تيسير علم أصول الفقه

عبد الله الجديع

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم إنَّ الحمد لله؛ نحمدُه ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذبالله من شرورِ أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فإنَّ شرف العلمِ لا يخفى، وهو درجاتٌ ومنازلُ تعرفُ بما تتَّصلُ به، فسمُوُّها من سُمُوِّه، وقدْرها من قدْرهِ، فلذا كان أعلاها علومَ الدِّين التي تُدركُ بها معانيه وأسرارُه، وإنما شرُفتْ وعظُم قدْرُها لصِلتها بالله ربِّ العالمين، فهي العلومُ الموصلَةُ في الحقيقةِ إليهِ، وهذا معنى أكبرُ من علُوم الشَّريعةِ المقنَّنةِ بالاصطلاحِ، بل هو شاملٌ لما يُحقِّق من العلومِ أسبابَ الوُصولِ إلى الله عزَّوجلَّ، فيندرجُ تحتهُ كلُّ علمٍ أدَّى إلى هذه الحقيقةِ وإن أُلصِقَ بالدُّنيا في عرفِ النَّاسِ، لكن من العلمِ ما يصيرُ إلى هذه الحقيقةِ بالمقاصِدِ والنِّيَّات، ومنه ما هو من هذه الحقيقةِ بأصلهِ، كالعومِ التي يُدركُ بها مرادُالله ورسولهِ - صلى الله عليه وسلم -، فهذه علومٌ باقيةٌ كطريقٍ موصلٍ إلى الله وإن فسدتْ في طلبها النِّيَّاتُ

والمقاصدُ، على أنه ما من إنسانٍ يسعى لتحصيلهَا فيجدُ لذَّتَها عندَ الطَّلبِ إلاَّ وجرَّتْهُ بنفسهَا إلى الإخلاصِ، كما قال مجاهدٌ رحمه الله: طلبْنا هذا العلمَ، وما لنا فيه كبيرُ نيَّةٍ، ثمَّ رزقَ الله بعدُ فيهِ النيَّةَ [أخرجه الدَّارمي بسندٍ حسنٍٍ] . وأعظمُ العُلوم الَّتِي يُدْرِكُ بها مُرادُالله تعالى ورسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -[علمُ أُصولِ الفقهِ] ، فإنَّ الله تعالى أمرَبتدبُّرِ خِطابِهِ فقالَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] ، كما قال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82] ، وأعظم ما يؤتاه الإنسانُ من المعرفةِ فقهٌ في دينهِ يُعرِّفهُ بمعبودِهِ تبارك وتعالى ويوصلهُ به، وذلك لهُ من المغاليق التي لا تفتحُ إلا بالإخلاص وسؤال الله تعالى التَّوفيق مع بذلِ الجُهدِ في استعمالِ الآلةِ الَّتي هي مفاتيحُ ذلك، والفتحُ فيها علامةٌ على أنَّ الله تعالى أراد الخيرَ بصاحبهَا، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((من يُرِدِ اللهُ بهِ خيرًا يُفقِّهْهُ في الدِّينَ)) [متَّفقٌ عليهِ] . وتلك الآلةُ هي (أصول الفقهِ) ، فهي مفتاحُ الفقه في الدِّين، لكنْ أرأيتَ إن كان مفتاحُك لا أسنانَ لهُ، أوْ لَهُ أسنانٌ لكنَّهُ لمْ يُصْنعْ لهذا البابِ، أتظنُّ أنْ سيفتحُ لكَ؟ كذلك مفتاحُ الأصولِ، فإنه لا بدَّ له من أسنانٍ، ولا بُدَّ أن يكونَ للفِقْهِ، فإنْ خرَجَ عن هذا الوصفِ فليسَ علمًا

لأصولِ الفقهِ، أُشيرُ بهذا إلى أنَّ التَّأصيلَ لهذا العِلمِ خرجَ به كثيرٌ من المنتسبين إليه عمَّا قُصِدَ بهِ، فجاءُوا ليضَعُوا القوانينَ لفقهِ الكتابِ والسُّنةِ، وجلُّهم لا يعلمُون مخارجَ السُّننِ وكثيرٍ من الكتابِ والسُّنةِ وهو ليسَ من أهلهما؟ على أنَّ هذا العلمَ ابتدأ صناعتَهُ وتقنينَهُ على أقربِ صُورةٍ إلى الاستيعابِ والكمالِ الإمامُ أبوعبد الله الشَّافعيُّ المتوفَّى سنة (204هـ) في كتابهِ العظيمِ (الرِّسالة) ، بناهُ على دلائل الكتابِ والسُّنةِ، بعيدًا عن التكلُّفِ وما لا يترتَّبُ عليه فائدةٌ أو عملٌ، وكانتْ تلكَ الأصولُ منثورةً في طرقِ الأئمَّةِ في الفقهِ قبل الشَّافعيِّ فيها التَّجريدُ والاستدلالُ، فمنْ جاء بعدَهُ بقيتْ فيهم طائفةٌ قليلةٌ على أثرهِ من جميعِ الفُقهاءِ غيرِ الحنفيَّةُ فسلكُوا طريقًا أقربَ إلى الصَّوابِ من أولئكَ الَّذينَ جاءُوا بعدَ الشَّافعيِّ، فإنهمْ نظرُوا في فُروعِ المذهبِ المنقولةِ عن الإمامِ أبي حنيفة وأصحابهِ وتأمَّلُوا طريقةَ فقْهِهمْ، فاسْتَفَادُوا منها التَّأصيلَ، فجاءتْ كُتُبُ كثيرٍ من مُصنِّفيهِمْ في الأصُولِ نافعَةً، من أمثالِ الإمامِ أبي بكْرٍ

الجَصَّاصِ المتوفَّى سنةَ (370هـ) ، لكن دخلَ متأخِّروهمْ فيما دخلَ فيهِ غيرُهم، وهذا العلمُ لصِلتِهِ بالكتابِ والسُّنةِ يجبُ أن تُستفادَ أصولُهُ منهما، فلذا كان أحسنُ الطُّرُقِ في تقنينِهِ وتأصيلهِ طريقَةَ الشَّافعيِّ رحمهُ اللهُ ومن جرى على مِنْهَاجِهِ. وهذَا الكتابُ الَّذِي بين يديكَ عوْدَةٌ بهذا العلمِ إلى ذلكَ المِنهاجِ، بأُسلوبِ مناسبٍ للعصرِ في الشَّرحِ والإيضاحِ، سلكْتُ فيه أسْلوبَ التَّقسيمِ والتَّنويعِ مع التَّمثيلِ بأدلَّةِ الشَّريعةِ للمسائلِ الأصوليَّة، وتمييزِ الصَّحيحِ منها بالأدلَّةِ، وأهمُّ خصلةٍ حرصتُ عليها فيه تجنُّبُ تلكَ المسائل الَّتي حُسبتْ على هذا العلمِ وليست منهُ، مع إسقاطِ التَّمثيلِ والاستدلالِ بما لا يثبُتُ من جهَةِ النَّقلِ كالأحاديثِ الضَّعيفةِ، واستدْراكِ قضايا أُصوليَّةٍ كثيرةٍ تفتقرُ إلى ذكرهَا أكثرُ كتُبِ الأصولِ وهي من صميمِ هذا العلمِ، أدَعُ تمييزهَا لمن شاء المُقارنَةَ لهذا الكتابِ بغيرهِ من كتُبِ الأصولِ، كما حرصتُ أن لا يفوتَ شيءٌ لهُ اتِّصَالٌ بهذا العلمِ مما يقعُ منثورًا في كتبِ الأصولِ المتفرقةِ ما جرى منها تصنيفهُ على طريقةِ الشَّافعيِّ أو الحنفيَّةِ أو أهلِ الكلامِ إلاَّ أوردُهُ في هذا الكتابِ، وشرطتُ أن لا أذكر فيه حديثًا أو أثرًا في موضعِ الاستدلالِ والاستشهادِ إلاَّ وهو ثابتٌ من جهةِ النَّقلِ، ولا أُقلِّدُ في عزْوِ الأخبارِ إلى كتبِ الحديثِ، بلْ أستخرجُها من أصُولهَا كالصَّحيحينِ والسُّنَنِ وغيرهَا، كما لا أُقلِّدُ في الحكمِ على إسنادٍ، بل

هي نتيجةُ البحثِ والدِّراسةِ. ولا أدَّعي في هذا الجُهدِ الكمالَ، لكنِّي قصدْتُ إليه بما آتى الله عزَّوجلَّ من العلمِ والقوَّةِ، فإن كان مُحقِّقًا للغايةِ منهُ فهذا ما أرْجوهُ، وإن كان دُون ذلك فحسْبِي أن يكونَ مُشاركَةً ومُحاولَةً لتذليلِ صِعابِ هذا العلمِ وتيْسِيرِهِ، الأمْرُ الَّذي ليسَ لي فيهِ فضْلُ تفرُّدٍ أدَّعيهِ، بل قد سبقَ إليهِ علماءُ كِبارٌ لم نزَلْ نقْطِفُ من نِتاجِ علمِهم، وسنبقى إن شاء اللهُ، كالشَّيخِ عبد الوهَّاب خلاَّف رحمه الله، والعلاَّمةِ الفقيه عبد الكريم زيدان مدَّ الله بعُمرِهِ ونفعَ به في كتابيهِما في الأصولِ. وأُنبِّهكَ إلى أنِّي قصدتُ إلى تركِ إثقالِ الكتابِ بالحواشي في عزْوِ المسائل الأصولية إلى الكتبِ المختلفةِ إرادَةً للتَّخفيفِ، واكتفيتُ بذِكرِ أسماءِ المراجعِ آخرِ الكتابِن لأني لم أعمدْ إلى سياقِ الألفاظِ من تلكَ المراجع بحروفها لأكونَ مضطَرًّا إلى عزوِهَا في أصلِ الكتابِ، وما يكونُ من كثيرٍ من التَّعاريفِ والمصطلحاتِ والتَّقسيماتِ محكيًّا بألفاظه في كتبِ الأصولِ، فهذا النَّمطُ لم أرَ ضرورةً لعزوِهِ لأنَّ الأصوليِّين تواردوا على ذكرهِ، فتراهُ مكرَّرًا بحروفهِ في أكثرهَا من غيرِ عزوٍ لقائلٍ في الغالبِ، لأنها مصطلحات أشْبهَت التَّفسيراتِ اللُّغويَّة، وحسبُ الباحثِ أن يقول فيها: ((تفسير هذا اللَّفظِ في اللُّغة كذا)) ، فكذلك المُصطلحُ الأصوليُّ.

ومن جملةِ ذلك تركي لتفصيلِ التَّخريجِ والتَّحقيقِ للأحاديث والآثارِ، فإنَّ هذا لو أوردتُه لصارَ الكتابُ ضِعفَ حَجْمِهِ، وليسَ إيرادُه من لوازمِ علم أُصولِ الفقهِ. وسمَّيتهُ (تيسيرُ علم أصول الفقه) على ما قصدتُ إليه فيهِ من تقريبِ هذا العلم وتيسيرهِ على طالبهِ، وتهيئةِ الأسبابِ الواجبِ تحصيلُها للمجتهدِ، ويأتي واحدًا من أهمِّ علومِ الآلةِ الَّتي أرجو أن تكون لي مشاركَةٌ في تسهيلِ عرضها، كما أنَّه يأتي باكورةَ إصداراتِ المركز الّضذي أنشأناهُ في أرضِ المهجرِ بريطانيا (مركز البحوث الإسلامية) ، والَّذي نطمعُ أن يُحقِّقَ المقصودَ به لخدمةِ العلومِ الإسلامية على أتمِّ وجهٍ وأكملهِ. والله عالى أسألُ التَّوفيقَ والسَّداد في القولِ والعمَلِ، وأن يجعلَ هذا الكتابَ قُرَّةَ عينٍ لأولي الألبابِ، وأن يغفر لي ما زلَّ به اللِّسانُ والقلَمُ، هو حسبِي ونِعمَ الوكيلُ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بهِ. وكتب أبومحمَّدعبد الله بن يوسف الجُديع يوم عرفة ذ417هـ الموافقُ للسَّادس عشرَ من نيسان 1997م في مدينة ليذز ـ بريطانيا ـ

أصول الفقه

أصول الفقه "تعريفه: "الأصولُ: جمعُ أصلٍ، وهو لُغةً: ما ينبني عليه غيرُهُ. واصطلاحًا: يُطلقُ (الأصلُ) على أمورٍ، منها: 1-الدليلُ، ومنه: قولهمْ: (أصل هذه المسألةِ الكتابُ والسُّنة) . 2-الرَّاجحُ، كقولهم: (الأصلُ في الكلامِ الحقيقة) أي لا المجازُ، لأنها أرجحُ منه. 3-القاعدةُ، ومنهُ قولهُم: (الأصلُ أنَّ الفاعلَ مرفوعٌ) . 4-الاستصحابُ، ومنه قولُهم: (الأصلُ في الأشياءِ الإباحَةُ) ، وسيأتي بيانُ معناهُ. والفقهُ؛ لغةً: الفهمُ واصطلاحًا: العلمُ بالأحكامِ الشَّرعيَّة العمليَّة المُكتسبة من أدلَّتِها التَّفصيليَّة. تفسير التَّعريف: 1-الأحكام: جمع حُكمٍ، وهو: إثباتُ شيءٍ لشيءٍ. 2-الشَّرعيَّة: المستفادة من الشَّريعةِ، فتخرُج منها أحكامُ العقلِ

المحضة. 3-العمليَّة: المتعلقة بأفعالِ المكلَّفين، فيخرجُ منها الأحكامُ الاعتقاديَّة والسُّلوكيَّة. 4-المكتسبة: المستفادة بطريقِ النَّظرِ والاستدلالِ، فيخرُجُ من الفقهِ نوعانِ من العلمِ: [1] علم الله تعالى أو رسولهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأما علمُ الله تعالى فهو وصفٌ لازمٌ له علىوجه الكمالِ، ولو عُلِّق بالاستنباط لكانَ نقصًا يُنزَّه عنه سبحانه وتعالى، وأمَّا علمُ رسولهِ - صلى الله عليه وسلم - فمصدرهُ الوحيُ الَّذي هو من علمِ الله تعالى. [2] علمُ المقلَِّّد، فإنه لم يستفدْهُ بالنَّظر والاستنباطِ، إنما حملهُ عن غيرهِ. 5-الأدلَّة: جمعُ (دليلٍ) وهو لغةً: الهادي. واصطلاحًا: ما يُستدل بالنَّظر الصَّحيح فيه على حكمٍ شرعيٍّ عمليٍّ على سبيل القطعِ أو الظَّنِّ. 6-التَّفصيليَّة: الجزئيَّة أو الفرعيَّة. والأدلَّة التفصيليَّة، هي كلُّ دليلٍ يختصُّ بمسالةٍ معيَّنةٍ، كاختصاصِ قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا} [الإسراء:32] بحرمةِ الزِّنا، فهذه الآية دليلٌ تفصيليُّ يختصُّ بمسألةٍ معيَّنةٍ هي الزِّنا، وهو

الفرق بين القاعدة الأصولية والفقهية

غيرُ قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الإسراء: 34] ، فهذا دليلٌ تفصيليُّ على مسألةٍ معيَّنةٍ أخرى هي حرمَةُ أكلِ مالِ اليتيمِ. وأصول الفقه: هي القواعد والأدلَّة العامَّةُ الَّتي يُتوصَّلُ بها إلى الفقهِ. من أمثلة القواعدِ: 1-الأمر للوجوبِ حتَّى تصرفَهُ قرينةٌ عن ذلكَ. 2-النَّهي للتَّحريمِ حتَّى تصرِفه قرينةٌ عن ذلك. 3-العامُّ شاملٌ لجميعِ أفرادِهِ ما لم يرِدِ التَّخصيصُ. والأدلَّةُ هي مصادرُ التَّشريعِ، كـ: الكتابِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقياسِ. الفرق بين القاعدة الأصولية والفقهية: القاعدةُ الأصوليَّةُ هي: دلالةٌ يهتدي بها المجتهدُ للتَّوصُّلِ إلى استخراجِ الأحكامِ الفقهيَّة، فهي آلتُهُ الَّتي يستعملُها لاستفادَةِ تلكَ الأحكامِ، كالقواعدِ الثَّلاثِ المتقدِّمة. أما القاعدةُ الفقهيَّةُ؛ فهيَ الجملةُ الجامعةُ من الفقهِ تندرجُ تحتهَا جزئياتٌ كثيرةٌ، بمنزلةِ النُّصوصِ الجوامعِ للمعاني، كالمُناسبةِ الَّتي تُلاحظها بين القاعدةِ الفقهيَّةِ: (الأمور بمقاصدها) ، وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -:

((إنما الأعمال بالنِّيات)) أو بين القاعدةِ الفقهيَّةِ: (المشقَّةُ تجلِبُ التَّيسيرَ)) وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، فالقاعدة الفقهيَّةُ جملةٌ جامعةٌ لجزئيَّاتٍ كلُّهنَّ من بابها وموضوعها، بمنزلةِ المستفاد من آيةٍ جامعةٍ أو حديثٍ جامعٍ، كالمثاليين المذكورين. ولو تأمَّلتَ اعتبار جميع التصرفات بالمقاصد فكم تُرى يندرجُ تحت ذلك من المسائل الفرعيَّةِ في العبادات والمعاملاتِ والجناياتِ والعقوباتِ، فأفعال المصلِّي والمزكي والبائع والمشتري والنَّاكح والمُطلق والسَّارق والزَّاني والقاتل والحالفِ والقاضي، إلى غير ذلك ممَّا تعتبرُ فيه النِّياتُ والإراداتُ كلُّه مندرجٌ تحت هذه الجملةِ، فلمَّا جاءتْ على الاستيعاب للأمورِ الكثيرةِ سمِّيتْ (قاعدة) ، ولما كانتْ في المسائلِ الشَّرعيَّة العمليَّة سميَّتْ (فقهيَّة) ، وهذه بخلافِ (الأصوليَّة) فإنَّها لا تندرجُ تحتها الفروعُ العمليَّة، إنما هي أداةٌ لمعرفتها من الدَّليلِ الشَّرعِّ، ومن خلالِ دراسةِ قواعدِ الأصولِ في هذا الكتابِ ستعلمُ حقيقةَ المقصودِ بقولنا (أداة) أو (آلة) .

مباحث الأحكام

مباحث الأحكام

1ـ معنى الحكم

1ـ معنى الحكم "تعريفه: هو: خطابُ الشَّارعُ المتعلِّق بأفعالِ المكلَّفين اقتضاءً أو تخييرًا أوْ وضعًا. "شرح التعريف: خطابُ الشَّارعُ: هو خِطابُ الله تعالى المُباشرُ كالوحي بالقرآنِ والسُّنة، أو المبنيُّ على خطابه المُباشر كالإجماعِ والقياسِ. المتعلقُ بأفعالِ المكلفينَ: المراد بالأفعال ما هو آتٍ في التَّعريف، وأمَّا المكلفُ فسيأتي تعريفه في (المحكوم عليه) . اقتضاءً: أي: طلبًا، ويندرجُ تحتهُ: مطلوبُ الفعلِ، ومطلوبُ التَّركِ، وكلٌّ من المطلوبينَ ينقسمُ إلى: لازمٍ، وغير لازمٍ. تخييرًا: أي متساوٍ فعلُهُ وتركُهُ. وضعًا: ما جعلهُ الشَّارعُ سببًا لشيءٍ، كدُلوكِ الشَّمس لوجوبِ الصلاةِ، أو شرطًا لشيءٍ، كالوضوءِ لصحَّةِ الصَّلاةِ، أو مانعًا من شيءٍ، كالقتل مانعًا من الإرثِ، أو حكمُ الشَّارع بصحَّةِ شيءٍ أو فسادِه أو بُطلانهِ، أو شدَّتِهِ أو خِفَّتهِ. …

2ـ أقسام الحكم

2ـ أقسام الحكم الحكم التكليفي "تعريفه: هو ما اقتضى طلبَ فعلٍ من المكلفِ، أو طلبَ كفٍّ، أوخيِّرَ فيه بين الفعلِ والتَّركِ. وسمِّي (تكليفيًّا) لأنه يقعُ بامتثالهِ كلفةٌ. وتسميتهُ (تكليفيًّا) جرى على التَّغليبِ، وإلاَّ فإن ما خيَّر فيه الشَّارع ليس فيه تكليفٌ في الحقيقة. أقسامه: يُلاحظُ من التَّعريف أن الحكم التَّكليفي يمكنُ أن يندر تحتهُ خمسةُ أقسامٍ، هي: 1- الواجب *تعريفه: لغةً: السَّاقطُ والواقعُ، يقالُ: (وجبَ الحائطُ) إذا سقطَ، ومنه قوله تعالى في النُّسكِ: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أي: ذبِحتْ فسقطتْ ووقعتْ إلى الأرضِ. وفيه معنى الثبوتِ واللُّزومِ، فإنَّ ما يسقطُ يستقرُّ بسقوطهِ ويلزمُ

الوضعَ الَّذي يسقطُ عليه، ومن ثمَّ قيلَ: (وجبَ البيعُ) أيْ: ثبتَ واستقرَّ ولزِمَ، وهذا أصلُ معنى الواجبِ في الاصطلاحِ. واصطلاحًا: هو ما طلبَ الشَّارعُ فعله على وجهِ اللُّزومِ، ورتَّب على امتثالهِ المدحَ والثَّوابَ، وعلى تركهِ مع القُدْرةِ الذَّم والعقابِ. صيغته: الصِّيغُ الدَّالة على إفادةِ الوجوبِ في نصوصِ الكتابِ والسُّنةِ كثيرةٌ أهمُّها: 1-صيغة الأمرِ بلفظِ الإنشاءِ، بفعلِ الأمرِ (افْعَلْ) كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] ، أو المضارعُ المجزومِ بلامِ الأمرِ كقوله تعالى: {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9] ، أو اسمِ فعلِ الأمر كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] ، أو المصدر النَّائب عن فعلِ الأمرِ، كقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد:4] . وسيأتي في مبحث (الأمر) في (قواعد الاستنباط) بيانُ دلالة هذه الصِّيغة على الوُجوبِ. 2-صيغةُ (أمرَ) وما يتصرَّفُ عنها، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90] ، وقوله: {إِنَّ

اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأنا آمركمْ بخمسٍ الله أمرني بهنَّ: السَّمعِ والطَّاعةِ، والجهادِ، والهجرةِ، والجماعةِ)) ، (جزءٌ من حديثٍ صحيحٍ أخرجه التِّرمذِيُّ وغيرهُ) . 3-صيغة (كتبَ) و (كُتِبَ) ، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتُمْ فأحسنُوا القِتلَةَ، وإذا ذبحتُم فأحسنُوا الذِّبح، وليُحِدَّ أحدُكمْ شفْرَتَهُ فليُرِحْ ذبِيحتَهُ)) [أخرجه مسلمٌ من حديثِ شدَّاد بنِ أوسٍ] . 4-صيغةُ (فرضَ) وما يتصرَّفُ عنها، كقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] أي: أوجبنا العمل بها. وعن عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا بعثَ معاذً إلى اليمنِ قال: ((إنكَ تقدُمُ على قومٍ أهلِ كتابٍ، فليكُن أوَّل ما تدعوهمْ إليهِ عبادَةُ الله عزَّوجلَّ، فإذا عرفُوا الله فأخبرهم أنَّ الله فرض عليهمْ خمسَ صلواتٍ في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرْهُم أنَّ الله قد فرض عيهم زكاةً تُؤخذُ من أغنيائهم فترَدُّ على فُقرائهِم، فإن أطاعُوا بها فخذْ منهمْ وتوقَّ كرائمَ أموالهِم)) [متفق عليه] . 5-صيغة (لهُ عليك فِعلُ كذا) كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ

حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حقِّ الرَّجل على امرأته: ((ولكم عليهنَّ أن لا يوطئنَ فُرشَكُمْ أحدًا تكرهُونهُ، فإنْ فعلنَ ذلكَ فاضْرِبُوهنَّ ضربًا غير مُبرِّحٍ)) [أخرجه مسلمٌ من حديث جابربن عبدِالله] ، ومنه قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] . 6ـ صيغةُ الخبر الَّتي فيها تنزيل المطلوب منزلةَ التَّامِّ الحاصل تأكيدًا للأمر به، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . 7ـ ما ورد فيه ترتيبُ المؤاخذة على تركِ الامتثالِ، كقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من لا يرحمُ لا يُرحمُ)) [متفقٌ عليه من حديث جريرِ بن عبد الله وأبي هريرة] . 8ـ وصفُ تركِ الامتثالِ بالمخالفةِ، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((شرُّ الطَّعام طعامُ الوليمةِ، يُدعى لها الأغنياءُ ويُتركُ الفقراءُ، ومن تركَ الدَّعوةَ فقد عصَى الله ورسولَهُ)) [متفق عليه] ، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] . 9ـ ما رُتِّب على تركه عدمُ الاعتدادِ بالعملِ، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا صلاةَ لمن لم يقرأْ بفاتحةِ الكتابِ)) [متفقٌ عليه من حديث عُبادة بنِ

الصَّامت] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا نكاحَ إلاَّ بوليٍّ)) [حديث صحيحٌ أخرجه أصحابُ السُّننِ وغيرهُمْ] . "مسائل: 1ـ الفعل النَّبويُّ إذا جاء تفسيرًا لواجبٍ مجملٍ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلُّوا كما رأيتمُوني أصلِّي)) [أخرجه البخاريُّ من حديث مالك بن الحُويرِثِ] ، وقد صلَّى بفعلهِ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لِتأخُذُوا مناسِككُمْ)) [أخرجه مسلمٌ من حديث جابر بن عبد الله] ، وقد حجَّ بفعلهِ، هلْ يكونُ ذلكَ الفعلُ واجبًا؟ التَّحقيقُ الَّذي عليه أكثرُ أهلِ العلمِ أنَّ البيانَ بالفعلِ واقعٌ على ما هوَ واجبٌ كالرُّكوعِ والسُّجودِ في الصَّلاةِ، وعلى ما هو مندُوبٌ كرفعِ اليدينِ وصفِّ القدمينِ ووضعِ اليُمنى على اليسرَى، فمجرَّدُ الفعلِ النَّبويِّ لم يُحل المندوبَ منها واجبًا، وذلك لوْ صحَّ فإنَّهُ يعني أنَّ المندوباتِ في حقِّه - صلى الله عليه وسلم - انقلبتْ واجباتٍ بفعلهِ في حقِّ أمَّتهِ، وهذا معنى لا يُتصورُ، فالتكليفُ في حقِّه - صلى الله عليه وسلم - مقطوعٌ بأنهُ آكدٌ منهُ فبي حقِّ أمَّتِهِ. فلا يصلُحُ إذًا إطلاقُ أنَّ فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بيانًا لواجبٍ فكلُّ أجزاءِ ذلك الفعلِ واجبةٌ على أمَّتهِ، وإنما يُستفادُ وجوبُها من غير ذاتِ الفعلِ، وتبقى مشروعيَّةُ المتابعةِ للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - واجبةً في الواجبِ، ومندوبةً في المندوبِ.

2ـ (الفَرْضُ) هوَ (الواجبُ) عند جمهورِ الفُقهاءِ، فيقولونَ: (صومُ رمضانَ واجبٌ) كما يقولونَ: (فرضٌ) ، ويقولونَ: (زكاةُ الفِطرِ فرضٌ) كما يقولونَ: (واجبةٌ) . وخالفهم في ذلكَ الحنفيَّةُ ـ وهو رِوايةٌ عن الإمامِ أحمد ـ ففرَّقوا بينَ (الفرضِ) و (الواجبِ) لا من جهَّة التَّعريفِ المتقدِّم، وإنما من جهةِ طريقِ ورودِ الدَّليل الدَّال على الوجوبِ أو الفرضيَّةِ، فكان عندهم ما وردَ الدَّليل الدَّالِّ على الوجوبِ أو الفرضيَّةِ، فكان عندهُم ما وردَ بدليلٍ قطعيِّ الورودِ كالقرآن والحديثِ المتواترِ فهو فرضٌ، وما وردَ بدليلٍ ظنِّيِّ الوُرودِ كحديثِ الآحادِ الصَّحيحِ فهو واجبٌ، وعليه فـ (الواجبُ) أدنَى في الحتميَّةِ عندهُم من (الفرضِ) بهذهِ الحيثيَّةِ. ومذهبُ الجمهورِ أصحُّ وأرجَحُ، لرُجحانِ وجوبِ العملِ بحديثِ الآحادِ الصَّحيحِ، كما سيأتي بيانُهُ في الكلامِ على (دليلِ السُّنَّة) في أدلَّةِ الأحكامِ، لكن يُستفادُ من هذا مُراعاةُ طريقةِ الحنفيَّةِ عندَ النَّظرِ في كتُبِهِم في الفُروعِ. 3ـ مسألةُ (ما لا يتِمُّ الوَاجبُ إلاَّ بهِ فهوَ واجِبٌ) : ما يتوقَّفُ عليه الإتيانُ بالواجبِ، وهوَ مقدِّمتُهُ الَّتي ينبنِي عليها تحصلُهُ، يرجعُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: [1] ما لا يدخُلُ تحتَ قُدرةِ العبدِ.

مثلُ: زوالِ الشًّمسِ لوجوبِ صلاةِ الظُّهرِ، فهذهِ مقدِّمةٌ لا تَتِمُّ صلاةُ الظُّهرِ إلاَّ بها لكنَّها ليستْ تحتَ قُدرَةِ المُكلَّفِ. فهذا القِسمُ لا يندرجُ تحتَ المسألةِ المذكورةِ. [2] ما يدخُلُ تحتَ قُدرةِ المكلَّفِ لكنَّهُ غيرُ مأمورٍ بتحصِيلِهِ. مثلُ: بُلوغِ النِّصابِ لوجوبِ الزَّكاةِ، والاستطاعَةِ لوُجوبِ الحجِّ، فإنَّه تحتَ قُدرتِه أن يجمعَ النِّصابَ، وأن يكتسِب لِيُحقِّق الاستِطاعةَ للحجِّ، لكنَّ ذلكَ لا يجبُ عليهِ. فهذا لا يدخلُ أيضًا تحتَ المسألةِ المذكورَةِ. [3] ما يدخُل أيضًا تحتَ قُدرَةِ المكلَّفِ وهو مأمورٌ بتحصِيلِهِ. مثلُ: الطَّهارةِ للصَّلاَةِ، والسَّعيِ للجُمُعَةِ، فهذا يجبُ عليهِ الإتيانُ بهِ، وهو المقصودُ بالقاعدَةِ. ومن هذا التقسيمِ يُلاحظُ أنَّ هذهِ المسألةِ ليستْ قاعدَةً لإثباتِ وُجوبِ ما لم يرِدْ بِوُجوبهِ دليلٌ، إنما هي مسألةٌ قُسِّمتْ عليهَا مقدِّماتُ الوَاجبِ، أمَّا أن يُقالَ: تثبُتُ بها واجباتٌ لا دليلَ عليها إلاَّ هذه الجُملةِ فهذا ما لا وجودَ لهُ على التَّحقيقِ، وسيأتِي في (قواعِدِ الاستنباطِ) في مبحثِ (إشارَةِ النَّصِّ) ما يُبيِّنُ أنَّ مقدِّماتِ الواجبِ واجبةٌ بنفسِ دليلِ ذلكَ الواجبِ. 4ـ لم يرِدِ استعمالُ لفظِ (واجب) في نُصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ

بمعناهُ الاصطلاحِيِّ، ولذا أخطأَ من استدلَّ بظاهرِ قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((غُسلُ يومِ الجُمُعةِ واجبٌ على كلِّ مُحتلِمٍ)) [متَّفقٌ عليه من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ] على فرضِ غُسلِ الجُمُعةِ بناءً على معنَى (الواجبِ) في الاصطلاحِ، وقدْ ثبتتْ الأدلَّةُ مفسِّرَةً لهذا الحُكمِ أنَّ الغُسْلَ يومَ الجُمُعةِ ليس بفرضٍ، إنَّما هو سُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ، فكان تأويلُ لفظةِ (واجبٍ) في هذا الحديثِ على ما ذكرهُ بعضُ أهلِ العلمِ: للتَّوكيدِ في النَّدْبِ، وهوَ بِمنزلَةِ قولِ الرَّجلِ: (حقُّكَ عليَّ واجبٌ) . "أقسامه: للواجبِ أقسامٌ باعتبارَاتٍ متعدِّدَةٍ، هي: 1ـ باعتبارِ وقتِ أدائهِ، قسمانِ: [1] واجبٌ مُطلقٌ أو مُوسَّع، وهوَ ما طلبَ الشَّارِعُ فعلَهُ من غيرِ تقيِيدٍ لأدائِه بزَمَنٍ مُعيَّنٍ. مثلُ: قضاء ما أفطرَهُ الإنسانُ بعُذرٍ من رمضانَ، فإنَّ الله تعالى قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، فهي فُسحةٌ بعدَ رمضانَ في أيِّ وقتٍ شاءَ من عامِهِ، لا يلزمُهُ التَّعجيلُ ولا يأثَمُ بالتَّأخيرِ، وإن كانت المُسارعَةُ أبرأ للذِّمةِ خشيةَ أي يُحالَ بينهُ وبين القضاءِ، وكذا الصَّلواتُ الخمسُ فيما بينَ الوَقتينِ. [2] واجبٌ مقيَّدٌ أو مُضيَّقٌ، وهو ما طلبَ الشَّارعُ فعلَهُ مقيَّدًا

بزمنٍ معيَّنٍ. مثلُ: صومِ رمضانَ لمنْ شهِدَ الشَّهرَ ولا عُذْرَ لهُ بتأخيرِ الصَّومِ، كما قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 285] . وهذا لا تبرأُ الذِّمةُ إلاَّ بأدائهِ في وقتِهِ المحدَّد. 2ـ باعتبارِ تقديره وحدِّه، قسمانِ: [1] واجبٌ مقدَّرٌ (محدَّد) ، وهو ما عيَّن الشَّارِعُ له حدًّا محدُودًا، فيلزَمُ الوقوفَ عندَهُ. مثلُ: أنصبَةِ الزَّكاةِ ومقدَارِ الواجبِ فيها. وحكمُ هذا النَّوعِ أنهُ يلزمُ المكلَّفَ، ولا تبرأُ ذمَّتُهُ له حدًّا. مثلُ: مقدارِ النَّفقةِ الواجبةِ على الزَّوجِ لزوجتِه، التَّعاوُن على البِرِّ والتَّقوى، الإحسانِ إلى النَّاسِ، فإنهُ ليس لهذهِ الواجباتِ تقديراتٌ شرعيَّةٌ، وإنَّما يعودُ تقديرُها إلى الظَّرفِ وإدراكِ المكلَّفِ، أو إلى العُرفِ أو قضاءِ القاضي كما في المسألةِ الأولى. 3ـ باعتبارِ تعيينهِ بذاتِهِ أو عدم تعيينِهِ، قسمانِ: [1] واجبٌ معيَّنٌ، وهو ما تحتَّم على المكلَّفِ أن يوقعَه بعينِه من

غير أن يكون له فيه اختيارٌ آخر. مثلُ: صيامِ شهرِ رمضانَ، فإنَّ المكلَّفَ ليس مخيَّرًا بين الصِّيامِ والفِطر، بلْ تعيَّنَ عليه الصِّيامُ وليس ثمَّةَ بديلٌ عنه ما كانتْ له قدرَةٌ عليه. [2] واجبٌ غيرُ معيَّن، وهو ما تحتَّم على المكلَّفِ أن يوقِعه، لكنْ باختيارِ موسَّعٍ بين أصنافٍ من الأفعالِ يتحقَّقُ الواجبُ بفعلِ أحدِهَا. مثلُ: كفَّارةِ اليمينِ، فإنَّها واجبةٌ، لكنَّها تتحقَّقُ بواحدٍ من ثلاثةِ أشياءَ: إطعامُ عشرةِ مساكينَ، أو كِسوتُهُمْ، أو عتقُ رقبةٍ، أيَّ ذلكَ فعلتَ أسقطَ عنكَ الوجوبَ، فهوَ غيرُ معيَّنٍ في أحدِهَا. 4ـ باعتبارِ المُطالبِ بهِ، قسمان: [1] واجبٌ عينيٌّ، أو: (فرضُ عينٍ) ، وهو ما توجَّه فيه الطَّلبُ الَّلازمُ إلى كلِّ مكلَّفٍ، فلا يُسقطُ قيامُ البعضِ به المؤاخذَةَ عن الباقينَ. مثلُ: الصَّلواتِ الخمسِ، وحجِّ البيتِ، وصلةِ الأرحامِ. [2] واجبٌ كِفائِيٌّ، أو (فرضُ كِفايَةٍ) ، وهو ما طلبَ الشَّارِعُ حصولَه من جماعةِ المكلَّفينَ، بِحيثُ لوْ قامَ بعضُهُم برِئتْ ذِمَّةُ سائرِهِمْ. مثلُ: الجهادِ في سبيلِ اللهِ، والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ، وتحصيلِ الأسبابِ لحفظِ الضَّروراتِ الخمسِ: الدِّينِ، والنَّفسِ،

2ـ المندوب

والمالِ، والعِرضِ، والعقلِ، كالتَّفرُّغِ للعُلومِ المتخصِّصَةِ في الشَّريعَةِ والحياةِ، وإدارةِ شؤونِ الحُكمِ والقضاءِ والسِّياسَةِ. واجتمَاعُ النَّاسِ على التَّفريطِ بِهذا الواجبِ اجتِماعٌ على الإثمِ، ولا تبرأُ ذِمَمُهُمْ حتَّى يوجدَ فيهِمْ من يُحقِّقُ الكفايَةَ لسائِرِ المسلمينَ بتحصيلِ ذلكَ الواجِبِ. 2ـ المندوب "تعريفه: لغةً: يُقالُ: (ندَبَ القومَ إلى الأمرِ) أيْ: دعاهُمْ وحثَّهُم إليهِ، فالنَّدْبُ: الدَّعوةُ إلى الشَّيءِ والحثُّ عليهِ، و (المندُوبُ) المدْعوُّ إليهِ. واصطلاحًا: ما طلبَ الشَّارعُ فعلُهُ من غير إلزامٍ، ورتَّب على امتثالهِ المدحَ والثَّوابَ، وليسَ على تركِهِ الذَّمُّ والعقابُ. "صيغته: 1ـ كلُّ صيغَةِ أمرٍ قامَ بُرهانٌ على عدَمِ الإلزامِ بها، لأنَّهُ كما تقدَّم في (الواجبِ) أنَّ صيغَةَ (افْعَلْ) دالَّةٌ على الوجوبِ بأصلِ وضعِهَا على أصحِّ المذاهبِ وأقواهَا دليلاً، فإذا قامَ بُرهانٌ على إرادَةِ مجرَّدِ النَّدبِ صُرِفتْ دلالَةُ تلكَ الصِّيغَةِ إلى النَّدْبِ.

مثلُ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] ، فقولُهُ: {فَاكْتُبُوهُ} صيغةُ أمرٍ أصلُ دلالتِها على الوجوبِ، لكنَّ الحُكمَ معقولُ المعنى يتعلَّقُ بحُقوقِ الخلقِ، فإذا وجدُوا استغناءً عن الكتابةِ بالثِّقةِ والتَّراضِي فهي حقوقُهم وهُم أصحابُها، وما يقعُ من الضَّرَرِ فهم يحتمِلوهُ، فلِذا قال من بعْدُ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ، فكان الأمرُ بالكتابةِ على سبيلِ النَّدبِ والحثِّ والإرشادِ لمصلحتِهِمْ. 2ـ كلُّ صيغةٍ خبريَّةٍ تضمَّنتِ الحثَّ وليسَتْ مؤوَّلةً بالأمرِ، كصِيغِ التَّرغيبِ بأذكارٍ أو تطوُّعاتٍ مخصوصةٍ، كأنْ يجيءَ: (مَن قالَ كذا فلهُ كذَا وكذا) ، أو: (مَن صلَّى كذا فلهُ كذا) . 3ـ كلُّ فِعلٍ نبويٍّ قُصِدَ به التَّشريعُ على ما سيأتِي بيانُهُ في (دليلِ السُّنَّةِ) ، كصلاةِ الرَّواتبِ، وصيامِ التَّطوُّعِ. * ألقابه: يُسمَّى (المَنْدُوبُ) : 1ـ السُّنَّة. 2ـ النَّافلَةَ. 3ـ المُسْتَحَبَّ. 4ـ التَّطوُّعَ. 5ـ الفضيلةَ. ومن العُلماءِ من يقولُ: يُسمَّى (مندُوبًا) إذا كانتْ مصلَحتُهُ أُخرويَّة، و (إرشادًا) إذا كانتْ مصلَحَتُهُ دُنيَويَّة.

"درجاته: ليسَتِ المندُوباتُ على درجَةٍ واحدَةٍ من جهةِ النَّدبِ إليهَا، بلْ متفاوتَةٌ باعتباراتٍ: 1ـ سُنَّة مُؤكَّدة: وهي ما داوَمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على امتثَالِهِ، وربَّما معَ اقترَانِه بالحثِّ عليهِ قولاً، مثلُ: صلاة ركعتَي التَّطوعِ قبل صلاَةِ الصُّبحِ، فقدْ صحَّ عن عائشةَ رضي الله عنهَا قالتْ: ((ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في شيءٍ من النَّوافِلِ أسرعَ منه إلى الرَّكعتينِ قبلَ الفجرِ)) [متَّفقٌ عليه، واللَّفظُ لمسلمٍ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ركْعتَا الفجرِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها)) [رواهُ مسلم] 2ـ سُنَّةٌ غيرُ مؤكَّدةٍ: وهي ما كان من السُّنَن ممَّا لم يُواظِبْ عليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كصيامِ التَّطوُّع، فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يصومُ حتَّى يُقالَ لا يُفطِرُ، ويُفطرُ حتَّى يقالَ لا يصومُ، وكصلاةِ أربعِ ركعاتٍ قبلَ العصرِ، فقدْ حثَّ عليها - صلى الله عليه وسلم - من غيرِ مواظبةٍ على فعلِهَا. ويندرجُ تحتَ هذا البابِ جميعُ ما حثَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليه بالقولِ من التَّطوُّعاتِ، ولم يُنقلُ عنه المُواظبَةُ عليه بالفِعلِ، كقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((تَابِعُوا بين الحجِّ والعُمرَةِ، فإنَّهُمَا ينفيَانِ الفقْرَ والذُّنوبَ كما ينفي الكِيرُ خبَثَ

الحديدِ والذَّهبِ والفِضَّةِ، وليسَ للحجَّةِ المبرورَةِ ثوابٌ إلاَّ الجنَّة)) [حديث صحيحٌ رواهُ التِّرمذِيُّ وغيرُهُ] ، وحثَّ على العُمرَةِ في رمضانَ، ومعَ ذلكَ فما اعتمرَ - صلى الله عليه وسلم - في حياتِهِ إلاَّ أربعَ عُمر، وحجَّ حجَّةً واحدَةً. 3ـ فضيلةٌ وأدَبٌ: وتُسمَّى كذلكَ بـ (سُنَّةِ الزَّوائد) ، و (سنَّة العادَةِ) ، وهي الأفعالُ النَّبويَّةُ في غيرِ أمرِ التَّعبُّدِ، كصفةِ أكلِهِ وشُربِهِ ونوْمِهِ ولِبَاسِهِ ومَشْيِهِ ورُكوبِهِ، ونحوَ ذلكَ، فإنَّ الاقتداءَ بالنًَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيها فضيلَةٌ، فذلكَ من بابِ التَّشبُّه بهِ، وهو ممدُوحٌ، ما لمْ يُعارضْ مصلحةً أرجَح. وهذا بابٌ جرى فيه الحالُ النَّبويُّ على مُقتضى الطَّبع البَشرِيِّ، أو على مجارَاةِ العُرفِ الَّذي لم يُخالفُ الدِّين، فما كان منه بمقتضى الطَّبعِ فالسُّنَّةُ فيه أن يُجاريَ الإنسانُ طبعَ نفسِهِ ما دامَ لا يُخالفُ الشَّريعة، وبذلك يحقِّقُ الاقتداءَ بأتمِّ من تحقيقهِ له لو تكلَّف وتصنَّع بخلافِ طبعِهِ ليُوافقَ المِشْيَةَ النَّبويَّة أو القِعدَة النَّبويَّة، وإن كان جاريًا على موافقِةِ العُرفِ كلُبسِ الإزارِ والقميصِ الطَّويلِ، فإنَّ السُّنَّةَ الَّتي ينبغي المتابعةُ فيها هي أن يُجاريَ المُسلمُ عرفَ بيئتِهِ وزمانِهِ في ذلك ما دامَ لم يُخالفْ شرعًا في نوعِ لباسِهِم وهيئتهِم، ويكونُ قَدْ خالفَ

الاقتداءَ بمخالفةِ العرفِ، لأنَّ الكونَ في المجتمعِ والنَّاسِ على سبيل الموافقةِ لا المخالفَةِ مقصودٌ لئلاَّ يقعَ التَّميُّزُ ومن ثمَّ الارتفاعُ على الخلقِ والتَّزكيةُ للذَّواتِ، وإنَّما يدعُ المسلمُ من العُرفِ ما خالفَ الشَّرعَ في أمرٍ أو نهيٍ. وبعدَ هذا فيبقى من (سنن العادةِ) ما لا ينتدرجُ تحتَ طبعٍِ ولا عُرفٍ، ممَّا لا يخلو في أكثرِ الأحيانِ من معانٍ شرعيَّة ٍ أو صحيَّةٍ أو غير ذلك، يجدُهَا المتأمِّلُ لوْ أمعنّ النَّظرَ، وهذا كصِفَةِ جلُوسهِ - صلى الله عليه وسلم - للأكلِ، فإنَّه قال: ((لا آكُلُ متَّكئًا)) ، وفيه معنى شرعيٌّ دينيٌّ ومعنى صحِّيٌّ، فالمعنى الشَّرعيٌّ الدِّينيُّ بيَّنه النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهِ في حديثٍ آخر: ((آكُلُ كما يأكُلُ العبدُ، وأجلسُ كما يجلسُ العبدُ)) ، [حديثٌ حسنٌ رواهُ ابنُ سعدٍ وأحمدُ في ((الزُّهدِ)) وغيرهما] ، وهذا معنى تواضعٍ وانكِسارٍ، وأمَّا المعنى الصحِيُّ فإنَّ الاتِّكاءَ فُسِّرَ بالتَّربُّعِ، كما فُسِّر بالجُلوسِ معتمدًا على شيءٍ، وعلى أيِّ التَّفسيرِينِ فهيَ هيئةُ تمكُّنٍ تدفَعُ إلى الإقبالِ على الطَّعامِ بنِهمةٍ مع استعدادِ البطنِ للامتلاءِ، فقد استرخَتِ المفاصلُ وارتفعتِ القيودُ، بخلافِ جِلسَةِ العبدِ المُقلقةِ الَّتي صورتُها صورةُ جلسَةِ العَجلانِ الَّذي ينتظرُ متَى يفرُغُ من طعامِه، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ملأ آدَميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ، بِحَسبِ ابنِ آدَمَ أكلاتٌ يُقمنَ صُلبَهُ، فإنْ كانَ لا محَالَةَ فثُلُثٌ لطعامِهِ وثُلثٌ لشرابِهِ وثُلثٌ لنَفسِهِ)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ التِّرمذِيُّ وغيرُهُ] .

المندُوبُ تكليف اختياري لمصلحة المكلف: إنَّ الله عزَّوجلَّ جعلَ في المستحبَّات رحمةً للعبادِ تصلُ بهِمْ إلى المقاماتِ العليَّةِ، ففي الحديثِ القُدسِيِّ: ((ولا يزالُ عبْدِي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحبَّهُ)) ، كما جعل فيها عوضًا لهم عمَّا يقعُ من تقصيرٍ في الفرائضِ فتجبُرُ نقصَهَا، كما صحَّ عن أبي هريرةَ رضي الله عنهُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ أوَّل ما يُحاسبُ النَّاسُ به يومَ القيامَةِ من أعمالِهِمُ الصَّلاةُ، قال: يقولُ ربُّنا جلَّ وعزَّ لملائكتهِ وهوَ أعلمُ: انظُرُوا في صلاةِ عبدِي أتمَّها أم نقصَهَا، فإن كانتْ تامَّةً كُتِبتْ لهُ تَامَّةً، وإن كانتْ انتقصَ منها شيئًا قال: انظرُوا، هلْ لعبْدِي من تطوُّعٍ؟ فإنْ كانَ لهُ تطوُّعٌ قالَ: أتمُّوا لعبدِي فريضتَهُ من تطوُّعِهِ، ثمَّ تُؤخذُ الأعمالُ على ذَاكُمْ)) [أخرجه أصحابُ السُّنن] . ولو أيقنَ العبدُ أنَّهُ أتمَّ الفرائضَ وما انتقصَ منهاَ شيئًا كانتْ نافلتُهُ زيادةً في درجتهِ، وإن تركَ التَّطوُّعاتِ حينئذٍ فليسَ عليهِ من مأثمٍ، دليلُ ذلكَ ما أخرجهُ الشَّيخانِ من حديثِ طلحةَ بنِ عُبيدِالله رضي الله عنهُ قال: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من أهلِ نجدٍ ثائرَ الرَّأسِ يُسمعُ دويُّ صوتِهِ ولا يُفقَهُ ما يقولُ، حتَّى دنَا، فإذا هُوَ يسألُ عن الإسلامِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خمسُ صلواتٍ في اليومِ واللَّيلةِ)) فقال: هلْ عليَّ غيرهَا؟ قالَ: ((لا، إلاَّ أن تطوَّعَ)) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وصيامُ رمضَانَ)) قال: هلْ عليَّ غيرُهُ؟ قال: ((لاَ، إلاَّ أن تطوَّعَ)) قال:

وذكر له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الزَّكاةَ، قال: هلْ عليَّ غيرُها؟ قال: ((لا، إلاَّ أن تطوَّعَ)) ، قال: فأدبرَ الرَّجلُ وهو يقولُ: والله لا أزيدُ على هذا ولا أنقصُ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفلحَ إنْ صدَقَ)) . ولكنَّ الصِّدقَ في ذلك أمرٌ مظنونٌ، والعبدُ يعملُ العملَ لا يضمنُ إتقانَهُ من كلِّ وجوهِهِ، لذلكَ يبقى محتاجًا إلى التَّطوعِ، ولا يحسنُ به أن يتركهُ طولَ عمُرِهِ معتمدًا على أدائهِ الفرائضَ، فإنَّ خير الهديِ هديُ محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان المثلُ الأعلى في المحافظةِ على كثرةِ التَّطوعَاتِ. *مسألة: ذهبَ الحنفيَّةُ والمالكيةُ إلى أنَّ من شرعَ في التَّطوعِ فإنَّهُ يصيرُ عليهِ واجبًا بِمجرَّدِ الشُّرُوعِ، فليسَ له إبطالُهُ ولا الخُرُوجُ منهُ، فإنْ خرجَ منهُ لزمَهُ القضاءُ عند الحنفيَّةِ، وعند المالكيَّةِ: يلزمُهُ القضاءُ إذا خرجَ منهُ بغيرِ عذْرٍ، ولا يلزمُهُ إذَا خرجَ منهُ بعذْرٍ. واستدلُّوا بعمُومِ قولهِ تعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] . ومذهبُ الشَّافعيِّ وأحمدَ وسفيانَ الثَّورِيِّ: هو تطوُّعٌ قبلَ الشُّروعِ فيهِ وبعدَهُ، وليسَ عليهِ قضاءٌ لو تركهُ، إنما الأمرُ له إن شاءَ قضَى وإنْ شاءَ تركَ، وهذه الآيةُ ليستْ في ذلكَ، إنَّما هي في إبطالِ الحسناتِ

3ـ الحرام

بفعلِ السَّيِّئاتِ، أو بالرِّياءِ، وقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الصَّائمُ المتطوِّعُ أميرُ نفسِهِ، إن شاءَ صامَ وإن شاءَ أفطرَ)) [أخرجهُ التِّرمذيُّ وغيرُهُ من حديث أمِّ هانيءٍ، ولهُ شاهدٌ من حديثِ عائشةَ] . 3ـ الحرام * تعريفه: لُغةً: المنعُ، و (المُحرَّمُ) الممنوعُ منه، وهوَ ضدُّ الحلالِ. واصطلاحًا: ما طلَبَ الشَّارِعُ الكفَّ عنه على وجهِ الحَتْمِ والإلزامِ، ويثابُ تاركُهُ امتثالاً، ويُعاقبُ فاعلُهُ اختيارًا. ومن أسمَائِهِ: المحظُورُ. "صيغته: يُستفادُ (التَّحريمِ) الصَّريحِ، كقولهِ تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ دَمُهُ، ومالُهُ، وعرضُهُ)) [حديث صحيحٌ رواهُ مسلمٌ] . 2ـ نفيُ الحلِّ، كقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لايحلُّ لمسلمٍ أن

يهجُرَ أخَاهُ فوقَ ثلاثِ ليالٍ)) [متفقٌ عليه] . 3ـ صيغة النَّهي، وهي أنوعٌ تعودُ جملتُهَا إلى: [1] لفظِ (النَّهي) الصَّريحِ، كقوله تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: لعليٍّ رضي الله عنه وقد وهبهُ خادمًا: ((لا تضْرِبْهُ، فإنِّي نُهيتُ عن ضربِ أهلِ الصَّلاةِ، وإنِّي رأيتهُ يُصلِّي منذُ أقبلنَا)) [رواه البخاريُّ في ((الأدب المفرد)) 163 بسندٍ حسنٍ] . ويلحقُ بهذا قولُ الصَّحابيِّ: ((نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن كذا)) . [2] صيغة (زَجرَ) ، كحديثِ أبي الزُّبيرِ قال: سألتُ جابرًا (يعني ابنَ عبد الله) عن ثَمَنِ الكلبِ والسِّنَّورِ؟ قالَ: زَجرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلكَ [أخرجه مسلمٌ] . [3] صيغةِ الأمر بالانتهاءِ، كقوله تعالى للنَّصارى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يأتي الشَّيطانُ أحدَكُم فيقولُ: من خلقَ كَذا، من خلقَ كذا، حتى يقولَ: من خلقَ ربُّكَ؟ فإذا بلغهُ فليستَعِذْ بالله ولْيَنْتَهِ)) [متفق عليه عن أبي هريرة] . [4] صيغة الفِعلِ المضارعِ المقترنِ بـ (لا) النَّاهيّةِ، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لايَبِع بعضُكُم على بيعِ بعضٍ)) [متَّفقٌ عليه عن ابن عمرَ] .

[5] صيغةِ (لا ينبغي) ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحريرِ: ((لا ينبغي هذا للمتَّقينَ)) [متفق عليه من حديثِ عُقبةَ بنِ عامرٍ] . [6] صيغةِ الأمرِ بالتَّركِ بغيرِ صيغةِ النَّهيِ الصَّريحةِ، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ، وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اجتنبُوا السَّبع المُوبقَاتِ)) قالوا: يا رسول الله، وماهنَّ؟ قال: ((الشِّركُ بالله، والسِّحرُ، والتَّولِّي يوم الزَّحفِ، وقذْفُ المُحصناتِ المُؤمناتِ الغافلاتِ)) [متفق عليه عن أبي هريرة] ، وحديث عبد الله بنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: طلَّقتُ امرأتي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حائضٌ، فذكر ذلك عُمرُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((مُرهُ فليُراجِعْهَا، ثمَّ ليَدَعْهَا حتَّى تطْهُرَ، ثم تحيضُ حيضةً أُخرى، فإذا طهُرتْ فليُطلِّقها قبلَ أن يُجامِعَهَا، أو يُمسِكْهَا، فإنَّها العدَّةُ الَّتي أمرَ اللهُ أن يُطلِّقَ لها النِّساءُ)) [رواه مسلمٌ] . 4ـ ما رُتِّب على فعلهِ عُقُوبةٌ أو وعيدٌ دُنيويٌّ أو أخْرَوِيٌّ فهوَ دليلٌ على تحريمهِ، فمِنْ صُورِهِ: [1] عُقُوبةُ الحدُودِ، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا

أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] [2] التَّهديد بالعقابِ، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278ـ 279] ، وقوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 60ـ 62] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليتهينَّ أقوامٌ عن وَدْعِهِم الجُمُعاتِ أو ليختِمَنَّ الله على قُلوبِهِمْ ثمَّ ليكونَنَّ من الغافلينَ)) [رواه مسلمٌ وغيرهُ عن ابن عُمر وأبي هريرة] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لكلِّ غادرٍ لواءٌ يُعرفُ بهِ يومَ القيامَةِ)) [متفقٌ عليه] ، فهذه فضيحةٌ يومَ العرضِ. [3] ترتيبُ اللَّعنةِ على الفعلِ، وهي نوعٌ من العُقوبَةِ، وفيه نصوصٌ كثيرةٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ. 5ـ وصف الفِعلِ بأنهُ من الذُّنوبِ، ومنه وصفُه بأنَّه كبيرةٌ، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منْ ذنبٍ أجدرُ أن يُعجِّل الله تعالى لصاحبِهِ العقُوبةَ في الدُّنيا

مع ما يُدخرُ لهُ في الآخرةِ مثلُ البغي، وقطيعةِ الرَّحمِ)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ أبوداودَ وغيرُهُ عن أبي بكرة] ، وعن أنسٍ رضي الله عنهُ قال: سُئل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الكبائرِ؟ قال: ((الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدينِ، وقتلُ النَّفسِ، وشهادَةُ الزُّورِ)) [متَّفقٌ عليهِ] . 6ـ وصفُ الفعلِ بالعُدوانِ، أو الظُّلم، أو الإساءَةِ، أو الفسقِ، أو نحوَ ذلكَ، كحديثِ عبد الله بن عمرِو رضي الله عنهما قال: جاءَ أعرابيٌّ إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يسألهُ عن الوضُوءِ، فأرَاهُ الوضُوء ثلاثًا ثلاثًا، ثمَّ قال: ((هكذَا الوُضوءُ، فمن زادَ على هذا فقدْ أساءَ وتعدَّى وظلمَ)) [حديث حسنٌ، أخرجهُ النَّسائيُّ وغيرُهُ] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282] . 7ـ تشبيهُ الفاعلِ بالبهائمِ أو الشَّياطين أو الكفرةَ أو الخاسرين أو نحوِهم، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليسَ لنَا مثلُ السَّوءِ، الَّذي يعودُ في هِبتِهِ كالكلبِ يرجعُ في قيئِهِ)) [متفق عليه من حديث ابن عباس] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما يلبسُ الحريرَ في الدُّنيا من لا خلاقَ لهُ في الآخرةِ)) [متفقٌ عليه من حديث عُمر بن الخطَّابِ] . 8ـ تسميةُ الفعلِ باسمِ شيءٍ آخر محرَّمٍ معلومِ الحُرمة، كوصفِ

الفعلِ بأنَّه زِنا أو سرِقة أو شركٌ، أو غير ذلك، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله كتب على ابنِ آدمَ حظَّهُ من الزِّنا، أدركَ ذلكَ لا محالَةَ، فزِنا العينِ النَّظرُ، وزِنَا اللِّسانِ المنطقُ)) الحديث [متفقٌ عليه عن أبي هريرةَ] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أسوَأُ النَّاسِ سرِقةً الَّذي يسرقُ صلاتَهُ)) قالُوا: يا رسول الله، وكيف يسرقُ صلاتَهُ؟ قالَ: ((لا يُتمُّ رُكُوعهَا ولا سُجُودَهَا)) [حديث صحيحٌ، رواه الدَّارمِيُّ وأحمدُ وغيرهما] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((منْ حلفَ بغيرِالله فقَدْ أشركَ)) [حديثٌ صحيحٌ رواه أبوداود والتِّرمذِيُّ وغيرُهما] . "أقسامه: التَّحريمُ لم يأتِ في شريعةِ الإسلامِ إلاَّ لشيءٍ كانتْ مفسدَتُهُ خالصَةً أو غالبةً، وجميعُ المحرَّماتِ لا تخلو من أن تكونَ على واحدٍ من الوَصْفينِ، وهذه قاعدَةٌ عظيمةٌ في الفقهِ لإدراكِ ما يمكنُ أن يلحقَ بالحرَامِ بحسبِ رُجْحانِ جانبِ المفسدةِ، أو فُقدانِ المصلحَةِ. والمفسدَةُ في المحرَّمِ تكونُ في ذاتِ الشَّيءِ المحرَّمِ، أو يكونُ المحرَّمُ سببًا فيها، وعليه فالمحرَّماتُ قسمانِ: 1ـ محرَّمٌ لذاتِهِ: مثلُ: الشِّركِ، والزِّنا، والسَّرقَةِ، وأكلِ الخِنزيرِ، فهذه حُرِّمت لِذواتِها، ومفاسدُها خالصَةٌ أو راجحَةٌ، ويترتَّبُ على فعلِهَا: الإثمُ

والعِقابُ، وبُطلانُ كونِهَا أسبابًا شرعيَّةً لثبوتِ شيءٍ من الأحكامِ، فالزِّنَا مثلاً لا يثبتُ بهِ النَّسبُ ولا يأخذُ أحكامَ الزَّواجِ الصَّحيحِ، والسَّرقةُ لا تثبتُ المكليَّة للمالِ المسروقِ، وهكذا. 2ـ محرَّمٌ لغيرهِ: هو مباحٌ في الأصلِ أو مشروعٌ لخُلوِّهِ من المفسدَةِ أو رُجحانِ مصلحتهِ، لكنَّه في ظرفِ معيَّنٍ كان سببًا لمفسدةٍ راجحَةٍ، فتعتريهِ الحُرمَةُ في تلكَ الحالِ. مثلُ: البيعِ والشِّراءِ، فإنَّهُ مباحٌ مشروعٌ، إلاَّ أنهُ يحرُمُ عند سماعِ النِّداءِ الأوَّلِ للجُمُعةِ، لما يقعُ بمزوالتِهِ حينئذٍ من تفويتِ الجُمُعةِ، والرَّجلُ يخطبُ امرأةً أجنبيَّةً ليتزوَّجها حلالٌ مباحٌ، لكنَّهُ يحرُم إذا علمَ أنَّ مسلمًا غيره قد تقدَّمَ لِخِطبتها حتَّى ينصرِفَ عنها أو تنصرِف عنه، وإنَّما كانتْ الحرمَةُ العارضَة لما يُسبِّبُ ذلك من العدَاوةِ بين المسلمينَ بسببِ ما يقعُ من الإيذاءِ، ومثلهُ أن يبيع على بيعِ أخيهِ، والصَّلاةُ مشروعةٌ في كلِّ وقتٍ إلاَّ في ساعاتٍ منعت الشَّريعَةُ من الصَّلاةِ فيها دفعًا لمشابهةِ الكُفَّار حيثُ يسجدونَ للشَّمسِ عندَ طُلوعهَا وغُروبهَا. ولوْ أوقعَ المسلمُ الفعلَ من هذه الأفعالِ في وقتِ تحريمِهَا، فهلْ يصحُّ منه الفعلُ مع الإثمِ، أو يفسدُ الفعلُ مع الإثمِ؟ بينَ الفُقهاءِ خلافٌ، وسيأتي في (مبحث النَّهي) .

4ـ المكروه

"تنبيه: فرَّق الحنفيَّةُ في المطلوبِ الكفُّ عنه على وجه الإلزامِ بين ما ثبتَ بدليلٍ قطعيِّ الورود كالقرلآن والسُّنةِ المتواترَةِ، فسمَّوا ما ثبت به (الحرام) ، وما ثبتَ بدليلٍ ظنِّيِّ الورودِ كحديثِ الآحادِ الصَّحيحِ، فسمَّوه: (المكروهُ تحريمًا) ، وهذا شبيهُ ما تقدَّم لهُم في التَّفريقِ بينَ (الفرضِ) و (الواجبِ) ، وجمهُورُ العلماءِ على عدمِ التَّفريقِ، وهو الصَّوابُ. 4ـ المكروه "تعريفه: لُغةً: مادَّتُهُ (كره) وهو أصلٌ يدلُّ على خلافِ الرِّضا والمحبَّةِ، فـ (المكروهُ) ضدُّ المحبوبِ. واصطلاحًا: ما طلبَ الشَّارعُ من المكلَّفِ تركَهُ لا على وجهِ الحتْمِ والإلزامِ، ويثابُ تاركُه امتثالاً، ولا يعاقبُ فاعلُهُ. وقد استُعملَ لفظُ (المكروهُ) في لسانِ الشَّرعِ بِهذا المعنى، وكذلك بمعناهُ اللُّغويِّ الَّذي هو ضدُّ المحبوبِ، فربَّما وُصفَ بهِ (الحرامُ) ، كما في قوله تعالى بعد ذكرِ بعضِ المناهي في سورةِ الإسراءِ: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] ، وجميعها محرَّمٌ، والمعنى فيه أنَّ تلكَ المحرَّماتِ غيرُ محبوبةٍ ولا مرضيَّةٍ، بلْ مُبغضةٌ

مكروهَةٌ، لكن هذا الاستعمالُ لا يُشكلُ على المعنى الاصطلاحيِّ لـ (المكروه) على أنَّه نوعٌ من الأحكامِ التَّكليفيَّةِ غيرُ (الحرام) . "صيغته: تُعرفُ الكراهةُ في الأحكامِ الشَّرعيَّة باستعمالاتٍ تدلُّ عليها، ترجعُ إلى ثلاثةِ أنواعٍ: 1ـ لفظِ (الكراهةِ) كما في حديث المغيرةِ بن شُعبةَ رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله حرَّم عليكُم عقوقَ الأمَّهاتِ، وأودَ البناتِ، ومنعَ وهاتِ، وكرِه لكُم قيلَ وقالَ، وكثرةَ السُّؤالِ، وإضاعَةَ المالِ)) [متفقٌ عليه] ، وفيه تفريقٌ بيِّنٌ بينَ (الحرامِ) و (المكروه) . ومنها: حديثُ المهاجرِ بنِ قُنفُذٍ رضي الله عنه: أنَّهُ أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يبُولُ، فسلَّمَ عليه فلم يرُدَّ عليهِ حتَّى توضَّأ، ثمَّ اعتذَرَ إليه فقال: ((إنِّي كرهتُ أن أذْكُرالله عزَّوجلَّ إلاَّ طُهرٍ (أو قال: على طهارةٍ)) ) [حديثٌ صحيحٌ رواه أبوداودَ وغيرُهُ] ، مع ما ثبتَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كانَ يذْكُرُ الله على كلِّ أحيانِهِ [رواه مسلمٌ عن عائشة] . 2ـ صيغةِ النَّهيِ الَّتي قام بُرهانٌ على صرفهَا عن التَّحريمِ، كحديث عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الشِّفاءُ في ثلاثةٍ: في شرْطةِ مِحجَمٍ، أو شربَةِ عسلٍ، أو كيَّةٍ بنارٍ، وأنا

أنهى عن الكيِّ)) [رواه البخاريُّ] ، فهذا النَّهيُ للكراهَةِ لا للتَّحريمِ، وممَّا دلَّ عليه: حديثُ جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: ((إنْ كانَ في شيءٍ من أدويتِكُم خيرٌ ففي شربةِ عسلٍ، أو شرطَةِ مِحجمٍ، أولَذْعَةٍ من نارٍ، وما أحِبُّ أن أكتوِي)) [متفقٌ عليه] ، فهذا إذنٌ لهُم في التَّداوي بالثَّلاثِ المذكُورَاتِ، معَ كراهَةِ الكيِّ. ومن ذلكَ حديثُ عبد الله بن عُمرَ رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى يومَ خيبرَ عن أكلِ الثُّومِ [رواه البخاريب] ، وهذا النَّهيُ ليسَ للتَّحريمِ بأدلَّةٍ عديدةٍ منها: حديثُ أبي أيُّوبَ الأنصارِيِّ رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أُتي بِطعامٍ أكل منهُ وبعثَ بفضْلِه إليَّ، وإنَّه بعثَ إليَّ يومًا بفضْلةٍ لم يأكلُ منها؛ لأنَّ فيها ثومًا، فسألتُه: أحرَامٌ هُوَ؟ قال: ((لاَ، ولكنِّي أكرَهُهُ من أجلِ ريحِهِ)) قال فإنِّي أكرهُ ما كرِهتَ، وفي روايةٍ: وكانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُؤتَى [رواه مسلم] ، والمقصودُ أنَّه كان يأتيهِ الملكُ. 3ـ التُّروكِ النَّبويَّة الَّتي قُصدَ بها التَّشريعُ لا الَّتي جرتْ بمقتضى الطَّبع البشرِيِّ، وهذا يُقابلُ ما يفيدُه الفعلُ النَّبويُّ من الاستحبابِ، فكذلك يُفيدُ التَّركُ الكراهةَ. ومن أمثلة ما كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تركَهُ عمدًا بقصدِ التَّشريعِ لا بمقتضى

طبعهِ: تركُهُ مُصافحة النِّساءِ في البيعةِ، قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: ما مسَّت يدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدَ امرَأةٍ قطُّ، غيرَ أنَّه بايعهُنَّ بالكلامِ [متفقٌ عليه] ، وقال: - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ أُميمةَ بنتِ رُقيقَةَ: ((إنِّي لا أُصافحُ النِّساءَ، إنما قولي لمئةِ امرأةٍ كقولي لامرأةٍ واحدَةٍ)) [حديثٌ صحيحٌ، رواه مالكٌ وغيرُهُ] ، فهذا تركٌ مقصودٌ للمصافحة، مع أنَّها كانتْ من سُنَّة البيعةِ، وما كان ليدَعَ مستحبًّا، ولا مباحًا يستوي فيه الفعلُ والتَّركُ والمرأةُ تمدُّ إليهِ يدَهَا وهوَ يكفُّ يدَهُ كما جاءَ في بعضِ رِواياتِ هذه القصَّةِ، والتَّركُ المجرَّدُ لا يرقى بنفسهِ إلى أن يكونَ المتروكُ حرامًا، إلاَّ أن يدلَّ على التَّحريمِ دلبيلٌ مستقلٌّ غيرُ التَّركِ، ولم يأتِ في هذه المسألةِ ما يدلُّ على تحريمِ مجرَّدِ المصافحةِ للنِّساءِ إلاَّ أن تكونَ بشهوةٍ، فقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((وزِنَا اليدِ اللَّمسُ)) ، والزِّنا لا يقعُ بغير شهوةٍ، والمصافحةُ تقعُ بشهوةٍ وبغيرِ شهوةٍ، فمجرَّدها مكروهٌ، وبالشَّهوةِ حرامٌ. "مسائل: 1ـ لفظ (الكراهةِ) في استعمالِ العلماءِ جارٍ على معنى الكراهةِ المذكورِ ههنا، سِوى الحنفيَّة فإنَّهُم يقولونَ: كراهةُ تحريمٍ، وكراهَةُ تنزيهٍ، والنَّوعُ الأوَّلُ في تقسيمِهِم هذا من قِسمِ (الحرامِ) كما تقدَّمَ التَّنبيهُ عليهِ، والثَّاني من قسمِ (المكروه) الاصطلاحيِّ.

5ـ المباح

2ـ ويقعُ في كلامِ الشَّافعيِّ وأحمدَ وبعضِ أهلِ الحديثِ استعمالُ لفظِ (الكراهة) بمعنى التَّحريم وبمعنى الكراهةِ الاصطلاحيّضةِ، فلاحِظْ ذلكَ. 3ـ يُلاحظُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا نهى عن شيءٍ، وثبتَ أنَّه فعلهُ، فإنَّ فعلهُ يدلُّ على الجوازِ، ولا يُقال: صُرفَ النَّهي عن التَّحريمِ إلى الكراهةِ، فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - لا يفعلُ المكروهَ. 5ـ المباح "تعريفه: لُغَةً: مادَّتهُ ((بوح)) وتدلُّ على سعةِ الشَّيءِ، ومنه قيلَ: (باحَةُ الدَّارِ) ، ومنهُ جاءتْ (إباحَةُ الشَّيءِ) ، وذلك لكونِه مُوسعًا فيه غيرَ مُضيَّقٍ. واصطلاحًا: ما خيَّر الشَّارعُ المكلَّف بين فعلهِ وتركهِ، ولا يلحقُهُ مدحٌ شرعيٌّ ولا ذمٌّ بفعلهِ أو تركِهِ، إلاَّ أن يقترنَ فعلُه أو تركُه بنيَّةٍ صالحةٍ فيُثابُ على نيَّتِهِ. وهوَ: الحلالُ. "صيغته: تُعرفُ الإباحةُ بطرُقٍ، تعودُ جملتُها إلى أربعٍ:

1ـ الصِّيعةُ الصَّريحةُ في الحلِّ، كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة:5] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في البحرِ حينَ سألوهُ عنهُ: ((هُوالطَّهورُ ماؤُهُ، الحلُّ مَيْتَتُهُ)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ أصحابُ السُّنن] . 2ـ رفعُ الحرجِ أو الإثمِ أو الجُناحِ أو ما في معنى ذلك، كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائكم} [النور: 61] ، وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] ، وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] ، وعن أبي المِنهالِ عبد الرَّحمن بن مُطعمٍ قال: سألتُ البراءَ بن عازبٍ وزيدَ بن أرقمَ عن الصَّرفِ؟ فقالاَ: كُنَّا تاجرَيْنِ على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصَّرفِ؟ فقالَ: ((إن كانَ يدًا بيدٍ فلا بأسَ، وإن كانَ نساءً فلا يصْلُحُ)) [رواه البُخاريُّ] . 3ـ صيغةُ الأمرِ الواردَةِ بعدَ الحظْرِ لِما كان مُباحًا في الأصلِ، كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] ، فهذا أمرٌ جاءَ بعدَ حظْرِ البيعِ عند سماعِ نِداءِ الجُمُعةِ وإيجابِ السَّعيِ إليها، فلمَّا انتهى العرضُ من ذلكَ عادَ الأمرُ إلى الإباحةِ السَّابقةِ بصيغةِ طلبٍ أُريد بها رفعُ الجُناحِ العارضِ لأجلِ

الجُمُعةِ. ومنها: صيغة الأمرِ الواردةِ لإفادةِ نسخِ الحظْرِ والعودَةِ بحكْمِ الشَّيءِ إلى الإباحَةِ كما لو لم يرِدِ الحظَرُ، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((نَهيْتُكُمْ عن زِيارَةِ القُبورِ فزُرُورها، ونهيتُكُمْ عن لُحومِ الأضاحِي فوقَ ثلاثٍ فأمسِكُوا ما بدَا لكُم، ونهيتُكمْ عن النَّبيذِ إلاَّ في سقَاءٍ فاشربُوا في الأسقيةِ كُلِّها ولا تشْرَبُوا مُسكِرًا)) [رواه مسلمٌ] ، فهذه أوامرُ جاءتْ لإزالةِ الحظْرِ الَّذي وردَ لسببٍ، وقد كانتِ الأشياءُ المذكورَةُ قبلَ الحظْرِ مباحَةً، فعادتْ بهذا الأمرِ إلى ما كانتْ عليهِ. 4ـ استصحابُ الإباحةِ الأصليَّةِ، وهذا الَّذي يُقالُ فيه: (الأصلُ في الأشياءِ الإباحَةُ) ، فكلُّ شيءٍ مباحٌ ما لم يرِدْ دليلٌ ينقلهُ من تلكَ الإباحةِ إلى غيرهَا من الأحكامِ التَّكليفيَّة، فلا يُدَّعى وجوبٌ أو استحبابٌ أو تحريمٌ أو كراهَةٌ إلاَّ بدليلٍ ناقلٍ إليها من الإباحةِ. وهذا أصلٌ استُفيدَ من نصوصٍ صريحةٍ في الكتابِ والسُّنَّةِ، وهو مناسبٌ للمعقولِ الصَّريح، فإنَّ من أعظمِ مقاصدِ التَّشريعِ: رفع الحرجِ، والإباحةُ تخييرٌ، ورفعُ الحرج ثابتٌ بها، بخلافِ ما هوَ مطلوبُ الفعلِ أو التَّركِ، فإنَّ المكلَّف محتاجٌ إلى تكلُّفِ القيامِ به ممَّا تحصلُ له به المشقَّةُ، والأشياءُ لا حصرَ لها، فإنْ عُلِّقتْ بغيرِ الإباحَةِ من الأحكامِ التَّكليفيَّةِ لزمَ منها تكليفٌ غيرُ مُتناهٍ، وهذا لا يتناسبُ

معَ قُدرةِ المكلَّفٍِ، ومعَ الرَّحمةِ بهِ. والله امتنَّ على عبادهِ بالإباحةِ للأشياءِ فسخَّر لهُم ما في السَّماواتِ والأرضِ نعمةً منه ورحمةً، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] ، وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] . وهذه قاعدةٌ عظيمةٌ في الفقهِ، فإنَّ الأصلَ في كلِّ شيءٍ الحلُّ حتَّى يوجدَ من الشَّرعِ دليلٌ يُخرجُه من الحلِّ، وأنَّ ما يخرجُ من الحلِّ إلى حُرمَةٍ أو كراهةٍ مفصَّلٌ في الكتابِ والسُّنَّة، وهو محصورٌ معدودٌ يُمكنُ أن تُستقصى أفرَادُه، ألم تقرأْ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] ، وقوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} …. [الأنعام: 145] ، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ....} [الأعراف: 33] ، وقوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ؟ وحتى الَّذي يجري المنعُ منه عن طريقِ القياسِ فإنَّه لا يحوِّلُ الأصلَ إلى أن يُقالَ: (الأصلُ في الأشياءِ الحُرمَةُ) ، فلو وصَلَ القياسُ بأصحابِهِ إلى هذا المعنى المعكوس لكانَ ذلكَ دليلاً بنفسهِ على فسادِ قياسِهِمْ.

