ثقة المسلم بالله تعالى في ضوء الكتاب والسنة

محمد بن إبراهيم الرومي

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير النبيين وسيد المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى من اتبعه واقتفى أثره إلى يوم الدين وبعد: فإن الثقة بالله تعالى، والاعتماد عليه في جلب المنافع ودفع المضار، وحصول الأرزاق وحصول النصر على الأعداء، وشفاء المرضى وغير ذلك من أهم المهمات وأوجب الواجبات، ومن صفات المؤمنين، ومن شروط الإيمان، ومن أسباب قوة القلب ونشاطه، وطمأنينة النفس وسكينتها وراحتها، ومن أسباب الرزق، والثقة بالله وبكفايته لعبده، هو من أهم عناصر عقيدة المسلم الصحيحة في الله تعالى. وهذه الثقة بالله تعالى التي يتمثلها المسلم في حياته في علاقته بربه سبحانه وتعالى، لا يفهم منها أنها مجرد كلمة تلوكها الألسن، ولا تعيها القلوب، وتتحرك بها الشفاه، ولا تفهمها العقول، أو تترواها الأفكار، أو هو نبذ الأسباب، وترك العمل، والقنوع بالرضا بالهون والدون تحت شعار الثقة بالله تعالى، والرضا بما تجري به الأقدار، بل إن المسلم يفهم الثقة بالله أنها جزء من إيمانه وعقيدته، وأنها طاعة لله بإحضار كافة الأسباب المطلوبة لأي عمل من الأعمال التي يريد مزاولتها والدخول فيها، فلا يطمع في ثمرة بدون أن يقدم أسبابها، ولا يرجو نتيجة ما بدون أن يضع مقدمتها، غير أن موضوع إثمار تلك الأسباب، وإنتاج تلك المقدمات يفوضه إلى الله سبحانه وتعالى إذ هو القادر عليه دون سواه. وثقة المسلم بالله تعالى تشمل كل جوانب حياته، وكل صغيرة وكبيرة يجعل المسلم ثقته بالله تعالى أمام عينيه.

وهذا البحث قد حاولت فيه أن أغطي الجوانب المختلفة لثقة المسلم بالله تعالى، وعلى هذا فقد جاء في مقدمة وتمهيد وستة مباحث وخاتمة: تمهيد: أهمية الثقة بالله تعالى في حياة المسلم. المبحث الأول: ثقة المسلم بالله تعالى في استجابة الدعاء. المبحث الثاني: ثقة المسلم بالله تعالى في تفريج الكربات. المبحث الثالث: ثقة المسلم بالله تعالى في التكفل بالرزق. المبحث الرابع: ثقة المسلم بالله تعالى في الدعوة إلى الله. المبحث الخامس: ثقة المسلم بالله تعالى في النصر على الأعداء. المبحث السادس: ثقة المسلم بالله تعالى في إنفاذ وعده سبحانه. وقد حرصت في بيان ذلك أن أعتمد على نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وأقوال العلماء وشروحهم، وما أثر عن السلف الصالح رحمهم الله تعالى. وما كان من صواب فمن الله، وما كان من نقص أو تقصير فمني، ومن الشيطان واستغفر الله. وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

تمهيد

تمهيد أهمية الثقة بالله تعالى في حياة المسلم إن الله عزَّ وجلَّ خلق الله الخلق جميعًا لغاية واحدة؛ لعبادته وحده لا شريك له قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬1). قال الشيخ السعدي رحمه الله: «هذه الغاية، التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته، المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة، متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفةً لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم» (¬2). وقد بين لهم - سبحانه وتعالى - كيفية العبادة، ووضَّح لهم صفتها، وفصَّل لهم أنواعها، فثمة عبادات ظاهرة بالجوارح؛ كالصلاة والصيام، وما إلى ذلك، وعبادات باطنة قلبية كالخوف منه، والتوكل عليه، والرضا به، وما أشبه ذلك، ومن هذه العبادات القلبية التي تعبد الله بها عبادة: الثقة به، وصدق الاعتماد عليه، وحسن التوكل عليه، وتفويض الأمور إليه .. والثقة بالله صفة من صفات الأنبياء؛ فخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام حينما ألقي في النار كان على ثقة عظيمة بالله؛ فكفاه الله شر ما أرادوا به من كيد، وحفظه من أن تصيبه النار بسوء، قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا ¬

(¬1) سورة الذاريات، الآية: 56. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق ص 813، ط/ 1، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1420 هـ - 2000 م.

فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} (¬1). ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان على ثقة كاملة بالله تعالى ولا أدل على ذلك ما كان في هجرته - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة واختبائه بغار حراء، ومع قرب المشركين منه - صلى الله عليه وسلم - يثق أن الله سينجيه منهم ويقول لأبي بكر - رضي الله عنه -: ما ظنك باثنين الله ثالثهما. فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - حدثه قال: «نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (¬2). وقد نص الله تعالى على ذلك إذ قال سبحانه وتعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬3). والثقة أيضاً صفة من صفات الأولياء الصادقين؛ قال يحيى بن معاذ رحمه الله: «ثلاث خصال من صفة الأولياء: الثقة بالله في كل شيء، والغنى به عن كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء» (¬4). ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآيات: 68 - 70. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب: التفسير، باب: سورة براءة، رقم 4386، وأخرجه مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، رقم 4389. (¬3) سورة التوبة، الآية: 40. (¬4) شعب الإيمان، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخسروجردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، حققه وخرج أحاديثه: د. عبد العلي عبد الحميد حامد 2/ 354، ط/ 1، مكتبة الرشد بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند: 1423 هـ - 2003 م.

وهي كذلك صفة من صفات العباد الزهاد، فقد جاء رجل إلى حاتم الأصم رحمه الله فقال: يا أبا عبد الرحمن أي شيء رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد؟ فقال: «رأس الزهد الثقة بالله ووسطه الصبر وآخره الإخلاص» (¬1). وقال حاتم رحمه الله أيضاً: «وأنا أدعو الناس إلى ثلاثة أشياء: إلى المعرفة وإلى الثقة وإلى التوكل؛ فأما معرفة القضاء فأن تعلم أن القضاء عدل منه، فإذا علمت أن ذلك عدل منه فإنه لا ينبغي لك أن تشكو إلى الناس أو تهتم أو تسخط، ولكنه ينبغي لك أن ترضى وتصبر. وأما الثقة فالإياس من المخلوقين، وعلامة الإياس أن ترفع القضاء من المخلوقين، فإذا رفعت القضاء منهم استرحت منهم واستراحوا منك، وإذا لم ترفع القضاء منهم فإنه لا بد لك أن تتزين لهم وتتصنع لهم، فإذا فعلت ذلك فقد وقعت في أمر عظيم، وقد وقعوا في أمر عظيم وتصنع، فإذا وضعت عليهم الموت فقد رحمتهم وأيست منهم. وأما التوكل فطمأنينة القلب بموعود الله تعالى فإذا كنت مطمئناً بالموعود استغنيت غنى لا تفتقر أبدًا» (¬2) والثقة بالله تجعل العبد راضيًا بالله، يائسًا مما في أيدي الناس. قال حاتم الأصم رحمه الله: «من أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلب في رضا الله: أولها الثقة بالله، ثم التوكل، ثم الإخلاص، ثم المعرفة، والأشياء كلها تتم بالمعرفة» (¬3). وقيل لأبي حازم رحمه الله: «يا أبا حازم ما مالك؟ قال: (ثقتي بالله تعالى، وإياسي مما في أيدي الناس» (¬4). ¬

(¬1) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني 8/ 75، ط/ 4، دار الكتاب العربي، بيروت: 1405 هـ. (¬2) المرجع السابق 8/ 76. (¬3) المرجع السابق 8/ 76. (¬4) المرجع السابق 3/ 231.

ومن وثق بالله نجاه الله من كل كرب أهمه. قال أبو العالية رحمه الله: (إن الله - تعالى - قضى على نفسه أن من آمن به هداه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1). ومن توكل عليه كفاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (¬2) ومن أقرضه جازاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬3) ومن استجار من عذابه أجاره، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬4) والاعتصام الثقة بالله، ومن دعاه أجابه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (¬5) فكن واثقًا بالله، متوكلًا عليه، معتصمًا به) (¬6). ومن تحلى بالثقة بالله فقد فاز بالجنة؛ قال شقيق البلخي رحمه الله: «من عمل ¬

(¬1) سورة التغابن، الآية: 11. (¬2) سورة الطلاق، الآية: 3. (¬3) سورة البقرة، الآية: 245. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 103. (¬5) سورة البقرة، الآية: 186. (¬6) حلية الأولياء، الأصبهاني 2/ 221 - 222.

بثلاث خصال أعطاه الله الجنة: أولها: معرفة الله - عزَّ وجلَّ - بقلبه ولسانه وسمعه وجميع جوارحه، والثاني: أن يكون بما في يد الله أوثق مما في يديه، والثالث: يرضى بما قسم الله له، وهو مستيقن أن الله تعالى مطلع عليه، ولا يحرك شيئًا من جوارحه إلا بإقامة الحجة عند الله، فذلك حق المعرفة. ثم بين الثقة بالله وشرحها وفسرها، فقال: (وتفسير الثقة بالله أن لا تسعى في طمع، ولا تتكلم في طمع، ولا ترجو دون الله سواه، ولا تخاف دون الله سواه، ولا تخشى من شيء سواه، ولا يحرك من جوارحه شيئًا دون الله، يعني في طاعته واجتناب معصيته» (¬1). والثقة بالله دليل على تحقيق العبد للاستعانة بالله كلما أمرنا ربنا جل وعلا في القرآن الكريم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬2). «والاستعانة بالله تقوم على الثقة بالله، والاعتماد عليه. فقد يثق الإنسان بغيره، ولا يعتمد عليه في أموره، لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به، لحاجته إليه. والله وحده هو الذي بيده كل شيء، والمستعان في كل شيء، والعبد ليس بيده شيء، وهو محتاج إلى عون ربه في كل شيء كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (¬3) والمستعان هو الله عزَّ وجلَّ. فأهل الطاعة يستعينون به على فعل الطاعات، وترك المعاصي، كما قال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬4). والاستعانة: طلب العون من الله على الطاعة. ¬

(¬1) حلية الأولياء، الأصبهاني 8/ 61. (¬2) سورة الفاتحة، الآية: 5. (¬3) سورة هود، الآية: 123. (¬4) سورة الفاتحة، الآية: 5.

أما أهل المعاصي، فحين ترك العاصي سؤال العون من الله على طاعته، أعانه على معصيته، فتوجه إليها بعونه عليها، وحرمه سبحانه العون على الطاعة، فلم يتوجه إليها كما قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬1). فالعباد كلهم مصروفون في طاعاتهم ومعاصيهم بقدرة الله وعونه .. إما بجنود الملائكة الهادية .. أو بجنود الشياطين المضلة .. فلا طاعة ولا معصية إلا بعون الله، وهو فعله على الإطلاق في الخير والشر، فلا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله وعونه» (¬2). وقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما كيف تكون الثقة بالله تعالى فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف» (¬3). هذا وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله الثقة بالله تعالى فقال: «ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الثقة بالله تعالى. قال صاحب المنازل: الثقة: سواد عين التوكل ونقطة دائرة التفويض وسويداء قلب التسليم وصدر الباب ¬

(¬1) سورة الصف، الآية: 5. (¬2) موسوعة فقه القلوب، محمد بن إبراهيم بن عبد الله التويجري 1/ 227، ط 1، بيت الأفكار الدولية، الأردن: 2006 م. (¬3) أخرجه الترمذي، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: منه، رقم 2516، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

بقوله تعالى لأم موسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (¬1) فإن فعلها هذا هو عين ثقتها بالله تعالى إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه وجرياته إلى حيث ينتهي أو يقف ومراده: أن الثقة خلاصة التوكل ولبه كما أن سواد العين: أشرف ما في العين وأشار بأنه نقطة دائرة التفويض إلى أن مدار التوكل عليه وهو في وسطه كحال النقطة من الدائرة فإن النقطة هي المركز الذي عليه استدارة المحيط ونسبة جهات المحيط إليها نسبة واحدة وكل جزء من أجزاء المحيط مقابل لها كذلك الثقة هي النقطة التي يدور عليها التفويض. وكذلك قوله: سويداء قلب التسليم فإن القلب أشرف ما فيه سويداؤه وهي المهجة التي تكون بها الحياة وهي في وسطه فلو كان التفويض قلباً لكانت الثقة سويداءه ولو كان عيناً لكانت سوادها ولو كان دائرة لكانت نقطتها. وقد تقدم أن كثيرًا من الناس يفسر التوكل بالثقة ويجعله حقيقتها ومنهم من يفسره بالتفويض ومنهم من يفسره بالتسليم فعلمت: أن مقام التوكل يجمع ذلك كله فكأن الثقة عند الشيخ هي روح والتوكل كالبدن الحامل لها ونسبتها إلى التوكل كنسبة الإحسان إلى الإيمان والله أعلم» (¬2).ثم بين رحمه الله درجات الثقة بالله تعالى فقال: «وهي على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: درجة الإياس وهو إياس البعد عن مقاومات الأحكام ليقعد عن منازعة الأقسام ليتخلص من قحة الإقدام. ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 7. (¬2) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي 2/ 144، ط/ 2، دار الكتاب العربي، بيروت: 1393 هـ - 1972 م.

يعني أن الواثق بالله لاعتقاده: أن الله تعالى إذا حكم بحكم وقضى أمراً فلا مرد لقضائه ولا معقب لحكمه فمن حكم الله له بحكم وقسم له بنصيب من الرزق أو الطاعة أو الحال أو العلم أو غيره: فلا بد من حصوله له ومن لم يقسم له ذلك: فلا سبيل له إليه ألبتة كما لا سبيل له إلى الطيران إلى السماء وحمل الجبال فبهذا القدر يقعد عن منازعة الأقسام فما كان له منها فسوف يأتيه على ضعفه وما لم يكن له منها فلن يناله بقوته. الدرجة الثانية: درجة الأمن وهو أمن العبد من فوت المقدور وانتقاض المسطور فيظفر بروح الرضى وإلا فبعين اليقين وإلا فبلطف الصبر. يقول: من حصل له الإياس المذكور حصل له الأمن وذلك أن من تحقق بمعرفة الله وأن ما قضاه الله فلا مرد له ألبتة: أمن من فوت نصيبه الذي قسمه الله له وأمن أيضًا من نقصان ما كتبه الله له وسطره في الكتاب المسطور فيظفر بروح الرضى أي براحته ولذته نعيمه لأن صاحب الرضى في راحة ولذة وسرور كما جاء عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «الرضا أن لا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحمد أحدًا على رزق الله، ولا تَلُم أحدًا على ما لم يؤتك الله، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريصٍ، ولا يرده كراهية كارهٍ، والله بقسطه وعلمه جعل الرَّوح والفرح في اليقين والرِّضا، وجعل الهمَّ والحزن في الشَّكِّ والسَّخط» (¬1). فإن لم يقدر العبد على روح الرضى ظفر بعين اليقين وهو قوة الإيمان ومباشرته للقلب بحيث لا يبقى بينه وبين العيان إلا كشف الحجاب المانع من مكافحة البصر فإن لم يحصل له هذا المقام حصل على لطف الصبر وما فيه من حسن العاقبة كما في الأثر المعروف: استطعت أن تعمل لله بالرضى مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر ما تكره النفس خيرًا كثيرًا. الدرجة الثالثة: معاينة أزلية الحق ليتخلص من محن القصود وتكاليف الحمايات والتعريج على مدارج الوسائل قوله: معاينة أزلية الحق أي متى شهد ¬

(¬1) شعب الإيمان، أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر البيهقي 1/ 384.

قلبه تفرد الرب سبحانه وتعالى بالأزلية غاب بها عن الطلب لتيقنه فراغ الرب تعالى من المقادير وسبق الأزل وثبوت حكمها هناك فيتخلص من المحن التي تعرض له دون القصود ويتخلص أيضًا من تعريجه والتفاته وحبس مطيته على طرق الأسباب التي يتوسل بها إلى المطالب، وهذا ليس على إطلاقه فإن مدارج الوسائل قسمان: وسائل موصلة إلى عين الرضى فالتعريج على مدارجها معرفة وعملًا وحالًا وإيثارًا هو محض العبودية ولكن لا يجعل تعريجه كله على مدارجها بحيث ينسى بها الغاية التي هي وسائل إليها، وأما تخلصه من تكاليف الحمايات فهو تخلصه من طلب ما حماه الله تعالى عنه قدرًا فلا يتكلف طلبه وقد حمي عنه ووجه آخر: وهو أن يتخلص بمشاهدة سبق الأزلية من تكاليف احترازاته وشدة احتمائه من المكاره لعلمه بسبق الأزل بما كتب له منها فلا فائدة في تكلف الاحتماء نعم يحتمي مما نهى عنه وما لا ينفعه في طريقه ولا يعينه على الوصول» (¬1).والثقة بالله تعالى لها صور متعددة في حياة المسلم يمكن من خلالها تحقيق هذه الثقة، ومن أبرز نماذج ذلك: ¬

(¬1) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي 2/ 145.

المبحث الأول ثقة المسلم بالله تعالى في استجابة الدعاء

المبحث الأول ثقة المسلم بالله تعالى في استجابة الدعاء من صور الثقة بالله تعالى: الثقة به في استجابة الدعاء، وقد دلت نصوص الكتاب السنة على أهمية الدعاء وضرورة أن يثق المسلم في ربه في استجابة الدعاء، وجاء في الكتاب والسنة نماذج متعددة لثقة الأنبياء في ربهم عندما دعوه سبحانه، وكيف استجاب لهم. 1 - أهمية الدعاء وثقة المسلم في استجابة الله له: للدعاء أهمية كبيرة في حياة المسلم قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (¬1). قال الطبري رحمه الله: «يعني تعالى ذكره: بذلك وإذا سألك يا محمد عبادي عني: أين أنا؟ فإني قريبٌ منهم أسمع دعاءهم، وأجيب دعوة الداعي منهم» (¬2). وقال الشيخ السعدي رحمه الله: «هذا جواب سؤال، سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه فقالوا: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} لأنه تعالى، الرقيب الشهيد، المطلع على السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهو قريب أيضًا من داعيه، بالإجابة، ولهذا قال: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة. والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه، وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 186. (¬2) جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبير، تحقيق: أحمد محمد شاكر 3/ 480، ط/ 1، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1420 هـ - 2000 م.

فمن دعا ربه بقلب حاضر، ودعاء مشروع، ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء، كأكل الحرام ونحوه، فإن الله قد وعده بالإجابة، وخصوصًا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء، وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية، والإيمان به، الموجب للاستجابة، فلهذا قال: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة، ويزول عنهم الغني المنافي للإيمان والأعمال الصالحة. ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره، سبب لحصول العلم» (¬1). وقال القرطبي رحمه الله: «قوله تعالى: "وإذا سألك" المعنى وإذا سألوك عن المعبود فأخبرهم أنه قريب يثيب على الطاعة ويجيب الداعي، ويعلم ما يفعله العبد من صوم وصلاة وغير ذلك. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت هذه الآية. وقال الحسن: سببها أن قومًا قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت. قوله تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} أي بالإجابة. وقيل بالعلم. وقيل: قريب من أوليائي بالإفضال والإنعام. قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} أي أقبل عبادة من عبدني، فالدعاء بمعنى العبادة، والإجابة بمعنى القبول» (¬2). وقال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (¬3). ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معللا اللويحق ص 87. (¬2) الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش 2/ 308، ط/ دار الكتب المصرية، القاهرة: 1384 هـ - 1964 م. (¬3) سورة غافر، الآية: 60.

لقد أخبر الله أنه إن دعاه العبد وعبده بحق، استجاب له، فإن الدعاء في نفسه عبادة، والدعاء: هو السؤال بجلب النفع ودفع الضر. ودعاء غير الله لا يفيد شيئًا، فإن القادر على إجابة الدعاء هو الله، والله سبحانه هو الذي أمر عباده بدعائه، ووعدهم بالإجابة، ووعده الحق. وإن الذين يتكبرون ويتعظمون عن دعاء الله وعبادته وحده، سيدخلون جهنم صاغرين أذلاء. ولقد اشتملت الآية على أمر العبادة بالدعاء والتكفل لهم بالإجابة فضلًا من الله وكرمًا، وهذا وعد، كذلك اشتملت أيضًا على وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، فالله هو الكريم الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم وملكه الواسع ما يحتاج إليه من أمور الدنيا والآخرة. قال ابن كثير رحمه الله: «هذا من فضله، تبارك وتعالى، وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة، كما كان سفيان الثوري يقول يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله، ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله، وليس كذلك غيرك يا رب» (¬1). وللدعاء أدب لا بد أن يراعى. إنه إخلاص القلب لله. والثقة بالاستجابة مع عدم اقتراح صورة معينة لها، أو تخصيص وقت أو ظرف فهذا الاقتراح ليس من أدب السؤال. والاعتقاد بأن التوجه للدعاء توفيق من الله، والاستجابة فضل آخر. فأما الذين يستكبرون عن التوجه لله فجزاؤهم الحق أن يوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم! وهذه نهاية الكبر الذي تنتفخ به قلوب وصدور في هذه الأرض الصغيرة، وفي هذه الحياة الرخيصة، وتنسى ضخامة خلق الله. فضلًا على نسيانها عظمة الله. ونسيانها للآخرة بعد النفخة والاستكبار. ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، تحقيق: سامي بن محمد سلامة 7/ 153، ط/ 2، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض: 1420 هـ - 1999 م.

وفي فضل توجه المسلم بالدعاء لله جاء عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدعاء هو العبادة»، وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (¬1). (¬2) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء» (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لم يسأل الله يغضب عليه» (¬4). والواجب على المسلم أن يدعو الله تعالى وهو واثق في الله في استجابة دعائه؛ فيسأل الله تعالى بعزم ورغبة وحضور قلب ورجاء. قال تعالى {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (¬5). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي وارحمني إن شئت ارزقني إن شئت وليعزم مسألته إنه يفعل ما يشاء لا مكره له» (¬6). ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 60. (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب: الوتر، باب: الدعاء، رقم 1479، وقال الألباني: حديث صحيح، انظر: صحيح سنن أبي داود، الألباني ص 229 رقم 1479. (¬3) أخرجه الترمذي، كتاب: التفسير، باب: سورة بني إسرائيل، رقم 3370، وقال الألباني: حديث حسن، انظر: صحيح سنن الترمذي، الألباني ص 765 رقم 3370. (¬4) أخرجه الترمذي، كتاب: الدعوات، باب: منه، رقم 3373، وقال الألباني: حديث حسن، انظر: صحيح سنن الترمذي، الألباني ص 765 - 766، رقم 3373. (¬5) سورة الأنبياء، الآية: 90. (¬6) أخرجه البخاري، كتاب: التوحيد، باب: في المشيئة والإرادة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الإنسان 30، رقم 7029.

قال ابن حجر رحمه الله: «قوله فليعزم المسألة في رواية أحمد عن إسماعيل المذكور الدعاء ومعنى الأمر بالعزم الجد فيه وأن يجزم بوقوع مطلوبة، ولا يعلق ذلك بمشيئة الله تعالى وإن كان مأموراً في جميع ما يريد فعله أن يعلقه بمشيئة الله تعالى، وقيل معنى العزم أن يحسن الظن بالله في الإجابة قوله ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني، ومن رواية العلاء ليعزم وليعظم الرغبة ومعنى قوله ليعظم الرغبة أي يبالغ في ذلك بتكرار الدعاء والإلحاح فيه ويحتمل أن يراد به الأمر بطلب الشيء العظيم الكثير، والمراد أن الذي يحتاج إلى التعليق بالمشيئة ما إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، وأما الله سبحانه فهو منزه عن ذلك فليس للتعليق فائدة. وقيل: المعنى أن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى قال ابن عبد البر رحمه الله لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له لأنه يفعل إلا ما شاءه وظاهره أنه حمل النهي على التحريم وهو الظاهر. وقال ابن بطال رحمه الله في الحديث أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة، ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريمًا. وقد قال ابن عيينة رحمه الله لا يمنعن أحدًا الدعاء ما يعلم في نفسه يعني من التقصير فإن الله قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال رب انظرني إلى يوم يبعثون وقال الداودي معنى قوله ليعزم المسألة أن يجتهد ويلح ولا يقل إن شئت كالمستثنى ولكن دعاء البائس الفقر قلت وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يكره وهو جيد» (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنه ذكر رجلًا من بني ¬

(¬1) فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني 11/ 140، ط/ 1، دار المعرفة، بيروت: 1379 هـ.

إسرائيل سأل بعضهم بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ائتني بالشهداء أشهدهم فقال كفى بالله شهيدًا قال فأئتني بالكفيل قال كفى بالله كفيلًا قال صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبًا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبًا فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها ثم أتى بها إلى البحر فقال اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلاناً ألف دينا فسألني كفيلًا فقلت كفى بالله كفيلًا فرضي بك وسألني شهيدًا فقلت كفى بالله شهيدًا فرضي بك وأني جهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له فلم أقدر وإني أستودعكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده فخرج الرجل الذي أسلفه ينظر لعل مركبًا قد جاء بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا فلما نشرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار فقال والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وحدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه قال هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه قال فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة فانصرف بالألف دينار راشداً» (¬1). قال بدر الدين العيني رحمه الله: «وفيه أن من توكل على الله فإنه ينصره فالذي نقر الخشبة وتوكل حفظ الله تعالى ماله والذي أسلفه وقنع بالله كفيلًا أوصل الله تعالى ماله إليه وفيه جواز ركوب البحر بأموال الناس والتجارة وفيه أن الله تعالى متكفل بعون من أراد أداء الأمانة وأن الله يجازي أهل الإرفاق بالمال بحفظه عليهم مع أجر الآخرة كما حفظه على المسلف» (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب: الكفالة، باب: الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها، رقم 2169. (¬2) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني الحنفي 14/ 118، ط/ 2، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة: 1984 م.

إن ثقة المسلم في ربه تجعله يدعوه سبحانه بكل ما يريد، ولا يستعظم على الله شيء «ومن آداب الدعاء أن يسأل الله تعالى حاجاته كلها فلا يمنعه من الدعاء استعظام المطلوب ولا احتقاره» (¬1). فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من آمن بالله ورسوله وأقام الصَّلاة وصام رمضان كان حقًّا على الله أن يدخله الجنَّة هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي وُلد فيها قالوا: يا رسول الله أفلا ننبِّئ النَّاس بذلك قال إنَّ في الجنَّة مئة درجةٍ أعدَّها الله للمجاهدين في سبيله كلُّ درجتين ما بينهما كما بين السَّماء والأرض فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنَّه أوسط الجنَّة وأعلى الجنَّة وفوقه عرش الرَّحمن ومنه تفجَّر أنهار الجنَّة» (¬2). ومن الثقة في الله في استجابة الدعاء أن يجعل المسلم دعاءه كله لله واستعانته بالله وسؤاله لله فعن عبد الله ابن عباس - رضي الله عنه - قال كنت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقال: «يا غلام، إني أعلِّمك كلمات: احفظ الله يحفظْك، احفظ الله تجدْه تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمَّة لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف» (¬3). ¬

(¬1) سلاح المؤمن في الدعاء والذكر، محمد بن محمد بن علي بن همام بن داود، تحقيق: محيي الدين ديب مستو ص 153، ط/ دار ابن كثير، دمشق: 1414 هـ 1993 م. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: درجات المجاهدين في سبيل الله، رقم 2790. (¬3) أخرجه الترمذي، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: منه، رقم 2516، وقال الألباني: حديث صحيح انظر: صحيح سنن الترمذي، الألباني ص 566 - 567، رقم 2516.

