ... من أول الدهر لم ترمل ولم تئم «3» يفني الزمان ويبقى من اساءتها ... جرح بادم يبكي منه في الادم «4» فهذه الدنيا في نظر الشاعر كانت مطلوبة منذ بدء الخليقة، فالإنسان دائما يسعى إليها، فهي جذابة مغرية لبني البشر فيتكالبون عليها كما يتكالب الخطباء لخطبة امرأة جميلة لا تترمل أبدا وأنها تحمل من الماسي ما لا يفني بمر الزمان، كما حدث عن كيدها لادم عليه السلام. ويقول الشاعر: لا تحلفني بجناها أو جنايتها ... الموت بالزهر مثل الموت بالفحم «5» كم نائم لا يراها وهي ساهرة ... لولا الأماني والأحلام لم تنم «6»

_ (1) المبتسم: الابتسام ويجوز أن يراد به الموضع الثغر. (2) الرقشاء: من الحيات المنقط بالسواد والبياض، وأذى الرقشاء: سمها، والثرم كسر السن من أصلها. (3) لم ترمل: إذا مات عنها زوجها وامنت المرأة من زوجها تئيم، والأيم: التي لا زوج لها سواء أكانت بكرا أم كان لها زوج فقدته. (4) الادم: الجلد يقول مع أن حالها وحال الناس ما ذكرنا فإن اساءتها ما تنتهي حتى ادم عليه السلام لا ينسى كيدها إلى اخر الزمان. (5) الجنى: ما يجتنى من الشجرة ويقطف من ثمارها. (6) نائم: يريد به المغتر بالدنيا الغافل عن مصائبها وغيرها.

ولعله يريد أن يقول للنفس لا تبتهجي بثمار هذه الدنيا أو جنايتها فإن الموت واحد وأن تعددت أسبابه، فهناك الكثيرون من هؤلاء الناس الغافلين عن حقيقة الحياة يأملون ويمنّون أنفسهم بالأماني والأحلام ويقضون كل حياتهم في تحقيق هذه الأماني والأحلام غافلين عن المصائب والنكبات التي قد تحل بهم فجأة. وكذلك يقول: طورا نمدك في نعمى وعافية ... وتارة في قرار البؤس والوصم «1» كم ضللتك ومن تحجب بصيرته ... ان يلق صابا يرد أو علقما يسم «2» يا ويلتاه لنفس راعها ودها ... مسودة الصحف في مبيضة اللمم «3» فيبين أن هذه الدنيا منذ بداية هذا الكون تعطي وتأخذ، تفرح وتبكي، فبقدر ما تعطيك من نعم وخير وعافية، بقدر ما تأخذ منك وتصيبك بالالام والمرض والفقر والذل، فهي لا تدوم لأحد، ودوام الحال من المحال، ويقول الشاعر أن هذه الدنيا كثيرا ما تضلل الإنسان وتحجب عنه حقيقة الحياة فيهيم في دنياه بلا بصيرة، وتجعله لا يفرق بين الحلو والمرثم يتحسر للنفس التي تقضي حياتها في اللهو واللعب وارتكاب المعاصي والذنوب مسودة صفحة الحساب حتى يدركه المشيب، ويؤكد الشاعر أن الدنيا تقود النفس في ملذاتها وحتى تنغمس في معاصيها فلا تترك فرصة لكي يراجع نفسه، ولكي ينقذ نفسه من التهلكة بعد أن أدرك الحقيقة المرة. ويستمر شوقي في أبياته: ركضتها في مربع المعصيات وما ... اخذت من حمية الطاعات للتخم «4» هامت على أثر اللذات تطلبها ... والنفس ان يدعها داعي الصبا تهم «5»

_ (1) الوصم: الالم والمرض. (2) الصاب: شجر مر، والعلقم: الحنظل، يسم من سأم أي رعى يرعى. (3) دها: أي دهاها، اللمم: جمع لمه وهي الشعر يجاوز شحمة الأذن. مسودة الصحف: كناية عن العمل الشيء، ومبيضة اللمم: الشيب. (4) ركضتها: أصل الركض: تحريك الرجل ويقال ركضت الفرس يرجى ليعدو، حمية الطاعات: لمن يتعفف عن مساورة المعاصي، التخم: جمع تخمة قيل هي فساد الطعام في المعدة. (5) هامت: ذهبت ترعى، داعي الصبا: اللهو والشباب.

صلاح أمرك للأخلاق مرجعه ... فقوم النفس بالأخلاق تستقم والنفس من خيرها في خير عافية ... والنفس من شرها في مرتع وخم «1» تطغى إذا مكنت من لذة وهوى ... طغى الجياد إذا عضت على الشكم «2» وفيها يبين أن النفس هذه أصبحت تهيم على أثر هذه الملذات الدنيوية في لهفة بلا هدف. فطبيعة النفس البشرية أنها تنجرف إلى اللهو وتندفع نحو الملذات البراقة دون تفكير (فالنفس أمارة بالسوء) ، ويميل الشاعر خلال هذه الأبيات إلى الارشاد والتوجيه فيقول: ان صلاح الأمر من صلاح الأخلاق، ولكي تستقيم النفس يجب أن تقوم بالأخلاق، وفي ذلك يتأثر الشاعر بقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. ويؤكد الشاعر أن الجزاء من جنس العمل، فالنفس التي تتخذ من الخير طريقا تجني ثمارا طيبة، والنفس التي تعتاد على فعل الشر فلن تجني إلا ما زرعته وهنا يتضح تأثرّ الشاعر بقول الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ صدق الله العظيم. ويوضح الشاعر أن النفس إذا ما تركت على هواها، فإنها تغرق في الملذات واللهو وتسقط في الخطيئة، وشبهها في ذلك بالجياد إذا ما عضت على اللجم. فيدعو الشاعر الإنسان أن يتحكم في نفسه ويراقبها دائما ويحاسبها. ثم يقول: ان جل ذنبي عن الغفران لي أمل ... في الله يجعلني في خير معتصم «3» القى رجائي اذا عز المجير على ... مفرج الكرب في الدارين والغمم «4» اذا خفضت جناح الذل أسأله ... عز الشفاعة لم أسأل سوى امم «5»

_ (1) المرتع: من رتعت الماشية: أكلت ما شاءت، والوخم: الرديء الوبيء. (2) الشكم: جمع شكيمة وهي الحديدة المعترضة في لجام الفرس. (3) عصمة: حفظه مما يوبقه ويهلكه، والمعتصم: الموضع منها أو بمعنى المصدر أي الاعتصام. (4) الغمم: جمع غمة وهي الهم والحزن. (5) الأمم: اليسير، خفض جناح الذل، التواضع والانكسار.

وهنا يتضرع شوقي إلى الله سبحانه وتعالى ويتوسل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول: إذا كان ذنبي عظيما لا يغتفر يوم الحساب يوم لا نجاة إلا من يعصم ربي فألقى رجائي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهو شفيعنا في الدنيا والاخرة صاحب الشفاعة، فالله هو مفرج الكرب في الدنيا والاخرة وهو مفرج الهموم والأحزان وعندما أتضرع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأسأله الشفاعة يوم تعز هذه الشفاعة فإنى لم أسأل سواه، فهو صاحب الشفاعة العظمى التي جعلها الله له وخصه بها دون غيره من الأنبياء. ويقول: وان تقدم ذو تقوى بصالحة ... قدمت بين يديه عبرة الندم «1» لزمت باب أمير الأنبياء ومن ... يمسك بمفتاح باب الله يغتنم «2» فكل أفضل واحسان وعارفة ... ما بين مستلم منه وملتزم «3» ويريد أن يقول: إذا تقدم الأتقياء بصالح الأعمال، تقدمت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدموع الندم على ما ارتكبت من الخطايا والذنوب في الدنيا، ومن يتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلن يضل ولن يضيع أبدا ويفوز في الدنيا والاخرة لأن من يلتزم بمبادئ الرسول في تحريم الحرام واحلال الحلال والتمسك بدستور الله عز وجل في أرضه وعمل بما أنزله في الكتاب السماوية فإنه يفوز ويغتنم بلقاء رسول الله يوم القيامة. ويتعمق شوقي بعد ذلك في توضيح فضل الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو صاحب الفضل والبر والاحسان والمعروف، وأن المؤمن من يأخذ عنه هذه الأخلاق الحميدة ويلتزم بها.

_ (1) العبرة: الدمع. (2) أمير الأنبياء: هو محمد صلّى الله عليه وسلّم ولزوم بابه كناية عن الالتجاء إلى كرمه وعدم الانحراف عن التوسل به في قضاء الطلبات. (3) العرافة: المعروف.

ويقول: علقت من مدحه حبلا أعز به ... في يوم لا عز بالانساب واللحم «1» يزرى قريضي زهيرا حين أمدحه ... ولا يقاس إلى جودى لدى هرم «2» فقد أراد الشاعر أن يؤكد بأنه حين مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم أراد بمدحه هذا أن يكون بينه وبين الرسول صلّى الله عليه وسلّم علاقة وطيدة تعزه يوم لا عز ولا كرامة إلا بشفاعة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، في هذا اليوم الذي لا يشفع فيه حسب ولا نسب ولا مال ولا سلطان، والكل سواسية أمام الحق لا يتمايزون بأعمالهم الصالحة ويؤكد شوقي أن مدحه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأعمال الصالحة التي يعتز بها المؤمن يوم القيامة. ويعتبر شوقي أن مدحه للرسول الكريم يقلل من قيمة شعر زهير بن أبي سلمى حينما مدح هرم بن سنان وأجزل هرم له العطاء «3» . وقد شبه شوقي الشفاعة بالحوض الذي يروى العطشى يوم القيامة. ويقول أمير الشعراء في مدح المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: محمد صفوة البارى ورحمته ... وبغية الله من خلق ومن نسم «4» وصاحب الحوض يوم الرسل سائلة ... متى الورود وجبريل الأمين ظمى «5»

_ (1) اللحم: جمع لحمة وهي القرابة. (2) يزرى: يعيب، والقريض: الشعر، وزهير: هو زهير بن أبي سلمى كان سيدا غنيا في الجاهلية معروفا بالحلم والحكمة شاعرا فحلا، وهرم: هو هرم بن سنان بن أبي حارثة المري. (3) يقول زهير يمدح هرم بن سنان: أن الخليط أجد البين، فانفرقا ... وعلق القلب من أسماء ما علقا وفارقتك برهن لا فكاك لا له ... يوم الوداع فأمس الرهن قد غلقا قد جعل المبتغون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا ان تلق يوما على علاته، هرما ... تلق السماحة منه والندى خلقه (ديوان زهير بن أبي سلمى) (4) النسم: جمع نسمة وهي النفس أو هي الانسان. (5) وجبريل الأمين ظمى: الملائكة لا تظمأ فلعل مراده بالظمأ هنا لازمة وهو الطلب أي للناس بمعنى أن حاله تقتضي ذلك اشفاقا على حالهم لما يرهقهم من شدة الظما وحرج الموقف.

سناؤه وسناء الشمس طالعة ... فالجرم في فلك والضوء في علم «1» قد أخطأ النجم ما نالت أبوته ... من سؤدد باذخ في مظهر سنم «2» نمو اليه فزادوا في الورى شرفا ... ورب أصل لفرع في الفخار نمى «3» حواه في سبحات الطهر قبلهم ... نوران قاما مقام الصلب والرحم «4» فقد اختار الله جل شأنه محمدا رسولا لتبليغ اخر رسالة سماوية، ويكفي المسلمين أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد جمع كل الفضائل، فهو الرحمة المهداة من الله عز وجل إلى الناس أجمعين، وهذى هي إرادة الله في اختيار محمد صلّى الله عليه وسلّم وتكريمه بين كل الرسل والأنبياء والناس أجمعين. ويحاول شوقي أن يجعل من الرحمة مرادفا للماء فيصف الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأنه صاحب الحوض، وصاحب الكلمة في الماء يوم لا يملك إنسان أن يتحكم في العطش والري حتى الرسل وحتى جبريل الأمين، سر الوحي، فلا أحد يعرف من سيرويه، وعمن سيحجب الماء؟ ويصف شوقي الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأنه في رفعته ونوره يماثل الشمس في علوها ونورها حتى أنه يرفعه عن الأفلاك والأجرام وحتى أن النجم قد أخطأ في تقدير مكانته وارتفاعه وشرفه، فهناك من هو أرفع منه مقاما وسيادة ورفعة ونورا ألا وهو الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وأن هذه النجوم والكواكب نسبت إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بصفاتها التي تفخر بها كالعلو والضياء، فالأصل هنا ينتمي للفرع على غير العادة. ويقول: لما راه بحير قال نعرفه ... بما حفظنا من الأسماء والسيم «5»

_ (1) سناؤه: رفعته وسناه، العلم: العالم. (2) السؤدد: السيادة والباذخ: العالي، والسنم (ككتف) : المرتفع، وأبويه: أي ذو وأبوته والأبوة المعنى مأخوذ من الأب كالأخوة والبنوة. (3) نموا: نسبوا. (4) السبحات: موضع السجود، وسبحات وجه الله: أنواره. (5) السيم: العلامة: وبحيرا: الراهب النصراني المشهور.

سائل حراء والروح القدس هل علما ... مصون سر عن الادراك منكتم «1» وهنا يعرض لنا شوقي ملامح النبوة المبكرة التي ظهرت على الرسول (ص) من خلال المواقف التي تعرض لها في صغره ويبدأ بذكر موقف بحير الراهب النصراني الذي تعرف على الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم في أثناء رحلته من مكة إلى الشام من خلال علمه بسمات وصفات النبي والرسول القادم والخاتم، ثم يؤكد أن معرفة سر النبوة مستحيل في ذلك الوقت، ولا أحد يدري إلا إذا استطاع أن يسأل جدران الغار الصماء والتي كانت تحفظ سر النبوة كشاهد عيان عليها أو أن يسأل جبريل عليه السلام فهو الذي أمر بابلاغ هذه النبوة، وفي كلتا الحالتين يكون الأمر مستحيلا والسؤال محالا. ويقول: كم جيئة وذهابا شرفت بهما ... بطحاء مكة في الاصباح والغسم «2» ووحشة لابن عبد الله بينهما ... اشهى من الانس بالاحباب والحشم «3» يسامر الوحى فيها قبل مهبطه ... ومن يبشر بسيمي الخير يبتسم «4» لما دعا الصحب يستسقون من ظما ... فاضت يداه من التسنيم بالسنم «5» وهكذا يتحدث شوقي عن الطريق المشرف الذي شرفه الرسول جيئة وذهابا بين داره وبين غار حراء في كل صباح ومساء، وكان الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم قد تفرغ للذهاب صباحا ومساء إلى الغار ليعتكف ويتقرب إلى الله ويتعبد هناك على دين إبراهيم الخليل وهذه الجيئة والذهاب قد كانت تأخذ منه جهده ووقته كله وهي

_ (1) حراء: جبل بمكة في غار كان يتعبد فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل الرسالة روح القدس: جبريل عليه السلام، مصون: وصف مؤكد للسر المصون لأن السر لا يكون إلا كذلك وينكير (سر) للتعظيم. (2) البطحاء: المسيل الواسع فيه دقاق الحصى، القسم. الاساء وظلمة الليل. (3) ابن عبد الله: هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، الحشم: الخدم الخاصون بمولاهم الوحشة: الخلوة والهم. (4) مهبطه: هبوطه. (5) التسنيم: ماء بالجنة يجري فوق العرف، وسنم الاناء تسنيما: ملأت.

أشهى إليه من مخالطة الأهل والأصدقاء، ولعلنا ندرك معنى اخر قد يكون أكثر صوابا، إنه بين ذهابه وجيئته هذه كان يجلس في بيته أيضا وحيدا معتكفا يتفكر ويتعبد وكانت أشهى وأحب إلى نفسه، وفي أثناء هذه الخلوة كان عليه الصلاة والسلام يناجي ربه طالبا الخير، وقد اتصف الرسول صلّى الله عليه وسلّم بهذا الخير فهو الصادق الأمين بين قومه ولعل هذا في حد ذاته خير. ويتحدث شوقي بعد ذلك عن معجزات الرسول والدلائل التي تؤكد أنه المختار والمصطفى والمبعوث رحمة من عند الله تعالى فيذكر الشاعر واقعة سقاية الصحابة من كف رسول الله عليه الصلاة والسلام عند ما ضرب بها الأرض ففاضت الماء وسقت كل الصحابة وكل الحيوانات التي كانت معهم وفاضت عن حاجتهم. ويقول الشاعر: وظللته فصارت تستظل به ... غمامة جذبتها خيرة الديم «1» محبة لرسول الله اشربها ... قعائد الدير والرهبان في القمم «2» ان الشمائل ان رقت يكاد بها ... يغرى الجماد ويغرى كل ذى نسم وبذلك يؤكد الشاعر فضل الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومعجزاته بوصفه السحابة التي ظللته وهو في طريقه من مكة متجها إلى الشام في رحلته مع عمه أبي طالب وبأن خير الأمطار تجمعت في هذه الغمامة وأنها لم تكن تظلل الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإنما كانت تستظل بوجوده الشريف، ويستمر شوقي في وصف هذه الواقعة فيقول أن بحيرا الراهب الجالس في ديره بين الرهبان الصادقي الإيمان قد رقت شمائلهم وأحسوا بأن الرسول الخاتم قد ظهر وأظلهم.

_ (1) الديم: جمع ديمة وهي المطر الدائم. (2) القعائد: قعيدة وقعائد الدير ملازموه من متنسكة النصاري والقمم جمع قمة وهي أعلى الرأس والمراد بها أعالي الجبل.

ويقول: ونودى اقرأ تعالى الله قائلها ... لم تتصل قبل من قيلت له بفم هناك اذن للرحمن فامتلأت ... اسماع مكة من قدسية النغم «1» فلا تسل عن قريش كيف حيرتها ... وكيف نفرتها في السهل والعلم «2» تساءلوا عن عظيم قد ألم بهم ... رمى المشايخ والولدان باللمم «3» يا جاهلين على الهادي ودعوته ... هل تجهلون مكان الصادق العلم «4» لقبتموه أمين القوم في صغر ... وما الأمين على قول بمتهم فاق البدور وفاق الأنبياء فكم ... بالخلق والخلق من حسن ومن عظم وهنا يعرض الشاعر موضوع بعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ويصف قول جبريل الأمين حينما أمر الرسول: (اقرأ) .. ويصف الشاعر قوله (اقرأ) بأنها أمر منزّل من الله تعالى على سيد الخلق بواسطة جبريل الأمين، وكأن صوت الله هو الذي وصلها بذاته، فلم تتصل هذه الكلمة بفم بشر قبل ذلك بمثل هذه الحلاوة وهذه الطلاوة، ويستمر الشاعر في الوصف فيصف خروج الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة ورفعه للاذان هناك حتى امتلأت أسماع أهل مكة بهذه النغم المقدس ألا وهو دعوة الرسول إلى التوحيد والإيمان وترك عبادة الأصنام. ويتعرض الشاعر لأثر الحدث العظيم الذي أصاب أهل مكة بهذه الدعوة التي جاءتهم عبر رجل منهم مشهور بينهم يتسم بالصدق والأمانة ولكن هذه الدعوة اختلفوا في استقبالها وتقبلها، فاختلفت الاراء بين مؤيد ومعارض، وهنا يتدخل الشاعر ويصف المعارضين للرسول الكريم بالجهل والتجاهل لأيام خلت قبل هذه الدعوة كانوا وقتها جميعا يعترفون بأنه الصادق الأمين، وهل يمكن لمن لقيتموه بالأمين في صغائر أمورهم

_ (1) اذن للرحمن: دعا إلى الله، من قدسية النغم: المطهر المنزه عن تطريب الغناء. (2) فلا تسل: يعني أن الأمر واضح غني عن السؤال يقال عند ظهور الأمر ووضوحه لا تسأل، العلم: الجبل. (3) الم: نزل، واللمم (محركة) : الجنون. (4) العلم: الظاهر والمشتهر، والجاهلون على الهادي: المتعنتون.

أن يتهموه ويكون كاذبا في أمر جليل كهذه الدعوة الربانية الخالصة؟! ويتدخل الشاعر مرة أخرى ليصف مناقب الرسول صلّى الله عليه وسلّم مادحا أياه بالعلو في مكانته، فالرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم قد فاق وتخطى مكانة البدور والكواكب والشموس، وتقدم على سائر الأنبياء والرسل باختيار الله له كخاتم لهم ورسالته اخر الرسالات، فقد وهبه الله عظمة الخالق وعظمة الخلق، وهو لهذه الصفات التي لم يتصف بها بشر قبله خير الناس وأحسنهم وأفضلهم عند الخالق وعند الخلق. ويقول: جاء النبيون بالايات فانصرمت ... وجئتنا بحكم غير منصرم «1» آياته كلما طال المدى جدد ... يزينهن جلال العتق والقدم «2» يكاد في لفظه منه مشرفة ... يوصيك بالحق والتقوى وبالرحم يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة ... حديثك الشهد عند الذائق الفهم حليت من عطل جيد البيان به ... في كل منتشر في حسن منتظم «3» بكل قول كريم أنت قائله ... تحيى القلوب وتحيى ميت الهمم «4» فيسترسل شوقي في المقارنة بين النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وما أعطاه الله من معجزات وايات بينات وبين من سبقه من الرسل والأنبياء فيذكر من سبقوه على الرغم من حبنا وتقديرنا لهم وإيماننا بهم وبما أنزل الله عليهم من ايات إلا أن هذه الايات قد انتهت بسبب تحريف البشر لها، لكن ايات الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم فهي كتاب الله الذي وعد الله بحفظه قال سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ صدق الله العظيم، إن هذه الايات مهما طال عليها المدى ومر الزمن وتغيرت العادات والتقاليد من جيل إلى جيل ومن عصر إلى عصر

_ (1) انصرمت: انقطعت، منصرم: منقطع، الحكيم: القران. (2) جدد: جمع جديد كسرور وسرير. (3) عطل: يقال عطلت المرأة عطلا إذا لم يكن علها حلي. (4) مهج: جمع مهجة وهي دم القلب.

ومن بلد إلى بلد فهي جديدة دائما ملائمة في أحكامها وشرائعها لكل عصر ولكل أوان، وعلى الرغم من هذه الجدة فهي جليلة عتيقة قديمة قدم الكون وأن أحكامها تشمل الرحمة والتقوى، وما من مكرمة لبني البشر إلا وهي مذكورة بين دفتي هذا الكتاب العظيم، ويخرج الشاعر من الحديث عن القران إلى السنة النبوية المشرفة فيصف صاحبها عليه الصلاة والسلام بأنه أفصح من نطق اللغة العربية على الرغم من أنه كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة ومع ذلك فإن لحديثه وقعا عذبا في أذن المستمع الفاهم، ويصف هذا الحديث مرة أخرى بأنه الدرر التي زينت هذه اللغة فأعطاها طعما جديدا وحلاوة جديدة في شعرها وفي نثرها فما من شاعر أو ناثر إلا وقد استمد من بيان القران الكريم وأساليب الحديث الشريف، استمد معظم تشبيهاته وخيالاته وتراكيبه اللغوية، حتى أن كل كلمة أو حديث نطق به الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم كان يحيى القلوب الميتة ويحيى الهمم الميتة. ويقول: سرت بشائر الهادى ومولده في ... الشرق والغرب مسرى النور في الظلم تخطفت مهج الطاغين من عرب ... وطيرت أنفس الباغين من عجم ريعت لها شرف الأيوان فانصدعت ... من صدمة الحق لا من صدمة القدم «1» فيتحدث شوقي عن يوم مولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما حدث من اشارات ومواقف في الشرق والغرب فيقول لقد انتشرت البشائر بمولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الشرق والغرب كما يسري النور في الظلام فيبدده، فهذه الأنوار قد أفزعت قلوب الطغاة من العرب، وأقلقت نفوس الباغين من غير العرب، واهتز لها سلطان الأكاسرة، فهوى الايوان وسقطت الشرفات «2» .

_ (1) ريعت: ذعرت وخافت، وشرف جمع شرفة وهي ما يوضع على القصور ونحوها، والقدم: جمع قدوم. (2) مولد الرسول في مكة: ابن مارينه كان مسيحيا ينتقل بين فارس ومضارب الاعراب فساعد عملية تصدع الايوان وخمود النار وجفاف بحيرة سواه، ويبدو أنه كان على صلة بالرهبان فأخبر بذلك، فهذا دليل على ربط بمولد النبي صلّى الله عليه وسلّم.