"انتقال الشيء عن حكم الإباحة: ليستْ أصنافُ المباحاتِ قابلةً للحصرِ، لكنْ لمَّا كانتِ الإباحَةُ فيها استواءُ طرَفَي الفِعلِ والتَّركِ جازَ أن تيملَ إلى أحدِ الطَّرفينِ باعتبارِ عارضٍ، فالقاعدة أن يُقال: يبقى حُكمُ الإباحةِ للشيءِ ثابتًا ما لمْ يترجَّحْ فيهِ جانبُ المفسدَةِ أو جانبُ المصلحةِ، فإذا ترجَّحَ أحدُ الجانبينِ فإنَّ المفسدَةَ الرَّاجحَةَ تُحيلُ المُباحَ مكروهًا أو محرَّمًا، والمصلحة الرَّاجحة تُحيلهُ مندوبًا أو واجبًا، فالشَّيءُ يكتسبُ حكمًا تكليفيًّا جديدًا باعتبارِ عارضٍ أخرجهُ عنِ الإباحَةِ. أمثلة: 1ـ الأكلُ والشُّربُ مباحانِ من جميعِ الطَّيِّباتِ، لكنَّ الإسراف فيهما إلى حدِّ التُّخمةِ مكروهٌ، قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ملأ آدميٌّ وِعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسبِ ابن آدمَ أُكُلاتٌ يُقمنَ صُلبهُ، فإن كان لا محالةَ فثُلثٌ لطعامِهِ وثلثٌ لشرابِهِ، وثلثٌ لنفسِهِ)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ التِّرمذِيُّ وغيرُه] . 2ـ اللَّهوُ واللَّعبُ مباحانِ في غاير محرَّمٍ معلومِ الحُرمةِ، فإذا سبَّبا تفويتَ فريضةٍ كإخراجِ الصَّلاةِ عن وقتها، أو جرَّا إلى محرَّمٍ كالتَّعدِّي على الغيرِ أو مواقعةِ فاحشةٍ، انتقلا إلى التَّحريمِ.

3ـ النَّومُ مباحٌ، فإذا كان للتَّقوِّي على طاعة الله أو كسبِ الرِّزقِ صارَ مُستحبًّا. 4ـ الصَّومُ في السَّفرِ مباحٌ، فقد قال أنسُ بن مالكٍ رضي الله عنه: كُنَّا نُسافرُ مع النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يَعِبِ الصَّائمُ على المفطرِ، ولا المفطِرُ على الصَّائمِ. وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ حمزة بن عمرٍو الأسلميِّ قال للنَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أأصُومُ في السَّفرِ؟ وكان كثيرَ الصَّوم، فقال: ((إن شئتَ فصُمْ وإن شئتَ فأفْطِرْ)) [متفقٌ عليهما] ، لكنَّ الفطرَ يكونُ واجبًا إذا أضرَّ الصَّومُ بالمسافرِ. فعن جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرجَ عامَ الفتحِ إلى مكَّةَ في رمضانَ، فصامَ حتَّى بلغَ كُراعَ الغميمِ، فصامَ النَّاسُ، ثمَّ دعا بقدَحٍ من ماءٍ (وفي روايةٍ: فقيلَ لهُ: إنَّ النَّاسَ قد شقَّ عليهُمُ الصِّيامُ، وإنمَا ينظرونَ فيما فعلتَ، فدَعَا بقدحٍ من ماءٍ بعدَ العصرِ) فرفعهُ حتَّى نظر النَّاسُ إليه ثمَّ شرِبَ، فقيلَ لهُ بعد ذلكَ: إنَّ بعضَ النَّاسِ قد صامَ، فقالَ: ((أُولئكَ العُصاةُ، أولئكَ العُصاةُ)) [أخرجهُ مسلمٌ بالرِّوايتينِ] ، ولا يسمَّى عاصيًا من فعلَ مُباحًا. * * *

الحكم الوضعي

الحكم الوضعي "تعريفه: هو ما يقتضي جعلَ شيءٍ سببًا لشيءٍ آخرَ، أو شرطًا، أو مانعًا منه. وسُمِّي (وضعيًّا) لأنه موضوعٌ من قِبلِ الشَّارعِ، فهوَ الَّذي قرَّرَ مثلاً: أنَّ السَّرقةَ سببٌ لقطعِ اليَدِ، والوضوءَ شرطٌ لصحَّةِ الصَّلاةِ، وقتلَ الوارثِ مورِّثه مانعٌ من الميراثِ، من غيرِ أن يتعلَّقَ بطلبٍ من المكلَّفِ. ومنهُ تُلاحظُ الفرقَ بينَ (الحكم التَّكليفيِّ) و (الوضعيِّ) بكونِ الأوَّلِ داخلاً تحتَ قُدرَةِ المكلَّفِ، وأمَّا الثَّاني فليس مبنيًّا على قُدرةِ المكلَّفِ أو عدمِ قُدرتِه، إنما هو قرارُ الشَّريعةِ في اعتبارِ الأشياءِ أو عدمِ اعتبارِهَا. "أقسامه: من خلالِ تعريفِ الحكمِ الوضعيِّ يُلاحظُ أنَّ البحثَ فيه يعودُ إلى أنواعٍ ثلاثةٍ: السَّبب، والشَّرطِ، والمانعِ، ووجودُ كلٍّ منها أو تخلُّفُه (عدَمُ وجودِهِ) يتفرَّعُ عنه صحّضةُ العملِ أو فسادُهُ، كما يتفرَّعُ ما وضعَتْهُ الشَّريعةُ من الاعتباراتِ التَّابعةِ لقُدرةِ المكَلَّفِ على الامتثالِ إلى: عزيمةٍ، ورُخصةٍ.

1ـ السبب

فهذه خمسةُ أقسامٍ: السَّببُ، الشَّرطُ، المانعُ، الصِّحَّةُ والبُطلانِ (أو الفَساد) ، الرُّخصةُ والعزيمةُ، وهذا بيانُهَا: 1ـ السَّببُ "تعريفه: لُغَةً: كُلُّ شيءٍ يُتوصلُ بهِ إلى غيرِهِ. واصطلاحًا: الأمرُ الَّذي جعلَ الشَّرعُ وجودَهُ علامةً على وجودِ الحُكمِ، وعدَمَهُ علامةً على عدَمِ الحُكمِ. فإذا كانَ السَّببُ معقولَ المعنى يُدرِكُ العقلُ مناسبَتَهُ للحُكمِ سُمِّي ب (العلَّة) كما يُسمَّى (السَّببُ) ، مثلُ: الإسكَارِ علَّةٌ لتحريمِ الخمْرِ. وإذا كانَ السَّببُ غيرَ معقولَ المعنى، بأنْ خفِيَ علَى العقلِ أنْ يُدركَ مُناسبَتَهُ للحُكمِ، فيُقتصرُ على تسميتهِ (سببًا) ولا يُسمَّى (علَّةً) ، مثلُ: دخولِ الوقتِ سببٌ لوجوبِ الصَّلاةِ. فائدةُ هذا التَّفصيلِ: ما سُمِّي (علَّةً) صحَّ فيه القياسُ، وما لمْ يُسمَّ (علَّةً) امتنعَ فيهِ القياسُ. ومِمَّا يُساعدُ على معرفةِ كونِ الشَّيءِ سببًا: إضافَةُ الحُكمِ إليهِ، تقولُ مثلاً: (صلاَةُ المغربِ، وصومُ الشَّهرِ، وحدُّ الشُّربِ، وكفَّارةُ اليمينِ) ،

فالمغربُ والشَّهرُ والشُّربُ واليمينُ أسبابٌ لما أُضيفَتْ إليه من الأحكامِ. "تقسيمه: ينقسمُ (السَّببُ) باعتبارِ من سبَّبه إلى قسمينِ: 1ـ ما جعلتْهُ الشَّريعةُ سببًا ابتداءً من غيرِ أن يكونَ للمكلَّفِ فعلٌ فيه. من أمثلتهِ: [1] زوالُ الشَّمسِ لوجوبِ صلاةِ الظُّهرِ، قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] . [2] دُخولُ الشَّهر لوُجوبِ صومِ رمضانَ، قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . [3] الاضطِرارُ لجوازِ أكلِ الميتَةِ، قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] . [4] المرضُ لإباحةِ الفِطرِ، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . 2ـ ما سببُهُ المكلَّفُ فرتَّبَتِ الشَّريعة الآثارَ على وجودِهِ. من أمثلتِهِ:

3ـ الشرط

[1] السَّفرُ لإباحةِ الفِطرِ، قال تعالى في الآية المتقدمة: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} . [2] الزِّنَا لإقامةِ الحدِّ، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] . [3] الرِّدَّة لإباحةِ دَمِ المرتدِّ، قال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدَّل دينَهُ فاقْتُلوهُ)) [أخرجه البُخاريُّ] . [4] الإهداءُ لمِلكِ المُهدَى إليهِ للهديَّة، والبيعُ لِملكِ المشتري للسِّلعةِ، والتَّصدُّقُ لملكِ المُتصدَّقُ عليه للصَّدقَةِ، فهذهِ وشِبهُهَا أسبابٌ لنقلِ ملكيَّةِ الشَّيءِ لمن صارتْ إليهِ، ويكونُ بها حُرَّ التَّصرُّفِ فيها. 3ـ الشَّرط "تعريفه: لُغَةً: العلامَةُ واصطلاحًا: ماتوقَّفَ وجودُ الشَّيءِ على وجودِهِ، وليسَ هوَ جزْءًا من ذاتِ ذلكَ الشَّيءِ، بلْ هوَ خارجٌ عنهُ، كما لا يلزمُ من جودِهِ وُجودُ ما كانَ شرْطًا فيهِ.

من أمثلتِهِ: [1] الوُضوءُ لصحَّةِ الصَّلاةِ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية [المائدة: 6] ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لايقبلُ الله صلاةً بغيرِ طُهورٍ)) [أخرجهُ مسلمٌ وغيرُهُ عن ابن عمرَ] . فصحَّةُ الصَّلاةِ موقوفةٌ على وجودِ شرطِ الوُضوءِ، وليسَ الوُضوءُ جزءًا من نفسِ الصَّلاةِ، كما لا يلزمُ من وُجودِ وجودُ الصَّلاةِ. [2] إذنُ وليِّ الزَّوجةِ شرْطٌ لصحّضةِ عقدِ النِّكاحِ عندَ جُمهورِ العلماءِ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا نكاحَ إلاَّ بِولِيٍّ)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ أصحابُ السُّنن وغيرُهم] . "الفرق بين الشَّرط والرّكن يشتركُ (الشَّرطُ) و (الُّركن) في أنَّ كُلاًّ منهما يتوقَّفُ عليهِ وجودُ الشَّيءِ، فالوضُوءُ شرطٌ للصَّلاةِ، والرُّكوعُ رُكنٌ فيها، ولا بُدَّ من وجودِ كلٍّ منهمَا لصحَّةِ الصَّلاةِ، لكنْ يُلاحظُ الفرقُ بينهمَا في أنَّ: الشَّرطَ خارجٌ عن نفسِ الصَّلاةِ ليس جُزءًا منها. والرُّكنَ جزءٌ من نفسِ الصَّلاةِ

"أقسامه: ينقسمُ الشَّرطُ باعتبارِ مُشترِطِهِ إلى قسمينِ: 1ـ شرطٌ شَرْعِيٌّ وهوَ الَّذي جعلتْهُ الشَّريعةُ شرطًا، كَحَولِ الحوْلِ علَى المالِ الَّذي بلغَ النِّصابَ لإيجابِ الزَّكاةِ فيهِ. 2ـ شرطٌ جَعْلِيٌّ: وهو الَّذي يضعُهُ النَّاسُ باختيارِهم في تصرُّفَاتِهمْ ومُعاملاَتِهِمْ لا في عبادَاتِهم، كَالشُّرُوطِ الَّتِي يصطلحونَ عليها في عُقُودِهِمْ. والفُقهاءُ مختلفُونَ في هذا النَّوعِ من الشُّروطِ في صحَّتهَا أو فسادِهَا، وما تدلُّ عليهِ الأدلَّةُ فيه التَّفصيلُ، وذلكَ بتقسيمِهِ إلى قِسمينِ: [1] شرْطٌ صحيحٌ: وتُعرفُ صحَّتُهُ بأنْ لا يكونَ ورَدَ في الشَّرعِ ما يُبطِلُهُ، مثالُهُ: اشْترَاطُ البائعِ منفعةً معيَّنةً على المشتري في عقْدِ البَيعِ لا تُنافي مقصودَ البَيعِ، فقدْ صحَّ عن جابرِ بن عبدِالله رضي الله عنهما أنَّهُ كان يسيرُ على جملٍ لهُ قَدْ أعْيَا، فمرَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فضرَبَهُ، فسارَ سَيْرًا ليسَ يسيرُ مِثْلَهُ، ثمَّ قالَ: ((بِعْنِيهِ بِأوقيَّةٍ) فبِعتُهُ، فاسْتَثْنيتُ حُمْلانَهُ إلى أهلِي، فلمَّا قَدِمْنَا أتيتُهُ بالجمَلِ ونقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثمَّ انصرَفْتُ، فأرسَل على أثرِي قالَ: ((مَا كُنتُ لآخُذَ جمَلَكَ، فَخُذْ جمَلكَ ذلكَ فهُوَ مَالُكَ)) [متَّفقٌ

عليه] . وما رُوي من النَّهي عن بيعٍ وشرطٍ فلا يصحُّ من جهةِ الإسنادِ، وكذلك كلُّ شرطٍ عُرفيٍّ في أيِّ عقدٍ ليس معارضًا لدليل في الشَّرعِ فهو شرطٌ صحيحٌ. والدَّليل على صحَّةِ الشُّروطِ في الأصلِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وقوله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] ، وقال النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أحقُّ الشُّروطِ أن توفُو بها ما استحللْتُم بهِ الفُروجَ)) [متفقٌ عليه عن عقبة بن عامرٍ] . [2] شرطٌ باطلٌ: ويعرفُ بُطلانه بوُرود ما يُبطِلهُ في الشَّرعِ، ومثالهُ: حديثُ عائشة رضي الله عنها قالتْ: جاءتْني بريرةُ فقالتْ: كاتبتُ أهلي على تسعِ أواقٍ، في كلِّ عامٍ أُوقيةٌ، فأعينيني، فقالت: إن أحبُّوا أن أعدَّها لهم ويكونَ ولاؤكِ لي فعلتُ، فذهبتْ بريرةُ إلى أهلها فقالت لهم، فأبوا عليها، فجاءتْ من عندِهِم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسٌ، فقالتْ: إنِّي عرضتُ ذلك عليهم، فأبوا إلاَّ أن يكونَ الولاءُ لهم فسمعَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرتْ عائشةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((خُذيها واشترطِي لهمُ الولاءَ، فإنما الولاءُ لمن أعتقَ، ففعلتْ عائشةُن ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النَّاسِ فحمدَالله وأثنى عليه، ثم قال: ((ما بالُ رِجالٍ يشترطُونَ شروطًا ليستْ في كتابِ الله؟ ما كانَ من شرْطٍ ليس في

3ـ المانع

كتابِ الله فهوَ باطلٌ وإن كانَ مائَة شرْطٍ، قضاءُ الله أحقُّ، وشرْطُ الله أوثقُ، وإنما الولاءُ لمنْ أعتقَ)) [مُتَّفقٌ عليه] . والمقصودُ من كونِ الشَّرطِ في كتابِ الله أو ليس فيهِ أن يكونَ مشروعًا لا ممنوعًا، وهو التَّقسيمِ المذكُورِ. على هذا مذهبُ الحنابلةِ وطائفةٍ غيرهِم من الفُقهاءِ، والدَّليلُ فيه أبينُ، وهو المناسبُ لاعتبارِ المصالحِ والمفاسِدِ. ومذهبُ الحنفيَّةِ قريبٌ منه، لكنَّهم قالوا: هو ثلاثَةُ أقسامٍ: شرطٌ صحيحٌ، وشرطٌ فاسدٌ، وشرطٌ باطلٌ، وفرَّقوا بين الفاسِدِ والباطلِ بأنَّ الفاسدَ ما كانَ فيه منفعةٌ لكنَّه معارضٌ لوصفِ الصَّحيحِ فيفسُدُ به العقدُ لذلكَ، أما الباطلُ فليسَ ممَّا يصحُّ العقدُ به أو يفسدُ بلْ هو شيءٌ خارجٌ عن نفسِ العقدِ، فهوَ بمنزلَةِ اللَّغوِ لا يُؤثِّرُعلى العقدِ، وستأتي المسألَةُ قريبًا. 3ـ المانع "تعريفه: لُغةً: من (المنع) وهوَ أن تحولَ بين الشَّخصينِ وبينَ الشَّيءِ فتجعلَ بينهما (مانعًا) . واصطلاحًا: ما رتَّب الشَّرعُ على وجودِهِ العدَمَ.

"هو قسمان: 1ـ مانعٌ للحُكمِ: والمعنى: أن يقعَ فعلٌ من المكلَّف يستوجبُ حُكمًا شرعيًّا بأن وُجدَ في ذلكَ الفعلِ تحقُّقُ الأسبابِ الموجِبةِ لذلكَ الحُكمِ، فوضعَت الشَّريعَةُ (مانعًا) دونَ تنفيذِ ذلك الحُكْم. مثالهُ: قولهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُقتلُ والدٌ بولَدِهِ)) [حديثٌ صحيحٌ لغيره أخرجهُ التِّرمذيُّ وغيرُهُ] ، فهذا (مانعٌ) عند جمهورِ العلماءِ من إقامةِ القِصاص على الوالدِ إذا قتلَ ابنَه عمدًا، فمعَ استيفاءِ الوالدِ لشُروطِ القِصاصِ فقدْ جعلتِ الشَّريعَةُ أبوَّته مانعةً من القصاصِ. 2ـ مانعٌ لسبب: والمعنى: أن تكونَ الشَّريعةُ قرَّرت حكمًا تكليفيًّا بناءً على وجودِ سببٍ اقتضى وجودُهُ وجودَ ذلك الحُكمِ، لكنْ عرضَ دُون إعمالِ ذلك السَّببِ (مانِعٌ) أسقطَ السَّببَ والحُكمَ. مثالُهُ: مكلَّفٌ ملكَ نصابَ الزَّكاةِ وحالَ الحولُ عليهِ عندَهُ، لكنَّه جمع ذلكَ المالَ لدينٍ عليهِ، فظاهرُ الأمرِ وجوبُ تنفيذ حكمِ إخراجِ الزَّكاةِ لوجودِ السَّببِ المقتضي لذلكَ وهو ملكُ النِّصابِ، لكنْ عرض لذلكَ السَّببِ (مانعٌ) من الاعتبارِ فألغاهُ، وهوَ (الدَّين) ، فقد صحَّ عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا صدَقة إلاَّ عن ظهرِ غِنًى)) [رواه أحمدُ وغيرهُ

4ـ الصحة والبطلان

بسندٍ صحيحٍ من حديثَ أبي هريرةَ] ، والله عزَّ وجلَّ جعل في أصنافِ الزَّكاةِ الغارمينَ، وصاحبُ الدَّينِ غارمٌ، فاستقامَ أن لا تجبَ عليهِ الزَّكاةُ وإن وُجدَ سببُ الوجوبِ وهو بلوغُ النِّصابِ، لأنهُ إنَّما يجمعُ لأجلِ الدَّينِ. 4ـ الصحة والبطلان "المقصود بهما: أفعال المكلَّفين إذا استوفتْ شروطَها وانتفتْ موانِعُها ووقعتْ على أسبابهَا فقد حكمَ الشَّرعُ بأنَّها (صحيحةٌ) ، وإذا اختلَّ ذلك أو بعضُهُ فقد حكم َ الشَّرعُ بأنَّها (باطلةٌ) . و (الصَّحيحُ) ما ترتَّبتْ عليه آثارُهُ الشَّرعيةُ، من: براءةِ الذِّمةِ وسُقوطِ المطالبةِ في العباداتِ، ونفاذِ العقدِ في العقُودِ والتَّصرُّفاتِ فلاَ يُطالبُ المكلَّفُ بإيقاعِ نفسِ العبادةِ مرَّةً أخرى ما دامَتْ قدْ حقَّقتْ وصفَ الصِّحَّةِ، كما أنَّ عقدَ البيعِ مثلاً حوَّل مِلكيَّةَ المبيعِ من البائعِ إلى المشتري بغيرِ ريبَةٍ ما كانَ العقدُ قدْ حقَّقَ وصفَ الصِّحَّة. , (الباطِلُ) ما لا تترتَّبُ عليهِ الآثارُ الشَّرعيَّة، فلا تبرأُ الذِّمةُ لمن صلَّى بغيرِ طُهورٍ مختارًا، ولا يصحُّ طلاقُ من أُكرِهَ على الطَّلاقِ، لوجودِ مانع من صحَّةِ هذا التَّصرُّفِ.

5ـ العزيمة والرخصة

لا فرقَ بين الباطل والفاسد: جمهورُالعلماء على عدمِ التَّفريق بين وصفِ الشَّيءِ بأنه (باطلٌ) أو (فاسدٌ) . والحنفيَّةُ وافقوهم على عدمِ التَّفريقِ بين الوصفينِ في العباداتِ، لكن خالفُوهم في المعاملاتِ ففرَّقوا بينهما، فقالوا: 1ـ الباطلُ: ما رجعَ الخللُ فيه إلى أركانِ العقدِ، مثل: (بيع المجنونِ) فإنَّ الشَّارعَ ألغى اعتبارَ عقُودِهِ وتصرُّفاتهِ، وأهليَّةُ العاقِدِ من أركانِ صحَّةِ البيعِ، فالبيعُ باطلٌ غيرُ نافِذٍ. 2ـ الفاسدُ: ما رجعَ الخللُ فيه إلى أوصافِ العقدِ لا إلى أركانِهِ، مثل: (النِّكاح بغيرِ شُهودٍ) إذ الشُّهودُ فيه من أوصافِ العقدِ لا منْ أركانِهِ، فالعقدُ فاسدٌ لكن تترتَّبُ عليه آثارٌ شرعيَّةٌ، فيجبُ للمرأةِ المهرُ إذا دخل بها، كما تجبُ عليها العدَّةُ، ويُلحقُ الولدُبهمَا. وقولُ الجمهورِ أظهرُ في عدَمِ التَّفريقِ. 5ـ العزيمة والرخصة "تعريفهما: العزيمةُ لغَةً: الإرادَةُ المؤكَّدة، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ

أسباب الرخص

عَزْمًا} [طه: 115] أيْ: قصدُ مؤكَّدٌ في فعلِ ما أُمِرَ به. وشرعًا: اسمٌ لما هوَ الأصلُ في المشروعاتِ غيرُ متعلِّقٍ بالعوارضِ. مثالهَا: الصَّلاةُ في أوقاتهَا هي الأصلُ، فهي العزيمةُ، وإتمامُ الصَّلاةِ هو الأصلُ فيها، فهو العزيمةُ، وحرمَةُ الميتةِ هي الأصل، فهي العزيمة. والرُّخصةُ لغةً: اليُسرُ والسُّهولَةُ. وشرعًا: اسمٌ لِما شُرعَ متعلِّقًا بالعوارضِ خارجًا في وصفِهِ عن أصلهِ بالعُذْرِ. مثالُها: جمعُ الصَّلاتينِ للعُذرِ كالسَّفرِ والمطرِ، وقصرُ الصَّلاةِ للمسافرِ، وإباحَةُ الميتةِ للمُضطَرِّ، أحكامٌ خارجَةٌ عن الأصلِ الَّذي هو العزيمَةُ، والمؤثِّرُ فيها العُذْرُ. فالعزيمَةُ أصلُ الأحكامِ التَّكيفيَّة، والرُّخصَةُ الخرُوجُ عن الأصلِ بِعُذرٍ. وعليه فالرُّخصةُ باقيةٌ ببقاءِ العُذرِ، متفيةٌ بانتفائِهِ. أسباب الرخص: الأسبابُ الَّتي ترجعُ إليها جميعُ الرُّخصِ الشَّرعيَّةِ سبعةٌ، إليكَهَا

1ـ ضعفُ الخلقِ، سببٌ لإسقاطِ التَّكليفِ عن الصَّبيِّ والمجنونِ، وتخفيفِ التَّكليفِ في حقِّ النِّساءِ فلم تجبْ عليهنَّ جُمُعةٌ ولا جماعةٌ ولا جهادٌ. 2ـ المرضُ، سببٌ للفطرِ في رمضانَ، والصَّلاةِ من قعُودٍ أوِ اضطِجاعٍ، وتناولِ الممنُوعِ للعلاجِ إن فقدَ سِواهُ. 3ـ السَّفرُ، سببٌ للفطرِ في رمضانَ، وقصرِ الصَّلاةِ الرُّباعيَّةِ، وسُقوطِ الجُمُعةِ، والزِّيادَةِ في مُدَّةِ المسحِ على الخُفَّينِ. 4ـ النِّسيانُ، سببٌ لإسقاطِ الإثمِ والمؤاخَذةِ الأخرَويَّةِ، وصحَّةِ الصَّومِ لمن أكَلَ أو شرِبَ وهوَ كذلكَ. 5ـ الجهلُ، سببٌ لإسقاطِ المُؤاخذَةِ إذا لم يقعْ بتقْصيرٍ في التَّعلُّم، كما يكونُ سببًا لرَدِّ السِّلعةِ بعدَ شِرائِهَا لعيبٍ جهِلَهُ المشترِي وقتَ التَّبايُعِ، كما يكونُ سببًا للعُذْرِ في خَطإ الاجتهادِ، لأنَّ المجتهِدَ بنى على ظنِّ العلمِ. 6ـ الإكراهُ، سببٌ لإباحةِ الوُقوعِ في المحظُوراتِ دَفْعًا للأذَى الَّذي لا يُحتَمَلُ. 7ـ عُمُومُ البلْوَى، وهوَ في الأمْرِ الَّذِي يَعْسُرُ الانفِكَاكُ عنهُ، كالنَّجاسةِ الَّتي يشقُّ الاحتِرازُ عنهَا، كمنْ بهِ سلسُ بوْلٍ، واحتمالِ يسيرِ الغَبْنِ في البُيُوع، ونحوَ ذلكَ.

أنواع الرخص

أنواعُ الرُّخص: الرُّخصُ الشَّرعيَّةُ تعودُ إلى أنواعٍ ثلاثةٍ: 1ـ إباحَةُ المحرَّم لعُذرِ الضَّرورةِ، وإليه ترجعُ قاعدَةُ: (الضَّرُوراتُ تُبيحُ المحظُوراتِ) . مثالهَا: التَّلفُّظُ بكلمةِ الكُفرِ عندَ الإكراهِ، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 116] ، وأكلُ الميتةِ والدَّمِ ولحمِ الخنزيرِ وشُربِ الخمرِ للمُضطرِّ، كما قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173، وقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] . 2ـ إباحَةُ تركِ الواجبِ، وفيهِ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وإذا أمرْتُكُم بأمرٍ فَأْتُوا منهُ ما استَطعتُمْ)) [متفقٌ عليه من حديثِ أبي هرَيرةَ] . مثالها: تركُ القيامِ في الصَّلاةِ للعاجزِ مع فرْضِهِ، فعنْ عمرانَ بنِ حُصينٍ رضي الله عنه قال: كَانَتْ بي بواسيرُ، فسألتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الصَّلاةِ؟ فقال: ((صلِّ قائمًا، فإن لم تستطِعْ فقاعدًا، فإنْ لم تستطِعْ فعلى جنبٍ)) [أخرجه البُخاريُّ] . والفِطرُ في رمضانَ للمسافرِ والمريضِ، قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] . 3ـ تصحيحُ بعضِ العُقودِ مع اختلالِ ما تصحُّبه رفعًا للحرجِ

درجات الأخذ بالرخص

وتيسيرًا على النَّاسِ. مثالها: الإذنُ في بيعِ السَّلمِ (أو: السَّلف) ، أو عقدِ الاستِصناعِ، مع أنَّ كلاًّ منهما بيع معدومٍ ليسَ موجودًا وقتَ التَّعاقُدِ، نعمْ ذلك بشُروطٍ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((منْ أسلفَ في شيءٍ ففي كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، على أجلٍ معلومٍ)) [متَّفقٌ عليه عن ابنِ عبَّاسٍ] . درجات الأخذ بالرخص: الأخذُ بالرُّخصِ الشَّرعيَّةِ يتفاوَتُ حكمُهُ إباحَةً ونَدبًا ووجوبًا، فهو على أربعِ درجاتٍ: 1ـ التخييرُ بين الأخذِ بالرُّخصةِ وتركهَا. مثالهُ: الفطرُ للمسافرِ عند استواءِ حالهِ بالصَّومِ والفطرِ، فإنَّ له أن يُفطرَ أو يصومَ من غيرِ بأسٍ، كما قال حمزَةُ بنُ عمرٍو الأسلميُّ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَأصُومُ في السَّفرِ؟ وكان كثيرَ الصَّومِ، فقالَ: ((إن شئتَ فصُمْ، وإنْ شئتَ فأفطِرْ)) [متفقٌ عليه] . 2ـ تفصيلُ الأخذِ بالرُّخصةِ. مثالهُ: قصرُ الصَّلاةِ في السَّفرِ، فإنَّها رُخصةٌ جرىالعملُ النَّبويُّ على الأخذِ بها في جميعِ الأسفارِ، حتَّى أنهُ لم يصحَّ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتمَّ صلاةً قطُّ في السَّفرِ، وهذه المُداومةُ دالَةٌ على تفصيل الأخذ بالرُّخصةِ. هذا على مذهبِ جمهورِ العلماءِ في أنَّ قصرَ الصَّلاةِ في السَّفرِ سُنَّةٌ،

هل يمنع الأخذ بالرخص؟

خلافًا لمن ذهبَ إلى وجوبهَا. 3ـ تفضيل التَّرك للرُّخصةِ. مثالهَا: احتمالُ الأذى في الله لمن أُكرهَ على أن يقولَ كلمَةَ الكُفرِ بلسانِهِ، فإنْ أرادَ أن يأخذَ برُخصةِ الله لهُ فلهُ ذلكَ، وإن صبرَ وَاحتملَ ولو بلغَ الأمرُ إلى قتلِهِ فذلكَ أفضلُ، وقد كَانَ هذا حالَ المُرسلينَ وكثيرٍ من أتباعهمْ. 4ـ وجوبُ الأخذِ بالرُّخصةِ. مثالهُ: أكلُ المُضطرِّ للميتةِ دفعًا للهلكَةِ عن نفسهِ، فإنَّ تحريم الميتةِ إنَّما كان لضررهَا على النَّفسِ، فحينَ كانتْ سببًا للحياةِ أُبيحتْ، والهلاكُ أعظمُ الضَّررِ بالنَّفسِ، فيُدفعُ الضَّررُ الأكبرُ بارتكابِ الضَّررِ الأدنَى، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] . هل يُمنعُ الأخذ بالرُّخص؟ صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: ((إنَّ الله يحبُّ أن تُؤتَى رُخصَهُ، كما يكرهُ أن تُؤتَى معصيتُهُ)) [أخرجهُ أحمدُ وغيرُهُ] ، فما أحبَّهُ الله تعالى لا يصحُّ أن يقالَ: هو ممنُوعٌ منعَ كرَاهَةٍ ولا منعَ تحريمٍ. وفي الحديث المذكورِ كراهةُ تركِ الأخذ بالرُّخصِ تنزُّهًا عنها، فإنه لا يصحُّ التَّنزُّه عمَّا يُحبُّه الله تعالى، ويؤكِّدهُ حديثُ عائشةَ رضي الله

عنها قالتْ: صنعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرًا فترخَّص فيه، فبلغَ ذلكَ ناسًا من أصحابهِ فكأنَّهُم كرهُوهُ وتنزَّهوا عنهُ، فبلغَه ذلكَ فقامَ خطيبًا فقالَ: ((ما بالُ رِجالٍ بلغَهُم عنِّي أمرٌ ترخَّصتُ فيهِ فكرِهوهُ وتنزَّهُوا عنهُ، فوالله لأنا أعلمُهم بالله وأشدُّهُمْ لهُ خشيَةً)) [متفقٌ عليه] . أمَّا ما يُروى عن بعضِ السَّلفِ والعلَماءِ من كرَاهةِ تتبُّعِ الرُّخصِ وذَمِّ من يفعلُ ذلكَ، فليسَ كلامُهُم في رُخصِ الله ورسولهِ ممَّا جاءتْ بِهِ الشَّريعةُ، إنَّما الرُّخصُ الَّتِي يستفيدُها النَّاسُ من خلافِ الفُقهاءِ، فهذا العالمُ حرَّمَ كذا وهذا رخَّص فيه، فذمَّ العلماءُ من يبحثُ عن تلكَ الرُّخص ويعملُ بها أو يُشيعُهَا بين النَّاسِ ذَمًّا شديدًا، لأنهَا تصيرُ بفاعلِ ذلكَ إلى استحلالِ ما حرَّم الله ورسولُه، فالمجتهِدُ قدْ يقُولُ الرَّأيَ في الشَّيءِ يخالفُ حكمَ الله ورسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، لا بقصدٍ منهُ بلْ باجتهادِهِ ظنًّا منهُ أنَّهُ الصَّوابُ، فمن عمَدَ إلى رُخصَةِ هذا العالمِ أو ذاكَ ممَّا أخطأَوا فيهِ فتتبَّعَهُ فقدِ اجتمَعَ فيه الشَّرُّ كلُّهُ. حكى إسماعيلُ بنُ إسحاقَ القاضِي المالكيُّ أنَّهُ دخَلَ على الخليفةِ المعتضِدِ بالله العبَّاسِيِّ، قال: فدَفعَ إليَّ كتابًا، فنظرتُ فيهِ، فإذا قدْ جُمعَ لهُ فيه الرُّخصُ من زَللِ العلماءِ، فقلتُ: مُصنِّفُ هذا زِنْدِيقٌ، فقالَ: ألمْ تصحَّ هذه الأحاديثُ؟ قلتُ: بلى، ولكن من أباحَ المسكِرَ لم يُبِح المُتْعةَ، ومن أباحَ المُتعَةَ لم يُبِحِ الغِناءَ، وما من عالمٍ إلاَّ ولهُ زّلَّةٌ، ومن أخذَ بكُلِّ زَللِ العُلماءِ ذهبَ دينُهُ، فأمرَ بالكتابِ فأُحْرِقَ [سِير أعلام النُّبلاء

فرع في الأداء والقضاء والإعادة

13/465] . وإنَّما الواجبُ في هذا أن ينظُرَ في حُكمِ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فتُقاسَ رُخصُ المجتهدينَ بموافقَتهَأ للكتابِ والسُّنَّةِ أو مخالفتها لهمَا، فإن~ وافقَتْ فهي رُخصَةٌ شرعيَّةٌ يحبُّهَا الله والأخذُ بها حسنٌ، وإنْ خالفَتْ فلهَا حكمُهَا من الحُرمَةِ أو الكراهَةِ. فرع: ممَّا يتَّصلُ بـ (الحُكمِ الوَضْعِيِّ) مسمَّياتٌ شرعيَّةٌ ثلاثَةٌ هي أوصَافٌ للعبادَةِ باعتبارِ الوقتِ الَّذي تُؤَدَّى فيهِ، وهي: 1ـ الأَدَاءُ: وهوَ إيقاعُ العبادَةِ في وقتِهَا المعيَّنِ لها شرعًا. 2ـ القضاءُ: وهوَ إيقاعُ العبادَةِ خارجَ وقتِهَا الَّذِي عيَّنَهُ الشَّارعُ. وجديرٌ بالتَّنبيهِ عليه ههُنَا أنَّ القضاءَ لم يرِدْ في نصوصِ الشَّرعِ إلاَّ في إيقاعِ العبادَةِ بعدَ خُروجِ وقتهَا بعُذْرٍ كالنَّومِ عن الصَّلاةِ، أو الصَّومِ للحائضِ أو النُّفسَاء، أمَّا خُروجِ الوقتِ بدونِ عُذْرٍ فلمْ يرِدْ فيهِ القضاءُ، بِخلافِ الَّذي عليهِ كثيرٌ من الفُقهاءِ. ويُؤكِّدُ ذلكَ مسألَةٌ أثارَهَا الأصُوليُّونَ، هيَ: هلِ القضاءُ يكونُ بالأمرِ الأوَّلِ الَّذي كان بهِ الأداء، أو يحتاجُ إلى أمرٍ جديدٍ؟ جمهُورُهُمْ أنهُ يحتاجُ إلى أمرٍ جديدٍ، وهذا هُو الصَّوابُ، فإنَّ العبادَةَ المعلَّقةَ بوقتٍ إنَّما مقصُودُ الشَّارِع أن تقعَ في الوقتِ الَّذِي حدَّدَه لها، فإذا أخلَّ

المكلَّفُ بذلكَ فأدَّاهَا خارجَ وقتهَا بدونِ عُذرٍ فلمْ يقعْ فعلُهُ لهَا كمَا أُمرَ، وقدْ قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((من عملَ عملاً ليسَ عليهِ أمرُنا فهُوَ رَدٌّ)) [أخرجهُ مسلمٌ عن عائشةَ] ، وهذا بخلافِ المعذُورِ، فهوَ إمَّا أن تكونَ الشَّريعَةُ أسقطتْ عنهُ القضاءَ فلمْ تأمُرْهُ بهِ، كما في قضاءِ الصَّلاةِ للحائضِ، وإمَّا أن تكونَ أَمَرَتْهُ بهِ بأمرٍ جديدٍ، كصلاَةِ النَّائمِ والنَّاسي، وقضاءِ الصَّومِ للحائضِ والنُّفساءِ والمريضِ والمسافِرِ، وقضاءِ الحجِّ عمَّنْ عجزَ عنهُ في حياتِهِ. ويتفرَّعُ عن هذا مسألةٌ مشهورَةٌ، وهي قضاءُ الصَّلاةِ والصَّومِ ونحوهِمَا لمن تركَ أدَاءَ ذلكَ في وقتِهِ متعمِّدًا، فهَذَا ليسَ لهُ رُخصَةٌ في القضاءِ، إنَّمَا سبيلُهُ التَّوبَةُ النَّصوحُ وأن يُكثِرَ من التَّطَوُّعِ. 3ـ الإعادَةُ: وهي إيقاعُ العبادَةِ في وقتِهَا بعدَ تقَدُّمِ إيقاعِهَا على خللٍ في الإجزاءِ، كإنقاصِ رُكنٍ.

3ـ الحاكم

3ـ الحاكم "تعريفه: الحاكمُ حقيقةً هو الله تبارَكَ وتعالى وحْدَهُ، والرُّسلُ مُبلِّغُون عن الله لا يُثبتُونَ أحكامًا ابتداءً من عندِ أنفسِهِم، والمجتهدُون مستكشفونَ لِحُكمِ الله لا مُبتدئُون له كذلكَ وإن سَمُّوا حُكَّامًا، أو نُسبَتْ الأحكامُ إليهِمْ. وهذه حقيقةٌ واضحةٌ في كتاب الله كما قال الله عزَّوجلَّ: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41] ، وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] ، وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] ، وقال لنبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] ، وقال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:48] ، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] . وعلى هذا فالتَّشريعُ حقُّ الله تعالى وحدَهُ، ونِسبَتُهُ إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى العلماءِ المجتهدينَ نسبةٌ مجازِيَّةٌ، ذلكَ لأنَّهُم يعالجونَهُ وينظُرونَ فيهِ. * وظيفةُ العقل: العقلُ مناطُ التَّكليفِ، وهوَ آلَةُ الفهمِ لحكمِ الله لا مُثبتًا للشَّرائعِ،

وإن أثبتَ شيئًا فإمَّا أن يكونَ من حُكمِ الله فيعودَ إثباتُه إلى كونهِ حكمَ الله لا حُكمَ العقلِ، أو لا يكونَ من حُكمِ الله فهوَ الهَوَى، قالَ تعالى لنبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] ، وقال لنبيِّه داوُدَ عليه السَّلامُ: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ¨} [ص: 26] . ولهذا لم يستغْنِ بنُو آدَمَ عن معرفَةِ حُكمِ الله بِبِعثةِ الرُّسلِ وإنزالِ الكُتُبِ، ولم تَسُقْهُمْ عُقُولُهُم مجرَّدَةً إلى الهُدَى، ويكفي لذلكَ مثلاً شأنُ سيِّد بني آدَمَ - صلى الله عليه وسلم -، فقدْ قال لهُ ربُّه ممتنًّا: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7] ، وقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] . والعلَّلةُ في أنَّ العقلَ لا يصلُحُ أن يكونَ مثبتًا للشَّرائعِ هي إمكانُ جُنوجِهِ عن الصَّوابِ، وميلُ العقلِ عن الصَّوابِ حقيقةٌ لا تُجْحَدُ، وذلكَ الميلُ هوَ سبَبُ تفاوتِ العُقُولِ، ولِذَا قال الله عزَّوجلَّ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] . وللعقلِ تحسينٌ وتقبيحٌ لا يُنكرَانِ، لكنَّهُ لا يثبتُ بمجرَّدِهِ وجوبٌ ولا ندْبٌ ولا حُرمَةٌ ولا كراهَةٌ ولا إباحَةٌ ولا صحَّةٌ ولا فسادٌ ولا رُخصةٌ ولا عزيمةٌ، ولا يترتَّبُ على مُقتضاهُ ثوابٌ ولا عقابٌ،

والنَّاسُ قبلَ بلوغِ أحكامِ الله لهُم عن طريقِ رُسُلهِ وكتُبِهِ غيرُ مكلَّفينَ بشيءٍ من تلكَ الأحكامِ، قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، وإنَّما تقومُ الحجَّةُ على الخلقِ بِبُلوغِ أحكامِ الله لَهُمْ. * * *

4ـ المحكوم فيه

4ـ المحكوم فيه "تعريفه: هو ما يتعلَّقُ بهِ خطابُ الشَّارعِ، أو: هوَ الفِعلُ المُكلَّفُ بهِ. أمثلتُهُ: 1ـ قوله تعالى: {وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، أفادَ إيجابَ الزَّكاةِ، وهذا الأمرُ تعلَّقَ بِفعلِ المكلَّفِ الَّذي هو (إيتاءُ الزَّكاة) . 2ـ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] ، أفادَ النَّدب إلى كتابَةِ الدَّيْنِ، وهذا الأمرُ تعلَّق بِفعلِ المكلَّفِ الَّذي هو (كتابةُ الدَّيْنِ) . 3ـ قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] ، أفادَ حُرمَةَ الزِّنَا، وهذا النَّهيُ تعلَّق بِفعلِ المكلَّفِ الَّذي هوَ (قُربانُ الزِّنَا) . 4ـ قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267] ، أفادَ كراهَةَ إنفاقِ المالِ الخبيثِ، وهذا النَّهيُ تعلَّقَ بِفعلِ المكلَّفِ الَّذِي هوَ (إنفاقُ الخبيثِ) . 5ـ قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] أفادَ إباحَةَ الصَّيدِ بعدَ التَّحلُّلِ من الإحرامِ، وهذا الأمرُ تعلَّقَ بِفعلِ المكلَّفِ الَّذِي هوَ

متى يلزم الفعل المكلف؟

(الاصطيادُ) . * متى يلزم الفعلُ المكلف؟ يكونُ الفِعلُ لازمًا للمكلَّفِ إذا اجتمعَ فيه وصفَانِ: 1ـ أن يكونَ معلومًا للمكلَّفِ. فالجهْلُ ينفي التَّكليفَ، فلوْ جَهِل إنسانٌ كونَ الوُضُوء شرطًا لصحَّةِ الصَّلاة وكان يُصلِّي زمانًا بغيرِ وُضوءٍ، ثمَّ علمَ هذا الحُكمَ، فإنَّهُ لا يُطالبُ بقضاءِ ما صلاَّهُ بغيرِ وُضوءٍ إلاَّ صلاةً لم يزَلْ في وقْتِهَا. ومن الدَّليل عليهِ الحديثُ المشهُورُ بحديثِ المُسيءِ صلاتَه. فعنْ أبي هريرَةَ رضي الله عنهُ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجِدَ، فَدخلَ رجلٌ فصلَّى، ثمَّ جاءَ فسلَّم على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فردَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليه السَّلام، فقالَ: ((ارجِعْ فصلِّ فإنَّك لم تُصلِّ)) ثلاثًا، فقال: والَّذي بعثَكَ بالحقِّ فما أُحسنُ غيرَهُ فعلِّمني، قالَ: ((إذا قُمتَ إلى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ ... )) فساقَ الحديثَ [متفقٌ عليه] . وموضعُ الشَّاهدِ منه أنَّ هذا الرَّجلَ كانَ يُصلِّي صلاةً غيرَ صحيحةٍ وهوَ لا يعلمُ حتَّى عل‍َّمهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كيفَ يُصلِّي، ولم يأمُرهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُعيدَ شيئًا من الصَّلواتِ الَّتي صلاَّها على تلكَ الصِّفةِ إلاَّ الصَّلاةَ الَّتِي رَآهُ يُصلِّيهَا

لكنْ هلْ يُعفى المكلَّف بالجهلِ مع إمكانِ العِلمِ أم يُؤاخَذُ؟ الجوابُ: أنَّهُ يأثَمُ بالتَّفريطِ في طلبِ العِلمِ معَ القُدرَةِ عليهِ وذلكَ من حيثُ الجُملَةُ لا بخصُوصِ جَهلِهِ بِحُكمٍ معيَّنٍ، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . ومن الأصوليِّينَ من فرَّق بين الجهلِ بالأحكامِ لمن يعيشُ في بلادٍ إسلاميَّةٍ، ومن يعيشُ في بلادٍ غير إسلاميَّة، وليس التَّفريقُ بظاهرٍ في الأدلَّةِ، فإنَّ الجهلَ واردٌ على أيِّ حالٍ، لكنَّ الَّذي يقعُ في دارِ الإسلامِ أنَّ المعلومَ من الدِّين بالضَّرورةِ لا يخفى والحُجَّةُ به قائمةٌ، فلوْ زَنَى رجلٌ من المسلمينَ وقدْ تربَّى في الإسلامِ وبينَ أهلِهِ وادَّعى أنَّهُ لا يعلمُ حُرمَةَ الزِّنا لما كان عُذرًا يحولُ بينهُ وبين العُقوبَةِ، لأنَّ الحُجَّةَ ظاهرةٌ في مثلِ ذلكَ، وقولهُ محمولٌ على الكذبِ، إلاَّ أن يكونَ في بيئةٍ ذَهَبَتْ عنها معالمُ الدِّينِ وليسَ فيها من الإسلامِ إلاَّ اسمُهُ، فهَذه دارٌ أشَهُ بدَارِ الكُفرِ وإن بقيَ لأهلِهَا اسمُ الإسلامِ. والأقربُ في هذا أن يعودَ الأمرُ إلى أن يُقدِّرَ كلُّ ظرفٍ بما يُناسبُهُ، والعُمدَةُ فيهِ على بُلوغِ الحجَّةِ، أمَّاا لجهلُ ذاتُهُ فهوَ مانعٌ من التَّكليفِ. 2ـ أن يكونَ مقدورًا للمكلَّف. أيْ: يمكِنُ وقوعُ امتثالهِ لهُ، ليسَ خارِجًاعن طاقتِهِ وقُدرتِهِ، وهذا حاصلٌ في جميعِ تكاليفِ الإسلامِ، فليسَ فيها فعلٌ يستحيلُ امتثالُهُ.

ومن أحسنِ ما يدلُّ على هذا ما رواهُ مسلمٌ في [صحيحهِ] من حديثِ أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: لمَّا نزلتْ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] ، قال: فاشتدَّ ذلكَ على أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتَوْا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ بَرَكُوا على الرُّكَبِ، فقالوا: أيْ رسول الله، كُلِّفنا من الأعمالِ ما نُطيقُ: الصَّلاةَ والصِّيامَ والجهادَ والصَّدقَةَ، وقد أنزِلَتْ عليكَ هذِه الآيةُ ولا نُطيقُها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتُريدُونَ أن تقولوا كما قال أهلُ الكِتَابَينِ من قَبْلِكُم: سمعنَا وعصيْنَا، بلْ قُولوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} ، قالوُا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فلما اقترأها القَومُ ذلَّت بها ألسنتُهُم، فأنزل الله في إثرِهَا: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] ، فلمَّا فعلوا …ذلكَ نسخَهَا الله تعالى، فأنزلَ الله عزَّوجلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال، نعمْ، {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال نعمْ، { رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال نعمْ، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا

أنواع الفعل المكلف به باعتبار من يضاف إليه

أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] قال نعمْ. وفي روايةٍ أُخرى لمسلمٍ: قالَ ((قَد فَعلتُ)) بدلَ: ((نَعَمْ)) . وممَّا يتخرَّجُ على وجودِ هذا الوصفِ في الفعلِ المكلَّفِ بهِ قاعدَتَانِ: 1ـ لا تكليفَ بِما لا يُطاقُ. 2ـ المشقَّةُ تجلبُ التَّيسيرَ. أنواع الفعل المكلف به باعتبار من يُضاف إليه: الفعلُ من جهةِ اتِّصالهِ بحقِّ الله تعالى أو بحقِّ الخَلْقِ أربعَةُ أنواعٍ: 1ـ حقُّ الله عزَّوجلَّ: وهوَ حقٌّ عامٌّ، لا يملكُ أحدٌ إسقاطَهُ بوجهٍ من الوُجوهِ، وأحكَامُهُ واجبةُ التَّنفيذِ في ذمَّةِ كلِّ من تناولَهُ هذا الحقُّ. ويندرجُ تحتهُ أنواعٌ كثيرةٌ: [1] العبادَاتُ المحضَة، مثل: الإيمان، والصَّلاة، والزَّكاةِ، والصِّيامِ، والحجِّ، وهذه واجبةٌ على المكلَّفِ ابتداءً. [2] العباداتُ الَّتي فيها معنى المؤونة، مثل: زكاة الفِطرِ، فهيَ عبادَةٌ من جهَّةِ أنَّها صدَقَةٌ، وهي مؤونَةٌ من جهةِ أنَّها وجبَتْ على المكلَّفِ بسببِ غيرهِ وهو الفقيرُ.

[3] مؤونة فيها معنى العبادَة، مثتالُها: الضَّريبةُ على الأرضِ العُشريَّة، وهي حقٌّ يُؤخذُ ممَّا تُنبتُهُ الأرضُ من الزَّرعِ واجبٌ فيها، فهي لهذا مؤونة لأنَّها ثابتةٌ فيما تُنبِتُهُ الأرضُ، وأمَّا (فيها معنى العِبادة) فلأنَّها زكاةٌ تندرجُ تحتَ مصارِفِهَا. [4] مؤونَةٌ خالصةٌ، مثالهَا: الخرَاجُ، وهوَ ضريبةٌ تُؤخذُ على الأرضِ الَّتي تُترَكُ بأيدي أهلهَا غيرِ المُسلمينَ بعدَ فَتْحِهَا تفرضُها عليهِمُ الدَّولةُ الإسلاميَّةُ، ومصرِفُها المصالحُ العامَّةُ. [5] عُقُوباتٌ كاملَةٌ ليس فيها معنى غير العُقوبَة، مثل: الحُدُود، كحدِّ الزِّنَا والسَّرِقةِ والحِرابَة. [6] عقوبَاتٌ قاصرَةٌ، مثالُها: حِرمَانُ القاتلِ من الإرثِ، فإنَّهاعُقوبَةٌ لم ترِدْ عليهِ بأذَى في بَدَنِه أو حرِّيتِهِ، إنَّما غايتُها أنَّهُ حُرِمَ مِلكًا لولا القتلُ لاستَفَادَهُ. [7] عُقوباتٌ فيها معنى العِبادَة، مثالُها: الكفَّارَات، ككفارَة اليَمين والظِّهَارِ والقتلِ، فمن جهَةِ أنَّها عبادة أنَّها تؤدَّى كذلك كالصَّومِ والإطعامِ وعِتقِ الرِّقابِ. [8] حقٌّ قائمٌ بنفسهِ متعلِّقًا بذمَّةِ المكلَّفِ، مثالهُ: أداءُ الخُمُسِ من المغنمِ، فتلكَ قِسمةٌ حكمَ الله عزَّ وجلَّ بها في المغَانِمِ لا رَأْيَ

للمكلَّفِ فيها. 2ـ حقُّ العَبْد: هوَ مصالحُهُ، وهو حقٌّ خاصٌّ، والمكلَّفُ صاحبُ القرارِ فيه مُطالَبَةً وإسقاطًا، وذلك مثلُ: الدَّين، والدِّيَّة، وسائرِ الحقُوقِ الماليَّة للأفرادِ. 3ـ ما اجتمعَ فيه الحقَّان وحقُّ الله فيه أغلَب: مثالُهُ: حدُّ القَذْفِ، فحقُّ الله فيه من جهةِ وقايةِ المجتمعِ من أن تشيعَ فيه الفاحشَةُ، وهذا ضررٌ عامٌّ، وحقُّ العبدِ من جهةِ ما فيه من إظهار عفَّتِهِ وبراءتهِ، والضَّرر العامُّ أغلبُ من الضَّررِ الخاصِّ، فإنَّهُ لو غُلِّب حقُّ العبد في ذلك فأسقَطهُ لكونِهِ حرَّ التَّصرُّفِ في حقِّه لما وقعَ الزَّجرُ للقَذَفِه بما يرْدَعَهُم عن إشاعَةِ الفاحشَة في الَّذين آمنُوا، فكأنَّ تلك الإشاعَةَ وإنْ وقَعَتْ لشخصٍ بعينِهِ فإنَّهَا متعدِّيَةٌ إلى غيرهِ من أفرادِ المجتمعِ لعُمومِ الفَسادِ بهَا، وهذا مرجِّحٌ للحقِّ العامِّ، فلهَذا لا يملكُ أن يُسقِطَ حَدَّ تالقذْفِ أحدٌ. 4ـ ما اجتمع فيه الحقَّان وحقُّ العبدِ فيه أغلب: مثالهُ: القصاصُ من القاتلِ العمدِ، فيهِ حقٌّ لله من جهَةِ ما يقعُ به من إشاعَةِ الأمنِ وحفظِ حياةِ النَّاسِ من الاعتداء عليها، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

[البقرة: 179] ، وهذا حقٌّ عامٌّ فهو حقٌّ لله تعالى، وفيه حقٌّ لأولياءِ القتيل من شفاءِ صُدورِهم وإزالَةِ غلِّهم على القاتلِ، فغلَّبتِ الشَّريعةُ حقَّهُم في ذلك على الحقِّ العامِّ، فلما عادَ الأمرُ إلى العبدِ فهوَ حرُّ الاختيارِ في حقِّه، فكانَ لهُ أن يقتصَّ، أو يعفُوَ عن القصاصِ إلى أخذِ الدِّيَةِ، أو يعفُوَ عن القصاصِ والدِّيةِ جميعًا، قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] . * * *

5ـ المحكوم عليه

5ـ المحكوم عليه "تعريفهُ: هو الشَّخصُ الَّذي تعلَّق به خِطابُ الشَّارعِ، وهوَ المكلَّفُ. "شرط صحة التكليف: لا يكونُ الإنسانُ صالحًا للتَّكليف إلاَّ باجتماعِ وصفَينِ فيهِ: 1ـ العقلُ. 2ـ البُلوغُ. والدَّليلُ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((رُفع القلمُ عن ثلاثةٍ: عن المجنونِ المغلُوبِ على عقلِهِ حتَّى يبْرَأ، وعن النَّائمِ حتَّى يستيقظَ، وعن الصَّبيِّ حتَّى يحتلِمَ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أحمدُ وأصحابُ السُّنن وغيرُهم عن جماعةٍ من الصَّحابةِ] ، وصحَّ في حديثٍ آخر: ((المعتُوه)) بدلَ ((المجنون المغلوبِ على عقلِهِ)) . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربعةٌ يحْتجُّون يوم القِيامةِ: رجلٌ أصمُّ، ورجلٌ أحمقُ، ورجلٌ ماتَ في الفَترَةِ، فأمَّا الأصمُّ فيقولُ: يا ربِّ، لقد جاءَ الإسلامُ وما أسمعُ شيئًا، وأمَّا الأحمقُ فيقولُ: ربِّ قدْ جاءَ الإسلامُ والصِّبيانُ يَحذفُونَنِي بالبَعرِ، وأمَّا الهرِمُ فيقولُ: ربِّ لقدْ

جاء الإسلامُ وما أعقلُ، وأمَّا الَّذي مات في الفترةِ فيقولُ: ربِّ ما أتاني لكَ رسولٌ، فيأخذُ مواثيقَهُم لَيُطيعُنَّهُ، فيرسِلُ إليهمْ رسولاً أن ادْخُلوا النَّار، قالَ: فوالَّذي نفسي بيدهِ لو دخلوها كانتْ عليهِمْ بردًا وسلامًا)) [أخرجه أحمدُ وابنُ حبَّانَ وغيرهما بإسنادٍ صحيحٍ من حديثِ الأسودِ بن سريعٍ، ولهُ شواهدٌ قويَّةٌ عن جماعةٍ من الصَّحابةِ] . فهذا برهانٌ على أنَّ العاجزَ عن فهمِ التَّكاليفِ الشَّرعيَّة لِزَوالِ العقلِ أو نقصِهِ أو عدَمِ بُلوغِ الحُلمِ لا يصلُحُ أن يكونَ مكلَّفًا. * * *

6ـ الأهلية

6ـ الأهلية تعريفها: لُغَةً: الصَّلاحيَّة، تقولُ: (فلانٌ أهلٌ لكَذا) أي صالحٌ ومستوجبٌ لهُ، وتقولُ: (أهلتُهُ لِكذا) إذا جعلتَهُ صالحًا لهُ. واصطلاحًا: نوعان: 1ـ أهليَّةُ وجوبٍ: وهي صلاحيةُ الإنسانِ لأنْ تثبتَ لهُ الحقُوقُ وتجبَ عليهِ الوَاجبَاتُ. ويُعبَّرُ عن هذه الأهليَّة بـ (الذِّمَة) ، فكلُّ إنسانٍ له ذِمَّةٌ تتعلَّقُ بها حقوقٌ ووَاجِباتٌ. وتثبتُ هذه الأهليَّة للإنسانِ بمجرَّدِ (الحياة) ، فكلُّ إنسانٍ حيٍّ له أهليَّةُ وجوبٍ. قيلَ: أصلُ هذه الأهليَّةُ مستفادٌ من العهدِ الأوَّلِ الَّذي أخذهُ الله تعالى على بني آدم، كما قال عزَّوجلَّ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] ، ذلك أنَّ (الذِّمةَ) هي العهدُ،

والعهدُ الثَّابتُ للإنسانِ بمجرَّدِ إنسانيَّتهُ هو هذا العهْد. أمَّا تسميتهَا (ذمَّة) فقيلَ: لأنَّ نقضَ العهدِ يُوجبُ الذَّمَّ، فسمِّي العهدُ بما يؤولُ إليهِ نقضُهُ. 2ـ أهليَّةُ أداءٍ: وهي صلاحيةُ الإنسانِ للمطالبَةِ بالأداءِ بأنْ تكونَ تصرُّفَاتُهُ معتدًّا بها. وهَذه الأهليَّةُ تثبتُ للإنسان ببلوغِهِ سِنَّ (التَّمييز) . * الأهليَّة كاملة وناقصة: أهليَّة الإنسان تختلفُ كمالاً ونقصًا بحسبِ كمالهِ أو نقصِهِ في الحياةِ والعقلِ، ويُمكنُ إدراكهَا من خلالِ أدوارِ الإنسانِ، وهي كالتَّالي: 1ـ الجنين: هُوَ موصوفٌ بـ (الحياةِ) وهوَ نفسٌ وإنْ لم يستقلَّ بعدُ عن أمِّهِ، يدلُّ عليهِ حديثُ أبي هرَيرَةَ رضي الله عنهُ: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضَى في امرأتينِ من هُذيلٍ اقتَتَلْنَا، فرمتْ إحداهُما الأخرلى بحجرٍ، فأصابَ بَطْنَهَا وهي حاملٌ، فقَتَلَتْ ولَدَهَا الَّذي في بَطنهَا، فاختصَمُوا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقضى أنَّ ديَةَ ما في بَطنِهَا غُرَّةٌ: عبدٌ أو أمَةٌ، فقالَ وليُّ المرأةِ الَّتي غرِمَتْ: كيفَ أغَرَمُ يا رسول الله من لا شرِبَ ولاَ أكلَ، ولا نَطقَ ولاَ

استهلَّ، فمثلُ ذلكَ بَطلَ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّما هـ‍َذَا من إخوَانِ الكُهَّانِ)) [متفقٌ عليه] . فه‍َذا الحديثُ فيه اعتبارُ حياةِ الجنينِ شرعًا، لكنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يجعلْ ديتَهُ ديةَ المولودِ، بلْ نقصتْ عن ذلك، وذلكَ لأجلِ عدمِ انفصَالِهِ واستقلالِعِ. لهذَا فأهليَّتُهُ (أهليَّةُ وجوبٍ ناقصةٌ) يجبُ لهُ لا عليهِ، ومن فُروعِ هذه الأهليَّةِ: استحقاقُه الميراثَ والوصيَّةَ. 2ـ الطفلُ غيرُ المميِّز: وليسَ للتَّمييزِ سنٌّ محدَّدٌ في الشَّرعِ، إنَّما هو أمرٌ تقديريٌّ يعودُ إلى ما غلبَ عليهِ من التَّفريقِ بين المنافعِ والمضارِّ وإدراكِ الخطإ والصَّواب، ويمكنُ أن يُجعلَ له ضابطٌ بفهمِ الطِّفلِ للاستئذانِ قبل الدُّخولِ في السَّاعاتِ الثَّلاث الَّتي قال الله تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور: 58] ، وكذلك بتمييز الطِّفلِ بين ما هوَ عورةٌ وما ليسَ بعورةٍ، فإنَّ الله تعالى ذكرَ فيمَنْ استثناهُم فيم‍َنْ تُبدي المرأةُ بحضرَتِهم زينتهَا الأطفالَ الَّذين لم يُميِّزُوا بقوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}

[النور: 31] . والأهليَّةُ الثَّابتُ للطِّفلِ الَّذي لم يُميِّز أهليَّةُ وجوبٍ كاملةٍ، تجبُ لهُ الحقوقُ وعليهِ، أمَّا وجوبُ الحقوقِ فإذا صحَّتْ للجنينَ فلهُ أولى، فتثبتُ حقوقُه في الميراثِ والوصيَّةِ وغير ذلك، وأمَّا الوجوبُ عليه فليسَ على معنى أنَّهُ مُطالبٌ بها، فإنَّه ليس عليهِ أهليَّةُ أداءٍ، وإنما تجبُ عليه حقُوقٌ يؤدِّيها عنه وليُّه، كوُجوبِ الزَّكاةِ في مالهِ، فإنَّ على وليِّه أن يُخرجَ من مالِهِ الزَّكاةَ، ولوْ أتْلفَ شيئًا وجبَ الضَّمانُ في مالهِ يؤدِّيه عنهُ وليُّه، لكنَّه لا يُؤاخذُ في نفسهِ ولا يوصفُ بالتَّقصيرِ لِفُقدانِهِ شرطَ التَّكليفِ. أخرجَ مسلمٌ عن عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهمَا قال: رفعَت امرأَةٌ صبيًّا لهَا فقالتْ: أَلِهَذا حجٌّ؟ قالَ: ((نَعَمْ، ولكِ أجرٌ)) . فهَذا فيه صحَّةُ حجِّ الصَّبيِّ، وجمهورُ العلماءِ على أنَّ ذلكَ في حقِّهِ تطوُّعٌ لا يسقُطُ بهِ فرضُهُ لعَدَمِ التَّكليفِ، ووجْهُ اعتبارِ حجِّهِ لِمَا يُعَانيهِ وليُّهُ من حملِهِ وأداءِ المناسِكِ بهِ. 3ـ الطِّفلُ المميِّزُ الَّذي لم يبلُغْ: تثبتُ لهُ أهليَّةُ وجوبٍ كاملةٍ، فهوَ أولى بهذا الحُكمِ من غيرِ المميِّزِ، وتقدَّمَ أنَّهَا ثابتَةٌ لهُ. وكذلكَ تثبتُ لهُ أهليَّةُ أداءٍ ناقصةٍ بسببِ نُقصانِ عقلِهِ، يصحُّ منهُ

الإيمانُ وجميعُ العبَادَات ولا يجبُ عليه ذلك، فهو غيرُ مؤاخذٍ بالإخلالِ لكنَّه مأجورٌ على الامتثال، كما تقدَّم في حديث الحجِّ، وأمرُ الأولادِ بالصَّلاةِ ونحوها من العبادات من جهةِ الأولياء قبلَ أن يبلُغوا الحلم ليس لوجوبِ ذلك عليهم، إنَّما لتأديبهم وتمرينِهم، فقدْ تقدَّم الحديثُ الصَّحيحُ في رفعِ القلمِ عن الصَّبيِّ حتَّى يحتلمَ. وأمَّا تصرُّفاتُه الماليَّةُ فهي على ثلاثَةِ أنواعٍ: [1] ما فيه منفعةٌ خالصةٌ للطِّفل، كالهِبةِ والصَّدقة لهُ، فلو قبِلَهَا فقبُولهُ صحيحٌ معتبرٌ، بناءً على الأصلِ في مراعاةِ منفعَتِهِ. [2] ما فيه ضررٌ خالصٌ لهُ، فتصرُّفه فيه غيرُ معتبرٍ، كأنْ يهبَ من مالهِ، فهو ليسَ أهلاً للتَّصرُّف في المالِ لقُصورِ العقلِ، وقد قال الله تعالى لوليِّ مالِ اليتِيمِ: {فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . [3] ما تردَّد بين المنفعةِ والضَّررِ، كمزَاولَةِ البيعِ والشِّراءِ من قبلِ الطِّفلِ، فاحتمالُ الرِّبحِ والخسارَةِ واردٌ فيها، فهذا النَّوعُ من العقودِ صحيحٌ منه إذا أذِنَ الوليُّ، فإذنًه يجبُر النَّقصَ في أهليَّةِ الأداءِ عندَ الصَّبيِّ. 4ـ البالغُ العاقلُ: هذا سنُّ الاكتمالِ الَّذي تثبتُ فيهِ الأهليَّتانِ: أهليَّةُ الوجوبِ،

عوارض الأهلية:

وأهليَّةُ الأداءِ كاملتينِ، فهو صالحٌ لجميعِ التَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ، ومسؤولٌ عن جميعِ تصرُّفاتِهِ. * عوارض الأهلية: الأهليَّةُ الكاملةُ قد يعتريهَا ما يُزيلُها أو يُنقصُهَا أو يؤَثِّرُ فيها بتغييرِ بعضِ الأحكامِ. وتُسمَّى تلكَ المؤثِّراتِ بـ (عوارضِ الأهليَّة) . وتنقسمُ قسمينِ: 1ـ عوارض كونية وهي المؤثِّراتُ في الأهليَّةِ الخارِجةُ عن إرادَةِ الإنسانِ وتصرُّفِهِ، ويندرجُ تحتَهَا: 1ـ الجنون: وهو اختلالُ العقلِ بِحيثُ يمنعُ من صُدُورِ الأفعالِ والأقوالِ على نَهْجِ العقلِ إلاَّ نادرًا. لا يمنعُ أهليَّةَ الوجوبِ، لأنَّهَا تثبتُ بمجرَّدِ الحياةِ، فلهُ أهليَّةُ وجوبٍ كاملةٍ، لكنْ ليسَ لهُ أهليَّة أداءٍ، فهيَ منعدِمةٌ في حقِّهِ لِزوَالِ

2ـ العته:

العقْلِ. وتقدَّم فيهِ قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((رُفعَ القلمُ عن ثلاثةٍ: عن المجنُونِ المغلوبِ على عقلِهِ حتَّى يبْرأَ)) الحديث. 2ـ العتَه: هو اختلالٌ في العقلِ يصيرُ بهِ صاحبُهُ مختلِطًا، يُشبِهُ حالُهُ أحيانًا حَالَ العُقلاءِ وأحيَانًا حالَ المجانِين. فهذَا له حالانِ: الإلحاقُ بالمَجنُونِ حينَ تغلِبُ عليهِ أوصافُهُ، وبالعاقلِ حين تَغْلِبُ عليهِ أوصَافُه، لكنَّهُ لا يكُونُ لهُ منزلَةُ العاقِلِ البالِغِ من أجلِ ما يعترِيهِ من وصفِ المجَانِينِ، فلِذا: تثبتُ لهُ أهليَّة وجوبٍ كاملةٌ، وتنعدمُ في حقِّه أهليَّة الأداءِ عندَمَا يُلحقُ بالمجنونِ، وتثبتُ لهُ أهليَّةُ أداءٍ ناقصَةٌ حينَ يُلحقُ بالعُقلاءِ. وفيه قولُهُ - صلى الله عليه وسلم - في بعضِ الأحاديثِ الصَّحيحَةِ الوَاردةِ في رفعِ القلَمِ: ((وعنِ المعتُوهِ حتَّى يَعْقِلَ)) . 3ـ النسيان: لا يُنافِي الأهليَّتينِ: أهليةَ الوجوبِ وأهليَّة الأداءِ، لبقاءِ تمامِ العقلِ ولكنَّهُ عُذْرٌ في إسقاطِ الإثمِ والمُؤاخذَةِ الأخرويَّةِ لِمَا وقعَ بسبَبِه من الأفعالِ أو التَّصرُّفاتِ، أمَّا المطالبةُ بالأداءِ فثابتَةٌ عليهِ لا تسقُطُ بالنِّسيانِ إلاَّ فيما استثنَاهُ الشَّرعُ من ذلكَ.