قال ابن رجب رحمه الله: «هذا منزع من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬1). فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة. واعلم أن سؤال الله عزَّ وجلَّ دون خلقه هو المتعين، لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضر ونيل المطلوب، وجلب المنافع ودرء المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة» (¬2). ومن الثقة في الله في استجابة الدعاء أن يحرص المسلم على الصبر وعدم الاستعجال، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يستجاب لأحدكم ما لم يجعل، يقول: دعوت فلم يستجب لي» (¬3). قال ابن حجر رحمه الله: «وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أن يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار» (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل». قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: «يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء» (¬5). قال ابن بطال رحمه الله: «قال بعض العلماء: قوله: «ما لم يعجل» يعني يسأم الدعاء ويتركه فيكون كالمان بدعائه، وأنه قد أتى من الدعاء ما كان ¬

(¬1) سورة الفاتحة، الآية: 5. (¬2) جامع العلوم والحكم، أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي ص 180، 181، ط/ 1، دار المعرفة، بيروت: 1408 هـ. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب: الدعوات، باب: يستجاب للعبد ما لم يعجل، رقم 6340، وأخرج (¬4) فتح الباري بسرح صحيح البخاري، أحمد بن حجر العسقلاني 11/ 141. (¬5) أخرجه مسلم، كتاب: الذكر والدعاء، باب: بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل فيقول دعوت فلم يستجب لي، رقم 2735.

يستحق به الإجابة، فيصبر كالمبخل لربّ كريم، لا تعجزه الإجابة، ولا ينقصه العطاء، ولا تضره الذنوب. وقال بعضهم: إنما يعجل العبد إذا كان غرضه من الدعاء نيل ما سأل، وإذا لم ينل ما يريد ثقل عليه الدعاء، ويجب أن يكون غرض العبد من الدعاء هو الدعاء لله، والسؤال منه، والافتقار إليه أبدًا، ولا يفارق سمة العبودية وعلامة الرق، والانقياد للأمر والنهي، والاستسلام لربه تعالى بالذلة والخشوع، فإن الله تعالى يحب الإلحاح في الدعاء. وقال بعض السلف: لأنا أشد خشيةً أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة، وذلك أن الله تعالى يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (¬1). فقد أمر بالدعاء ووعد بالإجابة وهو لا يخلف الميعاد» (¬2). وقال ابن الجوزي رحمه الله: «اعلم أن الله عزَّ وجلَّ لا يرد دعاء المؤمن غير أنه قد تكون المصلحة في تأخير الإجابة وقد لا يكون ما سأله مصلحة في الجملة فيعوضه عنه ما يصلحه وربما أخر تعويضه إلى يوم القيامة فينبغي للمؤمن ألا يقطع المسألة لامتناع الإجابة فإنه بالدعاء متعبد وبالتسليم إلى ما يراه الحق له مصلحة مفوض» (¬3). وقال ابن القيم رحمه الله: «ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء أن يتعجل العبد ويستبطئ الإجابة فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذرًا أو غرس غرسًا فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله» (¬4). ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 60. (¬2) شرح صحيح البخاري، علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال البكري القرطبي، تحقيق: أبي تميم ياسر بن إبراهيم 10/ 100، ط/ 2، مكتبة الرشد، الرياض: 1423 هـ - 2003 م. (¬3) كشف المشكل من حديث الصحيحين، أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي، تحقيق: علي حسين البواب 1/ 929، ط/ دار الوطن، الرياض: 1418 هـ - 1997 م. (¬4) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية ص 10، ط/ دار المعرفة، بيروت: 1418 هـ - 1997 م.

إن الثقة بالله تعالى، واليقين بالإجابة (¬1): من أعظم الشروط لقبول الدعاء الثقة بالله تعالى، وأنه على كل شيء قدير؛ لأنه تعالى يقول للشيء كن فيكون، قال سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬2)، وقال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬3)، ومما يزيد ثقة المسلم بربه تعالى أن يعلم أن جميع خزائن الخيرات والبركات عند الله تعالى، قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (¬4). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى: «... يا عبادي لو أن أوَّلكم وآخركُم وإنسَكُم وجنَّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني، فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقُصُ المِخيطُ إذا أُدخِلَ البَحر» (¬5). وهذا يدل على كمال قدرته سبحانه وتعالى، وكمال ملكه، وأن ملكه وخزائنه لا تنفد، ولا تنقص بالعطاء، ولو أعطى الأولين والآخرين: من الجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد (¬6)؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يدُ الله (¬7) ملأى لا يَغِضُها نفقةٌ سحاء (¬8) الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء (¬9) ¬

(¬1) انظر: جامع العلوم والحكم، ابن رجب الحنبلي 2/ 407. (¬2) سورة النحل، الآية: 40. (¬3) سورة يس، الآية: 82. (¬4) سورة الحجر، الآية: 21. (¬5) أخرجه مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، رقم 2577. (¬6) جامع العلوم والحكم، ابن رجب الحنبلي 2/ 48. (¬7) في رواية مسلم: (يمين الله ملأى)، رقم 992. (¬8) سحَّاء: أي دائمة الصب، تصب العطاء صباً، ولا ينقصها العطاء الدائم، (الفتح 13/ 395). (¬9) في رواية للبخاري بالجمع للسموات والأرض رقم 7441.

والأرض؛ فإنه لم يغِض ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده (¬1) الميزان يخفض ويرفع» (¬2). فالمسلم إذا علم ذلك، فعليه أن يدعو الله وهو موقن بالإجابة؛ لما تقدم؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أنَّ الله لا يستجيب دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ» (¬3). وبين الإمام ابن القيم رحمه الله أن الدعاء المقبول الذي يستجيب الله لصاحبه لا بد أن يكون حاضر القلب، واثقًا في إجابة الله له. «وإذا جمع مع الدَّعاء حضور القلب وجمعيَّته بكليَّته على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة الستة، وهي: الثُّلث الأخير من اللَّيل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصَّلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تُقضى الصَّلاة من ذلك اليوم، وآخر ساعة بعد العصر. وصادف خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الربِّ، وذُلًّا له، وتضرُّعًا، ورقَّة. واستقبل الدَّاعي القبلة. وكان على طهارةٍ. ورفع يديه إلى الله. وبدأ بحمد الله والثَّناء عليه، ثمَّ ثنَّى بالصَّلاة على محمَّدٍ عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ قدَّم بين يدي حاجته التَّوبة والاستغفار. ثمَّ دخل على الله، وألحَّ عليه في المسألة، وتملَّقه ودعاه رغبةً ورهبةً. وتوسَّل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده. وقدَّم بين يدي دعائه صدقةً، فإنَّ هذا الدُّعاء لا يكاد يُردُّ أبدًا، ¬

(¬1) وفي رواية للبخاري، ومسلم: «وبيده الأخرى»، رقم 7411، وفي مسلم، رقم 993. (¬2) البخاري بلفظه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} رقم 4684، ومسلم بنحوه، رقم 993، والترمذي بلفظ: «يمين الرحمن ملأى»، رقم 3045. (¬3) أخرجه الترمذي، كتاب: الدعوات، باب: أيها المصلي ادع تجب، 5/ 517، رقم 3479، وقال الألباني: حديث حسن، انظر: صحيح سنن الترمذي، الألباني ص 790، رقم 3479.

2 - استجابة الله لدعاء من وثق في إجابته سبحانه

ولا سيَّما إن صادف الأدعية التي أخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنها مظنَّة الإجابة، أو أنَّها متضمِّنةٌ للاسم الأعظم» (¬1). 2 - استجابة الله لدعاء من وثق في إجابته سبحانه: لقد اهتم الأنبياء والرسل عليهم السلام وأتباعهم من عباد الله الصالحين بالدعاء، فاستجاب الله دعاءهم، لأنهم كانوا على ثقة ويقين باستجابة الله لهم، وهذا كثير في القرآن والسنة، ومن ذلك ما يأتي: 1 - آدم عليه السلام: قال تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2)، فغفر الله لهما كما قال سبحانه: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬3)، ثم أكرمه الله بالاصطفاء فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬4)، وخصَّه بالاجتباء، فقال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (¬5). 2 - نوح عليه السلام: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} (¬6). قال الشيخ السعدي رحمه الله: «يخبر تعالى عن عبده ورسوله نوح عليه السلام، أول الرسل، أنه لما دعا قومه إلى الله، تلك المدة الطويلة فلم يزدهم دعاؤه، إلا فرارًا، أنه نادى ربه فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ ¬

(¬1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن قيم الجوزية، ص 76. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 23. (¬3) سمرة البقرة، الآية: 37. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 33. (¬5) سورة طه، الآية: 122. (¬6) سورة الصافات، الآيتان: 75 - 76.

تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا * رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} (¬1) فاستجاب الله له ومدح تعالى نفسه فقال: {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} لدعاء الداعين، وسماع تبتلهم وتضرعهم، أجابه إجابة طابق ما سأل، نجاه وأهله من الكرب العظيم» (¬2). وقال تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬3)، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} (¬4). 3 - زكريا عليه السلام: قال الله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (¬5). قال ابن كثير رحمه الله: «لما رأى زكريا عليه السلام، أن الله تعالى يرزق مريم عليها السلام، فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، طمع حينئذ ¬

(¬1) سورة نوح، الآيات: 26 - 28. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ص 705. (¬3) سورة الأنبياء، الآيتان: 76 - 77. (¬4) سورة القمر، الآيات: 9 - 14. (¬5) سورة آل عمران، الآيات: 38 - 40.

في الولد، وإن كان شيخاً كبيراً قد ضعف ووَهَن منه العظم، واشتعل رأسه شيبًا، وإن كانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقرًا، لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداءً خفيًّا، وقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ} أي: من عندك {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أي: ولداً صالحاً {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} قال الله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} أي: خاطبته الملائكة شفاها خطابًا أسمعته، وهو قائم يصلي في محراب عبادته، ومحل خَلْوَته، ومجلس مناجاته، وصلاته. ثم أخبر عما بشّرته به الملائكة: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} أي: بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى. قال قتادة وغيره: إنما سُمِّي يحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان» (¬1). فزكريا عليه السلام قد شرح أسباب دعائه، وعرض ضعفه على القويِّ؛ فهو واهِنُ العظم، أشيب الرأس، يخاف الموالي، وامرأته - فوق كلِّ ذلك - عاقرٌ لا تُنجب، وهو يَطلب الولد! إنَّ أيَّ شخص غير واثق بالله لو يعلم أنَّ شيخًا كبيرًا لا ينجب، وامرأته عاقرٌ، وقد علاه المشيب، يدعو الله الولد - سيقول إذ ذاك: لقد جنَّ الشيخ وربِّ الكعبة! ويحدث أن يستهزئ به، أو يسخر منه، ونسي أنَّ الله لا يعجزه شيء. إن الله تعالى لا يطلب منَّا أن نقدِّم لأسباب دعائنا، وأن نشرح أحوالنا وأمورنا؛ فهو يعلم السِّر وأخفى - لا يطلب ذلك إلاَّ لأجل أن يستحضر المحتاج حالة ضعفه، وأن يخشع قلبه، وتَخضع جوارحه، ويكون منكسرًا صادقًا في دعائه، وقد كان زكريَّا هكذا، فهذا أدبٌ من آداب الدعاء، ورسنٌ من أرسان قبوله. ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 2/ 37.

4 - يعقوب عليه السلام: قال الله في قصة يعقوب مع أبنائه: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَاتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (¬1). ثم استجاب الله دعاءه، لثقته في الله تعالى، وردَّ عليه يوسف وأخاه قال الله: {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَاتِ بَصِيرًا وَاتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬2). ¬

(¬1) سورة يوسف، الآيات: 83 - 87. (¬2) سورة يوسف، الآيات: 90 - 98.

5 - موسى عليه السلام: قال الله عن دعائه: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} (¬1)، وقال الله تعالى عن موسى وهارون: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2). 6 - محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه: قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬3). قال الشيخ السعدي رحمه الله: «أي: اذكروا نعمة الله عليكم، لما قارب التقاؤكم بعدوكم، استغثتم بربكم، وطلبتم منه أنه يعينكم وينصركم {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وأغاثكم بعدة أمور: منها: أن الله أمدكم {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} أي: يردف بعضهم بعضاً. {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} أي: إنزال الملائكة {إِلَّا بُشْرَى} أي: لتستبشر بذلك نفوسكم، {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} وإلا فالنصر بيد الله، ليس بكثرة عَدَدٍ ولا عُدَدٍ .. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} لا يغالبه مغالب، بل هو القهار، ¬

(¬1) سورة طه، الآيات: 25 - 26. (¬2) سورة يونس، الآيتان: 88 - 89. (¬3) سورة الأنفال، الآيتان: 9 - 10.

الذي يخذل من بلغوا من الكثرة وقوة العدد والآلات ما بلغوا. {حَكِيمٌ} حيث قدر الأمور بأسبابها، ووضع الأشياء مواضعها» (¬1). وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَاتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (¬2). والأدعية التي دعا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشوهدت إجابتها كالشمس في رابعة النهار كثيرة جدًّا لا تحصر، لثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - الكبيرة في ربه، ومنها على سبيل المثال: أ - دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - لأنس بن مالك - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له فيما أعطيته (¬3)، [وأطل حياته، واغفر له]» (¬4)، قال أنس - رضي الله عنه -: فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون نحو المائة اليوم (¬5)، [وحدثتني ابنتي أمينة أنه دفن لصلبي مقدم الحجاج البصرة بضع وعشرون ومائة] (¬6)، وطالت حياتي حتى استحييت من الناس، وأرجو المغفرة» (¬7). ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ص 316. (¬2) سورة آل عمران، الآيات: 123 - 126. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب: الدعوات، باب: قول الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} التوبة: 103، رقم 6334، 6380، وأخرجه مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أنس بن مالك رقم 2480. (¬4) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، رقم 653، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص 214. (¬5) أخرجه مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أنس بن مالك رقم 2418. (¬6) انظر: فتح الباري، ابن حجر 4/ 228، رقم 1652. (¬7) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، رقم 630، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص 244.

وكان له - رضي الله عنه - بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيها ريحان يجيء منها ريح المسك (¬1). ب - دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - لأم أبي هريرة - رضي الله عنه -، فأسلمت فورًا، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أكره، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي. قلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أمَّ أبي هريرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهم اهد أمَّ أبي هريرة»، فخرجت مستبشرًا بدعوة نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف (¬2)، فسمعت أمي خشف قدميَّ (¬3)، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعتُ خضخضة الماء (¬4)، قال: فاغتسلت ولبست درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب ثم قالت، يا أبا هريرة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال قلت: يا رسول الله، أبشر قد استجاب الله دعوتك، وهدى أمَّ أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال خيرًا، قال: قلت يا رسول الله! ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم حبب عُبيدك هذا وأمَّه إلى عبادك المؤمنين وحبب إليهم المؤمنين» , فما خُلِقَ مُؤمِنٌ يسمع ربي ولا يراني إلا أحبني (¬5). ¬

(¬1) شروط الدعاء وموانع الإجابة في ضوء الكتاب والسنة، سعيد بن علي بن وهف القحطاني ص 76، ط/ مؤسسة الجريسي، الرياض. (¬2) أي مغلق. (¬3) أي صوتهما في الأرض. (¬4) خضخضة الماء: أي صوت تحريكه. (¬5) أخرجه مسلم، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي هريرة - رضي الله عنه -، رقم 2491.

جـ - دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - لعروة بن أبي الجعد البارقي، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارًا يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه» (¬1). د - دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - على سراقة بن مالك - رضي الله عنه -، لحق سراقة النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يقتله وأبا بكر - رضي الله عنه -، لكي يحصل على دية كل واحدٍ منهما؛ لأن قريشًا جعلوا لمن يقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر أو أسرهما دية كل واحد منهما، فلحق سراقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعندما رآه أبو بكر قال: يا رسول الله! هذا فارس قد لحق بنا، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اللَّهم اصرعه»، وساخت يدا فرس سراقة في الأرض حتى بلغت الركبتين، فقال سراقة: يا رسول الله! ادع الله لي، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونجت فرسه، ورجع يخفي عنهما، فكان أول النهار جاهدًا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان آخر النهار مسلحة (¬2) له يخفي عنه (¬3). إن الواجب على المسلم أن يُحسن ظنَّه بالله حتى في أصعب المواقف، لأن الله تعالى بيده مفاتِحُ كلِّ شيء إذا أراد شيئًا حدثَ لتوِّه؛ قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬4) وليس على الله بعزيزٍ أن ¬

(¬1) أخرجه البخاري كتاب المناقب، باب: سؤال المشركين أن يريهم النبي - صلى الله عليه وسلم - آية فأراهم انشقاق القمر، رقم 3642. (¬2) المسلحة: القوم الذين يحفظون الثغور من العدو، ويرقبون العدو لئلا يطرقهم، فكذلك سراقة كان مدافعا ومخفيا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، انظر: النهاية، ابن كثير 2/ 388، والقاموس المحيط، الفيروز آبادي ص 287. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب: فضائل الصحابة، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إل المدينة، رقم 3906، و 3908، و 3911. (¬4) سورة يس، الآية: 82.

يستجيب دعاء عبده إن علم فيه الصِّدق، وحسن اليقين به، حتَّى ولو كان في عرف الناس من المستحيلات؛ لأنَّك إن استشعرت بأنَّك تدعو عظيماً قادرًا؛ فإنه سيستجيب لك، حتَّى ولو كان القدر يجرى على خلاف ذلك. إن الثقة بالله في استجابة الدعاء تجعل المسلم يدعو ربه وهو يعلم أن الله تعالى لا يعجزه شيء، ولا يستعصي عليه شيء قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} (¬1). قال ابن كثير رحمه الله: «قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من الرسالة: سيروا في الأرض، فانظروا كيف كان عاقبة الذين كذبوا الرسل؟ كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها، فخليت منهم منازلهم، وسلبوا ما كانوا فيه من النعم بعد كمال القوة، وكثرة العدد والعدد، وكثرة الأموال والأولاد، فما أغنى ذلك شيئًا، ولا دفع عنهم من عذاب الله من شيء، لما جاء أمر ربك لأنه تعالى لا يعجزه شيء، إذا أراد كونه في السموات والأرض؟ {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} أي: عليم بجميع الكائنات، قدير على مجموعها» (¬2). وقال الشيخ أبو بكر الجزائري: «وقوله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} أي لم يكن يعجز الله شيء فيفوت الله ويهرب منه ولا يقدر عليه بل إنه غالب لكل شيء وقاهر له وقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} تقرير لقدرته وعجز كل شيء أمامه، فإن العليم القدير لا يعجزه شيء بالاختفاء والتستر، ولا بالمقاومة والهرب» (¬3). ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 44. (¬2) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 6/ 560. (¬3) أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، أبو بكر جابر الجزائري 3/ 348، ط/ 3، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة: 1418 هـ - 1997 م.

المبحث الثاني ثقة المسلم بالله تعالى في تفريج الكربات

المبحث الثاني ثقة المسلم بالله تعالى في تفريج الكربات ومن أبرز صور ثقة المسلم بالله تعالى ثقته في تفريج الكرب والشدة فإنه لا يقدر على ذلك إلا الله، وكم من شدة وكرب عظيم ظن العبد أنه لا مخرج لها ولا منجى منها لكن عندما يثق في مولاه، ويتذكر قدرته جل في علاه؛ فإنها سرعان ما تتحل وتنفرج وتبدد قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (¬1). 1 - أهمية الثقة بالله تعالى في تفريج الكربات: إن الحياة الدنيا مليئة بالمحن والمتاعب والبلايا والشدائد والنكبات، إن صفت يومًا كدرت أيامًا، وإن أضحكت ساعة أبكت أيامًا، لا تدوم على حال قال الله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬2). فقر وغنى، عافية وبلاء، صحة ومرض، عز وذل، فهذا مصاب بالعلل والأسقام، وذاك مصاب بعقوق الأبناء، وهذا مصاب بسوء خلق زوجته وسوء عشرتها، وتلك مصابة بزوج سيئ الأخلاق، فظ الخلق، سيئ العشرة، وثالث مصاب بكساد تجارته وسوء صحبه الجيران، وهكذا إلى نهاية سلسلة الآلام التي لا تقف عند حد، ولا يحصيها عدّ. ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 12. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 40.

ولا يزيل هذه الآلام، ويكشف هذه الكروب إلا الله علام الغيوب الذي يجيب المضطر إذا دعاه، والمسلم حالة في البأساء الصبر والإنابة إلى الله، يتوسل بالأسباب الموصلة إلى كشف المكروه، لا يستكين للحادثات، ولا يضعف أمام الملمات، يحاول التخلص منها في حزم الأقوياء وعزيمة الأصفياء، قدوته في ذلك سيد المرسلين، وإمام الصابرين، فقد حل به وبأصحابه الكرام من الشدائد والمحن والابتلاء ما تقشعر منه الأبدان، فما وهنوا، وما ضعفوا، وما استكانوا، بل قابلوا تلك الخطوب بالصبر والثبات: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (¬1). وعن أبي عبد الله خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو متوسد بردًا له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستغفر لنا، ألا تدعو لنا، فقال: «قد كان من قلبكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (¬2). قال ابن بطال رحمه الله: (وقول خباب - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تدعو الله أن يكفينا» يعنى عدوان الكفار عليهم بمكة قبل هجرتهم وضربهم لهم وإيثاقهم بالحديد. وفيه من الفقه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يترك الدعاء في ذلك على أن الله أمرهم ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيتان: 173 - 174. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، رقم 3416.

بالدعاء أمرًا عامًا بقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (¬1). وبقوله: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَاسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2). إلا لأنه - صلى الله عليه وسلم - علم من الله أنه قد سبق من قدره وعلمه أن يجرى عليهم ما جرى من البلوى والمحن ليؤجروا عليها على ما جرت عادته في سائر أتباع الأنبياء من الصبر على الشدة في ذات الله، ثم يعقبهم بالنصر والتأييد، والظفر وجزيل الأجر، وأما غير الأنبياء عليهم السلام فواجب عليهم الدعاء عند كل نازلة تنزل بهم؛ لأنهم لا يعلمون الغيب فيها، والدعاء من أفضل العبادة ولا يخلو الداعي من إحدى الثلاث التي وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بها. وفيه: علامات النبوة وذلك خروج ما قال - صلى الله عليه وسلم - من تمام الدين وانتشار الأمر وإنجاز الله ما وعد نبيه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك» (¬3). وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: «حديث أبي عبد الله خباب بن الأرت - رضي الله عنه - يحكي ما وجده المسلمون من الأذية من كفار قريش في مكة فجاؤوا يشكون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من كان قبلنا ابتلي في دينه أعظم مما ابتلي به هؤلاء يحفر له حفرة ثم يلقى فيها ثم يؤتى بالمنشار على مفرق رأسه ويشق، وأيضًا يمشط بأمشاط الحديد ما بين جلده وعظمه وهذا تعزير عظيم وأذية عظيمة. ثم أقسم - صلى الله عليه وسلم - أن الله سبحانه سيتم هذا الأمر يعني سيتم ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من دعوة الإسلام حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 60. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 43. (¬3) شرح صحيح البخاري، أبي الحسن علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال البكري القرطبي، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، 15/ 324.

لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون أي فاصبروا وانتظروا الفرج من الله فإن الله سيتم هذا الأمر وقد صار الأمر كما أقسم عليه الصلاة والسلام ففي هذا الحديث آية من آيات الله حيث وقع الأمر مطابقًا لما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -. وآية من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث صدقة الله بما أخبر به وهذه شهادة له من الله بالرسالة كما قال الله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (¬1). وفيه أيضًا دليل على وجوب الصبر على أذية أعداء المسلمين وإذا صبر الإنسان ظفر فالواجب على الإنسان أن يقابل ما يحصل من أذية الكفار بالصبر والاحتساب وانتظار الفرج ولا يظن الأمر ينتهي بسرعة وينتهي بسهولة. قد يبتلي الله عزَّ وجلَّ المؤمنين بالكفار يؤذنهم وربما يقتلونهم كما قتلوا الأنبياء. اليهود من بني إسرائيل قتلوا الأنبياء الذين هم أعظم من الدعاة وأعظم من المسلمين، فليصبر ولينتظر الفرج ولا يمل ولا يضجر بل يبقى راسيًا كالصخرة والعاقبة للمتقين والله تعالى مع الصابرين. فإذا صبر وثابر وسلك الطرق التي توصل إلى المقصود ولكن بدون فوضى وبدون استفسار وبدون إثارة بطريق منظمة لأن أعداء المسلمين من المنافقين والكفار يمشون على خطا ثابتة منظمة ويحصلون مقصودهم. والمؤمن يصبر ويتئد ويعمل بتؤده ويوطن نفسه ويخطط تخطيطًا منظمًا يقضي به على أعداء الله من المنافقين والكفار ويفوت عليهم الفرص لأنهم يتربصون الدوائر بأهل الخير يريدون أن يثيروهم حتى إن حصل من بعضهم ما يحصل حينئذ استعلوا عليهم وقالوا هذا الذي نريد وحصل بذلك شر كبير. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 166.

فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه اصبروا فالمؤمن فيمن قبلكم - وأنتم أحق بالصبر منه - كان يعمل به هذا العمل ويصبر فأنتم يا أمة محمد أمة الصبر والإحسان فاصبروا حتى يأتي الله بأمره والعاقبة للمتقين. فأنت أيها الإنسان لا تسكت عن الشر ولكن اعمل بنظام وبتخطيط وبحسن تصرف وانتظر الفرج من الله ولا تمل فالدرب طويل لا سيما إذا كنت أول الفتنة فإن القائمين بها سوف يحاولون ما استطاعوا أن يصلوا إلى قمة ما يريدون فاقطع عليهم السبيل وكن أطول منهم نفسًا وأشد منهم مكرًا فإن هؤلاء الأعداء يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين» (¬1). ولقد وعد مولانا - سبحانه وتعالى - عباده بالسعة بعد الضيق، وبالعافية بعد البلاء، وبالرخاء بعد الشدة، واليسر بعد العسر قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (¬2). قال الطبري رحمه الله: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: فإن مع الشدة التي أنت فيها من جهاد هؤلاء المشركين، ومن أوله ما أنت بسبيله رجاء وفرجاً بأن يُظفرك بهم، حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به طوعاً وكرهاً. ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الآية لما نزلت، بشَّر بها أصحابه «وقال: لن يغلب عسر يسرين»» (¬3). إن الله عزَّ وجلَّ يخاطب نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بأن العسر لا يخلو من يسر يصاحبه ويلازمه. وقد لازمه معك فعلًا. فحينما ثقل العبء شرحنا لك صدرك، فخفف حملك، الذي أنقض ظهرك. وكان اليسر مصاحبًا للعسر، ¬

(¬1) شرح رياض الصالحين، الشيخ محمد بن صالح العثيمين 1/ 46، ط/ 1، دار السلام، القاهرة: 2002 م. (¬2) سورة الشرح، الآيتان: 5، 6. (¬3) جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، 24/ 495.