ويقول شوقي: اتيت والناس فوضى لا تمر بهم ... إلا على صنم قد هام في صنم والأرض مملوءة جورا مسخرة ... لكل طاغية في الخلق محتكم مسيطر الفرس يبغي في رعيته ... وقيصر الروم من كبر أصم عم يعذبان عباد الله في شبه ... ويذبحان كما ضحيت بالغنم والخلق يفتك أقواهم بأضعفهم ... كالليث بالبهم أو كالحوت بالبلم «1» وهو هنا يتوجه بحديثه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول: لقد جاء مولدك يا رسول الله والناس حياتهم فوضى، وعقائدهم فوضى، تراهم دائما هائمين أمام الأصنام، ومن يراهم يحسبهم أصناما لا يكاد يفرق بين الصنم الحقيقي، والصنم البشري، وقد أتيت يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والأرض مليئة بالظلم يسخرها الطغاة لمصالحهم الشخصية، ويتحكمون في خلق الله الضعفاء. فهذا كسرى في الشرق يتحكم في شعبه بالغي والعدوان، وهذا قيصر الروم في الغرب يتحكم في شعبه بالكبر والظلم، وهو عن الحق أعمى أصم، فهما يعذبان الرعايا من عباد الله بلا تهمة أو جرم، إنما يأخذان بالشبهات، ويعملان فيهم بالذبح كما تذبح الأغنام عند الأضحية. والناس كذلك يظلم القوي منهم الضعيف، ويفترسه كالأسد الذي يفتك بولد الغنم الصغير الضعيف، أو كالحوت يلتقم صغار السمك. ويقول كذلك: أسرى بك الله ليلا إذ ملائكة ... والرسل في المسجد الأقصى على قدم «2» لما خطرت به التفوا بسيدهم ... كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطر ... ومن يفز بحبيب الله يأتمم «3»

_ (1) البهم: جمع بهمة وهي ولد الضأن والمعاز، والبلم، صغار السمك. (2) المسجد الأقصى: بيت المقدس، على قدم: القائمون محتشدون. (3) ذو خطر: ذى قدرة منزلية، ويأتمم أي يأتم.

فيتحدث خلال هذه الأبيات عن مسرى الرسول صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى بيت المقدس بفلسطين حيث يجد الملائكة وكل الرسل ينتظرونه قائمين مرحبين مستبشرين برؤية خاتم النبوة ويصف دخول الرسول صلّى الله عليه وسلّم ساحة المسجد حيث التف حوله كل من كان حاضرا في هذه الليلة التفاف المرؤوسين حول الرئيس أو القوم بسيدهم والنجوم بالبدر أو الجند حول الراية، ويتقدمهم صلّى الله عليه وسلّم ليأمهم في الصلاة ويصلي وراءه كل الأنبياء والملائكة، ويؤكد شوقي في هذه الأبيات أن كل من يؤمه الرسول فهو فائز في الدنيا والاخرة. ويقول: جبت السماوات أو ما فوقهن بهم ... على منورة درية اللجم «1» ركوبة لك من عز ومن شرف ... لا في الجياد ولا في الأينق الرسم «2» مشيئة الخالق الباري وصنعته ... وقدرة الله فوق الشك والتهم وهنا يتحول شوقي في حديثه إلى المعراج حيث بدأ من المسجد الأقصى صعودا إلى السموات العلا ويصف رحلته على البراق، الدابة التي أوجدها الله لتكون وسيلة لنقل الرسول صلّى الله عليه وسلّم خلال رحلته إلى السماوات ولكونها من خلق الله المكرمين فهي دابة قدسية منورة ذات لجام من الأحجار الكريمة والدرر وجعلها ركوبة لسيدنا ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم كنوع من التشريف والتكريم وليس لها نظير لا بين الجياد ولا بين النوق العربية السريعة فهي معجزة من معجزات الله سبحانه وتعالى لتكريم محمد عليه الصلاة والسلام ولوضعه في المكانة اللائقة به كخاتم للأنبياء والمرسلين. ويمضي في حديثه عن المعراج فيقول: حتى بلغت سماء لا يطار لها ... على جناح ولا يسعى على قدم وقيل كل نبي عند رتبته ... ويا محمد هذا العرش فاستلم

_ (1) بهم: أي بملابسه، منورة اللجم: البراق. (2) من: في قوله (من عز ومن شرف) للتعليل وأي لأجل عزك وشرفك، الأنيق: الرسم: النوق الشديدة الوطء لقوتها كأنها ترسم في الأرض بمشيها اثار الظاهرة والرسم واحدها رسوم، والجياد: جمع جواد وهو الفرس الرائغ اللبين الجودة.

ليصل بنا السماء السابعة حيث لم يصل إليها أي إنسان ولا أي نبي من قبل لا على الأقدام ولا بمعجزة من المعجزات وعندما وصل الرسول الكريم إلى السماء السابعة دوى صوت يأمر جميع الأنبياء الوقوف كل في موقعه وعند درجته من السماء ويؤذن لسيدنا محمد بالاقتراب من العرش فهذا هو موقعه في القمة والصدارة من الأنبياء. ويقول: خططت للدين والدنيا علومهما ... يا قاريء اللوح بل يالامس القلم «1» أحطت بينهما بالسر وانكشفت ... لك الخزائن من علم ومن حكم «2» وضاعف القرب ما قلدت من منن ... بلا عدد وما طوقت من نعم «3» فيتحدث شوقي عن مدى تعلم الرسول صلّى الله عليه وسلّم واستفادته من علوم الدين والدنيا ليلة الاسراء والمعراج ويقول ابن عباس رضى الله عنه: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: (علمني ربي ليلة الإسراء علوما شتى فعلم أخذ على كتمانه وعلم خيرني فيه وعلم أمرني بتبليغه) صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. بهذه العلوم التي أحاط بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد أن قرأ اللوح المحفوظ وكاد أن يلامس القلم الذي يكتب به هذا اللوح قد أحاط بالأسرار وبكل ما في خزائن الدنيا والسماوات من علوم ومن حكم ومن أوامر ونواه. ويقول: سل عصبة الشرك حول الغار سائمة ... لولا مطاردة المختار لم تسم «4»

_ (1) خطط للدين والدنيا: كناية عن تعليمها للناس وبثها فيهم وقراءة اللوح ولمس القلم كناية عن اطلاع الله له على ما أطلعه عليه من الغيوب. (2) وانكشفت لك الخزائن: عن ابن عباس رضى الله عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: علمني ربي ليلة الإسراء علوما شتى فعلم أخذ على كتمانه وعلم خيرني فيه وعلم أمرني بتبليغه. (3) القرب: قربه من الله تعالى. (4) عصبة الشرك: أي عصبة أهل الشرك الذين ذهبوا يطلبونه صلّى الله عليه وسلّم يوم هجرته، والغار كالثقب بجبل أسفل مكه، سائمه: راعية.

هل أبصروا الأثر الوضاء أم سمعوا ... همس التسابيح والقران من أمم «1» وهل تمثل نسيج العنكبوت لهم ... كالغابات والحائمات والزغب كالرخم «2» وبهذا يتعرض لحادثة الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة وكيف خرج الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم مع صديقه أبي بكر الصديق، ولا ختفائهما في الغار، ومطاردة كفار مكة لهما ووقوفهم على باب الغار وقد أمر الله العنكبوت أن ينسج بيته على مدخل الغار وأن تضع الحمامة بيضها في عش قد بنته في طرفة عين، وعلى الرغم من رقة نسيج العنكبوت وفزع الحمائم عند اقتراب أي انسان إلا أن المشركين لم يستطيعوا أن يروا نور الرسول صلّى الله عليه وسلّم ينبعث من الغار، فقد أعمى الله أبصارهم ولم يسمعوا قراءة القران أو التسابيح والدعوات التي كان الرسول وصاحبه الكريم الصديق يتلوانها، وعلى الرغم من قرب الكفار منهم فقد أصم الله اذانهم. ويقول: فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم ... كباطل من جلال الحق منهزم «3» لولا يد الله بالجارين ما سلما ... وعينه حول ركن الدين لم يقم «4» تواريا بجناح الله واستترا ... ومن يضم جناح الله لا يضم «5» يبين شوقي هنا كيف ارتد الكفار على أعقابهم خائبين يجرون أذيال الفشل وكأن الملائكة والأنس المسلمين يلعنونهم لباطلهم ولما أضمروه من شر لرسول الله الكريم صلّى الله عليه وسلّم الذي يمثل جلال الحق وقوته، ونرى شوقي يؤكد أن الله عز وعلا هو الذي حمى هذين الصاحبين المهاجرين من عصبة الشرك، وحمايته لهما

_ (1) من امم: من قرب. (2) الغار: الشجر الكثير المتكاثف، والحائمات الزغب: الحمام، الرخم: جمع رخمه وهي طائر على شكل النسر. (3) فأدبروا: شبه أدبارهم ونكوصهم على أعقابهم خائبين يدمغ الباطر وادحاضه. (4) الجاران: الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر الصديق رضى الله عنه، يد: النعمة عينه: عناية. (5) جناح الله: لطفه وستره، ويضم: يضمه.

لتم كشف مكانهما ولما وصلا إلى المدينة، ولكن حكمة الله هي التي سترتهما، وجناح الله هو الذي حماهما وضمهما، ومن يستظلون بجناح الله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ويقول: يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي ... وكيف لا يتسامى بالرسول سمى «1» المادحون وأرباب الهوى تبع ... لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم «2» مديحه فيك حب خالص وهوى ... وصادق الحب يملى صادق الكلم «3» الله يشهد أني لا أعارضه ... من ذا يعارض صوب العارض العرم «4» وانما أنا بعض الغابطين ومن ... يغبط وليك لا يذمم ولا يلم «5» هذا مقام من الرحمن مقتبس ... ترمى مهابته سحبان بالبكم فلا ينسى أمير الشعراء أحمد شوقي هنا أن يفخر بأنه تسمى باسم الرسول صلّى الله عليه وسلّم أحمد، ويؤكد أن تسميته باسم الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو غني وجاه وعلو في المقام لمجرد أن يتصف بصفة الحمد ويتبع هذا الثناء بقوله بأن كافة المادحين والمحبين لرسول الله الكريم صلّى الله عليه وسلّم هم توابع للمادح الأول والمحب الأول صاحب البردة العظيمة الامام البوصيري، فقد كان مديحه للرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم نوعا من التدين الخالص الصادق، والحب لهذه المباديء السامية وهذه الصفات الكريمة التي بعث عليها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وحب الامام البوصيري صادق وعميق لأن ما عبر

_ (1) أحمد: من أسمائه صلّى الله عليه وسلّم أحمد وقد سمى الشاعر به تيمنا باسم الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وسلّم) ، ويتسامى: يتعالى. (2) تبع: أخبر أي ذو وتبع أي مقتدرون به، والقدم: التقدم والمنزلة، صاحب البرده: الإمام البوصيري. (3) مديحه: حب أي ناشيء من الحب أو ذو حب أي حال عليه. (4) الصوب: الانصباب، ومجيء السماء بالمطر، العارض: السحاب المعترض في الأفق والعرم: يريد المطر الشديد. (5) الغابط: الذي يتمنى مثل ما للغير وليس هذا القدر بمذموم يذم. البكم: الخرس وسحبان: هو سحبان وائل من بني بأهله كان يضرب بفصاحته المثل.

به عن حبّه الرسول اكتسب عظمة ورقيا من ذلك الصدق في الحب، فأن الحب الصادق يعطي المعنى الصادق في الكلمة الصادقة ويتواضع شوقي تجاه هذا الشاعر العظيم ويقر حالفا بالله بأنه لم يقصد بكتابته (نهج البرده) أن يعارضه، وإنما هو يعرف أن هذ الشاعر لا يمكن أن يضاهي، فالإمام البوصيري في نظر شوقي كالسيل الممطر، والسحاب المعترض في الأفق، فهل يستطيع شوقي بتواضعه أن يكون على نفس المستوى الفني؟! وهو يقر مرة أخرى أنه لا قبل له بهذا الشاعر الكبير وإنما يتمنى أن يكون إلى جواره طالبا من الله أن يحتسب شعره مديحا إلى جوار مدح الإمام البوصيري لخير البشر، ويقول شوقي: أن تعرضه لمدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم يصيبه بالبكم وكأنما هو أبكم أمام فصاحة سحبان الذي يضرب بفصاحته المثل وكأنما يريد شوقي أن يبين وقوفه أمام البردة للإمام البوصيري وفي ذهنه القول الشهير (أين الثرى من الثريا) وهذا نوع هو التواضع المطلوب في شاعر كبير ليكون المثل الأعلى للأجيال المقبلة في قول الشعر. ويمضي شوقي فيقول: البدر دونك في حسن وفي شرف ... والبحر دونك في خير وفي كرم شم الجبال إذا طاولتها انخفضت ... والأنجم الزهر ما واسمتها تسم «1» والليث دونك بائسا عند وثبته ... إذا مشيت إلى شاكي السلاح كمي «2» فيعلن أن البدر والبحر والجبال والنجوم والاساد، بل كل هذه الأشياء الحسية الموجودة ما هي إلا صغائر إذا قورنت بالرسول صلّى الله عليه وسلّم البدر في الحسن والبحر في عطائه وخيره وكرمه، والجبال في علوها ورفعتها، والأنجم الزهر في لمعانها وازدهارها، والأسد في الشجاعة وقوة البأس على الأعداء، كل ذلك لا يساوي القليل إلى جانب الرسول صلّى الله عليه وسلّم.

_ (1) تسم: يقال: واسمه في الحسن فوسمه، قلبه فيه، انخفاض الجبل كناية عن ظهورها قصيرة بالنسبة لارتفاع قدره صلّى الله عليه وسلّم وعلو شأنه. (2) الكمى: لا بس السلاح.

ويقول: تهفو إليك وان أدميت حبتها ... في الحرب أفئدة الأبطال وإلبهم «1» محبة الله ألقاها وهيبته ... على ابن امنة في كل مصطدم «2» كأن وجهك تحت النقع بدر دجى ... يضيء ملتثما أو غير ملتثم «3» بدر تطلع في بدر فغرته ... كغرة النصر تجلو داجي الظلم «4» ذكرت باليتم في القران مكرمة ... وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم «5» وبذلك يستمر شوقي في وصف شجاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيقول: أنه مع شجاعته وقوة بأسه في الحرب تميل إليه قلوب الأبطال والشجعان فلا يخافون مما قد يصيب قلوبهم من جراء هذا الاندفاع في الزود عنه وذلك للمحبة التي وضعها الله في قلوب المسلمين الشجعان نحو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. وينتقل شوقي بعد ذلك إلى وصف وجه الرسول عليه الصلاة والسلام فيقول: أنه يضيء في غبار المعركة كما يضيء البدر في الظلام ووجهه عليه الصلاة والسلام كان في موقعة بدرا كالقمر ضوؤه ضوء النصر الذي يبدد ظلام الشرك والكفر، فضياؤه كان نورا وضاء للمسلمين يلوح ببشائر النصر، ثم يتحدث عن يتم الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيشير إلى قول الله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى صدق الله العظيم.

_ (1) تهفو: هفا الظبي في المشي يهفوا وهفوانا: اسرع وخف فيه المراد هنا شدة ميل القلوب له وانجذابها إليه صلّى الله عليه وسلّم، حبة القلب تعني سويداؤه والبهم: جمع بهمه وهو الشجاع. (2) مصطدم: المصدم أي الاصطدام أو الموضع أي موضع الاصطدام وهو ميدان الحرب. (3) النقع: غبار الحرب. (4) بدر: موضع بين الحرمين الشريفين وفيه كانت الغزوة المشهورة التي دمغ الله فيها الشرك وأعز الإسلام. (5) اليتم في الناس: فقدان الأب وهو في الأشياء التفرد وعدم وجود نظائر لها واللؤلؤة اليتيمة التي لا نظير لها في العقد، ذكرت باليتم في القران يشير إلى قوله تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) وحرك التاء اتباعا لحركة العين قبلها في قوله (الثتم) ولا يخفي ما فيه من حسن التعليل.

ويعلق على ذلك بأن هذا اليتم كان شيئا نبيلا ودلائل عظيمة ومصدر تكريم للرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو بذلك متفرد كاللؤلؤ كان وحيدا كلما كان ذا قيمة لا نظير لها. ويقول: الله قسم بين الناس رزقهم ... وأنت خيرات في الأرزاق والقسم «1» ان قلت في الأمر: لا، أو قلت فيه: نعم ... فخيره عند الله في لا منك أو نعم ولعله يقصد من خلال هذه الأبيات إلى أن الله سبحانه وتعالى قد خير الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الرزق وفي هذا يتفرد بين البشر، فالرزق مقسوم بين الناس ولا خيرة لهم في ذلك إلا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد خيره الله في الرزق ولعل شوقي يشير بذلك إلى الحديث الشريف مما رواه الترمذي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (عرض على ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت لا يا ربي، ولكن أشبع يوما فأحمد الله وأجوع يوما فأذكر الله) صدق رسول الله. ثم يقول: أخوك عيسى دعا ميتا فقام له ... وأنت أحييت أجيالا من الرمم والجهل موت، فأن أوتيت معجزة ... فابعث من الجهل أو فابعث من الرجم «2» فنراه تحدث عن مكانة الرسول بين الأنبياء، فإذا كان عيسى عليه السلام بأمر الله قد أحيا الموتى، فأن الرسول محمدا عليه الصلاة والسلام قد أحيا أجيالا وأمما. أحياها وخلصها من الجهل، ويؤكد شوقي أن المعجزتين، أحياء الإنسان من الموت أو إحياؤه من الجهل والضلال تستويان، فمعجزة عيسى عليه السلام، ومعجزة محمد عليه الصلاة والسلام تستويان في أنهما أحياء للبشر، ولكن يفضل معجزة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم لأنه أحيا أمما وليس بضع أفراد.

_ (1) خيرات في الأرزاق: روى الترمذي عنه صلّى الله عليه وسلّم قال: عرض على ربي أن يجعل بطحاء مكة ذهبا فقلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما. (2) والجهل موت: كالترشيح للاستعارة في البيت السابق وهو تشبيه بليغ خطاب لغير معين، والرجم: القبر.

ويقول: قالوا غزوت، ورسل الله ما بعثو ... لقتل نفس ولا جاؤا لسفك دم جهل وتضليل أحلام وسفسطة ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم لما أتى لك عفوا كل ذي حسب ... تكفل السيف بالجهال والعمم «1» والشر إن تلقه بالخير ضقت به ... ذرعا وان تلقه بالشر ينحسم سل المسيحية الغراء كم شربت ... بالصاب من شهوات الظالم الغلم «2» طريدة الشرك يؤذيها ويوسعها ... في كل حين قتالا ساطع الحدم «3» لولا حماة لها هبوا لنصرتها ... بالسيف ما انتفعت بالرفق والرحم «4» لولا مكان لعيسى عند مرسله ... وحرمة وجبت للروج في القدم «5» اسمر البدن الطهر الشريف على ... لوحين لم يمش مؤذيه ولم يجم «6» جل المسيح وذاق الصلب شانئة ... ان العقاب بقدر الذنب والجرم «7» اخو النبي وروح الله في نزل ... فوق السماء ودون العرش محترم «8»

_ (1) العمم: اسم جمم للعمامة. (2) الغلم: الهائج الثائر. (3) الحدم: (بالتحريك) شدة احتراق النار. (4) الرحم: الرقة والمغفرة والتعطف. (5) المكان: المكان بمعنى القرب وارتفاع المنزلة لأن الله تعالى منزة عن المكان والجهة ووجبت: تثبتت له من القدم لأن الله تعالى علم الأشياء وأرداها أزلا فصارت واجبة بمعنى أنها لم تتخلف أبدا والخبرا محذوف في قوله (مكان) و (حرمة) أي ثابتان. (6) لسمر: جواب الشرط في البيت السابق، الطهر: الطاهر من أدران المعاصي ووصفت بالمصدر مبالغة، واللوحان: الصليب الذي أعد له صلّى الله عليه وسلّم والمراد بالتسمير: الصلب، لم يجب: لم يفزع. (7) جل المسيح: تنزه عما رماه به اليهود من كاذب التهم وباطل الأقاويل وعما زعموا من أنهم صلبوه وقتلوه (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) ، وشائنة: مبغضة، وحرك الراء في قوله والحرم اتباعا لحركة الجيم قبلها. (8) أخو النبي: أي في الرسالة روح الله أي روح منه قال تعالى: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) صدق الله العظيم وسمى روحا لا حيائه الموتى بإذن الله ولأنه نفخة من جبريل قال تعالى: (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) . صدق الله العظيم. ونسبة النفخ إلى الله تعالى مجاز، من: في الاية للابتداء، فوق السماء: أي الدنيا، محترم صفة.

فيتعرض شوقي لقول الكفار بأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد أخطأ عندما غزا وحارب، والرسل والأنبياء لم يبعثوا للقتل وسفك الدماء، ويعلق شوقي على قولهم هذا بأنه جهل وكذب وفلسفة فارغة، فإن الرسول لم يقم بالسيف ويحارب الكفار إلا بعد أن نشر الدعوة وعرضها في الرسائل الثلاثة الشهيرة (رسالة كسرى، ورسالة قيصر، ورسالة المقوقس) وعندما جاء للرسول رد هؤلاء الملوك برفض الدعوة تأكد من جهلهم فاضطر لاستخدام السيف ضد كل من يوصف بالجهل، وضد العوام من الناس، فإنهم أشرار بطبيعتهم ولا يمكن مخاطبة هؤلاء الأشرار بالموعظة الحسنة فكلما خاطبتهم وجدت فيهم ضيق أفقهم وضعف فهمهم ولا بد لك من أن تحسم هذا الموقف بالسيف، ونضرب مثلا على هذا بالمسيحية السمحاء الأولى كم حوربت على أيدي هؤلاء الجهال الظالمين فكانوا يطاردون معتنقيها بالإيذاء والقتل والحرق في كل حين ولولا أن قبض الله لها رجالا نصروها بالسيف، لما استطاعت أن تنتشر بالسماحة والرفق والرحمة ولولا أن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام له مكانة عزيزة عند ربه رفعه إلى السماء دون أن يمسه اليهود أو يصلبوه على لوحي الصليب، لقد رفع الله المسيح قبل الصلب والإيذاء، وعاقب الواشي بأن جعله يصلب مكان عيسى، وأن العقاب لا بد أن يكون من جنس العمل وبقدر الذنب الذي قام به هذا الرجل (يهوذا الأسخر بوطي) في حق المسيح عليه السلام، ويستطرد شوقي في وصفه بأنه أخو النبي عليه الصلاة والسلام في النبوة ويخصه بأنه روح الله قد نزل في جسد المسيح ولكنه دون العرش. ويقول: علمتهم كل شيء يجهلون به ... حتى القتال وما فيه من الذمم «1» دعوتهم لجهاد فيه سؤددهم ... والحرب اس نظام الكون والأمم

_ (1) الذمم: جمع ذمة وهي العهد والأمان والحق.

لولاه لم نر للدولات في زمن ... ما طال من عمد أوفر من دعم «1» تلك الشواهد تترى كل اونة ... في الأعصر الغر لا في الأعصر الدهم «2» فيسترسل شوقي في مدحه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقول: انه علم المسلمين كل شيء في حياتهم، حتى فنون الحرب والقتل وبخاصة ما فيه من العهود والحقوق وأصول الأمانة وحفظ الذمة للأسرى والمحافظة على جثث القتلى وعدم التمثيل بها، فقد دعا الرسول المسلمين للجهاد ونادى أن يكون فيه فخرهم وعزهم وعلوهم وان هذه الحرب هي الأساس الذي يا بنى عليه الكون وتقوم الأمم. والأسس والنظم التي تقوم من خلالها الدول مهما طال عليها الزمن أو ثبت حدودها، وهذه الشواهد والاثار تتوالى في كل زمن من الأزمان الحاضرة أو الأزمان الغابرة. ويقول الشاعر كذلك: بالأمس مالت عروش واعتلت سرر ... لولا القذائف لم تسلم ولم تصم «3» ويؤكد أن هذه التغييرات بين نظام واخر وبين ملك واخر ما كانت لتتم لولا الحرب.