وهذهِ ثلاثةُ أمثلةٍ: [1] رجلٌ نسيَ صلاةً، فلا يعذَرُ بِترْكِهَا بعدَ التَّذكُّرِ، فقَدْ صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَهُ قالَ: ((مَنْ نسيَ صلاَةً فليُصلِّ إذَا ذَكرَهَا لا كفَّارَةَ لهَا إلاَّ ذلكَ)) [متفقٌ عليه] . [2] رجلٌ استُودِِعَ أمَأنَةً فتركَهَا في موضعٍ نسيانًا فذهبتْ عليهِ، وجب عليه الضَّمانُ، فإنَّ الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] ، وهذا من حقوقِ العبادِ، وحقُوقُ العبادِ لهُمْ وهمْ أصحابُ الحقِّ فيها مُطالبَةً وإسقاطًا. [3] رجلٌ نسيَ فَأكلَ أوْ شرِبَ وهو صائِمٌ، فليتِمَّ صومَهُ فأكْلُهُ وشُربُهُ صَدَقَةٌ من ربِّهِ تباركَ وتعالَى عليهِ، وهَذا حقُّهُ سبحَانَهُ فأسقَطَ المُطالبَةَ بهِ عندَ النِّسيَانِ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا نسِيَ فَأكَلَ وشرِبَ فليُتِمَّ صوْمَهُ، فإنَّما أطْعَمَهُ الله وسقَاهُ)) [متفقٌ عليه من حديثِ أبي هُريرة] . أمَّا الأصلُ في إسقاطِ الإثمِ عن النَّاسِي فقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله وضَعَ عنْ أُمَّتي الخَطَاَ والنِّسيَانَ ومَا اسْتُكرِهُوا عليهِ)) [حديثٌ صحيحٌ رواه ابنُ ماجه وغيرُهُ] . كما استجابَ الله تعالى دُعاءَ المؤمنينَ حينَ قَالُوا: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 282] ، فقال الله عزَّوجلَّ ((قَدْ فَعلْتُ))

4 ـ النوم والإغماء:

[رواه مسلمٌ وقد تقدَّم بطُولِهِ] . 4 ـ النوم والإغماء: النَّائمُ والمُغمى عليه ساقطةٌ عنهمَا أهليَّةُ الأداءِ في حالِ النَّومِ والإغماءِ، ومطالبَانِ بها لما فاتهُمَا بسببِ تلكَ الحالِ بعدَ زَوالِ هذا العارضِ بالانتباهِ والاستيقاظِ، فالشَّريعَةُ رفعَتْ في الحقيقةِ الإثمَ واللَّومَ في التَّفويتِ أو الخَطأِ يقعَانِ في حالِ النَّومِ والإغماءِ. فعنْ أبي قتَادَةَ رضي الله عنهُ قالَ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليسَ في النَّومِ تفريطٌ، إنَّما التَّفريطُ في اليقَظَةِ أنْ تُرخَّرَ صلاةٌ حتَّى يدْخُلَ وقْتُ الأخرَى)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ مسلمٌ وأبوداود وغيرُهمَا] . وتقدَّمَ في حديثِ رفعِ القَلمِ: ((وعنِ النَّائمِ حتَّى يستيقِظَ)) . أمَّا المُطالبَةُ بالفائتِ واحتِمالِ نتيجةِ الخَطإِ بعدَ زَوَالِ هَذَ العُذْرِ فهيَ ثابِتَةٌ. فعنْ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنهُ قال: قال نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ نسيَ صلاةً أو نامَ عنهَا فكفَّارتُهَا أن يُصلِّيهَا إذا ذكرهَا)) [متفقٌ عليه] . وفي روايةٍ لمسلمٍ: ((إذا رقدَ أحدُكُم عن الصَّلاةِ أو غفَلَ عنهَا فليُصلِّهَا إذا ذَكرَهَا، فإنَّ الله يقولُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] )) . ولو فعلَ النَّائمُ أو المُغمى عليهِ خطَأَ فيما هو من حقُوقِ العبادِ، كَأنِ انقلبَ على إنسانٍ فَقَتَلهُ فإنَّه يحتَمِلُ نتيجةَ الخَطإِ لا نتيجةَ العمْدِ، لعدَمِ

5ـ المرض:

القصدِ يقينًا. ومنَ الفُقهَاءِ من شبَّهَ (المُغمَى عليه) بالمَجْنُونِ، وهذا خطَأٌ في التَّحقيقِ لبَسْطِهِ موضعٌ آخرُ. 5ـ المرض: المريضُ ثابتَةٌ في حقِّهِ الأهليَّتانِ: أهليَّةُ الوُجوبِ، وأهليَّةُ الأدَاءِ، لكنْ للمريضِ تأثيرٌ في بعضِ الأحكامِ يُسبِّبُها هَذا العارضُ، فَلِذا تسقُطُ عنهُ المُطالبَةُ بما يعْجِزُ عنهُ من حقُوقِ الله تعالى، كَعَجزِهِ عنِ القيامِ في الصَّلاةِ، وجوازِ الفِطْرِ من رَمضَانَ، وغير ذلكَ. أمَّا عُقودِهِ وتصرُّفاتِه، فإنَّها صحيحةٌ جميعًا فإنَّ لهُ تمامَ العقلِ وكمالَ الأهليَّةِ، فبيعُهُ ونِكَاحُهُ وطلاقُهُ وغيرُ ذلكَ من عُقُودِهِ صحيحٌ نافذٌ. لكن اختلَفَ الفُقَهاءُ في نِكاحِهِ وطلاقِهِ في مرضِ الموتِ، فأمَّا النِّكاحُ فأبْطلَهُ بعضُهُم وصحَّحَهُ الجُمهورُ، وعلَّةُ من أبطلَهُ أنَّهُ قصَدَ بهِ الإضرارُ بالورَثََةِ بإدْخَالِ وارثٍ جديدٍ عليهِمْ، وقولُ الجمهُورِ هُوَ المُوافِقُ للأصلِ، وأمَّا طلاقُه إذا كانَ بائنًا فصحيحٌ ماضٍ عندَهُم لكنَّهُم اختلفُوا في توريثِ المطلَّقَةِ منهُ، فجمهورُهُمْ على أنَّهَا ترثُ منهُ، وطائفَةٌ منهمُ الشَّافعِيُّ أنَّهَا لا تَرثُ منهُ. وصحَّ أنَّ عبد الرحمنِ بنِ عوفٍ طلَّقَ امْرَأتَهُ البتَّةَ وهوَ مريضٌ،

6ـ الحيض والنفاس:

فورَّثها عُثمانُ رضي الله عنهُ بعدَ انقضاءِ عِدَّتِهَا [رواهُ الشَّافعِيُّ وغيرُهُ] . وليسَ في إبطالِ الحُقوقِ بهذهِ التَّصرُّفاتِ شيءٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ، وما دَامَ المريضُ كاملَ الأهليَّةِ فتصرُّفُهُ صحيحٌ مُعتبرٌ، وتصحيحُهُ يعني تصحيحَ ما يترتَّبُ عليهِ. 6ـ الحيض والنفاس: هُما من العوارِضِ الكونيَّة المختصَّةِ بالنِّساءِ، وهمَا لا يُنافيَانِ أهليَّةَ الوُجوبِ ولا أهليَّةَ الأدَاءِ، لكن يحولانِ بين المرأةِ وبينَ الصَّلاةِ والصَّومِ والطَّوافِ بالبيتِ في وقتِ وُقوعِهِمَا من المرْأَةِ، وتبقى المُطالبَةُ بقضاءِ الصَّومِ والإتيانُ بطوافِ الإفاضَةِ دُونَ طوافِ الوداعِ، على تفصيلٍ يُعرفُ من كُتُبِ الفِقهِ، أمَّا سائرُ العبادَاتِ فلا يحُولُ بين المرأةِ وبينهَا عارضُ الحيضِ أو النِّفاسِ على التَّحقيقِ. عنْ مُعاذَةَ العدَويَّةَ قالتْ: سألتُ عائشَةَ فقُلتُ: ما بالُ الحائضِ تقضِي الصَّومَ ولا تقضي الصَّلاةَ؟ فقالتْ: أَحَرُوريَّةٌ أنتِ؟ قُلتُ: لستُ بِحرُوريَّةٍ، ولكنِّي أسْألُ، قالتْ: كانَ يُصيبُنا ذلكَ فنُؤمَرُ بقضاءِ الصَّومِ ولا نُؤمَرُ بقضاءِ الصَّلاةِ [متفقٌ عليه] . وعن عائشَةَ رضي الله عنهَا قالتْ: خرجْنَا مع النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لا نَذْكُرُ إلاَّ الحجَّ، فلمَّا جِئنَا سرِفَ طَمِثتُ، فدَخلَ عليَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأنَا أبكِي،

7ـ الموت:

فقال: ((مَا يُبكِيكِ؟)) قلتُ: لَوَدِدْتُ والله أنِّي لمْ أَحُجَّ العامَ، قالَ: ((لَعَلَّكِ نُفِستِ)) قلتُ: نَعمْ، قالَ: ((فإنَّ ذلكَ شيءٌ كَتَبَهُ اللهُ على بناتِ آدَمَ، فَافْعلِي ما يفعلُ الحَاجُّ، غيرَ أن لا تَطُوفي بالبيتِ حتَّى تَطْهُرِي)) [متفقٌ عليه] . وعن عائشَةَ أيضًا قالتْ: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ناوِليني الخُمرَةَ من المسجِ؟)) قالتْ: فقلتُ: إنِّي حائضٌ، فقال: ((إنَّ حيضَتَكِ ليستْ في ِيَدِكِ)) [أخرجه مسلمٌ] . وليس يُعارضُ هَذا شيءٌ يثبُتُ. 7ـ الموت: الموتُ تَنعدِمُ فيهِ الأهليَّتانِ: أهليَّةُ الوجوبِ، وأهليَّةُ الأداءِ. لكِنْ هلْ يبقى شيءٌ يُطالبُ بهِ المَيِّتُ يمكِنُ أداؤُهُ عنهُ؟ نَعَمْ، دلَّ الكتابُ والسُّنَّةُ على بقاءِ الدَّينِ حقًّا يُطالبُ به الميِّتُ لا يبْرأُ منهُ إلاَّ بأدَائِهِ عنهُ، ولِذا لا يُقسَمُ ميراثُهُ ويصيرُ إلى ورثتِهِ إلاَّ بعْدَ استيفاءِ ديونِهِ منهُ، كما قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، وكذا يصحُّ تحمُّلُهُ عنهُ من قِبلِ غيرِهِ فتسقُطُ عنهُ بهِ المُؤاخَذَةُ، كما ثبتَ في السُّنَّةِ عن سلَمَةَ بنِ الأكوَعِ رضي الله عنهُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتيَ بجنَازَةٍ ليُصلِّيَ عليها، فقالَ: ((هلْ عليهِ مِنْ دَينٍ؟)) قالوا: لا، فصلَّى عليه، ثمَّ أُتي بِجنَازَةٍ أخرَى فقالَ: ((هلْ عليهِ منْ دينٍ؟))

قالوا: نعَمْ، قالَ: ((صلُّوا على صاحبِكُمْ)) قال أبوقتادَةَ: عليَّ دَينُهُ يا رسولَ الله، فصلَّى عليهِ [رواهُ البخاريُّ وغيرُهُ] . واختَلَفَ الفُقهاءُ في زكاةِ مالِهِ لوْ وَجبَتْ عليهِ قبلَ موتِهِ ولم يُردِّهَا فهل يلزَمُ الوَرَثَةَ إخرَاجُها أمْ لاَ، فذهبَ الحنفيَّةُ إلى عَدَمِ إخراجِهَا حيثُ كانَ هُوَ المكلَّفُ بها، ومالُهُ من بعدِهِ بعدَ استيفاءِ حقوقِ الخَلقِ الَّتي كانتْ عليهِ يعودُ لوَرَثَتِهِ، وذهبَ الشَّافعيَّةُ إلى وُجوبِ إخرَاجهَا عنهُ من مالهِ، لأنَّ وجوبَهَا عندَهُم في نفسِ المالِ، ومذهبُ الحنفيَّةِ أصحُّ في هذَا، فإنَّهُ كان المُكلَّفَ بها، وهو إمَّا أن يكونَ قصَدَ عدَمَ الإخراجِ أو التَّأخيرَ فتلكَ خطيئَةٌ لا يحتملُ أثرَهَا عنهُ غيرُهُ، وإمَّا أن يكونَ عجَزَ عنهَا أو لمْ يزَلْ وقتُهَا حينَ ماتَ موسَّعًا فليسَ عليه فيها مُؤاخَذَةٌ، لكنْ لوْ أخرَجَهَا الورثَةُ كانتْ صَدَقَةً نافعَةً، فقد صحَّ عن عائشةَ رضي الله عنهَا: أنَّ رجلاً قالَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ أُمِّي افْتُتِلتْ نفسُهَا، وأظُنُّها لوْ تكلَّمتْ تصدَّقتْ، فهلْ لهَا أجرٌ إنْ تصدَّقتُ عنهَا؟ قال: ((نَعَمْ)) [متفقٌ عليه] . * * *

2ـ عوارض مكتسبة

2ـ عوارض مكتسبة وهيَ المُؤثِّراتُ في الأهليَّةِ الَّتي للإنسانِ فيها كسبٌ واختيارٌ، ويندرجُ تحتَهَا: 1ـ الجهل: الجَاهلُ ثابتَةٌ لها الأهليَتَانِ: أهليَّةُ الوجوبِ وأهليَّةُ الأداءِ، والجهلُ عارضٌ مطلوبٌ منهُ إزَالَتُهُ، وهلْ يُعذَرُ بِبَقَائِهِ؟ تقدَّمَ جوابُ ذلكَ في بيانِ وصفِ الفِعلِ الَّذي يكونُ لازِمًا للمكلَّفِ أنَّهُ لا بدَّ أن يكونَ معلومًا لهُ، فأغنى عن الإعادَةِ. 2ـ الخطأ: وهو ما قابلَ التَّعمُّدَ، وهو عارضٌ لا يُنافِي الأهليَّتينِ: أهليَّةَ الوُجوبِ وأهليَّةَ الأداءِ، لكنَّهُ عُذْرٌ في إسقاطِ الإثمِ واللَّومِ كما تقدَّمَ في (النِّسيانِ) . والأصلُ فيه قولهُ - صلى الله عليه وسلم - المُتقدِّمُ: ((إنَّ الله وضعَ عن أُمَّتِي الخَطَأَ والنِّسيانَ وما اسْتُكْرِهُوا عليه)) ، وقال الله عزَّوجلَّ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:5] . فما يقعُ من الخَطإ في حقِّ الله تعالَى فهوَ معفوٌّ عنه مغفورٌ لِصاحِبِهِ، ومن ذلكَ خطأُ المفتي في فَتواهُ باجتِهَادِهِ، وخطأُ المجتهدِ في القِبلَةِ.

3ـ الهزل:

أمَّا في حقوقِ العبادِ فإنْ وقعَ التَّعدِّي خطأً، كما في القتلِ الخطإِ مثلاً فإنَّهُ مع سُقوطِ الإثمِ عنه لكنَّهُ لا تسقُطُ المُطالبَةُ جملَةً، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أهله} [النساء: 92] . أمَّا إن أجرَى شيئًا من العُقودِ كالبيعِ والنِّكاحِ والطَّلاقِ، فالجُمهورُ على إبطالِ تلكَ التَّصرُّفاتِ لانتفاءِ القصدِ، وخالفَهُمْ الحنفيَّةُ فصحَّحوهَا، والأصلُ معَ مذهبِ الجمهُورِ. 3ـ الهزل: هوَ: أن لا يُرادَ باللَّفظِ معناهُ، وهوَ ضِدُّ الجِدِّ. و (الهازل) من يتكلَّمُ بالشَّيء وهوَ يُدرِكُ معناهُ لكنَّهُ لا يُريدُ ذلك المعنى ولا يختَارُهُ ولاَ يرضَاهُ. إذًا فـ (الهزل) لا يُنافي الأهليتَينِ: أهليَّة الوجوبِ وأهليَّةَ الأداءِ، لكنْ هلْ يترتَّبُ عليهِ أثرٌ؟ التَّصرُّفاتُ القوليَّةُ الَّتي تقترنُ بالهَزْلِ ثلاثَةُ أنواعٍ: [1] الإخبارات: وهي (الإقرارات) كأنْ يقولَ: (لِفُلانٍ عليَّ كذا) ، أو (هذا المالُ لي) ، أو (أنا قتَلْتُ فُلانًا)) ، فهذهِ إقراراتٌ فاسدَةٌ لا يترتَّبُ عليها شيءٌ لأنَّها كذبٌ.

[2] الاعتقادات: وتقعُ على ما يتكلَّمُ به الهازلُ، ولا يُقالُ لم يُردْ حقيقَتَهَا، مثالُهَا: لوْ تكلَّم إنسانٌ بكلمةِ الكُفرِ هازلاً وقال: ما قصدْتُ ولا أرَدْتُ أُخذَ بهَا، وعُدَّتْ رِدَّةً عن الإسلامِ، لِمَا في هزْلِهِ من الاستِخفافِ بدينِ الإسلامِ. قال الله عزَّوجلَّ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65ـ 66] ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ حلفَ فقالَ: إنِّي بريءٌ من الإسلامِ، فإنْ كانَ كاذِبًا فهوَ كما قال، وإنْ كانَ صادِقًا فلنْ يرْجِعَ إلَى الإسلامِ سالمًا)) [أخرجه أبوداود وغيرُهُ بسندٍ صحيحٍ] . [3] الإنشاءات: وهي العُقودُ، وهي نوعانِ: (1) تنفذُ معَ الهزلِ وتقعُ صحيحةً، وهيَ الَّتي ورَدَتْ في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ، وهزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَّلاقُ، والنِّكاحُ، والرَّجعَةُ)) [حديثٌ حسنٌ رواهُ التِّرمذِيُّ وغيرهُ] ، ولعلَّ المعنى في إمضاءِ هذهِ العُقودِ حتِّى مع الهزْلِ أنَّها لا تخلو من حقِّ الله تعالى فيها، فيكونُ الهزلُ بها من اتِّخاذِ آياتِ الله هُزُوًا، وقد قال تعالى في صَدَدِ بيانِ أحكامِ الطَّلاقِ: {وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] .

4ـ السفه:

(2) لا تنفذُ مع الهزلِ ولا تقعُ، وهي سائرُ أنواعِ العُقودِ كالبيعِ والإجارَةِ وغير ذلكَ، فلو قال إنسانٌ لآخر: (بِعتُك كذا) هازلاً فلا يصحُّ البيعُ لانتفاءِ التَّراضي بانتفاءِ قصدِ الهازلِ، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . 4ـ السفه: هو خفَّةٌ تعرضُ للإنسانِ تحمِلُهُ على التَّصرُّفِ بالمالِ بخلافِ مُقتضى العقلِ معَ وُجودِ العقلِ، فيُقالُ: (السَّفيهُ ليسَ أهلاً للتّصرُّفِ في المالِ)) . فهو لا يُنافي الأهليَّتينِ: أهليَّة الوُجوبِ وأهليَّة الأداءِ)) من جهةِ كونِ السَّفيهِ مخاطبًا بالتَّكاليفِ لوجودِ العقلِ، لكنَّهُ يُؤثِّرُ في تصرُّفِه في الأموالِ، فيُوجبُ الحجرَ عليهِ فلا يُمكَّن من التَّصرُّف فيها ما دامَ على هذا الوصفِ. قال الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 5] ، وقال حينَ أمرَ بِكتابَةِ الدَّينِ: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] .

5ـ السكر:

وما لا يتَّصلُ بالأموالِ من العُقودِ كالنِّكاحِ والطَّلاقِ ونحوِهَا، فهيَ صحيحةٌ نافذَةٌ منهُ، فإنَّهُ لا يُتصوَّرُ في نفسِ العقدِ تبذيرٌ وإساءَةُ استعمالِ كالمالِ. 5ـ السكر: وهُو زَوالُ العقلِ بسببِ تعاطي الخمرَةِ، بحيثُ لا يدري السَّكرانُ ماذا يصدُرُ منه من تصرُّفاتٍ حالَ سُكْرِهِ. فالأصلُ أنَّهُ بِزَوالِ العقلِ يُصبحُ غيرَ مُطالبٍ بالأداءِ في حالِ السُّكرِ، أي: تنعدمُ في حقِّهِ أهليَّةُ الأداءِ. لكنَّ الفُُقهاءَ اختلفُوا في نتائجِ تصرُّفاتِه إذا سَكرَ بطريقٍ محرَّمٍ لا خطأً، فشَدَّدَ الجمهورُ عليه نظرًا لارتكابِهِ الحرامَ بشُربِهِ الخمرَ، وذهبَ طائفةٌ من الفقهاءِ وهو قولٌ للحنابلة إلى عدمِ الاعتِدادِ بأيِّ تصرُّفٍ قوليٍّ له، فلا يصحُّ منه بيعٌ ولا نكاحٌ ولا طلاقٌ ولا إقرارٌ، ولا شيءٌ، نظرًا لفقدِهِ شرْطَ التَّكليفِ الَّذي هوَ العقلُ وانتِفاءِ الاختيارِ. وأمَّا الحقُوقُ المتعلِّقةُ بالبشرِ، فإنَّهُ لوْ أتلفَ شيئًا للغيرِ ضَمِنَ. ولكنْ؛ لو قتلَ فهلْ يُقتلُ؟ الجُمهورُ قالوا: نعَمْ، وذهبَتْ طائفةٌ إلى عدَمِ قتلِهِ منهم الظَّاهريَّة، لانتفاء وصفِ العمدِ، وإنَّما يجبُ القِصاصُ في العمدِ. وقولُ من قالَ: لا يُعتدُّ بتصرُّفاتِه هوَ المتَوافِقُ معَ الأدلَّةِ والأصولِ

6ـ الإكراه:

الشَّرعيَّة، ولا يصحُّ أن يُعاقبَ بغيرِ حدِّ الخمْرَةِ، فإذا تعدَّى على غيرهِ بغيرِ القتلِ فإنَّهُ يحتمِلُ حقَّ الغيرِ كما يحتملُهُ المجنونُ في مالهِ، أمَّا القِصاصُ فقدْ تخلَّف رُكنٌ فيه وهو (العمْدُ) ، فلا يصحُّ. وعليهِ: فلا ينبغي التَّفريقُ بينَ الآثارِ المترتِّبة على تصرُّفِ السَّكرانِ بطريقٍ مباحٍ كمنْ شرِبَ الخمرَ وهوَ لا يعلمُ، أو بطريقٍ محرَّمٍ، ولا يحلُّ أن نزيدَ في عُقوبَتِهِ على ماجاءتْ به الشَّريعَةِ. 6ـ الإكراه: هوَ: حملُ الغيرِ على أنْ يفعلَ أو يقولَ ما لا يرضَاهُ ولا يختارُ لوْ خُلِّي بينهُ وبينَهُ. و (الإكراهُ) لا يُنافي الأهليَّتينِ: أهليَّبة الوجوبِ والأداءِ، لكنَّهُ يؤثِّرُ في بعض الأحكامِ بسببِ ما يدْفعُ إليهِ الإكراهُ من التَّصرُّفِ على خلافِ مُقتضَى الشَّرعِ. والأصلُ فيه قولهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله وضعَ عن أُمَّتِي الخَطأَ والنِّسيانَ وما استُكرِهُوا عليهِ)) ، وقال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] ، وقال تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33] ، فرفعَ الله الإثمَ واللَّومَ عمَّنْ أُكرهَ على قولٍ أو فعلٍ، إذا

كان ذلك الفعلُ أو القولُ مِمَّا يثبُتُ بمواقعتِهِ الإثمُ، لكنْ ما حُكمُ التَّصرُّفاتِ الواقعةِ من المكرَه؟ في ذلك خلافٌ بين الحنفيَّةِ وغيرِهِم يُستفادُ من كُتُبِ الفِقهِ، وما دلَّت عليهِ الأدلَّةُ في ذلك وهو مذهبُ الجمهورِ أنَّ الإكراهَ نوعانِ: [1] إكراه بحقٍّ كإكراهِ القاضي المدينَ على سَدَادِ الدَّينِ، فهذا إكراهٌ صحيحٌ تبرأُ به ذمَّةُ المكرَه. [2] إكراهٌ بغيرِ حقٍّ. كالإكراهِ على قول كلمةِ الكفرِ، وقتلِ النَّفسِ، والسَّرقةِ، وشربِ الخمرِ، والنِّكاحِ أو الطَّلاقِ أو البيعِ. فهذا النَّوع من الإكراهِ لا يترتَّبُ عليه أثرهُ ولا يُتبَعُ بهِ المكرَهُ، فهوَ تصرُّفٌ باطلٌ. إلاَّالقتل فاختلفُوا فيه، فقيلَ: لا يُعفى فيه عن المكرَهِ، لاستواءِ نفسي المكرَه ومن يُرادُ قتلُهُ في الحُرمَةِ، فلو قيلَ لِشخصٍ: (اقتُل فلانًا وإلاَّ قتلناكَ) والمطلُوبُ قتلهُ مسلمٌ، فقد استويَا في عصمةِ الدَّمِ ولاَ مرجِّحَ، فانتفَى العُذْرُ بـ (الإكراه) ، لكنَّهُ لو قتلَ مُكرَهًا فهلْ يُقتصُّ منه أمْ يُقتصُّ من الَّذي حملهُ على القتلِ؟ مذهبُ الحنفيَّةِ في هذا أظهرُ من مذهبِ غيرِهِم، وهوَ: القصاصُ من الحاملِ على القتلِ، أمَّا المكرَهُ فإنَّهُ

صارَ بمنزلَةِ الآلةِ، والقاتلُ حقيقةً من ألجأ إلى القَتْلِ. وما اتَّصلَ بحقُوقِ العبادِ غيرُ القتلِ، كإتلافِ أموالِهِم، فالضَّمانُ فيه على (المكرِهِ) الَّذي حملَ غيرُهُ على الفعلِ، لا على (المكرَه) المدفُوعِ إلى الفعلِ، وهيَ مظلمةٌ ثابتَةٌ في ذمَّتِهِ. ومن الأدلَّة الَّتي أبطِلَتْ بها آثارُ التَّصرُّفاتِ لعلَّةِ الإكراهِ، قولهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا طلاقَ ولاَ عتاقَ في إغلاقٍ)) [حديثٌ حسنٌ رواهُ أحمدُ وغيرُهُ] ، و (الإغلاقُ) الإكراهُ.

أدلة الأحكام

أدلة الأحكام

تمهيد

تمهيد الأدلة نوعان: 1ـ نقليَّة: وهي: الكِتابُ، والسُّنَّة، والإجماعُ، وشرعُ من قبلَنَا. وسمِّيتْ (نقليَّةً) لأنَّها راجعةٌ إلى النَّقلِ ليسَ للعقلِ شيءٌ في إثباتهَا. 2ـ عقليَّة: وهي: القِياسُ، والمصلحَةُ المُرسلَة، والعُرفُ، والاستصحابُ. وسمِّيتْ (عقليَّةً) لأنَّ مردَّها إلى النَّظرِ والرَّأيِ وإنْ لم تستقلَّ بها العُقُولُ. والأدلَّةُ هي البيَانُ لشريعَةِ الإسلامِ. * مرجع جميع الأدلة إلى القرآن: تقدَّمَ أنَّ العقلَ لا يستقلُّ بإثباتِ الأحكامِ وأنَّ مرجعَ ذلكَ إلى الوَحي، والوحيُ ما أوحى الله تعالى به إلى نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وهوَ: الكتابُ والسُّنَّةُ، وإنَّما علمنَا أنَّ السُّنَّةَ وحيٌ بدلالةِ القرآنِ، وأُمرنَا باتِّباعهَا بأمرِ القرآنِ، فعادَ أمرُهَا إلى القُرآنِ، وسائرُ الأدلَّةِ دُونها ما اتَّفق عليه النَّاسُ وما اختلفُوا فيه عائدٌ اعتبارُهُ إلى الكتَابِ والسُّنَّةِ، فالإجماعُ لا يُتصوَّرُ

كما سيأتي من غيرِ الاستدلالِ له من الكتاب ِوالسُّنَّة، والقياسُ لا يتمُّ إلاَّ بدليلٍ من الكتابِ والسُّنَّةِ، وسائرُ الأدلَّةِ ليسَ فيها مَا يُمكنُ تصحيحُ الاستدلالِ بهِ إلاَّ بالكتابِ والسُّنَّة، وحيثُ كانَ مرجعُ أمرِ السُّنَّةِ إلى القرآنِ، فقد صحَّ أنَّ مرجعَ جميعَ أدلَّةِ الأحكامِ إلى القُرآنِ. * ترتيبُ الأدلة: إذا كانَ مرجعُ جميعِ الأدلَّةِ إلى (القرآنِ) فوجبَ ضرورَةً أن يكونَ أوَّلها في الرُّجوعِ إليهِ لاستفادَةِ الأحكامِ، ولمَّا كانتِ (السُّنَّةُ) مبيِّنةً لهُ وهي الدَّليلُ الثَّاني المتَّفقُ على الاستدلالِ به لعودِهَا إلى مسمَّى (الوحي) فهي التَّاليةُ للقرآنِ في ترتيبِ الاستدلالِ، وجديرٌ أن تكُونَ سائرُ الأدلَّةِ في التَّرتيبِ تعودُ إلى قوَّةِ اتِّصالهَا بالوحييْنِ، فـ (الإجماعُ) لا يعودُ تقريرُهُ إلى نظرٍ، وعُمدتُهُ على النَّصِّ فهوَ ألصقُ من سائرِ الأدلَّةِ بالوحيِ، ثمَّ يأتي ترتيبُ الأدلَّةِ النَّظريَّة وعلى رأسهاَ (القياسُ) فهوَ أظهرُهَا من جهَّةِ اتِّصالهِ بالوحيِ. وقَدْ رُويَ في ترتيبِ الأدلَّةِ حديثٌ مشهورٌ لا يكادُ يخلو منهُ كتابٌ من كُتُبِ الأصولِ، وهو حديثُ معاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ بعثَهُ إلى اليمَنِ فقال: ((كيفَ تصنعُ إنْ عرضَ لكَ قضاءٌ؟)) قالَ: أقضي بمَا في كِتابِ الله، قالَ: ((فإنْ لم يَكُنْ في كتابِ

الله؟)) قالَ: فبسُنَّةِ رسول اللهِ، قالَ: ((فإنْ لم يكُنْ في سنَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟)) قال: أجتهدُ رأيي لا آلُوا، قالَ: فضربَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صدرِي ثمَّ قالَ: ((الحمدُلله الَّذي وفَّق رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لما يُرضي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -)) [أخرجهُ أحمدُ وأبوداودَ والتِّرمذيُّ وغيرُهم] . وهذا الحديثُ لا يُثبتُهُ أئمَّةُ الحديثِ من السَّلفِ، ووافقهمْ على قولهِمْ في ردِّه مُحقِّقُو المُحدِّثينَ ممَّنْ جاءَ بعدَهُم، فمِمَّن ضعَّفهُ وردَّهُ: البُخارِيُّ، والتِّرمذِيُّ، والدَّارقُطنيُّ، وابن حزْمٍ، وابن طاهرٍ المقدسِيُّ، وابنُ الجوزِيُّ، والذَّهبيُّ، وأبوالفضلِ العِراقِيُّ، وابنُ حجرٍ العسقلانِيُّ، وغيرُهُم من أئمَّةِ المحدِّثينَ ونُقَّادِهم، وعلَّةُ الحديثِ تعودُ إلى الاختلافِ فيه وصلاً وإرسالاً، وجهالةِ بعضِ رُوَّاتهِ في موضعينِ، وواحدةٌ من تلك العِللِ تسقُطُ بحديثٍ في الفضائلِ، فكيفَ بحديثٍ في الأصولِ؟! ولكنَّ ضعْفَ هذا الحديثِ لا يُؤثِّرُ في ترتيبِ الأدلَّةِ المذكورَةِ، فإنَّ أصولَ الشَّريعةِ اقتضتْهُ ودلَّتْ عليهِ، وهوَ المنقولُ عن أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وذلكَ بتقديمِ الوحي أوَّلاً على الرَّأيِ، والوحيُ كتابٌ وسُنَّةٌ، والسُّنَّةُ تابعةٌ للقُرآنِ من حيثُ أنَّهَا مُبيِّنَةٌ له، ودرجَةُ التَّابعِ لا تصلُحُ أن تكونَ مُساوِيةً للمتبوعِ فضلاً عن أن تسبِقَهُ، كيفَ والقرآنُ كلامُ ربِّ العالمين تباركَ وتعالى؟ ويزيدُ هذا تأكيدًا ما سيأتي في التَّفريقِ بينَ طريقَي نقْلِ القُرآنِ ونقلِ السُّنَّة، مِمَّا فيه بلا ريب دلالَةٌ بيِّنَةٌ على تأكيدِ

هذا التَّقديمِ، أمَّا مرتبةُ النَّظرِ والاستنباطِ فحيثُ لا يكونُ الوحيُ، فهيَ جديرةٌ بالتَّأخُّرِ بعدَهُ بهذا الاعتبارِ. وهذا التَّرتيبُ من جهَةِ البدْءِ في الاستدلالِ ومنزلَةِ الدَّليلِ، أمَّا مِنْ جهةِ كونِ الدَّليلِ حُجَّةً في إفادَةِ الأحكامِ فالوحيُ: كتابٌ وسُنَّةٌ درجَةٌ واحدَةٌ كما سيأتي بيانُهُ. * * *

الدليل الأول القرآن

الدليل الأول القرآن * تعريفه: القُرآنُ اسمٌ للكتابِ العربيِّ المُنزَّلِ على رسول الله محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، المُبتدأ بالبَسمَلةِ فسُورةِ الفاتحة، والمُختتمِ بسورةِ النَّاسِ. * خصائصه: 1ـ كلامُ الله المنزَلُ على رسولهِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. فتخرُجُ الكتُبُ الَّتي أنزلتْ على غيرِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - كالتَّوراةِ والإنجيلِ وزبُورِ داود عليه السَّلامُ فليستْ قُرآنًا. أمَّا الحديثُ الَّذي رواهُ البُخاريُّ وغيرُهُ عن أبي هريرةَ رضي الله عنهُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خُفِّفَ على داوُدَ عليه السَّلامُ القُرآنُ، فكان يأمُرُ بدوابِّهِ فتُسرجُ، فيقرأُ القرآن قبلَ بأن تُسرجَ دوابُّهُ)) فـ (القُرآنُ) هُنا ليس اسمَ الكتابِ، إنَّما هو مصدرٌ كـ (القراءة) ، وقد روى البخاريُّ هذا الحديثَ في موضعٍ آخرَ من ((الصَّحيحِ)) بلفظِ: ((خُفِّفَ على دَاوُدَ القراءَةُ)) . 2ـ لفظُه ومعناهُ من الله تعالى.

فخرجتْ الأحاديثُ النَّبويَّة فلا تُسمَّى (قرآنًا) ، وخرجَ تفسيرُ القرآنِ فهوَ كلامُ من قالهُ. 3ـ كلُّه عربِيٌّ. كما قال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] ، وقال: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] . فخرجت ترجمةُ معانيهِ إلى غيرِ لُغةِ العربِ، فلا تُسمَّى (قُرآنًا) . 4ـ قطعيُّ الوُرودِ إلينا، لتواتُرِ نقلِهِ. قال الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] دلَّ هذا أنَّهُ سيبلُغُ أُناسًا غير الّذينَ سمعوهُ أو أخذُوهُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُباشرَةً ولهُ من الحُجَّةِ على أولئكَ النَّاسِ بنفسِ مِقدارِ حُجَّتهِ على الَّذين خُوطبُوا بهِ مُشافهَةً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه دليلٌ على بلوغِه لمن سيبلُغُهُ بطريقِ القطعِ لا الظَّنِّ، وواقِعُ نقلِ القُرآنِ مؤكِّدٌ لهذه الحقيقةِ، فقدْ تواترَ نقلُهُ بطريقَي الحِفظِ والكتابَةِ، فأمَّا الحفظُ فلم يزل نقلَةُ القرآنِ جيلاً بعد جيلٍ منذُ زمَنِ الصَّحابةِ الَّذينَ تلقَّوهُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحملُونَ القُرآن لا يختلفُون فيهِ، أمَّا الكتابَةُ فهي البُرهانُ الأعظمُ على حفظِ هذا الكتابِ، والله تعالى قال فيه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] ، ولم يكُنْ ساعتهَا صارَ كتابًا مجموعًا؛ إشارةً إلى

أنَّه سيكونُ الطَّريقَ إلى وقايَتِهِ وبقائِهِ كما أنزلَهُ الله عزَّوجلَّ، فكُتِبَ بأمرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستُنسِخَ بإجماعِ الصَّحابةِ، وبلغتْ نُسخَهُ الآفاقَ ولم تزلْ لا تختلفُ في شيءٍ، وستبقَى لا تختَلِفُ في شيءٍ. إذًا فلا يُحتاجُ إلى النَّظَرِ في الدَّليلِ من القُرآنِ من جِهَةِ الوُرُودِ، فهوَ أمرٌ قد فُرِغَ منهُ. وخرجَ بتواتُرِ القُرآن: القراءاتُ غير المتواترةِ، فلا تسَمَّى (قرآنًا) ، إنَّما تكونُ من قبيلِ أحاديثِ الآحادِ إذا ثبتَ إسنادُها إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أو من قبيلِ تفسيرِ الصَّحابيِّ فيكونُ لهُ حُكمُ مذهبِ الصَّحابيِّ ورأيِهِ، وسيأتِي تحقيقُ القولِ فيهِ. فالقِرَاءةُ المرويَّةُ عنِ ابنِ مسعودٍ وغيرِهِ في كفَّارةِ اليمينِ: (فصيَامُ ثلاثةِ أيَّامٍ مُتَتَابعاتٍ) لمْ يُنقلُ أنَّهُ سمعَهَا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكونَ لهَا حُكمُ الحديثِ وتُعطى منزلَةَ التَّفسيرِ النَّبويِّ للآيةِ، إنما يقولُ الرُّواةُ: (في قراءةِ عبد الله كذا) ، وهذا يبقى لهُ حُكمُ التَّفسيرِ والرَّأي لا حُكمُ الحديثِ المرفُوعِ، فضلاً عن أن يسَمَّى قُرآنًا. وهذا مذهبُ الشَّافعيَّةِ، خلافًا للحنفيَّةِ وبعضِ الحنابلَةِ. 5ـ محفوظٌ من تطرُّقِ الزِّيادَةِ والنَّقصِ إليه ومعصومٌ من طُروءِ التَّغييرِ والتَّبديلِ عليهِ. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .

وقال سُبحانَهُ: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41ـ 42] ، وقال عزَّوجلَّ: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام: 43] ، وقال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى} [يونس: 15] ، وعن نافعِ مولى عبد الله بنِ عُمرَ قال: خطبَ الحجَّاجُ فقال: إنَّ ابنَ الزُّبيرِ يُبدِّلُ كلامَ الله تعالى، قال: فقالَ ابنُ عُمرَ رضي الله عنهما: ((كذَبَ الحجَّاجُ، إنَّ ابنَ الزُّبيرِ لا يُبدِّلُ كلاَمَ اللهِ تعالى، ولا يستطيعُ ذلكَ)) [رواهُ البيهقيُّ في ((الأسماء والصِّفات)) ، ص244 بسندٍ صحيحٍ] . 6ـ أنَّهُ مُعجزٌ. وهذا اختصاصٌ للقرآنِ ليسَ يُساوِيهِ فيه كلامٌ، فلا قُدرةَ لأحدٍ أن يأتي بشيءٍ مثلِهِ لا سورةٍ ولا أقلَّ ولا أكثرَ، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] ، فلا يقدِرُ أحدٌ أن يأتيَ بمثلٍ كمثلِهِ، كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] ، ولا يأتي بلفظٍ كلفظِهِ، كما قالَ تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) } [الزمر:

32] ، ولا أنْ يَأْتي بِحُكمٍ كحُكمِهِ، كما قال تعالى: {مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] . أمَّا وُجُوه ذلك الإعجازِ فمردُّها إلى كُتُبِ عُلومِ القُرآنِ، أو مُصنَّفاتٍ أُفردَتْ لهَا. هذهِ الخصائصُ جعلتِ القُرآنَ القاعدَةَ العُظمَى لجميعِ أحكامِ شريعَةِ الإسلامِ في كلِّ عصرٍ وبيئةٍ، وهوَ حُجَّةُ الله على خلقِهِ ما بقيتِ الدُّنيا. "أحكامه: الأحكامُ الَّتي دلَّ عليها القُرآنُ ترجعُ إلى ثلاثةِ أنواعٍ: 1ـ أحكامٌ اعتقاديَّةٌ: وهي المتعلقَّةُ بجانبِ العقيدةِ، كقضايا الإيمانِ بالله وملائكتهِ وكُتبِهِ ورسُلُهِ واليومِ الآخرِ. 2ـ أحكامٌ أخلاقيةٌ سُلوكيَّة: وهي ما تناولَهُ القرآنُ في جانبِ تهذيبِ النَّفسِ وتزكيَتِهَا، كأعمالِ القُلوبِ الَّتي يرتَكزُ عليها تحقيقُ هذا الجانبِ، كمعاني: الخوفِ والرَّجاءِ والرَّغبةِ والرَّهبةِ والتَّوكلِ والحُبّ والرِّضا والبُغضِ والفَرحِ والحُزنِ، وغير ذلكَ.

هذانِ النَّوعانِ من (أحكامِ القُرآنِ) لا ينْدَرِجَانِ تحتَ الأحكامِ الَّتي قُصدتْ بعلمَي (الفقه وأصوله) من جهةِ ارتباطِهِمَا بالبَاطِنِ، وإنْ كانَ يشملُهُمَا ما يتَّصِلُ بصيغَةِ الخِطابِ في (علمِ أصولِ الفقه) ، فصيغةُ الأمرِ بالإيمانِ لاتخرُجُ عن مدلولهَا في (علمِ الأصولِ) وهوَ وجوبُ الإيمانِ، والنَّهيُ عن النِّفاقِ لا يخرُجُ عن دلالتِهِ على تحريمِهِ على ما عليه القاعِدَةُ ي (علمِ الأصولِ) . 3ـ أحكامٌ عمليَّةٌ. وهي المتعلِّقةُ بأفعالِ المُكلَّفينَ، وهي المقصودَةُ بهذا العِلمِ. وترجعُ في جُملتِهَا إلى نوعينِ: [1] العبادات: وهي ما يتَّصلُ من الأحكامِ بالعلاقَةِ بينَ العبدِ وبينَ ربِّهِ تعالى، كأحكامِ الصَّلاةِ والصِّيامِ والزَّكاةِ والحجِّ. [2] المعاملات: وهو اسمٌ يُطلقُ على ما سوَى العبادَاتِ، لا على معنَى خُلوِّها من معنى العبادَةِ، فقدْ يُوجَدُ فيها معنى العِبادَة، ولكَنَّه اسمٌ اصطلاَحِيٌّ قُصِدَ به الأحكامِ الَّتِي تتعلَّقُ بتنظيمِ العلاقاتِ بينَ الأفرَادِ والجماعَاتِ، كأحكامِ النِّكاحِ والطَّلاقِ والبُيُوعِ والأيمانِ والقصاصِ والحُدُودِ والسِّياسَةِ الشَّرعيَّة. ويُطلقُ علىمُصطلحِ (المعاملاَتِ) في التَّسميَّةِ المعاصِرةِ مصطلحَ (القانون) .

"بيانه للأحكام: بيانُ القُرآنِ للأحكامِ هوَ من جِهَةِ استيعَابِهَا وحصْرِهَا، كما قالَ تعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، فقدْ احتَوَى القُرآنُ جميعَ الأحكامِ فلا يخرُجُ عنهُ منهَا شَيءٌ، وهي واردَةٌ فيه على صُورتينِ: 1ـ البيانُ بإقامَةِ القاعِدَةِ الشَّرعيَّةِ العَامَّةِ الَّتي تندرجُ تحتَهَا كثيرٌ من جُزئيَّاتِ الأحكامِ، وهذا في الحقيقةِ جانبٌ عظيمٌ من جوانبِ إعجازِ القُرآنِ، أو بتقريرِ المبدإ العامِّ ليأتي من بعدُ دَوْرُ السُّنَّةِ في تفصيلِ ذلك المبدإِ. ومن أمثلةِ القواعدِ: [1] الأمرُ بالعدْلِ والإحسانِ، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النَّحل: 90] . [2] العُقُوبةُ بقدْرِ الإساءَةِ، كما قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النَّحل: 126] . [3] الوفاءُ بالالتزاماتِ، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . [4] المشقَّةُ تجلبُ التَّيسيرَ، كما قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا

وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . ومن أمثلة المباديءِ: [1] فرضُ الصَّلاةِ والاعتناءُ بشأنهَا في آياتٍ كثيرةٍ في الكتابِ وتُركَتْ صفةُ أدائها للبيانِ النَّبويِّ بفعلِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [2] وجوبُ القصاصِ في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] ، من غيرِ تفصيلِ شروطِ ذلك مِمَّا عُرفَ بالسُّنَّةِ. [3] إباحةُ البيعِ وحُرمةُ الرِّبا، كما قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، ولذلك شُروطٌ وأحكامٌ تفصيليَّة جاءتْ بها السُّنَّة. فهذه الأحكامُ وشِبهُها كثيرٌ في القرآن لم تأتِ مفصَّلةً بجزئيَّاتهَا فيه ليبقى القرآنُ القاعدة الكُليَّة والبُرهانَ العامَّ في دلالاته ومعانيه، فهوَ بيَّن هذه الأحكامَ من حيثُ الدَّلالة عليها والأمرُ بها، وهوَ مفصَّلٌ من حيثُ استيعابُهُ لتلكَ الأحكامِ. 2ـ البيانُ مفصَّلاً بذكرِ تفريعاتِ الأحكامِ، وهذه لم يرِدْ في القرآن إلاَّ قليلاً، مثاله: مقاديرُ المواريثِ، والعُقُوباتِ في الحُدُودِ، وصفةُ اللِّعانِ بينَ الزَّوجينِ، والمحرَّماتُ من النِّساءِ.

مسألة تأخير البيان:

* مسألة تأخير البيان: يُرادُ بها أنَّ الله تعالى حينَ شرعَ الشَّرائع كأمرِهِ بالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحجِّ وغيرها أمرًا مجملاً، كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] ، فهلْ يُتصوَّرُ أن يأمُرَ بذلكَ من غير بيانٍ لمُرادهِ بما أمرَ: صفَتِهِ وأحكامِهِ؟ ههنَا مسألتَانِ أُصوليَّتانِ تتَّصلانِ بالكتابِ والسُّنَّةِ جميعًا: 1ـ يمتنِعُ في الدِّينِ أن يُؤخِّرَ الشَّارعُ البيانَ عن وقتِ الحاجَةِ، لأنهُ تكليفٌ بمجهولٍ، وذلكَ غيرُ مقدُورٍ عليه، فلو لم ينْزِلْ غيرُ قولهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} لمَا أمكنَ المُكلَّفينَ أن يعرفُوا كيفَ الصَّلاة. ويتفرَّغُ عن هذه المسألةِ: أنَّ الدَّليلَ إذا جاءَ بِبيانِ حكمٍ في قضيَّةٍ وسكتَ عن زيادَةِ التَّفصيلِ مع اقتضاءِ المقامِ بيانَ المسكوتِ عنهُ لوْ كانَ من جملةِ المطلُوبِ، فذلكَ دالٌّ على عدَمِ إرادَةِ الشَّارعِ لهُ، لأنَّهُ لو أرادَهُ لما صحَّ سُكُوتُهُ عنهُ في موضعٍ يحتاجُ فيه المكلَّفُ إلى معرفةِ الحُكمِ. مثالهُ: قصَّةُ الرَّجلِ المُسيءِ صلاتَهُ، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنهُ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخلَ المسجدَ، فدخلَ رجلٌ فصلَّى، ثمَّ جاء فسلَّم على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فردَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليه السَّلام، فقالَ: ((ارجِعْ فصلِّ، فإنَّك لم تُصلِّ)) ، ثم جاء فسلَّم على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ارجِعْ فصلِّ،

فإنَّك لم تُصلِّ)) ثلاثًا، فقال: والَّذي بعثكَ بالحقِّ، فما أُحسنُ غيرَهُ فعلِّمني، قالَ: ((إذا قُمتَ إلى الصَّلاةِ فكبِّرْ، ثمَّ اقرَأْ ما تيسَّرَ معكَ من القُرآنِ، ثمَّ اركعْ حتَّى تطمئنَّ راكعًا، ثمَّ ارفعْ حتَّى تعتَدِلَ قائمًا، ثمَّ اسجُدْ حتَّى تطمئنَّ ساجدًا، ثم ارفعْ حتَّى تطمئنَّ جالسًا، ثمَّ اسجُدْ حتَّى تطمئنَّ ساجدًا، ثمَّ افعَلْ ذلك في صلاتِكَ كُلِّهَا)) [متفقٌ عليه] . فهذا مقامُ تعليمٍ للصِّفةِ الَّتي تصحُّ بها الصَّلاةُ، فالواجبُ أن يستغرقَ كلَّ ما تنبني عليهِ صحَّتُها، وما يخرُجُ عن هذا البيانِ فليسَ مِمَّا تصحُّ به، ولهذا فجديرٌ بأن تُجمعَ رِوَاياتُ هذه القصَّةِ الصَّحيحًةُ لمعرفَةِ أنَّ جميعَ ما لم يُذكرْ فيها مِمَّا يفعلُهُ المُصلِّي ليسَ من شرْطِ صحَّةِ الصَّلاةِ. 2ـ يجوزُ أن يؤخِّرَ البيانُ إلى وقتِ الحاجَةِ. وهذا يدلُّ على صحَّتهِ واقعُ التَّشريعِ، وهو واردٌ على صُوَرٍ، منها: [1] نُزُولُ الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مناسباتٍ عِدَّةٍ في وقتِ الحاجةِ إلى البيَانِ لا قبْلَهُ. كما في حديثِ عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنهُ قال: بيْنَا أنا معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حرثٍ وهوَ مُتَّكيءٌ على عسيبٍ، إذْ مرَّ اليهودُ، فقالَ بعضُهمْ لبعضٍ: سلُوهُ عن الرُّوحِ؟ فقالَ: ما رابَكُمْ إليهِ؟ وقالَ بعضُهمْ: لا يستقْبِلَكُمْ بشيءٍ تكرَهُونَهُ، فقالوأ: سلُوهُ، فسألوهُ عنِ الرُّوحِ؟ فأمسَكَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلمْ يَرُدَّ عليهِم شيئًا، فعلمتُ أنَّهُ يُوحى

إليهِ، فقمتُ مقامِي، فلمَّا نزل الوحيُ قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] ، [متفقٌ عليه] . وفي حديثِ يعلَى بنِ أُميَّةَ أنَّهُ قال لعمر رضي الله عنهُ: أَرِني النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ يُوحى إليهِ، قالَ: فبينمَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالجِعرَانَةِ ومعهُ نفرٌ من أصحابِهِ، جاءَهُ رجلٌ فقال: يا رسول اللهِ، كيفَ ترَى في رجلٍ أحْرَمَ بعُمرَةٍ وهو مُتَضَمِّخُ بِطيبٍ؟ فسَكَتَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ساعةً، فجاءَهُ الوحيُ، فأشارَ عُمرُ رضي الله عنهُ إلى يعلَى، فجاءَ يَعلَى وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبٌ قدْ أُظلَّ بهِ، فأدْخلَ رأْسهُ، فإذا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُحْمَرُّ الوجهِ وهوَ يعظُّ، ثمَّ سُرِّيَ عنهُ، فقالَ: ((أينَ الَّذي سألَ عنِ العُمْرَةِ)) فأُتيَ بِرَجُلٍ، فقال: ((اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذي بكَ ثلاثَ مرَّاتٍ، وانْزِعْ عنكَ الجُبَّةَ، واصْنَعْ في عُمرَتِكَ كما تصنَعُ في حجَّتِكَ)) [متفقٌ عليه] . [2] تأخيرُ البيانِ لبعضِ الأوامِرِ المُجْملَةِ لِعَدَمِ مجيءِ وقتِ التَّنفيذِ بعْدُ. كما هو الشَّأنُ في الأمرِ بالحجِّ مثلاً، فإنَّه سبقَ أحكامَ بيانِ المَنَاسِكِ، وإن كانتْ بعضُ المناسِكِ دلَّتْ عليهَا بعضُ النُّصوصِ قبلَ حجَّةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إلاَّ أنَّ صفَةَ الحجِّ الشَّرعيَّةِ إنَّمَا علمَهَا النَّاسُ بفعلِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ حجَّ بالنَّاسِ حجَّةَ الإسلامِ الَّتي هي حجَّةُ الودَاعِ.

[3] تأخيرُ البيانِ إلى وقتِ استِعْدَادِ المُكلَّفِ. فمنْ هَذا: التَّدرُّجُ في التَّشريعِ، وعليهِ عامَّةُ شرائعِ الدِّينِ. فعنْ عائشةَ رضي الله عنهَا وهي تذْكُرُ نُزُول القُرآن قالتْ: إنَّما نزلَ أوَّل ما نزلَ منهُ سٌورةٌ من المفصَّلِ فيها ذِكرُ الجنَّةِ والنَّارِ، حتَّى إذا ثابَ النَّاسُ إلى الإسلامِ نزلَ الحلالُ والحرامُ، ولو نزَلَ أوَّل شيءٍ: لا تشْربُوا الخمرَ لقالُوا: لا نَدَعُ الخمرَ أبدًا، ولوْ نزلَ: ولا تزْنُوا لقالوا: لا ندَعُ الزِّنا أبدًا [أخرجه البخاريُّ] . ومنهُ: التَّدرُّجُ في التَّبيلغِ، كما في قصَّةِ معاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنه حينَ بعثهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمنِ، قالَ لهُ: ((إنَّك تقدُمُ على قومٍ أهْلِ كتابٍ، فليَكُنْ أوَّلَ ما تدْعُوهُم إليه عبادَةُ الله عزَّوجلَّ، فإذا عرفُوا اللهَ فأخبِرْهُم أنَّ الله فرض عليهِمْ خمسَ صلواتٍ في يومِهِم وليْلَتِهِم، فإذا فعلُوا فأخبرهُمْ أنَّ الله قدْ فرضَ عليهِم زكاةً تُؤخذُ من أغنيائِهِمْ فترَدُّ على فُقرائِهِم، فإذا أطَاعُوا بها فخُذْ منهُم وتوقَّ كرائمَ أمْوالِهِمْ)) [متفقٌ عليه] . * دلالة آياته على الأحكام: وُرودُ القرآنِ قطعيٌّ كما تقدَّم، وهوَ حُجَّةٌ مُلزِمَةٌ لا تقبلُ التَّردُّدَ ولاَ يرِدُ عليهَا الاحتمالُ من جهَةِ كونِهِ من أوَّلِهِ إلى مُنتهَاهُ بجميعِ ألفاظِهِ

ومعانيهِ كلامَ اللهِ، لا يُشَكُّ في ذلكَ. ولكنَّ دلالَةَ آياتِهِ على إفادَةِ الحُكمِ الشَّرعيِّ تنقسمُ إلى قسمينِ: الأوَّلُ: دلالَةٌ قطعيَّةٌ. وذلكَ عند مجيءِ اللَّفظِ لا يُحتمِلُ إلاَّ معنًى واحدًا، كقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12] ، فلفظُ (النِّصف) لا يحتمِلُ إلاَّ معنًى واحدًا، وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، فلفظُ (مائة) لا يحتملُ إلاَّ هذا العَدَدَ. وهذا النَّمطُ قليلٌ في القرآنِ، فهوَ يتَّصلُ بألفاظِ الأعدَادِ والمقادِيرِ الَّتي لا تحتَمِلُ زيادَةً أوْ نقصًا. والثَّاني: دلالةٌ ظنيَّة. وذلك عندَ مجيءِ اللَّفظ يحتملُ إرادَةَ المعنَى تامًّا أو بعضِهِ، أو معنًى واحدٍ من معانٍ متعدِّدَةٍ، فيكونُ قابلاً للتَّقييدِ أو التَّخصيصِ أو التَّأويلِ. من أمثلتِهِ: [1] قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، فلفظُ (اليَد) يحتملُ أن تكونَ إلى الرُّسْغِ، كما يحتملُ أن تكونَ إلى المِرفقِ، وإلى الإبطِ، والتَّعيينُ يحتاجُ إلى نصٍّ مفسِّرٍ غير هذه الآيةِ.

[2] قوله تعالى في كفَّارَةِ اليمينِ: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] ، يجوزُ عليهِ التَّقييدُ بـ (مؤمنةٍ) لوْ ورَدَ فيهِ ما يصلحُ أن يكونَ قيدًا، فلفظُ الآيةِ لا يمنعُ ذلكَ. [3] قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] ، يحتملُ إرادَة كلِّ ميتةٍ وكلِّ دمٍ، وهو الأصلُ، فإنَّ القاعدة كما سيأتي إبقاءُ اللَّفظِ على عمُومِه ما لمْ يردْ دليلُ التَّخصيصِ، لكنَّ الاستثناءَ من ذاتِ هذا العمُومِ واردٌ مقبولٌ في خُروجِ بعضِ أفرادِ الميتةِ وبعضِ أفرادِ الدَّمِ من التَّحريمِ، ولفظُ الآيةِ لا يمنعُ ذلك. وتسميةُ هذه الدَّلالةِ (ظنيّة) لأجلِ ووردِ الاحتمالِ وعدَمِ امتناعِ لفظِ الآيةِ عن قبولهِ، وهي تسميَةٌ اصطلاحيَّةٌ. وأكثرُ نصوصِ القرآنِ تندرجُ تحتَ هذا القسمِ في إفادَةِ الأحكامِ، وهذا مُتناسقٌ مع أمر الله تعالى بالتَّفقُّهِ في آياتِهِ وتدبُّر معانيها ودلالاتهَا، ولوْ جاءتْ قطعيَّةَ الألفاظِ امتنعَ ذلكَ فيهَا.

الدليل الثاني السنة

الدليل الثاني السنة * تعريفها: لُغةً: عبارَةٌ عن الطَّريقةِ والسِّيرة، يُقالُ: (سنَّ بهم سُنَّةَ فُلانٍ) أي: سلكَ طريقَتَهُ وسارَ سيرتَهُ، وقد تكُونُ ممدُوحَةً أو مذمومةً. وفي (السُّنَّة) معنى وقوعِ الشَّيءِ على نحوٍ مُطرَّدٍ ثابتً، فإنه لا يُقالُ مثلاً: (سنَّةُ فلانٍ أنَّه يقومُ اللَّيلَ) إذا كانَ يفعلُ ويتركُ، فلو كان كذلكَ لقيلَ: (سُنَّتُهُ أنَّهُ يُصلِّي ويَدَعُ) . ومن هذا قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62] ، ومنهُ يُقالُ: (السُّنَنُ الكونيَّة) وهي أُمُورُ الخلقِ الجاريةِ على نسقٍ ثابتٍ مُطرَّدٍ لا يتفاوتُ ولا يختلفُ. واصْطلاحًا: ما صدَرَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيرُ القرآنِ من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ. و (السُّنَّة) في اصطلاحِ الأصولييِّن غيرُ (السُّنَّة) المتقدِّم ذكرُها في قسم (المندوب) من أقسامِ الحُكمِ التَّكليفيِّ، فإنَّ تسميةَ المندوبِ (سُنَّة) اصطلاحٌ للفُقهاءِ.

أقسام السنن

أقسام السنن (1) سنة قولية * ويندرجُ تحتها نوعانِ: 1ـ القولُ الصَّريحُ، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ)) [متَّفقٌ عليه] . 2ـ ما فيه معنى القولِ، كقول الصَّحابيِّ: (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا) و (نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن كذا) فهذه صيغةٌ فيها معنى القول، لأنَّ الأمرَ والنَّهيَ إنَّما يقعانِ عادةً بالقولِ. ومن هذا قولُ الصَّحابيِّ: (أُمرنَا بكذا) و (نُهينَا عن كذَا) على الأصحِّ، وهو مذهبُ الشَّافعيَّة وغيرهِم على أنَّ الآمرَ والنَّاهيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خلافًا للحنفيَّةِ. وأمَّا قول الصَّحابيٍّ: (من السُّنَّةِ) فمحمولٌ على سُنَّةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد يكونُ استُفيدَ من سُنَّةٍ قوليَّةٍ أو فعليَّةٍ، وهذا أيضًا على مذهبِ الجمهُورِ من الشَّافعيَّةِ وغيرهِم، خلافًا للحنفيَّة. والأصلُ أنَّ الصَّادرَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأقوالِ تشريعٌ لأمَّتهِ، كما صحَّ عن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما قال: كنتُ أكتُبُ كلَّ شيءٍ أسمعُهُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُريدُ حفظَهُ، فنهتْنِي قُريشٌ وقالوا: أتكتبُ كلَّ شيءٍ تسمعُهُ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بشرٌ يتكلَّمُ في الغضبِ

والرِّضا؟ فأمسكْتُ عن الكتابِ، فذكرتْ ذلكَ لِرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأوْمأَ بأُصبُعِهِ إلى فيهِ، فقال: ((اكتُبْ فوالَّذي نفسيِ بِيدِهِ ما يخرُجُ منهُ إلاَّ حقٌّ)) [أخرجهُ أبوداود وغيرُهُ] . وقد يقولُ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - القولَ لا يُريدُ به التَّشريعَ، لكن لا طريقَ إلى ادِّعاء ذلك إلاَّبأن يقومَ دليلٌ صريحٌ يفيدُ أنَّ ذلكَ القولَ لم يُقصدْ به التَّشريعُ، ويقعُ مثالاً لهذا القصَّة المشهورةُ بقصَّة تأبيرِ النَّخلِ، فقد رواها عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - جماعةٌ، وألفاظُ أحاديثهم تُفسِّرُ بعضهَا، وأكثرُها وُضوحًا روايةُ من كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلكَ القصَّة طلحَةَ بن عُبيدِالله رضي الله عنه، فإنه قال: مررتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقومٍ على رؤوسِ النَّخلِ، فقال: ((ما يصنعُ هؤلاءِ؟)) فقالوا: يُلقِّحونهُ، يجعلونَ الذَّكر في الأنثى فيلقحُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أظنُّ يُغني ذلك شيئًا)) قال: فأُخبرُوا بذلك فتركوهُ، فأُخبرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: ((إن كانَ ينفعُهُم ذلكَ فليصنَعوهُ، فإنِّي إنَّما ظننتُ ظنًّا فلا تُؤاخذُوني بالظَّنِّ، ولكن إذا حدَّثْتُكمْ عن الله شيئًا فخذُوا به، فإنِّي لن أكذِب على الله عزَّوجلَّ)) [أخرجه مسلمٌ وغيرُه] . فهذه الرِّوايةُ من أحسنِ ما يُزيلُ الشُّبهَة بهذه القصَّة، وفيها أنَّ ما وقعَ منه - صلى الله عليه وسلم - كان صريحًا في كونِهِ رأيَ نفسِهِ، فإنَّ إخبارَهُ عن أحكامِ الله تعالى لا يكونُ بصيغةِ الظَّنِّ.

(2) سنة فعلية

(2) سنة فعلية المقصود بها: الأفعالُ النَّبويَّة الَّتي أُريد بها التَّشريعُ للأمَّةِ، ويُعرفُ كونُها أُريد بها التَّشريع بقرينةٍ تدلُّ على ذلك، وهذا على العكسِ من الأصل في الأقوالِ النَّبويَّة، والسَّببُ أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كغيرهِ من البشرِ له من الحركةِ والتَّصرُّف ما لهم، والأصلُ في الإنسانِ أنَّهُ (حيٌّ متحرِّكٌ) ، وتلك حركةٌ غالبَةٌ في العادةِ لحركةٍ يُقصدُ بها التَّوجيهُ والتَّعليمُ، والبشرُ يفعلونها بالضَّرورة من غير توقُّفٍ على وحيٍ يُرشدُهُم إليها ويُعلِّمهُم إيَّاها، فكان الأصلُ أن تكونَ الحركاتُ النَّبويَّةُ من هذا القبيلِ حتَّى يوجدَ ما يدلُّ على إرادةِ التَّشريعِ. وفهمُ ذلكَ يحتاجُ إلى تصوُّرِ أنواعِ الأفعالِ النَّبويَّةِ، فإليكهَا: 1ـ ما وقع من الأفعالِ امتثالاً منهُ - صلى الله عليه وسلم - لما أُمرَ به كسائرِ أُمَّتِه، مثلُ إقامتهِ الصَّلاة وصومِهِ رمضانَ وحجِّه البيتَ، ونحوهَا، فهذه أفعالٌ تساوَى فيها مع غيرِهِ من المكلَّفين، فليستْ داخلةً فيما يُقالُ: قُصدَ به التَّشريعُ، بلْ يُقالُ قصِدَ به الامتثالُ. 2ـ ما وقعَ من الأفعالِ جبِلَّةً بحكمِ بشريَّتِهِ - صلى الله عليه وسلم -، من قيامٍ وقعودٍ ونومٍ وركوبٍ وسفرٍ وإقامةٍ ومشيٍ وأكلٍ وشربٍ ولبسٍ وقضاءِ حاجَةٍ ونحو ذلكَ ممَّا تجري به عادةُ البشرِ، ومنهُ ما يحبُّهُ أو يكرهُهُ

طبعًا، كحبِّه للحُلوِ البارد، وكراهتِهِ لأكلِ الضَّبِّ مع أنَّه أُكلَ مائدَتِهِ. فحكْم هذه الأفعالِ أنَّها لا تُعدُّ من التَّشريع، لِوُقوعهَا في العادةِ من غير قصدٍ أو بمقتضى الحاجَةِ والضَّرورة. وشبيهُ بهذه الأفعالِ: نوعُ مسكنِهِ، أو مشربِه ومأكلِهِ، وملبسِهِ، من لونٍ أو صفةِ خياطَةٍ، أو نحو ذلك ممَّا هو جارٍ على أصلِ الإباحةِ، فهذا ليسَ ممَّا يندرجُ تحتَ التَّشريعِ، وإنَّما حكمُ مجرَّد فعلهِ وتركِهِ سواءٌ. 3ـ ما وقعَ من الأفعالِ مقصودًا به التَّعبُّد، لكنَّه قامَ دليلٌ على اختصاصِهِ بهِ - صلى الله عليه وسلم - دونَ أُمَّتِهِ، كوِصالهِ الصَّومَ، وزيادتهِ على أربعٍ في الجمعِ بين النِّساءِ. فحكمُ تلكَ الأفعالِ بقاؤها على الخُصوصيَّةِ. 4ـ ما وقع من الأفعالِ بيانًا لمُجملٍ في الكتابِ، كصفةِ الصَّلاةِ، والحجِّ. فحكمُ هذا النَّوعِ من الأفعالِ أنَّها شرائعُ للأمَّةِ، فإنَّها مُندرجَةٌ تحتَ عمُومِ قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، فهو بيَّنَ المأمُورَ به بِفعلِهِ لِيَقعَ الامتثالُ على تلكَ الصِّفةِ من أمَّتهِ كما قال - صلى الله عليه وسلم - في صفةِ الصَّلاةِ: ((صلُّوا كما

رأيتمُوني أصلِّي)) ، وقال وقدْ حجَّ بأفعاله: ((لِتأخُذُوا مناسككم)) فأمرَ أمَّته أن تقتدي بِفِعلهِ في واجبِ ذلكَ ومندُوبِهِ. 5ـ ما وقع من الأفعالِ ابتداءً، وليس هو بواحدٍ ممَّا تقدَّم، فهذا قسمانِ: [1] ما ظهرَ فيه قصدُ القُربةِ، كصلاةِ التَّطوع وصدقةِ التَّطوُع، ونحو ذلك، فلوُضُوح معنى القُربَةِ فيه فهو تشريعٌ عامٌّ، قال الله عزَّوجلَّ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] . [2] ما لم يظهر فيه وجهُ القُربة، فغايتُهُ أن يكونَ متردِّدًا بين عبادةٍ وعادةٍ، فمفادُه على أقلِّ تقديرٍ إباحةَ ذلكَ الفعلِ للأمَّةِ حيثُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فعلهُ، و (الإباحةُ) تشريعٌ. مثالهُ: في الصَّحيحينِ)) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل المُحصَّبَ (وهو اسمُ موضعٍ بين مكَّة ومِنى وإلى منَى أقرب، ويُسمَّى الأبْطَحُ) ، فاختلفَ الصَّحابة في هذا النُّزولِ: هل هو تشريعٌ أو ليس كذلك، فكانَ عبدُالله بنُ عمرَ رضي الله عنهما يراهُ سُنَّةً، وكان عبدُالله بنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما يقولُ: ((ليسَ التَّحصيبُ (أي: نُزول المُحصَّبِ) بشيءٍ، إنما هو منزلٌ نزلَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) وكانتْ عائشةُ رضي الله عنها تُوافقُ ابنَ عبَّاسٍ فتقولُ: ((نزولُ الأبطحِ ليسَ بِسُنَّةٍ،

قاعدة التروك النبوية

إنَّما نزلهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنَّه كان أسمَحَ لخُروجِه إذا خرجَ)) [أخرجَ جميع ذلك البُخاريُّ ومسلمٌ] . قاعدة التروك النبويَّة التُّروكُ النَّبويَّةُ تُقابلُ الأفعالَ، وهي أنواعٌ: 1ـ تركُ المحرَّمِ، وهذا ظاهرٌ. 2ـ تركُ المكروهِ تشريعًا، كما في تركهِ - صلى الله عليه وسلم - مُصافحَةَ النِّساءِ في البيعةِ وتقدَّم التَّمثيلُ به في قسم (المكروه) من أقسامِ (الحُكمِ التَّكليفِيِّ) . 3ـ ترك المكروهِ طبعًا، كما في كراهته - صلى الله عليه وسلم - أكلَ الضَّبِّ. فعن خالدِ بن الوليدِ رضي الله عنهُ: أنَّه دخلَ معَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيتَ ميمونَةَ، فأُتي بضبٍّ محنوذٍ، فأهوى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدِهِ، فقال بضُ النِّسوةِ: أخبرُوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يُريدُ أن يأكُلَ، فقالوا: هوَ ضبٌّ يا رسول الله، فرَفَعَ يَدَهُ، فقلتُ: أحرامٌ هوَ يا رسول الله؟ فقالَ: ((لاَ، ولكنْ لم يكُن بأرضِ قومِي، فأجِدُني أعافُهُ)) ، قال خالدٌ: فاجتررتُهُ فأكلتُه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظرُ [متفقٌ عليه] . 4ـ أن يتركَ - صلى الله عليه وسلم - الشَّيءَ الحقِّ الغيرِ، كما في تركِهِ أكلَ الثُّوم والبصلِ في جميعِ الأحوالِ لحقِّ الملائكَةِ.