يرفع إصره، ويضع ثقله. وإنه لأمر مؤكد يكرره بألفاظه: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} .. وهذا التكرار يشير بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان في عسرة وضيق ومشقة، اقتضت هذه الملاحظة، وهذا التذكير، وهذا الاستحضار لمظاهر العناية، وهذا الاستعراض لمواقع الرعاية، وهذا التوكيد بكل ضروب التوكيد .. والأمر الذي يثقل على نفس محمد هكذا لا بد أنه كان أمراً عظيماً .. ثم يجيء التوجيه الكريم لمواقع التيسير، وأسباب الانشراح، ومستودع الري والزاد في الطريق الشاق الطويل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (¬1). إن مع العسر يسرًا .. فخذ في أسباب اليسر والتيسير. فإذا فرغت من شغلك مع الناس ومع الأرض، ومع شواغل الحياة .. إذا فرغت من هذا كله فتوجه بقلبك كله إذن إلى ما يستحق أن تنصب فيه وتكد وتجهد .. العبادة والتجرد والتطلع والتوجه ... {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} .. إلى ربك وحده خالياً من كل شيء حتى من أمر الناس الذين تشتغل بدعوتهم .. إنه لا بد من الزاد للطريق. وهنا الزاد. ولا بد من العدة للجهاد. وهنا العدة .. وهنا ستجد يسرًا مع كل عسر، وفرجًا مع كل ضيق. وعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال كنت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقال: «يا غلام إنيّ أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف». وفي رواية: «احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في ¬

(¬1) سورة الشرح، الآيتان: 7، 8.

الشدة، واعلم: أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا» (¬1). قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: «ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالركوب واليسر بالعسر: أن الكرب إذا اشتدَّ وعظُم وتناهى، وحصل للعبد الإياس من كشفه من جهة المخلوقين، وتعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكُّل على الله، وهو من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج، فإنَّ الله يكفي من توكل عليه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ ... قَدْرًا} (¬2). وروى آدم بن أبي إياس في "تفسيره" بإسناده عن محمد بن إسحاق قال: جاء مالك الأشجعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أُسر ابني عوفٌ، فقال له: أرسل إليه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فأتاه الرسول فأخبره، فأكب عوف يقول: لا حول ولا قوَّة إلا بالله، وكانوا قد شدُّوه بالقِدِّ فسقط القِدُّ عنه، فخرج إذا هو بناقةٍ لهم فركبها، فأقبل فإذا هو بسرح القوم الذين كانوا شدُّوه، فصاح بهم، فاتبع آخرها أوَّلها، فلم يفاجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب، فقال أبوه: عوف وربِّ الكعبة، فقالت أمه: واسوأتاه، وعوف كئيب يألم ما فيه من القد، فاستبق الأب والخادم إليه، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلًا، فقص على أبيه أمره وأمر الإبل، فأتى أبوه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره عوف وخبر الإبل، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: منه، رقم 2516، وقال الألباني: حديث صحيح، انظر: صحيح سنن الترمذي، الألباني ص 566 - 567، رقم 2516. (¬2) سورة الطلاق، الآية: 3.

«اصنع بها ما أحببت، وما كنت صانعًا بإبلك»، ونزل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (¬1). قال الفضيل رحمه الله: والله لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئًا، لأعطاك مولاك كلَّ ما تريد. وذكر إبراهيم بن أدهم عن بعضهم قال: ما سأل السائلون مسألة هي ألحلف من أن يقول العبد: ما شاء الله، قال: يعني بذلك التفويض إلى الله - عزَّ وجلَّ - وقال سعيد بن سالم القداح: بلغني أنَّ موسى عليه السلام كانت له إلى الله حاجه، فطلبها، فأبطأت عليه، فقال: ما شاء الله، فإذا حاجته بين يديه، فعجب، فأوحى الله إليه: أما علمت أن قولك: ما شاء الله أنجحُ ما طلبت به الحوائج. وأيضًا فإن المؤمن إذا استبطأ الفرج، وأيس منه بعد كثرة دعائه وتضرعُّه، ولم يظهر عليه أثر الإجابة يرجع إلى نفسه بالملائمة، وقال لها: إنما أتيت من قبلك، ولو كان فيك خير لأجبت، وهذا اللوم أحبُّ إلى الله من كثير من الطاعات، فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه واعترافه له بأنه أهل لما نزل به من البلاء، وأنَّه ليس بأهل لإجابة الدعاء، فلذلك تسرع إليه حينئذ إجابة الدعاء وتفريج الكرب، فإنِّه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله. قال وهب رحمه الله: تعبَّد رجل زمانًا، ثم بدت له إلى الله حاجةٌ، فصام سبعين سبتًا، يأكل في كل سبت إحدى عشرة تمرة، ثم سأل الله حاجته فلم يُعطَها، فرجع إلى نفسه فقال: منك أتيت، لو كان فيك خير، أعطيت حاجتك، فنزل إليه عند ذلك ملكٌ، فقال: يا ابن آدم ساعتك هذه خيرٌ من عبادتك التي مضت، وقد قضى الله حاجتك. وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 3.

فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَاسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (¬1). وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَاسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (¬2). وقال حاكيًا عن يعقوب عليه السلام أنه قال لبنيه: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (¬3). ثم قص قصة اجتماعهم عقيب ذلك. وكم قص سبحانه من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكرب كإنجاء نوح ومن معه في الفلك، وإنجاء إبراهيم من النار، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه، وإنجاء موسى وقومه من اليمِّ، وإغراق عدوِّهم، وقصة أيوب ويونس، وقصص محمَّد - صلى الله عليه وسلم - مع أعدائه، وإنجائه منهم، كقصته في الغار، ويوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، وغير ذلك» (¬4). إن اليقين والثقة بالله عزَّ وجلَّ من أعظم ما يناله العبد من توحيد الله تعالى؛ فصاحب التوحيد على يقينٍ من ربه، مصدق بآياته، مؤمن بوعده ووعيد كأنه يراها رأي العين، فهو واثق بالله متوكل عليه راضٍ بقضائه وقدره، محتسب الأجر والثواب منه. إن النفس الموحدة تمتلئ بالطمأنينة والسكينة حتى في أشد المواقف، ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 110. (¬2) سورة البقرة، الآية: 214. (¬3) سورة يوسف، الآية: 87. (¬4) جامع العلوم والحكم، أبو الفرج عبد الرحم بن أحمد بن رجب الحنبلي، ص 42 - 43.

وأصعب الظروف، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن العبد في طلب ما ينفعه ودفع ما يضرُّه لا يوجه قلبه إلا إلى الله؛ فلهذا قال المكروب: «لا إله إلاَّ أنت». ومثل هذا ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: «لا إله إلاَّ الله العظيم الحليم لا إله إلاَّ الله ربُّ العرش العظيم لا إله إلاَّ الله ربُّ السموات وربُّ الأرض ربُّ العرش الكريم» (¬2). فإنَّ هذه الكلمات فيها تحقيق التَّوحيد وتألُّه العبد ربَّه وتعلُّق رجائه به وحده لا شريك له وهي لفظ خبرٍ يتضمَّن الطَّلب. والنَّاس وإن كانوا يقولون بألسنتهم: لا إله إلاَّ الله فقول العبد لها مخلصًا من قلبه له حقيقة أخرى وبحسب تحقيق التَّوحيد تكمل طاعة الله. قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (¬3). فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه فقد اتَّخذ إلهه هواه أي جعل معبوده هو ما يهواه وهذا حال المشركين الذين يعبد أحدهم ما يستحسنه فهم يتَّخذون أندادًا من دون الله يحبُّونهم كحبِّ الله» (¬4). إن الثقة بالله تعالى في تفريج الكرب ورفع البلاء مما ينبغي أن يكون في اعتقاد المسلم في كل لحظة وكل حين. ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 82. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء عند الكرب، رق 5986. (¬3) سورة الفرقان، الآيتان: 43، 44. (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، تحقيق: أنور الباز، عامر الجزار، 10/ 259، ط/ 3، دار الوفاء: 1426 هـ - 2005 م.

قال ابن القيم رحمه الله: «إن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته أو نقصت ثوابه وأنزلت درجته فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه كما جاء عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمره كلَّه خير وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له» (¬1). فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته، ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأقرب إليهم فالأقرب يبتلى المرء على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء وإن كان في دينه رقة خفف عنه ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة» (¬2). ويشدد الإمام ابن القيم رحمه الله على ضرورة وأهمية الثقة بالله تعالى في تفريج الكربات لأن له الحول والقوة: «فالحول والقوة التي يرجى لأجلهما المخلوق ويخاف إنما هي لله، وبيده في الحقيقة فكيف يخاف ويرجى من لا حول له ولا قوة بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه فإنه على قدر خوفك من غير الله يسلط، عليك وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان، وهذا حال الخلق أجمعه وإن ذهب عن أكثرهم علماً وحالاً فما شاء الله كان ولا بد وما لم يشأ لم يكن ولو اتفقت عليه الخليقة. فالتوحيد مفزع أعدائه وأوليائه فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب: الزهد والرقائق، باب: المؤمن أمره كله خير، رقم 7692. (¬2) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي 2/ 188، ط/ 2، دار المعرفة، بيروت: 1395 هـ - 1975 م.

2 - الدعوة إلى الثقة بالله تعالى في تفريج الكربات

الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (¬1). وأما أولياؤه فينجيهم به من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها ولذلك فزع إليه يونس فنجاه الله من تلك الظلمات وفزع إليه اتباع الرسل فنجوا به مما عذب به المشركون في الدنيا وما أعد لهم في الآخرة ولما فزع إليه فرعون عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق له لم ينفعه لأن الإيمان عند المعاينة لا يقبل هذه سنة الله في عباده فما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه بالتوحيد فلا يلقى في الكرب العظام إلا الشرك ولا ينجى منها إلا التوحيد فهو مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها وغياثها» (¬2). وقال رحمه الله: «فإن قلت فبأي شيء أستعين على التجرد من الطمع ومن الفزع قلت بالتوحيد والتوكل والثقة بالله وعلمك بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب بالسيئات إلا هو وأن الأمر كله لله ليس لأحد مع الله شيء» (¬3). 2 - الدعوة إلى الثقة بالله تعالى في تفريج الكربات: جاءت العديد من النصوص الشرعية التي تدعو المسلم وتؤكد عليه ضرورة الثقة بالله تعالى في تفريج الكربات ومن هذه النصوص قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} (¬4). قال الطبري رحمه الله: «يقول تعالى ذكره لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم، الداعين إلى عبادة أوثانهم: من الذين ينجيكم، {مِنْ ظُلُمَاتِ ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 65. (¬2) الفوائد، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي بن قيم الجوزية ص 55، ط/ 2، دار الكتب العلمية، بيروت: 1393 هـ - 1972 م. (¬3) المرجع السابق، ص 116. (¬4) سورة الأنعام، الآيتان: 63، 64.

الْبَرِّ}، إذا ضللتم فيه فتحيَّرتم، فأظلم عليكم الهدى والمحجة، ومن ظلمات البحر إذا ركبتموه، فأخطأتم فيه المحجة، فأظلم عليكم فيه السبيل، فلا تهتدون له، غير الله الذي إليه مفزعكم حينئذ بالدعاء {تَضَرُّعًا}، منكم إليه واستكانة جهرًا وخفية، يقول: وإخفاء للدعاء أحيانًا، وإعلانًا وإظهارًا تقولون: لئن أنجيتنا من هذه يا رب أي من هذه الظلمات التي نحن فيها، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}، يقول: لنكونن ممن يوحدك بالشكر، ويخلص لك العبادة، دون من كنا نشركه معك في عبادتك. وقوله: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} أي: قل لهؤلاء العادلين بربهم سواه من الآلهة، إذا أنت استفهمتم عمن به يستعينون عند نزول الكرب بهم في البر والبحر: الله القادر على فرجكم عند حلول الكرب بكم، ينجيكم من عظيم النازل بكم في البر والبحر من همّ الضلال وخوف الهلاك، ومن كرب كل سوى ذلك وهمّ لا آلهتكم التي تشركون بها في عبادته، ولا أوثانكم التي تعبدونها من دونه، التي لا تقدر لكم على نفع ولا ضر، ثم أنتم بعد تفضيله عليكم بكشف النازل بكم من الكرب، ودفع الحالِّ بكم من جسيم الهم، تعدلون به آلهتكم وأصنامكم، فتشركونها في عبادتكم إياه. وذلك منكم جهل» (¬1). وقال ابن كثير رحمه الله: «قال تعالى ممتنا على عباده في إنجائه المضطرين {مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي: الحائرين الواقعين في المهامه البرية، وفي اللجج البحرية إذا هاجت الريح العاصفة، فحينئذ يفردون الدعاء له وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} (¬2). وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ ¬

(¬1) جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر 11/ 414. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 67.

وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (¬1). وقال تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬2). وقال في هذه الآية الكريمة: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} أي: جهرًا وسرًا {لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ} أي: من هذه الضائقة {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي: بعدها، {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ} أي: بعد ذلك {تُشْرِكُونَ} أي: تدعون معه في حال الرفاهية آلهة أخرى» (¬3). وقال د. الزحيلي في تفسير هذه الآية: «لا يثبت الإنسان غالباً على العهد، ولا يفي بالوعد، ولا يستقر على حال الاستقامة، فتراه بطبعه غداراً خائناً، يلجأ إلى الله وقت الشدة والخوف، وينسى الله بعد النجاة، ويعود إلى ضلالة وجهله. والواجب الذي يمليه العقل والوفاء بالجميل والإخلاص أن يستمر الإنسان على أصل العقيدة الصحيحة والإيمان الحق والعبادة لمن أنعم عليه بجلائل النعم ودقائقها، لا سيما في أحوال الأزمات والمحن. وهذه حال من الأحوال التي ذكرتها الآية: وهي إذا أخطأتم الطريق وخفتم الهلاك ودعوتم الله، وأقسمتم: لئن أنجانا الله من هذه الشدائد، لنكونن من الطائعين المستقيمين. وهذا توبيخ من الله لأولئك المشركين في دعائهم إياه عند الشدائد، ثم يدعوه معه غيره في حالة الرخاء، كما قال: {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}. ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 22. (¬2) سورة النمل، الآية: 63. (¬3) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 3/ 268.

إنه مثل ضربه الله، بقصد التقريع والتوبيخ لمن تعهد بالإيمان ونبذ الشرك لأن الحجة إذا قامت بعد المعرفة، وحب الإخلاص، والمشركون قد جعلوا بدلاً منه وهو الإشراك، فحسن أن يقرعوا ويوبخوا على هذا المنهج، وإن كانوا مشركين قبل النجاة وفي الآية إيماء إلى أن من أشرك في عبادة الله تعالى غيره، فهو لم يعبده لأن شرط العبادة الإخلاص، والتوحيد أساس العبادة. والآية صريحة بأنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية في وقت المحنة بأنه لا ملجأ إلا إلى الله، ولا تعويل إلا على فضل الله، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات إذ لا يقبل عقلًا أن يأتي الإنسان بأمور أربعة عند حصول الشدائد: وهي الدعاء، والتضرع، والإخلاص بالقلب، والتزام الاشتغال بالشكر، ثم يرتد على عقيبه، ويعمل بنقيض هذه الأمور بعد النجاة وإحراز السلامة من الله تعالى وحده الذي يهيئ الأسباب للإنجاء من المخاوف، أو يغمر عباده بواسع الرحمة والفضل، وبدقائق اللطف والإلهام» (¬1). وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬2). فالمضطر في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأ إلا الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء ذلك حين تضيق الحلقة، وتشتد الخنقة، وتتخاذل القوى، وتتهاوى الأسناد وينظر الإنسان حواليه فيجد نفسه مجرداً من وسائل النصرة وأسباب الخلاص. لا قوته، ولا قوة في الأرض تنجده. وكل ما كان يعده لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلى وكل من كان يرجوه للكربة قد تنكر له أو تولى .. في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة ¬

(¬1) التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، د. وهبة بن مصطفى الزحيلي 7/ 227، ط/ 2، دار الفكر المعاصر، دمشق: 1418 هـ. (¬2) سورة النمل، الآيتان: 62، 63.

التي تملك الغوث والنجدة، ويتجه الإنسان إلى الله ولو كان قد نسيه من قبل في ساعات الرخاء. فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه. هو وحده دون سواه. يجيبه ويكشف عنه السوء، ويرده إلى الأمن والسلامة، وينجيه من الضيقة الآخذة بالخناق. والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء، وفترات الغفلة. يغفلون عنها فيلتمسون القوة والنصرة والحماية في قوة من قوى الأرض الهزيلة. فأما حين تلجئهم الشدة، ويضطرهم الكدب، فتزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة، ويرجعون إلى ربهم منيبين مهما كانوا من قبل غافلين أو مكابرين. قال محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله: «ارتقى الاستدلال من التذكير بالتصرف الرباني في ذوات المخلوقات إلى التذكير بتصرفه في أحوال الناس التي لا يخلو عنها أحد في بعض شؤون الحياة وذلك حال الاضطرار إلى تحصل الخير، وحال انتياب السوء، وحال التصرف في الأرض ومنافعها، فهذه ثلاثة الأنواع لأحوال البشر. وهي: حال الاحتياج، وحالة البؤس، وحالة الانتفاع. الحالة الأولى: وهي حالة الاحتياج مضمنة في قوله {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} فالمضطر هو ذو الضرورة أي الحالة المحوجة إلى الأشياء العسرة الحصول، وهذه مرتبة الحاجيات فالمرء محتاج إلى أمور كثيرة بها قوام أوده ليست متصلة بذاته مثل الأقوات والنكاح والملابس اللازمة فالمرء يتطلبها بوجوده من المعاوضات، وقد يتعسر بعضها وهي تتعس بقدر وفرة منافعها وعزة حصولها فيسأل الله أن يعطيها. والمعنى: أن المضطر إذا دعا لتحصيل ما اضطر إليه فإنه لا يجيبه إلا الله بقطع النظر عن كونه يجيب بعضاً ويؤخر بعضاً. والحالة الثانية: وهي حالة البؤس هي المشار إليها بقوله {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} والكشف: أصله رفع الغشاء، فشبه السوء الذي يعتري المضرور بغشاء يحول دون المرء ودون الاهتداء إلى الخلاص تشبيه معقول بمحسوس.

والمعنى: إن الله يكشف السوء عن المسوء إذا دعاه أيضًا فحذف من الجملة المعطوفة لدلالة ما ذكر مع الجملة المعطوف عليها، أي يكشف السوء عن المستاء إذا دعاه. وظاهر التقييد بالظرف يقتضي ضمان الإجابة. والواقع أن الإجابة منوطة بإرادة الله تعالى بحسب ما يقتضيه حال الداعي وما يقتضيه معارضه من أصول أخرى، والله أعلم بذلك. والحالة الثالثة: وهي حالة الانتفاع هي المشار إليها بقوله {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} أي يجعلكم تعمرون الأرض وتجتنون منافعها، فضمن الخلفاء معنى المالكين فأضيف إلى الأرض على تقدير: مالكين لها، والملك يستلزم الانتفاع بما ينتفع به منها. وأفاد خلفاء بطريق الالتزام معنى الوراثة لمن سبق، فكل حي هو خلف عن سلفه. والأمة خلف عن أمة كانت قبلها جيلاً بعد جيل. ولما اقتضته الخلافة من تجدد الأبناء عقب الآباء والأجيال بعد الأجيال، وما اقتضته الاستجابة وكشف السوء من كثرة الداعين والمستائين عبر في أفعال الجعل التي تعلقت بها بصيغة المضارع الدال على التجدد بخلاف أفعال الجعل الأربعة التي في الآية قبلها» (¬1). ومما يدل من السنة على الثقة بالله في تفريج الكرب ما جاء عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب، أو في الكرب: الله ربي لا أشرك به شيئًا» (¬2). وهذا الحديث فيه ثناء على الله عزَّ وجلَّ وتعظيم له عند الكرب، فكون المسلم يدعو بهذا الدعاء فهو يريد التخلص من الشيء الذي يهمه، مثل ما جاء في أن من دعاء بلفظ الجلالة فقد دعا باسم الله الأعظم، فيكون ذلك من ¬

(¬1) التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور، محمد الطاهر بن محمد بن عاشور التونسي 19/ 288، ط/ 1، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت: 1420 هـ - 2000 م. (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب: الوتر، باب: في الاستغفار، رقم 1525، وقال الألباني: حديث صحيح، انظر: صحيح سنن أبي داود، الألباني ص 234، رقم 1525.

أسباب القبول. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: «لا إله إلاَّ الله العظيم الحليم لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم الفتاوى لا إله إلاَّ الله ربُّ السموات وربُّ الأرض ربُّ العرش الكريم» (¬1). وعن طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -؛ أن عمر رضي الله عنهما رآه كئيباً فقال: مالك يا أبا محمد كئيباً؟ لعله ساءتك إمرة ابن عمك؟ يعني أبا بكر، قال: لا، وأثنى على أبي بكر، ولكني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كلمة لا يقولها عبد عند موته إلا فرج الله عنه كربته وأشرق لونه، فما منعني أن أسأله عنها إلا القدرة عليها حتى مات، فقال له عمر: إني لأعلمها، فقال له طلحة: وما هي؟ فقال له عمر: هل تعلم كلمة هي أعظم من كلمة أمر بها عمه: لا إله إلاَّ الله؟ فقال طلحة: هي والله هي» (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرقي يقول: «امسح البأس رب الناس بيدك الشفاء لا يكشف الكرب إلاَّ أنت» (¬3). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم، إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء عند الكرب، رقم 5986. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده رقم (1386)، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح. وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير يحيى بن طلحة فمن رجال أصحاب السنن، (1/ 161). (¬3) أخرجه البخاري، كتاب: الطب، باب: رقية النبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم 5412، وأخرجه مسلم، كتاب: السلام، باب: استحباب رقية المريض، رقم 2191.

3 - نماذج لمن وثق بالله وفرج الله كربته

وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجاً قال: فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: "بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها» (¬1). إن كل المعاني والنصوص السابقة تؤكد للمسلم ضرورة وأهمية الثقة في الله تفريج كل كرب وشدة ونازلة مهما عظمت. 3 - نماذج لمن وثق بالله وفرج الله كربته: إن هناك العديد من النماذج والصور لمن وثق بالله وفرج الله كربه وهمه، وكان السبب الرئيس هو يقينه الكامل في الله بأنه لا يعجزه شيء سبحانه وتعالى في السموات ولا في الأرض، ومن أمثلة ذلك: 1 - نبي الله نوح عليه السلام: قال الله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬2). وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ *} (¬3). قال الشيخ أبو بكر الجزائري: «وعلى إثر ذكره تعالى إهلاك المنذرين وإنجائه المؤمنين من عباده المخلصين ذكر قصة تاريخية لذلك وهي نوح وقومه ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده 1/ 391، رقم 2712، وقال الأرنؤوط: إسناده ضعيف كما قال الدارقطني في العلل أبو سلمة الجهني لم يتبين لأئمة الجرح والتعديل من هو، وقال الشيخ أحمد شاكر (5/ 266) إسناده صحيح، والحاكم في المستدرك (1/ 501). وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (1/ 336) رقم (199) وعزاه لابن حبان والطبراني. (¬2) سورة الأنبياء، الآيتان: 76، 77. (¬3) سورة الصافات، الآيات: 75 - 82.

حيث أنذر نوح قومه ولما جاء العذاب أنجى الله عباده المخلصين وأهلك المكذبين المنذرين فقال تعالى في ذكر هذه القصة الموجزة {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} أي دعانا لنصرته من قومه {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} نحن له {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} باستثناء امرأته وولد كنعان {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} وهو عذاب الغرق. وقوله {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} إلى يوم القيامة وهذا جزاء له على صبره في دعوته وإخلاصه وصدقه فيها إذ كل الناس اليوم من أولاده الثلاثة وهم سام وهو أبو العرب والروم وفارس، وحام وهو أبو السودان ويافث وهو أبو الترك والخزر وهم التتار ضيقوا العيون ولهذا سموا الخزر من خزر العين وهو ضيقها وصغرها، ويأجوج ومأجوج، وقوله {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ} أي في أجيال البشرية التي أتت بعده وهو الذكر الحسن والثناء العطر المعبر عنه بقوله تعالى {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} وقوله تعالى {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي كما جزينا نوحاً لإيمانه وصبره وتقواه وصدقه ونصحه وإخلاصه نجزي المحسنين في إيمانهم وتقواهم وهذه بشرى للمؤمنين وقوله {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} ثناء عليه وبيان لعلة الإكرام والإنعام عليه. ودعوة إلى الإيمان بالترغيب فيه، وقوله {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ} أي أغرقناهم بالطوفان بكفرهم وشركهم وتكذيبهم بعد أن أنجينا المؤمنين» (¬1). 2 - نبي الله موسى ونبي الله هارون عليهما السلام: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ¬

(¬1) أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، أبو بكر الجزائري، 3/ 378.

الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ *} (¬1). قال الشيخ السعدي رحمه الله: «يذكر تعالى منَّته على عبديه ورسوليه، موسى، وهارون ابني عمران، بالنبوة والرسالة، والدعوة إلى الله تعالى، ونجاتهما وقومهما من عدوهما فرعون، ونصرهما عليه، حتى أغرقه الله وهم ينظرون، وإنزال الله عليهما الكتاب المستبين، وهو التوراة التي فيها الأحكام والمواعظ، وتفصيل كل شيء، وأن الله هداهما الصراط المستقيم، بأن شرع لهما ديناً ذا أحكام وشرائع مستقيمة موصلة إلى الله، ومنَّ عليهما بسلوكه. {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ. سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} أي: أبقى عليهما ثناء حسنًا، وتحية في الآخرين، ومن باب أولى وأحرى في الأولين» (¬2). 3 - نبي الله يونس عليه السلام: قال الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). قال ابن كثير رحمه الله: «إن يونس بن متَّى عليه السلام، بعثه الله إلى أهل قرية «نينوى»، وهي قرية من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله، فأبوا عليه تمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث. فلما تحققوا منه ذلك، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عزَّ وجلَّ، وجأروا إليه، ورغت الإبل وفضلانها، وخارت البقر ¬

(¬1) سورة الصافات، الآيات: 114 - 122. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ص 706. (¬3) سورة الأنبياء، الآيتان: 87، 88.

وأولادها، وثغث الغنم وحملانها، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (¬1). وأما يونس عليه السلام، فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلجَّجت بهم، وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضًا، فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضًا، قال الله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (¬2). أي: وقعت عليه القرعة، فقام يونس عليه السلام، وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله، سبحانه وتعالى، من البحر الأخضر - فيما قاله ابن مسعود - رضي الله عنه - - حوتًا يشق البحار، حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا تأكل له لحمًا، ولا تهشم له عظماً؛ فإن يونس ليس لك رزقًا، وإنما بطنك له يكون سجنًا. وقوله: {وَذَا النُّونِ} يعني: الحوت، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة. وقوله: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا}: قال الضحاك: لقومه، {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي: نضيق عليه في بطن الحوت. يروى نحو هذا عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم، واختاره ابن جرير، وقال عطية العوفي: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي: نقضي عليه، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير، وقوله: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 98. (¬2) سورة الصافات، الآية: 141.