_ (1) عمد: جمع عمود، وقر: ثبت، دعم: جمع دعامة وهي عماد البيت وهي هنا كناية عما يستقيم به نظام الممالك ويرتفع شأن الأمم. (2) الغر: جمع أغر ذي الغرة وهي بياض في الجبهة، الأعصر الغر: التي ساد فيهم الظلم ما زالت الغلبة للقوة ولا زالت معتمد الدول ومستند الأمم في رفع عماد الملك وتثبيت دعامة الحكم، استوت في ذلك الأزمان السالفة إلى يظنونها أزمان تأخر وتقهقر والأيام الحاضرة التي يزعمونها أيام تقدم وتنور. (3) اعتلت: علت.

ويقول: أشياع عيسى أعدوا كل قاصمة ... ولم نعد سوى حالات منقصم «1» مهما دعيت إلى الهيجاء قمت لها ... ترمى بأسد ويرمى الله بالرجم «2» على لوائك منهم كل منتقم ... لله مستقتل في الله معتزم «3» وهنا ينتقل شوقي من خلال هذه الأبيات من عصر النبوة إلى عصرنا الحالي ويطرح مقارنة بين حال المسلمين وهم في انشقاق وفرقة وبين الجحافل الصليبية التي تعد العدة للانقضاض على المسلمين، وعلى الرغم من أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ضرب المثل فلم يسكت على الضيم ولم يدع إلى حرب أحس فيها أنه مظلوم إلا وقد قام في مقدمة المسلمين للقتال، وقد منحه الله إيمانا ومنح المسلمين في عهده ثقة بالله ونصرة لله وانتقاما لدين الله، وكأن شوقي يقول للمسلمين اتخذوا من الرسول عبرة وعظة تتواحدوا في ملاقاة عدوكم من يهود ونصارى. ويقول: مسبح للقاء الله مضطرم ... شوقا على سابح كالبرق مضطرم «4» لو صادف الدهر يبغي نقله فرمى ... بعزمه في رحال الدهر لم يرم «5» بيض مفاليل من فعل الحروب بهم ... من أسيف الله لا الهندية الخذم «6»

_ (1) قاصمة: كاسرة، ومنقصم: منكسر. (2) الهيجاء: الحرب، الرجم: النجوم التي يرمي بها. (3) على لوائك: أي منضو تحت لوائك استعارة العلو للتحية استعارة تمليحية. (4) الاضطرام: توقد النار وتأججها، سابح: جواد. (5) يبغى: يريد وشبه العزم بأسهم بجامع المضاء والنفوذ في كل وشبه الدهر بذى رحال بجامع التحول في كل وحذف المشبه به ورمز إليه بلازمه وهو الرحال على طريق الاستعارة المكنية، لم يرم: لم ينتقل ولم يتحول. (6) مفاليل: الفل الثلم في السيف، الهندية نسبة إلى الهند وكانت مشتهرة بصنع السيوف، والخذم: جمع خذم ككتف السيف القاطع، بيض: أي سيوف بيض. مفاليل: ترشيح للتشبيه بالسيوف.

فيشير شوقي إلى أن هؤلاء المقاتلين من المسلمين بقيادة الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) كانوا يقاتلون وهم يسبحون باسم الله رغبة في لقائه ورغبة في الشهادة كوسيلة لبلوغهم الجنة التي أعدت للشهداء والمتقين وكأن كلا منهم يركب مركبة سريعة لكي يصل إلى هذه الغاية النبيلة وهي الشهادة. ويصف شوقي هؤلاء المقاتلين العظماء بأنهم سيوف الله قد تثلمت من كثرة القتال وينفي عنهم الصفات الجمالية للسيف (كهندية الخذم) ، ولكن يؤكد وصفها (بالبيض) لشهرة هذه السيوف لازهاق أرواح الأعداء وأفنائهم. كم في التراب إذا فتشت عن رجل ... من مات بالعهد أو مات بالقسم «1» لولا مواهب في بعض الأنام لما ... تفاوت الناس في الأقدار والقيم ليبين أنه جراء هذه الغزوات وهذه الحروب الإسلامية التي قادها الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون من بعده قد مات كثير من الرجال الذين وهبوا أنفسهم لنصرة دين الله واستشهدوا في سبيله فما أكثر هؤلاء الذين ماتوا في سبيل حفظهم لعهداهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويؤكد أن لكل إنسان قدرته ودرجته في التقوى، وقدرته على الالتزام بمباديء الإسلام والعمل بها وبما عاهد عليه الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم ولولا ذلك لما اختلف قدر كل إنسان ومكانته وقيمته عند نيل الجزاء مما يشير إلى حديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم: (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) ، والتقوى هنا هي التقرب إلى الله بالعمل الصالح وليس أكثر من الاستشهاد في سبيل الله عمل صالح. ويقول: شريعة لك فجرت العقول بها ... عن زاخر بصنوف العلم ملتطم يلوح حول سنا التوحيد جوهرها ... كالحلي للسيف أو كالوشى للعلم «2»

_ (1) بالعهد: أي احتفاظا بمات وعد الله ورسوله عليه من نصرته للرسول (صلّى الله عليه وسلّم) ، من: تفضيل الحال الرجل أو تفصيل لمعنى كم. (2) الوشى: النقش.

إن الله قد وهبك يا رسول الله الشريعة السمحة في القران الكريم وفي أحاديثك النبوية الشريفة التي لم تنطقها عن الهوى وإنما هي وحي يوحى، هذه الشريعة وهذه القوانين المنزلة قد فجرت في نفوس المؤمنين وفي نفوس كافة الناس طاقات العقل البشرى التي جاءت بتعاليم عديدة وبذلت جهود لشرح هذه التعاليم والقوانين الإلهية، ولمحاولة للتعرف على تفاصيلها ودقائقها وتبسيط ما غمض على العامة منها ودحض معارضيها واسقاط حججهم وادعااتهم، وهذه الشريعة تدور في أساسها حول واحدانية الله سبحانه وتعالى، فواحدانية الله هي جوهر الكون وأساس العبادة، ويشبه الشاعر هذه الواحدانية بأجمل ما في السيف وهو المقبض المزين بالجواهر، وتشبيهه لهذه الجواهر بمقبض السيف ما هو إلا دلالة على قوة هذا الأساس ومتانته، كما أن تشبيهه لهذه الجواهر وهي الواحدانية بأنها نقش مرسوم على راية عالية ليرمز بذلك للقوة والتفرد في المكانة العليا، ويقول: غراء حامت عليها أنفس ونهى ... ومن يجد سلسلا من حكمة يحم «1» نور السبيل يساس العاملون بها ... تكفلت بشباب الدهر والهرم «2» يجري الزمان وأحكام الزمان على ... حكم لها نافذ في الخلق مرتسم لما اعتلت دولة الإسلام واتسعت ... مشت ممالكه في نورها التمم «3» وعلمت أمة بالفقر نازلة ... رعى القباصر بعد الشاء والنعم وهنا يحاول أن يبين مدى ظمأ الناس وتعطشهم لهذه الواحدانية منذ القدم فقد ظل الناس يحومون حولها، وتهفو إليها عقولهم، وتهين على عواطفهم ولا

_ (1) حامت: عطفت ومالت، نهي: جمع نهية وهي العقل، والسلسل: الماء العذب. (2) نور السبيل: إنها يهتدى بها إلى غاية النجاح والفلاح في الدنيا والفوز السعادة في الاخرة شباب الدهر والهرم: كناية عن أوله واخره أو حالة إقباله وإدباره وتكلفها بشباب الدهر.. إلخ، أي تكلفها بما يعلى أهلها ويصلح من شأنهم على كل حال من الأحوال بلا تغيير في أحكامها ولا تبديل لنصوصها. (3) التمم: التام.

يستطيعون إليها نفاذا إلا بظهورك يا رسول الله، ويمنحك الله جل وعلا معجزة القران الكريم وكأن هذه الشريعة الغراء نبع ماء طال من حوله الظمأ، فما أن راوه وما أن ظهرت هذه الرسالة، حتى اندفع هؤلاء العطشى للارتواء من هذا الماء العذب الزلال، وهذه الشريعة الغراء المتمثلة كما سبق أن قلنا في القران الكريم وفي السنة النبوية كالنور الذي يضيء الطريق أمام الناس لكي يهتدوا إلى السبيل الأصح والأقوم في سبيل الحياة الكريمة الطيبة، وأن هذه الشريعة هي النبراس للإنسان يهديها في معركة ترويض الغرائز وتحويل الطباع الهمجية، والنفوس الشريرة إلى الطريق المستقيم بما فيها من تشريع وبما فيها من قصص وعبر من الأمم السابقة يضرب الله بها المثل للناس أجمعين، فمن شاء فإنه يهديه إلى الصراط المستقيم، وهذه الشريعة قد رسمت- من خلال منهاج إلهي لا يأتيه الخطأ من أمامه ولا من خلفه- ما يحدث في الكون، وبينت تفاصيل ما يجري في المستقبل. ومن يتمسك بهذه الشريعة الغراء وبهذا القانون المحكم المنزل من السماء لابد أن يحكم العالم وينشر الخير والحب والتقوى على وجه الأرض، والدليل على ذلك أن دولة الإسلام الأولى منذ أيام حكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم وحتى رابع الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، قد اتسعت وسيطرت على كافة الممالك القديمة وطهرت بنور هذه الشريعة أدران النحل التي كانت منتشرة في تلك الممالك، ورفعت الظلم عن كافة الناس وسوت بينهم أمام الدولة وأحكام الله، وكان التشريع قد نزل على لسان الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم أن الناس سواسية كأسنان المشط، وقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ صدق الله العظيم. هذه الشريعة الغراء قد تمثلتها هذه الدولة الصغيرة البسيطة التي كانت لسنوات عديدة مجموعة من القبائل المتناحرة الكافرة، فصارت بهذه الشريعة أمة من المجاهدين الذين يضحون بأرواحهم، ليس في سبيل المال ولا في سبيل المجد، وإنما في سبيل نشر هذه الشريعة الحقة، والدين السمح؛ حتى أنها

عندما غزت وقهرت دولة الروم ودولة الفرس لم تطمع في ثراء هاتين الدولتين، ولكنها طمعت في نشر هذه الدعوى السمحاء بين أفرادهما. ويقول: كم شيد المصلحون العاملون بها ... في الشرق والغرب ملكا باذخ العظم للعلم والعدل والتمدين ما عزموا ... من الأمور وما شيدوا من الحزم «1» سرعان ما فتحوا الدنيا لملتهم ... وانهلوا الناس من سلسالها الشم «2» ساروا عليها هداة الناس فهي بهم ... إلى الفلاح طريق واضح العظم «3» لا يهدم الدهر ركنا شاد عدلهم ... وحائط البغي أن تلمسه ينهدم ليؤكد شاعرنا تأكيدا واضحا أن الأمة الإسلامية استمرت في هذه الفتوحات وهذا التوسع، فهي متمسكة بهذه الشريعة الغراء فوصل ملكها وحكمها إلى الهند والسند وأوربا وأفريقيا، وسيطر المسلمون بأفكارهم قبل سلاحهم، وبشريعتهم التي هي شريعة الله على عقول أهالي وسكان هذه المناطق التي فتحوها وصاروا أئمة وقادة وعلماء وقضاة علموا سكان العالم التدين والتحضر والتقدم على هدى الإسلام وتعاليمه حتى ظهر من هذه الأمم التي سيطرت عليها أفكارهم وشريعة الله علماء مثل: الخوارزمي من خوارزم، وابن خالدون من المغرب، وابن سينا من روسيا، والبخاري من بخاري.. وغيرهم من علماء وفلاسفة وشعراء المسلمين، وبهذه الفتوحات السريعة التي سيطروا بها على هؤلاء الأقوام حولوا كل الدنيا المعروفة ان ذاك إلى دولة التوحيد تحكم في ضوء شريعة الله، وكأنهم قد أعطوا الظمأى إلى واحدانية الله قداسة وطهارة هذا الدين

_ (1) الحزم: جمع حزام. (2) سرعان: اسم فعل يستعمل خبرا وخبرا فيه معنى التعجب يقال: سرعان ما فعل كذا أي ما أسرعه، والنهل: أول الشرب تقول أنهلت الإبل إذا اشربت من أول الورد، والسلسال: الماء العذب، والشم: البارد. (3) ساروا عليها: أخذوا بها وجروا على أحكامها، هداة الناس: أي حالة كونهم هادين للناس، فهي: أي بسبب قيامهم بها ونشرهم لها.

الإسلامي وجعلوهم يشربون ويروون الظمأ الذي طال بهم مداه. ويقول شوقي: نالوا السعادة في الدارين واجتمعوا ... على عميم من الرضوان مقتسم دع عنك روما وأثينا وما حوتا ... كل اليواقيت في بغداد والتوم «1» وخل كسرى وايوانا يدل به ... هوى على اثر النيران والأيم «2» واترك رعسيس، ان الملك مظهره ... في نهضة العدل لا في نهضة الهرم «3» دار الشرائع روما كلما ذكرت ... دار السلام لها القت يد السلم «4» ما ضارعتها بيانا عند ملتأم ... ولا حكمتها قضاء عند مختصم «5» ونراه يطرح في هذه الأبيات مقارنة بين شريعة الله سبحانه وتعالى التي أنزلها على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم وبين الشرائع والقوانين الوضعية فيتعرض للحضارة الرومانية وما سبقتها من حضارة اليونانيين (الأغريق) ويعرض لها قائلا: إذا قارنا بين الحضارتين وبين الحضارة الاسلامية لوجدناها أنها الكفة الراجحة وهي الذهب بين سائر المعادن، كما أنها الياقوت والفضة الخالصة بين الأحجار الكريمة، وإذا ما تعرضنا للفرس وزعيمهم كسرى، نجد أن الشاعر يصفه بأنه كان يتيه فخرا ودلالا على زعماء العالمين بهذا البناء القوى الذي يسمى (الأيوان) والذي نراه بمجرد البشارة بمولد النبي صلّى الله عليه وسلّم ينصدع ويهتز وتتهدم أركانه، بل يشب فيه الحريق ويلطخه الدخان، وفي العودة إلى الماضى نجد أن الشاعر يختار

_ (1) روما: هي المدينة المعروفة الان بهذا الاسم قاعدة لمملكة إيطاليا، أثينا: قاعدة مملكة اليونان الان، وبغداد: قاعدة الخلافة الإسلامية في دولة بني العباس، التوم: جمع تومه وهي الحبة الفضة تعمل على شكل الدرة. (2) كسرى: لقب لكل من يلي ملك فارس، والنيران: لعله يريد بها نيران فارس التي خبت ليلة مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان ذلك أيام كسرى أنور شروان، الإيم: الدخان. (3) الهرم: الأهرام في مصر كثيرة وأشهرها أهرامات الجيزة الثلاثة الفراعنة ملوك مصر وأكبرها أشهرها وأعجبها حتى إذا ذكر لفظ الهرم صرف إليه، رمسيس: أسم بعض الفراعنة. (4) دار السلام: بغداد، والسلم: التسليم. (5) ملتأم: مجتمع، مختصم: المصدر أي اختصام.

الحضارة الفرعونية ويؤكد أن قيمة الحضارة ليست في أهرامات ومقابر لتظل قائمة على مدى الأزمان، ولكن الحضارة هي إقامة العدل. ثم يعود مرة أخرى إلى الحضارة الرومانية ويتناول جانب التشريع ويقارن بين هذه التشريعات الرومانية وبين شريعة الله ويقول الشاعر: هناك تشريعات مكتوبة ومتناقضة عند الرومان، وهنا في الشريعة الإسلامية لا نجد إلا العدل والقسطاس يحكم به بين كافة البشر لا فرق بين حاكم ومحكوم، وسيد أو مسود، ولا غنى وفقير، فكلهم أمام الشريعة سواء. ومن هنا كان عدل الله في شريعتنا بينما نرى التشريع الروماني يحاسب السادة بكيل، والعبيد بكيل اخر. ويعرج الشاعر في المقارنة نحو لغة القانون الروماني ولغة القران الكريم وهو مصدر الشريعة الإسلامية فيؤكد أنه لا وجه للمقارنة بين الكتاب السماوي الكريم وبين الألفاظ والتراكيب الساذجة والركيكة والضعيفة التي صيغ بها التشريع الروماني. ويقول: ولا احتوت في طراز من قياصرها ... على رشيد ومأمون ومعتصم «1» من الذين إذا سارت كتائبهم ... تصرفوا بحدود الأرض والتخم «2» ويجلسون إلى علم ومعرفة ... فلا يدانون في عقل ولا فهم يطأطيء العلماء الهام أن نبسوا ... من هيبة العلم لا من هيبة الحكم ويمطرون فما بالأرض من محل ... ولا بمن بات فوق الأرض من عدم «3»

_ (1) الطراز: علم الثوب والجيد من كلشيء، ولا احتوت على رشيد ... إلخ أي على أمثالهم في الفضل والعدل والحزم، رشيد: هو هارون الرشيد، مأمون هو عبد الله المأمون بن هارون الرشيد ولى الخلافة يوم وفاة أخية المأمون. (2) الكتائب: جمع كتيبه وهي الجيش، والتخم: كعنق جمع تخوم وهو الفواصل بين الأرض من المعالم والحدود. (3) المحل: الجذب، العدم: فقدان المال.

ويستمر شوقي في المقارنة، فهو بعد أن قارن بين الحضارة الإسلامية وحضارات الأقدمين وبين الشرائع الإسلامية والتشريعات الاخرى، ينحو ناحية المقارنة بين الرجال الذين قاموا على هذه الحضارات ويضرب مثلا بقياصرة الروم رمزا لكل الملوك السابقين فراعين أو أكاسرة، مقارنا أياهم بخلفاء بني العباس الذين عاصروا بعضهم، وهل يمكن أن نقارن من خلال حب التملك وشهوة الظلم واذلال الرجال، وبين ما تميز به الخلفاء: الرشيد والمأمون والمعتصم وهم الذين كانوا يحجون عاما ويحاربون ويجاهدون في سبيل الله عاما اخر دفاعا عن حدود الله وثغور المسلمين في أرجاء المعمورة؟، هل نستطيع أن نقارن بين الظلم المتجسد في تصرفات هؤلاء القياصرة وبين نشر العدل عند هؤلاء الخلفاء ونقارن بين جهل أولئك القياصرة والأكاسرة وبين علم هؤلاء الخلفاء الذين كانوا إذا جلسوا إلى مجلس العلم كانوا يطأطئون الرؤوس احتراما وتقديرا للعلم والعلماء وهم فيما هم فيه من هيبة الحكم وقوة السلطان؟!، وكان هؤلاء الخلفاء في كرمهم كالمطر يمطرون خيرا فإن هم أصابوا أرضا جدباء قاحلة تخضر وتجود بالخير وتشيع فيها الراحة والسكينة، وإذا قورن هؤلاء الخلفاء بأولئك القياصرة، فلا غرو أن الشاعر يفضل هؤلاء الخلفاء العظماء، ويضعهم في مرتبة سامية بينما يضع أولئك القياصرة بين الأشحاء والبخلاء. ويقول: خلائف الله جلو عن موازنة ... فلا تقيس أملاك الورى بهم «1» من في البرية كالفاروق معدله ... وكابن عبد العزيز الخاشع الحشم «2» وكالامام إذا ما فض مزدحما ... بمدمع في ماقى القوم مزدحم «3» الزاخر العذب في علم وفي أدب ... والناصر الندب في حرب وفي سلم «4»

_ (1) خلائف الله: هذا قول مستأنف عام لجميع الخلفاء المتقدمين والمتأخرين. (2) المعدلة: العدل. (3) الإمام: هو الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهح، وماقى العيون: أطرافها مما يلي الأنوف وهي مجارى الدمع. (4) الندب: يقال رجل ندب أي خفيف الحاجة سريع طريف يجيب.

أو كابن عفان والقران في يده ... يحنو عليه كما تحنو على الفطم «1» ويجمع الاى ترتيبا وينظمها ... عقدا يجيد الليالي غير منفصم جرحان في كبد الاسلام ما التأما ... جرح الشهيد وجرح بالكتاب دمي «2» وما بلاء أبي بكر بمتهم ... بعد الجلائل في الافعال والخدم بالحزم والعزم حاط الدين في محن ... اضلت الحلم من كهل ومحتلم «3» يريد شوقي أن يجعل مكانة مرموقة لهذه الفئة المؤمنة لا يرتقي إليها أحد من هؤلاء الملوك، ومن ثم يشير شوقي إلى الفارق بين الملوك والقياصرة وبين هذه الفئة المؤمنة، ويتساءل مستنكرا ومتعجبا: هل هناك في هذه الدنيا من يقيم العدل كالخليفة عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز في التواضع والخشوع لله سبحانه وتعالى أو كالإمام علي بن أبي طالب في تضحيته ليلة هجرة الرسول وفدائه بنفسه حينما عزم الكفار قتل الرسول في تلك الليلة، ثم يعدد الشاعر الصفات الحميدة في الإمام علي كرم الله وجهه من غزارة العلم، وأن عليا رضى الله عنه كان خفيفا في كره وفره في الحرب بشوشا مع الناس، وما كان يزهو على الناس، ولم يكن بخيلا بما لديه من علم ومعرفة لصلة الرحم بينه وبين الرسول صلّى الله عليه وسلّم وكذلك لتربية الرسول صلّى الله عليه وسلّم له ويبين شوقي في قصيدته مكانة الخليفة عثمان بن عفان حينما أمر بنسخ القران وشبهه بالأم التي تحنو على طفلها من شدة حرصه على العناية بكلام الله (القران الكريم) . ويعود الشاعر أحمد شوقي ليطرح من خلال بردته لمحات من التاريخ الإسلامي ولما واجهته هذه الفئة المؤمنة من قتل وتعذيب على أيدي الكفار، كما

_ (1) ابن عفان: هو أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه، الفطم: جمع فطيم وهو الصبي المفصول عن الرضاع. (2) وجرح بالكتاب دمي: أي وجرح دمي به الكتاب وقلب للمبالغة وذلك أن قتلة عثمان رضى الله عنه دخلوا عليه الدار وخبطوه بالسيوف وهو صائم والمصحف في حجره وهو يقرأ فيه فوقع المصحف من يده وسال الدم عليه. (3) حاط الدين في محطن: يشير إلى حرب الرده بعد وفاة النبي وانتصاره على المرتدي.

يطرح مأساة ذات شقين، وهي مقتل واستشهاد عثمان بن عفان رضى الله عنه وأرضاه عندما طعنه قاتله، فهذا أول جرح من جروح الإسلام أن يغتال مسلم خليفة رسول الله، والشق الثاني من هذه المأساة هو نزيف الدم الذي سال من جسد عثمان بن عفان على أوراق المصحف الذي كان بين يديه يقرأ فيه، جرحان لن يلتئما. وتعود بنا بذاكرة الشاعر إلى دور أبي بكر الصديق رضى الله عنه وانتصاره على المرتدين في حروب الردة، وكذلك دوره في الفتوحات الإسلامية بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وخدماته الجليلة في نشر الإسلام، وعلى الرغم من ذلك لم يسلم من الاتهامات التي وجهت إلى خليفة رسول الله لأنه كان شديد الحرص في الحفاظ على دين الإسلام والدفاع عنه في أوقات المحن العصبية التي اشعل نيرانها كثيرون من أدعياء الإسلام بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وأظهر حزما وعزما لا يلين في مواجهتها واخمادها. ويقول شوقي: واحدن بالراشد الفاروق عن رشد ... في الموت وهو يقين غير منبهم «1» يجادل القوم مستلا مهنده ... في أعظم الرسل قدرا، كيف لم يدم لا تعذلوه إذا طاف الذهول به ... مات الحبيب فظل الصب عن رغم «2»

_ (1) واحدن بالراشد الفاروق: يقول ما ظنك بتلك المحن التي تنحرف بعمر رضى الله عنه عن الرشد وله ما تعلم من كمال الرشد ووقور العقل وصدق اليقين وتذهله عن إدراك أمر من أظهر البديهات لديه: هو أن يدرك الموت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (2) لا تعذلوه: وذلك أنه لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال الناس: مات رسول الله أسرع عمر إلى سيفه وتوعد من يقول ذلك وقال: إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال وأرجلهم فلما حضر أبو بكر وأخبر الخبر كشف عن وجه رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها ثم خرج إلى الناس وقال: إلا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

فيذكرنا بموقف عمر بن الخطاب عند وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم عندما أذهلته المفاجأة فلم يصدق وقتها أن يموت الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم وهو صاحب الرسالة ويؤدي الأمانة عن الله سبحانه وتعالى فيتصور عمر بن الخطاب أن الرسول كائن اخر غير البشر وأنه مدعوم من الذات الإلهية وأنه لن يموت حتى وقف له صاحبه وصديق الرسول وصديقه أبو بكر الصديق يتصدى لغلو صديقه عمر بن الخطاب بقولته الشهيرة: «من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت» .. فيفيق عمر بن الخطاب، وهنا يتدخل شوقي ملتمسا العذر لهذا الرجل الذي أحب الله ورسوله حبا ملك عليه عقله فاهتز عندما سمع نبأ موت الرسول صلّى الله عليه وسلّم وظل كذلك حتى أعاده إلى رشده سماع مقولة أول الخلفاء الراشدين أبي بكر بن أبي قحافة رضوان الله عليه. يا رب صل وسلم ما أردت على ... نزيل عرشك خير الرسل كلهم محيى الليالي صلاة لا يقطعها ... إلا بدمع من الاشفاق منسجم مسبحا لك جنح الليل محتملا ... ضرا من السهل أو ضرا من الورم رضية نفسه لا تشتكي سأما ... وما مع الحب ان اخلصت من سأم وصل ربي على ال له نخب ... جعلت فيهم لواء البيت والحرم «1» بيض الوجوه ووجه الدهر ذو حلك ... شم الأنوف وأنف الحادثات حمى «2» وهنا يصل شوقي في قصيدته (نهج البردة) إلى النهاية بالصلاة والسلام على رسول صلّى الله عليه وسلّم فيسأل الله أن يصلي ويسلم على رسوله خير البشر وخير الرسل واخر الأنبياء والمرسلين والذي استدعاه سبحانه وتعالى في رحلتي الاسراء والمعراج إلى

_ (1) للنخب: جمع نخبه وهو الرجل المختار. (2) الحلك: (محركة) شدة السواد، والشمم في الأنف: ارتفاع القصبة وحسنها وهو هنا كناية عن الحمية وشرف النفس، وأنف الحادثات حمى: كناية عن اشتداد الخطب واستفحال الأمر.