فعنْ جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهمَا: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((مَنْ أكلَ ثُومًا أو بصلاً فليَعْتزِلْنَا)) أو قال: ((فليَعْتَزِل مسجِدَنَا وليقعُدْ في بيتِهِ)) ، وأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتي بقِدرٍ فيه خضِراتٌ من بُقولٍ، فوجَد لهَا ريحًا، فسأل فأُخبرَ بما فيها من البُقولِ، فقال: ((قرِّبُوهَا)) إلى بعض أصحابهِ كان معهُ، فلمَّا رَآهُ كرِهَ أكلهَا قال: ((كُلْ فإنِّي أُناجِي من لا تُناجِي)) [متفقٌ عليه] . فهذا النَّوعُ كالَّذي قبلهُ، من جهَةِ أنَّ التَّركَ ليسَ بتشريعٍ للأمَّةِ. 5ـ أن يترُكَ - صلى الله عليه وسلم - الشَّيءَ مخافَةَ أن يُفرضَ على أُمَّتِهِ. كما قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: إنْ كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليَدَعُ العملَ وهوَ يُحبُّ أن يعْملَ بهِ خشيَةَ أن يعمَلَ بهِ النَّاسُ فيُفرضَ عليهِمْ [متفقٌ عليه] . وعنهَا أيضًا: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى ذاتَ ليلةٍ في المسجِدِ، فصلَّى بصلاتِهِ ناسٌ، ثكَّ صلَّى من القَابلَةِ، فكثُر النَّاسُ، ثمَّ اجتمعُوا من اللَّيلةِ الثَّالثة أو الرَّابعة، فلم يخرُجْ إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا أصبحَ قالَ: ((قَدْ رأيتُ الَّذي صنعتُمْ، ولم يمْنَعْنِي من الخُروجِ إليكُم إلاَّ أنِّي خشيتُ أن تُفرضَ عليكُم)) وذلك في رمضَانَ [متفقٌ عليه] . فهذا التَّركُ زالَ المحذُورُ منه بموتهِ - صلى الله عليه وسلم - وانقطَاعِ الوحي، لكنَّ من أهلِ العلمِ من نبَّه على شيءٍ يستفادُ من مثلِ هَذا الحديثِ في حقِّ

العُلماءِ والدُّعاةِ إذا كانُوا ممَّن يُؤخذُ عنهُمْ: أن لا يُواظِبُوا أمامَ الملإِ على فعلِ المندُوبِ خشيةَ أن يحسَبَهُ النَّاسُ واجبًا أو سنَّةً لا تُتْرَكُ. 6ـ أن يُترك - صلى الله عليه وسلم - ما لاحرج فيهِ ممَّا أباحَهُ لغيرِهِ من أُمَّتِه لإقبالِهِ على ماهوَ أتَمُّ في حقِّهِ وأكملُ. مثالهُ: حديثُ عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ أبابكرٍ رضي الله عنه دَخلَ عليهَا وعندَهَا جاريَتَانِ تُدفِّقانِ وتضْرِبانِ، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُتغشٍّ بِثوبِه، الحديث [أخرجهُ البخاريُّ وغيرُهُ] . وهذا النَّوعُ من التَّركِ سُنَّةٌ حسنةٌ، ولا تقبَحُ مُخالفتُهُ. 7ـ أن يترُكَ - صلى الله عليه وسلم - الانتِقَامَ لحظِّ نفسِهِ أخْذًا بأولى الخَصلَتيْنِ، كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 40ـ 42] ، ومن هذا حديثُ أُبيِّ بنِ كعبٍ رضي الله عنه قالَ: لمَّا كانَ يومُ أُحُدٍ قُتلَ من الأنصارِ أربعةٌ وستُّونَ رجلاً، ومن المُهاجرِينَ سِتَّةٌ، فقال أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لئنْ كانَ لنَا يومٌ مثلُ هذا من المُشركينَ لنُربِينَّ عليهِمْ، فلمَّا كانَ يومُ الفتحِ قالَ رجلٌ لا يُعرفُ: لا قُريشٌ بعدَ اليَومِ، فنادَى مُنادي رسول الله ً: ((أمِّنِ

الأسوَدَ والأبيضَ إلاَّ فُلانًا وفُلانًا)) ناسًا سمَّاهم، فأنزل الله تباركَ وتعالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126] ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نصْبِرُ ولاَ نُعَاقِبُ)) [أخرجه عبدُالله بن أحمد في ((زوائد المسند)) 5/135 بإسنادٍ جيِّدٍ، وبنحوهِ عندالتِّرمذيِّ والنَّسائي في التَّفسيرِ] . وهذا النَّوعُ من التَّركِ لا تخفَى شرعيَّةُ الاقتِداءِ فيهِ. 8ـ أن يترُك - صلى الله عليه وسلم - الشَّيءَ المطلوبَ دفعًا للمفسدَةِ الأكبرِ. وهذا كالَّذي حدَّثتْ به عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((يا عائشة، لولاَ أنَّ قومَكِ حديثُ عهدٍ بجاهليَّةٍ، لأمرتُ بالبيتِ فهُدِمَ، فأدْخلتُ فيه ما أُخرِجَ منهُ وألزَقْتُه بالأرضِ، وجعلتُ لهُ بابينِ بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا، فبَلَغْتُ بهِ أساسَ إبراهيمِ)) [متفقٌ عليه] . فهذا تركٌ منهُ - صلى الله عليه وسلم - خشيَةَ أن يقعَ بالفِعلِ مفسَدَةٌ تربُو على هذه المصلحَةِ، وقد فعلَ ذلكَ عبدُالله بن الزُّبيرِ في خلافَتِهِ ظنًّا منهٌُ أنَّ المحذُور قدْ زالَ، فلمَّا قُتلَ أعادَهُ بنُوأُميَّة كما كانَ، كما جاءَ ذلكَ في بعضِ رواياتِ مسلمٍ. وهذا من التُّروكِ هديٌ عظيمٌ للعلماءِ والآمرينَ بالمعروفِ والنَّاهينَ عن المُنكرِ، أنْ يُقدِّرُوا في أفعالهم وتُروكهِم المصالحَ والمفاسدَ، فإنْ غلبَ ظنُّ جانبِ المفسَدَةِ بالفعلِ فالسُّنَّةُ التَّركُ، وإنْ

(3) سنة تقريرية

غلبَ جانبُ المفسَدَةِ بالتَّركِ فالسُّنَّةُ الفِعلُ. (3) سنة تقريرية * المقصودُ بها: سكوتُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وتركُهُ الإنكارَ على قولٍ أوفعلٍ وقعَ بحضْرتِهِ، أو في غيبتِهِ وبلغَه، أو تأكيدُهُ الرِّضا بإظهارِ الاستِبشَارِ بهِ أو استِحسَانِهِ. ومن أمثلةِ ذلكَ: 1ـ حديثُ عائشة رضي الله عنها: أنَّها ذكرَ عندَهَا ما يقطعُ الصَّلاةَ، فقالوا: يقطَعُها الكَلبُ والحمارُ والمرأةُ، قالتْ: لقدْ جعلتُمونَا كِلابًا‍‍، لقدْ رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي وإنِّي لبيْنَهُ وبينَ القِبلةِ وأنَا مُضطَجِعَةٌ على السَّريرِ، فتكونُ لي الحَاجَةُ فَأكرَهُ أن أسْتَقْبِلَهُ، فأنْسَلُّ انسِلاَلاً [متفقٌ عليه] . 2ـ حديثُ أبي سعيدٍالخُدريِّ رضي الله عنه: أنَّ ناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتَوْا على حيٍّ من أحياءِ العربِ، فلمْ يقرُوهُم، فبينمَا همْ كذلكَ إذْ لُدِغً سيِّدُ أولئكَ، فقالُوا: هلْ معَكُم من دواءٍ، أو راقٍ؟ فقالوا: إنَّكُم لم تقرُونَا، ولا نفعلُ حتَّى تجعلُوا لنَا جُعلاً، فجعلُوا لهُم قطيعًا من الشَّاءِ فقالوا: لا نأخُذُهُ حتَّى نسألَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -

فسألوهُ، فضحِكَ، وقالَ: ((وما أدراكَ أنَّها رُقيةٌ، خذُوهَا واضْرِبُوا لي بِسهمٍ)) [متفقٌ عليه] . وممَّا يندجرُ تحتَ السُّنَّةِ التَّقريريَّة: [1] أنْ يقعَ الفعلُ في زمانهِ - صلى الله عليه وسلم -، ويكونَ مشهورًا لا يخفى مثلُهُ في العادَةِ أن يبلُغَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. مثلُ: قصَّةِ مُعاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنه أنَّهُ كان يُصلِّي مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ يرجعُ فيؤمُّ قومَهُ [متفقٌ عليه من حديث جابرِ بن عبد الله] ، فهذا دليلٌ على جوازِ أن يؤمَّ المتنفِّلُ المفترضينَ، وأنَّه لا يضرُّ اختلافُ نيَّةِ الإمامِ والمأمومِ. [2] أنْ يقعَ الفعلُ في زمانهِ - صلى الله عليه وسلم -، وليسَ مثلُهُ مظِنَّةَ الاشتِهارِ في العادَةِ، فلا يُدرى أعَلِمَ به النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا، فهذا عندَ طائفَةٍ ليسَ بحُجَّةٍ، وذهبً بعضُ العلماءِ إلى أنَّهُ حجَّةٌ مالم يُعارضْ بنصٍّ أقوَى، لأنَّ الله تعالى مُطَّلعٌ، وجبريلُ ينزلُ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالشَّرائع. والقولُ بحُجيَّتِهِ أصحُّ، وقد مضى الحالُ من أصحابِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في حياتهِ على إدراكِ هذه الحقيقةِ، فكانُوا يعلمونَ أنَّهُم لن يُقَرُّوا على باطلٍ ما دامَ القُرآن ينزلُ وإن كانَ ذلكَ مِمَّا لا يطَّلع عليهِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في العادَةِ، كما صحَّ عن عبد الله بن عُمرَ رضي الله عنهمَا قالَ: كُنَّا نتَّقِي كثيرًا من الكلامِ والانبِساطِ إلى نسائنَا على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخافَةً

الوجوه التي تقع عليها التصرفات النبوية

أن ينزلَ فينا القُرآن، فلمَّا مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكلَّمنَا، [أخرجه البخاريُّ وابن ماجه وأحمدُ واللَّفظُ له] . [3] أن يكونَ الشَّيء مِمَّا جرى به عُرفُ النَّاسِ زمَنَ التَّشريعِ، ولمْ يأتِ من الشَّارعِ فيه أمرٌ ولا نهيٌ، فهوَ تقريرٌ من الشَّارعِ لعدَمِ الحُكمِ. مثالهُ: أنَّ النَّاسَ كانُوا يتَّخذون الخيلَ، ولم يأتِ أنَّهُم كانُوا يُخريجونَ عنها الزَّكلة، ولو كانُوا يفعلونَ لحُفظَ ذلكَ، فحيثُ لم يأتِ فيه شيءٌ دلَّ على أن لا شيءَ فيهِ. الوجوه التي تقع عليها التصرفات النبوية * النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان المبلغُ لأمَّتِهِ عن الله تعالى شرائعَ الدِّنِ، فكانَ مصدرَ الأحكامِ وإليهِ سُلطةُ الفتوى بحكمِ أنَّه رسول الله، لكنَّه لم يستقلَّ بهذه الوظيفةِ فحسب، بلْ كانتْ لهُ سلْطةُ الحُكمِ والسِّياسةِ والإمامةِ، كما كانتْ لهُ سُلطةُ القضاءِ والفصْلِ بين الخُصوماتِ، وبهذه الاعتباراتِ جاءتْ تصرُّفاتُهُ من الأقوالِ والأفعالِ والتَّقريرَاتِ على وجُوهٍ أربعةٍ جديرٌ بالفقيهِ مُلاححَظَتُها، هيَ: 1ـ تصرُّف مقطوعٌ بكونه صدرَ منهُ - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى الحُكِ والسِّياسَةِ. مثلُ: إقطاعِ الأراضي، وإقامةِ الحُدُودِ، وقيادَةِ الجُيوشِ، وقسمَةِ

الغَنائمِ، وتوزيعِ أموالِ بيتِ المالِ في المصالحِ. فهذا النَّوعُ لم يكُن يقعُ من أحدٍ إلاَّ بإذنهِ - صلى الله عليه وسلم -، فهوَ حقٌّ للحاكمِ لا يؤذنُ فيه للأفرادِ بلا خلافٍ يُذكرُ بين أهلِ العلمِ. 2ـ تصرُّفٌ مقطوعٌ بكونِهِ صدرَ منهُ - صلى الله عليه وسلم - على وجهِ القضاءِ. مثلُ إلزامِ الدُّيونِ، وتسليمِ الحقوقِ، وفسخِ الأنكِحةِ. فهذا النَّوعُ لم يكُن يقعُ من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ بحكمِ القضاءِ، وما كانَ يجرُؤ عليه أحدٌ بغير إذنهِ، فهو حقٌّ للقاضي لا يُؤذنُ فيه إلاَّ لمن كانتْ لهُ وِلايَةُ قضاءٍ بلا خلافٍ يُذكرُ عن أهلِ العلمِ. 3ـ تصرُّفٌ مقطوعٌ بكونِه صدرَ منهُ - صلى الله عليه وسلم - على وجهِ الإفتاءِ وبيانِ الشَّرائعِ لعُمومِ الأمَّةِ. مثلُ: بيانِ أحكامِ العباداتِ، كالصَّلاةِ والصِّيامِ ومناسكِ الحجِّ. فهذا عامٌّ في حقِّ كلِّ فرْدٍ، لا يتوقَّفُ امتثالهُ على إذنِ حاكمٍ ولا قضاءِ قاضٍ، وهو الأصلُ الغالبُ فيما صدرَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من السُّننِ. 4ـ تصرُّفٌ صدر منهُ - صلى الله عليه وسلم - ليسَ بصريحٍ في إرادَةِ واحدٍ من الوجوهِ المتقدِّمةِ، فهو يحتملُ الإلحاقَ بهذا أو ذاك منها، وهذا ممَّا وقعَ فيهِ اختلافُ العلماءِ. وإليكَ ثلاثة أمثلةٍ لذلك:

[1] حديثُ جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهمَا: عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((منْ أحيَا أرضًا ميتةً فهيَ لهُ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه التِّرمذِيُّ وغيرُهُ] . فمذهبُ مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمدَ وغيرهم: هذا تصرُّفٌ بالفُتيا، فلكلِّ أحدٍ حقٌّ في إحياءِ الأرضِ الميتةِ من غيرِ توقُّفٍ على إذنِ السُّلطانِ. وخالفهُمْ أبُوحنيفةَ، فقالَ: هذا تصرُّفٌ بالحكمِ، فلا يحلُّ لأحدٍ إلاَّ بإذنِ الإمامِ. [2] حديثُ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيانَ رجلٌ شحيحٌ، لا يُعطيني من النَّفقةِ ما يكفينِي ويكفي بَنِيَّ، إلاَّ ما أخذْتُ من مالهِ بغيرِ علمِهِ، فهلْ عليَّ في ذلكَ من جُناحٍ؟ فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خُذي من مالهِ بالمعروفِ ما يكفيكِ ويكفي بنيكَ)) [متفقٌ عليه] . فذهَبَ كثيرٌ من العُلماءِ إلى أنَّ هذا من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تصرُّفٌ بالفُتيا، فهوَ حكمٌ عامٌّ لكلِّ أحدٍ إنْ كانَ لهُ حقٌّ عندَ غيرِهِ فظفرَ بهِ أنَّ لهُ أن يأخذَهُ. وذهبَ مالكٌ إلى أنَّ هذا تصرُّفٌ بالقضاءِ، وعليهِ اعتراضاتٌ ليسَ

حجية السنة

هذا محلُّهَا. [3] حديثُ أبي قتادَةَ رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((من قتلَ قتيلاً لهُ عليهِ بيِّنةٌ سلَبَهُ)) [متفقٌ عليه] . هذا تصرُّفٌ بالإمامَةِ عند كثيرٍ من أهلِ العلم فلا يستحقُّ القاتلُ السَّلبَ إلاَّ بإذنِ الإمامِ، خلافًا للشَّافعيِّ، واختلفُوا: هلْ هو حقٌّ لازمٌ لهُ، فيكونُ ذلك من قبيلِ الفُتيا النَّبويَّةِ للحُكَّامِ والأئمَّةِ، أم يفعلُهُ الإمامُ سياسةً إنْ رأى مصلحةً تستدعيهِ؟ فذهبَ مالكٌ إلى أنَّهُ سياسةٌ يفعلُهُ الإمامُ إذا رأى، وذهبَ غيرُهُ إلى أنَّهُ حقٌّ له يُعطيهِ إيَّاهُ الإمامُ إذا جاءَ ببيِّنةٍ، في تفصيلٍ وبسْطٍ ليسَ هذا موضِعَهُ. حجيَّة السنة * السُّنَّةُ حُجَّةٌ ومصدرٌ تشريعِيٌّ كـ (القُرآنِ) في إفادَةِ الشَّرائعِ والأحكامِ في دينِ الإسلامِ، اتَّفقَ على ذلك الصَّدرُ الأوَّلُ من هذهِالأمَّةِ وعامَّةُ أئمَّةِ الدِّينِ بعدَهُم ممَّن اقتفى آثارهُم وجرَى على منهاجهم في تقديم النَقلِ والوحيِ على العقلِ والرَّأي. ولهمْ من البراهين ما لايُحصَى ممَّا يعودُ إليه تقريرُ هذا الأصلِ، ترجعُ إلى وجوهٍ، إليك ذكرهَا مختصرةً:

1ـ استواءُ السُّنَّة مع القرآنِ في كونهَا وحيًا، فقد قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3ـ4] ، وعنِ المِقدامِ بنِ معدي كرِبَ رضي الله عنهُ: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألاَ إنِّي أوتيتُ الكتابَ ومثلهُ معهُ، ألاَ يُوشكُ رجلٌ شبعانَ على أريكته يقولُ: عليكُم بهذا القرآنِ، فما وجدتُّم فيه من حلالٍ فأحلُّوهُ، ما وجدتُّم فيه من حرامٍ فحرِّمُوهُ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أبوداود وغيرُه] ، ففي هذا إبانَةٌ عن كونِ السُّنَّةِ ممَّا أُوتيَهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّها في إفادَةِ التَّشريعِ كالقُرآنِ، وهذا معنى المثليَّةِ في الحديثِ مؤكَّدًا بإنكارِ التَّفريقِ بينهمَا في المثلِ المضروبِ. 2ـ مساواةُ الله تعالى بين طاعتهِ وطاعةِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وأمرُهُ بإعادَةِ الخلافِ إليهِ وإلى نبيِّه للفصلِ فيهِ، كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] ، ففي هذا دليلٌ على أنَّهُ حكمٌ واحدٌ كُلُّهُ في الأصلِ حكمُ الله تعالى، والعلَّةُ فيه أنًَّ الله عزَّوجلَّ عصمَ نبيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - من أن يقولَ عليه غيرَ الحقِّ أو ينسُبَ إلى دينهِ الباطلَ فكانَ لا يصدُرُ إلاَّ عن أمرهِ وشرْعِهِ. 3ـ تمكينُ الله تعالى نبيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - من شرحِ الكتابِ وتفصيلِ أحكامِهِ وشرائعِهِ دليلٌ على أنَّ اكتمالَ الإدراكِ لأحكامِ الكتابِ لا يتمُّ إلاَّ ببيانِ

الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم - فيكونُ الاحتجاجُ بالسُّنَّةِ غيرَ متأخرِ الرُّتبةِ عن درجةِ الكتابِ في إفادَةِ التَّشريعِ لاحتياجِ الكتابِ إليها، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . وما تقدَّم ذكرُهُ في (أحكام القرآن) من إرجاء تفصيلِ الأحكامِ إلى السُّنَّة صريحُ الدَّلالةِ على امتناعِ فهمِ شرائعِ الدِّين من الكتابِ دونَ السُّنَّةِ، فلو تُركَ النَّاسُ ليصلُّوا بمُقتضى دلالةِ الكتابِ لمَا عرفَ أحدٌ كيفَ ولا متى ولا على أيِّ صفةٍ يصلِّي، وهكذا أكثرُ الأحكامِ. 4ـ أمرُ الله الصَّريح في كتابه بقبولَ ما جاءَ به الرَّسولُ - صلى الله عليه وسلم - من غيرِ تفريقِ بين قرآنٍ وغيرهِ، وتحذيرُهُ أشدَّ التَّحذيرِ من مخالفَةِ ذلكَ، بُرهانٌ قائمٌ بذاتهِ على اعتبارِ السُّنَّةِ دليلاً لإثباتِ شرائعِ الدِّين، من ذلكَ قوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، وقوله عزَّوجلَّ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، وقال: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] . أخرج البُخاريُّ ومسلمٌ عن عبد الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: ((لعنَ الله الواشمَاتِ والمُوتَشمَاتِ، والمُتنمِّصاتِ، والمُتفلِّجاتِ للحُسنِ، المُغيِّراتِ خلقَ الله)) فبلغَ ذلكَ امرأةً من بني أسدٍ يُقالُ لها

أمُّ يعقوبَ، فجاءتْ فقالتْ: إنَّهُ بلغني أنَّك لعنْتَ كيتَ وكيتَ، فقالَ: ومالي لا ألعنُ من لعنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن هُو في كتابِ الله؟ فقالتْ: لقد قرأتُ ما بينَ اللَّوحينِ فما وجدتُ فيه ما تقولُ، قال: لئنْ كُنتِ قرأتِهِ لقدْ وجدتيهِ، أما قرأتِ؟ : {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ؟ قالتْ بلَى، قال: فإنَّهُ قد نهَى عنهُ، قالتْ: فإنِّي أرى أهلكَ يفعلونهُ، قال: فاذهبي فانظُري، فذهبتْ فنظرَتْ فلمْ ترَ من حاجتها شيئًا، فقال: لو كانتْ كذلك ما جامعتْنَا. 5ـ مٌضيُّ سبيلِ المؤمنينَ على الاحتجَاجِ بالسُّننِ المرويَّةِ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إثباتِ شرائعِ الدِّينِ كالقُرآن وهي عندهُم شَطْرُهُ تحت مسمَّى الوحي، ولذلك يمنعونَ الاجتهادَ في قضيَّةٍ فصلتْ فيها كما يمنعونَ الاجتهادَ عندَ ورودِ القرآنِ بفصْلهَا، وكانَ من حادَ عنها عندَهُم بعدَ العلمِ بها زائغًا عن الهُدَى كما يصفونَ بذلكَ من حادَ عن القرآنِ، وكانَ الفرقُ عندَهُم بين الشَّرعِ والإحداثِ يتميَّزُ بمُخالفَةِ السُّنن، ولِذا أصْبحَتِ (السُّنَّةُ) مقابلةً لـ (البِدعَة) . وهذا معنى يطولُ استقصاؤهُ، وقدْ جُرِّدتْ فيه كتبٌ كثيرةٌ قُصدَ فيها إبطالُ مقالةِ من أسقطَ الاستدلالَ بالسُّننِ أو أضْعفَ شأْنَهَا من أصحابِ البِدَعِ.

طرق ورود السنن

طرق ورود السنن "طريقُ نقلِ السُّنَّةِ يختلفُ عن الطَّريق الَّذي نُقل به القرآن، فإنَّ القرآن لقيَ أعظَمَ العنايَةِ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهِ، فكانَ لا يتلوهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعدما ينزلُ عليه به جبريلُ عليه السَّلامُ إلاَّ وتلقَّفهُ الكاتبونَ الأمناءُ المعدَّلونَ من قبلِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يتلوهُ على أصحابهِ في مواعظِهِ وخُطبهِ ومجالسِه وصلوَاتِه فيسمعُهُ الخاصُّ والعامُّ، وهو يحثُّهم على أخذهِ وحفظِهِ، فلمَّا مات- صلى الله عليه وسلم - جُمع المكتوبُ وقورِن بالمحفوظِ وحُصرَ بالمصاحفِ، ورأى أئمَّةُ الصَّحابةِ كالخُلفاءِ الرَّاشدينَ أنَّ ضبطَ ذلك من مسؤوليَّة الأمَّةِ العُظمَى، فنُشرتِ المصاحفُ بعدَ ضَبْطِهَا وشاعتْ في الأمصارِ، والحُفَّاظُ له المعتنونَ به لم يدخُلو بعدَ ذلك تحتَ حصرِ حاصرٍ، وأسانيدُ النَّقلِ لهُكثيرةٌ لم يكُن يخلُ منها مصرٌ من أمصارِ المسلمين على اتِّساعهَا. أمَّا السُّنَّةُ؛ فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكُن أذنَ في كتابِتهَا خشةَ اختلاطِهَا بالقرآنِ لأنَّهُ لم يكُن بعدُ قد جُمعَ وحُصرَ بالمصاحفِ، وإنَّما أذنَ لبعضِ أصحابهِ بذلكَ، وبقيَ أمرُ حفظِهَا إلى من يقصدُ الاعتناءَ بذلكَ من أصحابِهِ، كما وقعَ من أبي هريرةَ رضي الله عنهُ وغيره، وربَّما كانَ الصَّحابيُّ سمعَ الحديثَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موضعٍ لم يكنْ فيهِ

غيرهُ وآخرُ سمعهُ مع آخرينَ ولكن لم يكُن الحملُ كالأداء، فرُبَّما نسيَ بعضُ أولئكَ الحديثَ، وربَّما لم ينشطُوا لأدائهِ، وربَّما منعهُمْ من التَّحديثِ عارضٌ شغلَهُم عنه، كما حصلَ من كثيرٍ من كبارِ الصَّحابةِ كأبي بكرٍ وعُمرَ ومن ماتَ في عهدِهِما، فمع طولِ الصُّحبةِ لم يؤدُّوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديثِ إلاَّ القليلَ لانشغالِهِم يومئذٍ بأمرِ تثبيتِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ والفُتوحِ، ولذَا ترى في الحديثِ المنقولِ عن صغارِ الصَّحابةِ ومن تأخَّر موتُه ما هو أضعافُ أضعافِ المنقولِ عن أولئكَ الكِبارِ. نعمْ؛ لا يصحُّ اعتقادُ ضياعِ شيءٍ من السُّننِ، لأنَّ الله تباركَ وتعالى تعهَّدَ بحفظِ وحيِهِ لِيبقَى حُجَّةً ما بقيَ الخلقُ، وهذه قضيَّةٌ لبسطِهَا موضعٌ آخرُ، ولكنَّ الَّذي يعنِينا هُنا هوَ أنَّ الأسبابَ المتقدِّمَةَ ونحوَها جعلتْ نقلَ السُّنَّةِ دونَ نقلِ القرآنِ، ممَّا يقعُ بمثلهِ خفاءُ الحُجَّةِ في المسائلِ الشَّرعيَّةِ الواردَةِ في كثيرٍ من السُّننِ، ولذلكَ كان من أعظمِ أسبابِ اختلافِ الفُقهاءِ خفاءُ الحديثِ على الفقيهِ وعلمُ الآخرِ بهِ، وهذا لا يقعُ بالنِّسبةِ إلى القرآنِ، إنَّما اختلافُهُم في القرآنِ إنْ وقعَ فبِسببِ الدَّلالةِ لا الرِّوايةِ. وعليهِ فإنَّ الفقيه مُضطرٌّ إلى البحثِ عن الأحاديثِ المرويَّةِ، ولمَّا كانتْ رِوايتهَا تقعُ بنقلِ الجماعةِ القليلةِ أو بنقلِ الفرْدِ فهوَ مُضطرٌّ للتثبُّتِ في صحَّةِ ذلكَ النَّقلِ، وهذا أمرٌ لا يحتاجُه بالنِّسبةِ إلى القرآنِ،

1ـ السنة المتواترة

من أجلِ حصولِ القطعِ بأنَّهُ الَّذي أنزلهُ تعالى على محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - من أوَّلهِ إلى منتهاهُ بطريقِ نقلٍ لا يقبلُ التَّردُّدَ كما تقدَّمَ. أمَّا أمرُ ثبوتِ تلكَ الأحاديثِ فلقواعدِهِ وضوابِطِهِ مفصَّلةً (علومُ الحديثِ) . لكن يجدُرُ بالفقيهِ أن يعلمَ مراتبَ القُوَّةِ في نقلِ السُّننِ، ويتطرَّقُ الأصوليُّون لهذهِ القضيَّةِ من جهةِ تعدُّدِ الأسانيدِ المستقلَّةِ للسُّنَّةِ المعيَّنةِ، فيُقسمُونَ السُّنَّةَ إلى قسمينِ، هما: 1ـ السنة المتواترة "تعريفها: التَّواترُ لُغةً: التَّتابعُ، يقالُ (تواترَتِالخيلُ) إذا جاءتْ يتْبعُ بعضُها بعضًا، و (جاءُواتَتْرَى) أي متتابعينَ وِتْرًا بعدَ وِترٍ، و (الوِتُرُ) الفرْدُ، فمن هذا قيلَ للحديثِ (مُتواترٌ) لأجلِ تتابُعِ الأفرادِ فردًا بعدَ فرْدٍ على روايتِهِ. واصطلاحًا: ما اجتَمَعتْ فيه شُروطٌ ثلاثَةٌ: 1ـ يرويهِ عدَدٌ كثيرٌ يستحيلُ في العادَةِ أن يتواطأُ على الخطإ، بسببِ تباعُدِ بلْدانِهم، أو فرْطِ كثرتِهِمْ، أو لدينِهِمْ وصلاحِهمْ وشُهرتهم بذلك. 2ـ يرويهِ عنهُم مثلُهُم من مصدرِهِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى منتهَاه.

3ـ أخذُ بعضِهِم عن بعضٍ قدِ استَن‍دَ إلى الحِسِّ، وهو السَّماعُ أو ما في معناهُ ممَّا يثبتُ بهِ الاتِّصالُ. * درجتها: فإنِ اجتَمَعَتْ هذهِ الشُّروطُ في سُنَّةٍ منقولةٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهيَ سُنَّةٌ متواترةٌ مفيدةٌ لليقينِ، ومنزلةُ العلمِ الثَّابتِ بطريقِ التَّواتُرِ منزلةُ المعاينةِ لهُ كما لو شَهِدَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُحدِثُ بهِ. وهوَ أعلَى السُّنَنِ حُجَّةً عندَ الفقيهِ، ولا يختلفُ أهلُ العلمِ في كونِهِ حُجَّةً شرعيَّةً مستقلَّةً في إفادَةِ الأحكامِ الشَّرعيَّة. * التواتر نوعان: 1ـ تواتُرٌ ضرُوريٌّ: وهوَ ما يقعُ العلمُ به ضرُورةً، فلا إمكانَ لدَفعِهِ ولا التَّردُّدِ فيهِ، ولا يتوقفُ على نظرٍ وبحثٍ، وهذا واقعٌ في السُّننِ في أشياءَ كثيرةٍ، استغنَى المسلمونَ بتواتُرها عن النَّظرِ في رواياتهَا ونقلهَا، مثلُ: الصَّلواتِ الخمسِ في اليومِ واللَّيلةِ، وعددِ ركعاتٍ كلِّ صلاةٍ، ومواقيتهَا من حيثُ الإجمالُ، ومشروعِيَّةِ الأذانِ والإقامةِ، وغير ذلكَ ممَّا يعرفُهُ الخاصُّ والعامُّ، والعلمُ به حاصلٌ لجميعِ أهلِ الإسلامِ من غيرِ توقُّفٍ على استدلالٍ. وهذا التَّواتُرُ لا يحتاجُ إلى الإسنادِ.

2ـ تواتُرٌ نظريٌّ: وهو ما توقَّف العلمُ به على تتبُّعِ الأسانيدِ وجمعهَا والنَّظرِ فيها. وكثيرٌ من السُّننِ المتواترَةِ عُرفَ بهذا الطَّريقِ، ولهذا خفي العلمُ بتواتُرِ بعضِ ذلكَ، فكمْ من سنَّةٍ يظنُّ الظَّانُّ أنها سُنَّةُ آحادٍ وهي متواترةٌ، لأنه لم يطَّلعْ في طُرق روايتِهَا على ما جمعَ شُروطَ التَّواتُرِ المتقدِّمة، وهذا جانبٌ يحتاجُ فيه الفقيهُ إلى (علوم الحديثِ) ليعلمَ الوجوه الَّتي وردَ عليها الخبر. كما يجبُ أن يُلاحظَ أنَّ من المتأخِّرينَ من أغفلَ اجتماعَ الشُّروطِ المتقدِّمةِ في التَّواترِ سِوى مجرَّدِ العدَدِ، وهذا لا يُغني وحدَهُ في إفادَةِ التَّواترِ، فقدْ وُجدَتْ أحاديثُ رواتُها كثيرونَ ربَّما بلغُوا العشرَةَ أو زادُوا، لكنَّ مدارَ أسانيدهم على رواةٍ لم يؤمن تواطؤهُم على الكذبِ أو الخطإ، وهذا يعني وجوبَ النَّظرِ في أحوالِ النَّقلةِ والأمنِ من وقوعِ ذلك منهُم. وهذا النَّوعُ من التَّواترِ دونَ منزلَةِ الأوَّلِ، والجهلُ بهِ حاصلٌ، والعُذرُ بذلكَ قائمٌ بخلافِ الأوَّلِ، فذلكَ لا يقعُ الجهلُ بهِ، ولا يُعذرُ مُدَّعيه إذا كان يعيشُ في دارِ إسلامٍ. * تقسيم التواتر من جهة لفظ الخبر: 1ـ لفظيٌّ ومثالهُ: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كذبَ عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ ْ

2ـ سنة الأحاد

مقعدَهُ من النَّارِ)) . 2ـ معنويٌّ، وهو الأحاديثُ الكثيرةُ الَّتي تبلُغُ التَّواترَ تتَّفقُ على إفادَةِ معنًى مُعيَّنٍ، معَ أنَّ سياقاتهَا قدْ تختلفُ عن بعضهَا في ألفاظِها وفي زيادتِها ونقصِهَا، كالأحاديثِ الواردَة في المسحِ على الخُفَّينِ، فأفرادُ ذلك سُننُ آحادٍ، لكنَّ مجموعَهَا أفادَ مشروعيَّةَ المسح، فصارَ متواترًا لاتِّفاقها عليه. 2ـ سنة الأحاد * تعريفها: الآحادُ لُغَةً: جمعُ (أحد) وهو بمعنى (واحد) . واصطلاحًا: ما لمْ يجمعْ شٌروطَ التَّواتُرِ. وهذا يعني أنَّ (سُنَّة الآحادِ) ما يرويهِ الواحدُ، أو ما يرويهِ العدَدُ القليلُ الَّذيمَ لم يبْلُغْ خبرُهُم حدَّ اليقينِ بروايتِهِمْ، كروايةِ الإثنينِ، وما زادَ على ذلكَ زيادَةً دلَّتْ على انتِشارِ الحديثِ لكنَّها لم تُحقِّقْ شرْطَ التَّواتُر. * درجتها: سُنَّةُ الآحادِ لا ريبَ أنَّها دونَ السُّنَّةِ المتواترةِ، لكنَّ روايةَ اثنينِ

ينبغي أن تكونَ أعلى من واحدٍ، وثلاثةٍ أعلى من اثنينِ، وإن لم يبلُغُوا حدَّ التَّوتُرِ، وهذا صوابٌ من حيثُ الجملةُ، لكنَّهُ على أيِّ تقديرٍ متوقِّفٌ على معرفةِ درجاتِ أسانيدِ تلك الرِّواياتِ، وإنَّما يكونُ العددُ ميزَةً زائدَةً في قوَّةِ الحديثِ إذا ثبتَ إسنادُ كلِّ روايةٍ. فالشَّرطُ في قبُولِ سُنَّةِ الآحادِ هوَ: شرطُ الحديثِ الصَّحيحِ في (علومِ الحديثِ) وما قرُب من الصِّحَّةِ كالحديثِ الحسنِ الَّذي أفادَ السَّبرُ والنَّظرُ أنَّهُ حديثٌمحفوظٌ ليسَ بِمُنكرٍ، فإنَّهُ يجمعُهُ مع الحديثِ الصَّحيحِ أنَّهُما جميعًا إلى جانبِ الرُّجحانِ والقَبولِ، وهذا كافٍ عندَ جمهورِ العلماءِ في إثباتِ الشَّرائعِ والدِّيانَة. وسُنَّةُ الآحادِ الثَّابتَةُ قبولُها من بابِ (قبولِ الظَّنِّ الرَّاجحِ) ، وهوَ حُجَّةٌ مُعتبرَةٌ في الشَّرعِ، ومن الأدلَّةِ عليهِ: 1ـ قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائفة لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] ، قال أهلُ العربيَّةِ: ((الطَّائفةُ: الواحدُ فصاعدًا)) ، والكفايةُ تحصلُ بواحدٍ يرحلُ فيتفقَّهُ فيعودُ إلى قومِهِ وعشيرتِهِ مُبلَّغًا معلِّمًا نذيرًا، فتصحُّ نِذارتُهُ شرعًا وتلزَمُهُم حُجَّتُهُ، وهي خبرُ آحادٍ. 2ـ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] ، فأمرَ بالتَّثبُّتِ في قَبُولِ خبرِ الفاسقِ، ممَّا دلَّ بمفهومهِ

على قبولِ خبرِ العَدْلِ. 3ـ تواترَ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يبعثُ أمرَاءهُ وقضاتَهُ وسُعاتهُ وهم أفرادٌ، فيلزمُ النَّاسَ الَّذين أُرسلوا إليهِم ماجاءُوهُم به من العِلمِ، كما بعثَ مُعاذًا إلى اليمنِ، وبعثَ غيرهُ إلى غيرِهَا. 4ـ قبولُ خبرِ الشُّهودِ وهُم آحادٌ بناءً على رُجحانِ صِدْقِهِم وعدالتِهمْ واجبٌ شرعًا، مع أنَّ أمرَ الصِّدقِ والعدالةِ فيهم مظنونٌ، وذلك لجوازِ اتِّفاقهِم على الكذبِ في الباطِنِ رغبَةً أو رهبةً، فقبوُ الرِّوابةِ أولى، فإنَّ داعيةَ الكذبِ ممَّن عُرفَ بالصِّدقِ ضعيفةٌ. هذه بعضُ وجوهِ الاستدلالِ على صحَّةِ استفادَةِ التَّشريعِ من خبرِالواحدِ الصَّحيحِ، وللعلماءِ وجوهٌ أخرى يذكرونهَا تُطلبُ من مظانِّها، ككِتاب ((الرسالة)) للإمام الشَّافعيِّ. * تنبيهات حول سنة الآحاد: 1ـ الَّذي كان عليه سلفُ الأُمَّةِ أنَّ خبر الواحدِ الصَّحيحِ حُجَّةٌ في إفادَةِ العلمِ والعملِ، ولا فرقَ فيمَا يُستفادُ به مِمَّا يتَّصلُ بعملِ القلبِ أو عمَلِ الجوَارِحِ، فما تثبتُ بهِ الطَّهاراتُ والنَّجاساتُ، وما تصحُّ الصَّلاةُ به وما تَبْطُلُ، وما يحلُّ وما يحرُمُ، يثبتُ به الإيمانُ بأنَّ من أسماء اللهِ تعالى (الجميل) ، وبأنَّ ملكينِ يسألانِ العبْدَ في قبرِهِ يُقالُ لأحدِهمَا (مُنكرٌ) وللآخرِ (نكيرٌ) ، وبقصَّةِ صاحبِ البِطَاقَةِ يومَ الحِسابِ، حينَ

يظنُّ أنَّه قد هلكَ بذُنُوبه فتُنجيهِ بِطاقةٌ فيها (لا إله إلاَّ الله) ، وبأنَّ الميزانَ لهُ كِفَّتانِ، وأنَّ الصِّراطَ جسرٌ على ظهرِ الجَحيمِ أدقُّ من الشَّعرةِ وأحَدُّ من السَّيفِ، إلى غير ذلكَ من فُروعِ العقائِدِ، فإنَّ من بنى بعضَ دينِهِ على خبرِ الثِّقةِ الصَّادِقِ وصدَّقه فيه وردَّ بعضَهُ ما جرى في ذلكَ على قاعدَةِ العَدْلِ والإنصافِ، فإمَّا أن يُكذِّبَ المُخبرَ مطلقًا، وإمَّا أن يُصدِّقهُ مُطلقًا، وإمَّا أن يتوقَّف في تصديقِهِ وتكذيبِهِ مُطلقًا حتَّى يشهَدَ معهُ الشُّهُودُ الكثيرونَ الَّذين يتواردُونَ عليهِ من أنحاءٍ متفرِّقةٍ بحيثُ لا يتَواطَأُونَ على الكذِبِ! وهذا المسلكُ في التَّفريقِ بين العقائدِ والشَّرائعِ بِدْعَةٌ دخيلةٌ، تأثَّرَ بها كثيرٌ من المتأخرينَ المُنتسبينَ للسُّنَّةِ، لأنهم وجدُوا أخبارَ الآحادِ توصفُ بالظَّنِّ، وهذا إطلاقٌ مُوهمٌ ليسَ بِجيِّدٍ، فإنَّ العلمَ يصحُّ فيه الاكتفاءُ بالدَّلائلِ الظَّاهرَةِ، وهوَ يتفاوتُ قوَّةً بحسبِ قوَّةِ البُرهَانِ وظُهورِهِ، وليسَ مُطلقُ الظَّنِّ مقبولاً، إنَّما يُقبلُ الظَّنُّ الرَّاجحُ إلى درجَةِ اليقينِ، وذلك لا يحصلُ في الأحاديثِ إلاَّ بشُروطٍ شديدَةٍ، ولكنْ كيف يُدركُ ذلك من أفنى عُمُرَهُ في الكلامِ في أُصولِ الفقهِ على طُرقِ أهلِ الكلامِ من غيرِ درايةٍ بمناهجِ أهلِ الحديثِ العارفينَ بهِ وجهُودِهم في تحقيقهِ وتنْقيحِهِ؟! ولعلَّهُ من الجديرِ بالمُلاحظَةِ في هذه المسألةِ أن يُلغَى استخْدَامُ عبارةٍ (حديثُ الآحادِ يُفيدُ الظَّمِّ الرَّاجحَ) من غيرِ بيانٍ لحقيقةِ هذه

اللَّفظةِ، دفعًا لما يقعُ بها من اللَّبسِ، فإنَّها لفظةٌ اصطِلاحيَّةٌلمْ ترِدْ في كتابٍ ولا سُنَّةٍ، فلا محذُورَ في ترْكِهَا. 2ـ السُّنَّةُ من حيثُ نقلُهَا عندَ الحنفيَّةِ ثلاثَةُ أقسامٍ: سُنَّةٌ متواترَةً، وسُنَّةٌ مشهورة، وسُنَّةُ آحادٍ. ويُعرِّفُونَ (السُّنَّةَ المشهورة) بأنَّها: (الَّتي رواهَا عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صحابِيٌّ واحدٌ أو عددٌ لم يبلُغْحدَّ التَّواترِ، ثمَّ وقعَ التَّواتُرُ في طبقةِ التَّابعينَ فمنْ بعدَهُم) . وهذا في التَّحقيقِ (سُنَّةُ آحادٍ) باعتبارِ عدَمِ التَّواتُرِ في أصلِ الرِّوايةِ، وهو مذهبُ الجمهورِ، لكنْ يُلاحَظُ أنَّ الحنفيَّةَ يُفرِّعُونَ على ذلك لكونِ السُّنَّةِ المشهورةِ عندَهُم لها من الدَّرجةِ ما للسُّنَّةِ المُتواترَةِ في إفادَةِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، وإن نزلتْ عنهَا قُوَّةً من جهةِ النَّقلِ. 3ـ الحديثُ المُرسلُ هوَ ما رفعهُ التَّابعيُّ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أو هوَ المنقطِعُ عندَ الأُصوليينَ، وهوَ من أنواعِ الحديثِ الضَّعيفِ عندَ المحدِّثينَ، وأسقطَ الاحتجَاجَ بهِ عامَّتُهُمْ، وكذا الشَّافعيَّةُ مِن الفُقهاءِ والأصوليينَ، لكنْ سهَّل فيه الحنفيَّةُ والمالكيَّة بشرطِ أن يكونَ المُرسلُ محترزًا لا يروِي في العادَةِ إلاَّ عنِ الثِّقاتِ، وأمَّا الإمامُ أحمدُ فالمشهورُ عنهُ الاحتجاجُ بالمرسلِ حيثُ يُعدمُ الحديثُ المُتَّصلُ الثَّابتُ أو لا يجدُ للصَّحابةِ في المسألةِ شيئًا، وقالَ قومٌ: (استثنى الشَّافعيُّ مراسيلَ سعيدِ

بنِ المسيَّبِ) لأنَّهُ كان من كبارِ التَّابعينَ، والتَّحقيقُ أنَّ الشَّافعيَّ لم يسْتَثْنِ مراسيلَ سعيدٍ، وإنَّما قبلهَا حينَ يأتي ما يُعضِّدُها من وجهٍ آخرَ وجعلَ لها مزيَّةً على مراسيلِ غيرهِ لأنَّ مُعظمَهَا اعتبِر فوجِدَ صحيحًا من وجوهٍ أُخرَ. 4ـ اشترطَ المالكيَّةُ لقبولِ (سُنَّةِ الآحادِ) أن لا تكونَ مخالفَةً لعملِ أهلِ المدينَةِ، وذلكَ أنَّ عملَ أهلِ المدينةِ بمنزلَةِ السُّنَّةِ المتواترَةِ حيثُ توارثُوا العملَ عن أسلافهِم جمعًا عن جمعٍ حتَّى عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمتواترُ مقَدَّمٌ على الآحادِ. والتَّحقيقُ في هذه المسألةِ: أنَّ مذهبَ مالكٍ الَّذي يُبيِّنُه المحقِّقُونَ من أصحابِهِ كأبي الوليدِ الباجيِّ وغيرهِ رحمهم الله أنَّه يرى الاحتِجاجَ بعملِ أهلِ المدينةِ فيما كان الأصلُ فيه النَّقلَ لا الاجتهادَ، مثلُ: ألفاظِ الأذانِ، وتركِ الجهرِ بالبسملَةِ عند قراءةِ الفاتحةِ في الصَّلاةِ، فهذا وشِبْهُه ليسَ لأهلِ المدينةِ فيه اجتهادٌ، وإنَّما الأصلُ فيه التَّلقِّي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحينَ يتداولهُ أهلُ المدينة جيلاً عن جيلٍ إلى عهدِ مالكٍ، ولم يكُنْ عهدُهُ بعيدًا عنهم فإنَّهُ من أتباعِ التَّابعينَ، ولم تَنْدَثر السُّننُ بعدُ في مثلهِ ولم يقعْ فيها التَّغييرُ، فهذا بمنزلة نقلهِم الحديثَ نقلَ الجمعِ الَّذي تُحيلُ العادَةُ تواطؤهم على الكذبِ، فكانَ ذلكَ العملُ كالحديثِ المتواترِ

الَّذي لا يجوزُ أن يُعارضَ بسُنَّةِ لآحادٍ. هذا مذهبُ مالكٍ رحمه الله، والتَّحقيقُ أنَّ النَّاظِرَ في تاريخ الإسلامِ يجدُ أنَّ أصحابَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذين هُم حملةُ السُّننِ من بعدِه قدْ تفرَّقُوا في الأمصارِ، وعند َ كلٍّ من العلمِ ما ليسَ عندَ غيرهِ، وما جرى عليه عملُ النَّاسِ بالمدينةِ جائزٌ أن يكونَ ممَّا تبعُوا فيه وجهًا من النَّقلِ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما يجوزُ أن يكونَ من حمَلَ سُنَّةً آحاديَّةً في مسألةٍ من الصَّحابةِ ممَّن فارقَ المدينَةَ فكانَ في غيرِهَا بقيَّةَ عُمرِهِ لم يَنْشُرْ تلكَ السُّنَّةَ إلاَّ حيثَ نزلَ، فحُرِمَ منها أهلُ المدينَةِ ومضَوا على العملِ بغيرِ مُقتضاها، وجائزٌ أن يكونَ وقعَ التَّغييرُ في الشَّيءِ من عملِ أهلِ المدينةِ، فقدْ حُكِمَتْ المدينةُ بعدَ الصَّحابةِ أو في أواخرِ عهدِهِم إلى عهدِ مالكٍ بأمراءَ فيهم من عُرفَ بالميلِ عن القصدِ وكان لهُم من السُّلطانُ ما كانَ يُمكنُهم بهِ إشاعَةُ الأمرِ بما يُخالفُ السُّنَّةَ حتَّى يشيعَ وينتشرَ، فهذهِ الاعتبارَاتُ وغيرُها تُلغي اعتبارَ صحَّةِ هذا المذهبِ من أصلهِ، وإنَّما يُعتبرُ منه ما وافقَ السُّنَّةَ المسنَدَة المنقولَةَ الثَّابتَةَ، لا يكونُ هوَ حاكمًا عليها. 5ـ اشترطَ الحنفيَّةُ شرطينِ آخرينِ لقبولِ سُنَّةِ الآحادِ: [1] أن لا تكونَ في أمرٍ تعمُّ به البَلْوَى.

ومعنى ذلكَ: أنَّ الأمرَ الَّذي تعمُّ به البلوَى هوَ الأمرُ الشَّائعُ المنتشِرُ المُعلنُ، فلو وقعَ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال فيهِ قولاً أو فعلَ فعلاً فالدَّواعي متوافرَةٌ على حفظِهِ ونقلهِ، فيجبُ أن لا يُقبلَ إلاَّ إذا رواهُ الجمعُ الكبيرُ، إّْ لا يُحتملُ مثلُهُ من الرَّاوي الفرْدِ، ويُقالُ: أينَ كانَ غيرُهُ من حفظِهِ وروايتِهِ؟ وهذا في التَّحقيقِ لا أثرَ لهُ، ولو رجعَتْ إلى ما تقدَّم ذكرُهُ من الفوارقِ بين نقلِ القُرآنِ، ونقلِ السُّننِ أدركْتَ أنَّ الأمرَ الشَّائعَ قدْ لا يُحفظُ فيه إلاَّ الحديثُ الواحدُ، لا لأجلِ أنَّهُ لم يحملُهُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ الرَّجلُ الواحدُ، وإنَّما لأجلِ أنَّهُ لم يُحدِّثْ به عنهُ إلاَّ الرَّجلُ الواحددُ، وفرْقٌ بين الصُّورتينِ لا يخفى، وهذه الأحاديثُ الآحادُ الَّتي لا تُحصى كثرةً جاءتْ في أمورٍ تعمُّ بها البلوى، وما أدَّى النَّاسُ ولا حدَّثُوا فيها إلاَّ بالحديثِ الواحدِ، وخُذْ لذلكَ مثالاً حديثَ: ((الأعمالُ بالنِّيَّاتِ)) ، فهوَ سُنَّةُ آحادٍ، لم تصحَّ له روايةٌ إلاَّ من حديثِ عُمرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنهُ، مع أنَّه أصلٌ في جميعِ الأعمالِ وقاعِدَةٌ عظيمةٌ، ومنَ المظنُونِ أن يكونَ قدْ حدَّثَ به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - غيرَ عُمَر، لكنْ لم يُؤدِّه عنهُ أحدٌ سواهُ. ومن تأمَّل شرْطَ الحنفيَّةِ هذا في طريقَتِهِم وجَدَهُم خالفُوهُ ولمْ يلْتَزِمُوهُ، بل تعدَّوْهُ إلى الضَّعيفِ من أخبارِ الآحادِ في أمورٍ تعمُّ بها البلوَى على تفسيرِهِمْ.

وقدْ خالفَهُمُ الجُمهورُ في هذا الشَّرطِ من المالكيَّةِ والشَّافعيَّةِ والحنابلَةِ وغيرِهِمْ. [2] أنْ لا يترُك راويهَا عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - العملَ بها، فإذَا تركَ العملَ بها لم تَكُن حُجَّةً. وبنوا ذلك على أنَّ ترْكَهُ مُخالفَةٌ، والصَّحابيُّ لا يجوزُ أن يتعمَّدَ مخالفةَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذلك التَّركِ منهُ دليلٌ على نسخِ تلكَ السُّنَّة. وهذا قولٌ لم يُقبلُ من الحنفيَّةِ، فإنَّ الصَّحابيَّ غيرُ معصومٍ من نسيانٍ أو غفلةٍ، والرَّاوي قد يُحدِّثُ بالشَّيء فيأتِي عليهِ الزَّمانُ فينساهُ، كما نسيَ عُمرُ بن الخَطَّابِ رضي الله عنهُ قصَّةَ التَّيمُّمِ وذكَّرهُ بها عمَّارُ بنُ ياسرٍ رضي الله عنهُ، والقصَّةُ في ((الصحيحينِ)) ، في وقائعِ كثيرةٍ تُشبِهُ ذلكَ، وكذلكَ فإنَّ التَّأويلَ غيرُ ممتنعٍ، كما تأوَّلتْ عائشةُ إتمامَ الصَّلاةِ في السَّفرِ، وأُتمَّتْ صلاَةُ الحضرِ [متفقٌ عليه] ، فيجوزُ أن يكونَ هذا الاحتمالُ أو غيرُهُ واردًا على رأيِ من رَوَى خبرًا فخالَفَهُ، وهذا بخلافِ روايتِهِ فإنَّها سالمَةٌ من هذه الاعتِراضاتِ. 6ـ لا يصحُّ تصوُّرُ ورودِ سُنَّةٍ ثابتةٍ من جهةِ النَّقلِ أن تكونَ مُخالفَةً للأصولِ المقطوعِ بها في دينِ الإسلامِ، أو للقرآنِ، أو الحديثِ المتواترِ، وإن وُجِدَ شيءٌ في الظَّاهرِ يُدَّعى عليهِ ذلكَ فهوَ في التَّحقيقِ يرجعُ إلَى

أنواع الأحكام الواردة في السنة

واحدٍ من أمورٍ ثلاثةٍ: [1] وجودِ علَّةٍ خفيَّةٍ من جهةِ النَّقلِ. [2] عدمِ إدراكِ المعنى المقصودِ بتلكَ الرِّوايةِ والَّذي يتَّفقُ ولا بُدَّ مع الأصولِ الصَّحيحةِ. [3] ضعفِ دلالةِ الأصلِ، كالاعتراضِ على سُنَّةِ آحادٍ صحيحةٍ صريحَةٍ بآيةٍ ظنيَّةِ الدَّلالةِ على المعنى الَّذي اعتُرضَ بهِ. أنواع الأحكام الواردة في السنة * أحكامٌ مُؤكَّدة لأحكام القرآنِ مثلُ: حُرمَةِ عُقوقِ الوالدَينِ والزِّنا والخمْرِ. * أحكامٌ مُبيِّنةٌ لأحكامِ القرآنِ المجملَة. مثلُ: تفصيلِ أحكامِ الصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والصِّيامِ، والحجِّ. ومن البيانِ لأحكامِ القرآنِ: تخصيصُ عامِّهِ، وتقييدُ مُطلقِهِ، وسيأتي في موضعِه مع مثالهِ. * أحكامٌ مبتدَأة، سكتَ عنها القُرآنُ وجاءتْ بها السُّنَّة. مثالُها: تحريمُ أكلِ كلِّ ذي نابٍ من السِّباعِ ومِخلَبٍ من الطَّيرِ، والجمعِ بين المرأةِ وعمَّتِها والمرأةِ وخالَتِهَا.

دلالة السنن على الأحكام

دلالة السنن على الأحكام * نصوصُ السُّنَّةِ كنُصوصِ القرآنِ من جهَّةِ الدَّلالةِ، فهي على قسمينِ: الأوَّلُ: قطعيِّ الدَّلالةِ، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((في الرِّكازِ الخُمُسُ)) [حديثٌ صحيحٌ رواه ابن ماجه وغيرُهُ] ، فلفظُ (الخُمُسِ) لا يحتملُ أقلَّ أو أكثرَ، فهوَ قطعيٌّ في العدَدِ. والثَّاني: ظنِّيُّ الدَّلالةِ، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا صلاَةَ لمن لم يقرأْ بِفاتحَةِ الكتابِ)) [متفقٌ عليه] ، فاختلفَ أهلُ العلمِ هل النَّفيُ للإجزاءِ، أو الكمالِ، لأنَّ اللَّفظَ يحتملُهُمَا. * * *

الدليل الثالث الإجماع

الدليل الثالث الإجماع * تعريفه: لُغَةً: يُطلقُ على العزمِ والتَّصميمِ على فعلِ الشَّيءِ، ومنه قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71] ، ويطلقُ على الاجتماعِ والاتِّفاقُ، يقالُ: (اجمعواعلى كذا) عى نقيضِ (اختلفُوا) . اصطلاحًا: اتِّفاقُ مجتهدِي أُمَّةِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاتِه في عصرٍ من العصُورِ على حكمٍ شرعيٍّ. هكذا يُعرِّفُ الأصوليُّونَ (الإجماعَ) ، وهي صُورةٌ خياليَّةٌ لا وُجودَ لهاَ، فليسَ هُناكَ أمرٌ واحدٌ يصحُّ أن يُدَّعى أنَّهُ اجتمعَتْ في مثلهِ قيودُ هذا التَّعريفِ. فاتِّفاقُ المجتهدينَ؛ يحتاجُ إلى ضابطٍ صحيحٍ للمجتهدِ، وقدِ اختلفُوا فيه، والاتِّفاقُ يحتاجُ إلى ضابطٍ صحيحٍ للمتجتهدِ، وقدِ اختلفُوا فيه، والاتِّفاقُ يحتاجُ إلى الإحاطَةِ بأنَّ ذلكَ الحُكمَ قد نطَقَ به أو أقرَّهُ كلٌّ منهم بأمارةٍ صريحةٍ علىالموافقةِ مع انتفاءِ الموانعِ فلا يكونُ مُكرهًا مثلاً، وهذا أمرٌ يستحيلُ أن يُدركَ في المتجتهدين، كما تستحيلُ الإحاطَةُ بآراءِ جميعهِم على هذا الوصفِ مع اتِّساعِ بلادِ الإسلامِ وتفرُّقِهِم فيها.

فالواقعُ يُحيلُ وقوع ذلكَ، وتاريخُ هذه الأمَّةِ معلومٌ، فإنَّها بعدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصَّدرِ الأوَّلِ قدْ تفرَّقتْ حتَّى بلغتْ حدَّ استحالَةِ جمعهَا على ما اختلفتْ فيهِ من الكتابِ وهو نصٌّ قطعيٌّ، فكيفَ يُتصوَّرُ إمكانُ جمعها على أمرٍ لا نصَّ فيه ليكونَ حكمًا شرعيًّا للأمَّةِ؟ قال الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ رحمه الله: ((ما يدَّعي الرَّجلُ فيه الإجماعَ هذا الكذِبُ، منِ ادَّعَى الإجماعَ فهو كذبٌ، لعلَّ النَّاسَ قدِ اختلفُوا)) [أخرجهُ عنه ابنُهُ عبدُالله في ((مسائله)) رقم: 1826] . وأطال الأصوليُّونَ في تقريرِ تعريفِهم هذا واجتَهَدُوا فيه غايةَ الاجتهادِ بكلامٍ كثيرٍ يُغني في العلمِ شيئًا، واستدلُّوا له بأدلَّةٍ لا ينهضُ منها شيءٌ ليكونَ له صلةٌ بما من أجلهِ أوردُهُ. ولو سألتَ: أينَ هي الأحكامُ الشَّرعيَّةُ الَّتي لم تُستفَدْ إلاَّ بطريقِ الإجماعِ على هذا التَّعريفِ، لم تَجِدْ جوابًا بذِكرِ مسألةٍ واحدَةٍ، فعجبًا أن يُدَّعى بأنَّ ذلك من أدلَّةِ شريعةِ الإسلامِ المعتبَرَة ولايُمكنُ أن يوجدَ له مثالٌ واحدٌ صحيحٌ في الواقعِ على مدَى تاريخِ الإسلامِ الطَّويلِ! ولكنْ ليس يعني هذا إبطالَ وجودِ مسمَّى (الإجماع) ، فالمسمَّى صحيحٌ، والإجماعُ دليلٌ مع الكتابِ والسُّنَّةِ يُقاسُ بِه الهُدَى والضَّلالُ، لكنَّهُ ليسَ دليلاً مستقلاًّ للأحكامِ، إنَّما هو دليلٌ تبعيٌّ للكتابِ والسُّنَّةِ، وبعبارةٍ أخرَى:

الإجماعُ هوَ: ما اتَّفق عليه المسلمونَ من نُصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ. وهذا المعنى للإجماعِ لم يقعْ إلاَّ في شيءٍ مقطوعٍ به في دين الإسلامِ معلومٍ من الدِّينِ بالضَّرورةِ، كالصَّلواتِ الخمسِ، وصومِ رمضانَ، وحجِّ البيتِ، وحُرمَةِ الزِّنا، وشُربِ الخمرِ، وغير ذلكَ، وهذا الَّذي يُقالُ في مثلهِ: ثبتَ حُكمهُ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ. وعلى هذا المنقولُ عن السَّلفِ في هذه المسألةِ، قال الشَّافعيُّ رحمهُ الله: ((لستُ أقولُ ولا أحدٌ من أهل العلمِ: (هذا مُجتمعٌ عليه) ، إلاَّ لما لا تلقَى عالمًا أبدًا إلاَّ قالهُ لك وحكاهُ عن منْ قبلهُ، كالظُّهرِ أربعٌ، وكتحريمِ الخمرِ، وما أشبهَ هذا)) [الرِّسالة رقم: 1559] . والخطرُ بمخالفَةِ هذا الإجماعِ أنَّ صاحبَهُ يخرُجُ من الإسلامِ لمخالفتهِ المعلومَ من الدِّين بالضَّرورةِ والخُروجِ عن جماعةِ المسلمينَ بذلكَ، وهذا لا يكونُ في نصٍّ من نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ وقعَ الاختلافُ فيه، فإنَّه لا يحكمُ لصاحبِهِ بالخروجِ من الإسلامِ. * حجيته: الألَّةُ الَّتي يُستدلُّ بها لحُجِيَّةِ الإجماعِ في الكتابِ والسُّنَّةِ كثيرةٌ، جميعُهَا شاهدٌ على أنَّ الإجماعَ المُعتبرَ هو: ما اتَّفق عليه المسلمون من نُصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ، فمن أهمِّ تلكَ الأدلَّة: 1ـ قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى

وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] . فتوعَّد الله تعالى بهذا الوعيد الشَّديدِ على مخالفةِ سبيل المؤمنينَ كما توعَّدَ على مُشاققةِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم - بعد بلوغِ العلمِن دالاًّ على أنَّ سبيلَهُم هو الهُدَى، ولفظُ (المؤمنين) لم تُرَدْ بهِ طائفةٌ دونَ أُخرَى، وإنَّما هو لفظٌ شاملٌ لجميعهِم، ولا يُوجدُ شيءٌ اجتمعُوا عليه جميعًا أحياءً وأمواتًا إلاَّ شيءٌ معلومٌ من الدِّينِ بالضَّرورةِ لا يسعُ أحدًا جَحْدَهُ. 2ـ وحديثُ: ((لايجمعُ الله أمَّتي على ضلالةٍ أبدًا)) [حديثٌ ضعيفٌ، يقوِّيه بعضُ العلماءِ بتعدُّد الطُّرقِ] ، وهذا معنى صحيحٌ، فإنَّ هذه الأمَّةَ الوسطَ لم تكُن لتشهَدَ على النَّاسِ كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] ، وهي تجتمعُ على الخطإ. 3ـ وقولهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكمْ بالجماعَةِ، وإيَّاكمْ والفُرقَةَ، فإنَّ الشَّيطان مع الواحدِ وهوَ من الإثنينِ أبعدُ، من أرادَ بحُبوحَةَ الجنَّةِ فلْيلْزمِ الجماعَةَ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه التِّرمذِيُّ وغيرُهُ] ، وفي معناهُ أحاديثُ كثيرةٌ تبلُغُ التَّواترَ تأْمُرُ بالكونِ مع الجماعَةِ والالتزامِ بها، وهذا إنَّما يتحقَّقُ بالاجتماعِ لا بالافتراقِ، وبوحدَةِ الكلمةِ لا بتفرُّقها. وهذا المعنى لا يوجدُ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ إلاَّ في قضيَّةٍ لا يسوغُ

الإجماع السكوتي:

فيها الخلافُ من قضايا الشَّريعَةِ المعلومَةِ من دينِ الإسلامِ بالضَّرورَةِ. ويُقالُ: لو أمكنَ أن تتَّفقَ هذه الأمَّةُ على أمرٍ لم يرِدْ في الكتابِ والسُّنَّةِ فذلكَ الاتِّفاقُ حُجَّةٌ، على أنَّه يُقالُ: لا بُدَّ للإجماعِ من مُستَنَدٍ من الكتابِ والسُّنَّةِ، وهذا يعني أنَّه ليسَ بدليلٍ استِقلالاً وإنَّما هو دليلٌ تبعيٌّ. * الإجماع السكوتي: النَّوعُ المتقدِّمُ للإجماعٍ يسمِّيه الأصوليُّونَ بـ (الإجماع الصَّريح) ، وهو حُجَّةٌ قطعيَّةٌ مُلزِمَةٌ. أمَّا (الإجماعُ السُّكوتي) فهوَ: أن يقولَ بعضُ أهلِ الاجتهادِ قولاً، وينتشرَ ذلكَ في المجتهدين من أهلِ ذلكَ العصرِ، فيسكُتُون ولا يظهرُ منهُم اعترافٌ ولا إنكارٌ. وهل يُعدُّ حُجَّةً أمْ لا؟ اختلفُوا فيه على ثلاثةٍ مذاهبَ: 1ـ ليسَ بِحُجَّةٍ، ولا يُسمَّى إجماعًا، وهو قولُ جمهورُ الشَّافعيَّةِ والمالكيَّةِ وبعضِ الحنفيَّةِ والحنابلَةِ. قالُوا: كيفَ يُقوَّلُ السَّاكتُ ما لمْ يَقُلْ؟ على أنَّ السَّاكتَ لا يُجزمُ أنَّهُ

بلغَهُ ذلك القولُ، ثمَّ لو بلغَهُ فجائزٌ أن يكونَ منعهُ مانعٌ من الاعتراضِ، ربَّما كانَ الهيبةَ للقائلِ، أو الخوفَ، أو لأنَّه يرى أنَّه لا إنكارَ في موضعِ اجتهادٍ، كما يجوزُ أن يكونَ أنكرَهُ ولم يبْلُغْنا، أو لغيرِ ذلكَ. 2ـ حجَّةٌ قطعيَّةٌ، وهو قولُ بعضِ الحنفيَّةِ والحنابلَةِ. واحتجُّوا بأنَّ السُّكوتَ في الأصلِ علامةٌ على الموافقةِ والرِّضا. 3ـ حجَّةٌ ظنيَّةٌ، وهو قولٌ للشَّافعيِّ وبعضِ الشَّافعيَّةِ والحنفيَّةِ. واستدلُّوا بأنَّ الاحتمالَ الوارِدِ على رضَا المجتهدِ وعدَمِ رِضاهُ يجعلُ الجزمَ بموافقتِهِ ظنيًّا، لكنْ لمَّا كان الأصلُ أنَّ العالمَ لا يسكتُ في الموضعِ الَّذي يقتضي البيانَ، دلَّ ذلكَ على أنَّهُ موافقٌ على ذلكَ القولِ الَّذي بلغَهُ. وطائفةٌ من الفقهاءِ تخصُّ هذا النَّوعَ من الإجماعِ بالصَّحابةِ دونَ من بعدَهُم، لأنَّ منصبَهُم الشَّريفَ لا يقتضي السُّكوتَ في موضعِ المخالفَةِ، وسيأتي في (مذهب الصَّحابيِّ) بيانُ درجتهِ. وفي أيِّ هذه المذاهبِ الصَّوابُ؟ إنَّ معرفَةَ واقعِ استعمالِ هذا النَّوعِ من الإجماعِ يُساعدُ على إدراكِ المذهب الصَّحيح من هذه المذاهبِ، هذا الإجماعُ هو الَّذي يُدَّعى في كثيرٍ من المسائلِ الشَّرعيَّةِ، وهو مبنيٌّ على أنَّ الفقيهَ تتبَّع المنقولَ عن

الصَّحابةِ والتَّابعينَ مثلاً من الآثارِ والأخبارِ في تلكَ المسألةِ، فوجَدَ جميع تلكَ الآثارِ قدِ اتَّفقت على حُكمٍ واحدٍ ولم يجِدْ عن أحدٍ من أهلِ زمانِهِم من نُقل عنهُ خلافُهم، فأجرى ذلك منهُم على أنَّهُ إجماعٌ، وإنَّما هو في الحقيقةِ هذا النَّوعُ من الإجماعٍ (الإجماعُ السُّكوتي) ، أمَّا أن ينتشرَ القولُ ويبلُغ جيعَ المجتهدينَ فلا تظهرُ منهُم لهُ مخالفَةٌ فهذا يستحيلُ أن توجدَ مسألةٌ واحدَةٌ توفَّر فيها هذا الوصفُ، والشَّافعيُّ رحمهُ الله لهُ من الكلامِ ما يدلُّ على أنَّ القول بهذا على هذهِ الصُّورةِ لم يُعرفُ إلاَّ في زمانِهِ. فهذا الإجماعُ السُّكوتِيُّ ما هوَ في الحقيقةِ إلاَّ رأيُ جماعةٍ من الفقهاءِ محصورَةٍ بعددٍ يسيرٍ محدودٍ، وما كانَ رأيًا يُحكَى عن العشْرَةِ والعِشرينَ لا يصلحُ أن يكونَ دينًا يُحجرُ على الأمَّةِ بعدَهُم خلافُهُ، ويكونَ حُجَّةً مُلزمَةً للنَّاسِ إلى يومِ القيامَةِ، على أنَّ كثيرًا من تلك الإجماعاتِ يُدَّعلا، فيطَّلعُ من لم يدَّعيهِ على قولٍ مخالفٍ له صادرٍ من أهلِ عصرِ ذلكَ الإجماع.

الدليل الرابع شرع من قبلنا

الدليل الرابع شرع من قبلنا * تعريفه: هوَالأحكامُ الَّتي شرعهَا الله تعالى للأُمَمِ السَّابقةِ على ألسنةِ رُسُلهِ إليهمْ، كشرائعِ أهل الكتابِ. * أنواعه: 1ـ أحكامٌ شُرعتْ للأُممِ قبلَنا، وجاءَ الكتابُ أو السُّنَّةُ بجعْلهَا تشريعًا لهذه الأمَّةِ. كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ} [البقرة: 183] . فهذا النَّوعُ حجَّةٌ دونَ شكٍّ فقد كُلِّف به المسلمونَ بنصِّ الكتابِ أو السُّنَّةِ. 2ـ أحكامٌ شُرعتْ للأممِ قبلنَا، وجاء الكتابُ أو السُّنَّةُ ببيانِ كونهَا منسوخَةً لم تُشرعْ لهذه الأمَّةِ. كما في قوله تعالى في تحيَّةِ أهلِ يُوسف لهُ {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100] ، فهذا منسوخٌ في شريعتنا لهذه الأمَّةِ، ومن الدَّليلِ

على نسخِهِ قولهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ينبغي لأحدٍ أن يسجدَ لأحدٍ، ولو كانَ أحدٌ ينبغي أن يسجدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةُ أن تسجدَ لزوجِها، لما عظَّم الله عليها من حقِّه)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ التِّرمذيُّ وغيرُهُ] . وكثيرٌ من التَّشديدِ في الشَّرائع كان على من قبلَنا من الأممِ وضعَهُ الله تعالى عن هذه الأمَّةِ تخفيفًا منه ورحمةً، فاستجاب قول المؤمنين: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] ، وقال في صفةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] ، يريدُ بذلك أهلِ الكتابِ. فهذا النَّوع ليس بتشريعٍ لنا بلا خلافٍ. 3ـ أحكامٌ عن الأممِ قبلنَا لم يرِدْ لها ذكرٌ في كتابٍ ولا سنَّةٍ، كالَّذي يوجدُ عند أهل الكتابِ ممَّا يرونهُ دينًا من الشَّرائعِ الَّتي لا تُعلمُ إلاَّ من طريقهِم ولم تُبطلها شريعتُنا. فهذا النَّوعُ ليسَ بتشريعٍ لنا بلا خلافٍ، والأمرُ موقوفٌ في تصديقه أن يكونَ من شرائعِ الله أو ليسَ منها، كما في حديث أبي هريرَةَ رضي الله عنه قال: كان أهلُ الكتابِ يقرأُون التَّوراةَ بالعبرانيَّةِ ويفسِّرونها بالعربيَّةِ لأهل الإسلامِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُصدِّقوا أهل الكتابِ ولا تُكذِّبوهم، وقولو: {آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] )) ، وعن عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: كيفَ

تسألونَ أهل الكتابِ عن شيءٍ وكتابُكمْ الَّذي أُنزلَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدثُ، تقرأونهُ محضًا لم يُشبْ، وقدْ حدَّثكمْ أنَّ أهلَ الكتابِ بدَّلوا كتاب الله وغيَّروهُ وكتبُوا بأيديهِم الكتابَ، وقالوا: هو من عندالله ليشتروا به ثمنًا قليلاً؟ ألا ينهاكمْ ما جاءَكُم من العلمِ عن مسألتِهمْ لا والله، ما رأينا منهُم رجلاً يسألُكم عن الَّذي أُنزلَ عليكمْ [أخرجهما البُخاريُّ] . 4ـ أحكامٌ جاءتْ بها نصُوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ، ولم يأتِ دليلٌ على اعتبارِ هذا الحكمِ شرعًا لنا أو ليسَ بشرعٍ كذلكَ. فهذا النَّوع هو موضعُ اختلافِ العلماءِ: هلْ يُعدُّ من أدلَّةِ التَّشريعِ، أو ليسَ منهَا؟ على مذهبينِ: [1] هو شرعٌ لنا، وهذا مذهبُ الجمهورِ: الحنفيَّةِ والمالكيَّةِ وأكثرِ الشَّافعيَّةِ والأصحُّ عن أحمدَ بن حنبلٍ وكثيرٍ من أصحابهِ. واستدلُّوا بقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13] ، والدِّينُ شاملٌ للأصولِ والفُروعِ، وبقوله تعالى بعدَ ذِكرِ المرسلينَ يخاطبُ نبيَّهُ محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] ، فأمرهُ بالاقتداءِ بهمْ، والأمرُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أمرٌ لأمَّتِه ما لم يرِدِ التَّخصيصُ بهِ.

وثبتَ عن العوَّام بن حوشبٍ قالَ: سألتُ مجاهدًا عن سجْدَةِ {ص} ؟ فقالَ: سألتُ ابن عباسٍ: من أين سَجَدْتَ؟ فقال: أوما تقرأُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] ، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] ، فكان داودُ ممَّن أُمرَ نيُّكم - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدِي بهِ، فسجَدَها داوُدُ عليه السَّلامُ فسجدَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [أخرجه البخاريُّ] . وقدِ استدلَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالشَّيءِ من ذلكَ، فعنْ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قالَ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رقدَ أحدُكُم عن الصَّلاةِ أو غفلَ عنْها، فليُصلِّها إذا ذكرهَا، فإنَّ الله يقولُ: [طه: 14] )) [متفق عليه، واللفظُ لمسلمٍ، والبُخاريُّ نحوهُ] ، فهذا قولُ اله شريعةً لموسى عيه السَّلامُ. [2] ليسَ شرعًا لنَا، وهذا المذهبُ قولٌ للشَّافعيَّةِ والحنابلَةِ. واستدلُّوا له بقوله تعالى: [المائدة:48] . والرَّاجحُ المذهبُ الأوَّلُ، وأمَّا دليلُ المذهبِ الثَّاني فلا يُعارضُ أدلَّةَ المذهبِ الأوَّلِ، فإنَّ الله تعالى أنزلَ على كلِّ رسولٍ من الشَّرائعِ قانونًا لا يشبَهُ كلِّ وجهٍ ما بعثَ به الآخرن يكونُ في شريعةِ هذا ما ينسخُ شيئًا من شريةِ هذا ويزيدُ عيها ما لم تأْتِ بها، أمَّا أن تكونَ كلُّ

شريعةٍ تستقلُّ عن الأخرى من كلِّ وجهٍ فهذا ليسَ بصوابٍ، كما يمكنُ أن يدُلَّ عليه النَّوعُ الأوَّلُ والثَّاني من الأحكامِ. ويزيدُ في تأكيدِ صحَّةِ المذهبِ الأوَّلِ: أنَّ الحُكم حينَ يأتي عن شرعِ من قبْلنَا في الكتابِ والسُّنَّةِ إبطالٌ لذلكَ الحكمِ، فهو دليلٌ على إقرارِه شرعًا لنا. * * *

الدليل الخامس القياس

الدليل الخامس القياس *تعريفه: لغةً: يُقالُ: (قاس الشَّيءَ بغيرهِ وعلى غيرهِ) أيْ: قدَّره على مثالهِ. واصطلاحًا: إلحاقُ واقعةٍ لا نصَّ على حُكمهَا بواقعةٍ وردَ النَّصُّ بحُكمهَا في الحُكمِ لاشتراكِهما في علَّةِ ذلك الحُكمِ. وحقيقةُ القِياسِ: أنَّه إبانةٌ عن الحكمِ الشَّرعيِّ الَّذي دلَّ عليه النَّصُّ وإظهارٌ له من قِبَلِ المجتهدِ بضربٍ من التَّشبيهِ لغير المنصوصِ بالمنصوصِ، وليس هو إثبات حُكمٍ شرعيٍّ من غير أصلٍ، بل الحُكمُ موجودٌ إلاَّ أنه ليس بظاهرِ، فيكشفُ عنهُ المجتهدُ بطريقِ القياسِ، لذا فإنَّه مسلكٌ اجتهاديٌّ في حدودِ نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ بضوابطِ معيَّنةٍ، كما سيأتي. مثالهُ: قال الله عزَّوجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . فهذه الآيةُ دلَّت على منعِ البيعِ بعدَ سماعِ النِّداءِ، وعلَّةُ المنعِ ما يقعُ

أركان القياس

به من التَّعويقِ عن حضُورِ الجمُعَةِ أو خوفِ تفويتهَا، وهذا المعنى ذاتُهُ يوجدُ في غيرِ البيعِ من العقُودِ، كالإجارةِ والوِكالةِ، وهيَ صُورٌ لم يرِدِ النَّصُّ بالمنعِ منها، لكنَّ فيها نفسَ المعنى الَّذي لأجلهِ مُنعَ البيعُ، فأُلحقتْ به في حُكمِ المنعِ. أركان القياس "من خلالِ تعريفِ القياسِ يُلاحظُ أنَّه لا بدَّ له من توفُّرِ أربعةِ أركانٍ هيَ: 1ـ الأصل "وهو (المَقيسُ عليهِ) ، وهوَ الَّذي وردَ النَّصُّ بحُكمهِ، كالبيعِ في المثالِ الماضي. ولهُ شُروطٌ تُعرفُ من خلالِ (شُروطِ حُكمهِ) الآتيةِ. 2ـ الفرع "وهوَ (المَقيسُ) ، وهو الواقعةُ الَّتي لم يرِدْ نصٌّ بحُكمهَا، ويُرادُ إلحاقُها بالأصلِ، كالإجارةِ في المثالِ السَّابقِ. ومن شرْطِهِ:

3ـ حكم الأصل

أن لا يُباينَ موضُوعُهُ موضوعَ الأصلِ. وذلكَ كقياسِ (البيعِ) على (النكاحِ) ، فإنَّه لا يصحُّ لاختلافِ موضوعِهمَا، فإنَّ البيعَ مبنيٌّ على المُكايسَةِ والمُشاحَّةِ، والنِّكاحَ مبنيٌّ على المُكارمَةِ والمُساهَلَةِ. 3ـ حكم الأصل * وهو الحُكمُ الشَّرعيُّ المنصوصُ عليهِ، ويُرادُ تعديتُهُ للفرْعِ، وهوَ في المثالِ المذكُورِ آنفًا حُرْمةُ البيعِ بعدَ نِداءِ الجُمُعَةِ. ولا تصحُّ تعديتُه إلى الفرعِ إلاَّ بشُروطٍ، هيَ: [1] أن يكونَ حُكمًا شرعيًّا عمليًّا ثبتَ بالنَّصِّ. فيخرُجُ بذلكَ نوعانِ: (1) ما ثبتَ حُكمُهُ بطريقِ (البَراءَةِ الأصليَّة) وسيأتي بيانُها في (دليل الاستِصْحابِ) ، فإنَّها مبنيَّةٌ على عدَمِ وُرودِ الشَّرعِ بحكمٍ ناقلٍ عن الأصلِ، فالحُكمُ الشَّرعيُّ لم يثبتْ بالتَّنصيصِ عليهِ، إنَّما ثبتَ بدليلِ العدَمِ. (2) العقائِدُ وقضايا السُّلوكِ وتهذيبِ النَّفسِ كالأمورِ المتعلِّقةِ بأعمالِ القُلوبِ من التَّوكُّلِ والإنابَةِ والخوفِ والرَّجاءِ والحُبِّ

والبُغضِ ونحوِ ذلكَ، فهذه الأحكامُ لا يدخُلُهَا القياسُ لأنَّها ليسَتْ من جُملَةِ الأحكامِ العمليَّةِ المندرجَةِ تحتَ (باب الفِقه) . [2] أن يكونَ حُكمًا معقولَ المعنَى. أيْ يُمكنُ أن تُركَ علَّةُ تشريعِهِ، مثلُ: تحريمِ الخمرِ، أو الرِّبا، ومنعِ القاتلِ من الإرثِ ممَّن قتلَ. وبهذا الشَّرطِ تخرُجُ الأحكامُ التَّعبُّديَّةُ المحضَةُ فيمتنِعُ فيها القياسُ وإنْ كانتْ أحكامًا عمليَّةً، وفي هذا يُقالُ: (لا قياسَ في العبادَاتِ) ، لأنَّها استأثرَ الله تعالى بعلمِ عِلَلها، مثلُ عددِ الصَّلواتِ وركعَاتِهَا، وكمْ يُجلَدُ الزَّاني والقاذِفُ، والقَاعِدَةُ العامَّةُ في ذلكَ: (الأصلُ في العبادَاتِ التَّعبُّدُ دونَ الالْتِفاتِ إلى المعاني، والأصلُ في العادَاتِ التَّعليلُ) . وقدْ سلَكَ الشَّافعيُّ مَسْلكَ التَّضْييقِ في تعليلِ الأحكامِ، حتَّى ذهبَ إلى أنَّ (الأصلَ في جميعِ الأحكامِ التَّعبُّدُ) ، بخلافِ أبي حنيفةَ، فإنَّ القاعدَةَ عندهُ (الأصلٌ في الأحكامِ التَّعليلُ) ، وبنى كلٌّ على أصلهِ مسائلَ في الفقهِ، فالشَّافعيُّ لا يرى غير الماءِ من السَّوائلِ يقومُ مقامَهُ ف يالتَّطهيرِ من النَّجاسَةِ لأنَّ الحُكمَ عندهُ فيه تعبُّدِيٌّ لا يُعقلُ معناهُ، بخلافِ الحنفيَّة، فعندَهُم صحَّةُ التطهُّرِ بكلِّ مائعٍ طاهرٍ يُزيلُ عينَ النَّجاسَةِ، لأنَّ العلَّةَ في ذلكَ إزالةُ النَّجاسَة وهي حاصلَةٌ بهِ.