الظَّالِمِينَ} قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل. وقال سالم بن أبي الجعد: ظلمة حوت في بطن حوت، في ظلمة البحر. قال ابن مسعود، وابن عباس وغيرهما: وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقُّها، حتى انتهى به إلى قرار البحر، فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره، فعند ذلك وهنالك قال: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ}. وقال عوف رحمه الله: لما صار يونس عليه السلام في بطن الحوت، ظن أنه قد مات، ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه، ثم نادى: يارب، اتخذت لك مسجدًا في موضع ما اتخذه أحد. وقال سعيد بن أبي الحسن البصري: مكث في بطن الحوت أربعين يومًا. رواهما ابن جبير. وقوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} أي أخرجناه من بطن الحوت، وتلك الظلمات، {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي: إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا، ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء، فقد جاء الترغيب في الدعاء بها عن سيد الأنبياء» (¬1). وعن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوة ذي النون إذا دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلاَّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له» (¬2). 4 - نبي الله أيوب عليه السلام: قال الله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 5/ 366. (¬2) أخرجه الترمذي، كتاب: الدعوات، باب: منه، رقم 3505، وقال الألباني: حديث صحيح، انظر: صحيح سنن الترمذي، الألباني ص 795 - 796، رقم 3505.

مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (¬1). وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (¬2). قال الشيخ السعدي رحمه الله: «أي: واذكر عبدنا ورسولنا، أيوب - مثنيًا معظمًا له، رافعًا لقدره - حين ابتلاه، ببلاء شديد، فوجده صابرًا راضيًا عنه، وذلك أن الشيطان سلط، على جسده، ابتلاء من الله، وامتحانًا فنفخ في جسده، فتقرح قروحاً عظيمة ومكث مدة طويلة، واشتد به البلاء، ومات أهله، وذهب ماله، فنادى ربه: رب {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فتوسل إلى الله بالإخبار عن حالة نفسه، وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ، وبرحمة ربه الواسعة العامة فاستجاب الله له، وقال له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} (¬3). فركض برجله فخرجت من ركضته عين ماء باردة فاغتسل منها وشرب، فأذهب الله عنه ما به من الأذى، {وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ} أي: رددنا عليه أهله وماله. {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} بأن منحه الله العافية من الأهل والمال شيئًا كثيرًا، {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} به، حيث صبر ورضي، فأثابه الله ثوابًا عاجلًا قبل ثواب الآخرة. {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} أي: جعلناه عبرة للعابدين، الذين ينتفعون بالعبر، فإذا رأوا ما أصابه من البلاء، ثم ما أثابه الله بعد زواله، ونظروا السبب، ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآيتان: 83، 84. (¬2) سورة ص، الآيات: 41، 44. (¬3) سورة ص، الآية: 42.

وجدوه الصبر، ولهذا أثنى الله عليه به في قوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} فجعلوه أسوة وقدوة عندما يصيبهم الضر» (¬1). 5 - أصحاب الغار الثلاثة: وقد أشار إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم إذ أصابهم مطر، فأووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه. فقال واحد منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق من أرز (¬2). فذهب وتركه، وأني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، فصار من أمره أني اشتريت منه بقراً وأنه أتاني يطلب أجره، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فسقها، فقال لي: إنما لي عندك فرق من أرز. فقلت له: اعمد إلى تلك البقر، فإنها من ذلك الفرق فساقها. فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنا. فانساخت عنهم الصّخرة (¬3). فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عنهما ليلة، فجئت وقد رقدا؛ وأهلي وعيال يتضاغون من الجوع (¬4). وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما فيستكنا لشربتهما، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر. فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا. فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء. ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ص 528. (¬2) الفرق: إناء يأخذ ستة عشر مدًا وذلك ثلاثة آصع وبعضهم يرويه بفتح الراء. (¬3) انساخ هنا بمعنى اتسع، يقال انساخ باله أي اتسع. (¬4) يتضاغون: يتضورون جوعا، ولعل الصواب بالعين أي يتضاعون يقول ابن منظور: وضاع يضوع وتضوع: تضور في البكاء في شدة، وقد غلب على بكاء الصبي.

فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أن كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي، وأني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلما قعدت بين رجليها فقالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت المائة الدينار. فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، ففرج الله عنهم فخرجوا» (¬1). قال ابن حجر رحمه الله: وفي هذا الحديث استحباب الدعاء في الكرب والتقرب إلى الله تعالى بذكر صالح العمل واستنجاز وعده بسؤاله واستنبط منه بعض الفقهاء استحباب ذكر ذلك في الاستسقاء واستشكله المحب الطبري لما فيه من رؤية العمل والاحتقار عند السؤال في الاستسقاء أولى لأنه مقام التضرع وأجاب عن قصة أصحاب الغار بأنهم لم يستشفعوا بأعمالهم وإنما سألوا الله إن كانت أعمالهم خاصة وقبلت أن يجعل جزاءها الفرج عنهم فتضمن جوابه تسليم السؤال ولكن بهذا القيد وهو حسن وقد تعرض النووي لهذا وذكر هذا الحديث ونقل عن القاضي حسين وغيره استحباب ذلك في الاستسقاء ثم قال وقد يقال إن فيه نوعًا من ترك الافتقار المطلق ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى عليهم بفعلهم فدل على تصويب فعلهم وقال السبكي الكبير ظهر لي أن الضرورة قد تلجئ إلى تعجيل جزاء بعض الأعمال في الدنيا وأن هذا منه ثم ظهر لي أنه ليس في الحديث رؤية عمل بالكلية لقول كل منهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فلم يعتقد أحد منهم في عمله الإخلاص بل أحال أمره إلى الله فإذا لم يجزموا بالإخلاص فيه مع كونه أحسن أعمالهم فغيره أولى فيستفاد منه أن الذي يصلح في مثل هذا أن يعتقد الشخص تقصيره ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكَهْفِ والرَّقيمِ} الكهف 9، رقم 3278. وأخرجه مسلم، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال، رقم 2742.

في نفسه ويسئ الظن بها ويبحث على كل واحد من عمله يظن أنه أخلص فيه فيفوض أمره إلى الله ويعلق الدعاء على علم الله به فحينئذ يكون إذا دعا راجيًا للإجابة خائفاً من الرد فإن لم يغلب على ظنه إخلاصه ولو في عمل واحد فليقف عند حده ويستحي أن يسأل بعمل ليس بخالص قال وإنما قالوا ادعوا الله بصالح أعمالكم في أول الأمر ثم عند الدعاء لم يطلقوا ذلك ولا قال واحد منهم أدعوك بعملي وإنما قال إن كنت تعلم ثم ذكر عمله انتهى» (¬1). **** ¬

(¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن حجر العسقلاني، 6/ 509.

المبحث الثالث ثقة المسلم بالله تعالى في التكفل بالرزق

المبحث الثالث ثقة المسلم بالله تعالى في التكفل بالرزق ومن ثقة المسلم بالله تعالى أنه يثق أن الله عزَّ وجلَّ متكفل برزقه، وأن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب التي تجلب الرزق، ويثق أن الله سيعطيه ما قدر له من رزق، ولن ينقص منه شيئًا. 1 - الدعوة إلى ثقة المسلم بالله في التكفل بالرزق: لقد دلت الكثير من النصوص الشرعية على أهمية الثقة بالله في التكفل بالأرزاق، وأن جميع المخلوقين ضمن الله رزقهم قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬1). قال الطبري رحمه الله: «يعني تعالى ذكره بقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}، وما تدب دابة في الأرض. و «الدابة» «الفاعلة»، من دبَّ فهو يدب، وهو دابٌّ، وهي دابة. {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} يقول: إلا ومن الله رزقها الذي يصل إليها، هو به متكفل، وذلك قوتها وغذاؤها وما به عيشها. قال مجاهد، في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} قال: ما جاءها من رزقٍ فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعًا، ولكن ما كان من رزقٍ فمن الله. وقوله: {يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} حيث تستقر فيه، وذلك مأواها الذي تأوي إليه ليلًا أو نهارًا {وَمُسْتَوْدَعَهَا} الموضع الذي يودعها، إما بموتها، فيه، أو دفنها. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {مُسْتَقَرَّهَا} حيث تأوي {وَمُسْتَوْدَعَهَا}، حيث تموت» (¬2). ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 6. (¬2) جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، 15/ 240.

وقال ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات، من سائر دواب الأرض، صغيرها وكبيرها، بحريها، وبريها، وأنه {يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} أي: يعلم أين مُنتهى سيرها في الأرض، وأين تأوي إليه من وكرها، وهو مستودعها. وقال علي بن أبي طلحة وغيره، عن ابن عباس: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أي: حيث تأوي، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} حيث تموت. وعن مجاهد: {مُسْتَقَرَّهَا} في الرحم، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} في الصلب، كالتي في الأنعام، وأن جميع ذلك مكتوب في كتاب عند الله مبين عن جميع ذلك، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (¬1). وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬2). (¬3) لقد أخبر - سبحانه وتعالى - في هذه الآية برزق الجميع، والدابة كل حيوان يدب والرزق حقيقة ما يتغذى به الحي، ويكون فيه بقاء روحه ونماء جسده. قيل لحاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال: من عند الله. {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} (¬4). فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 38. (¬2) سورة النعام، الآية: 59. (¬3) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 4/ 305. (¬4) سورة المنافقون، الآية: 7.

فقال: كأن ماله إلا السماء! يا هذا الأرض له والسماء له، فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض وأنشد: ورازق هذا الخلق في العسر واليسر ... وكيف أخاف الفقر والله رازقي وللضب في البيداء والحوت في البحر ... تكفل بالأرزاق للخلق كلهم (¬1) قال الشيخ السعدي رحمه الله: «أي: جميع ما دب على وجه الأرض، من آدمي، أو حيوان بري أو بحري، فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم، فرزقها على الله. {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} أي: يعلم مستقر هذه الدواب، وهو: المكان الذي تقيم فيه وتستقر فيه، وتأوي إليه، ومستودعها: المكان الذي تنتقل إليه في ذهابها مجيئها، وعوارض أحوالها. {كُلٌّ} من تفاصيل أحوالها {فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي: في اللوح المحفوظ المحتوي على جميع الحوادث الواقعة، والتي تقع في السموات والأرض. الجميع قد أحاط بها علم الله، وجرى بها قلمه، ونفذت فيها مشيئته، ووسعها رزقه، فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها، وأحاط علماً بذواتها، وصفاتها» (¬2). إنه ما من نوع من أنواع دواب الأرض أو البحر أو الجو إلا على الله رزقها ومعيشتها وغذاؤها المناسب لها، المعد لطعامها بعد البحث والحركة والعمل، ويعلم مستقرها ومستودعها، أي يعلم منتهى سيرها في الأرض حيث تأوي إليه وهو مستقرها، والموضع الذي تأوي إليه من وكرها، ومكان موتها ودفنها، وهو مستودعها، وهذا يشمل بداية تكوينها ووجودها في الأصلاب والأرحام ¬

(¬1) بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية، أبو سعيد محمد بن محمد الخادمي 3/ 5، ط/ 1، مطبعة الحلبي، القاهرة: 1348 هـ. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ص 377.

وأيام الحياة والممات. وكل ما ذكر من كل الدواب وأرزاقها ومستقرها ومستودعها ثابت مكتوب في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه جميع مقادير الخلق. وهذا دليل على أن الله تعالى متكفل بأرزاق المخلوقات كلها، وقد أوجب ذلك على نفسه بكلمة على المفيدة للوجوب تفضلاً منه ورحمة، إلا أن الرزق بمقتضى سنته تعالى في الكون خاضع لمبدأ ارتباط الأسباب بالمسببات، أي أن الحصول على الرزق مرتبط بالسعي والعمل، بعد توافر الإلهام المودع في الخلائق، وهدايتهم إلى الطلب والتحصيل، كما قال تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬1). ومن الآيات التي تدل على ضرورة أن يثق المسلم في تكفل الله برزقه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (¬2). قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: «أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئًا إلا أن ييسره الله عليكم، ولهذا قال تعالى: {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} فالسعي في السبب لا ينافي التوكل وفي الحديث عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: إنه سمع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً» (¬3). فأثبت لها رواحًا وغدوًا لطلب الرزق مع توكلها على الله عزَّ وجلَّ وهو المسخر المسير المسبب» (¬4). ¬

(¬1) سورة طه، الآية: 50. (¬2) سورة الملك، الآية: 15. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده 1/ 30،رقم 205، وقال الأرنؤوط: إسناده قوي رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن هبيرة فمن رجال مسلم (1/ 30). (¬4) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 8/ 179.

وقال الشوكاني رحمه الله: «ثم امتن سبحانه على عباده، فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} أي: سهلة لينة تستقرون عليها، ولم يجعلها خشنة بحيث يمتنع عليكم السكون فيها والمشي عليها، والذلول في الأصل واحد المنقاد الذي يذل لك، ولا يستصعب عليك، والمصدر الذل، والفاء في قوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} لترتيب الأمر بالمشي على الجعل المذكور، والأمر للإباحة. قال مجاهد، والكلبي، ومقاتل: مناكبها طرقها وأطرافها وجوانبها. وقال قتادة، وشهر بن حوشب: مناكبها جبالها، وأصل المنكب الجانب، ومنه منكب الرجل، ومنه الريح النكباء لأنها تأتي من جانب دون جانب {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} أي: مما رزقكم وخلقه لكم في الأرض {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أي: وإليه البعث من قبوركم لا إلى غيره، وفي هذا وعيد شديد» (¬1). وقال النسفي رحمه الله: «وقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} لينة سهلة مذللة لا تمنع المشي فيها {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} جوانبها استدلالًا واسترزاقًا أو جبالها أو طرقها {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} أي من رزق الله فيها {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أي وإليه نشوركم فهو سائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم» (¬2). ومن الآيات أيضًا التي تدعو المسلم إلى الثقة بالله تعالى في رزقه، وأنه ينبغي للعبد أن يطلب الرزق من الله تعالى فقط قوله تعالى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا ¬

(¬1) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني 5/ 267، ط/ 2، دار الحديث، القاهرة: 1424 هـ - 2004 م. (¬2) مدارك التنزيل وحقائق التأويل، أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي 3/ 451، ط/ 1، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة.

فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬1). قال الرازي رحمه الله: «وذكر بطلان مذهبهم بأبلغ الوجوه، وذلك لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور، إما لكونه مستحقاً للعبادة بذاته كالعبد يخدم سيده الذي اشتراه سواء أطعمة من الجوع أو منعه من الهجوع، وإما لكونه نافعاً في الحال كمن يخدم غيره لخير يوصله إليه كالمستخدم بأجره، وإما لكونه نافعًا في المستقبل كمن يخدم غيره متوقعا منه أمرًا في المستقبل، وإما لكونه خائفًا منه. فقال إبراهيم: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} إشارة إلى أنها لا تستحق العبادة لذاتها لكونها أوثانًا لا شرف لها. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إشارة إلى عدم المنفعة في الحال وفي المآل، وهذا لأن النفع، إما في الوجود، وإما في البقاء لكن ليس منهم نفع في الوجود، لأن وجودهم منكم حيث تخلقونها وتنحتونها، ولا نفع في البقاء لأن ذلك بالرزق، وليس منهم ذلك، ثم بين أن ذلك كله حاصل من الله فقال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} فقوله: الله إشارة إلى استحقاق عبوديته لذاته وقوله: {الرِّزْقَ} إشارة إلى حصول النفع منه عاجلًا وآجلًا. وقال {لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} نكرة، وقال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} معرفًا فما الفائدة؟ فنقول قال الزمخشري رحمه الله قال: {لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} نكرة في معرض النفي أي لا رزق عندهم أصلًا، وقال معرفة عند الإثبات عند الله أي كل الرزق عنده فاطلبوه منه، وفيه وجه آخر وهو أن الرزق من الله معروف بقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬2). ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 17. (¬2) سورة هود، الآية: 6.

والرزق من الأوثان غير معلوم فقال: {لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} لعدم حصول العلم به وقال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} الموعود به، ثم قال: {وَاعْبُدُوهُ} أي اعبدوه لكونه مستحقًّا للعبادة لذاته واشكروا له أي لكونه سابق النعم بالخلق وواصلها بالرزق {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي اعبدوه لكونه مرجعاً منه يتوقع الخير لا غير) (¬1). ونص الله سبحانه في القرآن الكريم أنه رزاق يرزق الخلق كلهم لا فرق بين بر وفاجر، ومؤمن وكافر، وأن المطلوب منهم ليس تدبير الأرزاق، وإنما عبادة الخلاق قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬2). قال الماوردي رحمه الله: «فيه خمسة تأويلات: أحدها: إلا ليقروا بالعبودية طوعًا أو كرهًا، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. الثاني: إلا لآمرهم وأنهاهم، قاله مجاهد رحمه الله. الثالث: إلا لأجبلهم على الشقاء والسعادة، قاله زيد بن أسلم رحمه الله. الرابع: إلا ليعرفوني، قاله الضحاك رحمه الله. الخامس: إلا للعبادة، وهو الظاهر، وبه قال الربيع بن أنس رحمه الله. وقوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم. الثاني: ما أنفسهم، قاله أبو الجوزاء. ¬

(¬1) مفاتيح الغيب، الإمام محمد بن عمرو المعروف بفخر الدين الرازي 25/ 38، ط/ دار إحياء التراث العربي، بيروت. (¬2) سورة الذاريات، الآيات: 56 - 58.

الثالث: ما أريد منهم معونة ولا فضلًا» (¬1). وقال ابن عاشور رحمه الله: «وجملة {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} تقرير لمعنى {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} بإبطال بعض العلل والغايات التي يقصدها الصانعون شيئًا يصنعونه أو يتخذونه، فإنه المعروف في المعرف أن من يتخذ شيئًا إنما يتخذه لنفسه، وليست الجملة لإفادة. الجانب المقصور دونه بصيغة القصر لأن صيغة القصر لا تحتاج لذكر الضد. ولا يحسن ذكر الضد ولا يحسن ذكر الضد في الكلام البليغ. فقوله: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} كناية عن عدم الاحتياج إليهم لأن أشد الحاجات في العرف حاجة الناس إلى الطعام واللباس والسكن وإنما تحصل بالرزق وهو المال، فلذلك ابتدئ به ثم عطف عليه، أي إعطاء الطعام لأنه أشد ما يحتاج إليه البشر، وقد لا يجده صاحب المال إذا قحط الناس فيحتاج إلى من يسلفه الطعام أو يطعمه إياه، وفي هذا تعريض بأهل الشرك إذ يهدون إلى الأصنام الأموال والطعام تتلقاه منه سدنة الأصنام. والرزق هنا: المال كقوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬2). وقوله: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} (¬3). ويطلق الرزق على الطعام كقوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (¬4). ويمنع من إرادته ¬

(¬1) تفسير الماوردي المسمى «النكت والعيون»، أبو الحسن علب بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، تحقيق: السيد عبد المقصود 5/ 374، ط/ دار الكتب العلمية، بيروت. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 17. (¬3) سورة الرعد، الآية: 26. (¬4) سورة مريم، الآية: 62.

هنا عطف {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}. وقوله {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}. تعليل لجملتي {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} و {الرِّزْق} هنا بمعنى ما يهم المال والإطعام. والرزاق: الكثير الإرزاق، والقوة: القدرة. وذو القوة: صاحب القدرة. ومن خصائص {ذُو} أن تضاف إلى أمر مهم، فعلم أن القوة هنا قوة خلية من النقائص. والمتين: الشديد، وهو هنا وصف لذي القوة، أي الشدائد القوة، وقد عد {الْمَتِينُ} في أسمائه تعالى. فالمعنى أنه المستغني غنى مطلقاً فلا يحتاج إلى شيء فلا يكون خلقه الخلق لتحصيل نفع له ولكن لعمران الكون وإجراء نظام العمران بإتباع الشريعة التي يجمعها معنى العبادة في قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. وإظهار اسم الجلالة في {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضاه: إني أنا الرزاق، فعدل عن الإضمار إلى الاسم الظاهر لتكون هذه الجملة مستقلة بالدلالة لأنها سيرت مسير الكلام الجامع والأمثال: وحذفت ياء المتكلم من {يَعْبُدُونِ} و {يُطْعِمُونِ} للتخفيف، ونظائره كثيرة في القرآن. وفي قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} طريق قصر لوجود ضمير الفصل، أي: لا رزاق، ولا ذا قوة، ولا متين إلا الله، وهو قصر إضافي، أي دون الأصنام التي يعبدونها. فالقصر قصر إفراد بتنزيل المشركين في إشراكهم أصنامهم بالله منزلة من يدعي أن الأصنام شركاء لله في صفاته التي منها: الإرزاق، والقوة، والشدة، فأبطل ذلك بهذا القصر» (¬1). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن محمد الطاهر بن عاشور 27/ 46.

وقال الزمخشري رحمه الله: «يريد: أن شأني مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم، فإن ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم، فإما مجهز في تجارة ليفي ربحًا. أو مرتب في فلاحة ليعتل أرضًا. أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته. أو محتطب. أو محتش. أو طابخ. أو خابز، وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق، فأما مالك ملك العبيد وقال لهم: اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم، وأنا غنى عنكم وعن مرافقكم، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي، فما هو إلا أنا وحدي المتين الشديد القوة. قرئ بالرفع صفة لذو، وبالجر صفة للقوة على تأويل الاقتدار، والمعنى في وصفه بالقوة والمتانة: أنه القادر البليغ الاقتدار على كل شيء» (¬1). والذي يظهر من الآيات أن الله عزَّ وجلَّ لا يريد من خلق الناس جلب نفع له، ولا دفع ضرر عنه، كما تريده السادة عادة من عبيدهم، فإن الله هو الغني المعطي، الرزاق المعطي , الذي يرزق مخلوقاته، ويقوم بما يصلحهم، وهو ذو القدر والقوة، والشديد القوة، فلم يخلقهم لنفع ينفعونه به، فعليهم أن يؤدوا ما خلقوا له من العبادة. والخلاصة: أنه تعالى خلق العبادة ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وهو غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم. وقد أقسم الله تعالى أن رزق العباد مكفوب لهم فقال سبحانه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (¬2). ¬

(¬1) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري 4/ 406، ط/ دار الكتاب العربي، بيروت: 1407 هـ. (¬2) سورة الذاريات، الآية: 22.

قال ابن كثير رحمه الله: «ثم قال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} يعني: المطر، {وَمَا تُوعَدُونَ} يعني: الجنة. قاله ابن عباس، ومجاهد وغير واحد. وقال سفيان الثوري رحمه الله: قرأ واصل الأحدب رحمه الله هذه الآية: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فقال: ألا إني أرى رزقي في السماء، وأنا أطلبه في الأرض؟ فدخل خربة فمكث فيها ثلاثاً لا يصيب شيئًا، فلما أن كان في اليوم الثالث إذا هو بدَوْخَلَة من رطب، وكان له أخ أحسن نية منه، فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق الموت بينهما» (¬1). قال د. وهبة الزحيلي: «ثم ذكر الله تعالى ضمانة الرزق للأنفس والعباد كلهم فقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} أي، وفي السماء تقدير الأرزاق وتعيينها، وفيها ما توعدون من خير أو شر، وجنة ونار، وثواب وعقاب، ففي السماء التي هي السحاب المطر، وفي السماء أسباب الرزق من الشمس والقمر والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول، التي يكون تغيرها مناسباً لأنواع النباتات المختلفة التي تسقى بماء الأمطار، وتسوقها الرياح، وتغذيها الشمس بحرارتها، ويمنحها نور القمر قوة ونموًّا ونضجًا. ثم أقسم الله تعالى بذاته المقدسة على أحقية البعث وضمان الرزق، فقال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} أي فورب العزة والجلال، إن ما أخبرتكم به في هذه الآيات، وما وعدتكم به من أمر القيامة والبعث والجزاء، وتيسير الرزق وضمانه، حق لا مرية فيه، كائن لا محالة، فلا تشكوا فيه، كما لا تشكوا في نطقكم حين تنطقون، فهو كمثل نطقكم، فكما أنكم لا تشكون في نطقكم فكذلك هذا، كما تقول: إنه لحق، كما أنك تتكلم وترى وتسمع. وكان معاذ إذا حدث بالشيء ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة 7/ 419.

يقول لصاحبه: إن هذا لحق كما أنك هاهنا» (¬1). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي عدي عن الحسن البصري أنه قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قاتل الله أقواماً أقسم لهم ربهم، ثم لي يصدقوا». قال الأصمعي: أقبلت خارجًا من البصرة، فطلع أعرابي على قعود، فقال: من الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: من أين أقبلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، فقال: اتل علي، فتلوت والذاريات فلما بلغت قوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} فقال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها، ووزعها على الناس، وعمد إلى سيفه وقوسه، فكسرهما وولي. فلما حججت مع الرشيد، طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفت، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر، فسلم علي، واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح، وقال: وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا، ثم قال: فهل غير هذا؟ فقرأت: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} فصاح، فقال: يا سبحان الله، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف؟! لم يصدقوه بقوله، حتى ألجؤوه إلى اليمين؟! قالها ثلاثاً، وخرجت معها نفسه» (¬2). وجاء في نوادر الأصول في أحاديث الرسول: وعن زيد بن أسلم - رضي الله عنه - أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر في نفر منهم لما هاجروا قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فلك وقد أرملوا من الزاد فأرسلوا رجلًا منهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأله فلما انتهى إلى باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعه يقرأ هذه الآية: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬3). فقال الرجل ما الأشعريون بأهون الدواب على الله فرجع ولم يدخل على رسول ¬

(¬1) التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، د. وهبة بن مصطفى الزحيلي 27/ 19. (¬2) أسنده الثعلبي، راجع غرائب القرآن: 27/ 10 - 11، جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، 24/ 424. (¬3) سورة هودن الآية: 6.

الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لأصحابه «أبشروا أتاكم الغوث» ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوعده. فبيناهم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينهما مملوءًا خبزًا ولحمًا فأكلوا منها ما شاءوا ثم قال بعضهم لبعض لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقضي به حاجته فقالوا للرجلين اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنا قد قضينا منه حاجتنا ثم إنهم أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا رسول الله فما رأينا طعامًا أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به فقال يا رسول الله فما رأينا طعامًا أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به فقال «ما أرسلت إليكم شيئًا» فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ما صنع وما قال لهم فقال - صلى الله عليه وسلم - ذلك شيء رزقكموه الله سبحانه» (¬1). قال القرطبي رحمه الله: «وقال يزيد بن مرثد: إن رجلًا جاع بمكان ليس فيه شي فقال: اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به، فشبع وروي من غير طعام ولا شراب. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو أن أحدكم فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت» (¬2). وفي سنن ابن ماجة عن حبة وسواء ابني خالد قالا: دخلنا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يعالج شيئًا فأعناه عليه، فقال: «لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله» (¬3). ¬

(¬1) نوادر الأصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، محمد بن علي بن الحسن بن بشر، أبو عبد الله، الحكيم الترمذي، تحقيق: عبد الرحمن عميرة 3/ 35، ط/ دار الجيل، بيروت: 1992 م. (¬2) انظر: معجم ابن الأعرابي، أبو سعيد احمد بن محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي، وأسنده الثعلبي، راجع غرائب القرآن: 27/ 10. (¬3) أخرجه احمد في مسنده رقم 15893، شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لجهالة حال سلام شرحبيل (3/ 469) وابن ماجه (4165) في الزهد: باب التوكل واليقين، من طريق أبي معاوية، رقم 4165، وقال الشيخ الألباني: ضعيف، والبخاري في «الأدب الممفرد» (453)، والطبراني (3479) من طريق جرير بن حازم كلاهما عن الأعمش، به.