السماء السابعة حيث سدرة المنتهى وحيث جنة المأوى والعرش العظيم حيث رأى ايات ربه الكبرى. ويدعو شوقي ربه جل وعلا بالصلاة والسلام على رسوله، ويبين شوقي أنه يظل يحيى الليالي مستيقظا بين الصلاة والصلاة يبكي اشفاقا على أمته ويطلب لها المغفرة والعفو عن زلاتها، ويسبح لله طوال الليال وهو جالس أو متكئ، ويصف شوقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقناعة النفس ورضاها، فلا سأم هناك ولا ملل ولا شكوى ولا تعب، فمع حبه لله تعالى تهون كل هذه المتاعب، ثم يواصل شوقي الدعاء بالصلاة على ال الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم فهم خلاصة الناس أجمعين، وأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي لا ينطق عن الهوى من هؤلاء الذين اختارهم الله من قديم لحماية البيت العتيق وحمل لوائه، فهم مكرمون عند الله منذ القدم وحتى إذا ما أسود وجه الدهر وهم ذو كرامة وعزة ومهما اشتد عليهم كربهم وبلاؤهم وكذلك يقول: واهد خير صلاة منك أربعة ... في الصحب صحبتهم مرعية الحرم الراكبين إذا نادى النبي بهم ... ما هال من جلل واشتد من عمم الصابرين ونفس الأرض واجفة ... الضاحكين إلى الأخطار والقمم ليمضي شوقي في الدعاء بالصلاة على الخلفاء الراشدين الأربعة وهم: (أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضى الله عنهم أجمعين) ويطلب لهم الرحمة من الله، فهم أصحاب رسول الله المرعية صداقتهم وصحبتهم، فالصديق له مالصديقه من حرمة، وبخاصة إذا كانت هذه الصداقة صداقة في الله سبحانه وتعالى وهم الذين لبوا نداء الرسول في الحرب أو في السلم ويقدمون المشورة والنصح في أمور الدنيا التي لم ينزل بها تشريع، وما لهم إلا تنفيذ تشريع الإسلام بقوة. فما أن نزل هذا التشريع فيهم إلا وكانوا المؤيدين والمعضدين والمساعدين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نشر شريعة الله ودعوته، وهم الذين واجهوا معه الشدائد وظلوا صابرين كاظمين الغيظ، عافين عن الكفار حتى أذن الله لهم

ورسوله بمحاربتهم، وكانوا يمضون إلى هذه الحرب مستبشرين، فلم تكن الحرب بالنسبة لهم إلا نصرا يعز به المسلمون أو شهادة تدخلهم في رضوان الله وجنته. ويقول: يا رب هبت شعوب من منيتها ... واستيقظت أمم من رقدة العدم سعد ونحس وملك أنت مالكه ... تدويل من نعم فيه ومن نقم رأى قضاؤك فينا رأى حكمته ... أكرم بوجهك من قاض ومنتقم ولعله هنا يتقدم كشاعر وكرجل مسلم تهمه مصلحة المسلمين بالدعاء إلى الله الذي لا إله إلا هو، مالك الملك، يدبر الأمر في الكون ويسير أحوال الخير والشر بين الممالك، لا راد لقضائه مهماحم قضاؤه وإن كان قاسيا على مشاعرنا، فهو رحيم بنا لا ندرك ببشريتنا عمق الحكمة الإلهية العميقة التي أرادها سبحانه. وأخيرا يقول أمير الشعراء. فالطف لأجل رسول العالمين بنا ... ولا تزد قومه خسفا ولا تسم يا رب أحسنت بدء المسلمين به ... فتمم الفضل وامنح حسن مختتم ليختتم شوقي قصيدته بدعاء فيه التوسل والرجاء، فيدعو الله اللطيف، ويرجوه أن يلطف بالمسلمين، ويتشفع عند الله لهم برسول الله وحبيبه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، ويكرر الدعاء ليؤكد أن الله قد أحسن إلى المسلمين فاختار من بينهم وبعث فيهم الرسول بهذه الرسالة ويطلب من الله أن يتمم هذه الرسالة وهذا الفضل وأن يمنح المسلمين حسن الختام كما منحهم من قبل حسن البداية، اللهم أحسن ختامنا كما أحسنت بدأنا يا أرحم الراحمين.

الفصل الرابع موازنة بين الأغراض الشعرية للقصائد الثلاث

الفصل الرابع موازنة بين الأغراض الشعرية للقصائد الثلاث

موازنة بين الأغراض الشعرية للقصائد الثلاث 1- في الغزل: كل القصائد العربية الكلاسيكية تنهج بالشكل منهجا واحدا، هذا المنهج هو أن تبدأ القصيدة بغرض ثابت يلتزم به الشعراء مهما يكن الغرض الرئيسي للقصيدة مدحا أو هجاء أو نسيبا أو فخرا أو رثاء وغيرها من هذه الأغراض الأساسية، وهذا الغرض الذي يبدأون به قصائدهم إما أن يكون غزلا في محبوب، أو بكاء على طلل أحبة قد تركوه إلى موطن اخر، ونستشهد على هذا بقول كثير غزة في قصيدته الشهيرة: خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت وقول طرفة بن العبد في معلقته: لخولة اطلال ببرقة ثمهد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد وجميل بثينه: لقد أدرنت قلبي وكان معمما ... بثينة صدعا يوم طار رداؤها إذا خطرت من ذكر بثينة خطرة ... عصتني شئون العين فانهل ماؤها وعروه بن الورد: تحن إلى سلمى بحر بلادها ... وأنت عليها بالملا كنت أقدرا وغيرهم كثيرون وهذا يدل على أن بناء القصيدة العربية الكلاسيكية تستلزم في البداية استهلالا يشد قارئها أو سامعها إلى موضوعها، وليس هناك أفضل من الغزل أو البكاء على الاطلال موضوعا يشد القارئ أو السامع العربي، ومن هنا جاءت ضرورة البدء بالغزل عند كعب بن زهير، وقد اقتدى به كل من الإمام

البوصيري وأحمد شوقي في قصيدتيهما البردة، ونهج البردة، ونعرض هنا نماذج من الغزل التي جاء بها كل منهم في قصيدته. ونبدأ بكعب بن زهير في قصيدته (بانت سعاد) فهو يبدؤها بالتشبيب بسعاد، فيصفها وصفا حسيا يبدأ من الوجه مرورا بسائر أعضاء والأنوثة ومظاهرها، ثم ينتقل إلى أسلوب هذه المحبوبة في الدلائل والأعراض والاقبال إذ هي لا تعطيه قرارا بالوصل ولذا فهو حائر تجاه عواطفها. هي مقبلة عليه أم مدبرة عنه وفي كلا الأمرين هو فاقد الأمل في وصالها إذ لا يستطيع أن يظهر بين العرب وقد أحل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دمه، ومن هنا نستطيع أن نقول أن الغزل الذي بدأ به كعب غزل حسي مبني على المادة والأغراض المادية التي يبحث عنها كل رجل يميل إلى تحقيق رغباته الحسية وهو بعيد تمام البعد عن المواقف العذرية، على عكس الإمام البوصيري الذي لم يبدأ قصيدته بالغزل الحسي المكشوف الذي تطرق له كعب وإنما بنوع من الغزل المحتشم الذي يركز فيه على الصفات الروحية والعاطفية في محبوبته وليس على صفاتها الحسية. فهو يذكر عينيها، لم تمتنعا عن البكاء من شدة الحب، وإن الوجد قد أضناها وأن طيفها لا يفارقه ويطلب من العاذل أو اللائم في هواها إلا يعذله لأن حبها قد ملك نفسه. ويستمر الإمام البوصيري في تمهيداته العاطفية، بلا تحديد لهذه المحبوبة من هي؟ وما شكلها؟ وما ملامحها؟ .. ولا يبين ولا يظهر من هذه الصفات شيئا، فلا يهمه من هذه الصفات إلا الدموع والبكاء واللائم العاذل، ولكنه يؤكد أن حبه عذري عفيف لا دخل للعلاقة الحسية فيه على عكس ما تعرض له كعب بن زهير. أما أحمد شوقي فقد نهج منهجا متوسطا بين الشاعرين، فهو بين الحسية والعذرية، لا يظهر من هي المحبوبة، ولكنه تعرض تعرضا يسيرا لشكلها، فهي ناعسة الطرف، وهي كشمس الضحى، وهي متحلية بالحلي، وهي ساحرة، فهي حمراء الخد، فاتنة، وهو يصفها بأنها ذات حسب ونسب، فأبوها كالأسد في الغاب كناية عن مكانته. وشوقي هنا يتعرض لمحبوبته تعرضا حسيا

بسيطا يمزجه بوصف عذري يصفها به، فيقول: أنها أسمح الناس خلقا، وأنها تجعله يسهر الليل ظنا، وأن في قلبه جرح دام منها، ويطلب من لائمه في الهوى ألا يعذله ولا يلومه، فهو لم يجرب المعاناة مثله. وبالقراءة المتأنية للغرض من الغزل عند الشعراء الثلاثة نجد أن شوقي قد اتخذ مكانا وسطا بين الشاعرين الكبيرين السابقين له، فهو لم يسرف في التعرض للجوانب الحسية مثل كعب، فلم يذكر الأرادف أو الخصور وغيرها من المفاتن الجسدية للأنثى وكذلك. عندما تعرض للجوانب النفسية والوجدانية التي تعرض لها الأمام البوصيري كان بلا استغراق كامل في الوجد، وقد اتخذ شوقي أسلوبا يبين من خلاله تكامل حبه، فهو لا يحب مجهولا كما أحب البوصيري، ولا يحب محسوسا كما أحب كعب، وإنما يحب امرأة لا يبغي أن يعرض بها، فلم يذكر اسمها، وهو لا يحب وهما أو سرابا كالإمام البوصيري، وإنما يضع لنا صفات خاصة بها واستعارات عن مكانتها ومكانة عائلتها، كما نجد أن شوقي كان أنجح الثلاثة في هذا المضار، فقد أحب المرأد جسدا وروحا، بينما أحب كعب فيها الجسد والإمام البوصيري قد أحب الروح، ونجد كذلك أن هذا الفتى العربي الذي قال قصيدته في لحظة اسلامه كان متشبعا بسلوك الجاهلية بما فيه من مجون وعدم اهتمام بالأعراض وعدم تقديره للحب العذري، أما الإمام البوصيري فهو ابن مجتمعه الذي صار المذهب الغالب فيه هو المذهب الصوفي بكل أشكاله الروحية المفرطة في الخيالات البعيدة عن الحس وهو في نفس الوقت ابن لحظته التي كتب فيها القصيدة إذ هو مصاب (بفالج) لا يتحرك من فراشه، ثم يحلم هذا المصاب برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو حلم صادق يسمع فيه قصيدته فيتعفف أن يذكر فيها ما يجرح حياءه أمام الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم. أما شوقي فهو ابن مجتمعه وابن ثقافته الإسلامية وغير الإسلامية فهو دارس لتاريخ العرب ولا شعارهم ومتأثر بشعر المتنبي وأبي نواس وغيرهما من شعراء العصر العباسي وهو دارس للاداب الأوروبية، وهو ابن مجتمع راق، فهو ربيب

2 - في الوصف والحكمة:

قصر الخديوي إسماعيل الذي يرى من ألوان الثراء والنعيم والرغد ما لم يره شاعر غيره، وبهذا نجد أنه ينهج منهجا وسطا بين بدوية كعب وماديته، وبين روحانية وتصوف الإمام البوصيري الذي لا يرى إلا أخيلة ولا يحب من الدنيا إلا ما تستمتاع به حواسه العليا من فكر وتصوف ورغبة في المطالعات، ويتخذ شوقي من خلال المنهجين منهجا أقرب ما يكون إلى المنهج الإسلامي الكامل الذي لا يعتمد على الماديات الصرفة أو على الروحانيات الخالصة فهو يحدثنا عن هذه المحبوبة حديث الإنسان المحب تجاه الأنثى المحترمة التي يعالج منها الروح والجسد كإنسانة. 2- في الوصف والحكمة: يبدأ كعب بن زهير الجزء الخاص بالوصف والحكمة بأن يدعى أن سعاد سافرت إلى أرض بعيدة نائية لا يصلها إلا من له ناقة قوية كريمة الأصل، ويبدأ بوصف هذه الناقة حتى لا يكاد يعجز في وصفها. وأنا اعتقد أن سعاد في هذه القصيدة ما هي إلا رمز لنفس كعب الضالة التائهة بعد أن أهدر الرسول صلّى الله عليه وسلّم دمه وأن هذه الناقة الكريمة ذات الصفات العجيبة ما هي إلا الإسلام الذي إذا امن به كعب وكان له نجاة من القتل فما الناقة إلا وسيلة الوصول إلى مبتغاه وما سعاد إلا نفسه التي بعدت عنه بعد اهدار دمه، وبهذا نجد كعب بن زهير يصف الناقة وصفا سبق أن دكرناه أنها ناقة عجيبة. ومما يؤكد قولنا أنه ينهي وصف الناقة بأبيات في الحكمة تبين أنه متأكد من أنه إن لم يسلم وإن لم يعتذر عن اساءته للرسول صلّى الله عليه وسلّم فإنه مقتول بكل تأكيد وهو يقطع كل العلاقات السابقة التي لم تستطع أن تحميه فيقول لرفاقه: خلوا سبيلي، اتركوني. فكل إنسان سيموت في يوم ما ... ثم ينتقل بعد ذلك إلى مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم. أما الإمام البوصيري فهو يتناول الحكمة والتخوف من كل مباهج الحياة وهو يركز في ذلك على مبدأ أخلاقي أساسي يلخصه في بيت واحد (كم حسنت لذة للمرء قاتلة ... أن السم في الدسم) .

فهو يحض من خلال هذا البيت أو هذا المعنى الذي يسري في كل أبياته في الحكمة على مقولة أخلاقية يريد منها الربط بين اللذة والضرر، ويؤكد أن هذه اللذة شريرة، وأن المعصية مرتبطة باللذة وأن الهوى مرتبط باللذة وهو كصوفي يأمرنا من خلال أبياته بالتشدد تجاه هذه اللذة ويأمرنا بالاستقامة الشديدة وتأدية الفروض والنوافل وهذا رد فعل لما ساد في مجتمعه، فهو من عصر خفتت فيه أنوار الدين، وتراخت مواكبه، وصار المماليك هم الحاكمين، وصار الفقر شديدا والغنى فاحشا، وفي ظل كليهما، الفقر والغنى تنبت المعاصي وتظهر الشهوات، والفقر والغنى الشديدان هما البيئة التي تولد هذه الدنايا، وعندما تنتشر لابد أن يظهر تيار مضاد ولعلّها قاعدة اجتماعية فالإمام البوصيري أحد الملتزمين بدراسة الفقه والحديث وهو زاهد في الدنيا مقبل على الاخرة يضاف إلى ذلك مرضه وهواجسه وأحلامه التي تدور كلها حول ضعف قدرته المتناهي أمام قدرة الله عز وجل وقدرة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم كل ذلك يتوسل بهذه التحذيرات لتكون اسهاما منه في طلب عفو ورضا الله ورسول الله، وحث المسلمين على هذه الطاعات. ويركز على مدح الرسول وهو الغرض الرئيسي في القصيدة. وأحمد شوقي يكتب كابن لعصره أيضا، وفي عصره ظهرت الفلسفات الأوربية، وامتص أحمد شوقي رضاب علم السلوك والأخلاق وخلطه بالفلسفة الإسلامية، ويخرج البيت المحوري للحكمة في قصيدته فيقول: (صلاح أمرك للأخلاق مرجعه) ، (والنفس من شرها في مرتع وخم) ، وهنا يختلف أحمد شوقي مع الإمام البوصيري في فلسفتيهما تجاه الشر، فالشر عند الإمام البوصيري هو اللذة، أما عند شوقي فهو النفس الامارة بالسوء، فإن تستقم النفس تستقم الحياة وتعد شيئا جميلا. أما إذا لم تستقم فالشر كل الشر للناس وللحياة وللمسلمين، أما الإمام البوصيري فيعتبر أن النفس وعاء لما تقدمه لها، فإذا قدمت لها اللذة اتجهت إلى الشر وإذا منعت عنها هذا الترف وقومتها اتجهت إلى الخير. وهنا نجد أن فكرة الإمام البوصيري تخالف المذاهب الحسية التي تهتم

3 - في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين:

باللذة كوسيلة وغاية؛ أما شوقي فهو يأخذ الأمر مأخذا أخلاقيا يركز فيه تربويا على تربية النفس حتى تصل إلى درجة التقوى ولا يأخذ مذهبا جسديا في مسألة اللذة إنما يهتم أساسا بموقف تربوي أخلاقي ولا يهتم بسوى ذلك من الاتجاهات، فالنفس عند شوقي خيرة طالما هي خيرة والنفس شريرة ما لم تقوم من الصغر وتمنع من الاتجاه إلى الشر. 3- في مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين: كان المدح هو أهم غرض من أغراض القصيدة العربية ويقابله الهجاء كغرض مضاد فإن تعرض الشاعر العربي لشخص، فأما بالمدح وأما بالهجاء ولا شيء بينهما، ومن هنا نستطيع أن نؤكد أن مدح الأشخاص أو هجائهم.. غرض أصيل من أغراض الشعر العربي من قبل ظهور الإسلام. ويبدأ كعب في دخوله إلى الغرض الأساسي في قصيدته وهو المدح بتمهيد ذكي، فهو لا يبدأ بتكريم وتعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو بالأمس قد هاجمه فيواجه بهذا المدح المباشر عارا، وإنما يمهد لهذا المدح بوضع خاص بينه كواحد من الرعية وبين الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم كحاكم غاضب على هذا الشاعر، وكنبي ورسول سمع أن هذا الشاعر خارج على مذهبه ورسالته، فهو يأمل في العفو، ويتمنى الصفح قائلا في بداية هذا التمني (نبئت أن رسول الله أوعدني) . فيرد هذه المقولة التي تعني أن الرسول الكريم قد هدده بالقتل، يرد بأن العفو عند رسول الله مطموع فيه ومرجو، ولكن كيف يرجو هذا الشاعر وهو الذي هجا الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأن يأمل في العفو عند الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟ .. إنه يقول بذكاء الداهية العربي مخاطبا الرسول الكريم: (مهلا هداك الذي أعطاك نافلة القران) .. وهو هنا يخاطبه بما يحب: (الله جل جلاله والقران الكريم) ثم يتجه في هذا القسم المملوء مدحا طالبا بكل تواضع ألا يأخذه الرسول بأقوال غير مؤكدة لأنه لم يذن وإن كثرت فيه الأقاويل. وهنا نجد هذا الشاعر يمهد بكلام منطقي عند إنسان مختار من الله لصدقه وعقله وأمانته فهو يتجه إليه مخاطبا فيه عقله

ويؤكد تصديقه لرسالة الرسول الكريم. ويستمر كعب حتى يصل بأبياته في المدح إلى وصف الرسول بأنه الأسد الأكثر قوة وهو الذي لا يستطيع حازم أن يهزمه، وإلى أجمل أبيات القصيدة طرا «أن الرسول لنور يستضاء به، مهند من سيوف الله مسلول» وهنا وبكل ذكاء وبقوة التصوير والخيال يجمع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهم صفتين يتصف بهما صاحب الرسالة وهما (قوة البيان والحجة) متمثلين في القران الذي يهدي ويضيء لمن حوله وقوة السيف التي تمنح قوة الانتشار. فهو نور الفكر ينشر بحد السيف، فنجد أن كعبا يتخذ من التفكير المنطقي والتشبيه المادي وسيلة لمدح الرسول الكريم فلا يشبهه بأخيلة بعيدة عن مدركات العقل أو حتى بعيدة عن مدركات العين والأذن. نعم هو لا يستطيع أن يخرج على أساليب المدح المادي البحتة وإن كان قد استخدم أخيلة وتشبيهات غاية في الجدة ولا اعتقد أن إنسانا قبله قد استطاع أن يكتب في مدح أفضل من هذا البيت وأمدح إذ يقول: ان الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول ثم ننتقل إلى الإمام البوصيري حين يمدح الرسول الكريم فنجده يمهد لمدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم بنوع من التطهر المادي والنفسي ويركز قبل المدح على زهده ويبين أمنيته في أن يكون أهلا لمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم يصل إلى بداية المدح المباشر بقوله: محمد سيد الكونين والثقلي ... ن والفريقين من عرب ومن عجم نبينا الامر الناهي فلا أحد ... أبر في قول لا منه ولا نعم وهنا نجد الإمام البوصيري يركز على العواطف الصوفية والأساليب الروحية في مدح الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، فقد فاق النبيين في خلق، ولم يدانوه في علم وهو يغرف من بحر العلم، وهو الذي تم معناه وصورته، ومنزه عن شريك في محاسنه فجوهر الحسن فيه غير منفصم، ثم يقارنه بعيسى عليه السلام من حيث معجزاته، ثم يفضله على العرب نسبا، فهو من سلالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أبي الأنبياء.

ونجد أن البوصيري قد أجاد في وصف الروحانيات وإن كان قد استخدم التشبيهات المادية في بعض الأبيات واصفا الرسول عليه الصلاة والسلام بأبيات منها. يقول: فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وانه خير خلق الله كلهم كالزهر في ترف والبدر في شرف ... والبحر في كرم والدهر في همم لا طيب يعدل تريا ضم أعظمه ... طوبي لمنتشق منه وملتثم ومن خلال هذه الأبيات نجد أن الإمام البوصيري قد وضع صفات الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم في موضع روحي لا ينزل به إلى المادية إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطرارا. ويتخذ شوقي طريق الإمام البوصيري في الوصول إلى المدح لرسول الله عن طريق الضراعة والاستغفار ومحاولة التطهر متوسلا بدموعه وعبراته ليقبل منه هذا المدح فيبدأ ببيت مشابه لبيت كعب القائل فيه: (.. والعفو عند رسول الله مأمول) فيجاري كعبا في.. هذا المعنى مخاطبا الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: (ان جل ذنبي عن الغفران لي أمل في الله..) وهو يبدأ بهذا ويصل فيه إلى أقصى درجات التذلل ويعتبر أن أقصى درجات التذلل للرسول الكريم ليست إلا شيئا يسيرا يقدمه كل ذي تقوى فهو كي يصل إلى مدح الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم لابد أن يمر بمرحلة من التذلل والاستكانة ولزوم بابه طلبا للعفو وللشفاعة يوم القيامة حيث لا يشفع عند الله إلا الرسول الكريم وبعد ذلك يصل في مدح الرسول الكريم إلى المخرج بين الوقائع التاريخية والصفات الروحية ويخلط بين الصفات النفسية والأشكال الطبيعية في الأجرام السماوية، مثل وصفه للرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم بأنه صفوة الباري، وصاحب الحوض؛ ومن التاريخ نجده يستمد هذا التشبيه (نمو إليه.. ورب أصل للفرع في الفخار نمى) ..