والفصْلُ في هذهِ القضيَّةِ يعودُ إلى تحديدِ ما هوَ عبادَةٌ محضَةٌ، وما يُعقلُ معناهُ وتُدركُ علَّتهُ، وهذا ممَّا يقعُ فيه الاختلافُ. [3] أن لا يكونَ حُكمًا مخْتصًّا بالأصلِ. فاختصَاصُهُ بالأصلِ يمنعُ تعديتَهُ للفرعِ، كزيادَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - في النِّكاحِ على أربعِ نسوةٍ، وتحريمِ نكاحِ نسائِهِ من بعدِهِ، ونحوِ قصَّةِ أبي بُردَةَ بنِ نيارٍ في الأضْحيَة حين قالَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: عِندِي جَذْعةٌ خيرٌ من مُسنَّة، فقالَ: ((اذْبَحْهَا، ولنْ تًَجْزِيَ عن أحدٍ بعْدَكَ)) [متفقٌ عليه] . [4] أن لا يكونَ حُكمًا منسوخًا. وهذا ظاهرٌ. تنبيه: اشترطَ بعضُ العُلماءِ هُنا شَرطًا خامسًا، هوَ: أن لا يكونَ الأصلُ معدُولاً به عن القياسِ، ويُعبِّرُ البعضُ عن ذلكَ بقولِهِ: (علَى خلافِ القياسِ) . وهذا في التَّحقيقِ شرطٌ فاسدٌ؛ لأنَّ صحَّةَ القياسِ إنَّما تُعرفُ بالنَّصِّ، فإذا ظُنَّ مجيءُ نصٍّ صحيحٍ على خلافِ القياسِ فذلكَ دليلٌ على فسادِ ذلكَ القياسِ، ولا يصْلُحُ نصبُ التَّعارضِ بين قياسٍ صحيحٍ ونصٍّ صحيحٍ لأنَّهُ غيرُ واردٍ، وإنِ ادُّعيَ وُجودُهُ فذلكَ في الذِّهنِ لا في نفسِ الأمرِ.

4ـ العلة

4ـ العلة تعريفها: هيَ الوصفُ الَّذي بُنيَ عليهِ حُكْمُ (الأصلِ) وبناءً على وجودِهِ في (الفرْعِ) يُسوَّى بـ (الأصلِ) في حُكمِهِ، وهي في المثالِ المتقدِّمِ التَّعويقُ عن حُضُورِ الجُمُعَةِ أو خوفُ تفويتهَا. و (العلَّةُ) أعظمُ أركانِ القيَاسِ. "الفرق بينها وبين الحكمة: جميعُ أحكامِ شريعةِ الإسلامِ إنَّما شُرعتْ لتحقيقِ مصالحِ العبادِ في المعاشِ والمعادِ، فهيَ إمَّا لِجلبِ منْفَعَةٍ أو دفعِ مضرَّةٍ أو رفعِ حرجٍ. وهذه المصالحُ هي مقاصدُ التَّشريعِ، وهي الحكمةُ منهُ، والقُرآنُ والسُّنَّةُ يُنبِّهانِ المُكلَّفين في كلِّ حكمٍ تشريعيٍّ على هذه المقاصِدِ. فكتبَ الله القصاصَ في القتلَى حِفْظًا لحياةِ النَّاسِ، وحرَّم السَّرقَةَ وأوجبَ الحدَّ فيها حفظًا لأموالِ النَّاسِ، وحرَّم الزِّنا وقذْفَ المُحصنَاتِ الغافلاتِ حفظًا لأنسابِ النَّاسِ وأعراضِهِمْ، وحرَّم شُربَ الخمرِ وشدَّدَ فيها غايةَ التَّشديدِ حفظًا لعُقولِ النَّاسِ، كما جعلَ من مقاصِدِ العبادَاتِ ربْطَ العبادِ بهِ سُبحانَهُ وإشعارَهُم بالافتِقَارِ الدَّائمِ إليهِ ليُراقِبُوهُ ويخافُوهُ فيُحقِّقُوا العُبودِيَّةَ لهُ كما أرادَ منهُم ليَنالُوا بذلكَ رضَاهُ عنهُمْ في الدَّارينِ، كما أذِنَ لهُم فيما أذِنَ سُبحانَهُ رفعًا

للحرجِ عنهُم، فإنَّ التَّكليفَ قدْ لا يُطاقُ، فخفَّفَ عنهُمْ، كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] ، فأباحَ لهُم المحرَّم عندَ الضَّرُورةِ، وأسقطَ عنهُم بعضَ ما افترَضَ عليهِم عندَ العجزِ أو ورودِ المشقَّة، فخفَّف في الصَّومِ عن المسافرِ والمريضِ والحاملِ والمُرضِعِ. هذه المعاني وشِبْهُهَا هي حكمةُ التَّشريعِ، وقد يكونُ للتَّشريعِ الواحدِ حِكمٌ كثيرةٌ، فتأمَّلْ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90ـ 91] . لكنَّ الشَّريعةَ لم تُعلِّقِ الأحكامَ بحِكَمِهَا، فإذا وُجِدَتْ وُجِدَ الحُكمُ وإنِ انتَفَتْ انتفَى، وذلكَ لأسبابٍ، منهَا: 1ـ أنَّ الحكمَةَ خفيَّةٌ يعسُرُ التَّحقُّقُ من وجودِهَا، مثلُ: حكمَةِ إباحةِ البيعِ، فإنَّها رفعُ الحرَجِ عن المكلَّفينَ بسدِّ حاجَاتِهِمُ المشروعَةِ، لكنَّ (الحَاجَة) أمرٌ خفيٌّ، فلذَا لم يُعلَّقْ بها حُكمُ إباحَةِ البيعِ، إنَّما نُظرَ في أمرٍ آخرَ ظاهرٍ مُنضَبِطٍ بُنيت الإباحَةُ عليهِ، فَوُجِدَ (الإيجابُ والقَبُولُ) بينَ المتبايِعينِ، لأنَّ ذلكَ دليلُ التَّراضِي بينهمَا، والتَّراضِي

علامَةٌ على وجُودِ الحَاجَّةِ لكلٍّ منهما، فعلِّقَ به الحُكمُ. 2ـ أنَّها غيرُ منضبِطَةٍ، فهيَ تختلفُ باختلافِ المكلَّفينَ وأحوالِهمْ، مثلُ: الرُّخصَةِ للمريضِ والمُسافِرِ بالفِطرِ في رمضانَ، فإنَّ الحكمَةَ (دفعُ المشقَّةِ) ، لكنْ قدْ لا يشقُّ عليهمَا الصَّومُ، وقدْ يشقُّ على غيرهِمَا، فلا يصلُحُ أن يكونَ (دفعُ المشقَّة) وصفًا صالحًا لتعليقِ الحُكمِ عليهِ لهذا الاضْطِرَابِ في وجودِهِ، فنُظرَ إلى الوصفِ المُنضبِطِ فوُجدَ (المرضُ والسَّفرُ) فعلِّقَ بهِ الحُكمُ. فالحاصلُ في الفَرْقِ بينَ (الحِكمَة) و (العلَّة) أنَّ: الحكمَةَ هي: المصلحَةُ الَّتي قصدَ الشَّارعُ تحقيقَهَا بتشريعِهِ الحُكمَ. والعلَّةَ هي: الوصفُ الظَّاهرُ المُنضبِطُ الَّذي بُنيَ عليه الحُكمُ، ورُبطَ بهِ وجودًا وعدمًا. والعلَّةُ مظِنَّةٌ لتحقيقِ الحِكمَةِ. تُسمَّى (الحكمَةُ) : المِئَنَّة، كمَا تُسمَّى (العلَّةُ) : المَنَاط، والسَّببُ، والأمارَة. * شروطها: لا تصلُحُ (العلَّةُ) للقياسِ إلاَّ بأنْ تجمعَ الشُّرُوطَ التّاليةَ: 1ـ أن تكونَ وصفًا ظاهرًا.

أيْ: يُمكنُ التَّحقُّقُ من وجودِهِ في كلٍّ من (الأصلِ) و (الفرعِ) بعلامةٍ ظاهرَةٍ. مثالُه: (الإسكارُ) فإنَّه علَّةٌ يمكنُ التَّحقُّقُ من وجودِها في الخمرِ، كما يمكنُ التَّحقُّق من وجودِها في مطعومٍ مسكرٍ. 2ـ أن تكونَ وصفًا مُنضبطًا. أيْ: له حقيقةٌ مُحدَّدَةٌ مُعيَّنةٌ لا تختلفُ باختلافِ الأشخاصِ والأحوالِ. مثالهُ: (القتلُ) مانعٌ للقاتلِ من الإرثِ ممَّن قتلَ، وهو (علَّةُ) حرمَانِه حيثُ أرادَ استِعْجالَ الميراثِ، و (القتلُ) وصفٌ منضبطٌ لا يختلفُ باختلافِ القاتلِ والمقتولِ، فلو وُجِدَتْ هذه العلَّةُ في الموصِي والموصى لهُ، فقتلَ الموصَى لهُ الموصي كانَ (القتلُ) مانعًا لهُ من الوصيَّةِ بالقياسِ. وهذا بخلافِ تعليلِ القصرِ في السَّفرِ بـ (المشقَّة) ، فإنَّ (المشقَّةَ) كما ت قدَّم وصفٌ غيرُ منضبِطٍ، لأنَّها تختلفُ باختلافِ الأشخاصِ والأحوالِ، ولذَا عُدِلَ عنها للتَّعليلِ بسببِهَا وهوَ (السَّفر) ، لأنَّهُ وُجدَ الحُكمُ دائرًا معهُ وجودًا وعدمًا، ولا يختلفُ باختلافِ الأشخاصِ أو الأحوالِ. 3ـ أن تكونَ وصفًا مُناسبًا للحُكمِ.

أي: أنَّ ربطَ الحُكمِ بتلكَ العلَّةِ وجودًا وعدَمًا من شأنِهِ أن يُحقِّقَ ما قصَدَهُ الشَّارعُ بتشريعِ الحُكمِ من جلْبِ نفعٍ أو دفعِ ضرَرٍ، لأنَّ (الحِكمَةَ) هي الباعثُ الحقيقيُّ على تشريعِ الحُكمِ. ويُعرِّفُ العلماءُ (المُناسبَ) بأنَّهُ: ما يُفضي إلى ما يُوافقُ الإنسانَ تحصيلاً بجلْبِ المنفعَةِ، وإبقاءً بدفعِ المضرَّةِ. مثالهُ: القتلُ العمدُ العُدوانُ مُناسبٌ لإيجابِ القِصاصِ، لأنَّ في بناءِ القصاصِ عليهِ حِفظُ حياةِ النَّاسِ، والسَّرقَةُ مناسبَةٌ لقطعِ يدِ السَّارقِ، لأنَّ في ذلكَ حفظُ أموالِ النَّاسِ، والسَّفرُ مناسبٌ لقصرِ الصَّلاةِ لأنَّهُ مظِنَّةٌُ المشقَّةِ والحرَجِ، وقدْ قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((السَّفرُ قِطْعَةٌ من العذابِ)) [متفقٌ عليه] . وعلى هذا فإنَّ الأوصافَ (الطَّرديَّة) وهي الَّتي لا مُناسبَةَ بينَهَا وبين الحُكمِ؛ لا تصلُحُ أن تكونَ أوصافًا مُناسبَةً للتعليلِ بها، مثلُ كونِ الخمرِ أحمرَ، وكونَ القاتلِ أسودَ أو طويلاً أو رجلاً، وكونِ السَّارقِ غنيًّا والمسروقِ منهُ فقيرًا، وكونِ المواقعِ زوجتَهُ في نهارِ رمضانَ أعربيًّا، وهكذا سائرُ الأوصافِ الاتِّفاقيَّة. 4ـ أن تكونَ وصفًا متعدِّيًا. أيْ: لا تكونُ العلَّةُ قاصرَةً على (حُكمِ الأصلِ) ، بلْ يمكنُ تعديتُها إلى الفرْعِ.

مثالُ العلَّةِ القاصرةِ: (السَّفرُ) و (المرض) علَّتانِ لإباحَةِ الفطرِ في رمضانَ للمُسافرِ والمريض، ولا توجدانِ إلاَّ في مُسافرٍ أو مريضٍ، فلا تتعدَّاهما إلى أصحابِ المِهنِ الشَّاقةِ مثلاً، لأنَّهم لا يوجدُ فيهِم علَّةُ (السَّفرِ) أو (المرضِ) . ومن العللِ القاصرَةِ (الوِقاعُ في نهارِ رمضانَ) لإيجابِ الكفَّارَةِ، بدلالةِ حديثِ أبي هريرَةَ رضي الله عنه قالَ: بينمَا نحنُ جلوسُ عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إذْ جاءَهُ رجلٌ فقالَ: يا رسول الله، هلكتُ، قالَ: ((مَا لكَ؟)) قال: وقعتُ على امرأتِي وأنا صائمٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هلْ تجدُ رقبةً تُعتِقُهَا؟)) قال: لا، قال: ((فهلْ تستطيعُ أن تصومَ شَهرينِ مُتتابِعينِ؟)) قالَ لاَ، فقال: ((فهلْ تجدُ إطعامَ ستيِّنَ مسكينًا؟)) قال: لاَ، قالَ فمكثَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فبينَا نحنُ على ذلكَ أُتِي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعرَقٍ فيه تمرٌ، والعرقُ: المِكتلَُ، قالَ: ((أينَ السَّائلُ؟)) فقالَ: أنَا، قالَ: ((خُذ هذا فتصدَّقْ بهِ)) ، فقالَ الرَّجلُ: أعلَى أفْقرَ منِّي يا رسول الله؟ فواللهِ ما بينَ لابتَيْهَا (يُريدُ الحرَّتينِ) أهلُ بيتٍ أفقرُ من أهلِ بيْتِي، فضَحكَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى بدَتْ أنيابُهُ، ثمَّ قالَ: ((أطْعمُهُ أهلكَ)) [متفقٌ عليه] . فعلَّقَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الكفَّارَةَ على موردِ السَّببِ، وهو الوِقاعُ، فلمْ يصحَّ تعديَّةُ الكفَّارِ إلى الإفطارِ بالأكلِ والشُّربِ، هذا عندَ الشّافعيَّةِ والحنابلَة، خلافًا للحنفيَّةِ والمالكيَّةِ.

5ـ أن لا تكونَ وصفًا مُلغًى. أيْ: ألغَتِ الشَّريعةُ اعتبارهُ وصفًا صالحًا لتعليقِ الحُكمِ عليهِ. مثلُ: اعتبارِ اشتراكِ الذَّكرِ والأنثَى في البُنُوَّةِ وصفًا مُناسبًا للحُكمِ بالتَّسوية بنيهمَا في الميراثِ، فهذا وصفٌ ألغى الشَّارعُ اعتبارَهُ، كما قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] . * مسالك العلة: مسالكُ العلَّةِ: الطُّرقُ الَّتي يُتوصَّلُ بها إلى معرفتِهَا في (الأصلِ) . وهي على التَّحقيقِ طريقَانِ: 1ـ طريقُ النَّصِّ: قدْ يدلُّ (النَّصُّ) من الكتابِ والسُّنَّةِ على (علَّة الحكمِ) صراحَةً أو إشارَةً، وقدْ تكونُ صراحتَهُ قطعيَّةً أو ظنِّيَّةً، فهذه ثلاثَةٌ أنواعٍ: [1] الدلالة الصَّريحةُ القطعيَّةُ، مثالُهَا: (1) قولهُ تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أدعيائهم إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] .

(2) قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّما جُعل الاستِئذأنُ من أجلِ البَصرِ) [متَّفقٌ عليه عن سهلِ بن سعدٍ] . فقولهُ: {لِكَيْ لَا} ومن ((أجلِ)) لا يحتملُ غيرَ التَّعليلِ. [2] الدَّلالةُ الصَّريحةُ غيرُ القطعيَّةِ، مثالُهَا: (1) قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] ، وقوله عزَّوجلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . (2) وقوله عزَّوجلَّ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] ، وقوله عزَّوجلّ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] . (3) وعن أبي قتادَةَ رضي الله عنه قال: إنَّ رسو الله - صلى الله عليه وسلم - قال ـ يعني في الهرَّة ـ: ((إنَّها ليستْ بنجسٍ، إنَّها من الطَّوافين عليكمْ والطَّوافَّاتِ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجهُ أصحابُ السُّنن وغيرُهُم] ، وقولهُ - صلى الله عليه وسلم - في المُحرِم الَّذي وقصَتْهُ دابَّتُهُ: ((ولا تُخَمِّروا رأسَهُ فإنَّهُ يُبعثُ يومَ القيامَةِ مُلبيًّا)) [متفقٌ عليه من حديثِ ابنِ عبَّاسٍ] . فالدّلالة على العليَّةِ في هذه النُّصوصِ ظنيَّةٌ، وذلكَ في التَّعليلِ بـ (الّلامِ، والباءِ، وإنَّ) ، فإنَّ إفادَةَ ذلك التَّعليلِ وإن كانَ راجحًا هُنا إلاَّ أنَّه ليسَ دائمًا.

[3] الدَّلالةُ إشارةً، كالدَّلالةِ المُستفادَةِ من ترتيبِ الحُكمِ على الوصفِ واقترانِه بهِ، بحيثُ يُفهمُ أنَّهُ لا فائدَةَ لهذا الاقترانِ إلاَّ إفادَةُ التَّعليلِ. مثالهَا: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا وصيَّةَ لوارثٍ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أصحابُ السُّنن وغيرُهم] . ويُلاحظُ أنَّهُ لا بدَّ من انطِباقِ شُروطِ العلَّةِ المتقدِّمةِ على ما يُعتبرُ علَّةً من الأوصافِ، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يَحكمُ أحدٌ بين اثنينِ وهو غضبانُ)) [متفقٌ عليه من حديث أبي بكرة] ، علِّق الحُكم بوصفِ (الغضبِ) ، لكنَّهُ في التَّحقيقِ لا يصلُحُ علَّةً تُعدَّى إلى فرعٍ، إنَّما تكونُ من قبيلِ العلَّةِ القاصرَةِ، بلْ تكونُ من قبيلِ العلَّةِ غير المُناسبَةِ كذلكَ، ولذا أُقيمَ المُسبَّبُ مُقامه، فإنَّ الغضبَ لمَّا كانَ يقعُ به تشويشُ الفكرِ الَّذي قد يحولُ دونَ العدْلِ في القضاءِ، كانَ هو الوصفَ المُناسبَ للتَّعليلِ به دونَ نفسِ الغضبِ، فقيسَ عليه الجُوعُ المُفرِطُ ونحوُهُ ممَّا يُوجدُ معهُ هذا الوصفُ. 2ـ طريقُ السَّبرِ والتَّقسِيمِ:

وهيَ طريقٌ يسلُكهَا المجتهدُ لاستنباطِ العلَّةِ، حيثُ لم يأتِ بها النَّصُّ صراحةً أو إيماءً. والسَّبرُ: هو الاختبارُ، والتَّقسيمُ: حصرُ الأوصافِ المحتمَلَةِ الَّتي يظُنُّها المجتهدُ صالحةً لأن تكونَ علَّةً للحُكمِ. فهي عمليَّةُ تُتبُّعٍ للأوصاف في (الأصلِ) ثمَّ فحْصِهَا باستعمالِ شُروطِ (العلَّة) المتقدِّمة، فيستعبِدُ ما لا تنطَبِقُ عليه الشُّروطُ، ويستبَقي ما كانَ كذلكَ. مثالٌ تقريبيٌّ: هبْ أنَّه لم يبلُغْكَ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلُّ مِسكرٍ خَمرٌ)) [أخرجه مسلمٌ وغيره] ، وأردتَ استنباطَ علَّةِ تحريمِ الخمرِ، فتسلُكُ طريقَ التَّقسيمِ أوَّلاً، فتقولُ مثلاً: أوصافُ الخمرِ هيَ: (سائلٌ، من العنبِ، أحمرُ، لهُ رائحةٌ، مسكرٌ) ثمَّ تسلكُ طريقَ السَّبرِ مستعملاً شُروطَ العلَّةِ، فتخلُصُ إلى إلغاءِ جميع هذهِ الأوصافِ لعدَمِ انضِباطِها أو مُناسَبَتِها أو امتناعِ تعديتِهَا إلى (الفرعِ) إلاَّ وصفَ (الإسكار) . * فائدة: ومن المسائلِ المشهورةِ الَّتي اختلفَ فيها الفُقهاءُ بسببِ اختلافِهِم في استنباطِ العلَّة: علَّةُ تحريمِ الرِّبا في الأصنافِ الرِّبويَّةِ السِّتَّةِ الواردَةِ في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الذَّهبُ بالذَّهبِ، والفضَّةُ بالفضَّةِ، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعيرُ

بالشَّعيرِ، والتَّمرُ بالتَّمرِ، والمِلحُ بالملحِ، مثلاً بمثلٍ، سواءً بسواءٍ، يدًا بيدٍ، فإذا اختلفَتْ هذه الأصنافُ فبِيعُوا كيفَ شئتُمْ إذا كانَ يدًا بيدٍ)) [أخرجه مسلمٌ وغيرُهُ من حديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامتِ] ، على ثلاثةِ مذاهبِ: [1] الحنفيَّة: العلَّةُ هي اتِّحادُ الجنسِ من الكيلِ أو الوزنِ، فقاسُوا عليها كلَّ مكيلٍ وموزونٍ. [2] الشّافعيَّة: بلْ هي اتِّحادُ الجنسِ مع الطُّعمِ أو الثَّمنيَّة، فقاسوا عليها كلَّ مطعومٍ وثمنٍ. [3] المالكيَّة: بلْ هي اتِّحادُ الجنسِ مع كونِهَا قوتًا مدَّخرًا أو ثمنًا، فقاسُوا عليها الأقواتَ الَّتي تُدَّخرُ والأثمانُ. * تتمة: يستعملُ الأصوليُّون ثلاثةَ مُصطلحاتٍ في مبحثِ (العلَّة) إليكَ ذكرَها ومعانيهَا: 1ـ تنقيحُ المناطِ: التَّنقيحُ لغَّةً: التَّمييزُ والتَّهذيبُ، والمناطُ هو (العلَّة) ، فـ (تنقيحُ المناطِ) هو: تهذيبُ العلَّةِ ممَّا علِقَ بها من الأوصافِ الَّتي لا مدخلَ لها في العلِيَّة.

وهذا من موارِدِ اختلافِ الفُقهاءِ، فلو أخذْتَ لها صورةً حقيقيَّةً بقصَّةِ المُواقعِ امرأتَهُ في نهارِ رمضانَ، فإنَّ من الأوصافِ أنَّهُ كان رجلاً، وأنَّهُ أعرابيٌّ، وأنَّه فقيرٌ، وأنَّهُ أفطرَ، وأنَّه جامعَ، فاستُبْعِدَتْ جميعُ الأوصافِ، إلاَّ (أنَّه أفطرَ) عندَالحنفيَّةِ والمالكيَّةِ فعلَّقُوا به الكفَّارةَ، فقالوا: من أفطرَ متعمِّدًا في نهارِ رمضانَ بجماعٍ أو أكلٍ أو شُربٍ فَعليْهِ الكفَّارةُ، وحذفَ الشَّافعيَّةُ والحنابلةُ جميعَ الأوصافِ إلاَّ (أنَّهُ جامعَ) فعلَّقوا الكفَّارةَ بالجِماعِ خاصَّةً، دونَ الأكلِ والشُّربِ. 2ـ تخريجُ المناطِ: هوَ: استِخراجُ (العلَّةِ) أيْ: استِنباطُهَا بطريقِ (السَّبر والتَّقسيمِ) حينَ لا يدلُّ عليها دليلٌ، وإنَّما يستفيدُهَا الفقيهُ بطريقِ النَّظرِ. 3ـ تحقيقُ المناطِ: هوَ نظرُ الفقيهِ في تحقيقِ (العَّةِ) في (الفرعِ) أو عدمِ تحقُّقها. مثلُ: عَلِمَ الفقيهُ أنَّ علَّةَ وجوبِ اعتِزالِ النِّساءِ في المحيضِ هي (الأذَى) ، فيُنظرُ هل تُوجدُ هذه العلَّةُ في (النِّفاسِ) و (إتيانِ موضعِ الدُّبُرِ) ، أم لا، فإنْ وُجِدَتْ في هذينِ الفرعينِ صحَّ لهُ تعديةُ حُكمِ وجوبِ الاعتزالِ، وإلاَّ فلاَ. * تنبيه: علِمتَ أنَّ مبنى (القياسِ) على اشتراكِ (الفَرْعِ) معَ (الأصلِ)

في (العلَّة) وهذا هو القياسُ الَّذي إذا اجتمعَتْ أوصافُه على ما تقدَّم بيانُهُ فهو (القياسُ الصَّحيحُ) . غيرَ أنَّهُ جديرٌ بكَ أن تعلمَ أنَّ مُسمَّى (القياس) قدْ أطلقَهُ كثيرٌ من العلماءِ على: 1ـ ما يُلحقُ (الفرعُ) فيه بـ (الأصلِ) بمُقتضَى اللُّغةِ، ولا يتوقَّفُ على استنباطٍِ، وهو نوعانِ: [1] قياسُ الأولى: مثالهُ قولهُ تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] ، فحرَّم الله التَّأفيفَ للوالدينِ، والعلَّةُ (إيذاؤهُمَا) ، وهذهِ العلَّةُ في ضربِهما وشَتْمِهمَا أقوى منها في التَّأفيفِ، فيكونُ الضَّربُ والشَّتمُ أولى بالتَّحريمِ من قولِ (أُفٍّ) ، ولا يتوقَّفُ فهمُ ذلكَ على نظرٍ واستنباطٍ، بلْ هوَ مُتبادرٌ من النّصِّ نفسِهِ. [2] قياسُ المُساواةِ: مثالُهُ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] ، علَّةُ تحريمِ أكلِ أموالِ اليتامَى ظلمًا هي (الاعتداءُ عليها بالإتلافِ) ، وهذا المعنى ذاتُهُ موجودٌ في إتلافها بالإحراقِ. ويُتصوَّرُ أن تكونَ (العلَّة) في (الفرعِ) ، أضعفَ منها في (الأصلِ) ،

ممَّا سمَّاهُ البعضُ بـ (قياس الأدنى) لكنْ لا ينبغي تصحيحُ هذهِ الصُّورةِ من القياسِ، لأنَّ ضعفَ العلَّةِ في الفرعِ يعني تخلُّفَ بعضِ معانيهَا أن توجدَ فيه، وهذا ينفي المثليَّة بينَ المقيسِ والمقيسَ عليهِ. 2ـ ما يُلحقُ (الفرعُ) فيه بـ (الأصلِ) بناءً على نوعِ شبهٍ بينهُمَا ليسَ هوَ علَّةً للحُكمِ، وهذا يُسمَّى بـ (قياس الشَّبه) . ممَّا يُمثِّلُ لهُ به من يذْهبُ إليهِ: قياسُ الوُضوءِ على الصَّلاةِ في التَّرتيبِ والمُولاَةِ، بجامعِ كونِهِمَا عبادَةً تبْطلُ بالحَدَثِ. ومن أمثلتِهِم لهُ: (العبدُ المملوكُ) لوْ أتلفَ شيئًا فهلْ عليهِ ضمانٌ أم لا؟ والتَّردُّدُ فيه حاصلٌ من جهةِ بمنْ يُلحقُ، أبا الحُرِّ لشبَهِهِ بهِ في الآدميَّةِ؟ أمْ بالبهيمَةِ لشَبَهِهِ بها في المِلكيَّة؟ هذا القياسُ مع ظُهورِ فسادِهِ فقد ذهب إلى القولِ بهِ جماعَةٌ من الفُقهاءِ، منهُمُ الشَّافعيُّ. ويستدلُّ بعضُ أهلِ العلمِ لسُقوطِهِ بأنَّهُ لم يأتِ لهُ مثلٌ في كتابِ الله تعالى إلاَّ في موضعِ الذَّمِّ، وذكرَ من ذلكَ قولَ إخوَةِ يُوسفَ عن يوسُفَ عليهِ السَّلامُ: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77] ، وقوله تعالى عن الكُفَّارِ في قولِهِم لنوحٍ عليه السَّلامُ: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 27] .

حجية القياس

حجية القياس جمهورُ العلماءِ على أنَّ القياس إذا استجمعَ أركانَهُ وشرُوطَهُ فهوَ حجَّةٌ شرعيَّةٌ لإثباتِ الأحكامِ فيما لا نصَّ فيه من الوقائعِ، وهو من أبرزِ مسالكِ الاجتهادِ وألصقِها بالنُّصوصِ حيثُ يلزمُ فيه حصُولُ الموافقةِ للنَّصِّ بالاشتراكِ بين الأصلِ والفرْعِ بمعنى صحيحٍ. ووجُوهُ الاستدلال لمذهبِ الجمهورِ ليسَ فيها ما هوَ صريحٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ بأنْ جاءَ (القياسُ حجَّةٌ في الدِّين) ، ولكنَّهما قدْ دلاَّ على صحَّته من جهةِ تصحيحِ مبدأ القياسِ في التَّدبُّرِ في الآياتِ الكونيَّةِ والأمرِ بأخذِ العبرةِ من أحوالِ الأُممِ في كتاب الله تعالى، كما أمر به القرآنُ في مواطِنَ كثيرةٍ، وما ضربُ الأمثالِ والتَّشبيهُ وهو لا يُحصى كثرةً في الكتابِ والسُّنَّةِ إلاَّ في القياسِ. وأبْيَنُ تلكَ الاستدلالاتِ ما كانَ يقعُ من سيِّدِ المجتهدينَ - صلى الله عليه وسلم - من استعمالِ القياسِ في كثيرٍ من الحوادثِ، من ذلكَ: 1ـ حديثُ أبي ذرٍّ رضي الله عنه وقدْ ذكر عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قولَهُ: ((وفي بُضعِ أحدِكُم صدَقَةٌ)) قالو: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شَهوَتَهُ ويكونُ لهُ فيها أجرٌ؟ قالَ: ((أرأيتُم لو وضَعَهَا في حرامٍ أكانَ عليه فيها وِزْرٌ؟ فكذلكَ إذا وضعَهَا في الحلالِ كانَ لهُ أجرًا)) [أخرجه مسلمٌ] . 2ـ حديثُ عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: جاءَتِ امرأةٌ

إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالتْ: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتتْ وعليها صومُ نذرٍ، أفأصُومُ عنها؟ قالَ: ((أرأيتِ لوْ كانَ على أُمِّكِ دينٌ فقضيْتَهُ، أكانَ يُؤَدِّي ذلك عنهَا؟)) قالتْ نعَمْ، قالَ: ((فصُومِي عن أُمِّكِ)) وفي روايةِ لهذا الحديثِ: ((فدينُ الله أحقُّ أن يُقضَى)) [أخرجه مسلمٌ] . وما هذا منهُ إلاَّ إقرارٌ لمبدإِ القياسِ، وأنَّهُ ليسَ بخارِجٍ عن قوانين الشَّريعةِ، بلْ هوَ منهَا، وبهِ تُستفادُ أحكامُ الحوادثِ الَّتي لا نصَّ فيها. والمتأمِّلُ في اجتهادَاتِ السَّلفِ من الصَّحابَةِ فمنْ بعْدَهُم يجِدُهُم يستعملُونَ القياسَ في وقائعِ كثيرة، وحيثُ أنَّ الوقائعَ لا تتناهَى، فإنَّ الأمَّةَ ستبقى في حاجةٍ إلى أجوبَةِ مستجدَّاتها ممَّا لم يرِدْ به النَّصُّ. أمَّا من أنكرَ القياسَ من بعضِ العلماءِ، فإنَّهُم شنَّعوا على المُحتجِّينَ به غايَةَ التَّشنيعِ، تارةً بأنَّ هذا من القولِ على الله ورسولهِ بغيرِ علمٍ، وتارةً أنَّ هذا من الزيادَةِ في الدِّينِ لم يأذنْ بها الله تعالى ولا رسولُه - صلى الله عليه وسلم -، وتارةً أنَّ هذا من الظَّنِّ الَّذي لا يُغني من الحقِّ شيئًا، إلى غير ذلك من ألفاظِ التّهويلِ، ويبدُوا أنَّ الَّذي دفَعَهُم إلى ذلك تجاوُزاتٌ خارجَةٌ عن نظامِ القِياسِ، أو صُورٌ من القياساتِ الخفيَّةِ الَّتي لم تظْهرْ وجوهُ الاستدلالاتِ لهَا، أو معارضَةُ النَّصِّ ببعضِ صُورِ القياسِ الفاسِدِ، أو التَّعدِّي به إلى جانبِ العباداتِ، وهذه وشِبْهُهَا مُبطلاَتٌ

مسألة الاستحسان

للقياسِ، ويكفي في إبطالِهَا خُروجُها عن الضَّابطِ الصَّحيحِ للقياسِ. والخلاصة: أنَّ القياسَ إذا روعِيتْ أركَانُهُ وشرُوطُهُ فهو طريقٌ من طُرقِ الاجتهادِ، وإثباتُ الأحكامِ به فيما لا نصَّ فيه إنَّما هو من قبيلِ الاجتهادِ، وما كانَ من بابِ الاجتهادِ فإنَّهُ يصحُّ ردُّهُ بالنَّصِّ، ويكونُ ذلك دليلاً على فسادِهِ، كما تصحُّ مقارعتُهُ باجتهادِ مثلِهِ، والحُجَّةُ بهِ لا تلزَمُ المُخالفَ. مسألة الاستحسان * تعريفه: لغةً: عدُّ الشَّيءِ حسنًا. وأمَّا اصطلاحًا: فقدِ اختلفَ القائلونَ به في تعريفهِ، وحاصلُ أمرِهِ يعودُ إلى: تركِ وجهٍ من وجوهِ الاجتهادِ الجَارِية على القواعدِ، كالقياسِ أو القاعدَة الشَّرعيَّة الكليَّةِ، لوجهٍ بَدا للمجتهِدِ أنَّهُ أقوَى. ومن أمثلَتِهِ الَّتي تُوضِّحُ المقصودَ به عندَ القائلِ بهِ: 1ـ لو قالَ إنسانٌ: (مالي صدَقَةٌ) ، فالأصلُ: أن يتصدَّقَ بكلِّ مالٍ عندَهُ، ولكنْ خصَّ بالمالِ الَّذي فيه الزَّكاةُ استِحسانًا، كما في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] .

2ـ لو قرَأَ المُصلِّي آيةَ سجدَةٍ في آخرِ سورةٍ، فالقياسُ: أن يجتزيءَ بالرُّكوعِ، ولكنَّه يسجُدُ لها استحسانًا. 3ـ لو وقفَ إنسانٌ أرضًا زراعيَّةً فهلْ يدْخلُ في الوقفِ حقُّ المسيلِ والشُّربِ والمُرورِ تبعًا ولا تحتاجُ إلى النَّصِّ عليها عند الوقفِ؟ تجاذبَ هذه المسألةَ قياسَانِ: أحدُهمَا جليٌّ قريبٌ، والآخرُ خفيٌّ بعيدٌ، فالقياسُ الجليُّ: أنَّها لا تدخلُ في الوقفِ إلاَّ إذا نصَّ عليها الواقفُ قياسًا على البيعِ، لأنَّ كُلاًّ من (الوقفِ) و (البيعِ) إخراجُ ملكٍ من مالكِهِ، والقياسُ الخفيُّ: أنَّهَا تدخُلُ في الوقفِ من غير احتِياجٍ إلى النَّصِّ عليها قياسًا على الإجارَةِ، لأنَّ كلاًّ من (الوقفِ) و (الإجارَة) مقصودٌ بهِ الانتفاعُ، ولو استَأْجرَ إنسانٌ أرضًا فيها بئرُ ماءٍ فله الانتفاعُ بماءِ البئرِ بمقتضى عقدِ (الإجارَةِ) من غيرِ احتياجٍ إلى التَّنصيصِ عليهِ في العقدِ. 4ـ عقدُ الاستِصناعِ، وهوَ: شراءُ ما يُصنعُ وقفًا للطَّلبِ، وهو تعاقُّدٌ على معدومٍ وقتَ العقدِ، والأصلُ: منعُ بيعِ المعدومِ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لحكيمِ بن حِزامٍ: ((لا تبعْ ما ليسَ عندَكَ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أصحابُ السُّننِ] ، وفي صحيفة عمرِو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه عبد الله بن عمرِو قالَ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحلُّ سلفٌ وبيعٌ، ولا شرطانِ في بيعٍ، ولا رِبحُ ما لم تضمَنْ، ولا بيعُ ما ليسَ عندكَ)) [حديثٌ حسنٌ صحيحٌ أخرجه أصحاب السُّننِ] ، فجازَ استثناء من

القاعِدَةِ بالاستحسانِ. هذه الأمثلة توضِّحُ مسلكَ القائلينَ بـ (الاستِحسانِ) ، والتَّحقيقُ: أنّ الصواب في أحكامِ الأمثلة المذكورةِ مُدركٌ من وجوهٍِ ظاهرةٍ من غير حاجةٍ إلى مصطلح (استِحسانِ) فالمثالانِ الأوَّلانِ لا يُسلَّم الحكم فيهما، فإنَّ تخصيصَ قول من قال (مالي صدقة) بما ذُكر ليسَ صوابًا، بل الأصلُ العمُومُ إلاَّ أن يكونَ القائلُ أراد بذلكَ بعدَ موتِهِ فيكونُ لقولهِ حُكمُ الوصيَّةِ، والمثالُ الثَّاني في قضيَّةٍ فالأصلُ فيها استعمالُ الشَّرعِ للفْظِ (سُجود) ، ولا يُرادُ به الرُّكوعُ إلاَّ في اللُّغةِ، والحقيقةُ الشَّرعيَّةُمقدَّمةٌ على الحقيقةِ اللُّغويَّةِ، خلافًا للحنفيَّةِ، فيكونُ مُتناولاً للسُّجودِ لا للرُّكوعِ بالنَّصِّ لا بالاستحسانِ المُبهمِ المعنى، وأمَّا المثالانِ الآخرانِ فمرجِعُهما إلى اعتبارِ المقاصِدِ الشَّرعيَّةِ في نفعِ المكلَّفينَ فهُما راجعانِ إلى اعتبارِ المصالحِ، وهذا الَّذي سلكَهُ المالكيَّةُ في مثلِ هاتينِ الصُّورتينِ، وسيأتي الكلامُ عن (دليل المصلحة) . ولا تكادُ ترى المسألَةِ (الاستحسان) مثالاً صحيحًا يأتي على تعريفٍ صحيحٍ، ويكفي أنَّ القائلينَ به اضْطربُوا فيه، حتَّى عدُّوا صُورًا من الأحكامِ ثابتةً بالنَّصِّ (استِحسَانًا) . ورافعُوا رايةِ الاحتِجاجِ به هُمُ الحنفيَّةُ، وقابلهُم الشَّافعيُّ فأنكرَ ذلكَ بشِدَّةٍ، حتَّى قال رحمه الله: إنَّما الاستحسانُ تلَذُّذٌ (الرِّسالة

فقرة: 1464) ، وله كتابٌ صنَّفهُ سمَّاه (إبطال الاستِحسان) هوَ ضِمنَ كتابِ (الأم) (7/293) ، ومن العلماءِ من قصدَ التَّلطُّف مع الحنفيَّةِ في مذهبِهم في هذه المسألةِ فادَّعى حملَ ذمِّ الشَّافعيِّ وشِدَّة إنكارِهِ على القولِ في الدِّين بمجرَّدِ الهوى، والحنفيَّةُ لم يُريدُوا ذلكَ بالاستحسانِ، ومنهُم من قال: إنَّما أنكرهُ الشَّافعيُّ من جهةِ اللَّفظِ مستقبِحًا أن يقول القائلُ: (اسْتحسِنُ) وينسُبُهُ للدِّينِ. والاعتداءُ عن أهلِ العلمِ مطلوبٌ والذَّبُّ عنهُم واجبٌ، وإذا كان أصلُ استحسانِ الحنفيَّةِ يعودُ إلى الدَّليلِ، فالحُجَّةُ إذًا في الدَّليل لا فيما سمَوْهُ (استحسانًا) ممَّا حاروا في ضَبْطِه، إلاَّ أنَّ المقامَ يقتضي ذّبًّا عن الشَّافعيِّ رحمه الله، فإنه حين أبطلَ الاستِحسانَ كان قاصدًا به استِحسانَ الحنفيَّة، ومن طالعَ كلامَهُ في ذلكَ رآهُ واضحًا، وما كَانُوا في منأى عنهُ، بلْ كان خبيرًا بمذاهبِهم، فلم يكُن ليردَّ على صورَةٍ وهميَّةٍ لا حقيقةَ لها ليُحملَ كلامُهُ عليها، وأمَّا قولُ من قال: (إنَّ الشَّافعيَّ ومن وافقهُ إنَّما استَقْبحُوا لفظَ الاستِحسانِ) فهذا خطأٌ، فإنَّ الشَّافعيَّ وأحمدَ وكثيرًا من الأئمَّةِ استخْدَموا هذا اللَّفظَ في كلامهِمْ ومسائلِهم، وأصحابُهُم يذْكُرونَ نماذجَ في ذلكَ من عبارَاتِهمْ، فهُم أرفعُ من أن يكونُوا أنكرُوا (الاستِحسانَ) لمجرَّدِ اللَّفظِ. * * *

الدليل السادس المصلحة المرسلة

الدليل السادس المصلحة المرسلة * أنواع المصالح: جميعُ شرائعِ الدِّين ترجعُ إلى تحقيقِ مصالحَ ثلاثةٍ، هي: 1ـ دَرْءُ المفاسِدِ. وشُرعَ لهَا حفظُ (الضَّروريَّاتِ) الخمسِ: الدِّينِ، والنَّفسِ، والمالِ، والعِرضِ، والعقلِ. 2ـ جلبُ المصالحِ. وشُرعَ لها ما يرفعُ الحرَجَ عنِ الأمَّةِ في العبادَاتِ والمُعاملاَتِ وغيرِهَا، وتلكَ هي المُعبَّرُ عنها بـ (الحاجيَّات) . 3ـ الجريُ على مُقتضى مكارِم الأخلاقِ ومحاسِنِ الشِّيمِ، وشُرعَ لها أحكامُ (التَّحسينيَّات) . * أقسام المصالح وهذه المصالحُ الثَّلاثةُ الَّتي ترجعُ إليها شرائعُ الإسلامِ تنقسِمُ من جهةِ اعتبارِ الشَّارعِ لها أو عدَمِ اعتبارِهِ، ثلاثةَ أقسامٍ:

1ـ المصلحة المعتبرة: وهي الَّتي اعتبرَها الشَّارعُ فشرعَ الأحكامَ من أجلهَا، وقاعدَةُ الشَّرعِ العامَّةِ فيها هي: رُجحانُ جانبِ المصلحةِ فيها على المفسدَة. مثالُها في حفظِ الضَّروراتِ الخمسِ: الدِّينِ، والنَّفسِ، والمالِ، والعِرضِ، والعقلِ، أنْ شرعَ الجهَادَ وقتلَ المرتدِّ لحفظِ الدِّينِ، والقصاصَ لحفظِ النَّفسِ، وحدَّ السَّرقةِ لحفظِ المالِ، وحدَّ الزِّنا والقذْفِ لحفظِ العِرضِ، وحدَّ الشُّربِ لحظِ العقلِ، كما أباحَ البيعَ والنِّكاحَ للحاجةِ. 2ـ المصلحة المُلغاة: وهيَ مُقابلَةٌ لـ (المصلحة المعتبرَة) ، فهذه وإنْ سُمِّيتْ مصلحةً إلاَّ أنَّ الشَّارعَ وهو أعلمُ ألغَى اعتبارِهَا. وهذا النَّوعُ من المصالحِ قد يكونُ موجودًا، لكنَّ الشَّرع ألغى اعتبارَهُ لغلبَةِ المفسدَةِ، إذ القاعدةُ الشَّرعيَّةُ العامَّةُ فيه هي: رُجحانُ جانبِ المفسدَةِ على جانبِ المصلحَة، كما في منفعة الخمرِ والميسرِ، فقدْ قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] . وهذا النَّوعُ من المصالحِ لا يختلفُ أهلُ العلمِ على أنَّهُ لا يجوزُ بناءُ الأحكامِ عليهِ.

3ـ المصلحةُ المُرسلة: وهي الَّتي سكتَ عنْهَا الشَّرعُ فلمْ يتعرَّض لها باعتبارٍ ولا إلغاءٍ، وليسَ لها نظيرٌ وردَ بهِ النَّصُّ لتُقاس عليهِ. مثلُ: المصلحةِ الَّتي دَعتْ إلى جمعِ القرآنِ، وتدوينِ الدَّواوينِ، وتركِ عُمرَ رضي الله عنه الخلافَةَ شُورى في ستَّةٍ، وزيادَةِ عثمانَ رضي الله عنه الأذانَ يومَ الجُمُعةِ لإعلامِ من في السُّوقِ واتِّخاذِ الخُلفاءِ عُمرَ فمَنْ بعدَهُ للسُّجونِ. *حجيَّة المصلحة المرسلة: العبادَاتُ لا يجري فيها العملُ بـ (المصلحَةِ المُرسلَةِ) بلا خلاَفٍ، لأنَّ مبنى العباداتِ على النَّصِّ، فالأصلُ فيها التَّوقيفُ، والقولُ فيها بـ (المصلحةِ المرسلَةِ) قولٌ بجوازِ الإحداثِ في الدِّينِ، وهو باطلٌ بالنَّصِّ والإجماعِ. أمَّا المعاملاتُ وما يُدْركُ وجهُهُ ومُناسبَتُهُ فهي محلُّ استِعمالِ (المصلحَةِ المرسلةِ) عندَ من قالَ بها، وقد اختلفَ الفُقهاءُ في الاجتجاجِ بها وعدِّها من أدلَّةِ الأحكامِ على مذهبينِ: الأوَّلُ: مذهبُ المالكيَّةِ والحنابلَةِ: أنَّها حُجَّةٌ ومصدرٌ من مصادرِ التَّشريعِ.

ومثلُهم الحنفيَّةُ، لكنَّهُم يُسمُّونها (استحسانَ الضَّرورةِ) كما قال بها بعضُ الشَّافعيَّةِ والحنابلَةِ. ووجهُ هذا المذهبِ: أنَّ الغايةَ العُظمَى من التَّشريعِ تحقيقُ مصالحِ العبادِ في الدَّارينِ، وجميعُ ما جاءَ من الأحكامِ في الكتابِ والسُّنَّةِ فهو لأجلِ ذلكَ، وجُزئيَّاتُ مصالحِ العبادِ لا تتناهَى، فما سكتَ عنهُ الكتابُ والسُّنَّةُ منها فالأصلُ أن تُراعى فيه قواعدُ الإسلامِ في جلبِ المنافعِ ودفعِ المضارِّ، فيُقنَّنُ فيه ما يُناسبُه، إذْ ليس في ذلكَ التَّقنينِ ما يُخالفُ شرعًا، ولم تزلْ الأمَّةُ منذُ عهدِ الصَّحابةِ تُفنِّنُ في مختلفِ أمورِ الحياةِ ما يكفُلُ لها حفظَ مصالحهَا، وإن لم يكن ذلكَ التَّقنينُ وردَتْ بخُصوصِه الشَّريعةُ. والثَّاني: مذهبُ الشَّافعيَّةِ: ليست بِحُجَّةٍ. ووجهُ قولهِم: أنَّ الشَّريعةَ قدْ راعتْ مصالحَ العبادِ في تشريعهَا، فلا يُتصوَّرُ أن تكونَ أغْفلتْ جانبًا فيه مصلحةٌ لهُمْ، وفي القول بـ (المصلحةِ) فتحٌ للبابِ ليقولَ من شاءَ ما شاءَ. وجوابُ هذا: أنَّ الشَّريعةَ لم تنُصَّ علىكلِّ فرعٍ من فُروعِ المصالحِ، وهذا موجودٌ في الواقعِ جزمًا فيما يستجِدُّ من الحوادثِ، ثمَّ إنَّ القولَ بـ (المصلحةِ) ليسَ مُرسلاً من القيودِ والضَّوابطِ ليقولَ من شاءَ ما شاءَ، ولعلَّ من أسبابِ هذا القولِ أنَّ بعضَ المالكيَّة بالغوا في هذهِ

ضوابط الاحتجاج بالمصلحة المرسلة

المسألةِ إلى حدِّ مخالفةِ الدَّليلِ، وهذا إنَّما يُنكرُ باعتبارِهِ (مصلحةً مُلغاةً) ولا يصحُّ أن يكونَ من قبيلِ (المصالحِ المُرسلَة) . والواقعُ العمليُّ يُؤكّدُ أنَّ جميع فُقهاء المذاهبِ أخذُوا بالمصلحة المرسلةِ في كثيرٍ من الفُروعِ. * ضوابط الاحتجاج بالمصلحة المرسلة: 1ـ أن تكونَ مُلائمةً لمقاصدِ الشَّرعِ، بأنْ تكونَ من جنسِ المصالحِ الَّتي جاء بهَا، لا تُخالفُ أصلاً من أصولهِ ولا تُنافي دليلاً من أدلَّةِ أحكامِهِ. 2ـ أن تكونَ فيما عُقل معناهُ وأُدركَ وجهُهُ على وجهِ التَّفصيلِ، لا في التَّعبُّداتِ أو ما يجري مجراهَا، كالوُضوءِ والصَّلاةِ والصَّومِ، فإنَّ التَّعبدَّاتِ لا تُدركُ معانيها على وجهِ التَّفصيلِ، إذْ لا تُدركُ وجوهُ المصالحَ فيها بغيرِ دلالةِ الشَّرعِ. 3ـ أن ترجعَ إلى حفظِ ضروريٍّ كحِفظِ الدِّينِ والأنفُسِ والأموالِ، أو رفعِ حرجٍ لازمٍ في الدِّين تخفيفًا وتيسيرًا. * من أمثلة المصالح المرسلة: 1ـ جمعُ المصحف، اتَّفق عليه الصَّحابةُ ولا نصَّ عليهِ، إنَّما اقتضَتْهُ مصلحةُ حفظِ الدِّينِ.

2ـ جلدُ شاربِ الخمرِ ثمانينَ جلدةً تعزيرًا، اتَّفق عليه الصَّحابةُ في عهدِ عُمرَ لأنَّهُم رأوْا أنَّ الشَّريعةَ لم تأتِ فيه بحدِّ مُقدَّرٍ، ومصلحةُ دَرءِ المفسَدَةِ اقتضَتْ ذلكَ، وهذا في حفظِ ضروريِّ وهو العقلِ. 3ـ لو تعسَّر على أهلِ بلدٍ وجودُ الحلالِ الطَّيِّب في الأموالِ أو المكاسِبِ، وانتشرَ وجودُ الحرامِ، ومسَّتِ الحاجَةُ إلى الزِّيادَة على سدِّ الرَّمقِ في الطَّعامِ والشَّرابِ والمَلبسِ والمسكَنِ، جازَ سدُّ تلك الحاجَةِ فيما يزيدُ على الضَّرورةِ ولا يصلُ إلىالتَّنعُّمِ والتَّرفُّهِ، وإباحتُه عندَ الفُقهاءِ بمُقتضَى المصلحةِ رفعًا لحرجٍ لازمٍ، وهوَ أصلٌ جاءتْ به الشَّريعةُ من حيثُ الجملَةُ، فليسَ هو بهذا الاعتبارِ مصلحةً مُلغاةً، لرُجحانِ جانبِ المصلحَةِ على المفسدةِ، وهذا المثالُ صحيحٌ مُتصوَّرٌ في الرِّبا ونحوِهِ، لكنَّهُ ممتنِعٌ فيما كانَ أذًى للغيرِ محضًا أو غالبًا كالغضبِ والسَّرقةِ. * تنبيه: للأصُوليِّين والفُقهاء ألقابٌ أخرى لـ (المصلحة المُرسلَة) منها: الاستِصلاح، والاستدلال، واستحسانُ الضَّروةِ، وقياسُ المناسبة. * * *

مسألة سد الذرائع

مسألة سد الذرائع * تعريفها: (الذرائعُ) جمعُ (ذريعةَ) وهي لُغَةً: الوسيلةُ المؤدِّيةُ إلى الشَّيءِ. واصطلاحًا: الوسيلةُ الموصِلةُ إلى الشَّيءِ الممنوعِ المشتملِ على مفسدَةٍ، أو المشروعِ المشتمل على مصلحةٍ. فهي لهذا الاعتبارِ متَّصلةٌ بالكلامِ على أصلِ (المصالح) . * أنواعها: بحسبِ ما تكونُ ذريعَةً له نوعانِ: [1] ذريعةٌ مشروعَةٌ، وهي المُوصلَةُ إلى مشروعٍ. مثلُ: السَّعيِ إلى الجمُعَةِ (ذريعةٌ) توصلُ إلى شُهودِ الجُمُعةِ وهوَ (مشروعٌ) . ويُقالُ للأمرِ بالسَّعي إليها: (فتحُ باب الذّريعةِ) . [2] ذريعةٌ ممنوعَةٌ، وهي الموصلَةُ إلى ممنوعٍ. مثلُ: الخلوةِ بالمرأةِ الأجنبيَّة، فهيَ (ذريعةٌ) توصلُ إلى الزِّنا وهو (ممنوعٌ) . ويقالُ لمنعِ الخلوةِ بالأجنبيَّةِ: (سَدُّ بابِ الذَّريعة) . فهذا التَّقسيمُ يعني أنَّ: ما أدَّى إلى المشروعِ فهوَ مشروعٌ، وما أدَّى

إلى الممنوعِ فهوَ ممنوعٌ، وبعبارَةٍ أخرى: (الوسائلُ لها حُكمُ المقاصِدِ) . على أنَّهُ غلبَ أن يُستَعملُ لفظُ (الذَّريعةِ) في الوسيلةِ المُفضيَة إلى المفسدَةِ، ومن هذا جاء أصلُ (سدِّ الذَّرائعِ) . 2ـ بحسبِ ورودِ النَّصِّ باعتبارهَا وعدمِه، ثلاثةُ أنواعٍ: [1] ذريعةٌ وردَ النَّصُّ باعتبارهَا مؤديَّةً إلى الممنوعِ، كما تقدَّم في منعِ الخلوةِ بالأجنبيَّةِ. [2] ذريعةٌ ورد النَّصُّ باعتبارهَا مؤدِّيةً إلى الممنوعِ، كما تقدَّم في منعِ الخلوةِ بالأجنبيَّةِ. [3] ذريعةٌ سكت عنها النَّصُّ، فلم يأمرُ بها ولم ينهَ عنهَا. فما ورد النَّصُّ به من الذَّارئعِ فالأصلُ فيه حكْمُ النَّصِّ، ولا يُشكلُ أمرُهُ من حيثُ ورودِ النَّصِّ بهِ، ولا يندرجُ تحتَ (مسألةِ سدِّ الذَّرائعِ) ، إنَّما يندرجُ تحتهَا النَّوعُ الثَّالثُ. ويُعرِّفُه بعضُ الأصولَّيين بأنَّهُ: ((المسألة الَّتي ظاهرُهَا الإباحَةُ ويُتوصلُ بها إلى فعل محظورٍ)) . * درجات المباحات التي تُفضي إلى المفاسد ثلاث: 1ـ ما يكونُ إقضاؤهُ إلى المفسَدَةِ نادرًا قليلاً، فالحُكم بالإباحةِ

ثابتٌ له بناءً على الأصلِ. مثالُهُ: زِراعَةُ العِنبِ، فلا يمنعُ منها تذرُّعًا بأنَّ من النَّاسِ من يعصرُ منها الخمرُ، وتعليمُ الرَّجلِ النِّساءَ عند الحاجَةِ، فلا يُمنعُ منهُ تذرُّعًا بالفِتْنَةِ المُفضيَّةِ إلى الزِّنا، وكذا خُروجِهنَّ من بيوتهنَّ لمصالحهنَّ وشُهودُهُنَّ المساجِدَ ودورَ العِلمِ. فتُقاسُ المصالحُ والمفاسدُ، فإنْ كانَ جانبُ المصلحةِ راجِحًا وهوَ الأصلُ في المباحاتِ فلا تُمنعُ بدعوى (سدِّ الذَّرائعِ) لمجرَّدِ ظنِّ المفسدَةِ أو لوُرودِهَا لكنَّها ضعيفةٌ في مُقابلَةِ المصلحةِ. 2ـ ما يكونُ إفضاؤُهُ إلى المفسدَةِ كثيرًا غالبًا، فالرُّجحانُ في جانبِ المفسدَةِ فيُمنعُ منهُ (سدَّ للذَّريعةِ) وحسْمًا لمادَّةِ الفسادِ. مثالُهُ: بيعُ السِّلاحِ وقتَ وقوعِ الفتنةِ بين المسلمينَ بِقتالِ بعضِهمْ بعضًا، وإجارةُ العقارِ لمن عُلمَ أنَّه يتَّخِذُهُ لمعصيةِ الله. ويُلاحظُ في هذا أنَّ (سدَّ الذَّريعة) إلى المفسدَةِ عارضٌ حيثُ يكُونُ المُباحُ موصلاً إلى المحظورِ، وإلاَّ فإنَّ بيعَ السِّلاحِ وإجارةَ العقارِ لا يمْتنعانِ في ظرفٍ عاديٍّ. 3ـ ما يحتالُ به المكلَّفُ ليستبيحَ به المحرَّمُ، وظاهرُ تلكَ الحيلةِ الإباحَةُ في الأصلِ. مثالُهُ: الاحتيالُ على الرِّبا بِبيعِ العِينةِ، وهوَ: أن يبيعَ من رَجُلٍ

سلعةً بثمنٍ معلومٍ إلى أجلٍ مُسمَّى، ثُمَّ يشتريهَا منهُ بأقلَّ من الثَّمنِ الَّذي باعهَا بهِ. فهذه الصُّورةُ من البيعِ حيلةٌ محرَّخةٌ بالنَّصِّ، كما في قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تبايعتُم بالعِينةِ، وأخذْتُم أذنابَ البقرِ، ورضِيتُم بالزَّرعِ، وتركْتُم الجهادَ، سلَّطَ الله عليكُم ذُلاًّ لا ينزعهُ حتَّى ترجعُوا إلى دينكُمْ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أبوداود وغيرُهُ من حديث ابنِ عُمرَ] ، لكنَّ الحيلةَ الَّتي يتذرَّعُ بها بعضُ النَّاسِ هي: أن يضُمَّ إلى السَّلعةِ شيئًا كحديدةٍ أو خشبةٍ أو سكِّينٍ. فالبيعُ مُباحٌ في الأصلِ، لكنَّ هذا الصُّورةَ ما قُصدَ بها البيعُ، إنَّما قُصدَ بها المالُن فهيَ وسيلةٌ إلى الزِّيادةِ الرِّبويَّةِ، فتُمنعُ (سَدَّ للذّرائعِ) . * حجيَّة أصل سد الذَّرائع: اختلفَ الفُقهاء في اعتبارِ هذا أصلاً ودليلاً من أدلَّةِ الأحكامِ على مذهبينِ: 1ـ الحنفيَّةُ والشَّافعيَّةُ والظَّاهريَّةُ: ليسَ دليلاً من أدلَّةِ الأحكامِ. والمُباحُ عندَهُم باقٍ على إباحتِهِ بِحُكمِ الشَّرعِ، وإذا مُنعَ منهُ فإنَّما يُمنعُ منهُ بدليلِ الشَّرعِ. وما ذُكرَ من صورتي (سَدِّ الذَّرائعِ) فإنَّ الأولى كبيعِ العقارِ لمنْ

عُلمَ أنَّهُ يستعملُه لمعصيةِ الله يُمنعُ منها بدليل قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، فجاءَ المنعُ بدليلِ الشَّرعِ من غيرِ احتياجٍ إلى أصلٍ نُسمِّهِ (سَدَّ الذَّرائعِ) . وأمَّا الصُّورَةُ الثَّانيَةُ وهيَ (الحِيلُ) فإنَّ المحظورَ هو الوُقوعُ في المحظورِ، والاحتيالُ لا يُحيلُ الحُرمَةَ إلى الإبَاحَةِ، فالرِّبا لا تُبيحُهُ صورةٌ شكليَّةٌ سُمِّيتْ (بيعًا) ، والخمرُ لا يُبيحهُ أن يُسمَّى بغير اسمِهِ، والعبرَةُ في هذا بمُرعاةِ مقاصِدِ الشَّرعِ وتعريفهِ لأحكامِ الحرامِ. 2ـ المالكيَّةُ والحنابلةُ: بلْ هو دليلٌ من أدلَّةِ الأحكامِ. واستدلُّوا بأنَّهُم رأو الشَّارعَ راعاهُ في التَّشريعِ، فهو يُحرِّم الزِّنا ويُحرِّمُ ما قاد إليهِ، فحرَّم النَّظر بشهوةٍ واللَّمسَ كذلكَ والخلوَةَ بالأجنبيَّةِ، ويُحرِّمُ الخمرَ ويُحرِّمُ كلَّ ما لهُ صلةٌ بها، فحرَّمَ عصرَهَا وبيعَها وشراءهَا وحمْلَهَا وسقْيَهَا والجُلوسَ على مائدَةٍ تدورُ عليها كما حرَّم شُربهَا، وما هذه إلاَّ سائلُ إليهاَ، ولا يُتصوَّرُ أن يُحرِّمَ الشَّارعُ شيئًا ثمَّ يأذنَ بأسبابِه ووسائلِهِ. والأقربُ في هذا (سدًّ لذريعةِ) القولَ في دينِ الله بالرَّأي الَّذي قدْ يوردُ المشقَّةَ على المكلَّفينَ في التَّضييقِ في دائرةِ الحلالِ بالظُّنونِ، يكونُ المذهبُ الأوَّلُ أصحَّ المذهبينِ، وليسَ لهذا تأثيرٌ كبيرٌ في الواقعِ العمليِّ

فإنَّ كثيرًا من الأحكامِ متَّحدَةُ النتائجِ بين الفريقينِ، إلاَّ أنَّ الفريقَ الأوَّل يستدلُّ لها بدليلٍ آخر غيرِ (سدِّ الذَّرائِعِ) ، والثَّاني يستدلُّ لها بـ (سدِّ الذَّرائعِ) . ومن العلماءِ من يستدلُّ لهذا الأصلِ بحديث النُّعمانِ بن بشيرٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: ((إنَّ الحلالَ بيِّنٌ، وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ، وبينهمَا مُشتبهاتٌ لا يعلمهُنَّ كثيرٌ من النَّاسِ، فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لدينهِ وعرضِهِ، ومن وقعَ في الشُّبُهاتِ وقعَ في الحرامِ، كالرَّاعي يرعى حولَ الحِمَى يوشكُ أن يرتع فيهِ، ألاَ وإنَّ لكلِّ مالكٍ حمَى، ألا وإنَّ حمى الله محارمُهُ، ألاَ وإنَّ في الجسدِ مُضغَةً إذا صلحَتْ صلحَ الجسَدُ كُلُّهُ، وإذا فسدتْ فسَدَ الجسدُكلُّهُ، ألاَ وهيَ القلبُ)) [متفقٌ عليه] . وهذا استدلالٌ في غيرِ محلِّهِ، فإنَّ (المشتبهات) الَّتي لا يتميَّزُ فيها الحُكمُ أهي حلالٌ أم حرامٌ تُتركُ ورعًا، خشيَةَ أن يكونَ حقيقةُ حكمِهَا التَّحريمِ فيُواقعُهَا من غيرِ أن يكونَ لهُ تأويلٌ بالحلِّ فيقعَ في (الحرامِ) ، فهيَ في نفْسِهَا مظِنَّةٌ الحُرمَةِ وليسَتْ ذريعَةً إليها. * * *

مسألة في أحكام الحيل

مسألة في أحكام الحيل * الحِيلُ لا يصلحُ القولُ بإطلاقِ بُطلانهَا، بلْ هي واقعةٌ على ثلاثة أقسامٍ: 1ـ متَّفقٌ على بُطلانه، وهو: ما هدَمَ دليلاً شرعيًّا أو ناقضَ مصلحةً مُعتبرةً. مثالهُ: ما وردَ في حديث جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهمَا: أنَّهُ سمعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ عامَ الفتحِ وهوَ بمكَّةَ: ((إنَّ الله ورسولهُ حرَّم بيعَ الخمرِ والميتةِ والخنزيرِ والأصنامِ)) فقيلَ: يا رسول الله، أرأيتَ شُحومَ الميتةِ، فإنَّها يُطلَى بها السُّفُنُ، ويُدهنُ بها الجُلودُ، ويستصبحُ بها النَّاسُ؟ فقالَ: ((لا، هوَ حرامٌ)) ، ثمَّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندَ ذلكَ: ((قاتل الله اليهودَ، إنَّ الله لمَّا حرَّمَ شُحومَهَا جملُوهُ، ثمَّ باعُوهُ، فأكلُوا ثمنهُ)) [متفقٌ عليه] . وهذا النَّوعُ من الحِيلِ مشهورٌ عن اليهودِ، كما في قصَّةِ السَّبتِ كذلكَ وغيرهَا. 2ـ متَّفقٌ على جوازِهِ، وهوَ ما جاءتِ الشَّريعةُ بالإذنِ فيهِ، وما كَانَ كذلكَ فليسَ فيه إلاَّ تحقيقُ المصلحةِ الرَّاجحةِ. مثالُهُ: الاحْتِيالُ بقولِ كلمةِ الكُفرِ عندَ الإكراهِ عليهَا دفعًا للأذى عنِ النَّفسِ.

3ـ مختلفٌ فيهِ، بسببِ التَّردُّدِ في المصلحةِ والمفسَدَةِ. وهذا ينبغي أن يُلاحظَ فيه إن كانَ الشَّرْعُ قدْ نصَّ على إبطالِ الحيلةِ، كتحليلِ المُطلَّقةِ ثلاثًا لزوجها الأوَّل، أو دلَّ على إبطالهَا كمنعِهِ إبطالَ حقِّ الغيرِ بغيرِ حقٍّ، كالاحتِيالِ على الزَّوجةِ لإسقاطِ المهرِ من غيرِ رِضاها، أو إسقاطِ حقٍّ لله تعالى في موضعٍ ليسَ فيه رُخصةٌ، فهذه صُورٌ فاسدَةٌ من الحِيلِ لا تحلُّ. أمَّا إذا كانتِ الحيلةُ لإيجادِ المخرَجِ من الحرامِ لمنْ كانَ واقعًا فيهِ، أو ليدفعَ عن نفسِهِ الوُقوعَ فيهِ، أو ليكْتسبَ حقًّا فاتَهُ، أو حرصًا على إصابةِ الحلالِ، فتلكَ مخارجُ شرعيَّةٌ صحيحةٌ مقبولةٌ. مثالهُ: ما وردَ من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ وأبي هريرَةَ رضي الله عنهمَا: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استَعملَ رجلاً على خيبرَ، فجاءَهُ بتمرٍ جنيبٍ، فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أكلُّ تمرِ خيبرَ هكَذَا؟)) قال: لا واللهِ يا رسول الله، إنَّا لنأخذُ الصَّاع من هذا بالصَّاعينِ، والصَّاعينِ بالثَّلاثة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تفعلْ، بِعْ الجمعَ بالدَّراهم، ثمَّ ابتعْ بالدَّارهمِ جنيبًا)) [متفقٌ عليه] . فهذه حيلةٌ شرعيَّةٌ صحيحةٌ، لا يُقابلُ مفسَدَةً، فيهَا التَّخلُّصُ من الرِّبا. * * *

الدليل السابع العرف

الدليل السابع العرف * تعريفه: هوَ ما ألِفَهُ النَّاسُ واعتَادُوهُ من الأقوالِ والأفعالِ. وهوَ (العَادَة) عندَ الفُقهاء. مثالهُ: تعارُفُ النَّاسِ على إطلاقِ لفظِ (الوَلَد) على الذَّكرِ دونَ الأنثى، وتقسِيمهِم الصَّداقَ إلى مُقدَّمٍ ومؤخَّرٍ. ويكونُ العُرفُ عامًّا شائعًا، كما في المِثالينِ المذْكُورَينِ، وكمَا تقُولُ العامَّةُ للطَّبيبِ (دكتور) ، وكما يصطلِحُونَ على أزياءٍ مُعيَّنَةٍ يلبسُونَهَا. ويكونُ خاصًّا بفريقٍ من المجتمعِ، كأصحابِ الحِرَفِ من الصُّنَّاعِ والفلاَّحينَ وغيرِهِم، أو أصحابِ العُلومِ المتخصِّصة كالمحدِّثينَ والمفسِّرينَ والأصوليينَ والفُقهاءِ والأطِّباءِ والمُهندِسِّينَ والصَّيادِلةِ، وعُرفُهُم هو اصْطلاحَاتُهُم الخاصَّةُ بعلومِهِم أو مِهنِهِم الَّتي تعارفُوا عليهَا ممَّا يستعملونَهُ بينَهُم من الأقوالِ والأفْعالِ. * أقسامُه: (العُرفُ) لا يخْفَى مجيئُهُ على وِفاقِ الشَّرعِ أو خلاَفِهِ، فهوَ باعتبَارِ

هذَا المعنَى قِسمانِِ: 1ـ عُرفٌ صحيحُ: وهو العادَةُ الَّتي لا تُخالفُ نصًّا من نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ، ولا تُفوِّتُ مصلحَةً مُعتبرَةً، ولا تجلبُ مفسَدَةً راجِحَةً. مثالهُ: تعارُفُ النَّاسِ على دَفعِ أثمانِ المبيعاتِ باستخْدَامِ بِطاقاتِ الدَّفعِ، وتعارُفهُم على بيعِ العُملاتِ، وتعارُفُهُم على التِّجارةِ بالأسهُمِ، وعلى ألفاظٍ عُرفيَّةٍ في التَّحيَّةِ مع لفْظِ السَّلامِ. 2ـ عرفٌ فاسدٌ: وهوَ العَاد…ةُ تكونُ على خلافِ النَّصِّ، أو فيها تفويتُ مصلحةٍ معتبرةٍ أو جلبُ مفسدَةٍ راجِحَةٍ. مثالُهُ: تعارفُ النَّاسِ على الافتِراضِ من المصارفِ الرِّبويَّةِ، وتعارُفُهمْ على إقامةِ مجالسِ العزَاءِ، وتعارُفُهُم على استعمالِ ألفاظِ البذاءِ عندَ التَّلاقِي. وجميعُ الأعرافِ الَّتي تتَّصلُ بإثباتِ تعبُّدٍ لا نصَّ عليه فهيَ أعرافٌ فاسدَةٌ، لأنَّ العبادَاتِ توقيفيَّةٌ، وقدْ قال النَّبيّ- صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أحدثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ منهُ فهُوَ رَدٌّ)) [متفقٌ عليه] .