وروي أن قومًا من الأعراب زرعوا زرعًا فأصابته جائحة فحزنوا لأجله، فخرجت عليهم أعرابية فقالت: ما لي أراكم قد نكستم رؤوسكم، وضاقت صدوركم، هو ربنا والعالم بنا، رزقنا عليه يأتينا به حيث شاء! ثم أنشأت تقول: لو كان في صخرة في البحر ... صمًّا ململمة ملسًا نواحيها رزق لنفس براها الله لانفلقت ... حتى تؤدي إليها كل ما فيها أو كان بين طباق السبع ... لسهل الله في المرقى مراقيها حتى تنال الذي في اللوح خط لها ... إن لم تنله وإلا سوف يأتيها قلت: وهذا هو التوكل الحقيقي الذي لا يشوبه شي، وهو فراغ القلب مع الرب، رزقنا الله إياه ولا أحالنا على أحد سواه بمنه وكرمه» (¬1). إن الله سبحانه يختص بالرزق والتقدير دون شريك ولا معين، {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2). وسبحانه وبحمده، امتد رزقه للبهائم فضلًا عن العقلاء، فرزق الطير في أوكارها، والسباع في جحورها، والحيتان في قاع بحارها، وشمل رزقه الدواب بأنواعها، وصدق الله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬3). فالمخلوق الذي لا يحمل الرزق يحمل إليه الرزق! والذي لا يملك قوت يومه أو غده ييسره الله له قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا ¬

(¬1) الجامع لحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن احمد القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش 17/ 42. (¬2) سورة سبأ، الآية: 26. (¬3) سورة هود، الآية: 6.

وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1). ومن لطائف ما ذُكر في تفسير هذه الآية ما أورده ابن كثير رحمه الله: «ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب، فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمطار؛ ولهذا قال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أي: لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تؤخر شيئاً لغد، {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أي: الله يقيض لها رزقها على ضعفها، وييسره عليها، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه، حتى الذر في قرار الأرض، والطير في الهواء والحيتان في الماء، قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬2). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل بعض حيطان المدينة، فجعل يلتقط من التمر ويأكل، فقال لي: «يا بن عمر، مالك لا تأكل؟» قال: قلت: لا أشتهيه يا رسول الله، قال: «لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاماً ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك قيصر وكسرى فكيف بك يا بن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين؟». قال: فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬3). فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا، ولا بإتباع الشهوات، فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية فإن الحياة بيد الله، ألا وإني لا أكنز دينارًا ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 60. (¬2) سورة هود، الآية: 6. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 60.

ولا درهمًا، ولا أخبئ رزقاً لغد». وقد ذكروا أن الغراب إذا فقس عن فراخه البيض، خرجوا وهم بيض فإذا رآهم أبواهم كذلك، نفرا عنهم أياماً حتى يسود الريش، فيظل الفرخ فاتحًا فاه يتفقد أبويه، فيقيض الله له طيرًا صغارًا كالبرغش فيغشاه فيتقوت منه تلك الأيام حتى يسود ريشه، والأبوان يتفقدانه كل وقت، فكلما رأوه أبيض الريش نفرَا عنه، فإذا رأوه قد اسودّ ريشه عطفَا عليه بالحضانة والرزق» (¬1). وفي السنة النبوية ما يؤكد للإنسان أهمية أن يثق بالله تعالى في رزقه؛ فإن رزق الإنسان مكتوب له، وهو في بطن أمه فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح فإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار» (¬2). قال ابن حجر رحمه الله: «والمراد من كتابة الرزق تقديره قليلًا أو كثيرًا وصفته حراماً أو حلالاً وبالأجل هل هو طويل أو قصير وبالعمل هو صالح أو فاسد ووقع لأبي داود من رواية شعبة والثوري جميعًا عن الأعمش ثم يكتب شقيًّا أو سعيدًا ومعنى قوله شقي أو سعيد أن الملك يكتب إحدى الكلمتين كأن يكتب مثلًا أجل هذا الجنين كذا ورزقه كذا وعمله كذا وهو شقي ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة 6/ 293. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، رقم 3036، وأخرجه مسلم، كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه رقم 2643.

باعتبار ما يختم له وسعيد باعتبار ما يختم له كما دل عليه بقية الخبر وكان ظاهر السياق أن يقول ويكتب شقاوته وسعادته لكن عدل عن ذلك لأن الكلام مسوق إليهما والتفصيل وارد عليهما» (¬1). وجاء في التلخيص المعين على شرح الأربعين: «وقوله: «ويؤمر» أي الملك «بأربع كلمات» والآمر هو الله عزَّ وجلَّ بكتب «رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد». وقوله «رزقه» الرزق هنا: ما ينتفع به الإنسان وهو نوعان: رزق يقوم به البدن، ورزق يقوم به الدين. والرزق الذي يقوم به البدن: هو الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركوب وما أشبه ذلك. والرزق الذي يقوم به الدين: هو العلم والإيمان، وكلاهما مراد بهذا الحديث. «وأجله» أي مدة بقائه في هذه الدنيا، والناس يختلفون في الأجل اختلافًا متباينًا، فمن الناس من يموت حين الولادة، ومنهم من يعمر إلى مائة سنة من هذه الأمة، أما من قبلنا من الأمم فيعمرون إلى أكثر من هذا، فلبث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا. واختيار طول الأجل أو قصر الأجل ليس إلى البشر، وليس لصحة البدن وقوام البدن، إذ قد يحصل الموت بحادث والإنسان أقوى ما يكون وأعز ما يكون، لكن الآجال تقديرها إلى الله عزَّ وجلَّ» (¬2). وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ««ويؤمر يعني الملك بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد» فيكتب رزقه وكتب الرزق يعني هل هو قليل أم كثير ومتى يأتيه وهل ينتقص أم لا ينتقص المهم أنه يكتب كاملاً ويكتب أجله أيضًا في أي يوم وفي أي مكان وفي أي ساعة وفي أي لحظة وعن بعد أم عن قرب وبأي سبب من ¬

(¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن حجر العسقلاني، 11/ 483. (¬2) التلخيص المعين على شرح الأربعين، الشيخ محمد بن صالح العثيمين، إعداد: سلطان بن سراي الشمري ص 40، ط/ دار الثريا للنشر.

الأسباب موته والمهم أنه يكتب كاملا، ويكتب عمله هل هو صالح أم سيئ أم نافع أم قاصر على الشخص نفسه والمهم يكتب كل أعماله ويكتب مآله وما أدرك ما المآل فيكتب هل هو شقي أم سعيد» (¬1). وما من شك أنه مما يزيد ثقة المسلم في رزق الله سبحانه أنه جل في علاه خزائنه لا تنفد، وعطاؤه لا حدّ له ففي الحديث القدسي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئًا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» (¬2). قال ابن رجب رحمه الله: «المراد بهذا ذكر كمال قدرته سبحانه، وكمال ملكه، وإنَّ ملكه وخزائنه لا تنفد، ولا تنقص بالعطاء، ولو أعطى الأوَّلين والآخرين من الجنِّ والإنس جميع ما سألوه في مقامٍ واحدٍ، وفي ذلك حثُّ للخلق ¬

(¬1) شرح رياض الصالحين، الشيخ محمد بن صالح العثيمين، 1/ 457. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، رقم 2577.

على سؤاله وإنزال حوائجهم به» (¬1). وقال المناوي رحمه الله: «وقوله: «ما زاد ذلك في ملكي شيئًا» نكره للتحقير «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا» لأنه مرتبط بقدرته وإرادته وهما باقيتان ذاتيتان لا انقطاع لهما فكذا ما ارتبط بهما وعائد التقوى والفجور على فاعلهما «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد» أي في أرض واحدة ومقام واحد «فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي» لأن أمري بين الكاف والنون قال القاضي: قيد السؤال بالاجتماع في مقام واحد لأن تزاحم السؤال مما يذهل المسؤول ويبهته ويعسر عليه إنجاح مأربهم والإسعاف بمطالبهم «إلا كما ينقص المخيط» بكسر فسكون ففتح الإبرة «إذا أدخل البحر» لأن النقص إنما يدخل المحدود الفاني والله سبحانه واسع الفضل عظيم النوال لا ينقص العطاء خزائنه فخاطب العباد من حيث يعقلون وضرب لهم المثل بما هو غاية القلة ونهاية ما يشاهدونه فإن البحر من أعظم المرئيات والإبرة صغيرة صقيلة لا يعلق بها شيء وإن فرض لكنه لا يظهر حسًّا ولا يعتد به عقلًا فلذا شبه بها «يا عبادي إنما هي أعمالكم» أي: هي جزاء أعمالكم «أحصيها» أضبطها وأحفظها «لكم» أي بعملي وملائكتي الحفظة «ثم أوفيكم إياها» أي أعطيكم جزاءها وافيًا تامًّا إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر والتوفية إعطاء الحق على التمام. وهذا الحديث لجلالته وعظم فوائده كان راويه عن أبي ذر أبو إدريس الخولاني رحمه الله إذا حدث به جثا على ركبتيه تعظيماً له» (¬2). وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: «ثم قال: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم، ابن رجب الحنبلي، 2/ 48. (¬2) فيض القدير شرح الجامع الصغير، زين الدين محمد عبد الرؤوف بن علي المناوي 4/ 627، ط/ 1، دار الكتب العلمية، بيروت: 1415 هـ - 1994 م.

ما نقص ذلك من ملكي شيئًا» ووجه ذلك: أن الفاجر عدو لله عزَّ وجلَّ فلا ينصر الله، ومع هذا لا ينقص من ملكه شيئًا لأن الله تعالى غني عنه. «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته» أي إذا قاموا في أرض واحدة منبسطة، وذلك لأنه كلما كثر الجمع كان ذلك أقرب إلى الإجابة. «ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر» وهذا من باب المبالغة في عدم النقص، لأن كل واحد يعلم أنك لو أدخلت المخيط وهو الإبرة الكبيرة في البحر ثم أخرجتها فإنها لا تنقص البحر شيئًا ولا تغيره» (¬1). وقال ابن علان رحمه الله: «ففي ذلك إشارة إلى أن ملكه تعالى على غاية الكمال، لا يزيد بطاعة جميع الخلق وكونهم على أكمل صفات البر والتقوى، ولا ينقص بمعصيتهم، لأنه تعالى الغني المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، الكامل فلا نقص يلحقه بوجه «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد» أي: أرض واحدة ومقام واحد «فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك» أي: إعطاء كل سائل مسئوله «مما عندي» من الخزائن الإلهية «إلا كما ينقص المخيط» هو بكسر فسكون ففتح: الإبرة: «إذا أدخل البحر» وهو في رأي العين لا ينقص شيئًا من البحر، فكذا الإعطاء من الخزائن الإلهية لا ينقصها شيئًا البتة، لأنها من رحمته وكرمه وهما صفتان قديمتان ولا نهاية لهما، والنقص مما لا يتناهى محال بخلافه مما يتناهى، كالبحر وإن جل وعظم وكان أكبر المرئيات في الأرض، بل قد يؤخذ العطاء الكثير من المتناهي ولا ينقص، كالنار والعلم تقتبس منهما ما شاء الله ولا ينقص منهما شيء، بل قد يزيد العلم على ¬

(¬1) التلخيص المعين على شرح الأربعين، الشيخ محمد بن صالح العثيمين، إعداد: سلطان بن سراي الشمري، ص 123.

الإعطاء، فعلم أن قوله: «إلا كما ينقص المخيط» الخ، ليس المراد منه حقيقته وإنما هو تمثيل يقرب إلى الفهم» (¬1). إن هذا الحديث يدلُّ على كمال غنى الله سبحانه وتعالى وافتقار عباده إليه، وأنَّ الجنَّ والإنس لو اجتمعوا أوَّلهم وآخرهم، وسأل كلُّ ما يريد، وحقَّق الله لهم ذلك، لم ينقص ذلك ممَّا عند الله إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، والمعنى أنَّه لا يحصل نقصٌ أصلًا؛ لأن ما يعلق بالمخيط - وهو الإبرة - من الماء لا يعتبر شيئًا، لا في الوزن ولا في رأي العين. قال ابن القيم رحمه الله: «فتأمل ظهور هذين الاسمين اسم الرزاق واسم الغفار في الخليقة ترى وما يعجب العقول وتأمل آثارهما حق التأمل في أعظم مجامع الخليقة وانظر كيف وسعهم رزقه ومغفرته ولولا ذلك لما كان له من قيام أصلًا فلكل منهم نصيب من الرزق والمغفرة فإما متصلًا بنشأته الثانية إما مختصًّا بهذه النشأة» (¬2). فلا تشغل همَّك بما ضمن لك من الرزق، فرزقك لا يغدو لغيرك، ورزق غيرك لن يصلك، {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (¬3). لا يأكل أحد رزق أحد، ولا يزاحمه فيه، قال سبحانه: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (¬4). وخزائن رزقه سبحانه وتعالى لا تنفد: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ ¬

(¬1) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، محمد علي بن علان بن إبراهيم البكري الصديقي الشافعي، تحقيق: خليل مأمون شيحا 1/ 408، ط/ 4، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت: 1425 هـ - 2004 م. (¬2) مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، محمد بن أبي بكر قيم الجوزية 1/ 288، ط/ دار الكتب العلمية، بيروت: 2000 م. (¬3) سورة الحج، الآية: 70. (¬4) سورة الرعد، الآيتان: 8، 9.

2 - أثر ثقة المسلم بالله في التكفل بالرزق

إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (¬1). وقال جل شأنه: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} (¬2). وقال جل شأنه في بيان شح الإنسان وبخله: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} (¬3). 2 - أثر ثقة المسلم بالله في التكفل بالرزق: إن ثقة المسلم بالله تعالى أنه المتكفل برزقه لها الكثير من الآثار الطيبة، ومن أبرز ذلك: أ - تحري الحلال في كسب الرزق: فطالما علم المسلم أن رزقه بيد الله عزَّ وجلَّ، ووثق أن الله ضامن له رزقه فإنه بلا شك سيجتهد في تحري الحلال في طلب الرزق؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (¬4). قال الشيخ السعدي رحمه الله: «هذا أمر منه تعالى لرسله بأكل الطيبات، التي هي الرزق الطيب الحلال، وشكر الله، بالعمل الصالح، الذي به يصلح القلب والبدن، والدنيا والآخرة، ويخبرهم أنه بما يعملون عليهم، فكل عمل عملوه، وكل سعي اكتسبوه، فإن الله يعلمه، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء وأفضله، فدل هذا على أن الرسل كلهم، متفقون على إباحة الطيبات من المآكل، وتحريم الخبائث منها، وأنهم متفقون على كل عمل صالح وإن تنوعت بعض أجناس المأمورات، واختلفت بها الشرائع، فإنها كلها عمل صالح، ولكن تتفاوت بتفاوت الأزمنة» (¬5). ¬

(¬1) سورة الحجر، الآية: 21. (¬2) سورة المنافقون، الآية: 7. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 100. (¬4) سورة المؤمنون، الآية: 51. (¬5) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ص 553.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬1). قال ابن كثير رحمه الله: «يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى، وأن يشكروه على ذلك، إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة» (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (¬3). وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬4). ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمة حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟» (¬5). فعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا الناس، فقال: «هلموا إلي، فأقبلوا إليه فجلسوا فقال: هذا رسول رب العالمين جبريل عليه السلام نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها، وإن أبطأ عليها، فاتقوا الله وأجملوا ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 172. (¬2) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 1/ 480. (¬3) سورة المؤمنون، الآية: 51. (¬4) سورة البقرة، الآية: 172. (¬5) أخرجه مسلم، كتاب: الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، رقم 1015.

في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته» (¬1). ب - الأخذ بالأسباب وحسن التوكل على الله: وقد جاء في الحديث عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: إنه سمع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطاناً» (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلًا فيسأله أعطاه أو منعه» (¬3). عن المقدام - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده» (¬4). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلًا من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله فقال: «أما في بيتك شيء». قال: بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب: ذكر الزجر عن استبطاء المرء رزقه مع ترك الإجمال في طلبه، رقم 3229، وقال محققه: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأخرجه الحاكم 2/ 4، والبيهقي 5/ 264 - 265 من طريقين عن ابن وهب، بهذا الإسناد. وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» 3/ 156 - 157 من طريق وهب بن جرير، عن شعبة، عن محمد بن المنكدر، به. وأخرجه ابن ماجه «2144» في التجارات: باب الاقتصاد في المعيشة، والبيهقي 5/ 265 من طريقين عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رفعه بلفظ «أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسًا لن تمةت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم». (¬2) أخرجه أحمد في مسنده رقم 205، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن هبيرة فمن رجال مسلم (1/ 30). (¬3) أخرجه البخاري، كتاب: الزكاة، باب: الاستعفاف عن المسألة، رقم 1401. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب: البيوع، باب: كسب الرجل وعمله بيده، رقم 1966.

فيه من الماء. قال «ائتني بهما». فأتاه بهما فأخذهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده وقال: «من يشتري هذين». قال رجل أنا آخذهما بدرهم. قال «من يزيد على درهم». مرتين أو ثلاثًا قال رجل أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصارى وقال «اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدومًا فأتنى به». فأتاه به فشد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عودًا بيده ثم قال له «اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يومًا». فذهب الرجل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبًا وببعضها طعامًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع» (¬1). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكيل، فإن تركها عجزًا ينافي التوكيل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد على مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا، ولا توكله عجزًا» (¬2). وبين رحمه الله أقسام الناس في طلب الأسباب فقال: فإذا دعوته بالعافية فاستنقذ ما أعطاك من العتائد والأرزاق فإن وصلت بها وإلا فاطلب طلب من ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب: الزكاة، باب: ما تجوز فيه المسألة، رقم 1643، وقال اللباني: ضعيف «ضعيف سنن أبي داود 260». (¬2) زاد المعاد في هدي خير العباد، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية 4/ 14، ط/ 27، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1415 هـ - 1994 م.

أفلس من مطلوبه، والناس في هذا المقام أربعة أقسام: الأول: فأعجزهم من لم يبذل السبب ولم يكثر الطلب فذاك أمهن الخلق. والثاني: وهو أحزم الناس من أدلى بالأسباب التي نصبها الله تعالى مفضية إلى المطلوب وسأل سؤال من لم يدل بسبب أصلًا بل سؤال مفلس بائس ليس له حيلة ولا وسيلة. والثالث: من استعمل الأسباب وصرف همته إليها وقصر نظره عليها فهذا وإن كان له حظ مما رتبه الله تعالى عليها لكنه منقوص منقطع نصب الآفات والمعارضات لا يحصل له إلا بعد جهد فإذا حصل فهو وشيك الزوال سريع الانتقال غير معقب له توحيدًا ولا معرفة ولا كان سببًا لفتح الباب بينه وبين معبوده. والرابع: وهو رجل نبذ الأسباب وراء ظهره وأقبل على الطالب والدعاء والابتهال فهذا يحمد في موضع، ويذم في موضع، ويشينه الأمر في موضع؛ فيحمد عند كون تلك الأسباب غير مأمور بها إذا فيها مضرة عليه في دينه فإذا تركها وأقبل على السؤال والابتهال والتضرع لله كان محموداً ويذم حيث كانت الأسباب مأمورًا بها فتركها وأقبل على الدعاء كمن حصره العدو وأمر بجهاده فترك جهاده وأقبل على الدعاء والتضرع أن يصرفه الله عنه وكمن جهده العطش وهو قادر على تناول الماء فتركه وأقبل يسأل الله تعالى أن يرويه وكمن أمكنه التداوي الشرعي فتركه وأقبل يسأل العافية ونظائر هذا كثير. ويشتبه الأمر في الأسباب التي لا يتبين له عواقبها وفيها بعض الاشتباه ولها لوازم قد يعجز عنها وقد يتولد عنها ما يعود بنقصان دينه فهذا موضع اشتباه وخطر والحاكم في ذلك كله الأمر فإن خفي فالاستخارة وأمر الله وراء

ذلك (¬1). قال عامر بن عبد قيس رحمه الله: أربع آيات في كتاب الله إذا ذكرتهن لا أبالي على ما أصبحت أو أمسيت: الأولى: قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬2). الثانية: قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬3). الثالثة: قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (¬4). الرابعة: قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (¬5). وبهذا يظهر أن الثقة بالله في التكفل بالرزق لها الآثار الإيجابية في حياة المسلم. ¬

(¬1) بدائع الفوائد، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية، تحقيق: هشام عبد العزيز عطا، عادل عبد الحميد العدوي، أشرف أحمد 3/ 698، ط/ 1، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة: 1416 هـ - 1996 م. (¬2) سورة فاطر، الآية: 2. (¬3) سورة يونس، الآية: 107. (¬4) سورة الطلاق، الآية: 7. (¬5) سمرة الطلاق، الآيتان: 2، 3.

المبحث الرابع ثقة المسلم بالله تعالى في الدعوة إلى الله

المبحث الرابع ثقة المسلم بالله تعالى في الدعوة إلى الله ومن ثقة المسلم بالله تعالى أنه يثق أن الله عزَّ وجلَّ في مجال الدعوة، ويثق أن الله سبحانه كتب لدعوته البقاء والظهور، ويثق في الدعوة التي يحملها مهما واجه من صعوبات وعقبات؛ فليس طريق الدعوة مفروشًا بالورود. 1 - أهمية تكوين الدعاة لنشر الدعوة: والثقة بالله تعالى في مجال الدعوة تستلزم تكوين الدعاة لنشر الدعوة في كل مكان، طالما أنه توجد لدينا الثقة في مضمون الدعوة ورسالتها. إن الدعوة إلى الله مهمة الأنبياء والمرسلين، ثم ورثتهم من العلماء المصلحين. قال ابن القيم رحمه الله: «ولا يكون من أتباع الرسول على الحقيقة إلا من دعا إلى الله على بصيرة قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬1). فقوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} تفسير لسبيله التي هو عليها فسبيله وسبيل أتباعه الدعوة إلى الله فمن لم يدع إلى الله فليس على سبيله ... فسبيله وسبيل أتباعه الدعوة إلى الله» (¬2). وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: «وفي وقتنا اليوم قد يسر الله عزَّ وجلَّ أمر الدعوة أكثر، بطرق لم تحصل لمن قبلنا، فأمور الدعوة اليوم متيسرة أكثر، من طرق كثيرة، وإقامة الحجة على الناس اليوم ممكنة بطرق متنوعة فالواجب على أهل العلم والإيمان، وعلى خلفاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقوموا بهذا الواجب، وأن يتكاتفوا فيه، وأن يبلغوا رسالات الله إلى عباد الله ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 108. (¬2) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه، ابن قيم الجوزية، تحقيق: عبد الله بن محمد المديفر ص 21، 23، ط/ 1، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض: 1420 هـ.

ولا يخشوا في الله لومة لائم، ولا يحابوا في ذلك كبيرًا ولا صغيرًا ولا غنيًّا ولا فقيرًا، بل يبلغون أمر الله إلى عباد الله، كما أنزل الله، وكما شرع الله، وقد يكون ذلك فرض عين إذا كنت في مكان ليس فيه من يؤدي ذلك سواك، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه يكون فرض عين، ويكون فرض كفاية، فإذا كنت في مكان ليس فيه من يقوى على هذا الأمر، ويبلغ أمر الله سواك، فالواجب عليك أنت أن تقوم بذلك، فأما إذا وجد من يقوم بالدعوة والتبليغ، والأمر والنهي غيرك، فإنه يكون حينئذ في حقك سنة، وإذا بادرت إليه وحرصت عليه كنت بذلك منافسًا في الخيرات» (¬1). وقال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: «واجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم، وكذا في كل قرية وكل عامي عرف شروط الصلاة فعليه أن يعرف غيره، وإلا فهو شريك في ... الإثم ... ومعلوم أن الإنسان لا يولد عالماً بالشرع، وإنما يجب التبليغ على أهل العلم. فكل من تعلم مسألة واحدة فهو من أهل العلم بها. والإثم ... ـ أي في ترك التبليغ ـ على الفقهاء أشد لأن قدرتهم فيه أظهر، وهو بصناعتهم أليق» (¬2). ومما يدل على أهمية تكوين الدعاة لنشر الدعوة، وبيان الإسلام، قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬3). قال ابن كثير رحمه الله: «هذا بيان من الله تعالى لما أراد من نفير الأحياء مع الرسول في غزوة تبوك، فإنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أنه كان يجب النفير على كل مسلم إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قالوا: فنسخ ذلك بهذه الآية. ¬

(¬1) مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز، جمع وإشراف: د. محمد بن سعد الشويعر 1/ 330، 331، ط/ 1، دار القاسم للنشر، الرياض. (¬2) إحياء علوم الدين، الإمام أبو حامد الغزالي 2/ 242، ط/ 1، دار الفكر، بيروت: 1424 هـ. (¬3) سورة التوبة، الآية: 122.

وقد يقال: إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها، وشرذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم، ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينزل من الوحي عليه، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو، فيجتمع لهم الأمران في هذا: النفير المعين وبعده، - صلى الله عليه وسلم -، تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه وإما للجهاد؛ فإنه فرض كفاية على الأحياء. وقال قتادة رحمه الله في هذه الآية: هذا إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش، أمرهم الله ألا يعروا نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -، وتقيم طائفة مع رسول الله تتفقه في الدين، وتنطلق طائفة تدعو قومها، وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم. وقال الحسن البصري رحمه الله: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} قال: ليتفقه الذين خرجوا، بما يردهم الله من الظهور على المشركين، والنصرة، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم» (¬1). وقال الشيخ رشيد رضا رحمه الله: «والآية تدلُّ على وجوب تعميم العلم والتَّفقُّه في الدين والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة وتفقيه النَّاس فيه على الوجه الذي يصلح به حالهم، ويكونون به هداةً لغيرهم، وأن المتخصصين لهذا التفقه بهذه النِّيَّة، لا يقلون في الدَّرجة عند الله عن المجاهدين بالمال والنَّفس لإعلاء كلمة الله والدِّفاع عن الملَّة والأمَّة: بل هم أفضل منهم في غير الحال التي يكون فيها الدِّفاع فرضًا عينيًا، والدَّلائل على هذا كثيرة» (¬2). وقال الشيخ السعدي رحمه الله: «وفي هذه الآية أيضاً دليل وإرشاد وتنبيه لطيف، لفائدة مهمة، وهي: أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم، وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم، ونهاية ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 4/ 235. (¬2) تفسير القرآن الحكيم، محمد رشيد رضا 11/ 63، ط/ الهيئة المصرية العامة للكتاب: 1990 م.