4 - مولد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ووصف المسلمين من حوله: -

ونكتشف أن شوقي قد استفاد ممن سبقه في كتابة المدائح النبوية وممّن نهج نهج بردة البوصيري مثل البارودي وغيره وقد حاول بموهبته الكبيرة أن يتفوق عليهم من حيث بساطة الوصف ومن حيث المقابلة الشديدة «فمحمد صفوة الباري ورحمته.. وصاحب الحوض يوم الرسل سائلة حتى الورود» أي أنه هو الذي يملك كل شيء بأمر الله، وهو المقدّم في الكون حتى على الأنبياء الذين اختارهم الله، على جبريل صاحب الوحي وأمينه. إن اختيار شوقي للألفاظ في هذا الجزء يؤكد أنه وصل إلى درجة راقية جدا في اختيار أقل الألفاظ غرابة وأبسط الألفاظ معنى، وذلك ليصل المعنى لكل سامع لهذه القصيدة، فلعل هدفه الرئيسي هو نشر هذه القصيدة على السنة العامة قبل الخاصة وبين بسطاء المسلمين قبل علمائهم. 4- مولد الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) ووصف المسلمين من حوله: - لم يتناول كعب غرض الوصف لمولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهذا الغرض لم يسبق للجاهليين أو المخضرمين أمثال كعب التطرق إليه، فهو لم يكن يعرف بالتفصيل كيف ولد الرسول الكريم ولم يكن قد استقر هذا الوصف في أذهانهم وطرأ عليها ولم يكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد سمح بالكتابة في مثل ذلك على الرغم من تأصل هذه الدلالات والاشارات والبشائر بميلاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما صحبه من ايات إلهية وأحداث كونية لا يعلمها ولا يقوم بها إلا الله سبحانه وتعالى (تنبيها لعباده وإشارة لهم بخلق جديد كان معلوما منذ عهد أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وتحقق في هذا اليوم بخلق سيد الخلق أجمعين) فكعب لم يكن قد تعمّق في الإسلام ولم يكن قد تعرف تعرفا جيدا على ملامحه وأصوله ومع ذلك فقد جاء كعب إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليمنحه السلام والأمان فلما منحه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بغيته أنشأ يقول القصيدة وهو لم يترك عبادة الأصنام إلا في لحظته وساعته فلم يرتب ولم يقصد إلى مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم من خلال ميلاده وإنما من خلال مجلسه في المسجد ومن حوله رجال الاسلام فركز على مدح الرسول ومدح المسلمين ولم يصف ميلاد

الرسول صلّى الله عليه وسلّم واستبدل وصف الميلاد بأبيات يصف فيها المسلمين الأوائل بأنهم كالأسود وأن ملابسهم ملابس حرب، يملكون من الدنيا بدلة حرب سابغة وسيفا ورمحا ويملكون من الاخرة تهليلا للموت، والطعن لا يقع إلا في نحورهم. وهم لا يتلقون الطعن أبدا وهم مدبرون، وهنا نجد أن كعبا قد حاول التركيز على مدح الرسول بمدح صحابته رضوان الله عليهم والتابعين له، ولم يمدحهم إلا بما رأى منهم مباشرة فغزوة بدر قريبة وسمع عنها ما سمع، يصف ما سمع عن بأس المسلمين في الغزوات، وهو لا يقول هذا رياء وانما يقوله عن خوف من بطشهم، فقد سمع، هدد عندما اهدر دمه، وان تأكده من قوة المسلمين وبأسهم وتعاونهم وتعاضدهم وإيمانهم بما أنزل على الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، ذلك جعله ينبهر بدعوتهم ويمدحهم بما فيهم وليس بزخرف القول ولا بمنمق الكلم. وبعد كعب نلتقي بالإمام البوصيري في وصفه مولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيتحدث الامام البوصيري في سلاسة ويسر ومباشرة عن مولد الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم فيشير إلى الايات والمظاهر التي صاحبت هذا المولد الكريم، من تصدّع الإيوان، وخمود نار المجوس، ويحيرة ساوة، وكيف غاضت، وأصوات الجن تهتف في السماء، وما إلى ذلك من مظاهر ودلالات سجّلها وأشار إليها كل من كتب في السيرة النبوية، واستمدها الإمام البوصيري وغيره، وأول هذه المعجزات حدوث هزيمة أبرهة في عام الفيل عام مولده صلّى الله عليه وسلّم. وقد اتخذ الإمام البوصيري في حديثه عن مولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم أسلوبا جديدا على كتابته، فهو لم يخرج بنا إلى الروحانيات كعادته، ولا إلى التهويمات الميتافيزيقية، وإنما التزم التزاما شديدا بتعاقب الأحداث وتواليها، بلا مبالغة أو إضفاء شيء من الرهبة على هذه المواقف، وإنه رغب أن يوصلها لنا كما جاءت في كتب السيرة فهو ملتزم التزاما دقيقا لا يخرج في معظم أبياته عن النظم الجيد والمعنى التاريخي المؤكّد. أما الشاعر أحمد شوقي فقد كتب ثمانية أبيات في وصف مولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولم يمزج الواقع بالخيال فقط، وانما مزج الواقع بالخيال وبالعاطفة المشبوبة للمسلم المحب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهو لا يحكي بدقة المؤرخ، وإنما ينسج نسيجا شعريا

5 - في اظهار معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: -

عاليا ممتلئا بشعور ديني جارف ينبض به قلب الشاعر ذاته، إذ يحكي عن البشائر التي بشرت في الشرق والغرب بالنور الذي انشق وسط الجزيرة العربية هذا النور الذي هزّ أنفس الطاغين وقلوبهم، وبدد أحلام البغاة وتصدعت شرفات الأيوان من صدمة الحق، ويستطرد شوقي في وصف يوم ميلاد الرسول فيقول: إنه قد أحاطه الظلام من كل جانب، ولكن نور هذا المولد العظيم قد بدد هذا الظلام الدامس، وأطل فجر الحق من هذا الظلام نورا ليهدي السبيل، وينير الطريق أمام المظلومين، ويظهر الحق ويبين العدل أمام الظالمين المستبدين، وهنا نستطيع أن نقول: أن الإمام البوصيري على الرغم من شاعريته وعاطفته وأسلوبه ورفاهة أغلب أجزاء القصيدة إلا أنه وقف موقفا كان فيه مفكرا بعقل العالم وقلب المؤرخ فأراد أن يكون علميا دقيقا إزاء ما ورد على خاطره حول مولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يضيف ولا يتطرق للحذف، ولا يطمح الشاعر طموحا حادا فيكون إماما للمسلمين بل هو موصل جيد دقيق لأحداث مولد الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم. أما أحمد شوقي فلم يعبأ بالدقة العلمية وان لم يتجاهلها فقد امتص كل المعلومات التاريخية المعروفة عن المعجزات التي صاحبت مولد الرسول الكريم وهضمها في وجدانه هضما جيدا وجعلها تمر من خلال عاطفته الإسلامية الجياشة المتفجرة بحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهاجت به الأشواق وفاض معين الشعر بأبيات مملوءة بالعاطفة نسجها مشبعا بالحب والوجد والعشق لذكرى الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم ولذكرى مولده، ولما حدث انذاك من معجزات. 5- في اظهار معجزات الرسول صلّى الله عليه وسلّم: - بدأ كعب مدح الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بسؤاله التمهل والإشفاق ويضيف بأنه قد أعطاه الله نافلة القران (والنافلة هي العطية والعطية هي ما يعطاه الإنسان زيادة عن باقي الخلق) وفي القران مواعظ وتفصيل بين دفتيه يجد الإنسان العظة والعبرة وبين دفتيه يجد تفاصيل ما حدث في سالف الأزمان بقصد العظة والعبرة ولم يتحدث كعب عن معجزات الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلا عن

القران، لأنه ليس من شيم الشعراء أن يكتبوا ما لا يعرفون، وهنا نؤكد أن كعب بن زهير قد كتب عما عرفه عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو لم يقصر في ذلك عن وإنما من الممكن أن يكون تقصيره في تناول باقي المعجزات ناتجا عن حداثة عهده بالإسلام، وهو لا يعرف من أصوله وفقهه وتفاصيله إلا النذر عن ووعي اليسير. أما الإمام البوصيري فقد كتب عن معجزات الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالتفصيل وأعطى لكل معجزة من معجزاته فسحة بين أبياته حتى غطى جانبا كبيرا من معجزات الرسول صلّى الله عليه وسلّم التي لم تكن لإبهار الناس، وإنما كانت معجزات تكميلية لاياته الكبرى ومعجزته العظمى القران الكريم الذي انزل عليه من الله جل وعلا. فيتطرق الإمام البوصيري لتفاصيل دقيقة وردت في السيرة النبوية لابن هشام إذ يذكر دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم للشجرة فتلبى دعوته، وتسجد له، ثم ينتقل إلى الغمامة التي ظللته وهو مسافر في الصحراء، ومعجزة شق القلب، وهو في طفولته، وانشقاق القمر يوم مولده، ثم يتناول بالتفصيل معجزة الغار وكيف خرج من مكة والكبار يترصدون بيته حاملي السلاح منتظرين خروجه ليقتلوه ثم يتطرق لوجوده مع الصديق في الغار، وكيف أن الله قد أوحى إلى الحمامتين والعنكبوت بالرقاد والنسيج لصرف الكفار عن الغار والانصراف عن ملاحقة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه ويعتبر ان الله قد منح الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه رضى الله عنه معجزة تغنيهما عن الخوف وتعطيهما الأمان، ثم ينتقل البوصيري إلى معجزتي الاسراء والمعراج فيتحدث فيهما بنفس مطمئنة واثقة لا قلق يعتريها تجاه هذه الأحداث التي تروع العقل فلا يصدقها إلا مؤمن مصدق قادر على استيعاب هذا الحدث فكيف لإنسان أن يخترق الأرض فيافي وقفارا من مكة المكرمة إلى القدس المشرفة ويجتمع في مسجدها بكل الأنبياء السابقين الذين ماتوا منذ عهود بعيدة. فهذا سيدنا إبراهيم خليل الله أبو الأنبياء يستقبل اخر الأنبياء وخاتم النبيين على باب المسجد ويقدمه ليؤمهم، فمحمد عليه الصلاة والسلام مقدم على جميع الأنبياء والرسل ثم يصلي بهم ثم يعرج إلى السماوات العلا مخترقا سبع السموات

حتى وصل إلى ما لم يصل إليه نبي سواء، ونودي هناك بأنه أعلى الأنبياء مكانة وأقرب بني ادم إلى الله. ويواصل الامام البوصيري تقديره وفخاره بالرسول الكريم وبمعجزته الثانية الاسراء والمعراج بأسلوب يمتزج فيه وقائع هذا الحدث العظيم بعاطفة الإمام البوصيري من حب وتقدير وشوق وانبهار بالرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم ويتميز هذا الجزء في البردة بأنه أرق الأجزاء اختيارا للألفاظ وأدقها تعبيرا عن المشاعر. أما شوقي فيبدأ بداية تختلف عن الإمام البوصيري في شيء ويتفق معه في أشياء إذ يبدأ مدحه للرسول عليه الصلاة والسلام واظهار معجزاته ابتداء بقول جبريل عليه السلام للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في غار حراء عندما بدأ ابلاغه الوحي (اقرأ) وكيف يقرأ من لم يتعلم كيف يقرأ، وهذا شيء مستحيل، بل ومعجزة، فهذه هي أول المعجزات للنبي الكريم، واتخذ شوقي هذه المعجزة بداية للمعجزات جميعا لأنها في نظره أهم المعجزات، فهي أمر من الله للناس بالحض على العلم واعتباره في صدارة الأوامر الاسلامية، ثم ينتقل بعد ذلك إلى المعجزة الحسية الأولى في الاسلام وهي نزول القران الكريم، ويصف شوقي هذه المعجزة بأنها جاءت للناس بعد طول انتظار، وجاءت بما فيه خيرهم ولا تبديل يمسه، ولا تغيير يصيبه، فالله حافظا وكل الأنبياء والرسل السابقون على محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم جاؤا بايات وكتب، ولكن على مر السنين داخلتها الشوائب ولم يحفظها التاريخ بصورتها النقية كما نزلت من عند الله تعالى. أما القران فقد نزل ونزل معه تعهد واقرار وتأكيد من الله جل جلاله بأنه أنزل القران وأنه حافظ له لأن القران الكريم هو الدستور الذي لا يجب أن يبدله الخلق بل يجب عليهم الالتزام كل الالتزام بكل تعاليمه وبدقة متناهية وكيف لا وهو خاتم وأفصح الكتاب بيانا، وهو كما قال العرب ليس بنظم وليس بشعر وليس بكهانة، انما هو نثر محكم، وأفصح بيانا وهذا القران العظيم يتحدى كافة العرب أن يأتوا بمثله أو باية منه فلا يعرف فصحاء العرب وأصحاب اللغة أن يدركوا منه اية وهو إلى جانب هذا نسق صوتي يطرب السمع ويشفي النفس من أدرانها ويشرح الصدور

ويزيل انقباضها، فقد أنزله الله ليوقظ به القلوب من غفلتها ويعيد الثقة للنفوس التي ضاعت وباعت نفسها للشيطان وعبادة الأصنام فيبعث فيها الطمأنينة والثقة، وينزع منها الضعف البشري، فالقران يحمي القلوب ويحيي ميت الهمم بل ويحيي كافة الأجيال القادمة ان هم تمسكوا بما جاء به من أحكام ونواه وحدود وينتقل شوقي متتبعا مراحل السيرة النبوية بما له من علم بكتب السيرة وروايات الصحابة والتابعين وتابعيهم واقتداء بإمامة الإمام البوصيري في تلمس أحداث السيرة النبوية من خلال بردته العصماء فيقول بأسلوب فيه بساطة التراكيب لدرجة معها اقترب الشعر من النثر بجمله المباشرة ولكنها في نفس الوقت ذات موسيقى خارجية لها رنين قوي وجرس خفيف إذ يقول: أسرى بك الله ليلا إذ ملائكة ... والرسل في مسجد الأقصى على قدم ثم يتحدث عن وصول الرسول المعجز والمعجزة وكيف استقبله هؤلاء الأنبياء وهؤلاء الملائكة فيقول بنفس الأسلوب: لما خطرت به التفوا بسيدهم ثم (صل وراءك..) وبهذا الحديث ينهي رحلة الإسراء من أرض مكة إلى المسجد الأقصى بالقدس ثم يعرج بنا شوقي إلى السماء حيث عرج جبريل عليه السلام بالرسول فينتقل شوقي من بساطته التي تكاد تبلغ حد النثر إلى تراكيب شعرية وأخيلة غاية في الجدة والغرابة إذ يقول: (جبت السموات.. على منورة درية اللجم) .. ثم يعود فيقر بأن هذا ليس معجزة عادية، وإنما هي بمشيئة الله وقدرته، فهو الذي يستطيع واحده أن يرفع إليه رسوله الحبيب كما رفع من قبله المسيح عيسى بن مريم، بل ويفضل محمدا عليه الصلاة والسلام على كافة الأنبياء والرسل ولا يكفيه أن يرفعه فقط، وانما يقدمه على سائر الأنبياء بل يضعه على عرش النبوة فلا أحد يفوق محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فقد وهب كل شيء بصعوده إلى السماء السابعة وقد حاز بهذا الصعود الدين والدنيا، وها هو شوقي ينتقل من معجزة الإسراء والمعراج إلى معجزة أخرى وهي كيف أحاط الرسول عليه الصلاة والسلام وهو الأنسي الذي لم يتعلم بكل هذه المنن التي قلده الله بها بلا عد ولا حصر، فقد أعطاه الله القدرة على التنبؤ بما سيحدث بأمر الله

وأن يعرف كل ما حوت الدنيا من علوم حتى السر المكنون ثم ينتقل شوقي إلى معجزة أخرى أكثر واقعية وهي معجزة الهجرة وكيف خرج بصحبة أبو بكر الصديق ويطارده سادة قريش عصبة الشرك ويحاولون اكتشاف أثره وبأمر الله صموا عن سمع تسبيح الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصديقه رضى الله عنه وهما أقرب إليهم من حبل الوريد، ويأمر الله العنكبوت والحمام بالتمويه على الكفار بوجودهما بباب الغار ثم يؤكد أنه لولا أن محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم ورفيقه رضى الله عنه في رحلة الهجرة قد تواريا واستترا وضما إلى جناح الله لما قامت لهذا القران قائمة ولولا تعداهما وحب الله لهما لما تركهما الكفار ولولا حماية الله لهما ما سلما. ونجد الامام البوصيري في هذا الجزء وان كان يتكلم عن المعجزات إلا أنه يخاطب عقل المسلم ويذكره بأوصاف يعرفها كل من قرأ السيرة لا يختار ما هو مبهر للخيال ولا يختار الفاظا غير معتادة بل يتحرى الكلام العربي والألفاظ الفصحى من أصولها اللغوية بعيدا عن التراكيب اللغوية المعقدة والأخيلة المركبة انما كتب في لغة شعرية رصينة وقورة. أما أمير الشعراء أحمد شوقي فقد اختار أسلوبا مغايرا هذه المرة لأسلوبه المعتاد، فقد اختار أسلوبين متناقضين: الأسلوب الأول تحرى فيه البساطة حتى ليبلغ مبلغ النثر الفني ولكن إذا دققنا النظر في قراءته متأنية نجد أنه شعر وأي شعر يلتزم بهذا الأسلوب في معجزات الرسول كالعلم والقراءة وهو الأمي، ثم معجزة القران الكريم ليبين من خلال بساطة تراكيبه وبساطة الفاظه وبساطة معانيه عظمة القران واعجازه، وحتى عندما يبدأ في وصف معجزة الاسراء نجده يلتزم بهذه البساطة في الأسلوب واختيار الكلمات والتراكيب الشعرية واللغوية، ولكنه عندما يبدأ في وصف رحلة المعراج إلى السماء فيغير منحناه الشعري رغم التزامه بالوزن والقافية ويغير من روح الشعر، فالألفاظ تمتليء بالظلال وبالنور، وتمتليء بالخيال الجامح مع الاهتمام باختيار الألفاظ، فالألفاظ لها جرس خاص، إنها كلمات لم يسبقه إليها شاعر من كتاب البردة أو مداحي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يصلوا لمثلها ومنها: (جبت السموات.. منورة درة اللجم.. ركوبة لك من عز ومن شرف.. مشيئة الخالق الباري.. ويا محمد

6 - طلب الأمان: -

هذا العرش فاستلم..) وفي ذلك تقديم لمحمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم على سائر الأنبياء والرسل وتعظيم لشأنه بقربه من الله. وهذا جرس ذو رنين خاص يجمع بين الرهبة والسلامة والألفة مؤكدا أن أحمد شوقي أراد أن يفصل معجزة الاسراء والمعراج عن غيرها لما لها من خاصية تفوق كافة معجزات الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فكل معجزاته فيما عدا الاسراء والمعراج منطقية وقريبة من العقل ولا تحتاج إلى خيال أو قدرة إيمانية خاصة لتصديقها أما قصة الاسراء والمعراج فهي تحتاج إلى قدرة عاتية خاصة بالمسلمين فقط، بل وبالمسلمين العارفين أصول دينهم والواثقين بقدرة الله عليهم ومنهم أحمد شوقي فقد أراد أن يكرم هذه المعجزة، فأضفى على جرس وصفه لها مهابة وعظمة مع بساطة والفة بحيث صارت تجمع بين النقيضين (المهابة والجرس الفخم، والألفة والبساطة) والتي استطاع أن يتفوق فيها على إمامه وشيخه البوصيري تفوقا ليس إيمانيا فقط ولكن تفوقا فنيا في اختيار الألفاظ والأخيلة والمعاني وفي النسق الموسيقي الخارجي والموسيقي الداخلية لشعره، ويعتبر تناول وصف المعجزات ومولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم تفوقا تاما لأحمد شوقي على الإمام البوصيري من الناحية الفنية. 6- طلب الأمان: - وهذا الغرض اقتصر على كعب بن زهير فلم يكتب فيه كل من الإمام البوصيري أو أحمد شوقي لانتقاء طلب الأمان لديهما ولأنهما مسلمان أما كعب فهو يطلب الأمان لأنه لم يكن قد أسلم بعد، وإنما تم إسلامه قبيل إلقائه القصيدة أمام الرسول صلّى الله عليه وسلّم بلحظات قصار، فهو يبين لنا أن الناس المغرضين قد نبئوه أي أنه لم يسمع بنفسه، ولذلك فعندما وقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منه بأسلوب رقيق قائلا: (مهلا) وهو طلب من الأدنى إلى الأعلى ثم تلاه بكلمة (هداك) وهي توحي بالمدح وتعني بالتفصيل يا من هداك الله، ومن السياق ككل يطلب كعب من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يتمهل في عقابه بحق الرسالة التي أعطاها الله له صلّى الله عليه وسلّم كما يطلب في البيت الذي يليه أن يترفق به وأن يعيد التحقيق

7 - الجهاد في سبيل الله:

معه فيقول له بتعبير رقيق فيه الرجاء (لا تأخذني) ولا هنا الناهية، والغرض من النهي طلب العفو، ولو قال لا تأخذني كنهى حقيقي لوضع نفسه بمكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولكنه هنا يضع نفسه في مكان صغير وضعيف نسبة إلى مكانة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ثم يؤكد للرسول بعد ذلك براءته من أي ذنب عاقبه عليه. ويبلغ كعب بن زهير في هذه الأبيات الثلاثة درجة عالية في دقته، فهو على الرغم من وصفه للناقة في واحد وعشرين بيتا لم يبلغ في دقة التعبير فيها ما بلغه في تلك الأبيات الثلاثة التي اختصت بطلب الأمان فهو مركزّ، دقيق التعبير، دقيق في اختيار اللفظ الموحي، الذي يدل دلالة ليس فيها صدق المعنى وصدق الاحساس فحسب، بل فيها الرهبة الشديدة تجاه الرسول وصدق الايمان الذي فاجأه برؤية الرسول صلّى الله عليه وسلّم بسماته وبهيبته التي دخلت قلب كعب حتى أنه تقدم وطلب الأمان ولا ريب أن هذه الأبيات هي مناط قوله للقصيدة ككل، ففيها حاجة كعب من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفيها طلبه للأمان الذي أعطاه إياه الرسول صلّى الله عليه وسلّم قبل دقائق معدودة من إلقائه للقصيدة أمام الرسول صلّى الله عليه وسلّم وكان محور القصيدة وأساسها هو هذه الأبيات الثلاثة، وعلى أساسها بنى كعب كل قصيدته التي لم يقلها إلا رغبة في حسن الأثر عند الرسول صلّى الله عليه وسلّم فما كان من عادة العرب أن يمدحوا العظيم بأبيات قلائل، فما بالنا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو اخر الأنبياء والرسل، وقد جاءه فطحل من كبار شعراء العرب وكان قد وصلت إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم أبيات منحولة عليه يسبه فيها فماذا يفعل هذا الشاعر إلا أن يقف ويستعرض بلاغته وقدرته الشعرية في أبيات كثيرة، ولكنه عندما يعرض حاجته عند الرسول الكريم وهي طلب العفو عنه فهو بكل صدق وبكل عمق وبكل رغبة في الأمان يطلبها في ثلاثة أبيات فقط لتكون مركزة تركيزا شديدا. 7- الجهاد في سبيل الله: في هذا الجزء كتب كل من الشعراء الثلاثة بقدر علمه وبقدر معايشته للإسلام، فمنهم من لم يدرك إلا غزوة أو بعض غزوات ككعب بن زهير، أما