* حجيته: (العُرفُ) ليسَ دليلاً من أدلَّةِ الأحكامِ في طريقةِ عامَّةِ العلماءِ، ولكنَّهُ عندَهُم أصلٌ من أُصولِ الاستِنباطِ تجبُ مُراعَاتُهُ في تطبيقِ الأحكامِ، وإن سماهُ بعضُهُم (دليلاً) فإنَّما أرادَ هَذا المعنى. و (العُرفُ) الَّذي يُراعى إنَّما هو (العُرفُ الصَّحيحُ) لا (الفاسِد) . ومن قواعِدِ الفُقهاءِ في ذلكَ قولُهُم: (العادَةُ محَكَّمةٌ) ، فلو شتَمَ إنسانٌ إنسانًا بلفظٍ، فادَّعَى المشتوم أنَّ الشَّاتم قذَفهُ، روعيَ في ذلكَ ما جرى بهِ العُرفُ في استخدَامِ ذلكَ اللَّفظِ. وكذا فيهِ قولُهُم: (المعروفُ عُرفًا كالمشرُوطِ شرْطًا) ، فلوِ اختلفَ المُستأجِرُ معَ صاحبِ المنزلِ في إصلاحِ تلفٍ في المنزلِ منْ يقومُ بهِ أو يدفعُ أُجرتَهُ، كان الحُكمُ فيهِ بينهما بالعُرفِ. * تنبيه: (العُرفُ) متغيِّرٌ بتغيُّرِ الزَّمانٍ والمكانِ، وما يتمُّ تطبيقُهُ على وَفْقِهِ من الأحكامِ يختلفُ باختلافِهِ، وكثيرٌ من فتاوَى الفُقهاء بُنيَتْ على مُراعَاةِ الزَّمانِ الَّذي كانو فيه، والبَلَد الَّذي عاشُوا فيهِ، فلا تصلحُ تعديَةُ ما أثَّر فيه العُرفُ من الفتاوى والأحكامِ إلى غيرِ أهلِ العُرفِ الَّذي أثَّر فيها، إنَّما تُعتبرُ خاصَّةً بذلكَ الزَّمانِ أو المكانِ، ويُراعَى

العُرفُ المستجدُّ في تطبيقِ الأحكامِ على ما يُناسبُهُ. ورُبَّما أطْلقَ في هذا بعضُ أهلِ العلمِ عبارةَ: (الأحكامُ تتغيَّرُ بتغيُّرِ الزَّمانِ والمكانِ) ، وإنَّما هذا مُرادُهُم. وفي هذا إبطالٌ لمسالكِ كثيرٍ من أهلِ زَمَانِنَا ممَّنْ يلجَأُ إلى فتاوى ناسبَتْ ظرفًا وحالاً ليسَ بظرْفنَا وحالِنَا يُريدُ أن يجعلَ تلكَ الفَتَاوى كأحكامِ الله الثَّابتَةِ! * * *

الدليل الثامن مذهب الصحابي

الدليل الثامن مذهب الصحابي * تعريفه: الصَّحابيُّ هوَ: من لقِيَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا بهِ وإنْ قلَّتْ صُحبَتُهُ. و (مذهبُ الصَّحابيِّ) قولهُ ورأيُهُ فيما لا نصَّ فيه من الكتابِ والسُّنَّةِ. *حجيته: مذهبُ الصَّحابيّ واردٌ على وُجوهٍ، لكلٍّ منهَا مرتبةٌ في القبُولِ والاحتجاجِ أو عدمِهِ عندَ أهلِ العلمِ، هي كالتَّالي: 1ـ أن يكونَ المذهبُ انتشرَ بين الصَّحابةِ فلم يُنكرْهُ أحدٌ منهُمْ. فهذا حجَّةٌ عندَ جُمهورِ العُلماءِ جرى عليهِ العملُ عندَ الحنفيَّةِ والمالكيَّةِ والشَّافعيِّ في مذهبهِ الجديدِ والحنابلةِ. وهذا في الحقيقةِ من قبيلِ (الإجماعِ السُّكوتيِّ) ، وتقدَّم أنَّ الأقوَى فيه أنَّهُ ليسَ بِحُجَّةٍ. 2ـ أن يكونَ خالفَهُ فيه غيرُهُ من الصَّحابَةِ. فهذا ليسَ بِحُجَّةٍ عند جميعِ الفُقهاءِ، لأنَّهُ لا مرجِّحَ لقبولِ قولِ هذا

وردِّ قولِ ذاكَ، وإنْ وُجِدَ مُرجِّحٌ خارجيٌّ كدليلٍ من الكتابِ والسُّنَّةِ أو القياسِ أو غير ذلكَ كان الاحتجَاجُ بالدَّليلِ لا بقولِ الصَّحابيِّ. 3ـ أن يكونَ المذهبُ لم ينتشرْ، وليسَ مثلُهُ مظنَّةَ الانتِشارِ، ولمْ يخَالف فيهِ صحابيًّا غيرَهُ. فهذا اختلفوا فيهِ، وأكثرُهُم يحتجُّ به حيثُ لا يكونُ عندَهُ في المسألةِ نصٌّ من كتابٍ أو سُنَّةٍ، ويُقدِّمُهُ على رأي نفسِهِ، لكنْ هل احتِجَاجُ من يحتجُّ بهِ بناءً على أنَّهُ دليلٌ من أدلَّةِ الأحكامِ أو ألجأهُم إليهِ فُقدانُ الدَّليلِ في المسألةِ فصارُوا إلى اقتفاءِ أثرِ الصَّحابَةِ ومُتابَعتِهم على سبيلِ التَّقليدِ لأنَّ قولهُم ألصقُ بالهُدَى والصَّوابِ من قولِ غيرِهِم؟ يبدُوا أنَّ الاحتمالَ الثَّاني أرجحُ، وممَّا يدلُّ عليه قولُ الإمام الشَّافعيِّ رحمه الله في حِكايتهِ مع مُناظرِهِ: ((قالَ: أفرأيتَ إذا قالَ الواحدُ منهم القولَ لا يُحفظُ عن غيرِهِ منهمْ فيه لهُ موافقةً ولا خلافًا، أتجدُ لك حُجَّةً باتِّباعهِ في كتابٍ أو سنَّةٍ أو أمرٍ أجمعَ النَّاسُ عليه فيكونَ من الأسبابِ الَّتي قلتَ بهاخبرًا؟ قلتُ لهُ: ما وجدنَا في هذا كتابًا ولا سنَّةً ثابتةً، ولقد وجدْنَا أهل العلمِ يأخذُونَ بقولِ واحدِهِم مرَّةً ويتركُونهُ أخرى، ويتفرَّقُوا في بعضِ ما أخذُوا به منهم، قالَ: فإلى أيِّ شيءٍ صرتَ من هذا؟ قلتُ إلى اتِّباعِ قولِ واحدٍ إذ لم أجِدْ كتابًا ولا سنَّةً ولا إجماعًا ولا شيئًا في معناهُ يُحكمُ له بحُكمهِ، أو وُجدَ معهُ قياسٌ، وقلَّ ما يوجدُ من قولِ الواحِدِ منهُم لا يُخالفُه غيرُهُ من هذا)) [الرِّسالة ص 597ـ

598] ، وهذا فيه أنَّ قول الصَّحابيِّ ليسَ بِحُجَّةٍ. فهذه هي المواردُ الَّتي يُمكنُ أن يكونَ عليها (مذهبُ الصَّحابيِّ) . هل درجات مذاهب الصحابة متفاوتة؟ وكثيرٌ من العلماءِ يرى أنَّ مذاهب الصَّحابةِ ليستْ مُتساويةً قوَّةً، فأعلاهَا (مذاهبُ الخُلفاء الرَّاشدِينَ) ، ثمَّ مذاهبُ الفُقهاءِ الَّذين اشتهرُوا بالفقهِ وعُرفُوا بهِ، ثمَّ الصَّحابةِ الَّذين لا يُحفظُ عنهُم في الفقهِ إلاَّ المسألةُ والمسألتانِ ولم يشتهِرُوا به. وهذهِ قسمةٌ منطقيَّةٌ صحيحةٌ، فإنَّ العِبرَةَ في المتابعَةِ إنَّما هي الفقهُ والعلمُ، والخُلفاءُ الأربعةُ أعلمُ هذه الأمَّة بعد نبيِّها - صلى الله عليه وسلم -، والأئمَّةُ الَّذين تصدَّرُوا للنَّاسِ يُعلِّمونَهُم ويُفتُونهُم من الصَّحابَةِ كمُعاذِ بن جبلٍ وعبد الله بن مسعودٍ وأبي موسلى الأشعريّ وزيدِ بن ثابتٍ وعبد الله بن عُمرَ وعبد الله بن عبَّاسٍ وعائشةَ أُمِّ المؤمنينَ؛ فوقَ من لم يكُن له بذلكَ اشتغالٌ ولا خبرَةٌ منهُم. ويستدلُّ من يُقدِّم مذاهبَ الخُلفاءِ الأربعةِ بحديث العرباضِ بنِ ساريَةَ رضي الله عنهُ قالَ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أوصيكمْ بتقوى اللهِ والسَّمعِ والطَّاعة وإنْ كانَ عبدًا حبشيًّا، فإنَّهُ من يعِشْ منكُم بعدِي فسيرَى اختلافًا كثيرًا، فعليكمْ بسُنَّتي وسنَّةِ الخُلفاءِ الرَّاشِدينَ المهْدِيِّينَ فتمسَّكُوا بها وعضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكُم ومُحدثَاتِ

الأمُورِ، فإنَّ كلَّ محدِثَةٍ بدعةٌ، وكُلَّ بِدْعةٍ ضلاَلَةٌ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أحمدُ وأبوداودَ والتِّرمذيُّ وغيرُهُم] . وهذا التَّرجيحُ لسُنَّتهم على سُنَّة غيرهم لأنَّهم حُكَّام المسلمين وأولياءُ الأمرِ فيهم كما يدلُّ عليه صدرِ الحديثِ، وقولُ وليِّ الأمرِ واجبُ الطَّاعةِ حفظًا لوحدَةِ المسلمين، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، وليسَ في هذا أنَّ قول الواحدِ منهُم في مسألةٍ فقهيَّةٍ اجتهاديَّةٍ يُعتبرُ حجَّةً في الدِّين، وإن وجبَ على النَّاسِ له فيها السَّمعُ والطَّاعة حفظًا لكلمةِ المسلمين من التَّفرُّقِ، ولا شيء أبلغُ دلالةً على ذلك من وقوعِ الاختلافِ بين الأربعةِ أنفُسهم، فليسَ كلُّ ما قضى به أبوبكر قضى بهِ عُمرُ، ولا كُّلُّ ما قضى به عُمرُ جرى عليه عثمان أو عليُّ رضي الله عنهم، كما أنَّه ليسَ كلُّ ما أفتَوا به وافقهُم عليه ابن مسعودٍ أو ابنُ عبَّاسٍ أو ابنُ عمرَ، ولو كانَ الحديثُ يعني أنَّ أقوالهُم الاجتهاديَّةَ دينٌ للأمَّةِ بعدَهٌم لكانَ هذا من نسبةِ التَّناقُضِ للدِّينِ. وإذا فُهم هذا المعنى في هذا الحديثِ، فُهم كذلك في حديث: ((اقتَدُوا باللَّذين من بعدي أبي بكرٍ وعمرَ)) إن ثبتَ هذا الحديثُ فقد رُوي بأسانيد ليس فيها يسلمُ من علَّةٍ. أمَّا حديثُ ((أصحابي كالنُّجومِ، بأيِّهِم اقتديتُم اهتَديتُم)) فهوَ

تفسير الصحابة لنصوص القرآن والسنة حجة

موضوعٌ كذِبٌ. خلاصَةُ القولِ في حجيَّةِ مذهبِ الصَّحابيِّ: أعلاهُ قوَّةً ما كان من قبيلِ (الإجماعِ السُّكوتي) . وتبيَّن في الإجماعِ أنَّه ليسَ بحُجَّةٍ، فما كان دونهُ من مذاهب الصَّحابةِ أولى أن لا يكونَ حُجَّةً، وإنَّما منزلةُ تلك الأقوالِ أنَّها في أعلى درجاتِ أقوالِ المجتهدينَ، لأنَّ المجتهدينَ من الصَّحابةِ فوقَ من جاءَ من بعدِهِم، فمُراعاةُ اجتهادَاتِهِم مع نَدْرَةِ الخطإِ فيها مُقارنةً بمن بعدَهُم أولى، وهذا الَّذي جرى عليهِ عملُ عامَّةِ أهل العِلمِ بعدَهُم، من قالَ: هيَ حجَّةٌ، ومن قالَ: ليسَتْ بحُجَّةٍ. استثناء: وأمَّا تفسيرُهُم للنُّصوصِ من الكتابِ والسُّنَّة من جهةِ ماتدلُّ عليه ألفاظُها في استعمالِ اللِّسانِ؛ فهوَ حُجَّةٌ، وهو أعلى وأقوَى ممَّا يُذكرُ عن آحادِ أئمَّةِ اللُّغةِ بعدَهُم، لأنَّهُم كما لا يخفَى أهلُ اللِّسانِ، فكيفَ وقدِ انضمَّ إلى ذلكَ معرفَتُهُم بمُرادِ الشَّارعِ فيما يستعملُه من تلكَ الألفاظِ؟ وهذا غيرُ الآراءِ في المسألةِ الفِقيَّةِ الَّتي تُستفادُ بالرَّأي والنَّظرِ. * * *

الدليل التاسع الاستصحاب

الدليل التاسع الاستصحاب * تعريفه: لغةً: طلبُ المُصاحبَةِ واستِمرارُهَا. واصْطلاحًا: جعلُ الحُكمِ الَّذي كان ثابتًا في الماضِي باقيًا على حالِه حتَّى يقومَ دليلٌ على انتقالِهِ عن تلكَ الحالِ. ويُسمَّى (دليل العقلِ) ، وهوَ معنَى مستقرٌّ في تصرُّفاتِ جميعِ النَّاسِ، فإنَّهُم إذا علمُوا وجودَ أمرٍ بنَوا أحكامَهُم فيما يتَّصلُ بذلكَ الأمرِ على أنَّهُ موجودٌ حتَّى يقومَ بُرهانٌ على ضدِّ ذلكَ، وإذا علموا عدَمَ شيءٍ كانَ عدمُه هو الأصلَ حتَّى يثبُتَ وجودُهُ. فـ (الاستصحابُ) بعبارةٍ أُخرى: بقاءُ ما كانَ على ما كانَ عليهِ حتَّى يثبتَ ما يُغيِّرُه. * أنواعه: هو ثلاثةُ أنواعٍ: 1ـ البراءةُ الأصليَّةُ: وهي: استصحابُ العدَمِ الأصليِّ حتَّى يرِدَ ما ينقُلُ عنهُ.

مثالُهُ: لو ادَّعى إنسانٌ أنَّ شخصًا اعتدَى عليهِ، فالأصلُ أنَّ الشَّخصَ المُدَّعى عليه بريءٌ من ذلكَ الادِّعاءِ، حتَّى يُبرهِنَ المدَّعي على صحَّةِ دعواهُ. وفي (الصَّحيحينِ) من حديثِ عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهمَا: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((لَوْ يُعطَى النَّاسُ بِدعواهُم لادَّعى ناسٌ دِماءَ رجالٍ وأموالَهُمْ)) . والشَّريعةُ قدْ جاءَتْ بمُراعَاةِ هذا الأصلِ، فلمْ تؤاخذ الجَاهلَ بتكاليفِ الإسلامِ، لأنَّ الأصلَ عدمُ العلمِ، وعدَمُ العلمِ يُسقِطُ التَّكليفَ، فتسقطُ المُؤاخذة، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، وقال بعدَما حرَّم الرِّبا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] ، فاعتبرَ الذِّمَّة بريئةً من المؤَاخَذة قِبل تحريمِ الرِّبا، مسؤُلَةً بعدهُ إلى أمثلةٍ أُخرى يطُولُ استقصاؤُهَا. ومِن هذا الإستِدلالُ بِعدَمِ وُجودِ ما يَدُلُّ على الحُكمِ على عَدَمِ الحُكمِ، وهذا يحتاجُ إلى استِقراءِ أدلَّةِ الشَّرعِ فيما يغلبُ على ظنِّ الفقيهِ أنَّ المسألَةَ لو كانَ لها أصلٌ فهيَ واردَةٌ في كذا وكذا، فحيثُ لا يجدُ الدَّليلَ المُغيِّرَ لذلكَ العَدَمِ، فهوَ باقٍ في تلكَ المسألَةِ على العَدَمِ.

2ـ استِصحابُ حكمِ الإباحَةِ الأصليَّة للأشياء. فالشَّريعةُ قضتْ بـ (أنَّ الأصلَ في الأشياءِ الإباحَة) فأقامَتْ ذلكَ قاعِدَةً بأدلَّةٍ كثيرةٍ من الكتابِ والسُّنَّةِ، كقوله عزَّوجلَّ: [البقرة: 29] ، وقوله عزَّوجلَّ: [الجاثية: 13] ، فيستمرُّ البقاءُ على هذا الأصلِ حتَّى يرِدَ النَّاقلُ عنه إلى غيرِهِ. 3ـ استِصحابُ دليلِ الشَّرعِ حتَّى يرِ النَّاقِلُ. فالأصلُ بقاءُ النَّصِّ على العُمومِ حتَّى يرِدَ دليلُ التَّخصيصِ، والخطابُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خطابٌ لأمَّتِهِ حتَّى ترِدَ الخُصوصَيَّةُ، والنُّصُوصُ كلُّها مُحكَّمةٌ غيرُ منسوخَةٍ حتَّى يثبُتَ النَّاسِخُ، ومن ثبَتَتْ ملكيَّتُهُ لعقارٍ أو غيرِهِ فهوَ مِلكُه حتَّى يثبُتَ زَوالُه بِبُرهانٍ. ومن هذا: أنَّ الأصلَ في المضارِّ المنعُ لدَليلِ الشَّرعِ: (لا ضرَرَ ولا ضِرارَ) . * حجيته: (الاستِصحابُ) فيما يُلاحظُ من أنواعِهِ المتقدِّمَةِ لا يفيدُ إثباتَ حُكمٍ جديدٍ، إنَّما يدلُّ على استِمرارِ الحُكمِ السَّابقِ الَّذي ثبتَ بالشَّرعِ، فلِذا لا يحسُنُ عدُّه من (أدلَّةِ التَّشريع) إنَّما دليلُ التَّشريعِ ما أفادَ حُكمَ الأصلِ، وهوَ في جميعِ صُورِ الاستِصحابِ الكتَابُ والسُّنَّة.

وجُمهُورُ العُلماءِ على إعمالِ أصلِ (الاستِصحابِ) عندَ فقْدِ الدَّليلِ الخاصِّ في المسألةِ، فهوَ آخرُ ما يَلْجأُ إليهِ الفقيهُ في استِفادَةِ الحُكمِ الشَّرعيِّ. ومن القواعِدِ الفقهيَّة المنبثِقةِ عن الاستِصحابِ: 1ـ اليقينُ لا يزُولُ بالشَّكِّ. 2ـ الأصلُ بقاءُ ما كانَ على ما كانَ. 3ـ الأصلُ في الأشياءِ الإباحَةُ. 4ـ الأصلُ براءةُ الذِّمَةِ. * * *

خلاصة القول في الاحتجاج بالأدلة المتقدمة

خلاصة القول في الاحتجاج بالأدلة المتقدمة 1ـ الكتابُ دليلٌ مستقلٌّ قائمٌ بنفسِهِ، وهوَ حُجَّةٌ اتِّفاقًا. 2ـ السُّنَّةُ: دليلٌ مستقلٌّ قائمٌ بنفسِهِ، وهوَ حُجَّةٌ اتِّفاقًا. 3ـ الإجماعُ: دليلٌ تبعيٌّ للكتابِ والسُّنَّةِ، وهوَ حُجَّةٌ معهما اتِّفاقًا، وما ادُّعيَ أنَّهُ دليلٌ مستقلٌّ عن الكتابِ والسُّنَّةِ فلا يصح وجودُه في الواقعِ. 4ـ شرعُ من قبلَنَا: دليلٌ تبعيٌّ للكتابِ والسُّنَّةِ، فإنَّهُ لا يُعرفُ إلاَّ من طريقهمَا، وهوَ حُجَّةٌ على الرَّاجحِ. 5ـ القياسُ: دليلٌ اجتهادِيٌّ تبعيٌّ مبناهُ على الكتابِ والسُّنَّةِ، وهو حُجَّةٌ على الرَّاجحِ. 6ـ المصلحة المُرسلة: دليلٌ اجتهادِيٌّ تبعيٌّ، مبناهُ على سُكوتِ النَّصِّ عن إبطالِهِ، وهو حُجَّةٌ على الرَّاجحِ. 7ـ العُرفُ: ليسَ دليلاً من أدلَّةِ الأحكامِ، إنَّما هو أصلٌ يُراعَى في تطبيقها.

8ـ مذهبُ الصَّحابيِّ: ليسَ دليلاً من أدلَّةِ الأحكامِ، لكنْ يُستأنسُ بهِ في فَهمِهَا. 9ـ الاستِصحابُ: ليسَ دليلاً من أدلَّةِ الأحكامِ، إنَّما هو إبقاءٌ للعملِ بدليلٍ موجودٍ.

قواعد الاستنباط

قواعد الاستنباط

1ـ القواعد الأصولية

1ـ القواعد الأصولية * تعريفها: هي قواعدُ لُغويَّةٌ متعلِّقةٌ بألفاظِ الكتابِ والسُّنَّةِ ودلالاتهَا، مُستفادَةٌ من أساليبِ لُغةِ العربِ تُساعدُ المُجتهدَ على التَّوصُّلِ إلى الأحكامِ الشَّرعيَّة. * أقسامها: علاقةُ اللَّفظِ بالمعنى واقعةٌ على أربعةٍ أقسامٍ، هيَ: 1ـ وضعُ اللَّفظِ للمعنى، ويندرجُ تحتهُ أبحاثٌ هي: الخاصُّ، العامُّ، المُشترَكُ. 2ـ استعمالُ اللَّفظِ في معناهُ الَّذي وُضعَ له أوفي غيرهِ، ويندرجُ تحتهُ أبحاثٌ هي: الحقيقةُ والمجازُـ الصَّريحُ والكنايَةُ. 3ـ دلالةُ اللَّفظِ علىمعناهُ من حيثُ الوُضوحِ والخفاءُ، ويندرجُ تحته أبحاثٌ هيَ: الظَّاهرُ، النَّصُّ، المُفسَّرُ، المُحكمُ، ويُقابلُها: الخفيُّ، المُُجملُ، المُشْكلُ. وأكثرُ الأصوليينَ يذكرونَ (المُتشابِهَ) في أقسامِ (غيرِ الواضِحِ

الدَّلالة) ، وليسَ من مباحِثِ الأحكامِ الَّتي لأجلهَا قُنِّنَتْ (أصولُ الفقهِ) ، لكنَّا نذكُرهُ ونذكُرُ وجهَهُ. 4ـ كيفيَّة دلالةِ اللَّفظِ على المعنى، ويندرجُ تحتهُ أبحاثٌ هيَ: عبارةُ النَّصِّ، وإشارَتُهُ، ودلالتُهُ، واقتضَاؤُهُ، ومفهومُهُ.

القسم الأول وضع اللفظ للمعنى

القسم الأول وضع اللفظ للمعنى 1ـ الخاص * تعريفه: لُغةً: عبارةٌ عن التَّفرُّدِ، يقالُ: (فُلانٌ خُصَّ بكذا) أيْ: أُفرِدَ بهِ لا يُشاركُهُ فيهِ أحدٌ. واصطلاحًا: كلُّ لفظٍ استُعملَ لمعنى معلومٍ على الانفرادِ. مثلُ: (محمَّد) لفظٌ استُعملَ للدَّلالةِ على معنى العمليَّة لا غير، و (العِلمُ) لفظٌ استُعملَ للدَّلالةِ على معنى معيَّنٍ يُقابلُ لفظَ (الجهلِ) ، و (رجُلٌ) لفظٌ استُعملَ للدَّلالةِ على نوعٍ من جنسِ الإنسانِ وهوَ الذَّكرُ الَّذي تجاوزَ حدَّ الصِّغرِ لا يُرادُ به غيرُهُ، و (إنسانٌ) لفظٌ استُعملَ للدَّلالةِ على جنسٍ من المخلوقاتِ هو هذا الحيُّ المتكلِّمُ. وألفاظُ الأعدادِ مثلُ: (واحدٌ، ثلاثةٌ، عشرَةٌ، عشرونَ، مئَةٌ، ألفٌ) ألفاظٌ استُعملَتْ للدَّلالةِ على نوعٍ معيَّنٍ من جنسِ العدَدِ، لا يحتملُ اللَّفظُ منها غير معنًى واحدٍ، هوَ إفادَةُ ذلكَ العدَدِ المحصُورِ.

ويندرجُ تحتَ الخاصِّ مباحثُ آتيَةٌ بعدَهُ، هيَ: المُطلقُ والمقيَّدُ، الأمرُ والنَّهيُ. * قاعدته: دلالة (الخاصِّ) على معناهُ قطعيَّةٌ. ومعنى القاعدَة: أنَّ اللَّفظَ لا يحتملُ غيرَ معنًى واحدٍ اختصَّ بهِ، لا يُشاركُهُ فيه غيرُهُ من جنسِهِ أو منْ غيرِ جنسِهِ. من أمثلَةِ القاعِدَة: 1ـ قولهُ تعالى في كفَّارةِ اليمينِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] ، فدلالةُ الآيةِ قطعيَّةٌ في صيامِ هذا العدَدِ من الأيَّامِ. 2ـ قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} [النساء: 12] ، لفظُ النِّصف والرُّبعِ لفظانِ خاصَّانِ لا يحتملانِ إلاَّ معنى العدَدِ المحصورِ الّذي استُعملاَ فيهِ. 3ـ قولهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((في سائمَةِ الغَنَمِ في كلِّ أربعينَ شاةٌ إلى عشرينَ ومئَةٍ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أصحابُ السُّنن وغيرُهُم] ، حدٌّ لا يزيدُ ولا ينقصُ، ولا يَحتمِلُ غيرَ معنًى واحدٍ هو ما استُعملَ فيه لفظُ (أربعينَ) أو لفظُ (عشرينَ ومئةٍ) . * * *

المطلق والمقيد

المطلق والمقيد * تعريفهما: المُطلقُ: هو اللَّفظُ الدَّالُّ على فردٍ غيرِ مُعيَّنٍ، أو أفرادٍ غيرِ مُعيَّنينَ. مثلُ: (رجل) لفردٍ غير مُحدَّدٍ، و (رجال) لأفرادٍ غيرِ مُحدَّدينَ. والمقيَّدُ: هوَ اللَّفظُ االدَّالُّ على فردٍ غيرِ مُعيَّنٍ، أو أفرادٍ غيرِ مُعيَّنينَ مع اقترَانِه بصفةٍ تُحدِّدُ المُرادُ بهِ. مثلُ (رجلٌ بصريٌّ) ، و (رِجالٌ صالحونَ) . * قاعدة المطلق اللَّفظُ المُطلقُ باقٍ على إطلاقِهِ حتَّى يرِدَ دليلُ التَّقييدِ. من أمثلةِ القاعدَةِ: 1ـ قوله تعالى في كفَّارة الظِّهارِ: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] . لفظُ {رَقَبَةٍ} مطلقٌ من أيِّ قيدٍ، فلو أعتقَ المُظاهرُ رقبةً على أيِّ وصفٍ أجزأهُ مؤمِنةً كانتْ أو كافرَةً، خلافًا للشَّافعيَّةِ والمالكيَّةِ كما سيأتي: 2ـ قوله تعالى في أحكامِ المواريث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، فلفظ {وَصِيَّةٍ} مُطلقٌ وردَ الدَّليلُ من السُّنَّةِ

بتقييدِه بالثُّلثِ، كما في حديث سعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودُنِي عامَ حجَّة الودَاعِ من وَجَعٍ اشتدَّ بي، فقلتُ: إنِّي قدْ بلغَ بِي من الوَجعِ وأنا ذُومالٍ، ولا يرثُني إلاَّ ابنةٌ، أفأتصدَّقُ بثُلثي مالي؟ قالَ: ((لا)) فقلتُ بالشَّطرِ؟ فقالَ: ((لا)) ، ثم قالَ: ((الثُّلُثُ والثُّلثُ كبيرٌ (أو كثيرٌ) ، إنَّك أن تذرَ ورثَتَكَ أغنياءَ خيرٌ من أن تذرهُم عالةً يتكفَّفُون النَّاسَ)) الحديث [متفقٌ عليه] . * قاعدة المقيد:. يجبُ العملُ بالقيدِ إلاَّ إذا قامَ دليلٌ على إلغائِهِ. من أمثلةِ القاعدَة: 1ـ قوله تعالى في كفَّارةِ الظِّهار: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] ، فقولُه: {مُتَتَابِعَيْنِ} قيدٌ يجبُ إعمالُه، فلا تُجزيءُ الكفَّارَةُ لو صامَ شهرينِ مُقطَّعينِ. 2ـ وقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نسائكم اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] ، فقولُهُ: {فِي حُجُورِكُمْ} قيدٌ لكنَّهُ لا أثرَ لهُ وإنَّما خرجَ مخرجَ الغالبِ، لأنَّ بنتَ الزَّوجَةِ تكُونُ غالبًا مع أُمِّهَا، على هذا جمهُورُ العلماءِ أنَّ بنتَ الزَّوجةِ المدخولِ بها محرَّمةٌ بمجرَّدِ الدُّخولِ بأُمِّهَا كانتْ في بيتِ الزَّوجِ وتحتَ رِعايَتِهِ أو كانتْ في موضعٍ بعيدٍ لا شأْنَ لهُ بهَا، لكنْ ذهبَ أميرُ المؤمنينَ عليٌّ رضي الله

عنه إلى إعمالِ هذا القيدِ بناءً على الأصلِ، وتابعَهُ على قولهِ الظَّاهريَّةُ. فعنْ مالكِ بن أوسٍ بنِ الحدثانِ قالَ: كانتْ عندي امرأةٌ فتُوُفِّيتْ، وقد ولدَتْ لي، فوجدْتُ عليها، فلقينِي عليُّ بنُ أبي طالبٍ فقالَ: مالكَ؟ فقلتُ: تُوُفِّيتِ المرأةُ، فقالَ عليٌّ: لهَا ابنةٌ؟ قلتُ: نعمْ، وهيَ بالطَّائفِ، قالَ: كانتْ في حُجرِكَ؟ قلتُ: لاَ، هيَ بالطَّائفِ، قالَ: فانكِحهَا، قلتُ: فأينَ قولُ الله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} قال: إنَّها لم تكُن في حُجرِكَ، إنَّما ذلك َإذا كانتْ في حُجرِكَ [أخرجه ابن أبي حاتمٍ كما في ((تفسير ابن كثير)) 1/513 بإسنادٍ صحيحٍ] . * متى يُحمل المطلق على المقيد؟ إذا وردَ القيدُ مُقترنًا باللَّفظِ فالقاعِدَةُ ـ كما تقدَّم ـ وُجوبُ إعمالِ القيدِ، ولكنْ إذا جاءَ القيدُ منفصلاً عن الإطلاقِ، بأنْ يجيءَ هذا في نصٍّ، وهذا في نصٍّ آخرَ، فلهُ أربعُ حالاتٍ: 1ـ إذا اتَّحد في الحُكمِ والسَّببِ، فيجبُ حملُ المُطلقِ على المقيَّدِ. مثالهُ: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] ، مع قولِهِ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] ، فلفظُ (الدَّمِ) في الآيةِ الأولى مُطلقٌ، وفي الآية الثَّانية مقيَّدٌ بالمسفوحِ، الحُكمُ: حُرمَةُ الدَّمِ، والسَّببُ: بيانُ حُكمِ المطاعِمِ المحرَّمةِ

في الآيتينِ والدَّمُ فيهما واحدٌ. 2ـ إذا اختلفَا في الحُكمِ والسَّببِ، فلا يُحملُ المُطلقُ على المقيَّدِ.. مثالُهُ: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] مع قولهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ، فلفظُ (الأيدي) مُطلقٌ في الآيةِ الأولى، ومقيَّدٌ في الآية الثانية، لكنَّ حُكمَ الأولى وجوبُ قطعِ الأيدي، وسببهَا السَّرقةُ، وحُكمَ الثَّانيَةِ وجوبُ غسلِ الأيدي، وسبَبَهَا القيامُ إلى الصَّلاةِ. فعلاقَةُ التَّأثيرِ منعدِمَةٌ بينَ الحُكمينِ، فلا يصحُّ حملُ المُطلقِ علىالمقيَّدِ. ولِذا رُوِي في السُّنَّةِ تقييدُ القَطعِ بالكفِّ إلى الرُّسغِ، وهذا وإن كانَ النَّقلُ بخُصوصِهِ لا يثبتُ بهِ إسنادٌ، لكنَّهُ لم يُنقلُ غيرُهُ والرِّوايةُ فيه ليستْ بساقِطَةٍ، وهو المرويُّ فِعلُهُ عنِ أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقدِ اعتضَدَ بأصلٍ شرعيٍّ، ذلكَ أنَّ لرفلظ (اليد) يُرادُ به الكفُّ، كما يُرادُ به إلى المِرفقِ، كما يُرادُ به إلى المنكِبِ، والحدُّ يسقُطُ بالشُّبهَةِ، كما لا يُتجاوزُ بهِ قدْرُ اليقينِ، واليقينُ ههُنا بقطْعِ أدنى ما يُسمَّى يدًا، وبهِ يتحقَّقُ المقصودُ. 3ـ إذا اختلفَا في الحُكمِ واتَّحدَا في السَّببِ، فلا يُحملُ المُطلقُ على

المقيَّدِ. مثالُهُ قولهُ تعالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ، مع قولِهِ قبل ذلكَ في الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فلفظُ (الأيدي) ، في الموضعِ الأوَّل مُطلقٌ، وفي الثَّاني مقيَّدٌ (إلى المرافقِ) ، السَّببُ مُتَّحدٌ في النَّصَّينِ، فكلاهُمَا في القيامِ إلى الصَّلاةِ لكنَّ الحُكم مختلفٌ ففي الأوَّل وجوبُ التَّيمُّمِ للصَّلاةِ عندَ فقدِ الماءِ، وفي الثَّاني وجوبُ الوُضوءِ. فلا يصحُّ في هذه الحالةِ أن يُقالَ: تُمسحُ الأيدِي في التَّيمُّمِ إلى المرافقِ، حملاً للمُطلقِ في نصِّ التَّيمُّمِ على المقيَّدِ في نصِّ الوُضوءِ. ولذَا جاءَت السُّنَّةُ بعَدمِ اعتبارِهَا هذا القيد ِفي التَّيمُّمِ خلافًا للحنفيَّةِ والشَّافعيَّة ومن وافقهُم، وذلكَ قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمَّارِ بن ياسرٍ: ((إنَّما كان يكفيكَ أن تضربَ بيدَيكَ الأرضَ، ثمَّ تَنفُخَ، ثمَّ تمسَحَ بهمَا وجهَكَ وكفَّيكَ)) [متفقٌ عليه] ، وهو قولُ عليِّ بن أبي طالبٍ، وجماعةٍ من التَّابعينَ ومذهبُ أحمدَ بنِ حنبلٍ وكثيرٍ من أهلِ الحديثِ، وما رُويَ من الأحاديثِ في أنَّ التَّيمُمَ إلى المِرفقينِ فلا يثبُتُ منهُ شيءٌ من قِبِلِ الرِّوايةِ. 4ـ إذا اتَّحدَ في الحُكمِ واختلفَا في السَّببِ، فلا يُحملُ المُطلقُ على

المقيَّدِ. مثالُه قوله تعالى في كفَّارةِ الظِّهارِ: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ، مع قولهِ في كفَّارةِ قتلِ الخطإ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، فلفظُ (رقبَة) في الآية الأولى مُطلقٌ، وفي الثَّانية مقيَّدٌ بالإيمانِ، الحُكمُ واحدٌ هو الكفَّارةُ، والسَّببُ مُختلفٌ، فالأولى الظِّهارُ، والثَّانيةُ القتلُ. فلا يصحُّ في هذا الحالةِ حملُ المُطلقِ على المقيَّدِ عندَ الحنفيَّةِ ومن وافقهُم خلافًا للشَّافعيَّةِ، يؤيِّدُ ذلك في المثالِ المذكورِ أنَّ الكفَّارةَ عقوبةٌ شُرعتْ لعلَّةٍ، ولكلِّ حُكمٍ علَّتُهُ المُناسبَةُ لهُ، قدْ تظهرُ وقدْ تخفَى، ولعلَّ المقامَ هُنا أنْ شُدِّدَ في كفَّارةِ القتلِ لشدَّةِ أمرِهِ بخلافِ الظِّهارِ، والقيدُ في هذا الحُكمِ تشديدٌ كما لا يخفى، واللهُ تعالى رحيمٌ بعبادِهِ، فحيثُ لم يُشدِّد فلا يُقالُ: أرادَ هُنا التَّشديدَ لكونِه شدَّدَ في حُكمٍ آخرَ ماثلَ هذا الحُكمَ في مُسمَّاهُ، فتلكَ زيادَةٌ في الشَّرعِ ومشقَّةٌ على الأمَّةِ. * مسألة أصولية للحنفيَّة: إذا جاءَ النَّصُّ مُطلقًا وأمكَن العملُ به على إطلاقِه لوُضوحِهِ في نفسِهِ وتمامِ بيانِهِ وعدمِ احتمالِهِ الزِّيادَةَ، لأنَّهُ لو اقتضاهَا لوجبَ أنْ تُذكرَ معهُ استيفاءً للبيانِ، فإذَا جاءتِ الزِّيادَةُ حينئذٍ فلا يكونُ لها

حكمُ القيدِ، لأنَّهَا حينئذٍ بمنزلةِ النَّسخِ وإنَّما لها اعتبارٌ شرعيٌّ آخرَ وإليكَ مثاليْنِ لتوضيحِ ذلكَ: 1ـ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، فالمأمورُ بهِ على الإطلاقِ هو الغَسْلُ، فلا يجوزُ أن يُزادَ عليه شرطُ النِّيَّةِ والتَّرتيبِ والمُوالاَةِ والتَّسميَّةِ، إذْ لو كانتْ من شرْطِ الوُضوءِ لتضمَّنهَا نصُّ الكتابِ، فحيثُ لم يرِدْ ذلكَ كانتْ من قبيلِ السُّننِ في الوُضوءِ. 2ـ قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، فالنَّصُّ بيِّنٌ في عُقُوبةِ الزَّاني أنَّها الجلدُ، وقدْ علمنَا في نصوصِ قطعيَّةِ الثُّبوتِ أنَّ هذا حُكمُ الزَّاني غيرِ المُحصنِ، لكنْ ما جاءتْ بهِ السُّنَّةُ من التَّغريبِ سنةً مع الجلدِ، فهذهِ زيادَةٌ على نصِّ الكتابِ البيِّنِ، ولو كانتْ لازمَةً لوجبتْ بنفسِ النَّصِّ مع الجلدِ، أو لبيَّنها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ نُزُولِ الآيةِ، فحيثُ لم يكُن ذلكَ فقدْ دلَّ على أنَّ هذا من قبيلِ التَّعزيرِ يفعَلُه الإمامُ سياسَةً. * * *

الأمر

الأمر * تعريفه: هو اللَّفظُ المُستعملُ لطلبِ الفِعلِ على وجهِ الاستِعلاءِ. فهوَ من قسمِ (الخاصِّ) من جهةِ أنَّهُ أريدَ بهِ شيءٌ خاصٌّ هو (طلبُ الفعلِ) . * صيغته: الألفاظُ المُستعملَةُ في (الأمرِ) تعودُ إلى أربعةٍ مخصوصةٍ، هيَ: 1ـ لفظُ (افعلْ) ، كقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، وقولِه - صلى الله عليه وسلم - للمسيءِ صلاتَهُ: ((إذا قمتَ إلى الصَّلاةِ فكبِّرْ، ثمَّ اقْرأْ ما تيسَّر معكَ من القُرآنِ، ثمَّ اركَعْ حتَّى تطمئنَّ راكعًا، ثمَّ ارفعْ حتَّى تعتدِلَ قائمًا، ثمَّ اسجُدْ حتَّى تطمئنَّ ساجدًا، ثمَّ ارفعْ حتَّى تطمئنَّ جالسًا، وافعَلْ ذلكَ في صلاتِكَ كُلِّهَا)) [متفقٌ عليه من حديثِ أبي هُريرةَ] . 2ـ الفعلُ المُضارعُ المقترِنُ بلامِ الأمرِ، كقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] ، وقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((الرَّجلُ على دينِ خليلِهِ فلينظُرْ أحدُكمْ من يُخاللْ)) [حديثٌ حسنٌ أخرجهُ التِّرمذِيُّ من حديثِ أبي هريرةَ] .

3ـ اسمُ فعلِِ الأمرِ، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] ، وقولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَهْ ياعائشةُ، فإنَّ الله لا يحبُّ الفُحشَ والتَّفحُّشَ)) [رواه مسلمٌ] ، قالَ ذلك حينَ أتاهُ ناسٌ من اليهودِ فقالوُ: السَّامُ عليكُمْ، فسبَّتْهُم عائشةُ، فأمرَها بالكفِّ عن ذلكَ، وقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إيَّاكُم والظُّلمَ؛ فإنَّ الظُّلمَ ظُلماتٌ يوم القيامَةِ، وإيَّاكمْ والفُحشَ؛ فإنَّ الله لا يُحبُّ الفُحشَ ولا التَّفحُّشَ، وإيَّاكُم والشُّحَّ؛ فإنَّهُ أهلكَ من كانَ قبلكُمْ أمرَهُم بالقطيعةِ فقطَعُوا، والبُخلِ فبَخِلُوا، وبالفُجُورِ ففجرُوا)) [حديثٌ صحيحٌ، أخرجه أحمدُ وغيرُهُ بسندٍصحيحٍ] . 4ـ المصدرُ النَّائبُ عن فعلِ الأمرِ، كقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] ، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنهُ قالَ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لنْ يُنجي أحدًا منكُم عملُهُ)) قالُوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قالَ: ((ولا أنا، إلاَّ أن يتغمَّدني الله برحمةٍ، سدِّدُوا وقاربُوا، واغْدُوا وروحُوا، وشيءٌ من الدُّلجَةِ، والقصدَ تبلُغُوا)) [متفقٌ عليه، واللَّفظُ للبُخاريُّ] . وتقدَّم في الكلامِ في (الأحكامِ) ذكرُ صيغِ غيرِ صريحةٍ في الأمرِ دالةٍ عليهِ في مبحثِ (الواجبِ) ، والَّذي يعنينَا هُنا هو صيغةُ الأمرِ اللَّفظيَّةُ الإنشائيَّةُ، وهيَ منحصرةٌ في الصِّيغِ الأربعةِ المذكورَةِ.

* دلالته: تدلُّ صيغةُ الأمرِ في خطابِ الله تعالى ورسولهِ - صلى الله عليه وسلم - مجرَّةً من القرائنِ على حقيقةٍ واحدةٍ هي الُوجوبُ. هذا مذهبُ عامَّةِ أئمَّةِ الفقهِ والعلمِ ممَّن يُقتدى بهم كالأئمَّةِ الأربعةِ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشَّافعيّ وأحمدَ. وخالفَ الفردُ والأفرادُ من المتأخِّرينَ في ذلكَ فذكرُوا أنَّها لغيرِ الوُجوبِ، قال بعضُهمْ: للنَّدبِ، وقال بعضُهم: للإباحةِ، وقال بعضُهُم غير ذلكَ. والقولُ لا عبرََ به إن لم يُصحِّحهُ الدَّليلُ، ولقدْ تواترَتِ الأدلَّةُ وظهرَتْ وجوهُ دلالاتِهَا على المذهبِ الأوَّلِ، وهو الوُجوبُ، فمنها: 1ـ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] . قال أبُوعبد الله القُرطبيُّ: ((وهذا أدُّ دليلٍ على ما ذهبَ إليه الجمهُورُ..من أنَّ صيغَةَ (افعلْ) للُوجوبِ في أصلِ وضعِهَا، لأنَّ الله تبارك وتعالى نفى خِيرَةَ المكلَّفِ عند سماعِ أمرِهِ وأمرِ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ أطلقَ على من بقيتْ له خِيرَةٌ عندَ صُدورِ الأمرِ اسمَ المعصيَّةِ، ثمَّ علَّق على المعصيةِ بذلكَ الضَّلالِ، فلزِمَ حملُ الأمرِ على الوُجوبِ))

[الجامع لأحكام القرآن 14/188] . 2ـ قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . وجهُ الدَّلالةِ من الآيةِ: أنَّ الله تعالى حذَّر من مُخالفَةِ أمرِ رسولهِ - صلى الله عليه وسلم - بأن تُصيبَ المُخالفِ فتنَةٌ أو عذابٌ أليمٌ، وهذا لا يمكِنُ فيما للإنسانِ فيه اختيارٌ، فدلَّت على أنَّ الأمرَ للوُجوبِ في أصلِ وُرودِهِ حتَّى يرِد التَّخيير فيه من الآمرِ. 3ـ إطلاقُ مُسمَّى (المعصية) على تركِ (الأمرِ) في نصُوصِ الوحي، فمن أدلة ذلك: [1] قوله تعالى عن الملائكة: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] . [2] قوله تعالى عن موسى في قصَّتهِ مع الخِضرِ: {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] . [3] قوله تعالى عن موسى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 92ـ 93] ، وإنَّما قال لهُ موسى حينَ استَخْلفَهُ: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} [الأعراف: 142] . والمعصيَّةُ موجبةٌ للعُقوبَةِ، كما قال تعالى في معصيَتِهِ ومعصيَةِ

رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] . 4ـ قوله تعالى عن إبليسَ حينَ أبى أن يسجدَ لآدمَ: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] ، وإنَّما كان أمرُهُ تعالى بالسُّجودِ بقولهِ: {اسْجُدُوا} [البقرة:34] مفيدَةً بنفسها وجوب الامتثالِ لم يكُن هناكَ وجهٌ للإنكارِ على إبليسَ في تركِه السُّجودَ، فإن قيلَ: إنَّما حمل إبليسَ على تركهَا الكِبرُ، فجوابُهُ: أنَّ هذا لا علاقةَ لهُ بالصِّيغةِ، وإنَّما أبدَى عنه إبليسُ بعد إنكارِ الله تعالى عليه عدَمَ السُّجودِ، وقدِ استحقَّ بالكبرِ المقترنِ بتركِ الأمرِ أن يُحرمَ الجنَّة ويُخلَّدُ في النَّارِ، وهذا لا يكونُ على مجرَّدِ تركِ امتثالِ الأمرِ مع اعتقادِ المعصيَّةِ بذلكَ التَّركِ، فاشتركَ كُلُّ تاركٍ لامتثالِ الأمرِ من الله تعالَى أو نبيّهِ - صلى الله عليه وسلم - مع إبليسَ في كونِهِ عصَى بتركِ امتثالِ الأمرِ، وقدْ يشتركُ مع إبليسَ في العاقبَةِ إذا اقترَنَ الإباءُ بالكِبرِ، وإنَّما يكونُ أمرُهُ تحتَ المشيئَةِ الرَّبانيَّةِ إذا اعتقدَ أنَّهُ عاصٍ إلاَّ أن يتوبَ. وهذا لمن تأمَّلهُ بُرهانٌ ظاهرٌ على أنَّ صيغَةَ الأمرِ ممَّنْ لهُ سُلطانُ الأمرِ الأوَّلِ وهو الشَّارعُ واجبَةُ الامتثالِ، إلاَّ أن يأذنَ في التَّركِ أو

يُخيَّر. 5ـ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لولاَ أنْ أشُقَّ على أمَّتي لأمرتُهُم بالسِّواكِ عندَ كلِّ صلاةٍ)) [متفقٌ عليه من حديث أبي هريرةَ] . فتركَ بالأمرَ بهِ خشيةَ المشقَّةِ، ممَّا دلَّ على أنَّ الأمرَ للوُجوبِ، لأنَّهُ لو صحَّ أن يكونَ في مرتبةٍ دونَ الوُجوبِ كالنَّدبِ، فإنَّ المندوبَ جعلَ الشَّرعَ فيه للمكلَّفِ خيرَةً في أن يفعلَ أو يدَعَ، فلا يكُونُ سببًا للمشقَّةِ من قِبلِ الشَّارعِ. 6ـ ومن هذا يُقالُ: (طاعةُ الأميرِ) و (معصيَةُ الأميرِ) ، والأميرُ إنَّما سُمِّيَ بذلكَ لأنَّهُ يقولُ للنَّاسِ: (افعلُوا واعملُوا واسمَعُوا) ونحوَ ذلكَ، وعلى النَّاسِ السَّمعُ والطَّاعةُ، لا يقولونَ لهُ: أمرُكَ على النَّدبِ أو الإباحَةِ ونحنُ في خيرَةٍ من فِعلِهِ وتركِهِ حتَّى يقترِنَ بِأمرِكَ الوعيدُ والتَّهديدُ، فمن يجرُؤُ على أن يقولَ ذلك لحاكِمٍ أو سُلطانٍ؟ ومن يجرُؤُ على التَّردُّدِ فيه؟ فعجبًا أن يُدركَ هذا المعنى في حقِّ الخلقِ ولا يُدركُ في أمرِ ربِّ الخلقِ تباركَ وتعالَى الَّذي بيدِهِ سُلطانُ الأمرِ والنَّهيِ كُلِّهِ! * قاعدة الأمر: الأمرُ للوُجوبِ حتَّى يُصرفَ عنهُ بقرينةٍ. معنى القاعِدَةِ اتَّضحَ مِمَّا تقدَّم من بيانِ (دلالةِ الأمرِ) . مثالُ القاعِدَة:

1ـ قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] ، فإنَّ الأمرَ على أصلِ دلالتِه للوُجوبِ، فلذلكَ سقط به وجوبُ قراءةِ الفاتحةِ وراءَ الإمامِ عندَ جُمهورِ العلماءِ. 2ـ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخلَ أحدُكم المسجدَ فليرْكعْ ركعتينِ)) [متفقٌ عليه من حديث ابي قتادَةَ] ، فهذا أمرٌ مصروفٌ عن الوُجوبِ إلى النَّدبِ في قولِ جمهُورِ العلماءِ، والقرينةُ الصَّارفةُ له عن الوُجوبِ هي ما تواترَتْ به النُّصوصُ من كونِ الصَّلواتِ المفروضاتِ خمسًا في اليومِ واللَّيلةِ، وما صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من عدِّ جميعِ ما يزيدُه المسلمُ عليها تطوُّعًا. واعلمْ أنَّ القرينةَ ممَّا يختلفُ في تقديرهِ العلماءُ وجرَى منهاجُهم على اعتبارِ القرينةِ صارِفةً لدلالةِ اللَّفظ عمَّا استُعملتْ فيه في الأصلِ إلى المعنى الَّذي دلَّت عليهِ، وهي قدْ تكونُ صريحةً بيِّنَةً كما في المثالِ المذكورِ، وقد تكونُ خفيَّةً لا تبدوا إلاَّ بالبحثِ والتَّامُّلِ، كما أنَّها قدْ تُستفادُ من نفسِ النَّصِّ، أو من دليلٍ خارجيٍّ، ولا يلزمُ أن تكونَ نصًّا من الكتابِ والسُّنَّةِ، إنَّما يجوزُ أن تكونَ كذلكَ، ويجوزُ أن تستنِدَ إلى قواعدِ الشَّرعِ ومقاصِدِه، ويجري فيها ما يجري على الدَّليلِ القائمِ بنفسهِ من جهةِ الثُّبوتِ والدَّلالةِ، وهذا معنى يغفُلُ عنهُ كثيرونَ فلا يُدركُونَ من المقصودِ بالقرينةِ إلاَّ بالقرينةِ اللَّفظيَّةَ الصَّريحةَ.

* مسائل 1ـ الأمرُ إذا ورَدَ بعدَ النَّهيِ رجعَ بالمأمُورِ به إلى حالِه قبلَ النَّهيِ، فإن كانَ للوُجوبِ عادَ إلى الوُجوبِ، وإنْ كانَ للنَّدبِ عادَ إلى النَّدبِ، وإن كان للإباحَةِ عادَ إلى الإباحةِ. من أمثلةِ ذلك: [1] قولهُ تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] ، فإتيانُهُنَّ بعد التَّطهُّر مباحٌ ليسَ بواجبٍ، فعادَ الحُكم بالأمرِ إلى الحالِ قبلَ النَّهيِ. [2] حديثُ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: جاءتْ فاطِمةُ بنتُ أبي حُبيشٍ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالتْ: يا رسول الله، إنِّي امرأةٌ أُستحاضُ فلا أطهُرُ، أفأدعُ الصَّلاةَ؟ فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا، إنَّما ذلكَ عِرقٌ وليسَ بحيضٍ، فإذا أقبلَتْ حيضتُكِ فدَعِي الصَّلاةَ، وإذا أدبرَتْ فاغسلي عنكِ الدَّمَ ثُمَّ صلِّي)) [متفقٌ عليه] ، فالأمرُ بالصَّلاةِ بعد َالنَّهيِ عنها لأجلِ الحيضِ عادَ بحُكمِهَا إلى ما قبل الحيضِ، وهو الوُجوبُ. هذهِ القاعِدَةُ على واحدٍ من ثلاثةِ مذاهبَ للعُلماءِ، والمذهبُ الثَّاني: أنَّ الصِّيغةَ للوُجوبِ على أصلهَا، ولا تُصرفُ عنهُ إلاَّ بقرينةٍ، والثَّالثُ: أنَّ هذه الصُّورَةَ تجعلُ المأمُورَ بهِ مُباحًا، والَّذي دلَّ عليهِ

الإستقراءِ للأدلَّةِ الواردَةِ في الكتابِ والسُّنَّةِ هو المذهبُ الأوَّلُ وهو قولُ بعضِ الشَّافعيَّةِ والحنابلَةِ. 2ـ صيغةُ الأمرِ لا تدلُّ بنفسهَا على وجوبِ إيقاعِ المأمورِ به أكثرَ من مرَّةٍ إلاَّ بدليلٍ. من أمثلتِهِ [1] حديثُ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالً: خطبنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: ((أيُّها النَّاسُ، قد فرضَ الله عليكُم الحجَّ فحُجُّوا)) فقال رجلٌ: أكلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فسَكَتَ، حتَّى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو قلتُ: نعمْ لوجبَتْ ولما استَطعتُم)) ثم قالَ: ((ذرُوني ما تركتُكُم، فإنَّما هلكَ من كان قبلكُم بكثرةِ سُؤالِهِم واختلافِهم على أنبيائهمْ، فإذا أمرتُكمْ بشيءٍ فأتُوا منهُ ما استطعتُم، وإذا نهيتُكمْ عن شيءٍ فدَعُوهُ)) [أخرجه مسلمٌ] . فهذا بيَّنٌ في أنَّ صيغَةَ الوُجُوبِ لا تدلُّ بنفسهَا على إرادَةِ إيقاعِ الفعلِ أكثرَ من مرَّةٍ، وإنَّما يحتاجُ إلى دليلٍ زائدٍ يفيدُ التَّكرارَ، فحيثُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يقُلْ هُنا (في كلِّ عامٍ) فإنَّ الأصلَ أن تقعَ مرَّةً، فيتحقَّقُ المقصودُ، ولذَا كرِهَ سؤالَ السائلِ لأنَّهُ من قبيلِ البحثِ عن المسكوتِ عنهُ ممَّا قد يقعُ بالسُّؤالِ عنهُ تكليفٌ شاقٌّ يكونُ سببُهُ سُؤالَ ذلكَ السَّائلِ.

[2] قولهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، فأمرَ بالوُضوءِ كلَّما قامَ العبدُ إلى صلاتِهِ، والأصلُ وجوبُ إيقاعِ الفعلِ على التكرارِ بتكرُّرِ الصَّلاةِ، إلاَّ أنَّ الأمرَ عُلِّقَ بالحدثِ تخفيفًا على الأمَّةِ، وبغيرِ الحدَثِ على سبيلِ النَّدبِ، كمَا بيَّنتْ ذلك السُّنَّةُ. [3] وفرضٌ خمسِ صلواتٍ في اليومِ واللَّيلةِ بما تواترَتْ بهِ النُّصوصُ دليلٌ على أنَّ قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] ، يقتضي تكرارَ إيقاعِ المأمورِ بهِ، ومثلهُ تعليقُ فرضِ الزَّكاةِ ببلُوغِ النِّصابِ وحولِ الحولِ دليلٌ على تكرارِ المأمورِ به في قوله تعالى: {وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] . ولولاَ مجيءُ الدَّليل المفيدِ للتَّكرارِ كان تحقُّقُ المطلوبِ يقعُ بمرَّةٍ. وهذه القاعدَةُ مذهبُ جُمهورِ الفُقهاءِ. 3ـ الأمرُ بشيئينِ أو أكثرَ على سبيلِ التَّخييرِ بينها، فالواجبُ امتثالُ أحدِها من غيرِ تعيينٍ. مثالهُ قوله تعالى في كفَّارةِ اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] ، فأمرَ بالكفَّارةِ وجوبًا، وخيِّر في فعلهَا بين الإطعامِ أو الكِسوةِ أو العِتقِ درجَةً واحدَةً.

ومثلُهُ في المُحرمِ يحلقُ رأسهُ لعلَّةٍ، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] . 4ـ الأمر في سُرعةِ الامتثالِ مُعلَّقٌ بمقتضى البيانِ، فإنْكان موقَّتًا وقتٍ لزِم امتثاله في الوقتِ المُحدَّدِ، وإن عُلِّق بشرطٍ لزِمَ امثتالُهُ عند وجودِ الشَّرطِ. هذه من مسائلِ الخلافِ المشهورةِ بين الأصوليينَ، فمنهُم من أطلقَ (صيغةُ الأمرِ تقتضي الفوريَّةَ في الامتثالِ) ، ومنهُم من أطلقَ: (تقتضي التَّراخي) ، ومنهُم من توقَّفَ، ومنهُم من فصَّل، وإذا انتقلتْ لتدبُّرِ ذلك في الأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ لا تجدُ أنّ الله تعالى حينَ قال مثلاً: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] ، أوجبَ بمجرَّدِ هذا النَّصِّ امتثال المأمورِ عن غير بيانٍ لأحكامِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، نَعمْ لا ريبَ في وجوبِ الامتثالِ، لكنَّهُ متوقِّفٌ على البيانِ، فكانَ الأمرُ بالصَّلاةِ موقَّتًا بأوقاتِ محدودَةٍ، لا تؤدَّى صلاةٌ قبلَ وقتِهَا، كمَا لا يحلُّ أن تخرجَ من وقتِهَا، وامتثالُ الأمرِ بتلكَ الصَّلاةِ موسَّعٌ باتِّساعِ وقتِهَا، وفرضُ الحجِّ عُلِّق بوصفٍ في وقتٍ، فهوَ ليسَ بلازم حتَّى يوجَدَ ذلكَ الوصفُ في الوقتِ، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] ، وذلكَ في أيَّامِ الحجِّ الموقَّتة، وقضاءُ من فاتَهُ شيءٌ من رمضانَ بُعُذرٍ واجبٌ بعدَ رمضانَ موسَّعًا

يفعلُه متى شاءَ في ذلكَ الوقتِ الموسَّعِ من العامِ، كمَا قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . فإذَا عُلمَ هذا لم يكُن بعدهُ لإطلاقِ العبارَاتِ معنَى، وعليهِ فالتَّفصيلُ أصحُّ شيءٍ في هذه المسألةِ. 5ـ إذا فاتَ امتثالُ المأمورِ في وقتهِ المحدَّدِ فقدْ سقطَ فِعلُهُ بالأمرِ الأوَّلِ، ولا يجبُ القضاءُ إلاَّ بأمرٍ جديدٍ. على هذا جمهورُ الأُصوليِّينَ، وقد تقدَّم له بيانٌ وتمثيلٌ في مسألةِ (القضاء) في تفصيل الكلامِ على (أقسام الحُكمِ الوضعِيِّ) . * * *

النهي

النَّهي "تعريفه: لغةً: المنعُ. واصطلاحًا: اللَّفظُ المُستعملُ لطلبِ التَّركِ على وجهِ الاستِعلاءِ. فهوَ من قسمِ (الخاصِّ) من جهةِ أنَّه أُريدَ بهِ شيءٌ خاصٌّ هو (طلبُ التَّركِ) . * صيغته: ولهُ صيغةٌ واحدةٌ صريحةٌ، هي: الفِعلُ المضارعُ المجزومُ بـ (لام) النَّاهية، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] . وتقدَّم في الكلام في (الأحكامِ) ذكرُ صِيغٍ غير صريحةٍ في النَّهي دالَّةٍ عليه في مبحثِ (الحرام) ، والَّذي يعنِينا هُنا صيغةُ النَّهي اللَّفظيَّةُ الإنشائيَّةُ، وهي هذه الصِّيغةُ فقطْ. * دلالته: تدلُّ صيغةُ (النَّهي) الوارِدةُ في خطابِ الشَّارعِ للمكلَّفينَ على حقيقةٍ واحدةٍ هي التَّحريمُ، ولا يصارُ إلى سواهَا إلاَّ بقرينةٍ. هذا مذهبُ عامَّةِ العلماءِ المُقتدى بهم في الدِّينِ أصحابِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -

ومن بعدَهُم، وفيهم الأئمَّةُ الأربعةُ الفُقهاءُ. قاعدته: النَّهيُ للتَّحريمِ حتَّى يُصرفَ عنهُ بقرينةٍ. دليلُ القاعدَةِ: 1ـ قولهُ تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . وجهُ الدَّلالةِ: أنَّ الله تعالى أمرَ بالانتِهاءِ عمَّا نهى عنهُ رسولُه - صلى الله عليه وسلم -، وتقدَّم أنَّ الأمرَ للوُجوبِ حقيقةً واحدَةً، فدلَّ أن ترك المنهيِّ عنهُ على سبيلِ الحتْمِ والإلزامِ بالتَّركِ. 2ـ جرى أُسلوبُ الشَّرعِ على حِكايةِ المحرَّماتِ بصيغةِ النَّهيِ حتَّى اطَّرد ذلك اطِّرادًا بيِّنًا، والنُّصوص فيه فوق الحصرِ، من ذلكَ قوله تعالى: الآيات {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151ـ 153] . 3ـ حديثُ أبي هريرةَ رضي الله عنهُ: عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((دَعوني ما تركتُكُم، إنَّما أهلَكَ من كانَ قبلكُم سُؤالُهُم واختلافُهُم على أنبيائِهِم، فإذا نهيتُكُمْ عن شيءٍ فاجتنبُوهُ، وإذا أمرتُكمْ بأمرٍ فأْتُوا منهُ

ما استَطَعْتُم)) [متفقٌ عليه] . وجهُ الدلالةِ: أنَّ تركَ المنهيِّ عنه لم يُعلَّق باستِطاعةٍ كما عُلِّق بها فعلُ المأمورِ، لأنَّ الشَّأن في التَّركِ والاجتنابِ أيسرُ في التَّكليفِ من تكلُّفِ الفعلِ، والأمرُ للوجوبِ، والأمرُ بالتَّركِ بصيغةِ الاجتنابِ أبلغُ من مجرَّدِ النَّهي عنهُ، ممَّا دلَّ على تغليظِ شأنِ المنهيِّ عنه، وهذا لا يكونُ في المكروهِ الَّذي غايتُهُ أنَّ فعلهُ تركٌ للأولى، لا فعلاً للحرامِ. 4ـ فاعلُ المنهيِّ عنه لا يختلفُ أهلُ اللِّسانِ أنَّه عاصٍ بمجرَّدِ فعلهِ ذلك، فإنَّ الأميرَ لوقال لرعيَّته: (لا تفعلوا كذا) فواقعهُ أحدٌ منهم وُصفَ بالمخالفةِ واستحقَّ العقوبةَ، وإذا تصوِّر هذا في حقِّ نهي المخلوقِ، فهو أبينُ في حقِّ نواهي الله عزَّوجلَّ في كتابهِ وعلى لسانِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -. مثالٌ لصرفِ النَّهي عن حقيقته الَّتي هي التَّحريمُ بقرينةٍ: عنِ البراء بن عازبٍ رضي الله عنه قالَ: سُئلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصَّلاةِ في مباركِ الإبلِ؟ فقالَ: ((لا تُصلُّوا في مباركِ الإبلِ، فإنَّها من الشَّياطينِ)) ، وسئلَ عن الصَّلاةِ في مرابِضِ الغَنَمِ؟ فقالَ: ((صلُّوا فيها فإنَّها بركةٌ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أبوداودَ وغيرُهُ] . فهذا النَّهيُ ليسَ على سبيلِ التَّحريمِ، والقرينَةُ الصَّارفةُ له عن ذلك من وجهينِ:

هل النهي يقتضي الفساد؟

[1] الأمرُ بالصّلاةِ في مباركِ الغنمِ على سبيلِ النَّدبِ من جهةِ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حثَّ عليها للبركَةَ فيها، وطلبُ البركةِ مندوبٌ إليه ليسَ بواجبٍ، ولذا لم يُعلمُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اتَّخذ من مباركِ الغنمِ موضعًا لصلاتِهِ، فلمَّا خرج النَّهيُ عن الصَّلاةِ في مباركِ الإبلِ نفسَ مخرجِ الأمرِ دلَّ على أنَّ قدرهُ في الحكمِ على المُقابلةِ لقدرِ الصَّلاةِ في مباركِ الغنمِ، فلمَّا كانَ هناكَ النَّدبُ فيُقابلهُ الكراهةُ. [2] قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وجُعلتْ لي الأرضُ مسجدًا وطهورًا)) [متفقٌ عليه] ، فجعلَ جميعَ الأرضِ صالحةً للصَّلاةِ، وجاءَ الاستثناءًُ من هذا العمومِ في دليلٍ آخرَ وهو قولهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((الأرضُ كلُّهَا مسجدٌ إلاَّ الحمَّامَ والمقبرةَ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أحمد وأبوداود وغيرهما من حديثِ أبي سعيدٍ الخدُريِّ] ، وليس في الاستثناءِ مباركُ الإبلِ، فدلَّ على أنَّ النَّهيَ عن الصَّلاةِ فيها ليسَ على التَّحريمِ، إنَّما هو على الكراهَةِ. هل النَّهي يقتضي الفساد؟ إذا جاءَ نصُّ الكتابِ أو السُّنَّةِ بالنَّهيِ عن فعلِ، ولمْ يوجدْ لذلكَ النَّهي ما يصرِفُهُ عن دلالتهِ على التَّحريمِ، فهلْ يدلُّ التَّحريمُ لذلك الفعلِ على فسادِهِ وبُطلانِهِ لو وقعَ على الصُّورةِ المنهيِّ عنها أم لا؟ هذه مسألة خطيرةٌ تندرجُ تحتهَا أحكامٌ كثيرةٌ، وقدِ اختلفَ أهلُ

العلمِ فيها على مذاهبِ كثيرةٍ، والمُحققُ الَّذي تنصرُه الأدلَّةُ مذهبُ من ذهبَ من العلماءِ إلى التَّفصيلِ، وذلكَ بأنَّ النَّهي عن الشَّيءِ واردٌ على ثلاثِ صُورٍ: 1ـ أن يقترنَ بقرينةٍ تدلُّ على بُطلانِ المنهيِّ عنهُ، أو صحَّةِ المنهيِّ عنه، فهذا قد فصلتْ فيهِ القرينةُ، فلا يندرجُ تحتَ القاعدَةِ المذكورةِ. أمثلتُهُ: [1] حديثُ عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهماَ، قالَ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمنِ الكلبِ وإن جاءَ يطلُبُ ثمنَ الكلبِ فاملأ كفَّهُ ترَابًا [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أبوداود] . فأبطلَ العِوضَ عنهُ، وهذا إبطالٌ للبيعِ وإفسادٌ، فالنَّهيُ قدِ اقتضى الفسادَ بالنَّصِّ. [2] حديثُ المغيرةَ بن شُعبةَ رضي الله عنه قالَ: أكلتُ ثُومًا، ثمَّ أتيتُ مُصلَّى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدتُه قد سبقَنِي بركعةٍ، فلمَّا قمتُ أقضي وجَدَ ريحَ الثُّومِ، فقالَ: ((من أكلَ من هذه البقلةِ فلا يقربَنَّ مسجِدَنا حتَّى يذهبَ ريحُهَا)) قال المغيرةُ: فلمَّا قضيتُ الصَّلاةَ أيتهُ، فقلتُ: يا رسول الله، إنَّ لي عُذرًا، فناوِلْنِي يدَكَ، فناولنِي فوجدْتُه والله سهلاً، فأدخلتُها في كُمِّي إلى صدرِي فوجَدَهُ معصوبًا، فقالَ: ((إنَّ لكَ عُذرًا)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أبوداودَ وابنُ حبانَ وغيرهما] .

فنهى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الصَّلاةِ في المسجدِ من أكلَ الثُّومَ حينَ شَمَّ رائحتَهُ من بعضِ أصحابِهِ، ولم يُرتِّبْ على ذلكَ شيئًا من إعادَةِ صلاةٍ أو غيرهَا مع اقتضاءِ المقامِ للبيانِ، فدلَّ على الصحَّةِ. [3] حديثُ أبي هُريرةَ رضي الله عنهُ: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((لا تُصرُّوا الإبلَ والغَنمَ، فمنِ ابتَاعَها بعدَ ذلكَ فهوَ بخيرِ النَّظرينِ بعدَ أن يَحلبُهَا: فإنْ رضيهَا أمسكَهَا، وإن سخِطهَا ردَّهَا وصاعًا من تمرٍ)) [متفقٌ عليه] . فمع النَِّهي عن التَّصريهِ فقد صحَّحَ البيع حيثُ جعلَ للمشتري الخِيارَ بسببِ المضرَّةِ الحاصلَةِ لهُ وهو الخِدَاعُ بالتَّصريةِ. 2ـ أن يأتي النَّهيُ عن الشَّيءِ لا لشيءٍ يتعلَّقُ بهِ، بلْ لأمرٍ خارجٍ عنهُ، فهذا يقتضي الإثمَ بفعلِ المنهيِّ عنهُ، ولا يقتضي الفسادَ، بلْ يصحُّ الفعلُ وتترتَّبُ آثارُهُ عليهِ. من أمثلتهِ: [1] قولهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . فهذا نهيٌ عن البيعِ في لفظِهِ، لكنَّهُ نهيٌ عن تفويتِ الجُمُعةِ في معناهُ، والمقصودُ المعنى لا اللَّفظُ، ولذا كانَ كلُّ عملٍ مباحٍ يُسبِّبُ تفويتَ الجُمعةِ داخلاً في هذا النَّهيِ، وليسَ هذا النَّهيُ لشيءٍ يتعلَّقُ

بنفسِ عقدِ البيعِ، فهو قدِ استوفَى ما يصحُّ بهِ، فكانَ البيعُ على أصلهِ في الصِّحةِ، وتفويتُ الجمُعَةِ معصيَةٌ يُستحقُّ بها الإثمُ لا غير. [2] قولهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا صلاةَ بحضرَةِ طَعامٍ، ولا هوَ يُدافعه الأخبثانِ)) [أخرجه مسلمٌ من حديثِ عائشَةَ] . فهذا نفيٌ مُقتضاه النَّهيُ عن الصَّلاةِ عندَ حضورِ الطّعامِ وعندَ مُدافعةِ البولِ والغائطِ، والعلَّةُ فيه مُدرَكَةٌ لا تعودُ على الصَّلاةِ بإفسادٍ، وهي ما يقعُ للمصلِّي بذلكَ من التَّشويش في صلاتِهِ ممَّا يؤثِّرُ على خشُوعهِ فيها، لكنْ صحَّ الدَّليلُ على عدمِ اعتبارِ الخُشوعِ مِمَّا يشترطُ لصحَّةِ الصَّلاةِ، بلْ تصحُّ بدونِهِ فلا يُطالبُ بالقضاءِ. فالنَّهيُ هُنا لم يقتضِ الفسادَ للمنهيِّ عنهُ، لأنَّه لسببٍ خارجٍ عمَّا يصحُّ به ذلكَ المنهيُّ عنه. 3ـ أن يأتيَ النَّهيُ مطلقًا لا قرينةً معه تدلُّ على فسادِ أو صحَّةِ المنهيِّ عنه، فالأصلُ الَّذي دلَّت عليه الشَّريعةُ فيه أنَّه يقتضي الفسادَ. ومن بُرهانِ ذلكَ: حديثُ عائشةَ رضي الله عنهَا قالتْ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدثَ في أمرنَا هذا ما ليسَ منهُ فهو ردٌّ)) . هذا الحديثُ الصَّحيحُ قاعدَةٌ في إبطالِ كُلِّ عملٍ على غيرِ وفاقِ

الأمر بالشيء نهي عن أضداده

الشَّرعِ، فالمنهيُّ عنه على غيرِ وفاقِ الشَّرعِ فهو باطلٌ، وكلُّ ما يترتَّبُ عليه من الآثارِ فهو فاسدٌ، سوَى ما تقدَّم في النَّوعينِ قبلهُ، حيثُ ظهر استِثناؤهُمَا بدليلِ الشَّرعِ نفسِهِ أو بأصلهِ وقاعِدَتِهِ. * قاعدة: الأمرُ بالشَّيءِ نهيٌ عن أضْدادِه، والنَّهيُ عنهُ أمرٌ بأحدِ أضدادِهِ. مثالُهَا قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 56] ، أوَامرُ في اللَّفظِ، وهيَ نواهٍ عن تركِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ وعن معصيةِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم - من حيثُ المعنى. وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] ، نهيٌ في اللَّفظِ، وهو أمرٌ بما يتمُّ به الاستِعفافُ من حيثُ المعنى، وما يتمُّ به الاستِعفافُ قد يكونُ النِّكاحَ، وقد يكونُ الصَّومَ، وقد يكونُ مجرَّدَ تركِ الزِّنَا. صيغة النفي: صيغةُ النفي صيغةٌ خبريَّةٌ، لكنَّها تجيءُ بمعنى النَّهي في صورتينِ: 1ـ أن تدخُلَ على لفظٍ شرعيٍّ من أسماءِ الجِنسِ النَّكراتِ، كلفظِ

(صلاةٍ، نذرٍ، شِغارٍ) كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا صلاةَ بعد الصُّبحِ حتى ترتفِعَ الشَّمسُ، ولا صلاةَ بعد العصرِ حتَّى تغيبَ الشَّمسُ)) [متفقٌ عليه عن أبي سعيد الخُدريِّ] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا نذْرَ في معصيَةِ الله)) [أخرجه مسلمٌ وغيرهُ عن عِمرانَ بن حُصينٍ] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا شغارَ في الإسلامِ)) [أخرجه مسلمٌ عنِ ابن عُمرَ] . فهذه (لا) النَّافيةُ للجنسِ، دلالتُهَا في الأصلِ عندَ جُمهورِ أهل العلمِ لنفيِ الصِّحَّةِ، وإنَّما يُصارُ إلى نفي الكمالِ بدليلٍ يصرفُها عن هذه الدَّلالةِ، ونفيُ الصِّحَّةِ يعني فساد المنفيِّ وبُطلانَهُ، ونفيُ الكمالِ يعني نقصانَهُ، وتلك هي دلالةُ النّهي كما تقدَّم. 2ـ أن تدخلَ على فعلٍ معَ امتناعِ أن يُرادَ باللَّفظِ مجرَّدَ الخبرِ بقرينةٍ لفظيَّةٍ أو حاليةٍ، وإليكَ ثلاثةَ أمثلةٍ: [1] قولهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُجزيءُ صلاةُ الرَّجلِ حتَّى يقيمَ ظَهْرَهُ في الرُّكُوعِ والسُّجودِ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أصحابُ السُّنن عن أبي مسعودٍ البدريِّ] ، فنفيُ الإجزاءِ صريحٌ في الدَّلالةِ على البُطلانِ والفسادِ، وذلكَ مُقتضى النَّهي، وهذه قرينَةٌ لفظيَّة. [2] قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُقبلُ صلاةٌ بغيرِ طُهورٍ، ولا صدَقةٌ من غُلولٍ)) [أخرجه مسلمٌ عن ابنِ عمرَ] ، فنفيُ القبولِ كنفيِ الإجزاءِ، وهيَ قرينةٌ لفظيَّةٌ كذلكَ.