ما يقصدون قصدًا واحدًا، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمار متباينة، والقصد واحد، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور» (¬1). ومما يدل على أهمية إعداد الدعاة ما جاء عن أبي قلابة قال: حدثنا مالك - رضي الله عنه - قال: «أتينا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلة وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيمًا رفيقًا فلمَّا ظنَّ أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمَّن تركنا بعدنا فأخبرناه قال ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلِّموهم ومروهم وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها وصلُّوا كما رأيتموني أصلِّي فإذا حضرت الصلاة فليؤذِّن لكم أحدكم وليؤمَّكم أكبركم» (¬2). وأوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاة الذين يرسلهم إلى الأمصار، فعن أبي بردة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً وأبا موسى رضي الله عنهما إلى اليمن قال: «يسِّرَا ولا تعسِّرَا وبشِّرَا ولا تنفِّرَا وتطاوعَا ولا تختلفَا» (¬3). وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالبلاغ عنه فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بلِّغوا عنِّي ولو آية وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النَّار» (¬4). قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: «إن تكوين الدعاة يعني تكوين الأمة، وأثر الرجل العبقري فيمن حوله كأثر المطر في الأرض، وأثر الشعاع في المكان المتألق، والأمم العظيمة ليست إلا صناعة حسنة لنفر من الرجال ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ص 355. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، رقم 595. (¬3) أخرجه البخاري|، كتاب: الجهاد والسير، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف، رقم 2811، وأخرجه مسلم، كتاب: الجهاد والسير، باب: في الأمر بالتيسير وترك التنفير، رقم 3263. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم 3202.

الموفقين. إن عوام الناس وجماهيرهم في عامة الأحايين لا وزن لهم، ولا تأثير حقيقياً في واقع الحياة وتاريخ الناس، بل يظلون في أماكنهم حيارى حتى يجئ القائد الممتاز فيوجههم هنا وهناك. إن عبء الدعوة ثقيل، ومهمة هداية الناس عمل جليل، ومن ثم وجب أن يختار الدعاة من بين صفوف الأمة وفق معايير معينة، وألا يترك هذا الأمر للظروف تفرضه، مما يدفع بالعجزة والقاصرين والجاهلين إلى هذا المجال الحسَّاس فيكون الضرر لا النفع» (¬1). والداعية له فضل كبير فهو من أحسن الناس قولًا، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬2). وعن الحسن البصري رحمه الله: «أنه تلا هذه الآية {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فقال: هذا حبيب الله هذا ولي الله هذا صفوة الله هذا خيرة الله هذا أحب أهل الأرض إلى الله أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته، وقال إنني من المسلمين هذا خليفة الله» (¬3). قال الرازي رحمه الله: «قوله {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} يدل على أن الدعوة إلى الله أحسن من كل ما سواها ... إذا عرفت هذا فنقول الدعوة إلى الله أحسن الأعمال بمقتضى هذه الآية» (¬4). وقال القاسمي رحمه الله: «أي: لا أحد أحسن مقالًا ممن دعا الناس إلى ¬

(¬1) مع الله «دراسات في الدعوة والدعاة»، الشيخ محمد الغزالي ص 7، 9، ط/ 1، دار الدعوة، القاهرة: 1983 م. (¬2) سورة فصلت، الآية: 23. (¬3) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، 4/ 122. (¬4) مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، 27/ 109.

عبادته تعالى، وكان من الصالحين المؤتمرين، والمسلمين وجوههم إليه تعالى في التوحيد. قال القاشاني: وإنما قدم الدعوة إلى الحق والتكميل؛ لكونه أشرف المراتب، ولاستلزامه الكمال العلمي والعملي، وإلا لما صحت الدعوة. انتهى. وفي الآية إشارة إلى ترغيبه - صلى الله عليه وسلم - في الإعراض عن المشركين، وعما كانوا يقولونه من اللغو في التنزيل، مما قصه تعالى عنهم فيما تقدم. وإرشاده إلى المواظبة على التبليغ، والدعوة، ببيان أن ذلك أحسن الطاعات ورأس العبادات، فهذا هو سر انتظام هذه الآية في إثر ما سبق. وثمة وجه آخر. وهو أن مراتب السعادات اثنان: كامل وأكمل. أما الكامل فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملًا في ذاته. فإذا فرغ من هذه الدرجة، اشتغل بعدها بتكميل الناقصين. فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (¬1). إشارة إلى المرتبة الأولى. وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها. فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة، وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية، وهي الانتقال بتكميل الناقصين، وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق، وهو المراد من قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا} الآية. واعلم أن من آتاه الله قريحة قوية، ونصيبًا وافيًا من العلوم الإلهية، عرف أنه لا ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن، أفاده الرازي. ويدخل في الآية كل من دعا إلى الله بطريق من الطرق المشروعة، وسبيل من السبل المأثورة؛ لأن الدعوة الصحيحة هي الدعوة النبوية، ثم ما انتهج منهجها في الصدع بالحق، وإيثاره على الخلق. ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 30.

وفي الآية دليل على وجوب الدعوة إلى الله تعالى؛ لأن الدعوة إلى الله أحسن الأعمال، وكل ما كان أحسن الأعمال، فهو واجب» (¬1). وقال الشيخ أبو بكر الجزائري: «لما ذكر تعالى بشرى أهل الإيمان وصالح الأعمال ذكر هنا بشرى ثانية لهم أيضًا فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} هذه ثلاثة شروط الأول دعوته إلى الله تعالى بأن يعبد فيطاع ولا يعص ويذكر ولا ينسى، ويشكر ولا يكفر والثاني وعمل صالحًا فأدى الفرائض واجتنب المحارم، والثالث وفاخر بالإسلام معتزًا به وقال إنني من المسلمين، فلا أحد أحسن قولًا من هذا الذي ذكرت شروط كماله، ويدخل في هذا أولاً الرسل، وثانيًا العلماء، وثالثًا المجاهدون ورابعًا المؤذنون وخامسًا الدعاة الهداة المهديون» (¬2). والداعية له الأجر الكثير؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» (¬3). وعن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إني أبدع بي فاحملني فقال «ما عندي». فقال رجل يا رسول الله أنا أدله على من يحمله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله»» (¬4). وقال النووي رحمه الله: «فيه فضيلة الدلالة على الخير والتنبيه عليه والمساعدة ¬

(¬1) محاسن التأويل، محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم القاسمي، تحقيق: محمد باسل عيون السود 8/ 225، ط/ 1، دار الكتب العلمية، بيروت: 1418 هـ. (¬2) أيسر التفاسير، أبو بكر الجزائري 4/ 577، ط/ 5، مكتبة العلوم والحكم، المملكة العربية السعودية: 1424 هـ - 2002 م. (¬3) أخرجه مسلم، كتاب: العلم، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هجى أو ضلالة، رقم 2674. (¬4) أخرجه مسلم، كتاب: الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله، رقم 1893.

لفاعله وفيه فضيلة تعليم العلم ووظائف العبادات» (¬1). وقال د. فضل إلهي: «ومما يبين عظمة الدعوة إلى الله تعالى أن الله عزَّ وجلَّ جعل القيام بها من شعار أتباع النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬2). قال ابن كثير رحمه الله: «يقول الله تعالى لعبد ورسوله إلى الثقلين: الإنس والجن، آمرًا له أن يخبر الناس: أن هذه سبيله، أي طريقه ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك، ويقين وبرهان، هو وكل من اتبعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بصيرة ويقين وبرهان شرعي وعقلي» (¬3). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: «وسواء كان المعنى أنا ومن اتبعني يدعو إلى الله على بصيرة أو كان الوقف عند قوله أدعو إلى الله ثم يبتدئ على بصيرة أنا ومن اتبعني فالقولان متلازمان فإنه أمره سبحانه أن يخبر أن سبيله الدعوة إلى الله فمن دعا إلى الله تعالى فهو على سبيل رسوله وهو على بصيرة وهو من أتباعه ومن دعا إلى غير ذلك فليس على سبيله ولا هو على بصيرة ولا هو من أتباعه فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين وأتباعهم وهم خلفاء الرسل في أممهم والناس تبع لهم» (¬4). (¬5) ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم، النووي 13/ 39، ط/ دار الحديث، القاهرة: 2004 م. (¬2) سورة يوسف، الآية: 108. (¬3) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة 2/ 543. (¬4) جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد - صلى الله عليه وسلم - خير الأنام، ابن قيم الجوزية ص 415، ط/ دار الكتب العلمية، بيروت. (¬5) فضل الدعوة إلى الله تعالى، أ. د. فضل إلهي ص 18، ط/ 1، مؤسسة الجريسي، الرياض: 1420 هـ - 1999 م.

2 - الثقة بالله تعالى من أهم صفات الداعية

2 - الثقة بالله تعالى من أهم صفات الداعية: إن الداعية له مكانة مميزة، قال د. حمد العمار: «وينبغي على الداعية وهو يسير في طريق الدعوة الطويل الموحش المليء بالأشواك والعقبات أن يتذكر دائمًا في يسره وعسره فضل دعوته وقيمتها ومنزلتها عند الله سبحانه وما وعد الله سبحانه به دعاته الصادقين ليزدادوا خيرًا ونشاطًا وتنافسًا في ميدان الدعوة قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (¬1). وليفرحوا بفضل الله ومنه وكرمه {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (¬2). فينبغي على الداعية أن يتذكر تفضل الله عليه ومنته عليه أن هداه للإسلام وأن جعله ممن أنار الله بصيرته وتحمل قسطًا من أمانة تبليغ هذا الدين، وتحمل شيئًا من المسؤولية: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (¬3). ومما ميز الله به الدعاة عن غيرهم أنهم خير الناس» (¬4). إن الثقة في الله تعالى تعطي الداعية دافعًا نفسيًا قويًا في الدعوة إلى الله تعالى. يقول الشيخ علي محفوظ رحمه الله: «ومن صفات الداعية إلى الله تعالى قوة الثقة بالله في وعده، وكمال الرجاء في حصول الفائدة، مهما طال به العلاج وعظمت المصاعب؛ فإنه متى تمكن ذلك من نفسه انبعثت همته، وقوي نشاطه، وتنبه إلى انتهاز كل فرصة بما يناسبها موقنًا بأنه إن لم يظهر تأثيره ¬

(¬1) سورة المطففين، الآية: 26. (¬2) سورة يونس، الآية: 58. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 72. (¬4) صفات الداعية، أ. د. حمد بن ناصر العمار ص 120، ط/ 3، دار إشبيليا، الرياض: 1424 هـ - 2003 م.

اليوم فغدًا يظهر، مؤمنًا بأن الباطل زهوق، ولا بد من يوم يتغلب فيه الحق على الباطل، فإن دولة الباطل مؤقتة لا ثبات لها في ذاتها وإنما بقاؤها في نوم الحق عنها، ودولة الحق هي الثابتة بذاتها فلا يغلب أنصاره ما داموا معتصمين به مجتمعين عليه. فلا يليق بالداعي أن ييأس من الإصلاح إن لم يؤثر عمله الأول مرة، بل عليه أن يكرر النصيحة والعظمة المرة بعد الأخرى بنشاط لا يعرف الملل، ورجاء لا يعتريه اليأس» (¬1). إن الثقة بالله وبالنصر من عند الله، والاعتماد على توفيقه وتأييده يوجد عند كل من الدعاة الحق، وتلك الثقة هي التي تأخذ بيديه، وتمسح الدموع من عينيه عندما يقف المعاندون في طريق الدعوة ويريدون أن يزرعوا العقبات في سبيل امتدادها حتى ليخل إلى الداعية أنها وصلت إلى طريق مسدود، وسوف لا تستطيع أن تشق طريقها إلى الأمام فإذا بالداعية يشعر كأن نصر الله حليفه، ويد الله شريكه، ويتأكد في قرارة نفسه، أنها سوف تستوفى حظها من الامتداد والانتشار، مهما وضعت في طريقها العراقيل وقامت الجنادل والصخور؛ لأن الله رضيها منهجًا صحيحًا وطريقًا محببًا، وتلك هي الثقة التي تتمثل في الآية الكريمة: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (¬2). وبهذه الثقة وحسن التوكل يتأكد للداعي أن الدعم الإلهي حليفه، وتأييد الله قرينه. إن الجراءة في الحق قوة نفسية رائعة يستمدها المؤمن الداعية من الإيمان بالله الواحد الأحد، ومن الحق الذي يعتقده، ومن الخلود السرمدي الذي يوقن به، ومن القدر الذي يستسلم إليه، ومن المسؤولية التي يستشعر بها، وعلى قدر نصيب المؤمن من الإيمان بالله الذي لا يغلب، وبالحق الذي لا يخذل، يكون ¬

(¬1) هداية المرشدين إلى طريق الوعظ والخطابة، الشيخ علي محفوظ، ص 103. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 12.

نصيبه من قوة الجرأة والشجاعة، وإعلان كلمة الحق التي لا تخشى في الله لومة لائم» (¬1). إن المختصين بالعلم ليس كالجاهل، فأول ما ينبغي أن يتحلى به الداعية: الإخلاص؛ ثم الثقة في وعد الله عزَّ وجلَّ إذا جاءه من طريق قطعي لا يتطرق إلا ثبوته شك فلا يحل له أن يتوقف - مثل القرآن - بل عليه أن يثق أن الله ناصره مهما خذله الناس، ومهما كان وحيدًا فريدًا، فإذا قرأ في القرآن: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬2). فليعلم أنه غالب ما استقام على أمر الله عزَّ وجلَّ. قال القاسمي رحمه الله: «وقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} أي: حزب الشيطان المحادين {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي: قوي على إهلاك من حاده ورسله، عزيز فلا يغلب في قضاءه» (¬3). وقال الشيخ السعدي رحمه الله: «هذا وعد ووعيد، وعيد لمن حاد الله ورسوله بالكفر والمعاصي، أنه مخذول مذلول، لا عاقبة له حميدة، ولا راية له منصورة. ووعد لمن آمن به، وبرسله، واتبع ما جاء به المرسلون، فصار من حزب الله المفلحين، أن لهم الفتح والنصر والغلبة في الدنيا والآخرة، وهذا وعد لا يخلف ولا يغير، فإنه من الصادق القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء يريده» (¬4). ¬

(¬1) صفات الداعية النفسية، عبد الله ناصح علوان، ص 23. (¬2) سورة المجادلة، الآية: 21. (¬3) محاسن التأويل، محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم القاسمي، تحقيق: محمد باسل عيون السود، 9/ 45. (¬4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ص 848.

3 - الثقة بالله تعالى تعلم الداعية الصبر

وإذا قرأ قول الله عزَّ وجلَّ: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1). فليعلم أنه متى استقام على أمره غلب ولو بعد حين، ولو كان وحيدًا فريدًا. إن الرجل إذا تصدر الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ وكان مستقيمًا على أمر الله فليثق يقينًا بنصر الله عزَّ وجلَّ، ومن تمام ثقته بنصر الله عزَّ وجلَّ: ألا يعتمد قلبه إلا على الله، وييئس من مصر الجماهير له، ولا يزعجه قلة الأتباع إذا كان ذا منهج مستقيم، فالرسل كان أتباعهم قلة، وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - المعروف عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يجئ النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم هذا فيقولون لا فيقال له هل بلغت قومك فيقول نعم فيقال له من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيدعى محمد وأمته فيقال لهم هل بلغ هذا قومه فيقولون نعم فيقال وما علمكم فيقولون جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬2). قال يقول عدلا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (¬3). 3 - الثقة بالله تعالى تعلم الداعية الصبر: وقد قال الله تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (¬4). قال الفخر الرازي رحمه الله: «والمعنى أنه تعالى أمره - صلى الله عليه وسلم - باتباع الوحي والتنزيل، فإن وصل إليه بسبب ذلك الاتباع مكروه فليصبر عليه إلى أن ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 21. (¬2) سورة البقرة، الآية: 143. (¬3) سورة البقرة، الآية: 143. (¬4) سورة يونس، الآية: 109.

يحكم الله فيه وهو خير الحاكمين» (¬1). وقال ابن كثير رحمه الله: «وقوله {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ} أي تمسك بما أنزل الله عليك وأوحاه إليك واصبر على مخالفة من خالفك من الناس {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} أي يفتح بينك وبينهم {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أي خير الفاتحين بعدله وحكمته» (¬2). وقال د. وهبة الزحيلي: «الرسول كغيره من الرسل والمؤمنين يجب عليه اتباع ما أوحى الله له، والصبر على الطاعة وعن المعصية، فإن أصابه مكروه بسب نشر دعوته، فليصبر عليه إلى أن يحكم الله فيه وله؛ بالنصر على أعدائه والغلبة على المكذبين» (¬3). وأمر الله تعالى سيد الدعاة - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على ما يقول المعاندون لدعوته وأن يحلي هذا الصبر بالجمال فقال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (¬4). قال الفخر الرازي رحمه الله: «المعنى إنك لما اتخذتني وكيلًا؛ فاصبر على ما يقولون وفوض أمرهم إلي؛ فإنني لما كنت وكيلًا لك أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بإصلاح أمور نفسك، واعلم أن مهمات العباد محصورة في أمرين كيفية معاملتهم مع الله، وكيفية معاملتهم مع الخلق، والأول أهم من الثاني، فلما ذكر تعالى في أول هذه السورة ما يتعلق بالقسم الأول أتبعه بما يتعلق بالقسم الثاني، وهو سبحانه جمع كل ما يحتاج إليه من هذا الباب في هاتين الكلمتين، وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مخالطًا للناس أو مجانبًا ¬

(¬1) مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي الشافعي، 17/ 141، 140. (¬2) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 2/ 436. (¬3) التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، د. وهبة الزحيلي، 11/ 286. (¬4) سورة المزمل، الآية: 10.

عنهم فإن خالطهم فلا بد له من المصابرة على إيذائهم وإيحاشهم، فإنه إن كان يطمع منهم في الخير والراحة لم يجد فيقع في الغموم والأحزان، فثبت أن من أراد مخالطة مع الخلق فلا بد له من الصبر الكثير، فأما إن ترك المخالطة فذاك هو الهجر الجميل، فثبت أنه لا بد لكل إنسان من أحد هذين الأمرين» (¬1). والداعية الصابر محفوف بالرعاية الربانية كما حفظ الله نبيه وأمره بالصبر فقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (¬2). قال ابن كثير رحمه الله: «أي اصبر على أذاهم ولا تبالهم فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا والله يعصمك من الناس» (¬3). وما الصبر إلا خلق سار عليه الدعاة وعلى رأسهم الأنبياء جميعًا يقول تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (¬4). قال الطبري رحمه الله: «وهذا تسلية من الله تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وتعزية له عما ناله من المساءة بتكذيب قومه إياه على ما جاءهم به من الحق من عند الله. يقول تعالى ذكره إن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون من قومك فيجحدوا نبوتك وينكروا آيات الله أنها من عنده؛ فلا يحزنك ذلك، واصبر على تكذيبهم إياك، وما تلقى منهم من المكروه في ذات الله حتى يأتي نصر الله؛ فقد كذبت رسل من قبلك أرسلتهم إلى أممهم فنالوهم بمكروه فصبروا على تكذيب قومهم إياهم ولم يثنهم ذلك من المضي لأمر الله الذي ¬

(¬1) مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي الشافعي، 30/ 195. (¬2) سورة الطور، الآية: 48. (¬3) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 4/ 246. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 34.

أمرهم به من دعاء قومهم إليه حتى حكم الله بينهم وبينهم ولا مبدل لكلمات الله ولا مغير لكلمات الله» (¬1). وقال د. علي محمد الصلابي: «كان بناء الجماعة المؤمنة في الفترة المكية يتم بكل هدوء وتدرج وسرية، وكان شعار هذه المرحلة هو توجيه المولى عزَّ وجلَّ المتمثل في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (¬2). فالآية الكريمة تأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يصبر على تقصير وأخطاء المستجيبين لدعوته، وأن يصبر على كثرة تساؤلاتهم خاصة إن كانت خاطئة، وأن يصبر على ترددهم في قبول التوجيهات، وأن يجتهد في تصبيرهم على فتنة أعداء الدعوة، وأن يوضح لهم طبيعة طريق الدعوة، وأنها شاقة، وأن لا يغرر به مغرر ليبعده عنهم، وأن لا يسمع فيهم منتقصًا، ولا يطيع فيهم متكبرًا أغفل الله قلبه عن حقيقة الأمور وجوهرها» (¬3). قال د. علي محمد الصلابي: «لم يفتر المشركون عن أذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أن صدع بدعوته إلى أن خرج من بين أظهرهم وأظهره الله عليهم، ويدل على ذلك مبلغ هذا الأذى تلك الآيات الكثيرة التي كانت تتنزل عليه في هذه الفترة تأمره بالصبر، وتدله على وسائله، وتنهاه عن الحزن، وتضرب له أمثلة من واقع إخوانه المرسلين مثل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (¬4). وقال سبحانه: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} (¬5). وقال ¬

(¬1) جامع البيان في تأويل القرآن، الإمام محمد بن جرير الطبري، 7/ 183. (¬2) سورة الكهف، الآية: 28. (¬3) السيرة النبوية، د. علي محمد الصلابي 1/ 151، ط/ 1، دار الإيمان: 2002 م. (¬4) سورة المزمل، الآية: 24. (¬5) سورة الإنسان، الآية: 24.

سبحانه: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (¬1). وقال عزَّ وجلَّ: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} (¬2). (¬3) وكذلك دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه إلى التحلي بهذه الفضيلة في دعوتهم فعن خبَّاب بن الأرتِّ - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسِّدٌ بردة له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا قال: «كان الرَّجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشقُّ باثنتين وما يصدُّه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عصبٍ وما يصدُّه ذلك عن دينه والله ليتمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذِّئب على غنمه ولكنَّكم تستعجلون» (¬4). قال بدر الدين العيني رحمه الله: «وحاصل المعنى: لا تستعجلوا فإن من كان قبلكم قاسوا ما ذكرنا فصبروا، وأخبرهم الشارع بذلك ليقوى صبرهم على الأذى» (¬5). وقال علي القاري رحمه الله: «وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث «ولكنَّكم تستعجلون» أي سيزول عذاب المشركين فاصبروا على أمر الدين كما صبر من سبقكم من المؤمنين على أشد من عذابكم لقوة اليقين» (¬6). وما من شك أن «الصبر من الصفات اللازمة لكل إنسان، إذ بدونه لا ¬

(¬1) سورة النمل، الآية: 127. (¬2) سورة فصلت، الآية: 43. (¬3) السيرة النبوية، د. علي محمد الصلابي، 1: 276. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب: المناقب، باب: علاما النبوة في الإسلام، رقم 3612. (¬5) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني الحنفي، 16/ 145. (¬6) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي بن سلطان محمد القاري، تحقيق جمال عيتاني 10/ 353، ط / دار الكتب العلمية، بيروت: 1422 هـ - 2001 م.

يستطيع بلوغ ما يريد لأن المراد لا ينال غالبًا إلا بتحمل المكاره وحبس النفس عليها. وهذا مطرد في جميع أمور الحياة، فالطالب يحبس نفسه على المذاكرة والدرس وكف نفسه عما تهواه من لذة وراحة حتى يستوعب الدروس لينجح في الامتحان، وكذلك التاجر، وكذلك أي صاحب غرض يريد نواله. وما يقال عن الأفراد يقال عن الأمم، فالأمة التي تريد بلوغ ما تصبو إليه تحتاج إلى صبر عظيم وتحمل للمشاق، والانتصار في الحروب يكون بجانب الذي يملك أسبابه، ومن أعظم أسبابه الصبر، فالصبر إذن ضروري لكل إنسان في الحياة وإلا صار هشًا سريع الانكسار أمام الأحداث وما أكثرها في الحياة، فإنها مملوءة بالمنغصات والمشقات والصعاب والمؤلمات، فإذا لم يقابلها بشيء من الصبر انكسر وتفتت وتمزقت شخصيته في دروب الحياة فتسحقه الأقدام وتلقيه بعيداً عن طريق المارين .. وإذا كان الصبر ضروريًا لأي إنسان، لا سيما للمسلم، فإن الصبر للداعي المسلم أشد ضرورة له من غيره، لأنه يعمل في ميدانين ميدان نفسه، يجاهدها ويحملها على الطاعة ويمنعها من المعصية وميدان خارج نفسه، وهو ميدان الدعوة إلى الله، ومخاطبة الناس في موضوعها، فيحتاج إلى قدر كبير من الصبر في المجالين. مجال النفس ومجال الدعوة، حتى يستطيع تجاوز العقبات وتحمل الأذى، فان فقد الصبر قعد أو انسحب من الميدان وحق عليه الحساب وفاته الثواب» (¬1). «وإذا كان الابتلاء مما قضت به سنة الله في الحياة، فإن ابتلاء الدعاة إلى الله مما جرت به السنة الإلهية أيضًا؛ فهم يبتلون بأذى الكفرة والمارقين بالقول والكيد واليد. قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (¬2). ¬

(¬1) أصول الدعوة، د. عبد الكريم زيدان ص 336، ط/ 2، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1420 هـ - 2000 م. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 34.

وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ} (¬1). وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (¬2). ومعنى يستخفنك: يحملونك على الخفة والطيش بعدم الصبر، والدعاة إلى الله يكيد لهم أهل الباطل ويفترون عليهم الكذب، ويؤذونهم بأنواع الأذى لأنهم قوم يجهلون وضالون. وقد أوذي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة أشد الأذى، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم بالصبر «صبرًا آل ياسر إن موعدكم الجنة» فعلى الداعي المسلم أن يقابل الأذى الذي يلقاه بالصبر الجميل، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام ومن قبلهم رسل الله، فان هذا الصبر مما ينعقد عليه عزم المؤمنين وتتوجه إليه إرادتهم، قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (¬3). (¬4) قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: «ولقد ذكر الله أسماء ثمانية عشر نبيًا عليهم السلام، فهو أولو العزم وأصحاب الرسالات الأولى، ثم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (¬5). وهذا الأمر بالاقتداء كان ماثلًا في ذهن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) سورة الحجر، الآية: 97، 99 .. (¬2) سورة الروم، الآية: 60. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 186. (¬4) أصول الدعوة، د. عبد الكريم زيدان، ص 327. (¬5) سورة الأنعام، الآيتان: 89، 90.

وهو يقوم بتبليغ الدعوة» (¬1). إن المثابرة على الدعوة، والاستعانة على وعثاء الطريق بطول الصبر، وحسن التأسى وصدق الاعتماد على الله، وتفاني الداعية في حقيقة رسالته، هو طريق النجاح، ومحاولة الإفلات من هذه السنة العامة لا يتاح لأحد، وفي هذا يقول الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (¬2). إن أنباء المرسلين تتابعت على كر الدهور مؤكدة هذه الحقيقة، ومؤكدة كذلك أن عقبى الصبر الجميل جميلة، وأن نصر الله يجيء في نهاية المطاف كما يجيء الصباح بمد اعتكار الظلام. وقوانين المجتمع الإنساني في ذلك تشبه قوانين الحياة المادية لا تنخرم ولا تتخلف. لقد قال يوسف عليه السلام لإخوته: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (¬3). إن هذه الآية كأي قانون مادي في علم الطبيعة أو الكيمياء تشير إلى أن الفرد الذي يستجمع هاتين الخلتين من معنى الإحسان لا بد أن يدركه التوفيق وتلحظه العناية وينجح في حياته حيث يخفق الآخرون الذين يقصرون في هذا المضمار .. ولذلك يقول إخوة يوسف عليه السلام له: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} (¬4). وإيثار الله ليوسف عليه السلام لم يكن عطاء من غير مؤهل، بل أتى بعد مراحل شاسعة من الكفاح والعفاف والمصابرة والتجمل ... وكما تصدق هذه السنة في حياة الأفراد تصدق في حياة الجماعات فإن الأمم لا ترزق التمكين في الأرض ¬

(¬1) عقيدة المسلم، الشيخ محمد الغزالي ص 223، ط/ 1، دار نهضة مصر. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 34. (¬3) سورة يوسف، الآية: 90. (¬4) سورة يوسف، الآية: 91.