الإمام البوصيري وأحمد شوقي فقد كتبا عن جهاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم. كل من وجهة نظره وبعلم كامل بعظمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ولكن من خلال معطيات عصره فنجد أن كعبا عندما يتكلم فانه- وكما سبق أن قلنا- يتكلم كلام حديث عهد بالاسلام ومع أنه كان حديث عهد في الاسلام إلا أنه قد سمع ورأى وأحس بقوة هذا الدين الجديد وببأس أصحابه وقدرتهم فهو يصف هذه القدرة بأنها قدرة من لا يقبل أن يطعن في ظهره، بل يقبل على الموت وهو يهلل فرحا به طمعا في شهادة لا ريب فيها وهذا في البيت الأخير من القصيدة، وقد سبق أن تكلمنا عن هذه الأبيات الخاصة بجهاد المسلمين في الجزء الخامس بمدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومدح المسلمين عند كعب، وننتقل من كعب إلى الإمام البوصيري وهو يتكلم عن جهاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو مادح له ولكل مسلم من المسلمين الذين شاركوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم في سبيل الله وهو هنا ينظر إلى الجهاد نظرة أكثر عمقا وفهما لمعنى الجهاد في الإسلام، فليست الرهبة والغزو واستخدام السيف والرمح هي الجهاد في الاسلام، وإنما هو الجهاد مع المشركين أولا بمحاولة اقناعهم بالدين الاسلامي بالحجة والكلمة الطيبة ثم محاربة كل من يخرج على اطار الدين ولا يرضى بالجزية، وكأن الإمام البوصيري يريد أن يبينّ مرة أخرى موقف الناس من ظهور الرسالة المحمدية إذ يبتديء هذا الجزء من القصيدة بأن يصف فزع الناس وخاصة أعداء الرسول عند سماعهم بأن الله جل وعلا قد بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم للعرب رسولا، وهذا الخوف والفزع قد أدى إلى التصادم مع المؤمنين بالرسالة المحمدية وإيذائهم، ويستمر الإمام البوصيري في وصفه للجسارة وقوة المسلمين وفي عظمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في جهاده خلال اثنين وعشرين بيتا يذكر فيها مدى انتصارات المسلمين وكيف أنهم كالجبال لا يتعرض لهم عدو إلا هزموه وقهروه، ويصف المسلمين المحاربين بأن لهم علامة تميزهم مثل الورد فهم يتميزون عن غيرهم من الأشياء بالرائحة فتحسبهم كالأزهار، ويصفهم بأنهم من كثرة استمرارهم بالحرب على ظهور الخيل كأنهم قد نبتوا في ظهور خيلهم لا يريدون النزول بإرادتهم وليسوا مجبرين على ذلك ولكنهم يقتدون بقائدهم صلّى الله عليه وسلّم محمد بن عبد الله الذي يصفه الشاعر بأنه

إذا رأته الأسد تسكت غما وخوفا وكمدا، ويستمر في أبياته المشيدة بالرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم وبجنوده المسلمين حتى ينتهي إلى أن الرسول الكريم لا يفارق جنوده فهو كالأسد مع أشباله يربيهم ويعلمهم ولا يفارقهم في السراء والضراء ثم ينهي الإمام البوصيري حديثه نهاية خاصة فيشير إلى هذا العلم الحربي والرسول الأمي وهذا التأدب باداب المعارك والحرب، وهو الطفل اليتيم الذي تربى في حجر جده وعمه، ونرى أن الإمام البوصيري على الرغم من حبه الزائد المفترض في كل مسلم كريم لم يكن موفقا في هذا الجزء توفيقه في الأجزاء الاخرى من قصيدته البردة أو أنه لم يوفق في رأينا لبعد المسافة بين ألفاظ عصره وألفاظ عصرنا، وان ايقاع القصيدة في هذا الجزء إيقاع بسيط لا يتناسب مع الغرض الفني وهو الجهاد، والجهاد يعني الحرب بسرعتها وكرها وفرها، أين هذا الشعر في غرض مشابه من شعر امرؤ القيس حين يقول: مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السبيل من علل أين هذا الايقاع السريع في قصيدة البوصيري، الايقاع ذو الكلمات ذات النسق الصوتي لوقع الأقدادم والكر والفر في الحرب فكأننا نحضرها. ومن أقوى أبيات هذا الجزء عند الامام البوصيري هو البيت الذي يقول فيه: وسل حنينا، وسل بدار، وسل أحدا ... فصول حتفا لهم أدهى من الوخم ولكننا نرى أن الإيقاع عند الامام البوصيري إيقاع بطيء بل شديد البطء ولا يعبر بأي حال عن لغرض المنوط بهذا الجزء- والذي سبق أن ذكرناه- أنه يجب على الشاعر في هذا الغرض وهو وصف الجهاد والمعارك أن يكون سريع الايقاع تعبر الألفاظ تعبيرا دقيقا عن التوتر والقسوة والقوة والسرعة ولكن من أين يأتي الامام البوصيري بهذا الاحساس النفسي وهو على ما عليه من درس وتفكير وشوق إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وزهد عن ملذات الحياة بل والوصول إلى حالة من حالات التصوف والوجد المعروف عن المتصوفة مما لا يعطيه الفرصة أن يكون صادقا في وصف الجهاد إلا من منظور فلسفي أو نظري وهذا ما استطاع الإمام البوصيري أن يكتبه في هذا الغرض وان كنا لا نشك في رغبة الامام أن يكتب أجود الكلم

في وصف جهاد الرسول إلا أننا كشهود عدل نقول: أنه لم يوفق التوفيق كله من حيث الايقاع العام لهذا الجزء، ونصل في النهاية إلى نهج البردة لأحمد شوقي فنجد أنه اتخذ منهجا دراميا بالنسبة لهذا الجانب بالذات فهو يقيم حوارا بين أعداء الرسول صلّى الله عليه وسلّم والإسلام، وبينه كشاعر فيتصور أنهم يقرعون الرسول عليه الصلاة والسلام (لا قدر الله) فيقولون له: كيف تغزو وأنت كما تقول رسول من السماء، ونحن نعرف أن الرسول يجيء إلى الأرض لنشر المباديء لا لسفك الدم، فيرد عليهم الشاعر المسلم أحمد شوقي قائلا بتقريع أقوى وأقسى ويصفهم قائلا على لسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم. جهل وتضليل أحلام وسفسطة ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم ثم يستطرد محايدا ويصف كيف أن الرسول لم يعمل السيف إلا في الجهلاء والعوام فالسيف هو المنقذ والا ضاق العقل وامتنع الفهم واغلقت القلوب، ويؤكد شوقي أن الشر لا يقابل إلا بالشر ويؤكد في مقارنة بين ما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبين ما كان من سيدنا عيسى مع اليهود والرومان ومحاولة صلبة ولولا مكانته عند الله لما نجا من هذا المصير ثم يؤكد أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم علم المسلمين كل شيء كانوا يجهلونه حتى القتال مع أنه مكروه لدينا كمسلمين، ثم يبين كيف دعا الرسول للجهاد، ويبين الأسباب التي أدت إلى هذه الدعوة، فالحرب أساس لنظام الكون، ثم ينهي أبياته بقوله: ان ظهور الرسول صلّى الله عليه وسلّم مجاهدا قد قلب موازين عصره وموازين أيامنا هذه، وهنا ينتقل شوقي إلى المعاصرة لينبهنا إلى أن أشياع المسيحية وأتباعها. وقد هرب من تصوير المعارك وان كان قد كتب عنها في جزء اخر سنورده فيما بعد ولكنه شرح الجهاد من وجهة نظر الدبلوماسية الموجودة في عصره، فهو يقرع الحجة بالحجة، ويناقش أصول الجهاد، وهل هناك خطأ في قيام المسلمين به أم لا، ويقارن بين ذلك وبين موقف ظهور المسيحية ثم يخلص إلى نتيجة أخيرة هي أنه لولا الجهاد الذي قام به الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم ما تواحد الصف، وقد قال تعالى (وأعدوا لهم ما

8 - الشريعة الاسلامية:

استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم.. إلى اخر الاية الكريمة) صدق الله العظيم. فهو يحث المعاصرين له من المسلمين على الجهاد نظرا لأن الجهاد فريضة إسلامية مؤكدة. ونجد في هذا الجزء أن أحمد شوقي قد تفوق على نفسه من حيث الايقاع واختيار الكلمات المناسبة والمباشرة إلى المعنى، ولكنه خرج عن مفهوم الجهاد في المستقبل أي أنه ترك عهد الرسول وتقدم إلى عهد أحمد شوقي نفسه ناظرا إلى حال المسلمين انذاك وداعيا لهم بدعوى الجهاد مذكرا به. وإذا قارنا بين كعب بن زهير وبين الإمام البوصيري وبين أحمد شوقي نجد أن كلّا منهم ابن عصره وسليل مجتمعه، فكل واحد قد وصف ما يرها هذا يصف المسلمين وهم يحاربون بالفعل، وذلك يطلب من المسلمين أن يستعدوا لجهاد قادم والثالث يفكر في الحرب ويصفها وكأنها معركة داخلية بين الانسان ونفسه. كل شاعر منهم قد وصف عصره وعبّر عما يجيش داخل نفسه من أفكاره وهموم زمانه. 8- الشريعة الاسلامية: الشريعة الإسلامية لم تذكر ولم يشر إليها عند كعب بن زهير إلا في بيت واحد من أبياته فهو يسوق في معرض مدحه للرسول الكريم وصفا للقران الكريم ويصفه بالنافلة، ثم يصف ما تضمنه القران وفيه مواعظ ثم فيه تاريخ الأقدمين، اذن فهو يدرك قيمة القران الكريم، مع أنه لم يؤمن به إلا من هنيهات بسيطة وندرك من عدم الاسهاب أنه لم يكن قد تأثر بالإسلام تأثرا بيّنا، لكنه نظر للإسلام نظرة اجمالية تحكمها لحظة الاشراق بعد منحه الأمان، أما الإمام البوصيري فقد كتب سبعة عشر بيتا يصف فيها القران الكريم من خلال نظرة عامة ثم تناول القران الكريم كسور وايات متفرقات فهو يطنب في مدح هذه الايات والكلمات والأحرف ثم يقول فيها ان ما وصلت إليه من مدح للقران لا

يتجاوز الحقيقة ولن يصل إلى القيامة الحقيقية والأخلاقية للقران الكريم، ثم ينتقل إلى أنه لا يمكن لإنسان أن يحارب القران ولو حاول أحد مناقشة القران لا نكسر وانهزم أمام بلاغة ليست من صنع البشر، ثم ينتقل إلى معاني القران ويتصورها عالية كأمواج البحر وهي لا تخبو معانيها، وكلما تقدم الزمن وزاد القدم زادت قيمتها كالجواهر كلما مكتث زادت قيمتها ثم يصف من يتمسك بالقران الكريم، فهو يعتصم بحبل الله ولا يستطيع انسان أو مخلوق أن يصل إليه أو يمسه شيء طالما هو مستمسك ومستعصم بهذا القران الكريم وهو كلام الله عز وجل، كما أن أحكامه هي العدل بين الناس ولا ينكرها غير الحاسد ولا يجحدها إلا الجاهل، وهنا يؤكد الإمام البوصيري أن هذا الجاهل وهذا الجاحد ليس الا صاحب مرض وصاحب غرض، ويفهم من وراء معاني هذه الأبيات أن ما ينكره الجاحد من شريعة سمحاء وحدود عادلة هو أمر ثابت ومؤكد إذن وهو هنا كمن ينكر نور الشمس على الرغم من وضوحه. ويستخدم الإمام البوصيري مفردات عربية رقيقة ودقيقة وصحيحة. تناسب الغرض الذي يبغى أن يصل إليه، فعندما يمجد الإمام البوصيري القران الكريم مبينا فضله عند المسلمين فلابد أن تكون العبارة جزلة ضخمة واضحة لها جرس موسيقى عذب فاستخدم كلمات القران الكريم ذاته وصوره البلاغية ويبين لنا الإمام البوصيري من خلال هذه التراكيب الشعرية أثر القران النفسي على نفسية المسلم المستمسك بأحكامه والملتزم بحدوده ونجد الإمام البوصيري في هذا الجزء قد نجح نجاحا باهرا لما له من رغبة طبيعية في التوسل والزهد وحث الناس على الاستمساك بدين الله والتشبث بشريعته فهو البلسم الشافي والنور الهادي لكل ضال عن الشريعة السمحاء. أما أحمد شوقي فيحدثنا في ثلاثة عشر بيتا حول الشريعة الاسلامية فهو يفرق بين الشريعة والقران، فالشريعة عند شوقي ليست القران فقط، وانما هي القران وكل فعل أو قول قام به الرسول صلّى الله عليه وسلّم (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) صدق الله العظيم.

وهو يقرر أن جوهر العقيدة الإسلامية ليس إلا (لا إله إلا الله) فهو الواحد الأحد الفرد الصمد وهذا التوحيد هو دلالة العقل البشري دلالة تؤكد الفطرة السليمة لهذا العقل فلا يمكن أن يخلق العالم إلا إله واحد وإلا لحدثت بين هذا وذاك (استغفر الله ما لا تحمد عقباه) وهنا يصر شوقي على تأكيد أن أساس الشريعة الإسلامية هو التوحيد وهو فهم دقيق وعلمي للشريعة الإسلامية. وينتقل شوقي إلى أن الشريعة الإسلامية قد رفعت من قيمة الدولة الاسلامية عندما استطاع العرب الذين لم يكونوا إلا رعاة للشياه أن يسيطروا على الفرس والروم بتمسكهم بهذه الشريعة وهذا التوحيد وقولهم: (لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) ، وذكر شوقي أن العلم وأصول التمدن هما الأسس التي سار المسلمون بعد ذلك ثم التقشف والهيمنة على النفس للحد من انصياعها لأهوائها واستطاعوا أن يحولوا الدنيا كلها في عصرهم إلى ملتهم ودينهم بما أعطوه لمن حولهم من قدوة حسنة فقد ساروا على الشريعة الاسلامية نحو الفلاح وإلى الطريق المستقيم، ثم ينهي الأبيات ببيتين من أبيات الحكمة يصف فيهما عدل المسلمين الذي لا يقارنون فيه بمن سبقهم، فقد نالوا به السعادة في الدنيا والاخرة. ونلاحظ أن شوقي لم يكن في مستواه الفني في هذا الغرض، فهو لم يتعمق كما تعمق البوصيري في تناوله معاني الشريعة الاسلامية وصفاتها، ولكنه ركز على التوحيد بالله كجوهر رئيسي لهذه الشريعة ثم يتكلم كلاما عاما بأنها غراء وقامت عليها الأسس، ثم يعرج على أن أمة الرعاة عندما استمسكت بهذه الشريعة استطاعت أن تهزم الأكاسرة والقياصرة وأن تنال السعادة والمكانة في الدنيا والاخرة ولا نجد الروعة في أبيات أحمد شوقي إلا في البيت الأول والبيت الأخير فقط، أما باقي الأبيات فهي انشائية منظومة متكلفة وليست كعادة أبيات أحمد شوقي ولا بتألقه وجمال سبكه ونظمه، ونجد أن هذا الجزء الذي تحدث فيه عن الشريعة الاسلامية قد تفوق فيه الامام البوصيري على أحمد شوقي أمير الشعراء لما بين الشخصين من فروق في دراسة الشريعة الاسلامية والتعمق في الدين الاسلامي من ناحية العلم والعمل.

9 - المقارنة بين الحضارات:

9- المقارنة بين الحضارات: لم يتناول كل من كعب بن زهير والامام البوصيري في قصيدتيهما موضوع الحضارات وان أشار الامام البوصيري إلى الحضارات السابقة كحضارة الفرس والروم، وأشار إلى الظواهر التي صاحبت مولد الرسول عليه الصلاة والسلام وهي ظواهر حضارية مادية لتلك الأمم بشارة عابرة. بينما يقارن شوقي بين الحضارات القديمة وبخاصة الحضارة الرومانية واليونانية وحضارة مصر القديمة (الفرعونية) فيبدأ القول بأنه في ظل الحضارة الإسلامية اجتمعت للمسلمين سعادة الدارين دار الدنيا ودار الاخرة، دار الدنيا حضارة وفتوحات وملك، ودار الاخرة جنة عرضها السموات والأرض ورضوان من عنده سبحانه وتعالى. فهاتان السعادتان لم تكتبا لأي من تلك الأمم السابقة ولا لأي حضارة من تلك الحضارات، وانما كتبت للمسلمين والمجاهدين في سبيل نشر كلمة الله ودين الله وإعلاء الحضارة الاسلامية القائمة على أسس الدين الاسلامي الحنيف ومن هنا كانت تعبيرات شوقي الرافضة للحضارات القديمة كقوله: - (دع عنك روما..، وخل كسرى..، واترك رمسيس..) فالحضارة الرومانية التي كان مقرها روما في القديم والحضارة اليونانية التي كان مقرها أثينا عاصمتها لم تترك شيئا للروح الانسانية اللهم إلا التحف وهذه قد حفلت بها بغداد عاصمة الخلافة العباسية الإسلامية بل قد حفلت بأبدع منها من الأحجار الكريمة والدرر وهذا ليس بشيء في نظر شوقي بالمقارنة بالقاعدة الروحية الأخلاقية التي هي عماد الحضارة الإسلامية، كذلك الحضارة الفارسية هي حضارة مادية استخدم لها شوقي الايوان الكسروي كرمز على فخامتها المادية إلا أن هذه الفخامة الحضارية قد هوت واحترقت وصارت دخانا في الهواء ولم يبق لها أثر فالباقي دائما هو القاعدة الروحية، والحضارة الإسلامية تقوم على قيم ومباديء وهدى نوراني من عند الله جل جلاله فهي الباقية.

ويتطرق شوقي أيضا إلى الحضارة المصرية القديمة (الفرعونية) ويقارن بينها وبين الحضارة الإسلامية فيقول: انها حضارة مادية ليس فيها قوة العدل لأن هذه القوة لا تأتي في ظل نهضة مادية ممثلة في بناات عظيمة كالأهرامات والقصور وغيرها، وإنما بنهضة العدل وهذه هي التي حققها الاسلام وطبقت في ظل الحضارة الإسلامية العظيمة. ويعود شوقي مرة أخرى ليقارن بين الحضارات الرومانية القديمة والحضارة الإسلامية في بعد من أبعاد الحضارة وهو بعد القوانين والشرائع التي تحكم وتحدو ولكنها إذا ما ذكرت إلى جوار الشرائع الإسلامية فانها لا تكون ذات قيمة ويستخدم هنا شوقي أسماء العواصم رموزا للحضارات، فروما عاصمة الحضارة الرومانية القديمة وهي رمز لها وبغداد عاصمة الخلافة الإسلامية في العصر العباسي وهي رمز للحضارة الإسلامية في أوج مجدها واتساعها وعظمتها إذن فلا مجال عند شوقي للمقارنة بين الشرائع الرومانية والشريعة الإسلامية، فالشريعة الإسلامية لا تقف أمامها شرائع الرومان في أي مجتمع من المجتمعات وليس هناك أوضح ولا أعدل في الحكم بين المتخاصمين مما في قوانينهما. ويقارن شوقي أيضا بين الحكام العظام الذين حكموا في ظل الحضارتين الرومانية القديمة والحضارة الاسلامية في ظل الخلافة العباسية فيقطع بأن الحضارة الرومانية وهي حضارة عظيمة وحكامها كثير منهم عظاماء إلا أنهم إذا ما قورنوا بالرشيد والمأمون والمعتصم لم تكن المقارنة أبدا في صالحهم. وباختصار لم يوجد بين حكامهم ما يعدل واحدا من هؤلاء الخلفاء المسلمين العظام فالخلفاء المسلمون على شاكلة الرشيد والمأمون والمعتصم كانوا قادة عسكريين لا يشق لهم غبار، ولا يقف أمامهم أبدا قادة عسكريون أو علماء ولا يقف إلى جانبهم أو يدانيهم أصحاب العقول والفهم فهم أيضا علماء يحنى لهم العلماء رؤوسهم إذا تكلموا ليس من هيبة الحكم وإنما من هيبة العلم الذي كانت تجيش به صدور هؤلاء الخلفاء وتبرزه عقولهم الفذة.

10 - الخلفاء الراشدون:

وإلى جانب القوة العسكرية والعلم والمعرفة تميز الخلفاء المسلمون بالكرم الوافر والعناية بالعمران لتعمير الأرض فلم يكن بأرضهم أرض مجدبة لا تنتج ولا كان في ملكهم فقير معدم. فخيرهم عم الأرض ومن عليها من بشر. وهكذا من خلال تلك الأبيات وعددها أحد عشر بيتا يعلى شوقي من قيمة وأصالة الحضارة الإسلامية، ويسمو بها على كل الحضارات السابقة فهي حضارة دنيا ودين وروح ومادة قامت على أساس من سنن الله سبحانه وتعالى، فأما الحضارات الاخرى فقد قامت على بعد واحد اهتم بالجانب المادي لذلك انتهت ولم تبق سوى هياكلها، فأما الحضارة الإسلامية فهي حضارة باقية لأنها تقوم على أساس قوي وهو شريعة الله، وتتضح من المقارنة التي عقدها شوقي في خلال هذه الأبيات ثقافته الإنسانية والمامه بالحضارات القديمة وتوغله في أبعادها ورؤيته الخاصة لها، ودفاعه عن الحضارة التي ينتمى إليها روحا ووجدانا وعقلا وهي الحضارة الإسلامية العظيمة التي جمعت بين المادة والروح وكانت موجهة للإنسانية جمعاء وليست كتلك الحضارات التي كانت مسخرة لخدمة وتمجيد الملوك والقياصرة فحسب. 10- الخلفاء الراشدون: لم يتناول كعب بن زهير في قصيدته (البردة) مدحا أو اطراء لأحد من الخلفاء الراشدين وذلك لأن الخلافة لم تكن وقتها بل كان الخلفاء ضمن الفئة المؤمنة التي امنت بالرسول، وانما أشار إليهم حينما عرض لمدح المسلمين المجتمعين حول الرسول صلّى الله عليه وسلّم في المسجد في قوله: - في عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زوالوا (........) وقوله: يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل

والإمام البوصيري أيضا لم يتوقف خلال قصيدته عند صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يذكرهم إلا ذكرا عابرا بألقابهم كما في البيت التالي: - فالصدق في الغار والصديق لم يرما ... وهم يقولون ما بالغار من ارم فقد أشار هنا وفي هذا البيت إلى لقب أبي بكر الصديق فقط. وورد ذكر الخلفاء الراشدين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وال بيته في البيتين التاليين كذلك، قال: ثم الرضا عن أبي بكر وعن عمر ... وعن على وعن عثمان ذي الكرم والال والصحب ثم التابعين فهم ... أهل التقى والتقى والحلم والكرم ولا غرو في ذلك فقد انصب كل اهتمام البوصيري على مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتوسل به ومناجاته وعرض حاجاته على الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو الغرض الأساسي من القصيدة. أما شوقي فقد تميز عن كعب بن زهير وعن الامام البوصيري على الرغم من اعترافه بأنه نهج نهجه في القصيدة، فقد أفاض شوقي في مدح الخلفاء الراشدين كما مدح في نفس القصيدة الصحابة رضوان الله عليهم بوجه عام، وهذا أمر طبيعي فشوقي منذ البداية مدح حضارة بأكملها بمبادئها وقيمها وروادها وعلى رأسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن نهج نهجه وسار على خطاه ومدح الخلفاء الراشدين الأربعة ويضاف إليهم خامسهم عمر بن عبد العزيز، فقد استحقوا هذا المديح لأنهم خلفاء الرسول وخلائف الله في أرضه، وهذا اهتمام بشأنهم وتيمنا بذكرهم وذلك ابتداء من البيت التالي: خلائف الله جلوا عن موازنه ... فلا تقيسن أملاك الورى بهم وفيه نجد شوقي يرفع من شأن هؤلاء الخلفاء الراشدين إلى درجة لا يمكن معها أن تقاس إلى جانبهم أملاك الدنيا وسلاطينها، وفي الأبيات التالية. لهذا البيت شدّد شوقي فضائل كل خليفة من هؤلاء الخلفاء وما تميز به من صفات وخلائق صارت دلائل على كل واحد منهم ما إن ذكرت حتى يقفز إلى الذهن