[3] قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُنكحُ الأيِّمُ حتَّى تُستأمرَ، ولا تُنكحُ البِكرُ حتَّى تُستأذنَ)) [متفقٌ عليه عن أبي هريرةَ] ، فهذا النَّصُّ لو أجرينَاهُ مُجرَى الخبرِ بناءً على مُقتضى اللَّفظِ لم يكُن مُطابقًا للواقعِ، فإنَّ الواقعَ أنَّ الأيِّمَ والبكرَ تُنكحانِ في أعرافِ كثيرٍ من النَّاسِ بغيرِ استئمارٍ ولا استِئذانٍ، فلمَّا امتنعَتْ إرادَةُ الخبرِ دلَّ على أنَّ معناهُ الإنشاء، وهوَ النَّهي. * * *

2ـ العام

2ـ العام * تعريفه: لغة: الشَّاملُ. واصطلاحًا: اللَّفظُ المستغرقُ لجميعِ ما يصلُحُ له بوضعٍ واحدٍ دُفعةً واحدةً من غير حصرٍ. معنى التَّعريف: لفظُ (العامِّ) مثلُ لفظ (النَّاسِ) مُستعملٌ في لسانِ العربِ ليشملَ كلَّ من يندرجُ تحتَ هذا اللَّفظ من بني الإنسانِ، فلا يخرُجُ عنه إنسانٌ، وهوَ لفظٌ واحدٌ دلَّ بمجرَّدِهِ على الاستيعابِ والإحاطةِ. * صيغته: يُعرفُ (العُمومُ) بألفاظٍ مخصوصةٍ، أهمُّهَا: 1ـ لفظُ (كلّ) و (جميع) و (كافة) و (عامّة) وما في معناها. كقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] ، وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] ، وقوله ِ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وكَانَ النَّبيُّ يُبعثُ إلى قومِهِ خاصَّةً وبُعثتُ إلى النَّاسِ عامَّةً)) [أخرجه

البخاريُّ من حديثِ جابرِ بن عبد الله] . 2ـ الجمعُ المعرَّفُ بـ (أل) الاستِغراقيَّةِ. كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ، وقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . ومثلُهُ لفظُ الجنسِ الجمعيِّ الَّذي لا واحدَ لهُ من لفظِهِ، مثلُ (النَّاس، الإبل) . 3ـ الجمعُ المعرَّفُ بالإضافة. كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ِ [التوبة: 103] . 4ـ المُفردُ المعرَّفُ بـ (أل) الاستغراقيَّة. كقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] ، وقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . أما المفردُ المعرَّفُ بـ (أل) العهْديَّة، كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15ـ 16] ، فالرَّسول هنا معهودٌ حيثُ تقدَّم قبلهُ بقولهِ: {رَسُولًا} والمقصودُ به موسى عليه السلام، فليسَ هذا للعُمُومِ.

وكذلكَ المفردُ المعرَّف بـ (أل) الجنسيَّةِ، كقوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36] ، فالمقصودُ جنسُ الذَّكر وجنسُ الأنثَى، لكلِّ ذكرٍ وكلُّ أنثَى. 5ـ المفردُ المعرَّف بالإضافة. كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في البحرِ: ((هو الطَّهورُ ماؤُهُ الحلُّ ميِّتتُه)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أصحابُ السُّنن من حديث أبي هريرة] . 6ـ الأسماء الموصولةُ. كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] ، وقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نسائكم إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] ، وقوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] . 7ـ أسماءُ الشَّرطِ مثلُ (مَنْ، مَا، أينَ، أيّ) . كقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ، وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197] ، وقولهِ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ} [النساء: 78] ، وقوله: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] .

8ـ أسماءُ الاستِفهامِ (مَنْ، ما، أينَ، متَى، أيّ) . كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] ، وقوله: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] . 9ـ النَّكرة في سياقِ النَّفي أو النَّهي أو الشَّرطِ أو الامتنانِ. ككلمَة التَّوحيد: (لا إله إلاَّ الله) ، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91] ، وقوله: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3] ، وقوله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا صلاَةَ لمن لم يقرأ بفاتحَة الكتابِ)) [متفقٌ عليه] ، وقوله: ((لا ضررَ ولا ضرار)) [حديثٌ صحيحٌ بطرقه أخرجه أحمدُ وغيرُهُ] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: 6] ، وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] . 10ـ ضميرُ الجمعِ، كالواوِ في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] . * دلالته: (العامُّ) من حيثُ دلالتُه ينقسمُ إلى أنواعٍ ثلاثةٍ، هي: 1ـ عامٌّ دلالتُه على العُمومِ قطعيَّةٌ. وذلك بمجرَّد صيغةِ العُمومِ، وإنَّما بقيامِ الدَّليل على انتِفاءِ احتمالِ التَّخصيصِ، مثل قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا

عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] . 2ـ عامٌ يرادُ به الخصُوصُ قطعًا. وذلك بقيامِ الدليل على أنَّ المراد بهذا العامِّ بعضُ أفرادِهِ كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] ، وكخرُوج غيرِ المكلَّفين كالصِّبيانِ والمجانين من عُمومِ صيغةِ الخطابِ الشَّاملة لهم في الأصل كلفظِ (النّاسِ) . 3ـ عامٌّ مخصوصٌ. وهو العامُّ الَّذي يقبلُ التَّخصيص، وذلك حين لا تصحبُه قرينَةٌ تنفي احتمالَ تخصيصهِ، ولا قرينةٌ تنفي دلالته على العُمومِ، وهو أكثر العمُوماتِ في نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ. والأصلُ أنَّ كلَّ لفظٍ من ألفاظِ (العُمومِ) مستعملٌ في لسانِ العربِ للاستغراقِ والشُّمولِ، وهذه حقيقةٌ متبادرَةٌ بمجرَّدِ استِعمالِ اللَّفظِ، ولم يخرج الاستِعمالُ الشَّرعيّ عن هذه الحقيقةِ إلاَّ بدليلٍ يرِدُ بالتَّخصيصِ لتلكَ الألفاظِ يُبيِّنُ أنَّه لم يُرد بهَا الاستِغراقُ. * أدلة حجية العموم: وهذا المعنى جاءَ في براهينِ الشَّرعِ ما يدلُّ عليهِ، فمن ذلكَ: [1] قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31] ،

ففهِمَ الخليلُ عليه السَّلامُ من مجرَّدِ اللَّفظِ العُمومِ، ولذَا قال: {إِن فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 32] . [2] وقولهُ تعالى عن نوح عليه السَّلامُ: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] ، ففهِمَ نوحٌ من عُمومِ قوله تعالى: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] ، أنَّ عُموم الأهلِ يشملُ ولدَهُ، وحملَ الاستثناءَ في قوله: {سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} على امرأته، ولذَا لم يَدَعُ لها كما دعَا لوَلَدِهِ، حتَّى أعلمَهُ الله تعالى دُخولَ ولَدِه فيمَنْ سبقَ عليه القولُ بسببِ عملِهِ غيرِ الصَّالحِ. [3] وحديثُ عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قالَ: جاءَ عبد الله بن الزِّبعرَى إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: تزعُمُ أنَّ الله أنزلَ عليكَ هذِه الآية: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] ، فقال ابنُ الزِّبعرَى: قد عُبِدَتِ الشَّمسُ والقمرُ والملائكةُ وعُزيرٌ وعيسى بنُ مريم؛ كلُّ هؤلاءِ في النَّارِ مع آلهتِنَا؟ فنزلتْ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 57ـ 58] ، ثمَّ نزلتْ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] [حديثٌ حسنٌ، أخرجه ابنُ مردويهِ والضِّياء المقدسيُّ بسندٍ حسنٍ] .

فابنُ الزِّبعريّ استعملَ العُموم ليُجادل بهِ، وذلكَ بأنَّه جارٍ على لُغته ولسانهِ، وهوا لعربيُّ الفصيحُ، حتَّى أنزل الله تعالى دليل التَّخصيصِ، فأبطل خُصومتهُ. [4] وقوله - صلى الله عليه وسلم - حين سُئلَ عن الزَّكاةِ في الحُمرِ)) ما أُنزل عليَّ في الحمُرِ إلاَّ هذه الآية الفاذّة الجامعةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7ـ 8] شقَّ ذلك على أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: أيُّنا لا يظلمُ نفسهُ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليسَ هوَ كما تظنُّونَ، إنَّما هو كما قال لُقمانُ لابنِهِ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِن الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ، [متفقٌ عليه] ، فأجرى الصَّحابةُ الآية الأولى على العُموم بمقتضى لُغتهم ولسانِهم، حتّى بيَّن لهُم النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ العمومَ هنَا مخصوصٌ. وفي هذا الحديث من الفائدة كذلك: أنَّ دلالة العُمومِ ظنيَّةٌ بصريحِ قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فهذه براهينُ ظاهرةٌ في صحَّةِ الاستِدلالِ بالعمُومِ، وأنَّهُ مُدركٌ بمقتضى لُغة العربِ.

تخصيص العام

* قاعدة كلُّ لفظٍ عامٍّ باقٍ على عمُومِه حتَّة يردَ التَّخصيصُ. واختلف العلماءُ في دلالة هذا النَّوع من (العامِّ) هل هيَ قطعيَّةٌ في شمُولهِ لكلِّ فرْدٍ من أفرادِه أو ظنيَّةٌ؟ على مذهبينِ: 1ـ ظنيَّةٌ، وهو مذهبُ جمهورِ العلماءِ، لأنَّ النَّص العامَّ يحتملُ التَّخصيصَ غالبًا. 2ـ قطعيَّة، وهو مذهبُ الحنفيَّة. ومذهبُ الجُمهور أظْهرُ، وتقدَّم قريبًا في دلالةِ الحديثِ ما يردُّ قولَ الحنفيَّةِ. * تخصيص العام قدْ يردُ من الشَّارعِ ما يدلُّ على (قصرِ العامِّ على بعضِ أفرادِهِ) وهذا هو تخصيصُ العامِّ. والمُخصِّصُ قسمانِ: 1ـ مخصَّصٌ متَّصلٌ: وهو ما يأتي جزءًا من عبارَةِ النَّصِّ الَّذي وردَ فيهِ اللَّفظُ العامُّ، ويرجعٌ إلى أنواعٍ هي: [1] الاستِثناءُ، وهوَ: إخراجُ بعضِ الجُملةِ من الجُملةِ بلفظِ (إلاَّ)

أو ما أُقيمَ مقامه من الأدواتِ كـ (غير) و (سِوى) . مثالُهُ: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 4ـ 5] ، فكلُّهم فاسقونَ بذلكَ إلاَّ التَّائبينَ، فقصرَ الفِسقَ على غير التَّائبِ. ومن شرْطِ صحَّةِ التَّخصيصِ بالاستثناء أن يكونَ مُتَّصلاً بالمستثنى منه لا منفصلاً عنه. ولو جاءَ الاستِثناءُ منفصلاً في اللَّفظِ لكنَّه وقع في المجلسِ الَّذي ذُكر فيه العمُومُ، فهو في حُكمِ المتَّصلِ، مثلُ: حديثِ عبد الله بنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((إنَّ الله حرَّم مكَّةَ فلم تحلَّ لأحدٍ قبلِي، ولا تحلُّ لأحدٍ بعدي، وإنَّما أُحلَّتْ لي ساعةً من نهارٍ، لا يُختلَى خلاهَا، ولا يُعضَدُ شجرُهَا، ولا يُنفَّرُ صيدُهَا، ولا تُلتقَطُ لُقطَتَهَا إلاَّ لمُعرِّفٍ)) وقال العبَّاسُ: يا رسول الله، إلاَّ الإذخرَ لِصاغَتِنَا وقُبورِنَا؟ فقالَ: ((إلاَّ الإذخِرَ)) [أخرجه البُخاريُّ] . [2] الشًّرطُ، ولهُ أدواتُه كذلكَ، مثلُ (إنْ) وغيرهَا. مثالُهُ قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12] ، فالنِّصفُ مشروطٌ بعدَمِ الولَدِ.

[3] الصِّفةُ. مثالهُ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وَبَنَاتُكُمْ حتى قال: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نسائكم اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] ، فالتَّحريمُ لعمومِ الرَّبائبِ بناتِ الزَّوجاتِ الموصوفاتِ بأنَّ أُمَّهاتهنَّ مدخولٌ بهنَّ، فقصر الوصفُ التَّحريمَ على بناتِ المدخول بهنَّ.

2ـ مخصِّصُ منفصلٌ: وهو ما يأتي مُستقلاًّ عن لفظِ (العامِّ) وهو أنواعٌ: [1] الحسُّ: كقوله تعالى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] ، فالحسُّ قاضٍ بالمشاهَدَةِ أنَّ بشرًا لا يُمكنُ أن يُؤتَى من كلِّ ما يُسمَّى شيئًا، إنَّما يُمكِنُ أن يُؤتَى من كلِّ شيءٍ مقدُورٍ لهُ. [2] العقلُ: كقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] أيْ: إلاَّ نفسَه، فهوَ سُبحانَهُ شيءٌ كما قالَ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19] ، إلاَّ أنَّ العُقولَ مُدركَةٌ أنَّه الخالقُ، والمخلوقَ غيرُهُ. [3] النَّصُّ: وذلكَ بأن يرِدَ دليلُ التَّخصيصِ في آيةٍ أو حديثٍ غير الَّذي جاءَ بالعمُومِ، ويقعُ على أربعِ صُورٍ: (1) تخصيصُ آيةٍ بآيةٍ، كتخصيصِ عُمومِ قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ

يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ، وبقوله عزَّوجلَّ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، فخُصَّ من العمومِ المُطلَّقةُ غيرُ المدخولِ بها والمُطلَّقةُ الحاملُ. (2) تخصيصُ سُنَّةٍ بسنَةٍ، كتخصيصِ العمومِ في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فيمَا سقتِ السَّماءُ العُشرُ)) [أخرجه البخاريُّ من حديث ابن عمر] بقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((ليسَ فيما أقلُّ من خمسةٍ أوسقٍ صدَقةٌ)) [متفقٌ عليه من حديث أبي سعيدٍ] ، فخصَّ وجوبُ الزَّكاةِ فيما سقتِ السَّماءُ بمقدَارِ النِّصابِ في الحديثِ الثَّاني الَّذي هو خمسَةُ أوسُقٍ (والوُسقُ: سِتُّون صاعًا من الثَّمرِ أو الحُبوبِ) . (3) تخصيصُ سُنَّةٍ بآيةٍ، كتخصيصِ عُمومِ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أُمرتُ أن أُقاتلَ النَّاس حتَّى يشهدُوا أن لا إله إلاَّ الله وأنِّي رسول الله)) [متفقٌ عليه] ، بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . (4) تخصيصُ آيةٍ بسُنَّةٍ، كتخصيصِ عُمومِ قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، بقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُجمعُ بينَ المرأةِ وعمَّتهَا، ولا بينَ المرأةِ وخالتِهَا)) [متفقٌ عليه من أبي هُريرةَ] .

وتخصيصُ عُمُوم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، بقوله - صلى الله عليه وسلم - في البحرِ: ((هُوَ الطَّهورُ ماؤُهُ الحلُّ ميتَتُهُ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أصحاب السُّننِ] . وتخصيصُ عمومِ قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ، بحديثِ ميمونَةَ أُمِّ المؤمنينَ رضي الله عنها قالتْ: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُباشرُ نساءَهُ فوقَ الإزارِ وهُنَّ حُيَّضٌ [متفقٌ عليه، واللفظُ لمسلمٍ، وبمعناهُ كذلك في ((الصحيحينِ)) حديثُ عائشَةَ] . وهذا فيهِ تخصيصُ القرآنِ بِفعلِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -. وتخصيصِ عُمومِ ما تُقطعُ به يد السَّارقِ في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُقطعُ يدُ السَّارقُ إلاَّ في رُبع دينارٍ فصاعدًا)) [متفقٌ عليه من حديث عائشة] . والتَّخصيصُ بهذا الطَّريقِ مذهبُ جُمهورِ العلماءِ، وفيهم مالكٌ والشَّافعيُّ وأحمدُ، بل وأبوحنيفةَ ولو كانَتِ السُّنَّةُ خبرَ آحادٍِ، هذا الَّذي يذْكُرهُ الجصَّاصُ وهوعُمدَةٌ في تحقيقِ المذهبِ، لكنْ لهُم شرْطٌ خالفُوا فيه الجمهُورَ سيأتي التَّنبيه عليهِ. [4] القياسُ: ويقعُ التَّخصيصُ بالقياسِ، مثالُهُ قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ، العُمومُ في قوله:

{الزَّانِيَةُ} مخصُوصٌ بقوله تعالى في الإماءِ المملوكَاتِ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، والقياسُ في إلحاقِ العبدِ بالأمَةِ بجامعِ الرِّقِّ في تنصيفِ العُقوبة، فيكونُ قياسُه عليهاَ مُخصَّصًا لعُمومِ لفظِ {وَالزَّانِي} . ومثالُ التَّخصيصِ بالقياسِ الجليِّ أو قياسِ الأولَى المسمَّى بـ (مفهومِ الموافقةِ) : قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليُّ الواجِدُ يُحلُّ عرْضَهُ وعقُوبَتَهُ)) [حديثٌ حسنٌ أخرجه أحمد وأبوداود وغيرهما من حديث الشَّريدِ بن سُويدٍ] ، عامٌّ في ليَّ كلِّ واجدٍ، وهو القادرُ على قضاءِ دَينِه يتعمَّدُ تأخيرهُ، لكن خُصَّ من ذلك الوالدُ يكونُ عليهِ الدَّينُ لولدِه، فلم يحلَّ عِرضُهُ لقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] ، فلم تَحلَّ عُقوبَتُهُ من بابِ أولَى، وهذِه دلالَةُ مفهومِ المُوافقةِ. وهذا الطَّريقُ في التَّخصيصِ قال بِه أكثرُ المالكيَّةِ والشَّافعيَّة والحنابلَةِ، وهو الرَّاجِح. [5] العُرْف: والمقصودُ به ما جرَتْ به العادَةُ من الأقوالِ والأفعالِ، فمذهبُ المالكيَّةِ التَّخصيصُ بهِ، وعُزِيَ إلى أبي حنيفَةَ، وردَّهُ الشَّافعيَّةُ والحنَابِلَةُ، وقالوا يخصُّ فقطْ بالعادَةِ الَّتِي كانتْ موجودَةً على عهدِ

التَّشريع بعدَ وُرودِ اللَّفظِ العامِّ، لأنَّها من قبيلِ السُّنَّةِ التَّقريريَّة، أمَّا عاداتُ النَّاسِ وأعرافُهُم بعدَ التَّشريعِ فلا تخصُّ قرآنًا ولا سُنَّةً، لكنْ تحكمُ بها تصرُّفاتُهُم الموكولةُ إلى عادَاتِهِم. ولا يُوجدُ لهذا الطَّريقِ مثالٌ صالحٌ فيه تخصيصُ النَّصِّ العامِّ بالعُرفِ. *مسائل: 1ـ أقلُّ الجمعِ ثلاثَةٌ في قولِ جمهورِ أهلِ اللُّغةِ والفقهِوالأصولِ. هذا هوَ الأظهرُ، والقولُ الآخرُ: أقلُّه اثنانِ، واستدلُّوا لهُ بأدلَّةٍ من الكتابِ كلُّها مؤوَّلةٌ ليسَ فيها ما يدلُّ على ذلكَ عند التّحقيقِ. 2ـ العبرةُ بعُمومِ اللَّفظِ لا بخصُوصِ السَّببِ. إذا ورَدَ اللَّفظُ العامُّ على سببٍ خاصٍّ فهو على عُمومِه حتَّى يدلَّ دليلٌ على إرادَةِ القصرِ على السَّببِ. فكلُّ آيةٍ نزلَتْ جوابًا لسؤالِ أو فصلاً في واقعَةٍ، وكلُّ حديثٍ ورَدَ على نحو ذلكَ، فلا تأثيرَ لذلكَ السَّببِ في إجراءِ الحُكمِ على كُلِّ ما أفادَهُ لفظُ العُموم، وذلكَ كنزولِ آياتِ اللِّعانِ في قصَّةِ عُويمرٍ العجلاَنيِّ وهلالِ بن أميَّةَ، فحُكمُهَا عامٌّ للأمَّةِ بناءً على هذا الأصلِ.

ومن الدَّليل على هذه القاعِدَةِ: حديثُ عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنهُ: أنَّ رجلاً أصابَ من امرأةٍ قُبلَةً، فأتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذكرَ ذلكَ لهُ، قالَ: فنَزَلتْ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] ، قالَ: فقالَ الرَّلُ: ألِي هذهِ يا رسول الله؟ قالَ: ((لمنْ عملَ بها من أُمَّتي)) [متفقٌ عليه] ، وفي روايةٍ لمسلمٍ: فقالَ رجلٌ من القومِ: يا نبيَّ الله، هذا لهُ خاصَّةً؟ قالَ: ((بلْ للنَّاسِ كافَّةً)) . وممَّا يُؤكدُ هذه القاعدَةَ عَدَمُ مجيءِ أكثرِ النُّصوصِ؛ خاصَّةً نصوصَ القُرآنِ الَّتي نزلتْ لأسبابٍ؛ بتسميةِ من كانَ سببًا في نزولهاَ، بل يأتي اللَّفطُ عامًّا ليكونَ تشريعًا لجميعِ أهلِ الإسلامِ بدلالةِ العُمومِ. إلاَّ أنَّ معرفَةَ أسبابِ نُزولِ القرآنِ وأسبابِ وُرودِ الحديثِ من أعظمِ ما ينتفِعُ بهِ الفقيهُ في فهمِ نصُوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ، فإنَّها تُساعدُ لإدراكِ حقيقَةِ الحُكمِ، أو صفَتِهِ، أو موضِعِهِ، وهذا بابٌ تزِلُّ فيه الأفهامُ كثيرًا. "تنبيه: ذهبَ بعضُ الحنابلَةِ للتَّخصيصِ أحيانًا بالسَّببِ الَّذي ورَدَ عليهِ النَّصِّ بما يُسمُّونهُ: (التَّخصيصُ بقضايا الأعيانِ) ، ويُمثِّلونَهُ بحديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قالَ: رخَّصَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للزُّبيرِ

وعبد الرَّحمنِ بنِ عوفٍ في لُبسِ الحريرِ لِحكمَةٍ بهِمَا [متفقٌ عليه] ، قالُوا: هذهِ قضيَّةٌ مُعيَّنةٌ وردَ فيهَا الإذنُ على حالٍ لم نطَّلهْ عليهَا، وهيَ تحتمِلُ وتحتَملُ، فلاَ يصحُّ أن تكونَ تشريعًا عامًّا للأمةِ. والجُمهورُ على خلافِ هذا الرَّأي، والحديثُ عندَهُم حُجَّةٌ على إباحَةِ الحريرِ لِعلَّةٍ، ولا يجوزُ أن يُلغَى العملُ بنصٍّ قدْ ظهرَ وجهُ الدَّلالةِ منهُ بوجهٍ من الظُّنونِ، وهذا يقعُ بهِ ردُّ كثيرٍ من النُّصوصِ الوارِدَةِ على أسبابٍ بمُجرَّدِ الهوَى. 3ـ الخِطابُ الموَّجهُ للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - عامٌّ في حقِّ أُمَّتهِ ما لمْ يرِدْ دليلُ التَّخصيصِ. كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عليهم} [التوبة: 73] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] ، وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] . فهذه النُّصوصُ وشِبهُهَا وإن توجَّه فيها الخِطابُ لفظًا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فهوَ لأمَّته، لا بصيغتِه وإنَّما باعتبارِ معنى الرِّسالةِ، فهوَ مأمورٌ بالتَّبليلغِ ليتَّبع، وقد قال الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:

21] ، وقدْ تواترَتِ النُّقولُ عن أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في مُتابَعتِهم لهُ في كلِّ شيءٍ إلاَّ ما يُبيِّنُ لهمُ اختِصاصُهُ بهِ. 4ـ قولُ الصَّحابيّ: (نهيى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعِ الغرَرِ) وشِبهُهُ، يفيدُ العُمومَ. هذا مذهبُ جمهورِ العُلماءِ بناءً على أنَّ الصَّحابيَّ حينَ حكَى ذلكَ عامًّا فهوَ من أهلِ اللِّسانِ ويُدركُ موارِدَ النُّصوصِ. 5ـ لفظُ العُمومِ من جهةِ تناوُلهِ للذُّكورِ والإناثِ على ثلاثةِ أنواعٍ: [1] ما يدخلُ فيه الذُّكورُ والإناثُ بلا خلافٍ، كلفظِ (النَّاسِ) و (القوم) ، و (الطَّائفة) و (الفرقة) ، و (مَنْ) المستعملة للعاقلِ. [2] ما يختصُّ بكلِّ جنسٍ بلا خلافٍ، كلفظِ (الرِّجالِ، والذُّكورِ) و (النِّساءِ، والإناثِ) . [3] ما اختُلفَ فيهِ، وهوَ ما كانَ لفظُه للذُّكورِ ويحتملُ أن يدخُل فيهِ الإناثُ لأنَّه استُعملَ بصيغَةِ المذكَّرين، كالجُموعِ المُذكَّرة السَّالمَة، مثلُ: (مسلمينَ، مُحسنينَ، متَّقينَ، الَّذين) ، وضمائرُ جماعةِ الذُّكورِ مثلُ: (آمَنوا، أمِنُو، أقيمُوا، آتُوا، يقيمونَ) . والتَّحقيقُ من مذاهبِهم وهوَمذهبُ الجُمهورِ: أنَّ الإناثَ يدْخُلنَ فيهِ ما لمْ يرِدْ ما يدلُّ على التَّخصيصِ بالذُّكورِ غيرُ مُجرَّدِ الصِّيغةِ، فقدْ

جرى على ذلكَ العملُ في الصَّدرِ الأوَّلِ من غيرِ تفريقٍ، حيثُ وجدُوا في لُغتِهم ما يُسوِّعُه، وهو أن يُخاطِب النَّاسُ بصيغَةِ الذُّكورِ مع وُجودِ الإناثِ فيهِم تغليبًا، إمَّا للزِّيادَةِ في التَّكليفِ، وإمَّا للتَّقدُّمِ في جانبِ الرِّعايةِ والقِوامَةِ، أو لغيرِذلكَ، ومن ذلكَ قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم 12] . أمَّا ما احتجَّ به بعضُ الشَّافعيَّةِ من حديثِ أمِّ سلمَةَ رضي الله عنها قالتْ: قلتُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ما لنَا لا نُذكرُ في القرآنِ كما يُذكرُ الرِّجالُ؟ قالتْ: فلمْ يرُعْني منهُ يومئذٍ إلاَّ ونِداؤُه على المِنبرِ، قالتْ: وأنا أُسرِّحُ شعري، فلفَفتُ شعري ثمَّ خرجْتُ إلى حُجرَةٍ من حُجرِ بيتي، فجعلتُ سمعِي عندَ الجريدِ، فإذا هوَ يقولُ على المنبرِ: ((يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ الله يقولُ في كِتابهِ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إلى آخرِ الآيةِ {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] [أخرجه أحمدُ والنِّسائي في ((التَّفسير)) بإسنادٍ صحيحٍ] ، فهذا ليسَ فيهِ اختصاصُ كلِّ جنسٍ بما وردَ بخُصوصِه لفظًا، إنَّما الَّذي فيه أنَّ الشَّرائِعَ تنزلُ في القرآنِ عادَةً بصيغَةِ التَّذكيرِ، وهوَ وجهُ إيرادِ أمِّ سلمَةَ، ففيهِ ما يوميءُ إلى أنَّها أرادَت الشَّرائِعَ للرِّجالِ والنِّساء. 6ـ اللَّفظُ العامُّ بعد التَّخصيصِ يبقى عامًّا فيما لم يخُصَّ.

كقوله تعالى بعد ذِكر المُحرَّماتِ من النِّساءِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، ولم يكُن في تلك المُحرَّماتِ: الجمعُ بين المرأةِ وعمَّتهاَ، أو خالتهَا، وإنَّما جاءتْ به السُّنَّةُ، فخصَّتِ العُموم الوارِدِ في قوله تعالى: {مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ، وبقي العُمومُ فيما عداهَا، فالمُحرَّماتُ من النِّساءِ ما تقدَّم في الآياتِ على قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} مُضافًا إليهنَّ الجمعُ بينَ المرأةِ وعمَّتِهَا أو خالتِهَا، ويبقى الحِلُّ لما وراءَ ذلكَ على عُمومِهِ. 7ـ لا يُشترطُ في المُخصَّصِ أن يأتي مُقارنًا للعُمومِ. هذا مذهبُ جمهورِ العلماءِ، خلافًا للحنفيَّةِ، فعندهُم: العامُّ قطعيُّ الدَّلالةِ، والخاصُّ قطعيُّ الدَّلالةِ، فإذا تأخَّر دليلُ التَّخصيصِ دلَّ على نسخِ العُمومِ. والتَّحقيقُ: أنَّ العامَّ ظنِّيُّ الدَّلالةِ على ما يدخُلُ تحتَهُ من الأفرادِ، ولعلَّهُ لا يخلو عامٌّ من تخصيصٍ بوجهٍ من الوُجوهِ، والمُتأمِّلُ للأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ يجدُ ذلكَ واضحًا فيهَا، فكيفَ يصلُحُ أن يكون شاملاً لكلِّ فردٍ من أفرادِهِ غير المحصورينَ على سبيلِ القطعِ؟ وفي الأدلَّةِ المذكورةِ آنفًا على حجِّيةِ العُمومِ ما يؤكِّدُ صحَّةَ مذْهبِ الجُمهورِ. 8 ـ العامُّ حُجَّةٌ بنفسهِ لا يتوقَّفُ القولُ بهِ على البحثِ عن المُخصَّصِ.

وهذه مسألةٌ فيها قولانِ، هذا أحدُهمَا، والثَّاني: لا يجوزُ الاستِدلالُ بهِ حتَّى ينتفي المُخصَّصُ، لأنَّ احتمالَ التَّخصيصِ واردٌ عليهِ، فهوَ دليلٌ بشرطِ السَّلامَةِ من المُعارضَةِ. وهذا القولُ الثَّاني ضعيفٌ من جهةِ أنَّ أكثر أدلَّةِ الفقهِ ظنيَّةُ الدَّلالةِ، ليسَ العُموم فقطْ، وطلبُ السَّلامَةِ من المعارضِ مطلوبَةٌ في كلِّ دليلٍ من تلكَ الأدلَّةِ، لكنْ هذا لا يعني التَّوقُّفَ في الدَّلالةِ الظَّاهرَةِ لتلكَ الأدلَّةِ، بل هيَ واجبَةُ الامتثالِ على ما ظهرَ منها حتَّى يوجَدَ خلافُهُ. لكنْ يُمكنُ القولُ: جدِيرٌ بالفقيهِ التَّثبُّتُ في كلِّ حكمٍ دلالةُ النَّصِّ عليهِ ظنيَّةٌ قبلَ المصيرِ إلى القولِ بذلكَ الحُكمِ. * * *

3ـ المشترك

3ـ المشترك * تعريفه: هوَ اللَّفظُ المستعملُ في معنيينِ أوْ أكثرَ بأوضاعٍ متعدِّدَةٍ. مثلُ: لفظِ (القُرءِ) فهو مشترَكٌ بين (الطُّهرِ والحيضِ) يُطلقُ على كلٍّ منهمَا، وكذا لفظُ (المولى) فهو مشترَكٌ بينَ (العبدِ والسَّيِّد) ، ولفظُ (العينِ) مُشتركٌ بين (البَاصرَةِ، والجاسوسِ، والسِّلعةِ، وحقيقةِ الشيءِ، وعينِ الماءِ) . * حكمه: اللَّفظُ المشتركُ يمتنعُ أن يُرادَ به جميعُ معانيهِ، ويجبُ أن يُرادَ به معنًى واحدٌ من تلك المعاني حيثُ يُستعملُ، ولا بدَّ من دليلٍ يدلُّ على تعيينهِ خارجٍ عن نفسِ اللَّفظِ، فإنْ تعذَّرَ تعيينُ معناهُ فحُكمهُ التَّوقُّف فيه، لأنهُ سيكونُ من قبيلِ (المُجمل) . هذا مذهبُ الحنفيَّةِ والحنابلَةِ وبعضِ الأصوليينَ من الشَّافعيَّة، وهو الأصحُّ. وخالفَ الشَّافعيُّ وجمهورُ أصحابهِ والمالكيَّةُ فقالوا بِعُمومِ (المُشتركِ) في جميعِ معانيِهِ إذا لم يمنعْ من ذلكَ مانعٌ.

ومثالُ المشتركِ: قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] ، تقولُ العربُ: الطُّهرُ قرءٌ والحيضُ قرءٌ، فهلِ المرادُ أنَّ المطلَّقة تعتدُّ ثلاثة أطهارٍ، أو ثلاثَ حيضاتٍ؟ اختلفَ أهلُ العلمِ فيهِ بسببِ ما ترجَّحَ لكلِّ فريقٍ في دلالةِ لفظِ (القُرءِ) في الآيةِ، فأكثرُ فُقهاءِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ والحنفيَّةُ والأصحُّ عن أحمدَ بنِ حنبلٍ؛ قالو: ثلاثُ حيضاتٍ، وعائشةُ وابن عُمرَ ومن حملَ عنهُمَا من أهلِ المدينةِ والمالكيَّةُ والشَّافعيَّةُ، قالُوا: ثلاثَةُ أطهارٍ. وترَى وجوهَ الاستدلالِ للتَّرجيحِ مبسوطَةً في كتُبِ الفُروعِ الفقهيَّةِ وكتُبِ التَّفسيرِ. * * *

القسم الثاني استعمال اللفظ في المعنى

القسم الثاني استعمال اللفظ في المعنى 1ـ الحقيقة والمجاز * تعريف الحقيقة: لُغةً: اسمٌ أُريدَ به ما وُضعَ لهُ. واصطلاحًا: اللَّفظُ المُستعملُ فيما وُضعَ لهُ في اصطلاحِ التَّخاطُبِ. * أنواعها: ألفاظُ الحقائقِ المُستعملةُ في نُصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ ثلاثةٌ: 1ـ لُغويَّة: وهي الَّتي يُعرفُ حدُّها باللُّغة، كلفظِ (الشَّمسِ والقمرَ، والسَّماءِ، والأرضِ، والبَرِّ والبَحرِ) . فهذهِ الألفاظُ وشِبهها لم تُعطها الشَّريعةُ معنًى خاصًّا وليستْ هي من الألفاظِ المرتبِطةِ بتعامُلاتِ النَّاسِ ليعودَ الأمرُ فيها إلى استِعمالِهم، فالمرجعُ إلى معرفتِها لسانُ العربِ. 2ـ شرعيَّة: وهي الَّتي يُعرفُ حدُّها بالشَّرعِ، كلفظِ (الإسلامِ والإيمانِ، والكُفرِ والنِّفاقِ، والصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والصَّومِ، والحجِّ) .

فهذهِ الألفاظُ وشِبهُهَا استعملَتْهَا الشَّريعةُ في معنًى مخصوصٍ وعلَّقتْ بها الأحكامَ، فالمرجعُ إليها في ذلكَ الاستِعمال. 3ـ عُرفيَّة: وهي الَّتي يُعرفُ حدُّها بعُرفِ النَّاسِ وعادَاتِهم، كلفظِ (البيعِ، والنِّكاحِ، والدِّرهمِ والدِّينارِ) . ومثلُها كلُّ لفظٍ تعلَّق بتصرُّفاتِ النَّاسِ العاديَّةِ ومعاملاتِهم، وليسَ للشريعةِ فيه استعمالٌ خاصٌّ، فيُرجعُ في معرفتِه إلى عُرفِ الاستِعمالِ. ترتيب الحقيقة: الأصلُ في كلِّ لفظٍ استُعملَ في الكتابِ والسُّنَّةِ أن يُبحثَ عن معناهُ في استعمالِ الشَّرعِ نفسهِ، لأنَّ المكلَّفينَب أمِرُوا باتِّباعِ ماجاءَ به الرَّسولُ - صلى الله عليه وسلم -، ومن جملتهِ اتِّباعُ بيانهِ لما يستعملُهُ من الألفاظِ. فإذا وُجدَ لفظُ (الصَّلاةِ) في نصٍّ من الكتابِ والسُّنَّةِ، فهوَ الصَّلاةُ الَّتي بيَّنها الرَّسولُ - صلى الله عليه وسلم - بفِعلِهِ وقولهِ المشتملَةُ على القيامِ والتَّكبيرِ والرُّكوعِ والسُّجودِ والقراءَةِ والذِّكرِ، لا يجوزَ العُدولُ بهذا اللَّفظِ عن هذا المعنى إلاَّ بدلالةٍ من الشَّرعِ نفسِهِ على أنَّه لم يُرِدْ في موضعٍ معيَّنٍ هذا المعنى للصَّلاةِ، إنَّما أرادَ المعنَى اللُّغويَّ العامَّ لها وهُوَ الدُّعاء. على أنَّه يُلاحظُ أنَّه مَا مِنِ استِعمالٍ خاصٍّ وقعَ في الشَّرعِ للفظِ من الألفاظِ إلاَّ وتوجدُ صِلةٌ بينهُ وبين المعنَى اللُّغويِّ، غيرَ أنَّه يكونُ

أحيانًا بتخصيصِ ما وردَ في اللُّغة عامًّا، أو تعيين بعضِ معاني المُشتركِ، كما أنَّ الشَّرعَ قد يستعملُ اللَّفظَ استعمالاً شرعيًّا هو نفسُ استِعمالِهِ في لغةِ العربِ. والمقصودُ أنَّ ما أطلقهُ اللهُ ورسولُه من الألفاظِ وعلَّق به الأحكامَ من أمرٍ ونهيٍ وتحليلٍ وتحريمٍ فإنَّه باقٍ على ذلكَ الاستعمالِ الشَّرعيِّ، لا يجوزُ الخُروجُ به عنهُ إلاَّ بدلالةٍ من الشَّرعِ نفسهِ. وإنْ كانَ الشَّرعُ علَّق الأحكامَ بلفظٍ، لكنَّه لم يحدَّه بحدٍّ ولم يُعطه ضابطًا خاصًّا، مثلُ لفظِ (السَّفر، والحيضِ، ومقدارِ ما يُطعَمُ المسكينُ في كفَّارةِ اليمينِ أو غيرهَا) ، فالمرجِعُ في تقديرِ ذلك إلى العُرفِ والعادَةِ، فما عدَّه النَّاسُ سفرًا بعادَتِهم فهو السَّفرُ الَّذي تُقصرُ فيه الصَّلاة ويُفطرُ فيها الصَّائمُ، وما لا يعدُّونه سفرًا بعادتِهم فهوَ السَّفرُ الَّذي تُقصرُ فيه الصَّلاةُ ويُفطرُ فيها الصَّائمُ، وما لا يعدُّونهُ سفرًا وإن طالتْ به المسافاتُ فليسَ بسفرٍ، و (الحيضُ) يعودُ تقديرُ مدَّته إلى ما جرتْ به عادَةُ كلِّ امرأةٍ، فهيَ الَّتي تُقدِّرهُ بما تراهُ من نفسِهَا أو نسائِها إنِ اضْطربتْ فيهِ، وفي كفَّارةِ اليمينِ قال الله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] ، والوسطيَّةُ تختلفُ من بيئةٍ إلى بيئةٍ، ويُجزيءُ من ذلكَ ما جرَتْ به بيئَةُ كلِّ إنسانٍ. فإذا فُقدَ تمييزُ الحقيقةِ في الشَّرعِ، وليسَ اللَّفظُ ممَّا يُمكنُ تقديرُه بالعُرفِ فالمرجعُ فيهِ حينئذٍ إلى دلالةِ لُغةِ العربِ.

فترتيبُ الحقائقِ في النَّظرِ إذًا: 1ـ الشَّرعيَّةُ، 2ـ فالعُرفيَّةُ، 3ـ فاللُّغويَّةُ. * حكم الحقيقة: يجبُ حملُ اللَّفظِ على حقيقتِهِ، لا يُصرفُ عنها إلاَّ بدليلٍ. * تعريف المجاز: هوَ استِعمالُ اللَّفظِ في غيرِ ما وُضعَ لهُ لعلاقةٍ بينهمَا معَ قرينَةٍ صارفَةٍ عن إرادَةِ المعنى الحقيقيِّ. فهوَ إذًا يُقابلُ (الحقيقة) ، إذْ هو خُروجٌ بها عن معناهَا، لكنْ يجبُ أن يكونَ ذلك الخُروجُ بعلامةٍ صالحةٍ تدلُّ على عَدمِ إرادَةِ الحقيقةِ. والعلاقَاتُ بين المعنَى الحقيقيِّ والمجازيِّ كثيرةٌ تُستفادُ من (علمِ البلاغَة) ، لكنَّ الَّذي يهمُّ هنَا هو معرفَةُ أنواعِ القرائِنِ الَّتي تُصرفُ بها (الحقيقةُ) إلى (المجازِ) ، وهيَ ثلاثةٌ: 1ـ حسِّيَّة: كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، أيْ: أهلَهَا، لامتِنَاعِ سُؤالِ جمادَاتِهَا حسًّا. 2ـ حاليَّة: كقولِ الرَّجلِ لزوجتِهِ وهي تُريدُ الخُروجَ من البيتِ وهوَ يُريدُ منعَهَا: (إن خرجتِ فأنتِ طالقٌ) ، وإنَّما أرادَ تلكَ اللَّحظَةَ

لا مُطلقًا بدلالةِ الظَّرفِ والحالِ المُلابسِ لقولهِ. 3ـ شرعيَّة: كألفاظِ العُمومِ الوارِدَةِ بصيغَةِ المذكَّر تتعدَّى إلى المُؤنَّثِ مجازًا، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} لِما جاءَتْ بهِ الشَّريعَةُ من عُمومِ التَّكليفِ. * حكم المجاز: ذهبَ طائفَةٌ من العُلماءِ إلى نفيِ وُجودِ (المجازِ) في لُغةِ العربِ، وقالُوا: ليسَ هُناكَ إلاَّ الحقيقة، وما يُسمَّى (مجازًا) فهو أُسلوبٌ من أساليبِ العربِ في حقائقِ الألفاظِ. وممَّن قال بذلكَ: أبُو إسحاقَ الإسفرايينيُّ وأبو عليٍّ الفارسيُّ إمامُ العربيَّةِ، وانتصرَ لهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ، وتلميذُهُ ابنُ القيِّم. وجمهُور العلماءِ على إثباتِهِ، وأنَّهُ تسميةٌ اصطلاحيَّةٌ لنوعٍ من أساليبِ اللُّغةِ العربيَّةِ. والعلَّةُ عندَ من نفاهُ: ما وقعَ من كثيرٍ من أهلِ البِدعِ من البِدعِ من التَّذرُّعِ بهِ إلى نفيِ صفاتِ الله عزَّوجلَّ والكلامِ في الغيبِ. لكنَّ التَّحقيقَ قبولُ قولِ الجُمهورِ في إثباتِ المجازِ، وتذرُّعُ أهلِ البِدعِ يُفسِدُهُ عليهِم وجوهٌ أخرى من الاستِدلالِ ليستْ هي إبطالَ القولِ بالمجازِ. فإذا صحَّ هذا فهَهُنَا أمرانِ:

1ـ لا يجوزُ أن يُصار إلى المعنى المجازيِّ إلاَّ عند تعذُّر حملِ اللَّفظِ على معناهُ الحقيقيِّ. مثالُهُ: قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائط} [النساء: 43] ، حقيقةُ لفظِ (الغائطِ) إنَّما هي الموضِعُ المنخفِضُ من الأرضِ كانُوا يقصِدُونهُ لقضاءِ الحاجَةِ رغبةً في التَّستُّرِ، فأُطلقَ على نفسِ الخارجِ من فضَلاَتِ الإنسانِ، فحملُ اللَّفظِ في الآيةِ على حقيقتِه غيرُ مرادٍ قطعًا، فمجرَّدُ المجيءِ من تلكَ المواضعِ ليسَ بحدثٍ يوجبُ الطَّهارَةَ، فتعيَّن حملُهُ على المعنَى المجازيِّ للفظٍ تعلَّقَ الحكمُ بهِ ولا بُدَّ. مثلُ قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] ، فاللَّمسُ حقيقةٌ في لمسِ اليدِ، ومجازٌ في الجِماعِ، فحيثُ ثبتَ أنَّ لمسَ اليدِ غيرُ مُرادٍ بدلالةِ السُّنَّةِ، فتعيَّنَ المعنَى المجازيُّ وهو الجِماعُ.

2ـ الصريح والكناية

2ـ الصريح والكناية * تعريف الصريح: هوَ اللَّفظُ الَّذي ظهرَ معناهُ ظُهورًا تامًّا لكثرةِ استِعمالِهِ. ويكونُ حقيقةً، كقولِ الرَّجلِ لزوجتِهِ: (أنتِ طالقٌ) ، فهذا لفظٌ صريحٌ لإزالةِ النِّكاحِ وهو حقيقةٌ، كما يكونُ مجازًا، كقولِ الرَّجلِ: (والله لأقومنَّ اللَّيلَةَ) ، وهوَ إنَّما يقومُ بعضَهَا، فهوَ لفظٌ صريحٌ، وهو مجازٌ. * حكمه: لوُضوحِ اللَّفظِ الصَِّريحِ بنفسِهِ في الدَّلالةِ على معناهُ فإنَّ ما يترتَّبُ عليه يصحُّ بمجرَّدِ التَّلفُّظِ به من غيرِ افتِقارٍ إلىنيَّةِ المتكلِّمِ بهِ. فقولُ الرَّجلِ لزوجتِهِ: (أنتِ طالقٌ) ، لا يتوقَّفُ إمضاءُ أثرِهِ الَّذي هو الفرقَةُ بينَ الزَّوجينِ على قصدِ المتكلِّمِ بهِ، ولو قيلَ لرجلٍ: (لِفلانٍ عليكَ مائةُ دينارٍ؟) فقالَ وهوَ في حالِ عقلٍ واستِواءٍ: (نَعَمْ، لِفُلانٍ عليَّ مِئةُ دينارٍ) ، فإنَّ ذلكَ يلزَمُهُ بمجرَّدِ اللَّفظِ.

* تعريف الكناية لغَةً: أن تتكلَّم بشيءٍ وتُريدُ غيرَهُ. واصطلاحًا: اللَّفظُ الَّذي استَتَرَ المعنىَ المُرادُ به فلاَ يُفهمُ إلاَّ بقرينَةٍ. مثلُ: كناياتِ الطَّلاقِ، وهيَ الألفاظُ الَّتي لا تدلُّ بلفظِهَا على الطَّلاقِ، كقولِ الرَّجلِ لزوجتهِ: (أمرُكِ بيدِكِ) ، أو (إلحقِي بأهلكِ) ، أو: (أنتِ عليَّ حرامٌ) ، أو (اذْهبِي فتزوَّجي من شِئتِ) ، أو: (خلَّيتُ سبلَكِ) ، أو: (انتهى ما بَينَنَا) ، أو غير ذلكَ من الألفاظِ ممَّا هو ليسَ بصريحٍ في الطَّلاقِ. * حكمها: لا يترتَّبُ على الكنايَةِ أثرٌ بمجرَّدِ اللَّفظِ حتَّى يقترِنَ بالنِّيَّةِ. فلو قالَ رجلٌ لزوجتِهِ: (خلَّيتُ سبيلَكِ) لم يدلَّ بنفسهِ على الطَّلاقِ حتَّى يقترِنً بنيَّةٍ، ولهُ أن يقولَ: (لم أقصِدِ الطَّلاقَ) ، فيُصدَّقُ بِدَعواهُ. والكِنايَةُ في الجانبِ التَّطبيقِيِّ لا تتَّتصلُ بنصُوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، إنَّما بتصرُّفاتِ المُكلَّفينَ. * * *

القسم الثالث دلالة اللفظ على المعنى

القسم الثالث دلالة اللفظ على المعنى 1ـ الواضح الدلالة * تعريفه: هو ما دلَّ على المُرادِ منهُ بنفسِ صيغتِهِ من غيرِ توقُّفٍ على أمرٍ خارجِيٍّ، وقد يحتملُ التَّأويلَ والنَّسخَ وقدْ لا يحتمِلُهُمَا، على ما سيأتي في ذكرِ مراتبِهِ. * حكمه: كلُّ نصٍّ واضحِ الدَّلالةِ يجبُ العملُ بما هوَ واضحُ الدَّلالةِ عليهِ، ولا يصحُّ تأويلُ ما يحتملُ التَّأويلَ منهُ إلاَّ بدليلٍ. * مراتبه: تُدركُ من أقسامِه التَّاليةِ، فهيَ مُرتَّبةٌ حسبَ الأدنَى في القُوَّةِ والظُّهورِ إلى الأعلَى في ذلكَ، فالظَّاهرُ أدناهَا، وأعلى منهُ النَّصُّ، فالمُفسَّرُ، فالمُحكَمُ. وفائدَةُ معرفةِ هذهِ المراتبِ تظْهرُ عندَ التَّعارُضِ بينَ نصَّينِ فيما يبْدُو للمجتهِدِ، كما سيأتي في مبحثِ (التَّعارُضِ) .

(1) الظاهر

(1) الظاهر * تعريفه: هو ما دلَّ على المُرادِ منهُ بنفسِ صيغَتِهِ من غيرِ توقُّفٍ على أمرٍ خارجيٍّ، وليسَ المُرادُ منه هو المقصودَ أصالَةً من السِّياقِ ويحتملُ التَّأويلَ. * مثاله: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، الآيةُ (ظاهرة) في حلِّ كلِّ بيعٍ وحُرمَةِ كلِّ رِبَا دالةٍ على ذلكَ بنفسِ صيغَتِهَا من غيرِ توقُّفٍ على قرينةٍ، لكنَّ هذا اللَّفظُ غيرُ مقصودٍ أصالَةً بسياقِ الآيةِ، فإنَّها سِقتْ لنفيِ المُماثَلَةِ بين البيعِ والرِّبا والرَّدِّ على من ادَّعى ذلكَ، حيثُ قال الله تعالى قبلَ ذلكَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} . * حكمه: 1ـ يجبُ العملُ بالظَّاهرِ بمُقتضَى ظاهرِهِ، ولا يحلُّ صرْفُه عن ظاهرِهِ إلاَّ بدليلٍ. 2ـ يقبلُ التَّخصيصَ إن كانَ عامًّا، ويقبلُ التَّقييد إن كانَ مُطلقًا، ويحتملُ صرفَهُ عن حقيقَتِه إلى معنًى مجازيٍّ، إذا وردَ ما يصرِفُه عن الظَّاهرِ.

(2) النص

وهذا هو المقصودُ باحتِمالِه التَّأويل، (وانظُر معنى [التأويل] في آخرِ مبحثِ [النَّصِّ] ) . 3ـ يحتَمِلُ أن يُرادَ عليهِ النَّسخُ في عهدِ التَّشريعِ. (2) النص * تعريفه: هو ما دلَّ على المُرادِ منهُ بنفسِ صيغتِهِ من غيرِ توقُّفٍ علىأمرٍ خارجيٍّ، وهو المقصودُ أصالةً من السِّياقِ، ويحتملُ التَّأويلَ. * مثاله: حديثُ أبي هُريرةَ رضي الله عنهُ قالَ: سألَ رجلٌ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسول الله، إنَّا نرْكَبُ البحرَ، ونحملُ معنَأ القليلَ من الماءِ، فإنْ توضَّأنَا به عطشْنَا، أفنتوضَّأُ بماءِ البَحرِ؟ فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هُو الطَّهُورُ ماؤُهُ الحلُّ ميتَتُهُ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أصحابُ السُّنن] . فالمقصوُ بالسِّياقِ أصالةً هو ماءُ البحرِ، فقولهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((هُو الطَّهورُ ماؤُهُ)) نصٌّ في طُهوريَّتِهِ. * حكمه: يستوي معَ (الظَّاهِرِ) في أحكامِهِ المُتقدِّمة.

حقيقة التأويل

حقيقة التّأويل * يطلقُ على معانٍ ثلاثةٍ: 1ـ الحقيقةُ الَّتي يؤولُ إليهَا الكلامُ، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ} [الأعراف: 52ـ 53] ، وعامَّةُ ماوردَ في القرآنِ من لفظِ (التَّأويلِ) فهوَ بهذا المعنَى. 2ـ التَّفسيرُ، وهذا يقعُ في اصطلاحِ المفسِّرينَ للقُرآنِ، يقولونَ: (تأويلُ هذهِ الآيةِ كذا وكذَا) أيْ: تفسيرُهَا. 3ـ صرفُ اللَّفظِ عن ظاهرِهِ بدليلٍ، وهذا اصطلاحُ الأصوليينَ. والأصلُ وُجوبُ العملِ بالظَّاهِر أو النَّصِّ وعدمُ اعتِبارِ مظِنَّةِ التَّأويلِ؛ حتَّى يوجدَ ما يصرفُ ذلكَ إلى معنى آخرَ. وصِفَةُ هذا الصَّارفِ وُجوبُ كونِهِ دليلاً شرعيًّا، كنصٍّ، أو قياسٍ صحيحٍ، أو أصلٍ عامٍّ من أُصولِ التَّشريعِ، فإذَا لم يكُن دليلاً مُعتبرًا في الشَّرعِ كانَ هوًى يجبُ أن تُنزَّه عنهُ نصُوصُ الدِّينِ وَأدلَّتُهُ. * أمثلةٌ للتَّأويلِ المُعتبر: [1] تخصيصُ الظَّاهرِ في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، عن بيُوعٍ، كبيعِ الغَرَرِ، وبيعِ المعدُومِ، وبيعِ

الثَّمرِ قبلَ بُدُوِّ صلاحِهِ. [2] تقييدُ الإطلاقِ في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] ، بالدَّمِ المسفوحِ كما في قوله في الآية الأخرى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] . [3] تأويلُ قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((وصاعًا من تمرٍ)) في حديثِ: ((لا تُصرُّوا الإبلَ والغَنَمَ، فمَنِ ابتَاعَهَا بعدَ ذلكَ فهوَ بِخيرِ النَّظرينِ بعدَ أن يحلُبَهَا: فإن رضِيَهَا أمسكَهَا، وإن سخِطَهَا ردَّهَا وصاعًا من تمرٍ)) [متفقٌ عليه] ، بقيمةِ التَّمرِ، حيثُ أنَّ المقصودَ العِوضُ بدلاً من اللَّبنِ الَّذي احتلبَهُ، وذلكَ يقعُ بالتَّمرِ وغيرِهِ، وهذَا تأويلٌ قدْ فُهمَ وجهُهُ من حِكمةِ الشَّرعِ، فكانَ ظُهورُ ذلكَ دليلاً على صحَّةِ التَّأويلِ. ومثالُ التَّأويلِ بالهوَى: تأويلُ صِفاتِ ربِّ العالمينَ تباركَ وتعالَبى، كتأويلِ اليَدِ بالقُدرَةِ والنِّعمَةِ، وتأويلِ الاستِواءِ على العرشِ بالاستيلاءِ عليهِ، وتأويلِ نزولِه تعالَى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيَا بنُزولِ رحمتِهِ، فهذِهِ وأشبَاهُهَا من صُورِ التَّأويلِ تحكُّمٌ في الغيبِ وقولٌ على الله بغيرِ علمٍ، علَى أنَّ هذا ليسَ من قبيلِ الأحكامِ الَّتي يسوغُ فيها النَّظرُ والاستِنباطُ، بلْ هوَ مِمَّا يجبُ الوُقوفُ فيه عندَ نصِّهِ إثباتًا مع اعتقادِ التَّنزيهِ للهِ ربِّ العالمِينَ عن مُشابَهَةِ الخلقِ.

(3) المفسر

(3) المفسَّر * تعريفه: هو ما دلَّ بنفسِه على معناهُ المُفصَّلِ تفصيلاً ليسَ معهُ احتمالٌ للتَّأويلِ. * مثاله: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ، فذِكرُ العددِ ينفي احتمالَ التَّأويلِ. ومن هذَا كلُّ لفظٍ جاءَ مُجملاً في الكتابِ، وجاءتِ السُّنَّةُ برفعِ إجمالِه وفسَّرتْهُ، فهوَ (مفسَّرٌ) لا يحتملُ التَّأويلَ بمعنى غيرِ ما فُسِّر بهِ، كلفظِ (الصَّلاةِ، والزَّكاةِ) في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] ، فقد جاء في السُّنَّةِ تفسيرُ ذلكَ الإجمالِ ببيانِ صفةِ الصَّلاةِ وأحكَامِهَا، وأصنافِ الزَّكاةِ ومقاديرِهَا وما يتَّصلُ بها، فظهرَ المقصودُ بتفصيلِ السُّنَّةِ بما لا يُبقي مجالاً لتأويلِ تلكَ الألفاظِ. * حكمه: 1ـ يجبُ العملُ بهِ على الوجهِ الَّذي وردَ تفصيلُهُ عليهِ.

(4) المحكم

2ـ يقبلُ أن يرِدَ عليهِ النَّسخُ في عهدِ التَّشريعِ إذا كانَ من الأحكامِ الَّتي يدخُلهَا النَّسخُ. * الفرقُ بينه وبين التأويل كلٌّ منهمَا تبيينٌ للمُرادِ من النَّصِّ، لكنَّ (المُفسَّرَ) تبيينٌ من قِبَلِ الشَّارِعِ فهوَ قطعيٌّ في تعيينِ المُرادِ، أمَّا (التَّأويلُ) فتبيينٌ بالاجتِهادِ، وما كانَ كذلكَ فليسَ بقطعيٍّ في تعيينِ المُرادِ. (4) المحكم * تعريفه: هوَ ما دلَّ بنفسِهِ دلالةً واضحَةً على معناهُ الّضذي لا يقبلُ نسخًا ولا يحتملُ تأويلاً. * مثاله: 1ـ نصُوصُ العقائدِ، كالإيمانِ والتَّوحيدِ، فإنَّها لا تقبلُ التَّبديلَ والتَّغييرَ، كما لا تحتملُ التَّأويلَ، لأنَّ التَّأويلَ اجتهادٌ، ومثلُهَا لا يندرجُ تحتَ ما يجوزُ فيه الاجتهادُ. 2ـ النُّصوصُ الَّتي أمرَتْ بأمَّهاتِ الفضائلِ الَّتي لا يُتصوَّرُ لهَا

تبديلٌ أو تغييرٌ، كنُصوصِ برِّ الوالدينِ وصلَةِ الأرحامِ، والأمرِ بالعدلِ والإحسانِ وتحريمِ الظُّلمِ والعُدوانِ. 3ـ القواعدُ العامَّةُ الَّتي قامتْ عليها شرائعُ الإسلامِ، كرفعِ الحرَجِ، ومنعِ الضَّررِ، واعتبارِ الأمُورِ بمقاصِدِهَا. 4ـ أحكامٌ فرعيَّةٌ جُزئيَّةٌ وردَ النَّصُّ بتأييدِهَا على الوجهِ المُفسَّرِ الَّذي وردَ ذلكَ النَّصُّ بهِ، كما في حديثِ المِعراجِ في قصَّةِ فرضِ الصَّلواتِ ومُراجعَةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ربَّهُ تعالى فخفَّفهَا من خمسينَ صلاَةً في اليومِ واللَّيلةِ إلى خمسٍ، فقال تعالى: ((هِي خمسٌ وهي خمسُونَ لا يُبدلَّلُ القولُ لديَّ)) ، فهذَا نصٌّ مُحكمٌ لا يقبلُ تأويلاً ولا نسخًا أنَّ الصَّلواتِ خمسٌ في اليومِ واللَّيلةِ. * حكمه: يجبُ قطعًا العملُ بما دلَّ عليهِ، وهو أعلَى أقسامِ (الواضِحِ الدَّلالَةِ) مرتبَةً، وهوَ حُجَّةٌ قطعيَّةُ الدَّلالَةِ. * * *

2ـ غير الواضح الدلالة

2ـ غير الواضح الدلالة "تعريفه: هوَ ما لا يدُّ على المُرادِ منهُ بنفسِ صيغَتِهِ بلْ يتوقَّفُ فهمُ المُرادِ منهُ على أمرٍ خارجيٍّ. * مراتبه: تُدركُ من أقسامِه التَّاليَّةِ، فهيَ مُرتَّبةٌ حسبَ الأقلِّ في الخفاءِ والغُموضِ إلى الأشَدِّ في ذلكَ، فالخفيُّ أظهرُ من المُشكلِ، والمُشكِلُ أظهرُ من المُجملِ، والمُجملُ أظهرُ من المُتشابهِ. * * *

(1) الخفي

(1) الخفي * تعريفه: هوَ اللَّفظُ الَّذي يدلُّ على معناهُ دلالَةً ظاهرَةً، لكنْ في انطِباقِ معناهُ على بعضِ الأفرادِ خفاءٌ وغُموضٌ يحتاجُ كشْفُهُ إلى نظرٍ وتأمُّلٍ. وسببُ الخفاءِ في هذا الفردِ: أنَّ فيه صِفَةً زائدَةً على سائرِ الأفرادِ، أو ناقصَةً عنهُم، أو لهُ اسمٌ خاصٌّ أوردَ الاشتِباهَ. * مثاله: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، لفظُ (السَّارقِ) معناهُ ظاهرٌ، وهو (منْ يأخُذُ المالِ من حِرزِ مثلِهِ خُفيةً) . لكنْ هذا المعنى هلْ ينطبقُ على من تٌسمِّيهِ العامَّةُ (النَّشَّال) ، و (النَّبَّاشِ) ؟ (النَّشَّالُ) فيهِ صفةٌ زائدَةٌ على صِفَةِ السَّارقِ، فإنَّهُ جمعَ وصفَهُ وزادَ مهارَةً فيهِ وجُرأةً عليهِ، و (النَّبَّاشُ) نقصَ وصْفًا عنِ السَّارِقِ، وهو َكونُهُ لا يأخُذُ مملوكًا من حِرزٍ. فالاجتِهادُ ألحقَ (النَّشَّالَ) بـ (السَّارقِ) لأنَّهُ استوعَبَ وصفَهُ وزادَ، فهوَ أولى بِتناوُلِه الحُكمَ، لكن اختلفَ الفُقهاءُ في (النَّبَّاشِ) فمنهُم من ألحقهُ بـ (السَّارقِ) ، ومنهُم من جعَلَ النَّقصَ في وصفِهِ عن (السَّارق)

(2) المشكل

شُبهةً يُدرأُ بها الحدُّ. * حكمه: لايعملُ بهِ إلاَّ بعدَ إزالَبةِ الخفاءِ بالنَّظرِ والتَّأمُّلِ، فإنْ ظهرَ أنَّ اللَّفظَ يتناولهُ بوَجْهٍ من وُجوهِ الدَّلالةِ أخَذ حُكمَ ما دلَّ عليهِ ذلكَ اللَّفظُ، وإلاَّ لم يأخُذْ حُكمَهُ. (2) المشكل * تعريفه: هوَ اللَّفظُ الَّذي لا يدلُّ بصيغتِهِ على المُرادِ منهُ، وإنَّما يتوقَّفُ فهمُ المُرادِ منهُ على قرينةٍ خارجيَّةٍ يُمكنُ التَّوصُّلُ إليها عن طريقِ البحثِ. * مثاله: يرِدُ في صُورتينِ: 1ـ اللَّفظُ المُشتركِ، كالَّذي تقدَّمً التَّمثيلُ لهُ بقولهِ تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، وأنَّ (القُرءَ) مُشتركٌ بين (الطُّهرِ) و (الحَيضِ) ، فأيُّهمَا المُرادُ؟ لا ريبَ أنَّ نفسَ لفظِ (قُروءٍ) في الآيةِ لا يرفَعُ الإشكالَ ويُبيِّنُ المُرادَ بنفسِهِ، بلْ يحتاجُ إلى قرينةٍ خارجيَّةٍ تعتَمِدُ على النَّظرِ والاجتهادِ، ولِذا كانَ من

موارِدِ اختلافِ الفُقهاءِ. 2ـ النّصَّينِ ظاهرُهُما التَّعارضُ: ومثالُه من الكتابِ قولهُ تعالى في سورةِ السَّجدَةِ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5] مع قولِهِ عزَّوجلَّ في سورةِ المعارجِ {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] ، فهذا مُشكلٌ، ومنَ العُلماءِ من تقحَّم الجوابَ فقالَ باجتِهادِهِ، ومنهُم من توقَّفَ، وهذا شأنُ العالمِ عندَ العَجزِ عن التَّوفيقِ بينَ ما ظاهرُهُ التَّعارضُ، وهو واردٌ في الأحكامِ وفي غيرِهَا. فمنَ الأقوالِ في رفعِ الإشكالِ: أنَّه في الموضعينِ يومُ القِيامَةِ، والمعنى: أنَّ الزَّمانَ يطولُ بحسبِ الشَّدائدِ الواقعَةِ فيهِ، فيطولُ على قومٍ ويقصُرُ على آخرينَ بحسبِ الأعمالِ. وعنِ ابنِ أبي مُليكَةَ، قالَ: سألَ رجلٌ ابنَ عبَّاسٍ عن {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قالَ: فاتَّهمهُ، فقيلَ لهُ فيهِ، فقالَ: ما يومٌ {كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ؟ فقالَ: إنَّما سألتُكَ لتُخبرَنِي، فقالَ: هُما يومانِ ذكرَهُما الله جلَّ وعزَّ، اللهُ أعلمُ بهمَا، وأكرهُ أن أقولَ في كتابِ الله بما لا أعلمُ [أخرجه جريرٍ في ((تفسيره)) 29/72 بسندٍ صحيحٍ] .

ومثالُه من السُّنَّةِ حديثُ أبي هريرَةَ رضي الله عنه قالَ: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((لا عَدوَى ولا صفرَ ولا هامَّةَ)) فقال أعرابيٌّ: يا رسول الله، فما بالُ إبلِي تكونُ في الرَّملِ كأنَّها الظِّباءُ، فيأتي البعيرُ الأجرَبُ فيدخُل بينهَا فيُجربُهَا، فقال: ((فمن أعدَى الأوَّلَ؟)) [متفقٌ عليه] ، معَ قولهِ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ أبي هريرةَ الآخرِ: ((لاعدوى ولا طِيرةَ ولا هامَةَ ولا صفرَ، وفرَّ من المجذُومِ فِرَارَك من الأسدِ)) [علَّقهُ البُخاريُّ] . دَلاَلةُ الحديثِ الأوَّلِ أنَّ كُلَّ شيءٍ بقدرٍ، وأنَّهُ لا يُعدَى شيءٌ شيئًا بنفسِهِ، وليسَ فيه نفيُ أسبابِ انتِقالِ المرضِ إذا وُجِدَ، والحديثُ الثَّاني دلَّ على اتِّقاءِ ما وُجِدَ فيه سببُ الإعداءِ من الأمراضِ، إذْ وجودُ السَّببِ يُهيِّءُ وُجودَ المُسبَّبِ ويُساعِدُ عليهِ، وإن كانَ لا يقعُ الإعداءُ إلاَّ بمشيئةِ الله عزَّوجلَّ، لِذا فإنَّهُ قد يقعَ وقدْ لا يقعْ، فجاءَ الأمرُ باتِّقائِهِ متناسِقًا مع أصْلِ هذهِ الشَّريعَةِ في الأخذِ بالأسبابِ، وهذا شبيهٌ بقولهِ - صلى الله عليه وسلم - في الطَّاعونِ: ((إذا سمِعتُم بهِ بأرضٍ فلا تقدَمُوا عليهِ، وإذا وقعَ بأرضٍ وأنتُم بها فلا تخرُجوا فِرارًا منهُ)) [متفقٌ عليه] . وهذِهِ صُورةٌ من التَّأويلِ المُحتملِ لإعمالِ الدَّليلينِ وعَدمِ إهمالِ أحدِهِمَا. * حكمه: السَّبيلُ لإزالَةِ الإشكالِ في النُّصُوصِ هو الاجتِهادُ، فعلَى المجتهدِ

(3) المجمل

أن يبذُل وُسعهُ للوُقوفِ على المعنى المقصودِ، مُستعينًا بالقرائنِ أو بأدلَّةٍ أخرى من نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ أو بأصولٍ شرعيَّةٍ عامَّةٍ. (3) المجمل * تعريفه: هوَ اللَّفظُ الَّذي لا يدلُّ بصيغتهِ على المُرادِ منهُ، وليسَ ثمَّةَ قرينةٌ تُساعدُ على معرِفتِهِ، ولا تُفهمُ دلالَتُهُ إلاَّ ببيانٍ ممَّن أجملَهُ. * مثاله: 1_ الألفاظُ الشَّرعيّةُ الَّتي تتوقَّفُ معرفةُ المُرادِ منها على تفسيرِ الشَّارعِ لهَا، كلفظِ (الصَّلاَةِ والزَّكاةِ والصَّومِ والحجِّ) ، فإنَّ الشَّرعَ أرادَ بها غيرَ معناهَا اللُّغويِّ، ومجرَّدُ الأمرِ بها من غيرِ وُقوفٍ على بيانِ المُرادِ منها إجمالٌ، فهيَ لا تدلُّ على مُرادِ الشَّرعِ بمجرَّدِ صيغتِهَا، ولا طريقَ للعِلمِ بها إلاَّ بِبيانِ الشَّرعِ نفسِهِ. فلِذَا يُقالُ: (الصَّلاةُ) لفظٌ مُجملٌ في القرآنِ، لمْ يُفهَمُ المُرادُ بهِ إلاَّ بِبيانِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم -. ومن ذلكَ لفظُ (الحقِّ) في قوله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، وقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((أُمرتُ أن أقاتِلَ النَّاسً حتَّى يشهدُوا أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله، ويُقيمُوا الصَّلاةَ، ويُؤتُوا

الزَّكاةَ، فإذا فعلُوا عصمُوا منِّي دِماءَهُمْ وأموالَهُم إلاَّ بحقِّهَا وحسابُهُم على الله)) [متفقٌ عليه عن ابنِ عُمرَ] ، فهذا لفظٌ مجهولُ القَدرِ أو مجهُولُ الجِنسِ، فيحتاجُ إلى البيانِ. 2ـ اللَّفظُ المُشتركُ الَّذي لم يقُم دليلٌ على تعيينِ المُرادِ منهُ، كلفظِ (القُرءِ) المتقدِّمِ في قسمِ (المُشترَك) . 3ـ اللَّفظُ الغريبُ المُبهمُ، كلفظِ (القارعَة) في قوله تعالى: {الْقَارِعَةُ} بيَّن الله تعالى مُرادَهُ منها بعدَ ذلك فقالَ: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} الآيات [القارعة: 2ـ 5] ، ولولاَ بيانُهُ عزَّوجلَّ لم نفهَمْ منهَا هذا المعنى. * حكمه: (المُجملُ) لتعذُّرِ العلمِ بالمُرادِ منه إلاَّ عن طريقِ الشَّرعِ، ولا مجالَ فيه للاجتهادِ، فالأصلُ فيه التَّوقُّفُ حتَّى يوجَدَ تفسيرُهُ من جهةِ الكتابِ والسُّنَّةِ، فإنْ وُجدَ مُستوفًى لا شُبهَةَ فيه انتقلَ من وصفِ (المُجمل) إلى وصفِ (المُفسَّرِ) من أقسمِ (الواضِحِ الدَّلالةِ) ، وإن بيَّنَهُ الشَّرعُ بعضَ البيانِ مع بقيَّةِ خفاءٍ كانَ من قسمِ (المُشكِلِ) للاجتهادِ فيهِ مجالٌ. واعلمْ أنَّ كلَّ ما يثبُتُ به التَّكليفُ العمليُّ ويتَّصلُ به الفقْهُ فإنَّهُ يستحيلُ استِمرارُ الإجمالِ فيهِ، فلا بدَّ أن تكونَ الشَّريعَةُ بيَّنتهُ، وإنْ

(4) المتشابه

كانَ قدْ تخفى معرفتُهُ على بعضِ أفرادِ العُلماءِ، فإنَّ العلمَ بحقيقةِ المُرادِ منهُ لاتخفى على جميعِ الأمَّةِ. * مسألة: قدْ يكونُ النَّصُّ مجملاً في بعضِ معناهُ بيِّنًا في بعضهِ، فيُعملٌُ بما كانَ بيِّنًا منهُ، ويُطلبُ بيانُ الإجمالِ في سائرِهِ، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] ، فهذا النَّصُّ واضحٌ في وجوبِ الإنفاقِ من المكاسبِ وممَّا تُخرجُه الأرضُ، مُجملٌ في بيانِ مقدارِ الواجبِ، فيُطلبُ بيانُهُ من غيرهِ. (4) المتشابه * تعريفه: هوَ اللَّفظُ الَّذي لا تدلُّ صيغَتُهُ على المُرادِ منهُ، وليسَ ثمَّةَ قرائِنُ تُبيِّنُه، واستأثرَ الله عزَّوجلَّ بعلمِ حقيقتِهِ. هذا أفضلُ ما عرَّفُوا به (المُتشابهَ) ، وقَدِ اضْطرَبَتْ تعريفاتُ الأصوليِّينَ لهُ، مع أنَّهُم جعلوهُ مُقابلاً لـ (المُحكمِ) ، وهذهِ مُقابلَةٌ صحيحةٌ في كتابِ الله تعالى، والقُرآنُ يشهدُ لصحَّةِ التَّعريفِ المذكُورِ، وذلكَ أنَّ الله تعالى قال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ

مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] ، فجعلَ (المُحكمَ) أُمَّ الكتابِ، و (أُمُّ الشَّيءِ) مُعظمهُ وأكثرُهُ، أمَّا (المُتشابه) فجاء فيه بلفظٍ يدلُّ على التَّقليلِ، وهذا هو المُتناسبُ مع ما أنزل الله تعالى القرآنَ لأجلِهِ، أن يكونَ أكثرُهُ واضحًا لا لبسَ فيه ولا إشكالَ، ما خفِي منهُ على فردٍ علِمهُ الآخرُ، وهذا معنى وصفِ القرآنِ بالهدايَةِ والتِّبيانِ والنُّورِ والضِّياء وماءِ الحياةِ والاستِقامَةِ، ثمَّ إنَّ الآية دلَّت على أنَّ الله تعالى استأْثرَ بِعلمِ (المُتشابه) ، لا يُدركُ حقيقتهُ حتَّى العُلماءُ، بلْ يقولُونَ: {آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، وما كانَ كذلكَ امتنعَ جزمًا أنْ يرادَ به التَّشريعُ للأمَّةِ، لأنَّ الله تعالى لا يُمكنُ أن يُكلِّفَ العِبادَ ما لا يُدركُ معناهُ خاصَّتُهُم من أهلِ الذِّكرِ والعلمِ الَّذين هُمُ المفزَعُ لمعرفةِ الدِّينِ. فإذا ظهرَ هذا علِمنَا امتنَاعَ دخولِ شيءٍ من الأحكامِ تحتَ معنَى (المُتشابه) . إذًا تسألُ: ما مِثالُ (المُتشابِه) ؟ * مثاله: نُصُوصُ صفاتِ الله عزَّوجلَّ، لا مِن جهةِ معانيها، فإنَّهَا بألفاظٍ

عربيَّةٍ مُدركَةِ المعاني، كصفاتِ الذَّاتِ، مثلُ: (اليَدِ، والوجهِ، والعينِ) ، أو صفاتِ الفِعلِ (كنفخِ الرُّوحِ، وإبدَاعِ الخلقِ، وإنزالِ الرِّزقِ) ، فهذهِ بألفاظٍ عربيَّةٍ لا يخفى العِلمُ بها، وإنَّما الاشتِباهُ في إدراكِ كيفيَّاتهَا وكُنههَا، فالله عزَّوجلَّ مع تعرُّفِهِ إلى خلقِهِ بأسمائِهِ وصِفاتِهِ، إلاَّ أنَّه احتجبَ عنهُم بذاتِهِ، وحذَّرهُمْ من أن يُقيمُوا له صورَةً في الأذهانِ، فقالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، فهوَ مع سمعِه وبصرِهِ وسائرِ صفاتِهِ الَّتي نُدركُ معاني ألفاظِهَا ونعلمُ فوارقَ ما بينهَا في دلالاتِها، إلاَّ أنَّه ليسَ كمِثلهِ شيءٌ فيها، فليسَ سمعٌ كسَمعِنَا ولا بصرٌ كبصرِنَا. والأمرُ في ذلكَ كلِّه على القاعدَةِ المالكيَّةِ، فقدْ سُئلَ الإمامُ مالكُ بنُ أنسٍ رحمه الله عن استِواءِ الله تعالى على عرشِهِ؟ فقالَ: الكيفُ غيرُ معلومٍ، والاستِواءُ غيرُ مجهولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسُّؤالُ عنهُ بدْعَةٌ. ومن الدَّليلِ على صحَّةِ هذا المِثالِ لـ (المُتشابِهِ) حديثُ عائشَةَ رضي الله عنهَا قالتْ: تلاَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} الآية إلى آخرِهَا [آل عمران: 7] ، قالتْ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتُمُ الَّذينَ يتَّبعُونَ ما تشابَه منهُ فأولئِكَ الَّذينً سمَّى الله فَاحْذرُوهم)) [متفقٌ عليه] .