ولا تنال حظًّا من سيادة الله إلا إذا مرت بأدوار من العمل المضني والجهاد الشاق، وصبرت على تكاليف الرسالات التي تحملها، والتقدم الذي تنشده. والقرآن الكريم يذكر السر في تسويد الأقدمين. من بني إسرائيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬1). «إذا استحكمت الأزمات وتعقدت حبالها، وترادفت الضوائق وطال ليلها، فالصبر وحده هو الذي يشع للمسلم النور العاصم من التخبط، والهداية الواقية من القنوط. والصبر فضيلة يحتاج إليها المسلم في دينه ودنياه، ولا بد أن يبني عليها أعماله وآماله وإلا كان هازلًا .. يجب أن يوطن نفسه على احتمال المكاره دون ضجر، وانتظار النتائج مهما بعدت، ومواجهة الأعباء مهما ثقلت، بقلب لم تعلق به ريبة، وعقل لا تطيش به كُربة، يجب أن يظل موفور الثقة بادي الثبات، لا يرتاع لغيمة تظهر في الأفق ولو تبعتها أخرى وأخرى، بل يبقى موقنًا بأن بوادر الصفو لا بد آتية، وأن من الحكمة ارتقابها في سكون ويقين. وقد أكد الله أن ابتلاء الناس لا محيص عنه، حتى يأخذوا أهبتهم للنوازل المتوقعة، فلا تذهلهم المفاجآت ويضرعوا لها» (¬2). إن من عوامل النجاح: ثقة الداعية بدعوته، وإيمانه الراسخ المطلق بأنها الحق الذي لا ريب فيه .. فهنا يتحول إلى قدوة في قوله وفعله، يتحول إلى إمام {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬3). فلا بد أن نكون دعاة صادقين وأئمة هادين مهديين، لا بد من الصبر على الدين، فلا تزحزحنا عنه أو عن بعض عقائده أو أحكامه استخفافات الذين لا يوقنون، ولا بد من اليقين المطلق الذي لا يقبل المراجعة أو الشك بأنه الحق. ¬

(¬1) سورة السجدة، الآية: 24. (¬2) خلق المسلم، الشيخ محمد الغزالي ص 117، ط/ 2، دار الكتب الإسلامية، القاهرة: 1985 م. (¬3) سورة السجدة، الآية: 24.

قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (¬1). وقال جلا وعلا: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} (¬2). ومن الثقة في الدعوة ألا نقبل عليها مساومة أو مداهنة؛ فإن هذا الدين دين الله، لا يقبل سواه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬3). قال الشيخ السعدي رحمه الله: «أي: من يدين الله بغير دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، فعمله مردود غير مقبول، لأن دين الإسلام هو المتضمن للاستسلام لله، إخلاصًا وانقيادًا لرسله فما لم يأت به العبد لم يأت بسبب النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه، وكل دين سواه فباطل» (¬4). ولقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى في ثقته في الدعوة والرسالة عندما رفض التهديد والوعيد والمساومة على دين الله. «وجاءت سادات قريش إلى أبي طالب فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنًا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآيتان: 13، 14. (¬2) سورة الأعراف، الآيتان: 88، 89. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 85. (¬4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ص 137.

لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين. عَظُم علي أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عمه خاذله، وأنه ضعف عن نصرته، فقال: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر - حتى يظهره الله أو أهلك فيه - ما تركته»، ثم استعبر وبكى، وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فلما أقبل قال له: اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدًا» (¬1). ومن خلال ذلك يظهر أهمية ثقة المسلم بالله تعالى في مجال الدعوة إلى الله، وضرورة الثبات على المبدأ والحق، والثبات على الدين. ¬

(¬1) الرحيق المختوم، صقي الرحمن المباركفوري ص 69، ط/ 17، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة: 1426 هـ - 2005 م.

المبحث الخامس ثقة المسلم بالله تعالى في النصر على الأعداء

المبحث الخامس ثقة المسلم بالله تعالى في النصر على الأعداء ومن ثقة المسلم بالله تعالى أنه يثق أن بالله عزَّ وجلَّ في النصر على الأعداء، طالما أخذ بالأسباب، واستعان بالله تعالى، وكان جهاده وقتاله في سبيل الله، وفي سبيل الدعوة إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، وليس لأي غرض من أغراض الدنيا، ولعل من أبرز الشواهد والنماذج التي تؤكد هذه الثقة ما يلي: 1 - ثقة نبي الله موسى عليه السلام بالله تعالى في نصره على فرعون: أشار القرآن الكريم في أكثر من موضع إلى قصة الصراع بين الحق والباطل، والخير والشر، وكيف أراد فرعون قتل موسى عليه السلام والتخلص منه، وكيف ظن فرعون أنه يستطيع بجنده وعتاده أن يهزم كلمة التوحيد، ولكن كانت كلمة الله هي العليا، ووثق موسى عليه السلام في نصر الله له على عدوه فرعون، ومما جاء في ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى * يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} (¬1). قال الطبري رحمه الله: «يقول تعالى ذكره {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى} نبينا {مُوسَى} إذ تابعنا له الحجج على فرعون، فأبى أن يستجيب لأمر ربه، وطغى وتمادى في طغيانه {أَنْ أَسْرِ} ليلاً {بِعِبَادِي} يعني بعبادي من بني إسرائيل، {فَاضْرِبْ لَهُمْ ¬

(¬1) سورة طه، الآيات: 77 - 81.

طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} يقول: فاتخذ لهم في البحر طريقا يابسًا، واليَبَس واليَبْس: يجمع أيباس، تقول: وقفوا في أيباس من الأرض، واليَبْس المخفف: يجمع يبوس. وأما قوله {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} فإنه يعني: لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك، ولا تخشى غرقًا من بين يديك ووحلًا. وقوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ. وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}. يقول تعالى ذكره: فسرى موسى ببني إسرائيل إذ أوحينا إليه أن أسر بهم، فأتبعهم فرعون بجنوده حين قطعوا البحر، فغشي فرعون وجنده في اليم ما غشيهم، فغرقوا جميعًا {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} يقول جلّ ثناؤه: وجاوز فرعون بقومه عن سواء السبيل، وأخذ بهم على غير استقامة، وذلك أنه سلك بهم طريق أهل النار، بأمرهم بالكفر بالله، وتكذيب رسله {وَمَا هَدَى} يقول: وما سلك بهم الطريق المستقيم، وذلك أنه نهاهم عن اتباع رسول الله موسى عليه السلام، والتصديق به، فأطاعوه، فلم يهدهم بأمره إياهم بذلك، ولم يهتدوا بإتباعهم إياه» (¬1). وقال الشوكاني رحمه الله: «هذا شروع في إنجاء بني إسرائيل وإهلاك عدوهم، {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} أي اجعل لهم طريقًا، ومعنى {يَبَسًا}: يابسًا، وصف به الفاعل مبالغة، وذلك أن الله تعالى أيبس لهم تلك الطريق حتى لم يكن فيها ماء ولا طين {لَا تَخَافُ دَرَكًا} في محل نصب على الحال، أي آمنا من أن يدرككم العدو، أو صفة أخرى لطريق، والدرك اللحاق بهم من فرعون وجنوده. وقوله {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} أي ¬

(¬1) جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، 18/ 343.

علاهم وأصابهم ما علاهم وأصابهم، والتكرير للتعظيم والتهويل، وقال ابن الأنباري: غشيهم البعض الذي غشيهم؛ لأنه لم يغشهم كل ماء البحر، بل الذي غشيهم بعضه. فهذه العبارة للدلالة على أن الذي غرقهم بعض الماء، والأوَّل أولى لما يدل عليه من التهويل والتعظيم {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} أي أضلهم عن الرشد، وما هداهم إلى طريق النجاة، لأنه قدَّر أن موسى ومن معه لا يفوتونه لكونهم بين يديه يمشون في طريق يابسة، وبين أيديهم البحر، وفي قوله: {وَمَا هَدَى} تأكيد لإضلاله؛ لأن المضل قد يرشد من يضله في بعض الأمور» (¬1). لقد أمر الله موسى عليه السلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل، وينقذهم من قبضة فرعون، دون أن يشعر بهم أحد، وأمره أن يتخذ أو يجعل لهم طريقًا يابسًا في وسط البحر، وذلك أن الله تعالى أيبس لهم تلك الطريق حتى لم يكن فيها ماء ولا طين. وأشعره بالأمان والنجاة، فقال له: أنت آمن لا تخاف أن يدركك وقومك فرعون وقومه، ولا تخشى أن يغرق البحر قومك، أو لا تخاف إدراك فرعون ولا تخشى الغرق بالماء. والتعبير عن بني إسرائيل بكلمة بعبادي دليل على العناية بهم، وأنهم كانوا حينئذ قومًا صالحين، وإيماء بقبح صنع فرعون بهم من الاستعباد والظلم. وتبعهم فرعون ومعه جنوده، فغشيهم من البحر ما غشيهم مما هو معروف ومشهور، فغرقوا جميعًا. وتكرار غَشِيَهُم للتعظيم والتهويل. وأما تورط فرعون الداهية الذكي في متابعة موسى عليه السلام فكان بسبب أنه ¬

(¬1) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، 5/ 16.

أمر مقدمة عسكره بالدخول، فدخلوا وما غرقوا، فغلب على ظنه السلامة، فلما دخل الكل أغرقهم الله تعالى. قال ابن عطية رحمه الله: «هذا استئناف إخبار عن موسى من أمر موسى وبينه وبين مقال السحرة المتقدم مدة من الزمان حدثت فيها لموسى وفرعون حوادث، وذلك أن فرعون لما انقضى أمر السحرة وغلب موسى وقوي أمره وعده فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل فأقام موسى على وعده حتى غدره فرعون ونكث وأعلمه أنه لا يرسلهم معه، فبعث الله حينئذ الآيات المذكورة في غير هذه الآيات الجراد والقمل إلى آخرها كلما جاءت آية وعد فرعون أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف القول فإذا انكشف نكث حتى تأتي أخرى، فلما كانت الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى أن يخرج بني إسرائيل من مصر في الليل هارباً، و «السرى» سير الليل، و {أَنْ} في قوله {أَنْ أَسْرِ} يجوز أن تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب، ويجوز أن تكون الناصبة للأفعال وتكون في موضع نصب ب {أَوْحَيْنَا} وقوله تعالى {بِعِبَادِي} إضافة تشريف لبني إسرائيل، وكل الخلق عباد الله. فأوحي إلى موسى أن يقصد {الْبَحْرِ} فخرج بنو إسرائيل فرأوا أن العذاب من ورائهم والبحر من أمامهم وموسى يثق بصنع الله تعالى فلما رآهم فرعون قد هبطوا نحو البحر طمع فيهم، وكان مقصدهم إلى موضع منقطع فيه الفحوص والطرق الواسعة، فضرب موسى عليه السلام البحر فانفلق اثنتي عشرة فرقة، طرقًا واسعة بينها حيطان ماء واقف فدخل موسى عليه السلام بعد أن بعث الله تعالى ريح الصبا، فجففت تلك الطرق حتى يبست، ودخلو بنو إسرائيل ووصل فرعون إلى المدخل وبنو إسرائيل كلهم في البحر فرأى الماء على تلك الحال فجزع قومه واستعظموا الأمر، فقال لهم إنما انفلق لي من هيبتي، وهاهنا كمل إضلاله لهم وحمله الله تعالى على الدخول، وتتابع الناس حتى تكاملوا في البحر فانطبق عليهم، فسمع بنو إسرائيل انطباق البحر وهم

قد خرجوا بأجمعهم من البحر فعجبوا وأخبرهم موسى أن فرعون وقومه قد هلكوا فيه، فطلبوا مصداق ذلك، فلفظ البحر الناس وألقى الله تعالى فرعون على فجوة من الأرض بدرعه المعروفة له» (¬1). ومن الآيات أيضًا التي تؤكد على ثقة نبي الله موسى في ربه، وإنجائه من فرعون وجنده ما جاء في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ *فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ} (¬2). والمراد أنه لما رأى كل من الفريقين صاحبه، قال بنو إسرائيل وقد أيقنوا بالهلاك: إن فرعون وجنوده لحقوا بنا وسيقتلوننا، أو إنا لمتابعون وسنموت على أيديهم. فطمأنهم موسى عليه السلام وهدأ نفوسهم قائلًا: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} قال موسى: كلا لا يدركوننا، إن معني ربي بالحفظ والنصرة سيهدين قال موسى: كلا لا يدركوننا، إن معي ربي بالحفظ والنصرة سيهديني إلى طريق النجاة والخلاص منهم، وسينصرني عليهم وأوحى الله إلى موسى: أن بضرب البحر بعصاه، فضربه بها، ففيها سلطان الله الذي أعطاه، ¬

(¬1) المحرر الوجيز، أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي، تحقيق: الرحالة الفاروق، عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، السيد عبد العال السيد إبراهيم، محمد الشافعي الصادق العناني 4/ 414، ط/ 2، مطبوعات وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، قطر، 1428 هـ - 2007 م. (¬2) سورة الشعراء، الآيات: 52 - 66.

2 - ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - بربه في غزوة بدر

فانفلق اثني عشر طريقاً، وصارت كل قطعة من الماء المجوز عن الانسياب الواقف عن التحرك كالجبل الشامخ الكبير، وكانت الطرق الجافة بالهواء والشمس بعدد أسباط بني إسرائيل، لكل سبط منهم طريق، وأنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم، فلم يهلك منهم أحد، وأغرق فرعون وجنوده، ولم يبق منهم أحد. «إن في هذه القصة وما فيها من العجائب لعبرة وعظمة وآية دالة على قدرة الله تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام، وعلى إنجاء عباد الله المؤمنين وإهلاك الكافرين. أي ولم يؤمن أكثر من بقي في مصر من القبط، وكذلك لم يؤمن أكثر بني إسرائيل، فإن هذه المعجزة تحمل على الإيمان، ومع ذلك كذَّب بنو إسرائيل، واتخذوا العجل إلهًا، وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. وفي هذا تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أغمه وأحزنه من تكذيب قومه، مع قيام الأدلة والمعجزات على الإيمان بالله والرسل. وإن الله تعالى لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه المؤمنين. وهذا بشارة بالنصر للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المستقبل القريب» (¬1). 2 - ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - بربه في غزوة بدر: وذلك حيث كان عدد المشركين أكثر من عدد المؤمنين، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان واثقًا في نصر الله له. «أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول: «اللَّهم أنجز لي ما وعدتني، اللَّهم إني أنشدك عهدك ووعدك»، حتى إذا حَمِىَ الوَطيس، واستدارت رحى الحرب بشدة واحتدم القتال، وبلغت المعركة قمتها، قال: «اللَّهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدًا». وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق، وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك. ¬

(¬1) التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، \. وهبة بن مصطفى الزحيلي، 19/ 161.

وأوحى الله إلى ملائكته: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (¬1). وأوحى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (¬2). أي إنهم ردف لكم، أو يردف بعضهم بعضًا أرسالًا، لا يأتون دفعة واحدة. وأغفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال: «أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النَّقْعُ» وفي رواية ابن إسحاق: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، وعلى ثناياه النَّقْعُ». ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من باب العريش وهو يثب في الدرع ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (¬3). ثم أخذ حفنةً من الحصباء، فاستقبل بها قريشًا وقال: «شاهت الوجوه» ورمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، وفي ذلك أنزل الله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬4). (¬5) إن حقيقة النصر في بدر كانت من الله تعالى قال سبحانه فقد بين سبحانه وتعالى أن النصر لا يكون إلا من عند الله تعالى في قوله: {وَمَا جَعَلَهُ ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 13. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 9. (¬3) سورة القمر، الآية: 45. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 17. (¬5) الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، ص 186.

اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (¬1). وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬2). «وفي هاتين الآيتين تأكيد على أن النصر لا يكون إلا من عند الله عزَّ وجلَّ، والمعنى: ليس النصر إلا من عند الله دون غيره، و «العزيز» أي: ذو العزة التي لا ترام، و (الحكيم) أي: الحكيم فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى. ويستفاد من هاتين الآيتين: تعليم المؤمنين الاعتماد على الله وحده، وتفويض أمورهم إليه مع التأكيد على أن النصر إنما هو من عند الله وحده، وليس من الملائكة أو غيرهم، فالأسباب يجب أن يأخذ بها المسلمون، لكن يجب أن لا يغتروا بها، وأن يكون اعتمادهم على خالق الأسباب حتى يمدهم الله بنصره وتوفيقه، ثم بين سبحانه مظاهر فضله على المؤمنين، وأن النصر الذي كان في بدر، وقتلهم المشركين، ورمي النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين بالتراب يوم بدر إنما كان في الحقيقة بتوفيق الله أولًا وبفضله ومعونته. وبهذه الآية الكريمة يربي القرآن المسلمين ويعلمهم الاعتماد عليه، قال تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬3). ولما بيَّن سبحانه وتعالى أن النصر كان من عنده، وضح بعض الحكم من ذلك النصر، قال تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 126. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 10. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 17.

3 - ثقة النبي في ربه في غزوة أحد

يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (¬1). وأمر سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتذكروا دائمًا تلك النعمة العظيمة؛ نعمة النصر في بدر، ولا ينسوا من أذهانهم كيف كانت حالتهم قبل النصر، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2). (¬3) 3 - ثقة النبي في ربه في غزوة أحد: ورغم هزيمة المسلمين في غزوة أحد إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان واثقًا في الله تعالى، ولم تكن الهزيمة أبدًا سببًا في زعزعة العقيدة، والتمسك بالإيمان الكامل بالله سبحانه وتعالى. ففي هذه الغزوة جاء تذكير المؤمنين بالسنن ودعوتهم للعلو الإيماني، وهذا لثقتهم في ربهم قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬4). إن المتأمل في هذه الآيات الكريمة يجد أن الله سبحانه وتعالى لم يترك المسلمين لوساوس الشيطان في محنة غزوة أحد، بل خاطبهم بهذه الآيات التي بعث بها الأمل في قلوبهم، وأرشدهم إلى ما يقويهم ويثبتهم، ويمسح بتوجيهاته دموعهم ويخفف عنهم آلامهم. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيتان: 127، 128. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 26. (¬3) السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، علي محمد محمد الصلابي 2/ 78، ط/ 7، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت: 1429 هـ - 2008 م. (¬4) سورة آل عمران، الآيات: 137 - 139.

قال القرطبي رحمه الله: «هو تسلية من الله تعالى للمؤمنين» (¬1). ففي الآيات السابقة دعوة للتأمل في مصير الأمم السابقة التي كذبت بدعوة الله تعالى، وكيف جرت فيهم سنته على حسب عادته، وهي الإهلاك والدمار بسبب كفرهم وظلمهم وفسوقهم على أمره. وجاء التعبير بلفظ كيف الدال على الاستفهام، المقصود به تصوير حالة هؤلاء المكذبين التي تدعو إلى التعجب، وتثير الاستغراب، وتغرس الاعتبار والاتعاظ في قلوب المؤمنين؛ لأن هؤلاء المكذبين مكن الله لهم في الأرض ومنحهم الكثير من نعمه، ولكنهم لم يشكروه عليها، فأهلكهم بسبب طغيانهم» (¬2). وقال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (¬3). بيَّن الله - سبحانه - لهم أن الجروح والقتلى يجب ألا تؤثر في جسدهم واجتهادهم في جهاد العدو؛ وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله من قبل ذلك، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى. وقال الزمخشري رحمه الله: «والمعنى: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم، ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال، ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش، 4/ 216. (¬2) مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي الشافعي، 9/ 14. (¬3) سورة آل عمران، الآيات: 140 - 143.

فأنتم أولى أن لا تضعفوا. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنه كان يوم أحد بيوم بدر، قتل المؤمنون يوم أحد، اتخذ الله منهم شهداء، وغلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر المشركين فجعل الدولة عليهم وقد ذكر الله تعالى أربع حكم لما حدث للمؤمنين في غزوة أحد وهي: تحقق علم الله تعالى وإظهاره للمؤمنين، وإكرام بعضهم بالشهادة التي توصل صاحبها إلى أعلى الدرجات، وتطهير المؤمنين وتخليصهم من ذنوبهم ومن المنافقين، ومحق الكافرين واستئصالهم رويدًا رويدًا» (¬1). ونلحظ من خلال أحداث غزوة أحد: أن المسلمين انتصروا في أول الأمر حينما امتثلوا لأوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وانقادوا لتعليمات قائدهم وأميرهم عبد الله بن جبير - رضي الله عنه - بينما انهزموا حينما خالفوا أمره - صلى الله عليه وسلم - ونزل الرماة من الجبل لجمع الغنائم مع بقية الصحابة رضي الله عنهم قال تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2). إن من أبرز ما يدل على ثقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالله في هذه الغزوة هو ثناؤه على الله تعالى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يثني على ربه عزَّ وجلَّ ويدعوه. فعن عبيد بن رفاعة الزرقي - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استووا حتى أثني على ربي عزَّ وجلَّ»، فصاروا خلفه صفوفًا، فقال: «اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما ¬

(¬1) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، 1/ 465. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 153.

قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك». «اللهم إني أسألك النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق» (¬1). قال ابن حجر رحمه الله: «قال العلماء: وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة، منها تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية، وشؤم ارتكاب النهي؛ لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألا يبرحوا منه. ومنها أن عادة الرسل أن تبتلي وتكون لها العاقبة، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائمًا دخل في المؤمنين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيًا عن المسلمين، فلما جرت هذه القصة، وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح تصريحًا، وعرف المسلمون أن لهم عدوًا في دورهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم. ومنها أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضمًا للنفس. وكسرًا لشماختها، فلما ابتلي المؤمنون صبروا، وجزع المنافقون. ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده رقم 15531، وقال شعيب الأرنؤوط: رجاله ثقات وأخرجه الحاكم 1/ 506 - 507، وقال: صحيح على شرطهما وتعقبه الذهبي بقوله: الشيخان لم يخرجا لعبيد وهو ثقة (4/ 424).

4 - ثقة النبي بالله تعالى في غزوة الأحزاب

فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها. ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقهم إليهم. ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه، فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين، ومحق بذلك الكافرين» (¬1). 4 - ثقة النبي بالله تعالى في غزوة الأحزاب: ومن الثقة في نصر الله تعالى ما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الأحزاب، وقد التفت عليه جموع الشرك والمشركين، وصناديد الكفر والمنافقين ومع ذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - واثقًا من نصر الله تعالى له. فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق قال وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاول قال فشكوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عوف وأحسبه قال وضع ثوبه ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المعول فقال: بسم الله فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر وقال الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله أني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا ثم قال بسم الله وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله أني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا ثم قال بسم الله وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله أني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا» (¬2). ولقد كان المسلمون يدعون الله تعالى: «اللَّهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا»، ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأحزاب، فقال: «اللَّهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم». ¬

(¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن حجر العسقلاني، 7/ 347. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده رقم 18716، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لضعف ميمون أبي عبد الله (4/ 303).

وقد سمع الله دعاء رسوله والمسلمين، فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين وسري بينهم التخاذل أرسل الله عليهم جندًا من الريح فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قدرًا إلا كفأتها، ولا طُنُباً إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وأرسل جندًا من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف. وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة الباردة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحالة، وقد تهيأوا للرحيل، فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رد الله عدوه بغيظهم لم ينالوا خيرًا وكفاه الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فرجع إلى المدينة» (¬1). ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يبشر أصحابه بالنصر والظفر ويعدهم الخير. أما المنافقون فقد أظهروا في هذه الشدة ما تكنه ضمائرهم حتى قالوا: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (¬2). وانسحبوا قائلين: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَاذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} (¬3). (¬4). إنه يتضح في تلك الغزوة شدة تضرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونزول النصر: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير التضرع والدعاء والاستعانة بالله، وخصوصاً في مغازيه، وعندما اشتد الكرب على المسلمين أكثر مما سبق حتى بلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالًا شديدًا، فما كان من المسلمين ¬

(¬1) الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، ص 278. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 12. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 13. (¬4) نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، محمد بن عفيفي الخضري، تحقيق: هيثم هلال ص 150، ط/ 1، دار المعرفة بيروت: 1425 هـ - 2004 م.

إلا أن توجهوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: يا رسول الله هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر، فقال: نعم. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا». وجاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأحزاب فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم» (¬1). فاستجاب الله سبحانه دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فأقبلت بشائر الفرج فقد صرفهم الله بحوله وقوته، وزلزل أبدانهم وقلوبهم، وشتت جمعهم بالخلاف، ثم أرسل عليهم الريح الباردة الشديدة، وألقى الرعب في قلوبهم، وأنزل جنودًا من عنده سبحانه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (¬2). قال القرطبي رحمه الله: «وكانت هذه الريح معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين كانوا قريبًا منهم، ولم يكن بينهم إلا عرض الخندق، وكانوا في عافية منها ولا خبر عندهم بها ... وبعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت أطناب الفساطيط (¬3). وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيول بعضها في بعض، وأرسل عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب المعسكر حتى كان سيد كل خباء يقول: يا بني فلان هلم إليَّ فإذا اجتمعوا قال لهم: النجاء النجاء، لما بعث الله عليهم الرعب» (¬4). وحرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يؤكد لصحبه ثم للمسلمين في الأرض، أن هذه ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، رقم 2775، وأخرجه مسلم في الجهاد والسير باب كراهة تمني لقاء العدو وباب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو رقم 1724. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 9. (¬3) الفساطيط: جمع فسطاط نوع من الأبنية في السفر وهو دون السرادق. (¬4) الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش.

الأحزاب التي تجاوزت عشرة آلاف مقاتل لم تهزم بالقتال من المسلمين، رغم تضحياتهم، ولم تهزم بعبقرية المواجهة، إنما هزمت بالله وحده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده» (¬2). «ودعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه، واعتماده عليه وحده، لا يتناقض أبدًا مع التماس الأسباب البشرية للنصر، فقد تعامل - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزوة مع سنة الأخذ بالأسباب، فبذل جهده لتفريق الأحزاب، وفك الحصار، وغير ذلك من الأمور. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا سنة الأخذ بالأسباب، وضرورة الالتجاء إلى الله وإخلاص العبودية له؛ لأنه لا تجدي وسائل القوة كلها إذا لم تتوافر وسيلة التضرع إلى الله والإكثار من الإقبال عليه بالدعاء والاستغاثة، فقد كان الدعاء والتضرع إلى الله من الأعمال المتكررة الدائمة التي فزع إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته كلها» (¬3). وما من شك أن النماذج كثيرة ومتعددة في الثقة في نصر الله، ولكن يكفي للتدليل ما ذكرنا. ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 9. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق، رقم 4114. (¬3) فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، ص 222، ط/ دار الفكر المعاصر، بيروت: 1994 م.