11 - المناجاة وعرض الحاجات: -

صاحبها دون غيره من البشر، وشوقي في أبياته لم يلتزم خطأ تاريخيا في ذكر الخلفاء وإنما اعتمد على الصفات المميزة لكل منهم في ذكره لهم مبتدئا بالفاروق عمر بن الخطاب العادل الذي لم يفقه أحد قبله في عدله ثم ينتقل إلى عمر بن عبد العزيز وخشوعه وتقواه وزهده، ثم الإمام علي بن أبي طالب باب مدينة العلم كما ورد على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد وصفه شوقي بالعلم الزاخر والأدب الذاخر والبطولة في الحرب وفي السلم ثم يعرج شوقي على عثمان بن عفان وماثره في حفظ القران وجمع آياته واستشهاده وهو منكب على كتاب الله فكان في هذا مأساتان في كيد الإسلام بتعبير شوقي لم يلتئما، (جرح الشهيد وجرح بالكتاب دمي) ثم يتحدث شوقي عن أبي بكر أول الخلفاء وبلائه في سبيل الإسلام التي تعد من جلائل الأعمال، وفي مقدمتها حرب الردة وانتصاره فيها بعد أن كاد الإسلام يضيع على أيدي فئة باغية وأيضا مواقفه الخطيرة كموقفه يوم أن قبض الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه واعلانه (أن من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) . فقد كان حقا في هذه اللحظة رجل الموقف الصعب ساعة أن فقد كبار الصحابة رشدهم وذهلوا من صدمة الخبر وهم ليسوا في ذلك كما يرى شوقي: (فقد مات الحبيب فضل الصب عن رغم) . 11- المناجاة وعرض الحاجات: - لم يطرح كعب بن زهير في قصيدته التي القاها أمام الرسول صلّى الله عليه وسلّم حاجة من الحاجات اللهم إلا طلب العفو عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقبوله اعتذاره، وقد تناولنا بالشرح في الأبواب السابقة مقاصد قصيدة كعب بن زهير. أما الإمام البوصيري فبعد أن مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طلب العفو عن كل ما أسلف في حياته من الذنوب فيقول: خدمته بمديح استقيل به ... ذنوب عمر مضى في الشعر والخدم

وبعد أن مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم وتوسل إليه بدأ في مناجاته وعرض حاجاته ابتداء بقوله: يا أكرم الخلق ما لي من الوذ به ... سواك عند حلول حادث العمم ففي هذه المجموعة من الأبيات يناجي البوصيري الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بأن يكون شفيعه عند رب العرش العظيم. ويلاحظ أن حاجة البوصيري التي عبر عنها في هذه الأبيات أمر يخصه هو شخصيا وليس هناك من مأخذ في هذا على الإمام البوصيري، فالإنسان هو المسئول عن عمله وهو الذي يجازي به، وبعد مناجاة الرسول يخاطب الإمام البوصيري نفسه في لحظة لا شعورية هائما محاولا أن يزيل عنها اليأس والقنوط لأن رحمة الله قد وسعت كل شيء، وفي هذا تقرب إلى الله سبحانه وتعالى ورجاء أن يغفر ذنبه مهما عظم ثم يستمر في التضرع إلى الله سبحانه وتعالى والرجاء أن يلطف به في الدنيا والاخرة وأن يصلي على رسوله دائما وأبدا فهو الشفيع له في خلقه. ويختتم الإمام البوصيري قصيدته بأعذب مناجاة وأخلص رجاء يطلبه المحب العاشق لحبيبه ومعشوقه، والحبيب هنا هو المصطفى صلّى الله عليه وسلّم والمحب هو الإمام البوصيري، فيرجو الله أن يصلي على رسوله صلاة دائمة في كل الأوقات. ويلاحظ أن البوصيري قد بدأ هذا الجزء الخاص بالمناجاة بتعبير (يا أكرم الخلق) ولكن نجد هذا الاستهلال في مراجع أخرى واردا بتعبير (يا أكرم الرسل) وان كنت أميل إلى التعبير الأول ففيه الشمولية التي يريدها البوصيري لتعظيم مكانة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ورفع شأنه وتمهيد للاستعانة به والتوصل إلى الله سبحانه وتعالى. أما الملاحظة الثانية فهي أن هناك أبيات قال البعض عنها أنها سقطت من البردة، ويؤكدون انتسابها للإمام البوصيري بعد أن روجعت النسخ المحفوظة في كثير من دور الكتاب وهذه الأبيات تبدأ بقوله: - يا رب بالمصطفى بلغ مقاصدنا ... واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم

وعددها خمسة أبيات يناجي الإمام البوصيري فيها ربه متوسلا إليه برسوله المصطفى أن يغفر للمسلمين قاطبة بفضل ما يتلونه من القران الكريم في بيوت الله وهذه الأبيات يرى البعض أنها ليست للإمام البوصيري وأن قصيدة البوصيري تنتهي عند الصلاة على الرسول في البيت الذي يقول فيه: ما رنحت عذابات البان ريح صبا ... واطرب العيسى حادي العيسى بالنغم ولنا هنا رأي خاص هو أن هذه الأبيات هي للإمام البوصيري، ولكن قصيدته (البردة) تنتهي تماما كما قال معارضو هذا الرأي عند (واطرب العيس حادي العيس بالنغم) . ودليلنا هذا البيت الذي يقول فيه البوصيري: - (ما رنحت عذابات البان ريح صبا.. الخ) وتكون هذه الأبيات الأخيرة مجرد دعاء خالص يختتم به الامام الوصيري صلاته على النبي صلّى الله عليه وسلّم دون القصد أن تكون ملحقة ببردته. أما أحمد شوقي فقد تناول هذا الموضوع كما تناوله الامام البوصيري فهو يناجي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويتوسل به ويتضرع إليه وألقى حاجته ورجاءه بين يديه. وفعل ذلك في الجزء الذي أشرنا إليه سابقا والخاص بالضراعة والتوسل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، ثم فعله مرة ثانية في نهاية القصيدة ولكنه وان كان قد عرض حاجة شخصية في الجزء السابق الذي قال فيه: ان جل ذنبي عن الغفران لي أمل ... في الله يجعلني في خير معتصم ففي الجزء الأخير يطلب شوقي بعد أن يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى أصحابه وال بيته الكرام يطلب من الله سبحانه وتعالى مستعينا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم الهداية واللطف بالمسلمين قاطبة وذلك ابتداء من قوله: يا رب هبت شعوب من مينتها ... واستيقظت أمم من رقدة العدم إلى قوله: يا رب أحسنت بدأ المسلمين به ... فتمم الفضل وامنح حسن مختتم

فشوقي يطلب للمسلمين اللطف من الله عز وجل لأجل رسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم ويطلب اللطف بهم لما هم فيه من ضعف وتشتت وتفرق واستبداد وخضوع لشعوب قامت من موات في غفلة المسلمين، وهنا نجد شوقي يتألم لما ال اليه حال المسلمين فبعد أن كانوا السادة في هذه المعمورة، أصبحوا وقت ان كتب شوقي هذه القصيدة- مستعمرين أذلاء تحكمهم شعوب وأمم كانت تخضع لهم من قبل فتغير الحال وأصبح المسلمون هم المحكومين، فشوقي يتحدث بكل مرارة وأ لم عما حل بالمسلمين وهو الوضع الذي ما زال قائما حتى الان وان تغيرت بعض الملامح وذلك وضع لم يألفه كعب ولا الإمام البوصيري، ومن هنا جاءت كلمات شوقي ومعانيه تنبض بالألم والحسرة، ومن هنا كان دعاؤه حارا وابتهاله إلى الله سبحانه وتعالى أن يغير هذا الوضع وأن يلطف بالمسلمين بفضل رسوله الكريم فقال: (ولا تزد قومه خسفا ولا تسم) ثم يختتم رجاءه إلى الله سبحانه وتعالى أن يتم فضله على المسلمين وأن يجعل خاتمتهم حسنة كما كانت بدايتهم حسنة، ويلاحظ هنا تميزّ شوقي عن الإمام البوصيري عندما عرض حاجة أمة بأسرها أصابها الضعف والوهن عند المقارنة بالأمم الاخرى، والضعف نابع من داخلها: ولعل شوقي يقصد في أبياته الأخيرة التي يدعو فيها ربه أن يضع الصورة المثلى لما يجب أن يكون عليه المسلم، الصورة التي لو تحققت في المسلمين الحاليين لعادوا للوضع الذي كانوا عليه في عهد الرسول الأعظم وصحابته الأبرار، فشوقي هنا يدعو الله سبحانه وتعالى ويسأله اللطف بالمسلمين والإحسان إليهم وينبه في نفس الوقت المسلمين إلى أن الله لن يغير حالهم إلا إذا هم غيروا ما بأنفسهم، وجاء هذا المعنى ضمنا عندما أشار إلى صفات الرسول وأخلاقه، وقيمه ومثله، وأخلاق صحابته ومن سار على نهجه، ولعل حرارة دعاء شوقي المتأججة كانت تعبيرا عن الوضع الخطير الذي صار إليه حال المسلمين في عهده الذي عاشه وقت تامر أعداء الإسلام من كل الجهات من الداخل والخارج والذي وصل إلى حد احتلالهم والسيطرة عليهم ونشر مثلهم وقيمهم الخاصة بين المسلمين وهو الحال

الذي لم يعشه الامام البوصيري. وكل ما كان في عصر البوصيري هو صراع داخلي بين المسلمين، فلم تكن القضية المطروحة صراع أمة مسلمة ضد أمة غير مسلمة وإنما صراع بين انخراطهم في الحياة ولذاتها وبين عودتهم إلى الطريق القويم ولذلك كان دعاء البوصيري للمسلمين في الأبيات المتممة للبردة أن يغفر لهم الذنوب بفضل القران الكريم ويفضل الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم. اذن فشمولية دعاء شوقي للمسلمين أفرادا وأمة جاء تعبيرا عن الحال الذي شهده شوقي وعاشه من ضيعة الأمة الإسلامية وتفككها وخضوعها وسيطرة أمم غير مسلمة بل معادية للإسلام عليها، وكان في دعائه ثورة مسلم معتز كل الاعتزاز بإسلامه كما يجب أن يكون الاسلام وصورته الحقة مجسدة في الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام وعلى صحابته الأبرار.

النصوص الكاملة للقصائد الثلاث

[النصوص الكاملة للقصائد الثلاث] قصيدة كعب بن زهير بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم أثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة البين اذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... لا يشتكي قصر منها ولا طول تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول شجت بذي شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول تنفي الرياح الذي عنه وأترفه من ... صوب سارية بيض يعاليل فيالها خلة لو أنها صدقت ... بوعدها أو لو أن النصح مقبول لكنها خلة سيط من دمها ... فجع وولع واخلاف وتبديل فما تدوم على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول وما تمسك بالعهد الذي زعمت ... إلا كما يمسك الماء الغرابيل فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... ان الأماني والأحلام تضليل كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل أرجو وامل أن تدنو مودتها ... وما أخال لدينا منك تنويل أمست سعاد بأرض لا يبلغها ... إلا العتاق النجيبات المراسيل ولن يبلغها إلا عذافرة ... فيها على الأين أرقال وتبغيل من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت ... عرضتها طامس الاعلام مجهول ترمي الغيوب بعيني مفرد لهق ... إذا توقدت الحزان والميل ضخم مقلدها فعم مقيدها ... في خلقها عن بنات الفحل تفضيل غلباء جناء علكوم مذكرة ... في دفها سعة قدامها ميل وجلدها من أطوم ما يؤيسه ... طلح بضاحية المتنين مهزول حرف أخوها أبوها من مهجنه ... وعمها خالها قوادء شمليل يمشي القراد عليها ثم يزلقه ... منها لبان وأقراب زهاليل عيرانة قذفت بالنحض عن عرض ... مرفقها عن بنات الزور مفتول

كأنما فات عينيها ومذبحها ... من خطمها ومن اللحين برطيل تمر مثل عسيب النخل ذا خصل ... في غارز لم تخونه الأحاليل قنواء في حرتيها للبصير بها ... عتق مبين وفي الخدين تسهيل تخدى على يسرات وهي لاحقة ... ذوابل مسهن الأرض تحليل سمر العجايات يتركن الحصى زيما ... لم يقهن رؤوس الأكم تنعيل كأن أوب ذراعيها وقد عرقت ... وقد تلفح بالقور العساقيل يوما يظل به الحرباء مصطخدا ... كأن ضاحية بالشمس مملول وقال للقوم حاديهم وقد جنلت ... ورق الجنادب يركضن الحصا قيلو شد النهار ذرعا عيطل نصف ... قامت فجاوبها نكد مثاكيل نواحة رخوة الضبعين ليس لها ... لما نعى بكرها الناعون معقول تفرى اللبان بكفيها ومدرعها ... مشقق عن تراقيها رعابيل يسعى الوشاة جنابيها وقولهم ... انك يابن أبي سلمى لمقتول وقال كل صديق كنت أمله ... لا ألهينك أني عنك مشغول فقلت خلو سبيلي لا أبا لكم ... فكل ما قدر الرحمن مفعول كل ابن انثى وان طالت سلامته ... يوما على الة حدباء محمول أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ... القران فيها مواعيظ وتفصيل لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب ولو كثرت في الأقاويل لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل لظل يرعد إلا أن يكون له ... من الرسول باذن الله تنويل حتى وضعت يميني ما أنازعه ... في كف ذي نقمات قيلة القيل لذلك اهيب عندي إذا اكلمه ... وقيل انك منسوب ومسئول من ضيغم بضراء الأرض مخدرة ... في بطن عثر غيل دونه غيل يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما ... لحم من الناس معفور خراديل إذا يساور قرنا لا يحل له ... أن يترك القرن إلا وهو مغلول

منه تظل سباع الجو نافرة ... ولا تمشي بواديه الأراجيل ولا يزال بواديه أخو ثقة ... مضرج البز والدرسان مأكول ان الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول في عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زالوا زالوا فما زال أنكاس ولا كشف ... عند اللقاء ولا ميل معازيل شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل بيض سوابغ قد شكت لها حلق ... كأنها حلق القفعاء مجدول لا يفرحون إذا نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل

قصيدة الامام البوصيري

قصيدة الامام البوصيري أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم أم هبت الريح من تلقاء كاظمة ... وأومض البرق في الظلماء من أضم فما لعينك ان قلت أكففا هتما ... وما لقلبك ان قلت استفق يهم أيحسب الصب ان الحب منكتم ... ما بين منسجم منه ومضطرم لولا الهوى لم ترق دمعا على طلل ... ولا أرقت لذكر البان والعلم فكيف تنكر حبا بعد ما شهدت ... به عليك عدول الدمع والسقم وأثبت الوجد خطى عبرة وضنى ... مثل البهار على خديك والعنم نعم سرى طيف من أهوى فأرقني ... والحب يعترض اللذات بالألم يا لائمي في الهوى العذرى معذرة ... منى اليك ولو أنصفت لم تلم عدتك حالي لا سرى بمستتر ... عن الوشاة ولا دائي بمنحسم محضتني النصح لكن لست أسمعه ... ان المحب عن العذال في صمم اني اتهمت نصيح الشيب في عذل ... والشيب أبعد في نصح عن التهم فان امارتي بالسوء ما اتعظت ... من جهلها بنذير الشيب والهرم ولا أعدت من الفعل الجميل قرى ... ضيف ألم برأسي غير محتشم لو كنت أعلم أني ما أوقره ... كتمت سرا بدا لي منه بالكتم من لي برد جماح من غوايتها ... كما يرد جماح الخيل باللجم فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتها ... ان الطعام يقوى شهوة التهم والنفس كالطفل ان تهمله شب على ... حب الرضاع وان تفطمه ينفطم فاصرف هواها وحاذر أن توليه ... ان الهوى ما تولى يصم أو يصم وراعها وهي في الأعمال سائمة ... وان هي استحلت المرعى فلا تسم كم حسنت لذة للمرء قاتلة ... من حيث لم يدر أن السم في الدسم واخش الدسائس من جوع ومن شبع ... فرب مخصة شر من التخم واستفرغ الدمع من عين قد امتلأت ... من المحارم والزم حمية الندم

وخالف النفس والشيطان واعصهما ... وان هما محضاك النصح فاتهم ولا تطع منهما خصما ولا حكما ... فانت تعرف كيد الخصم والحكم استغفر الله من قول بلا عمل ... لقد نسبت له نسلا لذي عقم أمرتك الخير لكن ما ائتمرت به ... وما استقمت فما قولي لك استقم ولا تزودت قبل الموت نافلة ... ولم أصل سوى فرض ولم أصم ظلمات سنة من أحياء الظلام الى ... أن اشتكت قدماه الضر من ورم وشد من سغب أحشاءه وطوى ... تحت الحجارة كشحا مترف الادم وراودته الجبال الشم من ذهب ... عن نفسه فأراها أيما شمم وأكدت زهده فيها ضرورته ... ان الضرورة لا تعدو على العصم وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا منالعدم محمد سيد الكونين والثقلين ... والفريقين من عرب ومن عجم نبينا الامر الناهي فلا أحد ... أبر في قول لا منه ولا نعم هو الحبيب الذي ترجى شفاعته ... لكل هول من الأهوال مقتحم دعا إلى الله فالمستمسكون به ... مستمسكون بحبل غير منفصم فاق النبيين في خلق وفي خلق ... ولم يدانوه في علم ولا كرم وكلهم من رسول الله ملتمس ... غرفا من البحر أو رشفا من الديم ووافقون لديه عند حدهم ... من نقطة العلم أو من شكلة الحكم فهو الذي تم معناه وصورته ... ثم اصطفاه حبيبا باريء النسم منزه عن شريك في محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منفسم دع ما ادعته النصاري في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف ... وانسب إلى قدرة ما شئت من عظم فان فضل رسول الله ليس له ... حد فيعرب عنه ناطق بفم لو ناسبت قدره ايباته عظاما ... أحيى اسمه حين يدعو دارس الرمم لم يمتحنا بما تعي العقول به ... حرصا علينا فلن نرتب ولم نهم أعيى الورى فهم معناه فليس يرى في ... القرب والبعد فيه غير منفحم

كالشمس تظهر للعينين من بعد ... صغيرة ونكل الطرف من أمم وكيف يدرك في الدنيا حفيقته ... قوم نيام تسلوا منه بالحلم فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم وكل اي أتى الرسل الكرام بها ... فانما اتصلت من نوره بهم فانه شمس فضل هم كواكبها ... يظهرون أنوارها للناس في الظلم أكرم بخلق نبي زانه خلق ... بالحسن مشتمل بالبشر متسم كالزهر في ترف والبدر في شرف ... والبحر في كرم والدهر في همم كأنه، وهو فرد من جلالته ... في عسكر حين تلقاه وفي حشم كأنما اللؤلؤ المكنون في صدف ... من معدني منطق منه ومبتسم لا طيب بعدل تربا ضم أعظمه ... طوبى لمنتشق منه وملتثم ابان مولده عن طيب عنصره ... يا طيب مبتدأ منه ومختتم يوم تفرس فيه الفرس أنهم ... قد أنذروا بحلول البؤس والنقم وبات ايوان كسرى وهو منصدع ... كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم والنار خامدة الأنفاس من أسف ... عليه والنهر ساهي العين من سدم وساء ساوة ان غاضت بحيرتها ... ورد واردها بالغيظ حين ظمى كأن بالنار ما بالماء من بلل ... حزنا وبالماء ما بالنار من ضرم والجن تهتف والأنوار ساطعة ... والحق يظهر من معنى ومن كلم عموا وصموا فاعلان البشائر لم ... تسمع وبارقة الانذار لم تشم من بعد ما اخبر الأقوام كاهنهم ... بأن دينهم المعوج لم يقم وبعد ما عاينوا في الأفق من شهب ... منقضة وفق ما في الأرض من صنم حتى غدا عن طريق الوحي منهزم ... من الشياطين يقفوا اثر منهزم كأنهم هربا أبطال ابرهة ... أو عسكر بالحصى من راحتيه رمى نبذا به بعد تسبيح ببطنهما ... نبذا لمسبح من أحشاء ملتقم جاءت لدعوته الأشجار ساجدة ... تمشيء إليه على ساق بلا قدم كأنما سطرت سطرا لما كتبت ... فروعها من بديع الخط في اللقم

مثل الغمامة أني سار سائرة ... تقيه حر وطيس للهجير حمى أقسمت بالقمر المنشق أن له ... من قلبه نسبة مبرورة القسم وما حوى الغار من خير ومن كرم ... وكل طرف من الكفار عنه عمى فالصدق في الغار والصديق لم يرما ... وهم يقولون ما بالغار من ارم ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خير البرية لم تنسج ولم تحم وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عال من الأطم ما سامني الدهر ضيما واستجرت به ... إلا ونلت جوارا منه لم يضم ولا التمست غنى الدارين من يده ... إلا استلمت الندى من خير مستلم لا تنكر الوحى من رؤياه ان له ... قلبا إذا نامت العينان لم ينم وذاك حين بلوغ من نبوته ... فليس ينكر فيه حال محتلم تبارك الله ما وحي بمكتسب ... ولا نبي على غيب بمتهم كم أبرأت وصبا باللمس راحته ... وأطلقت أربا من ريقه اللمم وأحييت السنة الشهباء دعوته ... حتى حكت غرة في الأعصر الدهم بعارض جاد أو خلت البطا بها ... سيب من اليم أو سيل من العرم دعني ووصفي ايات له ظهرت ... ظهور نار القرى ليلى على علم فالدر يزداد حسنا وهو منتظم ... وليس نيقص قدرا غير منتظم فما تطاول امال المديح إلى ... ما فيه من كرم الأخلاق والشيم ايات حق من الرحمن محدثة ... قديمة صفة الموصوف بالقدم لم تقترن بزمان وهي تخبرنا ... عن المعاد وعن عاد وعن ارم دامت لدينا ففاقت كل معجزة ... من النبين إذ جاءت ولم تدم محكمات فما تبقين من شبه ... لذي شقاق وما تبغين من حكم ما حوربت قط إلا عاد من حرب ... اعدى الأعادي إليها ملقى السلم ردت بلاغتها دعوى معارضها ... رد الغيور يد الجاني عن الحرم لها معان كموج البحر في مدد ... وفوق جوهرة في الحسن والقيم فما تعد ولا تحصى عجائبها ... ولا تسام على الاكثار بالسام

قرت بها عين قاريها فقلت له ... لقد ظفرت بحبل الله فاعتصم ان تتلها خيفة من حر نار لظى ... أطفأت نار لظى من وردها الشبم كأنها الحوض تبيض الوجوه به ... من العصاة وقد جاؤا كالحمم وكالصراط وكالميزان معدله ... فالقسط من غيرها في الناس لم يقم لا تعجبن لحسود راح ينكرها ... تجاهلا وهو عين الحاذق الفهم قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم يا خير من يمم العافون ساحته ... سعيا وفوق متون الاينق الرسم ومن هو الاية الكبرى لمعتبر ... ومن هو النعمة العظمى لمغتنم سريت من حرم ليلا إلى حرم ... كما سرى البدر في داج من الظلم وبت ترقى إلى أن نلت منزلة ... من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم وقد متك جميع الأنبياء بها ... والرسل تقديم مخدوم على خدم وأنت تخترق السبع الطباق بهم ... في موكب كنت فيه صاحب العلم حتى إذا لم تدع شأوا لمستبق ... من الدنو ولا مرقى لمستنم خفضت كل مقام بالاضافة إذ ... نوديت بالرفع مثل المفرد العلم كيما تفوز بوصل أي مستتر ... عن العيون وسر أي مكتتم فحزت كل فخار غير مشترك ... وحزت كل مقام غير مزدحم وجل مقدار ما وليت من رتب ... وعز ادراك ما أوليت من نعم بشرى لنا معشر الاسلام ان لنا ... من العناية ركنا غير منهدم لما دعا الله داعينا لطاعته ... يا أكرم الرسل كنا أكرم الأمم راعت قلوب العدا أنباء بعثته ... كنبأة أجفلت غفلا من الغنم ما زال يلقاهم في كل معترك ... حتى حكوا بالقنا لحما على وضم ودوا الفرار فكادوا يغبطون به ... اشلاء شالت مع العقبان والرخم تمضي الليالي ولا يدرون عدتها ... ما لم تكن من ليالي الأشهر الحرم كأنما الدين ضيف حل ساحتهم ... بكل قرم إلى لحم العدا قرم يجر بحر خميس فوق سابحة ... يرمى بموج من الأبطال ملتطم

من كل منتدب لله محتسب ... يسطو بمستأصل للكفر مصطلم حتى غدت ملة الإسلام وهي بهم ... من بعد غربتها موصولة الرحم مكفولة أبدا منهم بخير أب ... وخير بعل فلم تيتم ولم تئم هم الجبال فسل عنهم مصادمهم ... ماذا رأى منهم في كل مصطدم وسل حنينا وسل بدرا وسل أحدا ... فصول حتف لهم أدهى من الوخم المصدري البيض حمرا بعد ما رودت ... من العدا كل مسود من اللمم والكاتبين بسمر الخط ما تركت ... أقلامهم حرف جسم غير منعجم شاكي السلاح لهم سيما تميزهم ... والورد يمتاز بالسيما من السلم تهدى اليك رياح النصر نشرهم ... فتحسب الزهر في الأكمام كل كمى كأنهم في ظهور الخيل نبئت ربا ... من شدة الحزم لا من شدة الحزم طارت قلوب العدا من بأسهم فرقا ... فما تفرق بين البهم والبهم ومن تكن برسول الله نصرته ... ان تلقه الأسد في اجامها تجم ولن ترى من ولى غير منتصر ... به ولا من عدو غير منقصم أحل أمته في حرز ملته ... كالليث حل مع الأشبال في أجم كم جدلت كلمات الله من جدل ... فيه وكم خصم البرهان من خصم كفاك بالعلم في الأمى معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم خدمته بمديح استقيل به ... ذنوب عمر مضى في الشعر والخدم إذ قلداني ما تخشى عواقبه ... كأنني بهما هدى من النعم أطعمت غي الصبا في الحالتين وما ... حصلت إلا على الاثام والندم فيا خسارة نفس في تجارتها ... لم تشتر الدين بالدنيا ولم تسم ومن يبيع اجلا منه بعاجلة ... يبن له الغبن في بيع وفي سلم ان ات ذنبا فما عهدي بمنتقض ... من النبي ولا حبلى بمنصرم فان لي ذمة منه بتسميتي ... محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم ان لم يكن في معادي اخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم حاشاه أن يحرم الراجي مكارمه ... أو يرجى الجار منه غير محترم

ومنذ الزمت أفكاري مدائحه ... وجدته لخلاصي خير ملتزم ولن يفوت الغنى منه يدا تربت ... ان الحيا ينبت كالأزهار في الأكم ولم أرد زهرة الدنيا التي اقتطفت ... يدا زهير بما أثنى على هرم يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذ الكريم تجلى باسم منتقم فان من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم يا نفس لا تقنطي من زلة عظمت ... ان الكبائر في الغفران كالمم لعل رحمة ربي حين يقسمها ... تأتي على حسب العصيان في القسم يا رب واجعل رجائي غير منعكس ... لديك واجعل حسابي غير منخرم والطف بعبدك في الدارين ان له ... صبرا متى تدعه الأهوال ينهزم واذن لسحب صلاة منك دائمة ... على النبي بمنهل ومنسجم ما رنحت عذابات البان ريح صبا ... واطرب العيس حادي العيس بالنغم ثم الرضا عن أبي بكر وعن عمر ... وعن علي وعن عثمان ذي الكرم والال والصحب ثم التابعين فهم ... أهل التقى والنقى والحلم والكرم يا رب بالمصطفى بلغ مقاصدنا ... واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم واغفر الهي لكل المسلمين بما ... يتلوه في المسجد الأقصى وفي الحرم بجاه من بيته في طيبة حرم ... واسمه قسم من أعصم القسم وهذه بردة المختار قد ختمت ... والحمد لله في بدء وفي ختم أبياتها قد أتت ستين مع مائة ... فرج بها كربنا يا واسع الكرم

قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي

قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي ريم على القاع بين البان والعلم ... أحل سفك دمي في الأشهر الحرم رمى القضاء بعيني جؤذر أسدا ... يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم لما رنا حدثتني النفس قائلة ... يا ويج جنبك بالسهم المصيب رمى جحدتها وكتمت السهم في كبدي ... جرح الأحبة عندي غير ذي الم رزقت أسمح ما في الناس من خلق ... إذا رزقت التماس العذر في الشيم يالائمي في هواه والهوى قدر ... لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم لقد انلتك إذنا غير واعية ... ورب منتصت والقلب في صمم يا ناعس الطرف لاذقت الهوى أبدا ... أسهرت مضناك في حفظ الهوى، فنم أفديك الفا ولا الو الخيار فدى ... أغراق بالبخل من أغراه بالكرم سرى فصادف جرحا داميا فأسا ... ورب فضل على العشاق للحلم من الموائس بانا بالربى وقتا ... اللاعبات بروحي السافحات دمي السافرات كأمثال البدور ضحى ... يغرن شمس الضحى بالحلى والعصم القاتلات بأجفان بها سقم ... وللمنية أسباب من السقم العاثرات بألباب الرجال وما ... أقلن من عثرات الدل في الرسم المضرمات خدودا أسفرت وجلت ... عن فتنة تسلم الأكباد للضرم الحاملات لواء الحسن مختلفا ... أشكاله وهو فرد غير منقسم من كل بيضاء أو سمراء زينتا ... للعين، والحسن في الارام كالعصم برعن للبصر السامي، ومن عجب ... إذا أشرن أسرن الليث بالعنم وضعت خدي وقسمت الفؤاد ربي ... يرتعن في كنس منه وفي أكم يا بنت ذي اللبد المحمى جانبه ... القاك في الغاب أم القاك في الأطم ما كنت أعلم حتى عن مسكنه ... ان المنى والمنايا مضرب الخيم من أنبت العصن من صمصامة ذكر؟ ... وأخرج الريم من ضرغامة قرم؟ بيني وبينك من سمر القنا حجب ... ومثلها عفة عذرية العصم

لم أغش مغناك إلا في غضون كرى ... مغناك أبعد للمشتاق من ارم يا نفس دنياك تخفى كل مبكية ... وان بدا لك منها حسن مبتسم فضى بتقواك فها كلما ضحكت ... كما يفض أذى الرقشاء بالثرم مخطوبة منذ كان الناس خاطبة ... من أول الدهر لم ترمل ولم تئم يفنى الزمان ويبقى من اسائتها ... جرح بادم يبكي منه في الادم لا تحظى بجناها أو جنايتها ... الموت بالزهر مثل الموت بالفحم كم نائم لا يراها وهي ساهرة ... لولا الأماني والأحلام لم ينم طورا تمدك في نعمى وعافية ... وتارة في قرار البؤس والوصم كم ضللتك ومن تحجب بصيرته ... ان يلق صابا يرد أو علقما يسم يا ويلتاه لنفسي راعها ودها ... مسودة الصحف في مبيضة اللمم ركضتها في مريع المعصيات وما ... أخذت من حمية الطاعات للتخم هامت على أثر اللذات تطلبها ... والنفس ان يدعها داعي الصبا تهم صلاح أمرك للأخلاق مرجعه ... فقوم النفس بالأخلاق تستقم والنفس من خيرها في خير عافية ... والنفس من شرها في مرتع وخم تطفي إذا مكنت من لذة وهوى ... طغى الجياد إذا عضت على الشكم ان جل ذنبي عن الغفران لي أمل ... في الله يجعلني في خير معتصم ألقى رجائي إذا عز المجير على ... مفرج الكرب في الدارين والغمم إذا خفضت جناح الذل أسأله ... عز الشفاعة لم أسأل سوى أمم وان تقدم ذو تقوى بصالحة ... قدمت بين يديه عبرة الندم لزمت باب أمير الأنبياء ومن ... يمسك بمفتاح باب الله يغتنم فكل فضل واحسان وعارفة ... ما بين مستلم منه وملتزم علقت من مدحه حبلا أعز به ... في يوم لا عز بالأنساب واللحم يزري قريضي زهيرا حين أمدحه ... ولا يقاس إلى جودي ندى هرم محمد صفوة الباري ورحمته ... وبغية الله من خلق ومن نسم وصاحب الحوض يوم الرسل سائلة ... متى الورود وجبريل الأمين ظمى

سناؤه وسناه الشمس طالعة ... فالجرم في فلك والضوء في علم قد أخطأ النجم ما نالت أبوته ... من سؤدد باذخ في مظهر سنم نموا إليه فزادوا في الورى شرفا ... ورب أصل لفرع في الفخار نمى حواه في سبحات الطهر قبلهم ... نوران قاما مقام الصلب والرحم لما راه بجيرا قال نعرفه ... بما حفظنا من الأسماء والسيم سائل حراء وروح القدس هل علما ... مصون سر عن الادراك منكتم كم جيئة وذهاب شرفت بهما ... بطحاء مكة في الأصباح والغسم ووحشة لابن عبد الله بينهما ... أشهى من الانس بالاحباب والحشم يسامر الوحي فيها قبل مهبطه ... ومن يبشر بسيمي الخير يتسم لما دعا الصحب يستسقون من ظمإ ... فاضت يداه من التسنيم بالسنم وظللته فصارت تستظل به ... غمامة جذبتها خيرة الديم محبة لرسول الله اشربها ... قعائد الدير والرهبان في القمم ان الشمائل ان رقت يكاد بها ... يغرى الجماد ويغرى كل ذي نسم ونودى اقرأ تعالى الله قائلها ... لم تتصل قبل من قيلت له بفم هناك اذن للرحمن فامتلأت ... أسماع مكة من قدسية النغم فلا تسل عن قريش كيف حيرتها ... وكيف نفرتها في السهل والعلم تساءلوا عن عظيم قد ألم بهم ... رمى المشايخ والولدان باللمم يا جاهلين على الهادي ودعوته ... هل تجهلون مكان الصادق العلم؟ لقبتموه أمين القوم في صغر ... وما الأمين على قول بمتهم فاق البدور وفاق الأنبياء فكم ... بالخلق والخلق من حسن ومن عظم جاء النبيون بالايات فانصرمت ... وجئتنا بحكيم غير منصرم آياته كلما طال المدى جدد ... يزينهن جلال العتق والقدم يكاد في لفظه منه مشرفة ... يوصيك بالحق والتقوى وبالرحم يا أنصح الناطقين الضاد قاطبة ... حديثك الشهد عند الذائق الفهم حليت من عطل جيد البيان به ... في كل منتثر في حسن منتظم

بكل قول كريم أنت قائله ... تحيي القلوب وتحيي ميت الهمم سرت بشائر بالهادي ومولده ... في الشرق والغرب مسرى النور في الظلم تخطفت مهج الطاغين من عرب ... وطيرت أنفس الباغين من عجم ريعت لها شرف الايوان فانصدعت ... من صدمة الحق لا من صدمة القدم أتيت والناس فوضى لا تمر بهم ... إلا على صنم قد هام في صنم والأرض مملوءة جورا مسخرة ... لكل طاغية في الخلق محتكم مسيطر الفرس يبغى في رغيته ... وقيصر الروم من كبر أصم عم يعذبان عباد الله في شبه ... ويذبحان كما ضحيت بالغنم والخلق يفتك أقواهم بأضعفهم ... كالليث بالبهم أو كالحوت بالبلم أسرى بك الله ليلا إذ ملائكة ... والرسل في المسجد الأقصى على قدم لما خطرت به التفوا بسيدهم ... كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطر ... ومن يفز بحبيب الله يأتمم جبت السماوات أو ما فوقهن بهم ... على منورة درية اللجم ركوبة لك من عز ومن شرف ... لا في الجياد ولا في الأينق مشيئة الخالق الباري وصنعته ... وقدرة الله فوق الشك والتهم حتى بلغت سماء لا يطار لها ... على جناح ولا يسعى على قدم وقيل كل نبي عند رتبته ... ويا محمد هذا العرش فاستلم خططت للدين والدنيا علومهما ... يا قاريء اللوح بل بالأمس القلم أحطت بينهما بالسر وانكشفت ... لك الخزائن من علم ومن حكم وضاعف القرب ما قلدت من منن ... بلا عداد وما طوقت من نعم سل عصبة الشرك حول الغار سائمة ... لولا مطاردة المختار لم تسم هل أبصروا الأثر الوضاء أم سمعوا ... همس التسابيح والقران من أمم؟ وهل تمثل نسج العنكبوت لهم ... كالغاب، والحائمات الزغب كالرخم فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم ... كباطل من جلال الحق منهزم لولا يد الله بالجارين ما سلما ... وعينه حول ركن الدين لم يقم

تواريا بجناح لله وأستترا ... ومن يضم جناح الله لا يضم يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي ... وكيف لا يتسامى بالرسول سمى المادحون وأرباب الهوى تبع ... لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم مديحه فيك حب خالص وهوى ... وصادق الحب يملي صادق الكلم الله يشهد أني لا أعارضه ... من ذا يعارض صوب العارض العرم وإنما أنا بعض الغابطين ومن ... يغبط وليك لا يذمم ولا يلم هذا مقام من الرحمن مقتبس ... ترمى مهابته سحبان بالبكم البدر دونك في حسن وفي شرف ... والبحر دونك في خير وفي كرم شم الجبال إذا طاولتها انخفضت ... والأنجم الزهر ما واسمتها تسم والليث دونك بأسا عند وثبته ... إذا مشيت إلى شاكي السلاح كمى تهفو إليك وان أدميت حبتها ... في الحرب أفئدة الأبطال والبهم محبة الله ألقاها وهيبته ... على ابن امنة في كل مصطدم كأن وجهك تحت النقع بدر دجى ... يضيء ملتثما أو غير ملتثم بدر تطلع في بدر فغرته ... كغرة النصر تجلو داجي الظلم ذكرت باليتيم في القران تكرمة ... وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم الله قسم بين الناس رزقهم ... وأنت خيرات في الأرزاق والقسم ان قلت في الأمر لا، أو قلت فيهم نعم ... فخيره عند الله في لا منك أو نعم أخوك عيسى دعا ميتا فقام له ... وأنت أحييت أجيالا من الرسم والجهل موت، فأن أوتيت معجزة ... فابعث منالجهل أو فابعث من الرجم قالوا غزوت، ورسل الله ما بعثوا ... لقتل نفس ولا جاؤا لسفك دم جهل وتضليل أحلام وسفسطة ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم لما أتى لك عفوا كل ذي حسب ... تكفل السيف بالجهال والعمم والشر ان تلقه بالخير ضقت به ... ذرعا وان تلقه بالشر ينحسم سل المسيحية الغراء كم شربت ... بالصاب من شهوات الظالم الغلم طريدة الشرك يؤذيها ويوسعها ... في كل حين قتالا ساطع الحدم

لولا حماة لها هبوا لنصرتها ... بالسيف ما انتفعت بالرفق والرحم لولا مكان لعيسى عند مرسله ... وحرمة وجبت للروح في القدم لسمر البدن الطهر الشريف على ... لوحين لم يخض مؤذيه ولم يجم جل المسيح وذاق الصلب شائنة ... ان العقاب بقدر الذنب والجرم أخو النبي وروح الله في نزل ... فوق السماء ودون العرش محترم علمتهم كل شيء يجهلون به ... حتى القتال وما فيه من الذمم دعوتهم لجهاد فيه سؤددهم ... والحرب أس نظام الكون والأمم لولاه لم نر للدولات في زمن ... ما طال من عمد أو قر من دعم تلك الشواهد تترى كل اونة ... في الأعصر الغر لا في الأعصر الدهم بالأمس مالت عروش واعتلت سرر ... لولا القذائف لم تثلم ولم تصم أشياع عيسى أعدوا كل قاصمة ... ولم نعد سوى حالات منقصم مهما دعيت إلى الهيجاء قمت لها ... ترمى بأسد ويرمى الله بالرجم على لوائك منهم كل منتقم ... لله مستقتل في الله معتزم مسبح للقاء الله مضطرم ... شوقا على سابح كالبرق مضطرم لو صادف لدهر يبغي نقلة فرمى ... بعزمه في رحال الدهر لم يرم بيض مفاليل من فعل الحروب بهم ... من أسيف الله لا الهندية الخذم كم في التراب إذا فتشت عن رجل ... من مات بالعهد أو من مات بالقسم لولا مواهب في بعض الأنام لما ... تفاوت الناس في الأقدار والقيم شريعة لك فجرت العقول بها ... عن ذاخر بصنوف العلم ملتطم يلوح حول سنا التوحيد جوهرها ... كالحلى للسيف أو كالوشى للعلم غراء حامت عليها أنفس ونهى ... ومن يجد سلسلا من حكمة يحم نور السبيل يساس العالمون بها ... تكفلت بشباب الدهر والهرم يجرى الزمان وأحكام الزمان على ... حكم لها نافذ في الخلق مرتسم لما اعتلت دولة الاسلام واتسعت ... مشت ممالكه في نورها التمم وعلمت أمة بالقفر نازلة ... رعى القياصر بعد الشاء والنعم

كم شيد المصلحون العالمون بها ... في الشرق والغرب ملكا باذخ العظم للعلم والعدل والتمدين ما عزموا ... من الأمور وما شدوا من الحزم سرعان ما فتحوا الدنيا لملتهم ... وانهلوا الناس من سلسالها الشبم ساروا عليها هداة الناس فهي بهم ... الى الفلاح طريق واضح العظم لا يهدم الدهر ركنا شاد عدلهم ... وحائط البغي ان تلمسه ينهدم نالوا السعادة في الدارين واجتمعوا ... على عميم من الرضوان مقتسم دع عنك روما واثينا وما حوتا ... كل اليواقيت في بغداد والتوم وخل كسرى وايوانا يدل به ... هوى على اثر النيران والايم واترك رعسيس، ان الملك مظهره ... في نهضة العدل لا في نهضة الهرم دار الشرائع روما كلما ذكرت ... دار السلام لها القت يد السلم ما ضارعتها بيانا عند ملتأم ... ولا حكتها قضاء عند مختصم ولا احتوت في طراز من قياصرها ... على رشيد ومأمون ومعتصم من الذين إذا سارت كتائبهم ... تصرفوا بحدود الأرض والتخم ويجلسون إلى علم ومعرفة ... فلا يدانون في عقل ولا فهم يطأطى العلماء الهام أن نبسوا ... من هيبة العلم لا من هيبة الحكم ويمطرون فما الأرض عن محل ... ولا بمن مات فوق الأرض من عدم خلائف الله جلوا عن موازنة ... فلا تقيس أملاك الورى بهم من في البرية كالفاروق معده؟ ... وكابن عبد العزيز الخاشع الحشم؟ وكالامام إذا ما فض مزدحما ... بمدمع في ماقي القوم مزدحم الزاخر العذب في علم وفي أدب ... والناصر الندب في حرب وفي سلم أو كابن عفان والقران في يده ... يحنو عليه كما تحنو على الفطم ويجمع الاي ترتيبا وينظمها ... عقدا يجيد الليالي غير منفصم جرحان في كبد الاسلام ما التأما ... جرح الشهيد وجرح بالكتاب دمى وما بلاء أبي بكر بمتهم ... بعد الجلائل في الأفعال والخدم بالحزم والعزم حاط الدين في محن ... أضلت الحلم من كهل ومحتلم

واحدن بالراشد الفاروق عن رشد ... في الموت وهو يقين غير منبهم يجادل القوم مستلا مهنده ... في أعظم الرسل قدرا كيف لم يدم لا تعذلوه إذا طاف الذهول به ... مات الحبيب فضل الصثب عن رغم يا رب صل وسلم ما أردت على ... نزيل عرشك خير الرسل كلهم محيي الليالي صلاة لا يقطعها ... إلا بدمع من الاشفاق منسجم مسبحا لك جنح الليل محتملا ... ضرا من السهد أو ضرا من الورم رضية نفسه لا تشتكي سأما ... وما مع الحب ان اخلصت من سأم وصل ربي على ال له نخب ... جعلت فيهم لواء البيت والحرم بيض الوجوه ووجه الدهر ذو حلك ... شم الأنوف وأنف الحادثات حمى وأهد خير صلاة منك أربعة ... في الصحب صحبتهم مرعية الحرم الراكبين إذا نادى النبي بهم ... ما هال من جلل واشتد من عمم الصابرين ونفس الأرض واجفة ... الضاحكين الى الأخطار والقحم يا رب هبت شعوب من منيتها ... واستيقظت أمم من رقدة العدم سعد ونحس وملك أنت مالكه ... تديل من نعم فيه ومن نقم رأى قضاؤك فينا رأي حكمته ... أكرم بوجهك من قاض ومنتقم فاللطف لأجل رسول العالمين بنا ... ولا تزد قومه خسفا ولا تسم يا رب أحسنت بدء المسلمين به ... فتمم الفضل وامنح حسن مختتم

بسم الله الرحمن الرحيم الكتاب والمراجع 1- السيرة النبوية: للحافظ المؤرخ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، دار مكتبة الهلال، ص. ب: 155003، بيروت. 2- السيرة النبوية: لابن هشام، مؤسسة علوم القران. 3- المدائح النبوية في الأدب العربي: زكي مبارك، مطبوعات الشعب. 4- الزيده في شرح البردة: تأليف: بدر الدين محمد الغزي، حققها أستاذ الأدب المملوكي، د. عمر موسى باشا. 1972. 5- المجموعة النبهانية في المدائح النبوية: ج 1- دار الكتاب القطرية تحت رقم 6/ 811 ي 344. 6- الصوفية في الاسلام: د. را. نيكلسون، ترجمة نور الدين شربيه، مكتبة الخانجي، 1951. 7- المعارضات في الشعر: تأليف: محمد بن سعيد بن حسين، النادي الأدبي، الرياض- مطابع الفرزدق، 1980. 8- أشعار الشعراء الستة الجاهلين: يوسف سليمان عيسى، دار الافاق الجديدة، بيروت، ط 2، 1981. 9- المعجم المفصل بأسماء الملابس عند العرب: رينهارت دوزي، دار الحرية للطباعة، 1971. 10- الشوقيات: أحمد شوقي، دار الكتاب العربي، بيروت. 11- أحمد شوقي: أمير الشعراء، دراسة ونصوص، فوزي عطوى، دار صعب، بيروت. 1978. 12- أحمد شوقي: بقلم زكي مبارك: إعداد كريمة زكي مبارك الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977.

13- تاريخ الأدب العربي: د. عمر فروخ، دار العلم للملايين، بيروت ط 41، 1984. 14- تاريخ الأدب العربي: أحمد حسن زيارت، دار النهضة، مصر. 15- خصائص شعر المخضرمين: د. يحيى الجبوري، أستاذ بجامعة بغداد وجامعة قطر، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان. 1981. 16- ديوان البوصيري: تحقيق محمد الكيلاني، شركة ومكتبة ومطبعة، مصطفى الباني الحلبي، 1955. 17- ديوان ابن الفارض: كرم بستاني، بيروت- لبنان، دار صادر بيروت. 18- رواية جديدة: دراسة الأدب في عهد صدر الاسلام، تأليف: د. سعيد حسن منصور، مؤسسة العهد للصحافة والطباعة والنشر، الدوحة- قطر. 1981 م. 19- شوقي وقضايا العصر والحضارة: د. حلمي علي مرزوق، دار النهضة العربية، بيروت، 1979. 20- شرح البردة للبوصيري ونهج البردة لشوقي: شرح وتحقيق ونقد فتحي عثمان، دار المعرفة- مطبعة زهران، القاهرة، 1973. 21- شرح قصيدة كعب: جمال الدين محمد بن هشام الأنصاري، مؤسسة دار علوم القران، دمشق- بيروت. 22- شرح البردة: إعداد أسامة خليل، مطبعة نهضة مصر. 23- شعراء النصرانية في الجاهلين: الأب: لويس شيخو، المطبعة النموذجية. 24- شعراء العربية في القرن العشرين: أنيس المقدس، مؤسسة الريحان للطباعة والنشر، الطبعة 2، 1980. 25- شعر زهير بن أبي سلمى: تحقيق د. فخر الدين قباوة، منشورات دار الافاق الجديدة، بيروت، 1970.

26- شوقي شاعر الوطنية والمسرح والتاريخ: فوزي عطوى، الشركة اللبنانية للكتاب، بيروت، 1971. 27- من المدائح النبوية: كشف الغمة في مدح سيد الأمة، محمود سامي البارودي، دار الشعب- القاهرة، 1978. 28- مديح الرسول بعد حياته د. صلاح عيد، مطابع الناشر العربي، القاهرة، 1979. 29- مختصر الشمائل المحمدية: للإمام ابن عيسى محمد بن سورة الترمزي، المكتبة الاسلامية، عمان- الأردن، 1971. 30- وطنية شوقي: د. أحمد محمد الحوفي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1978. 31- من تاريخ الأدب العربي: د. طه حسين، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، 1978.

رقم الإيداع بدار الكتاب القطرية 419 لسنة 1987 م

§1/1