المبحث السادس ثقة المسلم بالله تعالى في إنفاذ وعده سبحانه

المبحث السادس ثقة المسلم بالله تعالى في إنفاذ وعده سبحانه ومن ثقة المسلم بالله تعالى أنه يثق أن بالله عزَّ وجلَّ في إنفاذ وعده الذي وعده لعباده، وفي ضوء هذا الوعد يتحرك المسلم في الحياة. 1 - الثقة في أن وعد الله سبحانه لا يتخلف: أشار القرآن الكريم في كثير من الآيات إلى أن الله عزَّ وجلَّ لا يخلف الميعاد، ومن ذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (¬1). قال ابن كثير رحمه الله: «وقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أي: يقولون في دعائهم: إنك - يا ربنا - ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلاً بعمله، وما كان عليه في الدنيا من خير وشر» (¬2). وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَاتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (¬3). قال د. وهبة الزحيلي: «وقوله: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...} أي: لا تزال القوارع والبلايا من القتل والأسر، والسلب تصيب الكافرين في الدنيا بسبب تكذيبهم لك وتماديهم في الكفر، أو تصيب من حولهم ليتعظوا ويعتبروا، ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 9. (¬2) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 2/ 15. (¬3) سورة الرعد، الآية: 31.

2 - الثقة في وعد الله بنصر رسله

كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬1). حتَّى يأتي وعد الله حتى ينجز الله وعده لك فيهم، بنصرك عليهم، وهو فتح مكة كما قال ابن عباس وآخرون، أو حتى ينتهي هذا العالم بالنسبة لكفار آخرين. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} إن الله ينجز وعده الذي وعدك به، من النصر عليهم، ولا ينقض وعده لرسله بالنصر لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة» (¬2). 2 - الثقة في وعد الله بنصر رسله: دلت النصوص الشرعية على أن وعد الله لا يتخلف في نصر رسله، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (¬3). قال الطبري رحمه الله: «يقول تعالى ذكره: ولقد سبق منا القول لرسلنا إنهم لهم المنصورون: أي مضى بهذا منا القضاء والحكم في أمّ الكتاب، وهو أنهم لهم النُّصرة والغلبة بالحجج. وقوله: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} يقول: وإن حزبنا وأهل ولايتنا لهم الغالبون، يقول: لهم الظفر على أهل الكفر بنا، والخلاف علينا» (¬4). والمراد من الآيات أنه لقد سبق وعدنا بالنصر والظفر على الكفار في الدنيا والآخرة لعبادنا الرسل الذين أرسلناهم للإنذار والتبشير، ففي الدنيا: تكون الغلبة والقهر لهم بالأسر والقتل والتشريد أو الإجلاء أو بالحجة ¬

(¬1) سورة الأحقاف، الآية: 27. (¬2) التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، د. وهبة بن مصطفى الزحيلي، 13/ 173. (¬3) سورة الصافات، الآيات: 171 - 173. (¬4) جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، 21/ 130.

والبرهان، ونحو ذلك، وفي الآخرة: الظفر بالجنة، والنجاة من النار، وهذا في الأعم الأغلب. وجند الله: حزبه، وهم الرسل وأتباعهم. وشرط النصر معروف، وهو الإيمان الصحيح بالله عزَّ وجلَّ، والعمل بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والتزام دين الله شرعاً ودستوراً ونظاماً ومنهج حياة. وقال الشيخ السعدي رحمه الله: لقد سبقت كلمة الله التي لا مرد لها ولا مخالف لها لعباده المرسلين وجنده المفلحين، أنهم الغالبون لغيرهم، المنصورون من ربهم، نصراً عزيزاً، يتمكنون فيه من إقامة دينهم، وهذه بشارة عظيمة لمن اتصف بأنه من جند الله، بأن كانت أحواله مستقيمة، وقاتل من أمر بقتالهم، أنه غالب منصور» (¬1). وقال تعالى: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (¬2). قال ابن كثير رحمه الله: «يقول تعالى مقررًا لوعده ومؤكدًا: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} أي: من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ثم أخبر أنه ذو عزة لا يمتنع عليه شيء أراده، ولا يغالب، وذو انتقام ممن كفر به وجحده» (¬3). وقال ابن عطية رحمه الله: «والمعنى: لا تحسب يا محمد - أنت ومن اعتبر بالأمر من أمتك وغيرهم - أن الله لا ينجز ميعاده في نصره رسله، وإظهارهم، ومعاقبة من كفر بهم، في الدنيا أو في الآخرة، فإن الله عزيز لا يمتنع منه شيء، ذو انتقام من الكفرة لا سبيل إلى عفوه عنهم» (¬4). ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي|، تحقق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ص 708. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 47. (¬3) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 4/ 518. (¬4) المحرر الوجيز، أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي، تحقيق: الرحالة الفاروق، عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، السيد عبد العال السيد إبراهيم، محمد الشافعي الصادق العناني 4/ 114.

3 - الثقة في وعد الله للمؤمنين بدخول الجنة

وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (¬1). وقال سبحانه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬2). وقال تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬3). وعد الله لا يخلف لأن كلامه حق وصدق، ولكن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون وعده، ولا أنه لا خلف في وعده. إلى غير ذلك من الآيات التي تقرر نصر الله لرسله ووعده بذلك، وثقة الأنبياء في نصر الله لهم. 3 - الثقة في وعد الله للمؤمنين بدخول الجنة: والآيات في هذا المعنى كثيرة منها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} (¬4). قال الشيخ السعدي رحمه الله: «ولما بين مآل الأشقياء أولياء الشيطان ذكر مآل السعداء أوليائه فقال: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 51. (¬2) سورة المجادلة، الآية: 31. (¬3) سمرة الروم، الآيات: 4 - 6. (¬4) سورة النساء، الآية: 122.

قِيلًا} أي: {آَمَنُوا} بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره على الوجه الذي أمروا به علماً وتصديقاً وإقراراً. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الناشئة عن الإيمان؟ وهذا يشمل سائر المأمورات من واجب ومستحب، الذي على القلب، والذي على اللسان، والذي على بقية الجوارح. كل له من الثواب المرتب على ذلك بحسب حاله ومقامه، وتكميله للإيمان والعمل الصالح. ويفوته ما رتب على ذلك بحسب ما أخل به من الإيمان والعمل، وذلك بحسب ما علم من حكمة الله ورحمته، وكذلك وعده الصادق الذي يعرف من تتبع كتاب الله وسنة رسوله. ولهذا ذكر الثواب المرتب على ذلك بقوله: {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من أنواع المآكل والمشارب اللذيذة، والمناظر العجيبة، والأزواج الحسنة، والقصور، والغرف المزخرفة، والأشجار المتدلية، والفواكه المستغربة، والأصوات الشجية، والنعم السابغة، وتزاور الإخوان، وتذكرهم ما كان منهم في رياض الجنان، وأعلى من ذلك كله وأجل رضوان الله عليهم وتمتع الأرواح بقربه، والعيون برؤيته، والأسماع بخطابه الذي ينسيهم كل نعيم وسرور، ولولا الثبات من الله لهم لطاروا وماتوا من الفرح والحبور، فلله ما أحلى ذلك النعيم وما أعلى ما أنالهم الرب الكريم، وماذا حصل لهم من كل خير وبهجة لا يصفه الواصفون، وتمام ذلك وكماله الخلود الدائم في تلك المنازل العاليات، ولهذا قال: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}. فصدق الله العظيم الذي بلغ قوله وحديثه في الصدق أعلى ما يكون، ولهذا لما كان كلامه صدقاً وخبره حقاً، كان ما يدل عليه مطابقةً وتضمناً وملازمة كل ذلك مراد من كلامه، وكذلك كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -

لكونه لا يخبر إلا بأمره ولا ينطلق إلا عن وحيه» (¬1). وقال تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} (¬2). وقال سبحانه: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (¬3). وقال جل شأنه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬4). وقال سبحانه: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} (¬5). وأخبر عن حال أهل الإيمان أنهم يقولون: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} (¬6). ووعد سبحانه أهل الإيمان بالاستخلاف في الأرض قال جل شأنه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬7). ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ص 204. (¬2) سورة الزمر، الآية: 20. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 44. (¬4) سورة التوبة، الآية: 73. (¬5) سورة الرعد، الآية: 35. (¬6) سورة الإسراء، الآية: 108. (¬7) سورة النور، الآية: 55.

قال جل شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1). وأخبر عن وعده بأنه وعد الصدق فقال جل شأنه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (¬2). والآيات في هذا المعنى كثيرة، وأهل الإيمان عملوا بهذه الآيات، وعلموا أن وعد الله حق فوثقوا في ذلك، وكانت دافعًا لهم لقوة الإيمان وزيادته، والحرص على الجهاد والقتال في سبيل الله تعالى. ولا أدل على ذلك من موقف عمير بن الحمام - رضي الله عنه - فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسيسة عيناً ينظر ما صنعت عير أبي سفيان فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «قال لا أدري ما استثنى بعض نسائه» قال فحدثه الحديث قال فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتكلم فقال «إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضرًا فليركب معنا» فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة فقال «لا إلا من كان ظهره حاضراً» فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر وجاء المشركون فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه» فدنا المشركون فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» قال: يقول: عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال «نعم» قال بخ بخ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما يحملك على قولك بخ بخ» قال لا والله يا رسول الله إلى رجاء أن أكون من أهلها قال «فإنك من أهلها» فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة قال فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتل ¬

(¬1) سورة لقمان، الآيتان: 8، 9. (¬2) سورة الأحقاف، الآية: 16.

4 - الثقة في وعد الله لعباده الصالحين

حتى قتل» (¬1). وعن ثابت قال قال أنس - رضي الله عنه - «عمي الذي سميت به لم يشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدراً قال فشق عليه قال أول مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيبت عنه وإن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليراني الله ما أصنع قال فهاب أن يقول غيرها قال فشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد قال فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس يا أبا عمرو أين؟ فقال واهاً لريح الجنة أجدوه دون أحد قال فقاتلهم حتى قتل قال فوُجِد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية قال فقالت أخته عمتي الربيع بنت النضر فما عرفت أخي إلا ببنانه ونزلت هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (¬2). قال فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه» (¬3). 4 - الثقة في وعد الله لعباده الصالحين: ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما وعد الله به أم موسى من رد ابنها إليها، ومنحه النبوة والرسالة، وفي ذلك قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (¬4). وقد علق ابن القيم رحمه الله على فعل أم موسى وتنفيذها لأمر الله سبحانه فقال: «فإن فعلها هذا هو عين ثقتها بالله تعالى إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه وجريانه إلى حيث ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد، رقم 1901. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 23. (¬3) أخرجه مسلم، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد، رقم 1903. (¬4) سورة القصص، الآية: 7.

ينتهي أو يقف» (¬1). قال ابن كثير رحمه الله: «ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل، خافت القبط أن يُفني بني إسرائيل فَيَلُون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة. فقالوا لفرعون: إنه يوشك - إن استمر هذا الحال - أن يموت شيوخهم، وغلمانهم لا يعيشون، ونساؤهم لا يمكن أن يقمن بما يقوم به رجالهم من الأعمال، فيخلص إلينا ذلك. فأمر بقتل الوالدان عامًا وتركهم عامًا، فولد هارون، عليه السلام، في السنة التي يتركون فيها الولدان، وولد موسى، عليه السلام، في السنة التي يقتلون فيها الولدان، وكان لفرعون أناس موكلون بذلك، وقوابل يَدُرْنَ على النساء، فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها، فإذا كان وقت ولادتها لا يَقبَلُها إلا نساء القبط، فإذا ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن، وإن ولدت غلامًا دخل أولئك الذبَّاحون، بأيديهم الشفار المرهفة، فقتلوه ومضوا قبَّحهم الله. فلما حملت أم موسى به عليه السلام، لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها، ولم تفطن لها الدايات، ولكن لما وضعته ذكرًا ضاقت به ذرعًا، وخافت عليه خوفًا شديدًا وأحبته حبًا زائدًا، وكان موسى، عليه السلام، لا يراه أحد إلا أحبه، فالسعيد من أحبه طبعاً وشرعاً فلما ضاقت ذرعاً به ألهمت في سرها، وألقي في خلدها، ونفث في روعها، كما قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل، فاتخذت تابوتًا، ومهدت فيه مهدًا، وجعلت ترضع ولدها، فإذا دخل عليها أحد ممَّن تخاف جعلته في ذلك التابوت، وسيرته في البحر، وربطته بحبل عندها. فلما كان ذات يوم دخل عليها من تخافه، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت، وأرسلته في البحر وذهلت عن أن تربطه، فذهب مع ¬

(¬1) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، 2/ 143.

الماء واحتمله، حتى مر به على دار فرعون، فالتقطه الجواري فاحتملنه، فذهبن به إلى امرأة فرعون، ولا يدرين ما فيه، وخشين أن يفتتن عليها في فتحة دونها. فلما كشفت عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه، فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه، وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها» (¬1). قال الشيخ السعدي رحمه الله: «فهذه الأمور كلها، قد تعلقت بها إرادة الله، وجرت بها مشيئته، وإذا أراد أمراً سهل أسبابه، ونهج طرقه، وهذا الأمر كذلك، فإنه قدر وأجرى من الأسباب - التي لم يشعر بها لا أولياؤه ولا أعداؤه - ما هو سبب موصل إلى هذا المقصود. فأول ذلك، لما أوجد الله رسوله موسى عليه السلام الذي جعل استنقاذ هذا الشعب الإسرائيلي على يديه وبسببه، وكان في وقت تلك المخافة العظيمة، التي يذبحون بها الأبناء، أوحى إلى أمه أن ترضعه، ويمكث عندها. {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} بأن أحسست أحداً تخافين عليه منه أن يوصله إليهم، {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} أي نيل مصر، في وسط تابوت مغلق، {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فبشرها بأنه سيرده عليها، وأنه سيكبر ويسلم من كيدهم، ويجعله الله رسولاً وهذا من أعظم البشائر الجليلة، وتقديم هذه البشارة لأم موسى، ليطمئن قلبها، ويسكن روعها، فإنها خافت عليه، وفعلت ما أمرت به، ألقته في اليم، فساقه الله تعالى» (¬2). ومن النماذج أيضًا التي تدل على الثقة بما وعد الله به عباده الصالحين ما كان من هاجر عليها السلام فعن سعيد بن جبير رحمه الله قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «أوَّل ما اتَّخذ النساء المنطق من قبل أمّ إسماعيل اتَّخذت منطقًا لتعفي أثرها على سارة ثمَّ جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه فوضعهما ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، 6/ 221. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ص 612.

«حتى وضعهما» عند البيت عند دوحة فوق زمزم «الزَّمزم» في أعلى المسجد وليس بمكَّة يومئذٍ أحد وليس بها ماءٌ فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابًا فيه تمرٌ وسقاءً فيه ماء ثمَّ قفى إبراهيم منطلقًا فتبعته أمُّ إسماعيل فقالت يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا «في هذا» الوادي الذي ليس فيه إنسٌ «أنيسٌ» ولا شيء فقالت له ذلك مرارًا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له آلله الذي أمرك بهذا قال: نعم قالت إذن لا يضيّعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات «الدعوات» ورفع يديه فقال ربِّ {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} حتى بلغ {يَشْكُرُونَ} وجعلت أمُّ إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السِّقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوَّى أو قال يتلبَّط «يتلمَّظ» فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرق درعها ثمَّ سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثمَّ أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا ففعلت ذلك سبع مرَّات قال ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «فذلك سعي النَّاس «فلذلك سعي النَّاس» بينهما فلمَّا أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت صهٍ تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضًا فقالت قد أسمعت إن كان عندك غواثٌ «غواثٌ» فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوِّضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف قال ابن عبَّاس قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يرحم الله أمُّ إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا معينًا قال فشربت وأرضعت ولدها ...» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب: الأنبياء، باب: {يُزَفُّونَ} الصافات 94، النسلان في المشي، رقم 3184.

ففي هذه القصة العظيمة يظهر لنا كيف أن الله - تبارك وتعالى - حفظ هاجر عليها السلام وولدها إسماعيل، وأكرمها بكرامات عدة، منها: أولًا: أن الله لم يضيعها، بل حفظها وولدها، وأكرمها بنبع ماء زمزم، فقد كانت السبب في خروجه، فقد أرسل الله ملكاً ليضرب برجله في الأرض، فخرج ماء زمزم، قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً». ثانيًا: أن الله - تبارك وتعالى - جعل تعبها وسعيها في طلب الماء، وبحثها عنه؛ ركناً من أركان الحج التي لا يتم إلا بها، قال - صلى الله عليه وسلم -: «فذلك سعي الناس بينهما»، كل هذه الكرامات - وغيرها - بسبب إيمانها بربها، ووثوقها به، وقوة اعتمادها عليه، وصدق توكلها عليه. ومن خلال ما سبق يظهر لنا الثقة بالله تعالى في إنفاذ وعده.

الخاتمة

الخاتمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير النبيين وسيد المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى من اتبعه واقتفى أثره إلى يوم الدين وبعد: فقد ظهر من خلال البحث أهمية الثقة بالله تعالى في حياة المسلم، وكيف أنها تمثل ركناً مهماً في حياته، وتعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة. واستبانت أيضًا ثقة المسلم بالله تعالى في استجابة الدعاء، وكيف أن الله عزَّ وجلَّ وعد باستجابة دعاء من يدعوه، وتم عرض نماذج لإجابة الله عزَّ وجلَّ دعاء من دعاه. وكذلك تم توضيح ثقة المسلم بالله تعالى في تفريج الكربات، وأنه جلا وعلا المقصود وحده في الحوائج، ويكشف الكرب عن المكروبين، ويلبي حاجة المضطرين، وكذلك ثقة المسلم بالله تعالى في التكفل بالرزق، فلا يرتجي المسلم من أحد نفعًا ولا ضرًا، وإنما تعلقه بالله تعالى، وعلى العبد أن يأخذ بالأسباب، ويحسن التوكل على الله. وظهر من خلال البحث ثقة المسلم بالله تعالى في الدعوة إلى الله، وكيف أن ذلك من أهم صفات الداعية التي ينبغي أن يتحلى بها، مما يولد عنده الشجاعة والجرأة في الحق، والاجتهاد في نشر الدعوة، وتبليغ رسالة الإسلام. وكذلك ثقة المسلم بالله تعالى في النصر على الأعداء، وكيف أيد الله تعالى أنبياءه ومن وثق فيه بالنصر المبين. وأخيرًا كانت ثقة المسلم بالله تعالى في إنفاذ وعده سبحانه الذي لا يتخلف ولا يتبدل. وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع 1 - إحياء علوم الدين، الإمام أبو حامد الغزالي، ط/ 1، دار الفكر، بيروت: 1424 هـ. 2 - أصول الدعوة، د. عبد الكريم زيدان، ط/ 2، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1420 هـ - 2000 م. 3 - إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي ابن القيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، ط/ 2، دار المعرفة، بيروت: 1395 هـ - 1975 م. 4 - أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، أبو بكر جابر الجزائري، ط/ 3، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة: 1418 هـ - 1997 م. 5 - بدائع الفوائد، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن قيم الجوزية، تحقيق: هشام عبد العزيز عطا، عادل عبد الحميد العدوي، أشرف أحمد، ط/ 1، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة: 1416 هـ - 1996 م. 6 - بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية، أبو سعيد محمد بن محمد الخادمي، ط/ 1، مطبعة الحلبي، القاهرة: 1318 هـ. 7 - التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور، محمد الطاهر بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي، ط/ 1، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت: 1420 هـ - 2000 م. 8 - تفسير القرآن الحكيم، الشيخ محمد رشيد رضا، ط/ الهيئة المصرية العامة للكتاب: 1990 م. 9 - تفسير القرآن العظيم، الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، ط/ 2، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض: 1420 هـ - 1999 م.

10 - تفسير الماوردي المسمى (النكت والعيون)، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، تحقيق: السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم، ط/ دار الكتب العلمية، بيروت. 11 - التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، د. وهبة بن مصطفى الزحيلي، ط/ 2، دار الفكر المعاصر، دمشق: 1418 هـ. 12 - التلخيص المعين على شرج الأربعين، الشيخ محمد بن صالح العثيمين، إعداد: سلطان بن سراي الشمري، ط/ دار الثريا للنشر. 13 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، ط/ 1، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1420 هـ - 2000 م. 14 - جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، ط/ 1، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1420 هـ - 3000 م. 15 - جامع العلوم والحكم، أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، ط/ 1، دار المعرفة، بيروت: 1408 هـ. 16 - الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش، ط/ دار الكتب المصرية، القاهرة: 1384 هـ - 1964 م. 17 - جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد - صلى الله عليه وسلم -. خير الأنام، ابن قيم الجوزية، ط/ دار الكتب العلمية، بيروت. 18 - الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، أبو عبد الله معمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ط/ دار المعرفة، بيروت: 1418/ 1997 م. 19 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ط/ 4، دار الكتاب العربي، بيروت: 1405 هـ.

20 - خلق المسلم، الشيخ محمد الغزالي، ط/ 2، دار الكتب الإسلامية، القاهرة: 1985 م. 21 - دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، محمد علي بن محمد بن علان بن إبراهيم البكري الصديقي الشافعي، تحقيق: خليل مأمون شيحا، ط/ 4، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت: 1425 هـ - 2004 م. 22 - الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، ط/ 17، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة: 1426 هـ - 2005 م. 23 - رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه، ابن قيم الجوزية، تحقيق: عبد الله بن محمد المديفر، ط/ 1، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض: 1420 هـ. 24 - زاد المعاد في هدي خير العباد، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، ط/ 27، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1415 هـ - 1994 م. 25 - سلاح المؤمن في الدعاء والذكر، محمد بن محمد بن علي بن همام بن راجي الله بن سرايا بن داود، تحقيق: محيي الدين ديب مستو، ط/ دار ابن كثير، دمشق: 1414 هـ - 1993 م. 26 - سنن ابن ماجة، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، حواشيه: محمود خليل، ط/ مكتبة أبي المعاطي. 27 - سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، ط/ دار الكتاب العربي، بيروت. 28 - سنن الترمذي، محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرين، ط/ دار إحياء التراث العربي، بيروت. 29 - السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، د. علي محمد الصلابي، ط/ 7، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت: 1429 هـ - 2008 م.

30 - شرج رياض الصالحين، الشيخ محمد بن صالح العثيمين، ط/ 1، دار السلام، القاهرة: 2002 م. 31 - شرج صحيح البخاري، أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال البكري القرطبي، تحقيق: أبي تميم ياسر بن إبراهيم، ط/ 2، مكتبة الرشد، الرياض: 1423 هـ - 2003 م. 32 - شرح صحيح الإمام مسلم، النووي، ط/ دار الحديث، القاهرة: 2004 م. 33 - شروط الدعاء وموانع الإجابة في ضوء الكتاب والسنة، سعيد بن علي بن وهف القحطاني، ط/ مؤسسة الجريسني، الرياض. 34 - شعب الإيمان، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخسروجردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، حققه وخرج أحاديثه: د. عبد العلي عبد الحميد حامد، ط/ 1، مكتبة الرشد بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند: 1423 هـ - 2003 م. 35 - صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن معبد، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البستي، ترتيب: علي بن بلبان بن عبد الله، علاء الدين الفارسي، المنعوت بالأمير، ط/ مؤسسة الرسالة، بيروت. 36 - صحيح سنن أبي داود، محمد ناصر الدين الألباني، ط/ 1، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الكويت: 1423 هـ - 2002 م. 37 - صحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، ط/ 1، دار الشعب، القاهرة: 1407 هـ - 1987 م. 38 - صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابووي، تحقيق وتعليق: محمد فؤاد عبد الباقي، ط/ دار إحياء التراث العربي، بيروت.

39 - صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط/ المكتب الإسلامي، بيروت. 40 - صفات الداعية، عبد الله ناصح علوان، ط/ 1، دار السلام، القاهرة: 1995 م. 41 - صفات الداعية، أ. د. حمد بن ناصر العمار، ط/ 3، دار اشبيليا، الرياض: 1424 هـ - 2003 م. 42 - عقيدة المسلم، الشيخ، محمد الغزالي، ط/ 1، دار نهضة مصر. 43 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدو الدين العيني الحنفي، ط/ 2، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة: 2984 م. 44 - فتح الباري شرج صحيح البخاري، أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ط/ 1، دار المعرفة، بيروت: 1379 هـ. 45 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ط/ 2، دار الحديث، القاهرة: 1424 هـ - 2004 م. 46 - فضل الدعوة إلى الله تعالى، أ. د. فضل إلهي، ط/ 1، مؤسسة الجريسي، الرياض: 1420 هـ - 1999 م. 47 - فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، ط/ دار الفكر المعاصر، بيروت: 1994 م. 48 - الفوائد، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي بن قيم الجوزية، ط/ 2، دار الكتب العلمية، بيروت: 1393 هـ - 1973 م. 49 - فيض القدير شرح الجامع الصغير، زين الدين محمد عبد الرؤوف بن علي المناوي، ط/ 1، دار الكتب العلمية، بيروت: 1415 هـ - 1994 م. 50 - الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، ط/ دار الكتاب العربي، بيروت: 1407 هـ.

51 - كشف المشكل من حديث الصحيحين، أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي، تحقيق: علي حسين البواب ط/ دار الوطن، الرياض: 1418 هـ - 1997 م. 52 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، تحقيق: أنور الباز، عامر الجزار، ط/ 3، دار الوفاء: 1426 هـ - 2005 م. 53 - مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز، جمع وإشراف: د. محمد بن سعد الشويعر، ط/ 1، دار القاسم للنشر، الرياض. 54 - محاسن التأويل، محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم القاسمي، تحقيق: محمد باسل عيون السود، ط/ 1، دار الكتب العلمية، بيروت: 1418 هـ. 55 - المحرر الوجيز، أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي، تحقيق: الرحالة الفاروق، عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، السيد عبد العال السيد إبراهيم، محمد الشافعي الصادق العناني، ط/ 2، مطبوعات وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، قطر: 1428 هـ - 2007 م. 56 - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبى بكر بن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، ط/ 2، دار الكتاب العربي، بيروت: 1393 هـ - 1973 م. 57 - مدارك التنزيل وحقائق التأويل، أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، ط/ 1، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة. 58 - مرقاة المفاتيح شرج مشكاة المصابيح، علي بن سلطان محمد القاري، تحقيق جمال عيتاني، ط/ دار الكتب العلمية، بيروت: 1422 هـ - 2001 م.

59 - مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيبًاني، تحقيق وتعليق: شعيب الأرنؤوط، ط/ مؤسسة قرطبة، القاهرة. 60 - مع الله: دراسات في الدعوة والدعاة، الشيخ محمد الغزالي، ط/ 1، دار الدعوة، القاهرة: 1983 م. 61 - معجم ابن الأعرابي، أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي، ط/ دار السلام، القاهرة: 1998 م. 62 - مفاتيح الغيب، الإمام محمد بن عمر المعروف بفخر الدين الرازي، ط/ دار إحياء التراث العربي، بيروت. 63 - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، ط/ دار الكتب العلمية، بيروت: 2000 م. 64 - موسوعة فقه القلوب، محمد بن إبراهيم بن عبد الله التويجري، ط/ 1، بيت الأفكار الدولية، الأردن: 2006 م. 65 - نوادر الأصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، محمد بن علي بن الحسن بن بشر، أبو عبد الله، الحكيم الترمذي، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، ط/ دار الجيل، بيروت: 1992 م. 66 - نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، محمد بن عفيفي الخضري، تحقيق: هيثم هلال، ط/ 1، دار المعرفة بيروت: 1425 هـ - 2004 م. 67 - هداية المرشدين إلى طرق الوعظ والخطابة، الشيخ علي محفوظ، ط/ دار الاعتصام.

§1/1