ومن النَّاسِ من زعَمَ أنَّ (المُتشابهَِ) هو الحُروفُ المقَطَّعةُ في أوائلِ بعضِ سُورِ القرآنِ، ولييسَ هُناكَ ما يمنعُ ذلكَ، خاصَّةً وأنَّها لم يُدركْ معناهَا، وخاضَ بعضُ العُلماءِ فيها من غيرِ فائدَةٍ، ولكنَّا نعلمُ يقينًا أنَّ الأمَّةَ لم تتفرَّقْ في الحُروفِ المُقطَّعةِ فرَقًا، ولمْ تتَّبع ذلكَ ليضلَّ فيه طوائفُ من الخلقِ، ولم يقعْ بها ضربٌ لنُصوصِ الكتابِ بِبعضِهَا، فأينَ الحُروفُ المقَطَّعةُ من قولهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} وأينَ هيَ من تحذيرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ هذا المِقدارُ كافٍ لإدراكِ حقيقةِ (المُتشابهِ) ، ولولاَ أنَّه من مقتضياتِ تتمَّةِ القولِ في دلالاتِ النُّصوصِ، لكانَ جديرًا بأن لا يُذكرَ في (علمِ أصُولِ الفِقهِ) فإنَّه ليسَ من موضُوعِهَا، لأنَّه كما تقدَّم لا يتَّصلُ به شيءٌ من التَّكاليفِ. * حكمه: الإيمانُ به كما ورَدَ من غيرِ تشبيهٍ ولا تكييفٍ، ولا تعطيلٍ ولاَ تحريفٍ، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7ـ 8] .

القسم الرابع كيفية دلالة اللفظ على المعنى

القسم الرابع كيفية دلالة اللفظ على المعنى 1ـ عبارة النص * المقصودُ بها: دلالةُ اللَّفظِ على المعنى المُتبادِرِ فهمُه من نفسِ صيغَتِهِ. ويسمَّى (المعنى الحرفيَّ للنَّصِّ) . * مثال: أكثرُ أحكامِ الشَّريعةِ مُستفادَةٌ من عباراتِ نصُوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ، والعلَّةُ في ذلكَ أنَّ الله تعالى أرادَ أن يكونَ قانونًا متَّبعًا، ولا يتهيَّأُ ذلكَ إلاَّ إذا كانَ مفهومًا مُدركًا للمُكلَّفِ دالاًّ على المُرادِ منهُ بنفسِ صيغةِ الخِطابِ. فلوْ أخذتْ لهُ مثالاً بقولهِ تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] ، فعبارةُ النَّصِّ دلَّتْ بلفظِهَا على أحكامٍ ثلاثةٍ هي: 1ـ إباحَةُ النِّكاحِ. 2ـ تحديدُ تعدُّدِ الزَّوجاتِ بأربعٍ كحدٍ أقصَى. 3ـ وُجوبُ الاكتِفاءِ بواحدَةٍ عندَ خوفِ الجورِ.

2ـ إشارة النص

2ـ إشارة النص * المقصود بها: دلالةُ اللَّفظِ على معنى غيرِ مقصودٍ من سياقِه، لكنَّهُ لازمٌ لِما يُفهمُ من (عبارَةِ النَّصِّ) . وقد يكونُ التَّلازُمُ بينَ (العبارَةِ) و (الإشارَةِ) ظاهرًا، وقد لا يُدركُ إلاَّ بِبحثٍ وتأمُّلٍ. * أمثلة: 1ـ قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نسائكم} حتَّى قالَ: {فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] عبارَةُ النَّصِّ: إباحةُ إتيانِ الزَّوجَةِ في ليلَةِ الصِّيامِ في أيِّ وقتٍ من اللَّيلِ، إلى ظُهورِ الفجرِ، وإشارَةُ النَّصِّ: أنَّ الجنابَةَ لا أثرَ لها في الصَّومِ، وذلكَ أنَّ من له أن يُجامعَ ولوْ في آخرِ لحظَةٍ من اللَّيلِ فإنَّهُ قد يُصبحُ جُنبًا، فلازِمُ الإباحَةِ أنَّ الجنَابَةَ لا أثرَ لهَا. 2ـ قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] عبارَةُ النَّصِّ: وُجوبُ سُؤالِ أهلِ الذِّكرِ عندَ عدَمِ العِلمِ، والإشارَةُ: وُجوبُ إيجادِ أهلِ ذِكرِ لِيُسألُوا، إذْ لا يُمكنُ سُؤالُ

3ـ دلالة النص

أهلِ ذِكرٍ لا وُجودَ لهُم. 3ـ قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاق: 15] مع قولِهِ عزَّوجلَّ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] أشارَ إلى أنَّ أقلَّ مُدَّةِ الحملِ ستَّةُ أشهُرٍ. 4ـ قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] دلالَةُ العبارَةِ: وُجوبُ النَّفقةِ للوَالِداتِ على الأبِ، ودلالةُ الإشارَةِ: وُجوبُ نفقةِ الابنِ عليهِ كذلكَ لنِسبَتِهِ إليهِ بقولهِ: {لَهُ} فهُو كما لا يُشاركُه أحدٌ في النِّسبةِ فلا يُشاركُه أحدٌ في وجوبِ هذهِ النَّفقَةِ. 3ـ دلالة النص * المقصود بها: دلالَةُ اللَّفظِ على ثُبوتِ حكمِ المنطوقِ (أي: عبارة النَّصِّ) لمسكوتٍ عنهُ لاشتِراكِهِمَا في علَّةِ الحُكمِ. وهذهِ العلَّةُ تُدركُ بمجرَّدِ فهمِ اللُّغةِ، لا تتوقَّفُ على بحثٍ واجتهادٍ، وتدلُّ على كونِ المسكوتِ عنه أولَى بالحُكمِ من المنطُوقِ، أو مُساويًا لهُ. * أمثلته: 1ـ قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] ، دلالَةُ

العبارَةِ: تحريمُ قولِ (أفٍّ) للوالدينِ، وهذا هوالمنطُوقِ، ودلالَةُ الدَّلالةِ: تحريمُ سبِّهمَا وشتمِهمَا ولعنِهمَا، وهذا هو المسكوتُ عنهُ، فنبَّه بمنعِ الأدنَى على منعِ ما هوَ أولى منهُ، وهوَ معنَى يُدركُ من غيرِ بحثٍ ولا نظرِ. 2ـ قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، دلالة العبارةِ: أخْذُ الجزيَة من أهلِ الكتابِ صغارًا، ودلالَةُ الإشارَةِ: أخذُهَا من الوثَنِيِّ، لأنَّهُ أولى بالصَّغارِ من الكِتابيِّ، هذا الاستِدلالُ للمالكيَّةِ. وتقدَّمً في (القياسِ) تسميةُ هاتينِ الصُّورتينِ بـ (قياسِ الأولَى) . 3ـ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] ، دلالَةُ العبارَةِ: حُرمَةُ أكلِ أموالِ اليَتَامَى، وهذا هو المنطُوق، ودلالةُ الدَّلالَةِ: تحريمُ إحراقِها وإغراقِهَا، وهذا هو المسكوتُ عنهُ، فنبَّه بالمنعِ من الأكلِ على كُلِّ ما يُساويهِ في الإتلافِ. وتقدَّم في (القِياسِ) تسميةُ هذهِ الصُّورَةِ بـ (قياسِ المُساوَاةِ) .

4ـ اقتضاء النص

* تنبيهان: 1ـ تُسمَّى (دلالة النَّصِّ) بـ (القِياس) تجوُّزًا لوجودِ معناهُ فيهَا، وإن كانَ فهمُهَا لا يتوقَّفُ على اجتهادٍ. 2ـ تُعرفُ (دلالَةُ النَّصِّ) عند العُلماءِ بألقابٍ، هيَ: [1] مفهومُ المُوافقَة، والوجهُ فيهِ ظاهرٌ ممَّا تقدَّم. [2] فحْوى الخِطابِ، و (الفَحوَى) المعنَى، ويُسمَّى بهذا إذا كانَ طريقُ الدَّلالةِ بالأولويَّة. [3] لحنُ الخِطابِ، إذا كانَ طريقُ الدَّلالَةِ المُساواة. [4] القياسُ الجليِّ، ووجهُهُ عدمُ الحاجَةِ في فهمِهِ إلى اجتهادٍ مع وجودِ صورةِ القِياسِ فيه. 4ـ اقتضاء النص * المقصود به: المعنَى الَّذي لا تستقيمُ دلالَةُ الكلامُ إلاَّ بتقديرهِ. * من أمثلته: 1ـ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] عِبارَةُ النَّصِّ: تحريمُ أشخاصِ الأمَّهاتِ، وهذا لا معنَى له وليسَ

مُرادًا بالنَّصِّ قطعًا، فاقتضَى تقديرَ شيءٍ في الكلامِ لتَظهرَ دلالتُهُ، وذلكَ التَّقديرُ مُستفادٌ بمجرَّدِ امتناعِ دلالةِ العِبارَةِ، فكانَ المقدَّرُ ههُنَا: (نِكاحُهُنَّ) . 2ـ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله وضعَ عن أمَّتي الخَطأ والنِّسيانَ وما استُكرهُوا عليهِ)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ ابن ماجة وغيرُهُ] ، فالعبَارَةُ: وضعُ نفسِ الخَطإ والنِّسيانِ وما يُكرهُ عليهِ، والواقعُ أنَّ الخطأ والنِّسيانَ وما يُكرهُ عليهِ أمورٌ موجودةٌ غيرُ موضوعةٍ، ولا ريبَ أنَّ الشَّارعَ ما أرادَ هذا المعنى، إنَّما هُنالكَ شيءٌ يجبُ تقديرهُ في الكلامِ يقتضيهِ النَّصُّ، وهوَ: (إثمُ) الخطإِ والنِّسيانِ وما أُكرهَ عليهِ. 3ـ قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] التَّقديرُ: فمنْ كان منكُم مريضًا أو على سفرٍ (فأفطرَ) فعدَّةُ من أيامٍ أُخرَ. ومثلهُ قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] ، التقديرُ: فمن كانَ منكُم مريضًا أو بهِ أذًى من رأسِهِ (فحلقَ شعرَهُ) ففِدْيةٌ.

5ـ مفهوم المخالفة

5ـ مفهوم المخالفة * المقصود به: إثباتُ نقيضِ حكمِ المنطوقِ به للمسكوتِ عنهُ. ويسمُّونهُ (دليلَ الخطابِ) ، لأنَّ الخطابَ دلَّ عليهِ. * أنواعه: 1ـ مفهوم الصِّفة: هو أن يدلَّ اللَّفظُ المقيَّدُ بوصفٍ على نقيضِ حُكمهِ عندَ انتِفاءِ ذلكَ الوصفِ. ويدخلُ في (الصِّفةِ) كلُّ قيدٍ ليسَ بشرطٍ أو غايةٍ أو حصرٍ أو عددٍ أو لقبٍ، فهذه الخمسةُ سيأتي بيانُ دلالاتها مستقلَّةً. مثالهُ: قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] المنطوقُ: وجوبُ تحريرِ رقبةٍ مؤمنَةٍ، والمفهومُ: منعُ تحريرٍ رقبةٍ كافرةٍ. ومنهُ حديثُ: ((وفي صدقةِ الغنمِ في سائمتِهَا إذا كانتْ أربعينَ إلى عشرينَ ومئَةٍ شاةٌ)) [أخرجه البخاريُّ في حديث أبي بكرٍ في الصَّدقاتِ] ، فعُلِّقتْ زكاةُ الغنمِ بوصفِ (سائمة) ، والسَّائمَةُ هي الَّتي ترعى بنفسِهَا لا تُعلفُ، هذا هو المنطُوقُ، والمفهومُ: لا زكاةَ في

المعلوفَة. 2ـ مفهوم الشَّرطِ: هو أن يدلَّ اللَّفظُ المقيَّدُ بشرطٍ على ثبوتِ نقيضهِ عندَ انتِفاءِ الشَّرطِ. مثالهُ: قوله تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ} [النساء: 4] ، المنطُوقُ: إباحَةُ ما طابتْ بهِ نفسُ الزَّوجَةِ من مهرِهَا، والمسكوتُ: حرمَةُ ذلكَ بغيرِ طيبِ نفسٍ منها. 3ـ مفهوم الغاية: هو أن يدلَّ اللَّفظُ المقيَّدُ بغايةٍ على نقيضِ حكمِهِ عندَ انتفاءِ تلكَ الغايةِ. مثالهُ: قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ، المنطوقُ: وجوبُ قتالِ الفِئةِ الباغيَةِ لغايةِ أن تفيءَ، والمفهومُ: تركُ قتالِهَا بعدَ أن تفيءَ. 4ـ مفهوم الحصر بـ (إنَّما) : هو إثباتُ الحكمِ لشيءٍ بصيغةٍ ونفيُهُ عمَّا عداهُ بمفهومِ تلكَ الصِّيغةِ.

وهو قد يقعُ بغيرِ (إنَّما) ، لكنْ هذا الَّذي يصحُّ اندراجُه منها تحتَ (أنواع المفهوم) . مثالهُ: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ)) [متفقٌ عليه] ، المنطوقُ: اعتبارُ الأعمالِ بالنِّيَّاتِ، والمفهومُ: عدمُ اعتبارهَا بغيرِ النِّيَّاتِ. 5ـ مفهوم العددِ: هو أن يدلَّ اللَّفظُ المقيَّدُ بعددٍ على نقيضِ حُكمهِ عند انتفاءِ ذلكَ العَدد. مثالهُ: قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] ، المنطوقُ: وجوبُ صيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ، والمفهومُ: ما نقصَ عن ذلكَ أو زادَ عليهِ. 6ـ مفهوم اللَّقب: هو دلالةُ اللَّفظِ الَّذي عُلِّقَ الحُكمُ فيهِ بالاسمِ العَلمِ على انتفاءِ ذلك الحُكمِ عن غيرِهِ. مثالهُ: قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] ، مفهومهُ: غيرُ محمَّدٍ ليسَ رسولَ الله. وقولهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((في الحَجْمِ شفاءٌ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أبو نُعيمٍ الأصبهاني في ((الحلية)) 3/121 بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد الله بنِ سرْجِس] ، مفهومهُ: ليسَ في غيرِ الحَجْمِ شفاءٌ.

* حجية المفهوم هلْ مفهومُ المخالفَةِ حُجَّةٌ؟ في ذلك تفصيلٌ، وهو ورادٌ على ثلاثةِ أقسامٍ: 1ـ ليسَ بحُجَّةٍ عندَ جمهورِ العلماءِ إلاَّ في قولٍ شاذٍّ قال بهِ بعضُ الشَّافعيَّة والحنابلَةِ، وهو (مفهومُ اللَّقبِ) ، وفسادُه ظاهرٌ. 2ـ حجَّةٌ اتِّفاقًا، وهو أنواعُ المفهومِ الأخرى (الوصفُ، والشَّرطُ، والغايةُ، والحصرُ، والعددُ) في غيرِ نصوصِ الكتابِ والسُّنَّة، أيْ: في ألفاظِ النَّاسِ في العُقودِ والمُعاملاَتِ وعباراتِ المؤلِّفينَ والفقَهاءِ. فقولُ القائلِ: (وقفُ هذه الدَّارَ على طلََةِ العُلومِ الشَّرعيَّة) نصٌّ في اختصاصِهم بها، مفومُهُ: ليستْ وقفًا على غيرهِم، وإذا قالَ: (إنَّما هذا لكَ) أيْ: ليسَ لغيرِكَ. 3ـ مختلفٌ فيه على مذهبينِ مشهورينِ: [1] أكثرُ العلماءِ: المفاهيمُ الخمسَةُحجَّةٌ في جميعِ النُّصوصِ، لافرقَ في الاعتِدادِ بها بينَ نُصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ، أو اعتبارَاتِ النَّاسِ، ومنهُم من يتردَّدُ في بعضهَا كفهومِ (العَدَد) . ومن الدَّليلِ على الاحتجاج بها: أنَّه المتبادرُ إلى الفهمِ من أساليبِ العربيَّة، فقولُك لإنسانٍ: (إنْ تفعلِ الخيرَ تُفلحْ) دالٌّ بمفهومِه على: (إن لا تفعلِ الخيرَ لا تُفلِحُ) ، وإلاَّ فلا فائِدَةَ من تعليقِ الجزاءِ على

الشَّرطِ. ورَوَى مُسلمٌ عن يعلى بنِ أُميَّةَ قالَ: قلتُ لِعُمرَ بنِ الخطَّابِ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فقدْ أمنَ النَّاسُ؟ فقالَ: ((صدَقَةٌ تصدَّقَ الله بها عليكُم فاقبَلُوا صدَقتَهُ)) . فهذا دليلٌ على صحَّةِ الاستِدلالِ بالمفهومِ عندَهُم، فإنَّ سليقَةَ عُمرَ العربيَّة جعلتْهُ يعجبُ من بقاءِ الحُكمِ عندَ انتِفاءِ الشَّرطِ لأنَّه مُدركٌ أنَّ الأصلَ عدَمُهُ، حتَّى بيَّن لهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ بقاءَ الحُكمِ صدَقَةٌ من الله تعالى على المُسلمينَ. [2] الحنفيَّةُ ووافقَهُم بعضُ العلماءِ من غيرِهِم: ليسَ بِحُجَّةٍ في نُصوصِ الشَّريعَةِ. والسَّببُ أنَّهُم رأوْا كثيرًا من صُورِ المفهومِ غيرَ مُرادَةٍ. * الراجح: صحَّةُ أن يكونَ المفهومُ مُدركًا من لسانِ العربِ وأساليبِهَا، تدلُّ على أنَّهُ لا يصلُحُ اعتبارُ الاستِدلالِ به في سائرِ الكلامِ العربيِّ دُونَ نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ، لكن يجبُ أن يُضبطَ بِبعضِ الشُّروطِ لإخراجِ ما لا يصحُّ أن يُستدلَّ به لهُ.

شروط الاحتجاج بالمفهوم

* شُروط صحته: 1ـ أن يسلمَ الحُكمُ من المُعارضِ. فمفهومُ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وفي صَدَقةِ الغنمِ في سائمتِهَا إذا كانتْ أربعينَ إلى عِشرينَ ومئَةٍ شاةٌ)) [أخرجه البُخاريُّ] ، أن لا زكاةَ في المعلوفَةٍ، بشرطِ أن لا يكونَ الدَّليلُ ثبتَ بوجوبِ الزَّكاةِ فيهاَ. فاستِدلالُ بعضِ المالكيَّةِ بمفهومِ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الثَّيِّبُ أحقُّ بنفسِهَا من وليِّهَا)) أنَّ البِكرَ تُجبرُ، استِدلالٌ بالمفهومِ مع قيامِ المُعارضِ، كما أشعرَ به سِياقُ الحديثِ بتمامِهِ، فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((الثَّيِّبُ أحقُّ بنفسِها من وليِّها، والبِكرُ تُستأمَرُ وإذْنُها سُكوتهَا)) [أخرجه مسلمٌ من حديث ابن عبَّاسٍ] ، بل هو كذلكَ عندَ مالكٍ في ((موطَّئهِ)) بلفظ: ((الأيِّمُ أحقُّ بنفسهَا من وليِّهَا، والبِكرُ تُستأذَنُ في نفسِهَا، وإذنُهَا صُماتُها)) ، فلو صحَّ إجبارُهَا لم يكُن لاستِئذانِها معنَى، وثبتَ من حديثِ ابنِ عبَّاسٍ وغيرهِ أنَّ جاريَةً بِكرًا أتَتِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكرتْ أنَّ أباهَا زوَّجَها وهي كارِهةٌ، فخيَّرها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -[أخرجه أبوداود وغيرهُ، وهو صحيحٌ] . وممَّا سقطَ فيه اعتبارُ المفهومِ المُعارضِ فصَّةُ عُمرَ بنِ الخَطَّابِ المتقدِّمَةُ في قصرِ الصَّلاةِ. ومن ذلكَ قولُه - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّما الرِّبا في النَّسيئة)) [متفقٌ عليه من حديثِ أُسامَةَ بن زيدٍ، واللَّفظُ لمُسلمٍ] ، فكانَ ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهُمَا يحتجُّ

بمفهومِ هذا الحديثِ بنفيِ الرِّبا في غيرِ النَّسيئةِ وحصْرِه في النَّسيئةِ، وإنَّما خالفهُ غيرُهُ من الصَّحابةِ كأبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنهُ وغيرِه لا في صحَّةِ إفادَةِ الحصرِ بهذهِ الصِّيغةِ، وإنَّما لثُبوتِ المُعارضِ عندَهُم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ثبوتُ تحريمٍ ربا الفضلِ. 2ـ أن لا يكونَ خرَجَ مخرجَ الغالبِ. فمثالُ ما سقطتْ فيه دلالةُ المفهومِ لمجيئِهِ على هذا المعنَى: قولهُ تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] ، فهذا شرطٌ لا مفهومَ لهُ؛ لأنَّ الإكراهَ لا يقعُ عادةً مع الرَّعبةِ في البِغاءِ؛ إنَّما يقعُ وهُنَّ يُردْنَ العِفَّةَ، فالمَعنَى: لا يحلُّ إكراهُهُنَّ على البِغاءِ أرَدْنَ تحصُّنًا أو لم يُرِدْنَ. وتقدَّم في (المُطلقُ والمقيَّدِ) قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نسائكم اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] ، فقولهُ: وصفٌ لكنَّهُ لا أثرَ لهُ وإنَّما خرجَ مخرَجَ الغالبِ، لأنَّ بنتَ الزَّوجةِ تكُونُ غالبًا مع أُمِّهَا. ومن ذلكَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] ، فلا مفهومَ لهُ في جوازِ أكلِ القليلِ من الرِّبا، وإنَّما خرجَ هذا مخرجَ الغالبِ، فإنَّ أحدَهُم كانَ يقولُ لمن لهُ عليهِ الدَّينُ: إمَّا أن تقضي وإمَّا أن تُربيَ، فإن قضَى وإلاَّ زادَهُ، حتَّى يصيرَ

ذلكَ أضعافًا مُضاعفَةً. 3ـ أن لا يقصَدَ به تهويلُ الحُكمِ وتفخيمُهُ. أن لا يقصد به تهويلُ الحكمِ وتفخيمهُ. كقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] ، وقوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] ، فلا يُقالُ: لا تجبُ مُتعة الطَّلاقِ على غيرِ مُحسنٍ ولا متَّقٍ، لأنَّ الحكم في الأصلِ يتناولُ كُلَّ مكلَّفٍ، إلاَّ أنَّ مخاطبةَ المكلَّفِ بوصفِ الإحسانِ والتَّقوى تذكيرٌ له بما يجبُ عليه بمقتضَى هذينِ الوصفينِ، وفي ذلكَ تعظيمُ جانبِ الأمرِ والنَّهي وتقويةٌ للباعثِ على الامتِثالِ، ولو قيلَ لمسلمٍ: (إن كنتَ تتَّقي الله فافْعلْ كذا) ، فإنَّه لا يخفى أثرُ هذا الخطابِ في الإشارَةِ إلى عظمةِ ذلك الشَّيء المأمورِ به ورفعَةِ قدْرِه ومنزلتِه، مع ما يقترنُ به من زجرِ القُلوبِ الغافلةِ، ولا يقولُ المخاطبُ حينئذٍ: (لا يشملُني الخِطابُ، لأنِّي لستُ من المتَّقينَ بمفهُومِ اللَّفظِ؛ وإنَّما هذا خِطابٌ للمتَّقينَ خاصَّةً) . 4ـ أن لا يكونَ مخرَجَ الجوابٍِِ على سُؤالٍ معيَّنٍ. مثلُ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاَةُ اللَّيلِ مثنَى مثنَى)) [متفقٌ عليه] ، فهذا النَّصُّ لا مفهومَ لهُ، فلا يُقالُ: (صلاَةُ غيرِ اللَّيلِ ليسَتْ مثنَى مثْنَى) بسببِ أنَّ الحديثَ جاءَ جوابًا عن صلاَةِ اللَّيلِ خاصَّةً فلا يتعدَّاهَا

لإفادَةِ حكمِ غيرهَا، فعنْ عبدِالله بنِ عُمرَ رضي الله عنهما: أنَّ رجلا ً سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا بينهُ وبينَ السَّائلِ، فقالَ: يا رسول الله، كيفَ صلاةُ اللَّيلِ؟ قالَ: ((مثنَى مثنَى، فإذا خشيتَ الصُّبحَ فصلِّ ركعَةً، واجْعلْ أخرِ صلاتِكَ وِترًا)) [متفقٌ عليه] . 5ـ أن لا يكونَ أُريدَ بهِ المُبالغَةُ. كقوله تعالى لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - في شأنِ المُنافقينَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] ، فالعدَدُ هُنَا لا مفهومَ لهُ، إنَّمَا خرَجَ على سبيلِ المُبالغَةِ، والمعنَى: مهمَا استَغْفرتَ لهُم، وهذا مُؤيِّدٌ بحديثِ عُمرَ رضي الله عنهُ قالَ: لمَّا ماتَ عبدُالله بنُ أُبيٍّ ابنُ سلُولَ دُعيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليُصلِّي عليهِ، فلمَّا قامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثَبْتُ إليهِ، فقلتُ: يا رسول الله، أتُصلِّي على ابنِ أُبيٍّ وقد قالَ يومَ كذَا: كذا وكَذا؟ قالَ: أُعَدِّدُ عليهِ قولهُ، فتبسَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالَ: ((أخِّرْ عنِّي يا عُمرُ)) فلمَّا أكثرتُ عليه قالَ: ((إنِّي خُيِّرتُ فاختَرْتُ، لو أعلمُ أنِّي إنْ زِدْتُ على السَّبعينَ يُغفرُ لهُ لزِدتُ عليهَا)) ، قالَ: فصلَّى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ انصرَفَ، فلم يمكُثْ إلاَّ يسيرًا حتَّى نزلتِ الآيتانِ من برَاءَةِ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إلى قولهِ: {وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] ، قالَ: فعجِبتُ بعدُ من جُرأتِي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله ورسُولهُ أعلمُ [أخرجهُ البخاريُّ] ، ففيهِ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ظنَّ أنَّ العَدَدَ للمُبالغَة، كما رجا

أن ينفعَ الاستِغفارُ لو زادَهُ على السَّبعينَ رغبةً منهُ في رحمةِ أُمَّتِه - صلى الله عليه وسلم -، كمَا يدلُّ عليهِ صرَاحَةً روايةُ عبدِالله بنِ عُمرَ رضي الله عنهُمَا لهذه القصَّةِ، حيثُ قال فيها - صلى الله عليه وسلم -: ((وسأزيدُه على السَّبعينَ)) [متفقٌ عليه] ، فلمَّا نزلتِ الآيتَانِ بعدَ ذلكَ تأكَّد الظَّنُّ بأنَّ العدَدَ كانَ للمُبالغَةِ. 6ـ أن لا يُقصدَ بالسِّياقِ التَّنبيهُ على معنَى يصلُحُ القياسِ عليهِ بطريقِ المُسَاواةِ أو الأولويَّة. مثلُ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خمسٌ من الدَّوابِّ كلُّهنَّ فاسقٌ يُقتلْنَ في الحرمِ: الغُرابُ، والحِدَأة، والعقربُ، والفأرَةُ، والكلبُ العقُورُ)) [متفقٌ عليه من حديثِ عائشةَ] ، فالعددُ هُنا لا مفهومَ لهُ وإنَّما جاء ذِكرُ هؤلاءِ الخمسِ لأذيَّتِهنَّ، وقد يوجدُ هذا المعنَى في غيرهنَّ من دوابِّ الأرضِ أو الطَّيرِ بما يُساويهنَّ في الأذيَّةِ أو يزيدُ عليهنَّ ممَّا لا يكونُ صيدًا، فيكونُ لهُ حُكمهنَّ. فمتَى تحقَّقتْ هذه الشُّروطُ كان الاحتِجَاجُ بالمفهومِ صحيحًا معتبرًا جاريًا على أسلوبِ أهلِ اللِّسانِ، وإنَّما تُذكرُ هذه الشُّروطُ لاحتِرازَاتِ شرعيَّةٍ لا من جهَةِ اللُّغة. * * *

2ـ معرفة مقاصد التشريع

2ـ معرفة مقاصد التشريع * ما هي مقاصد التشريع؟ مقاصدُ الشَّريعةِ هي الأغراضُ الَّتي لأجلِهَا شرعَ اللهُ الشَّرائعَ، وليسَ يخلُو شيءٌ شرعَهُ الله من غرضٍ أُريدَ بهِ، وما منْ شيءٍ من تلكَ الأغراضِ إلاَّ وهو عائدٌ على المُكلَّفِ بالنَّفعِ والمصلحَةِ، وذلكَ مُتحققٌّ لهُ في الدُّنيَا أوفي الآخرَةِ، أو في الدَّارينِ جميعًا، وكلُّهُ من رحمةِ الله تعالى بهِ وإرادتِهِ الخيرَ لهُ، فالَّذي خلقهُ وصوَّرهُ وشقَّ سمعَهُ وبصرَهُ أعلمُ بما يُصلحُهُ وينفعهُ، بلْ هوَ أعلمُ به حتَّى من نفسِهِ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] . ولا يخفَى أنَّ التكليفَ لا يخلُوا من مشقَّةٍ ورادةٍ على المكلَّف بامتثالهِ، لكنَّ تلك المشقَّة محتملةٌ مقدورٌ عليها كما قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، ولِذا فإنَّه حينَ يصلُ به الحالُ في بلُوغِ تلك المشقَّةِ ما لا يُحتملُ فإنَّ التَّكليفَ يسقُطُ، ثمَّ إنَّ المشقَّة المقدور عليها يحتملهَا المكلَّف رجاءَ المصلحةِ الَّتي تربُو في نفعِها لهُ على تلكَ المشقَّةِ، وهذا في الحقيقةِ احتمالٌ للضَّررِ المرجوحِ لتحصيلِ المنفعةِ الرَّاجحة. وتأمَّل مثالَهُ في قوله عزَّوجلَّ في فرضِ الجهادِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ

الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] ، وقوله في ذلكَ أيضًا: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104] . والمقصودُ أنَّ جميعَ شرائعِ الدِّينِ إنَّما أريدَ بها منفعَةُ المكلَّفينَ، وهذا ظاهرٌ مُدركٌ في حِكَمِ التَّشريعِ وعِلل الشَّرائعِ وموافقةِ جميعهَا للعُقولِ المستقيمَة الجاريَةِ على نسقِ العدْلِ. ومن حاصلِ ذلكَ إدراكُ حقيقتينِ عظيمتينِ: الأولى: أنَّ شرائعَ الله عزَّوجلَّ كلَّهَا حكمَةٌ وعدلٌ، ليسَ منها شيءٌ خارجٌ عن ذلكَ، خلافًا لمن يظنُّ من الخارجيْن عن الملَّةِ أنَّ في شريعَةِ الإسلامِ ما هوَ خارجٌ عنِ العدلِ والحكمَةِ، فإنَّ ذلك منهم لِضيقِ عُقولهِم عن فهمِ مُرادِالله تعالى مع ظُهورِهِ والكُفرُ أو النِّفاقُ حجابٌ عظيمٌ دونَ إدراكِ الحقِّ. والثَّانيَةُ: أنَّ شرائعَ الدِّينِ كاملَةٌ لا تقبلُ الاستِدراكُ ولا الزِّيادَةَ، ولقدْ كانَ من آخرِ ما أنزل الله تعالى على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - من الوحيِ قولُه: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] .

أنواع المصالح المقصودة بالتشريع

وهذا شاملٌ لما يتَّصلُ بالعبادَاتِ أو المُعاملاتِ وسائرِ التَّصرٌّفاتِ، فإنَّ الدِّين لفظٌ يعُمُّ جميع شرائع الإسلامِ. وقد علمنَا ممَّا تقدَّم في (أدلَّة الأحكامِ) أنَّ جيمعَ الأدلَّة (ومنها الاجتهاديَّة) راجعةٌ إلى الوحيِ، إذْ طريقُ الاجتهادِ ليسَ هو بمحضِ العُقولِ الَّتي قد تصيرُ بأصحابهَا إلى اتِّباعِ الهوَى، وإنَّما هو بأُصولِ الشَّريعَةِ نفسِهَا، فليسَ من شيءٍ يصحُّ أن يُنسبَ إلى شريعَةِ الإسلامِ إلاَّ وعليهِ دلالةٌ من نفسِ أدلَّةِ الشَّريعةِ. فإذا كانتِ الغَايَةُ في التَّشريعِ تحقيقَ مصالحِ العبادِ فيجبُ الاعتَقادُ بأنَّه مُستوعبٌ لأحكامِ جميعِ تلكَ المصالحِ: ما يوجِدُها ويُحصِّلُها، وما يحمِيهَا ويُديمُها. * أنواع المصالح المقصودة بالتشريع: من أعظمِ ما يجبُ على الفقيهِ معرفتُهُ إدراكُ ما ترجعُ إليهِ المصالحُ الَّتي جاءتْ جميعُ شرائعِ الإسلامِ لتحقيقهَا، وذلكَ لأمرينِ: الأوَّل: معرفَةُ الوجوهِ الَّتي وردَ عليها التَّشريعُ من الحِكمِ والمعانِي، للإبانَةِ عنها وتبصيرِ الخلقِ بها، وذلك بإظهارِ محاسنِ هذه الشَِّريعَةِ العظيمَةِ ومزاياهَا وصلاحيَّةِ أحكامِها لجميعِ الأزمنَةِ والأمكنَةِ، وإقامةِ الحجَّة على أنَّها القانُونُ الَّذي يجبُ أن يسودَ، والميزانُ الَّذي يجبُ أن يُنصبَ، والعدلُ الَّذي يجبُ أن يُقامَ، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ

1ـ الضروريات

حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] . الثَّاني: مراعاتُها عندَ الاستِنباطِ والنَّظرِ في المُستجِدَّاتِ والحوادِثِ فيما طريقُه الاجتِهاد، لأنَّ القصدَ إلى مُوافقَةِ الحقِّ لا يُمكنُ من غيرِ اعتبار نوعِ مُطابَقَةِ في ذلكَ الاجتِهادِ لحُكمِ الله عزَّوجلَّ، وتلكَ المُطابقَةُ ليسَتْ بمجرَّدِ الألفاظِ، بلْ بالمعاني الَّتي لم تُستعملِ الألفاظُ في الحقيقَةِ إلاَّ للإبانَةِ عنهَا، وتلكَ المعانِي هيَ حِكَمُ التَّشريعِ، وهيَ عِللُ الأحكامِ، وهيَ مصالحُ العِبادِ. وجملَةُ ما ترجعُ إليهِ المصالحُ ثلاثةُ أنواعٍ لا رابعَ لهاَ تقدَّم ذكرُها موجزَةً في (دليلِ المصلحة المُرسلة) وهذا مقامُ بيانِهَا فهيَ: 1ـ الضَّروريَّات: وهيَ كلُّ أمرٍ لا بدَّ منهُ القِيامِ مصالحَ الدِّينِ والدُّنيَا، بحيثُ إذا فُقِدَ لم تجرِ مصالحُ الدُّنيَا على استِقامَةٍ، بلْ على فسادٍ وهلاكٍ وفي الآخرَةِ على خِزيٍ ونَدامَةٍ وخُسرانٍ مُبينٍ. وتلكَ الضَّروراتُ خمسٌ: الدِّينُ، والنَّفسُ، والعقلُ، والمالُ، والعِرضُ. وجاءتِ الشَّريعَةُ لحِفظِهَا بأمريْنِ: الأوَّلُ: ما يُقيمُ أركَانَهَا ويُثبِّتُ قواعِدَهَا. والثَّاني: ما يدْرأُ عنها الاختلالَ الواقعَ أو المُتوقَّعَ.

وعليهِ فشرَعَتْ: [1] لحفظِ الدِّينِ: فرضَ الإيمانِ والتَّوحيدِ، والصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والصِّيامِ، والحجِّ، وما أشبه ذلكَ، وفرضتِ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكرِ والجِهادَ ليكونَ الدِّينُ للهِ، ويُقابلُ ذلك تحريمُ الكُفرِ، وتركِ الشَّرائعٍ المذكورَةِ، والزِّيادَة في الدِّينِ بالابتِداعِ فيه بما لا يرجعُ إلى أصلٍ في الشَّرعِ، وإيجابِ قتلِ المُرتدِّ والمُحاربِ. بلْ أكَّدتِ الشَّريعَةُ حفظَ الدِّينِ بما يزيدُ في الثَّباتِ عليهِ من مُكمِّلاتِ الضَّرورَةِ، فضرُورَةُ الإيمانِ شرعَ لهَا ما يزيدُها تثبيتًا بكثرَةِ الذِكرِ كتسبِيحِ وتهليلٍ وتحميدٍ واستِغفارٍ، وضرُروةُ الصَّلاة شرعَ لهَا من مكمِّلاتِ حفظِها شعيرَةَ الأذانِ لإظْهارِهَا، وصلاةَ الجَمَاعةِ، وهكذَا. ولا يخفَبى أنَّ حفظَ الدِّين هو حفظُ سببِ العزَّةِ في الدُّنيَا، والفلاَحِ في الآخرَةِ. [2] لحفظِ النَّفسِ: شرعَتِ الزَّواجَ لحفظِ هذا النَّوعِ وتكثيرِهِ بالتَّناسُلِ، وأباحَتِ الأطعِمَةَ والأشرِبَةَ والألبِسَةَ والمسَاكِنَ، وما بهِ قيامُ الحياةِ من الأسبابِ ودوامُها، وحرَّمتْ ما يفْتِكُ بالنَّفسِ، كتعاطي السُّموم القاتِلَةِ، ومن ذلكَ تحريمُ قتلِ النَّفسِ بالانتِحارِ، كما قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، وما يُضْعِفُها كتعاطِي أو

تركِ ما يقعُ بتعاطيهِ أو تركِهِ الأمراضُ والأسقامُ، كما شرَعَتِ القِصاصَ من القاتلِ، وقد قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] ، وحرِّمتِ الاعتِداءَ على الغَيرِ في نفسِه أو بعضِ أعضائِهِ بغيرِ حقٍّ، كما شرَعتْ أحكامَ الدِّياتِ عُقوبَاتٍ للمخالفينَ في ذلكَ. وشرعتْ تكميلاً لحفظِ هذه الضَِّروروةِ منع ما يحولُ دونَ تحقيقِ حفظهَا على أتمِّ وجهٍ، فلذَا أوجبتِ التَّماثُلَ في القتلَى، منعًا للتَّذرُّع في حالةِ عدمِ التَّماثُلِ بين القاتِلِ والمقتُولِ إلى تكرُّرِ الاعتِداءِ الَّذي من أجلِ إبطالِه وجبَ القِصاصُ. والنَّفسُ سببُ الدَّوامِ والبقاءِ إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومن عليهَا. [3] لحفظِ العقلِ: إباحَةَ الأسبابِ الَّتي يدومُ بها ويبقى ببقاءِ الإنسانِ مستعملاً له فيما يعودُ عليهِ بالنَّفعِ في الدُّنيَا والآخرَةِ، وتحريمَ ما كانَ سببًا في إزالتِهِ أو إضعَافِه ممَّا للمكلَّفِ فيهِ اختيارٌ، كإزالتِه بتعاطي المُسكرَاتِ، وأوجبَتِ العُقوبةَ فيهَا. وكذلكَ منعَتْ شُربَ القليلِ من الخمرِ وإنْ لم يُسكِر تتْميمًا في حفظِ هذهِ الضَّرورَةِ، وذلكَ سَدًّا للذَّريعَةِ. والعقلُ سببُ التَّكليفِ وأساسُه، كما أنَّه سببُ للعدْلِ في جميعِ التَّصرُّفاتِ.

2ـ الحاجيات

[4] لحفظِ المالِ: أباح أسبابَ إنمائِه على وُجوهٍ تُحقِّقُ فيه وحرَّم الاعتِداءَ عليهِ بالإتلافِ، أو أكلَهُ بالباطلِ، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] ، ومن ذلكَ أكلُه بالرِّبا، كما حرَّم سرِقتَهُ أو غضبَهُ، وأوجبَ قطعَ يدِ السَّارِقِ، وحرَّم تبذيرَهُ في غيرِ وُجوهِهِ. والمالُ سببُ قيامِ الحياةِ، كما قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] . [5] لحفظِ العِرضِ: دلَّت على أسبابِ وِقايتِه من معاطِب الزِّنا والفُجورِ مُبيِّنَةً خطورةَ تلكَ المعاطِب في تدميرِه وإفسادِه، ومن هذا جاء تحريمُ الزِّنا، وإيجابُ الحدِّ فيه وِقايةً للنَّسلِ، وإيجابُه بالقذفِ على القاذِفِ المُتطاولِ على الأعراضِ البريئَةِ. والعرضُ سببٌ في تماسُكِ المُجتمعِ المُسلمِ وأُلفتِه وطهارَتِهِ. 2ـ الحاجيَّات: وهيَ كُلُّ أمرٍ يحتاجُ إليهِ النَّاسُ لرفعِ الحرَجِ عنهُم، وليسَ بفواتِه فواتُ ضرُوريٍّ لهُم، لكنْ يقعُ بفواتِهِ العُسرُ والضِّيقُ بما يشُقُّ على المُكلَّف احتمَالُه. ومن مباديءِ هذه الشَّريعةِ أنَّها جاءتْ بالتَّيسيرِ ورفعِ الحرجِ، كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .

وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] ، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] . ومن أمثلَةِ ماشرعتْهُ لتحقيقِ هذا النَّوعِ من المصالحِ: [1] في العباداتِ: شرعتِ الرُّخصَ المُخفَّفةَ، كالمسحِ على الخُفَّينِ، وتركِ القيامِ في الصَّلاةِ للمسافرِ، والجمعِ بين الصَّلاتينِ للحاجَةِ، وإسقاطِ الصَّلاةِ عن الحائضِ والنُّفساءِ، والفِطرِ للمسافرِ والمريضِ، ورميِ الجِمارِ عن النِّساءِ والضَّعفَةِ، وغير ذلك ممَّا شُرع للتَّخفيفِ في العبادَاتِ. [2] في العادَاتِ: شرعَتِ إباحَةَ التَّمتُّع بالطَّيِّباتِ من غيرِ إسرافٍ أو خُيلاءَ؛ في المطاعِم والمشارِبِ والملابِس والمراكِبِ والمساكِن وسائرِ المنافعِ، وأباحتِ الصَّيدَ والتَّنزُّه واللَّهوَ ترويحًا للنَّفسِ ودفعًا لمللِها وسآمتِها، بشرطِ أن لا يُعارضَ ضروريًّا. [3] في المُعاملاتِ: رخَّصت في أنواعِ من العُقودِ استِثناءً من القواعدِ العامَّةِ، كإباحةِ بيع السَّلمِ والاستِصناعِ، وهُما من قبيلِ بيعِ الإنسانِ ما ليسَ عندَهُ، وإنَّما رُخِّصَ فيهما بشرُوطٍ معيَّنَةٍ للحاجَةِ، كما أباحتِ الطَّلاقَ والخُلعَ لإنهاءِ عقدِ الزَّوجيّضةِ دفعًا للحرَجِ والضَّررِ في عِشرَةٍ غير مرغُوبةٍ.

3ـ التحسينيات

[4] في العقوباتِ: شرَعَتْ (درءَ الحُدودِ بالشُّبُهاتِ) ، وجعلَ الدِّيَّةِ على عاقِلِه القاتِل في قتلِ الخطإِ. 3ـ التَّحسينيَّات: وهيَ الأخذُ بمحاسنِ العادَاتِ والأخلاقِ، وتجنُّبُ مساوئِها. وهذا بابٌ جاءتِ الشَّريعةُ فيه بأكملِ المعاني وأتمِّهَا، ولمَّا كانت العقُولُ الرَّاجِحةُ تُجبلُ على كثيرٍ من تلكَ الخِصالِ بطَبْعِها جاء قَانُونُ شريعةِ الإسلامِ فيها بإقرارِ ما كانَ عليها النَّاسُ منها قبلَ الإسلامِ، غيرَ أنَّه أجرَى عليها التَّعديلَ والتَّحسينَ والتَّهذيبَ بما جعلَتْها تندرجُ تحتَ موادِّ هذا القانونِ العظيمِ على أتمِّ ما يجبُ أن تكونَ عليهِ. وفي هذا يقولُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّما بُعثتُ لأُتمِّمَ صالحَ الأخلاقِ)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ أحمدُ وغيرُه] ، كما قال الله عزَّوجلَّ: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6] . ومن أمثلةِ ماجاءتْ بهِ الشَّريعَةُ لتَّحقيقِ هذا النَّوعِ من المصالحِ: [1] في العبادَاتِ: شرَعَتْ إزَالَةَ النَّجاسَةِ عن الثَّوبِ والبَدنِ، وسترَ العورَةِ، وأخذ الزِّينةِ، والتَّطوُّعاتِ في الصَّلاة والصِّيامِ والصَّدقةِ، وسُننَ الطَّهاراتِ والصَّلواتِ وآدابِها، ونحوَ ذلكَ ممَّا يحسُنُ ويجمُلُ. [2] في العادَاتِ: شرَعتْ أدَبَ الأكلِ والشُّربِ والملبسِ، وتركَ

ترتيب المصالح

أكلِ النَّجاساتِ وشُربها، وتوقيرَ الكبيرِ، ومُلاطفَةَ الأطفالِ، وتركَ اختِلاطِ الرِّجالِ والنِّساءِ لغيرِ حاجةٍ، وتركَ الخَلوَةِ بالأجنبيَّاتِ، والتَّحيَّة وآدابها، وطلاقَةَ الوجهِ عندَ اللِّقاءِ، وإماطًَةِ الأذى عنِ الطَّريقِ. [3] في المُعاملاتِ: شَرعَتْ منعَ بيعِ الميتَةِ والخِنزيرِ، ونهَتِ المرأةَ أنْ تُزوِّج نفسَهَا، ومنعَتْ بيع َ الرَّجلِ على بيعِ أخيهِ، وخُطبتَهُ على خِطبَةِ أخيهِ، ومنعتِ الغِشَّ والخديعَةَ في البيعِ وسائرِ المُعاملاَتِ. [4] في العُقوباتِ: شرَعتْ منعَ قتلِ النِّساءِ والصِّبيانِ في الجهادِ، كما حرَّمتِ المُثْلَةَ والغَْدْرَ. * ترتيب المصالح: أنواعُ المصالحِ الثَّلاثِ لا يخفَى تفاوُتُ درجاتِهَا بحسبِ أهميَّتِهَا وهي على ما سبقَ ترتيبُها عليهِ: الضَّروريَّاتُ، فالحاجيَّاتُ، فالتَّحسيناتُ. ومُراعَاةُ هذا التَّرتيبِ في غايةِ الأهميَّةِ للفقيهِ، فإنَّ النَّظرَ في المسائلِ يجبُ أن يُقاسَ بما تتَّصلُ به من هذه المصالحِ، فما كانَ لهُ صِلَةٌ بالضَّروراتِ الخمسِ ينبني عليهِ تحصيلُهَا وحِمايتُهَا فلهُ المقامُ الأوَّلُ في الاعتبارِ، وإنْ تعلَّقتْ بأمرٍ حاجِّيٍّ كعُسرِ امتِثالِ على المُكلَّفِ صحَّ

القواعد المبنية على مراعاة مقاصد التشريع

اعتِبارُه إذا لم يبْطُل بهِ ضرورِيٌّ من الخمسِ، وإن تعلَّق بأدبٍ كانَ الشَّرطُ لاعتِبارِهِ أن لا يبطُلَ ضرُوريًّا ولا يورِدَ حرجًا وعُسرًا، ويُلاحظُ أنَّ الحاجيَّاتِ والتَّحسيناتِ كالمُتمِّماتِ للضَّروريَّاتِ. والضَّروراتُ الخمسُ متَفاوِتَةٌ فيما بينهَا في قوَّةِ الضَّرورَةِ، فحفظُ الدِّين يُسترخصُ لأجلِهِ النَّفسُ والمالُ، وحفظُ النَّفسِ مُقدَّمٌ على حفظِ المالِ، فإنَّها تُفتَدَى بالمالِ، والمالُ يُمكنُ استِدراكُ ما يفوتُ منهُ بخلافِ النَّفسِ، وحفظُ العِرضِ بالعِفَّةِ من الزِّنا يُفتَدى بالمالِ، بلْ بالنَّفسِ، وحفظُ العقلِ يُغتفرُ فيهِ ما لا يُغْتفرُ في غيرِهِ من الضَّروريَّاتِ بالعُذرِ. ودرجاتُ ذلكَ مُتفاوتَةٌ باعتباراتٍ تُدركُ من أحكامِ الإكراهِ، وحالِ الضَّرورَةِ. والتَّحقيقُ أنَّ ترتيبَ الضَّروريَّاتِ ليسَ لهُ قانونٌ واضحٌ يُعوَّلُ عليهِ، وهيَ كما أشرْتُ تتفاوتُ باعتبارَاتِ، فلذَا لا يندرجُ ترتيبُها ضمنَ أُصولِ المقاصِدِ، وإنَّما التَّرتيبُ صحيحٌ في ترتيبِ المصالحِ من حيثُ الجُملَةُ. * القواعد المبنيَّة على مراعاة مقاصد التشريع: بمُراعاةِ مقاصدِ التَّشريعِ المتقدِّمَةِ اسْتفيدَتْ جُملَةٌ من القواعِدِ والضَّوابطِ العامَّةِ ممَّا يتحقَّقُ به نفُ المُكلَّفِ، وهي في الحقيقةِ قواعدُ

فقهيَّةٌ عامَّةٌ تُساعدُ الفقيهَ على الاستِدلالِ والتَّرجيحِ بينَ المَصالحِ، من أهمِّهَا: 1ـ (الضَّرَرُ يُزالُ) . وهذهِ قاعِدَةٌ عامَّةٌ يندرجُ تحتَهَا فروعٌ كثيرةٌ، منهَا: استِحقاقُ التَّعويضِ للغيرِ عندَ إتلافِ مالهِ، وثبُوتُ حقِّ الشُّفعةِ للشَّريكِ أو الجارِ، ووُجوبُ الوِقايَةِ من الأمراضِ، ومُعاقبَةُ المُجرمينَ بالحُدودِ أو التَّعازيرِ. 2ـ (يُدفعُ الضَّررُ العامُّ بتحمُّل الضَّررِ الخاصِّ) . ويُمكنُ التَّعبيرُ عن هذه القاعِدَةِ بصيغَةٍ أُخرَى، هيَ: (اعتبارُ المصلحَةِ العامَّةِ مُقدَّمٌ على اعتبارِ المصلحَةِ الخاصَّةِ) . ومن فُروعهَا: القصاصُ من القاتلِ لحفظِ حياةِ النَّاسِ من التَّهاوُنِ في الاعتِداءِ عليهَا، وقطعُ يدِ السَّارقِ لحفظِ أموالِ النَّاسِ من مدِّ الأيدِي إليهَا، وجلدُ القاذِفِ لقطعِ الألسِنَةِ دُونَ قذْفِ المُحصناتِ، وتدخلُ الدَّولةِ في تسعيرِ السِّلعِ عندَ الغلاءِ بفعلِ التُّجَّارِ ممَّا يضرُّ بالنَّاسِ، وإجبارُ التَّاجرِ المُحتكرِ على البيعِ لحاجَةِ النَّاسِ. 3ـ (يُرتكبُ أخفُّ الضَّررَينِ لاتِّقاءِ أشدِّهِمَا) . ومن فُروعِهَا: صلاَةُ فاقدِ الطَّهورينِ الماءِ والتُّرابِ أوا لعاجزِ عن استِعمالِهَا بغيرِ طهارَةٍ، والنِّكاحُ وإنجابُ الأطفالِ في بيئةٍ قدْ كثُر فيهَا

الحرامُ والشُّبُهاتُ في المكاسِب وقلَّ الحلالُ وندرَ فلا تُتركُ ضرُورَةُ حفظِ النَّفسِ بالنِّكاحِ والنَّسلِ لأجلِ وُرودِ تلكَ المفسَدَةِ، وكونُ الإنسانِ بينَ اختيَاريْنِ: طلبِ العِلمِ في موضعٍ يرَى فيها المُنكرَ ويسكُتُ، أو تركِ ذلكَ والبقاءِ على الجهلِ والأميَّةِ، فالأوَّل مقدَّمٌ في الاختيارِ، فإنَّ طلبَ العلمِ من ضرورَةِ حفظِ الدِّينِ، والسُّكوتَ عن إنكارِ المُنكرِ فيه رُخصَةٌ في أحوالٍِ، ومنها الوُقوعُ في الكذبِ لحمَايَةِ مسلمٍ من الأذَى، وكِتمانُ الإسلامِ أو تركُ إظهارِ التَّديُّن لوِقايَةِ النَّفسِ أوِ الأهلِ أو المالِ من الأذَى. 4ـ (الضَّروراتُ تُبيحُ المحظُوراتِ) . وفُروعُها لا تنتهي، وهيَ قاعدَةٌ عظيمَةٌ يُستباحُ بها الحرامُ لعُسرِ احتمالِ المُكلَّفِ عُسرًا يوردُ عليهِ من الضَّررِ ما لا يقدِرُ عليهِ، ومنْ فروعِ هذا: إباحَةُ الميتَةِ والخِنزيرِ والخمر وغيرِهَا لمن لا يجدُ بُدًّا من أخذِهَا. وفهمُ هذه القاعِدَةِ يحتاجُ إلى تصوُّرِ قدْرِ الضَّررَينِ: الضَّررِ الوارِدِ، معَ ضررِ مُواقعَةِ الحرامِ، وهذهِ تحتاجُ إلى تأمُّلٍ شديدٍ من قِبلِ الفقيهِ، فأيُّ الجانبينِ كانَ أرجحَ فالحُكمُ لهُ. ولنضْربْ له مثالاً: إنسانٌ وقعَتْ عليهِ غرامَةٌ ماليَّةٌ، وهوَ مُخيَّرٌ بين السَّدادِ وبينَ السَّجنِ، فنظرَ فلم يجِدْ سبيلاً للسَّدادِ إلاَّ قرضًا بالرِّبا،

فتقديرُ ضرورتِه أو حاجتِهِ يعودُ إلى ترجيحِ أخفِّ المفسدَتينِ، فنظرَ فوجَد في السِّجنِ بلاءً يخافُ منهُ على دينِه من خِلطَةِ السُّفهاء، أو على زوجةٍ أو ذُرِّيَةٍ يخافُ ضياعَهُم من بعدِهِ، أو نحوِ ذلكَ من الأسبابِ، ونظرَ فيما يُقابلُ ذلكَ، فوجَدَ المفسَدَةَ في قرضِ الرِّبا غايتَهَا أن يُعينَ آكل الرِّبا على معصيَةِ الله، وبِتركِهِ الافتِراضِ منهُ فإنَّه لا يزجُرُه عن تلكَ المعصيَّةِ، فجانبُ الفسادِ في أكلِ الرِّبا باقٍ في حالِ اقتراضِه أو عدَمِهِ، فيظهرُ لهُ من ذلكَ ترجيحُ ارتِكابِ أخفِّ المفسدَتينِ، أمَّا جانبُ المظلمَةِ الَّلاحقِ لهُ في أخذِ الرِّبا منهُ فالمكلَّفُ صاحبُ الحقِّ في التَّنازُلِ عن مظلمتِه، وإنَّما الاعتبارُ لحقِّ الشَّرعِ، وهوَ في نظرِهِ قد قابلَ ضررًا أبلغ. فإنْ قيلَ: خوفُ المفسَدَةِ كيفَ يُساوي المفسَدَة؟ فالجوابُ: أنَّ خوفَ المفسَدَةِ يكونُ لهُ حُكمُها في هذا البابِ وبابِ الإكراهِ إذا كانَ خوفًا راجِحًا قد عُلمَ رُجحانُهُ بالقرائنِ. 5ـ (الضَّروراتُ تُقدَّرُ بقَدرِهَا) . هذه القاعِدَةُ كالقيدِ للَّتي قبلَهَا، والمقصودُ بهَا: أن يُكتفى في استباحَةِ المُحرَّمِ للضَّرورةِ بالقدرِ الَّذي دفعَتْ إليهِ الضَّرورةُ من غيرِ مُجاوزَةٍ، لقولهِ تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .

ففي المثال المتقدِّم لا يحلُّ لهُ أن يقترضَ إلاَّ بمقدارِ غرامَتِه الَّتي عجزَ عن جميعِهَا، فإذا قدرَ على بعضِهَا وعجزَ عن بعضٍ، فيقتصرُ من القرضِ على القَدْرِ الَّذي ينقصُ عمَّا عِندَهُ. وكذلكَ تُفيدُ القاعِدَةُ أنَّ الإذنَ باقٍ ما بقيَ العُذرُ، زائلٌ بزوالِهِ. 6ـ (المشقَّةُ تجلبُ التَّسيرَ) . وهذه تعودُ إلى أصلِ رفعِ الحرجِ، وإليهِ ترجعُ مصالحُ (الحاجيَّات) ، ويندرجُ تحتهُ الرُّخصُ الَّتي شُرعتْ تخفيفًا على العبادِ. وقد سبقَ في (أقسامِ الحُكمِ الوضعِيِّ) بيانُ أسبابِ الرُّخصِ وبعضِ أمثلتِهَا. 7ـ (إذا ضاقَ الأمرُ اتَّسعَ) . والمعنَى: إذا ظهرَتْ فيه المشقَّةُ الَّتي لاتُحتملُ إلاَّ بالضَّررِ الرَّاجحِ فإنَّه يُرخَّصُ فيه ويُوسَّعُ. وهذه القاعدَةُ من بابِ الَّتي قبلَهَا. 8ـ (إذا اختلفَ عليكَ أمرانِ فإنَّ أيسرَهُمَا أقربُ إلى الحقِّ) . المقصودُ بذلك ما وقعَ فيه خفاءُ الحُكمِ شرعًا في الأمرينِ، والقاعدَةُ جاءتْ على اعتبارِ أنَّ الأصلَ في الشَّرائعِ السُّهولَةُ واليُسرُ ورفعُ الضِّيقِ والعنَتِ.

منافاة البدعة لمقاصد التشريع

ولقدْ صحَّ عن عائشةَ رضي الله عنهَا قالتْ: ما خُيِّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمريْنِ إلاَّ أخَذَ أيسرَهُمَا ما لم يكُن إثمًا، فإنْ كانَ إثمًا كانَ أبعدَ النَّاسِ منهُ [متفقٌ عليه] . فإذا كانَ الأمرانِ ليسَ فيهمَا حكمٌ في الشَّرعِ وتردَّدَ فيهمَا نظرُ الفقيهِ ألحقَهُمَا بالأصلِ، وهوَ عدمُ الإثمِ، ثمَّ يُرجِّحُ الأخذَ بأيسرِهمَا بناءً على الأصلِ في قواعدِ الشَّرعِ، وهديِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وليسَ هذا فيماَ يقوَى فيه جانبُ الشُّبهَةِ، فإنَّ ما كانَ كذلكَ فطريقُ الفقيهِ فيه الإمساكُ عن إبداءِ الرَّأي، إذْ لا يصحُّ أن يُفتى بمُقتضَى الشُّبهةِ لأنَّها ليستْ حكمًا، وأمَّا في نفسهِ فيترُكُ الشُّبهاتِ ورعًا ما وجَدَ إلى ذلكَ سبيلاً. * منافاة البدعة لمقاصد التشريع: استيعابُ الشَّريعةِ للأحكامِ، ومجيءُ جميعِ تلكَ الأحكامِ على العدلِ والحقِّ، معَ قصدِ التَّيسيرِ ورفعِ الحرَجِ، يُنافي الزِّيادَةَ عليهَا والاستِدراكَ. وما يُستفادُ من الأحكامِ للمستجدَّاتِ بطريقِ القياسِ الصَّحيحِ أو المصالحِ المُرسلَةِ أوِ الاستِصحابِ راجعٌ إلى تلكَ الأحكامِ، وهوَ منها ليسَ بخارجٍ عنهَا، ومُتناسبٌ مع مقاصدِ هذه الشَّريعةِ لتحقيقِ

مصلحَةِ المُكلَّفِ ورفعِ الحرجِ عنهُ. وهذا بخلافِ البِدعةِ، فإنَّها: إحداثُ اعتقادٍ أو حكمٍ ليسَ لهُ مثالٌ سابقٌ. وإن قارنتَ هذا بأدلَّةِ الأحكامِ الاجتهاديَّة، وجدْتهَا تُفارقُه: فالقياسُ: إنَّما هو قياسٌ على النَّصِّ، فهوَ على مثالٍ سابقٍ، ثمَّ إنَّه يمتنعُ تصوُّرهُ في العقائدِ والعبادَاتِ المحضَة، لعدَمِ إدراكِ عللهَا، وعُمدَةُ القياسِ على عللِ الأحكامِ. والمصلحةُ المُرسلةُ: إنَّما هي اعتبارٌ لمقاصدِ الشَّرعِ في حفظِ الضَّروراتِ ورفعِ الحرجِ، فهي صورةٌ من القياسِ على مثالٍ سابقٍ، وهي غيرُ واردةٍ إلاَّ في أمرٍ فيه مجالٌ للنَّظرِ، ولايُمكنُ ذلكَ إلاَّ بإدراكِ المعاني والعِللِ والمُناسباتِ، وهذا ممتنعٌ في عقيدةٍ أو عبادَةٍ محضةٍ، فالعقيدَةُ خبرٌ الله تعالى أو رسولهِ - صلى الله عليه وسلم - عنهُ فيما لا يحيطُ به العبادُ علمًا إلاَّ عن طريقِ الخبرِ، وأمَّا العبادَاتُ المحضةُ فشيءٌ قُصدَ به الابتلاءُ، والله عزَّوجلَّ راعى برحمتِه قُدُراتِ المُكلَّفينَ، وما جعلَ الصَّلاةَ من خمسينَ في العدَدِ في اليومِ واللَّيلَة إلى خمسٍ إلاَّ تيسيرًا على العبادِ وتخفيفًا لذلكَ الابتِلاءِ، وما جاءتْ الرُّخصُ في العبادَاتِ إلاَّ لهذا المعنى، والمصالحُ يقصدُ بها نفعُ المكلّفينَ بالتَّخفيفِ والتَّيسير ورفعِ الحرجِ، فكيفَ يصحُّ تصوُّرُ إثباتِ عبادَةٍ زائدَةٍ لم يأتِ بها التَّشريعُ أنَّها

تُحقِّقُ مقصدَ الشَّرعِ في نفعِ المُكلَّفينَ، مع أنَّ ألأصلَ في زيادَةِ التَّكليفِ الحرجُ؟ والاستصحابُ: استمرارُ العملِ بالدَّليلِ الثَّابتِ من الشَّرعِ لعدمِ وُرودِ ما يُغيِّرُه، فالحُكمُ فيه في الحقيقةِ حكمُ النَّصِّ. وسائرُ أدلَّةِ إثباتِ الأحكامِ إنَّما هي النُّصوصُ من الكتابِ والسُّنَّةِ. فأينَ موقعُ البِدعَةِ منها إذًا لإثباتِ عقيدَةٍ أو حُكمٍ؟ ولهذا حكمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإبطالِ جميعِ البِدعِ، وينبغي أن لا يُفرَّق بعدَ ذلكَ بين بدْعةٍ وبدْعةٍ، فإنَّ صاحبَ الشَّريعةِ لم يستثنِ منها شيئًا. وفي ذلكَ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدثَ في أمرنَا هذا ما ليسَ منهُ فهوَ رّدٌّ)) [متفقٌ عليه من حديث عائشةَ] وفي روايةٍ: ((من عملَ عملاً ليس عليهِ أمرُنا فهو ردٌّ)) [أخرجه مسلمٌ] . وقوله - صلى الله عليه وسلم - في خُطبتِهِ: ((أمَّا بعدُ، فإنَّ خيرالحديثِ كتابُ الله، وخيرَالهديِ هديُ محمَّدٍ، وشرَّالأمورِ مُحدثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالَةٍ)) [أخرجه مسلمٌ عن جابرِ بن عبد الله] . وإنَّما يقعُ الغلطُ في تصوُّرِ البِدعِ ومعناهَا، وما يدخلُ فيها وما يخرجُ منها بِسببِ تعريفاتٍ ضعيفةٍ ليستْ مُوافقةً في الحقيقةِ لمُرادِ الشَّارعِ بها، فهذا يقولُ: البِدعُ أقسامٌ منها المقبولُ ومنها المردُودُ، ومنهَا الحسنُ ومنهَا القبيحُ، ومنهُم من قسَّمهَا خمسةَ أقسامٍ على الأحكامِ

التَّكليفيَّة الخمسة، فقالَ: البِدعُ: واجبٌ، ومندوبٌ، ومُحرَّمٌ، ومكروهٌ، ومباحٌ، ومنهم من قال: هي حقيقةٌ وإضافيَّةٌ، إلى غير ذلكَ. وربَّما شوَّس في إدراكِ معنى البِدعةِ: التَّوسُّع في إلحاقِ صورٍ كثيرةٍ بالبِدعِ، وكثيرٌ منها من قبيلِ المصالحِ المُرسلَةِ كصلاةِ التَّراويحِ على إمامٍ واحدٍ بعد العشاءِ، والأذانِ العُثمانيِّ، وجمعِ المُصحفِ، وتقنينِ العُلومِ، أو ممَّا يلحقُ بدليلِ الاستصحابِ كقاعِدَة (الأصلِ في الأشياءِ الإباحَة) كصُورٍ كثيرةٍ من العُرفِ، مثلِ الزِّيادَةِ في التَّحيَّةِ على لفظِ السَّلامِ، والتَّهنيئةِ بالعيدِ، ومنهَا ما يوجدُ علىخلافٍ صُورَةٍ لم تكُن عليها العادَةُ النَّبويَّةُ، كالأذانِ بين يدَي الإمامِ، والزِّيادَةِ في المنبرِ على ثلاثِ درجاتٍ، ونحو ذلكَ. وهذه الصُّورُ في الحقيقةِ إلحاقُها بالبِدعِ خطأٌ، لأنَّها جميعًا تعودُ إلى أصولٍ صحيحةٍ في الشَّرعِ، وليسَ منها ما هو من قبيلِ الاعتقادِ أو العبادَةِ المحضَةِ. ولا يصحُّ التَّشويشُ بقولِ عُمرَ رضي الله عنهُ في شأنِ صلاةِ التَّراويحِ: ((نِعمَ البِدعَةُ هذه)) ، فإنَّه لا يُستقبحُ لفظُ (البِدعةِ) لِذاتِه، وإنَّما العبرَةُ بمعناهُ، والَّذي وقعَ من عُمر رضي الله عنهُ جميعُه لهُ أصلٌ في الشَّرعِ، فإنَّ من تأمَّل القصَّةَ الَّتي قال فيها عُمرُ ذلكَ وجدَهَا بيِّنَةً في أنه أرادَ تقديمَ صلاةِ التَّروايحِ بعد صلاَةِ العشاءِ، فهذا لم يفعلْهُ رسولُ

الله - صلى الله عليه وسلم - بالنَّاسِ في عهدِه، إنَّما خرجَ فصلَّى بهِم بعضَ اللَّيالي من آخرِ اللَّيلِ، وهذا الَّذي أحدثهُ عُمرُ رضي الله عنه له أصلٌ في الشَّرعِ وإنْ لم تكُن صُورتُه موجودَةً على عهدِ التَّشريعِ، وهوَ كونُ جميعِ اللَّيلِ وقتًا للصَّلاةِ فيهِ، من بعدِ العشاءِ إلى الفجرِ، فكانتِ المصلحَةُ المقتضيةُ نفعَ النَّاسِ أن يجعلهَا لهُم من أوقاتِ اللَّيلِ أفضلَ، ولهذا قال مُنبِّهًا على هذا المعنى: ((نِعم البِدعةُ هذهِ، والَّتي ينامونَ عنهَا أفضلُ من الَّتي يقومونَ)) يُريدُ آخرَ الَّليلِ، وكانَ النَّاسُ يقومونَ أوَّلهُ [أخرجه البُخاريُّ] . فتسميَّةُ عُمر لهذا الفعلِ (بِدعة) محصورٌ بتقديمِ الصَّلاةِ أوَّل اللَّيلِ، وحيثُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلهُ كذلكَ فهو مُحدثٌ من هذا الوجهِ، فهذا التَّقديمُ ليس لهُ مثالٌ سابقٌ على صفتهِ من الفعلِ النَّبويِّ، لكنْ لهُ مثالٌ سابقٌ من جهةِ صحَّتِه في هذا الوقتِ من حيثُ الجُملَةُ، وهذه الصُّورةُ لا يصلحُ أن تُلحقَ بالبِدعِ الشَّرعيَّةِ، كما تقدَّمَ في استثناءِ ما يُستفادُ من أحكامِ الحوادِثِ بالقياسِ أو المصالحِ المُرسلَةِ أوِ الاستِصحابِ؛ لأنَّها راجعةٌ إلى الدَّليلِ من الكتابِ والسُّنَّةِ، ولا تبقى عبرَةٌ مؤثِّرَةٌ في الألفاظِ إذا ظهرتْ دلالتُهَا. والَّذي ينبغي مُطلقًا أن لا يُستعملُ لفظٌ يقعُ فيهِ الإيهامُ واللَّبسُ من غيرِ تحديدِ المُرادِ بهِ، وليسَ قومُنا كأصحابِ عُمرَ رضي الله عنهُ في إدراكِ مُرادِهِ، فما حملُوا قولهُ على مُخالفَةِ العُمومِ لقولِه - صلى الله عليه وسلم -: ((وكلَّ بِدعةٍ

ضلالَةٌ)) ، بلْ كانُوا يُدركُونَ أن لا مُشاحَةَ في الألفاظِ إذا احتملتِ المعاني الصَّحيحة، فأدركُوا أنَّ مرادَ عُمرَ بـ (البِدعة) غيرُ مرادِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بها، وحيثُ اختلفَ المقصودُ فلا يُعترضُ على عُمومِ الحديثِ بالتَّخصيصِ، فيقالُ: جرَى ذلكَ مجرَى الغالبِ في البِدعِ، أو يُصادَمُ الحديثُ بالقولِ: البِدعةُ منها ما هوَ حسنٌ وما هوَ قبيحٌ، وإنَّما يُفهمُ كلامُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على الوجهِ الَّلائقِ بهِ، وتعريفُه للأشياءِ هوَ المُقدَّمُ على تعريفِ من سِواهُ. وحاصلُ القولِ: أنَّ البِدعَ ما لاوجهَ لهُ في القياسِ، أو لا يندرجُ تحتَ أصلٍ عامٍّ من أصولِ التَّشريعِ، أو يقعُ به من زيادَةِ التَّكليفِ ما ليسَ مُرادًا للشَّرعِ لقصدِهِ التَّخفيفَ على المُكلَّفينَ، وليستْ تحتصُّ بكونِهَا ممَّا وردَ بهِ دليلُ الشَّرعِ. وأمثلتُهَا في العقائدِ: الكلامُ في صفاتِ الله عزَّوجلَّ بالتَّأويلِ والتَّعطيلِ والتَّشبيهِ، وحملُ نصوصِ الوعدِ والوعيدِ واليومِ الآخرِ والجنَّةِ والنَّارِ على غيرِ الحقيقةِ، والقولُ في التَّوراةِ والإنجيلِ والقُرآنِ أنَّها ليستْ كلامَ الله، والطَّعنُ على أصحابِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بسبٍّ أو تفسيقٍ أو تكفيرٍ، واعتقادُ تخليدِ أصحابِ الكبائرِ من الموحدينَ في النَّارِ، ونفيُ علمِ الله السَّابقِ للموجودَاتِ، وغيرُ ذلكَ.

وأمثلتُهَا في العبادَاتِ: تخصيصُ ليلةٍ من اللَّيالي بالقيامِ أو يومٍ بالصِّيامِ على اعتقادِ فضيلةٍ خاصَّةٍ لتلكَ اللَّيلةِ أو ذلكَ اليومِ، والرَّهبَنةُ والانقِطاعُ للتَّعبُّدُ مع الإعراضِ عن الجهادِ والأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ وكسبِ الرِّزقِ، والاجتِماعُ لذكرِالله مقرونًا بالرَّقصِ والمعازفِ كضربِ الدُّفوفِ، وعملُ المواسمِ بعدَ موتِ الميتِ، كأُسبُوعيَّةٍ، وأربعينيَّةٍ وسنويَّةٍ، وغيرُ ذلكَ. * * *

3ـ تعارض الأدلة

3ـ تعارض الأدلة * يقته: يُرادُ بالتَّعارضِ: التَّناقضُ والاختلافُ بين الدَّليلينِ الثَّابتينِ. وهذا المعنى لا وُجودَ لهُ حقيقةً في الأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ، لأنَّ الله تعالى نصبَهَا علاماتٍ يهتدي بها المُكلَّفُونَ في الطَّريقِ إليهِ، والتَّعارضُ مناقضٌ لهذه الحقيقةِ، وقد نفى الله عزَّوجلَّ ذلك عن كلامِهِ، فقالَ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82] ، فسلمَ من الاختلافِ وعُصمَ من الباطلِ كما قال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41ـ 42] ، وكلامُ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - سالمٌ من التَّعارضِ كسلامَةِ القرآنِ، فكلُّه وحيُ الله تعالى وتشريعُه، كما قال سبحانهُ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3ـ 4] . وإنَّما يوجدُ التَّعارضُ في نظرِ المُجتهدِ لانتفاءِ العصمةِ، ووُرودِ الخطإ والقُصورِ في الفهمِ، وخفاءِ الأدلَّةِ ووُجوهِهَا عليهِ، ممَّا هوَ طبعُ البشرِ إلاَّ المعصومَ - صلى الله عليه وسلم -. فلمَّا كانَ يمتنعُ التَّعارضُ حقيقةً في أدلَّةِ الشَّرعِ فعلى المُجتهدِ إذا

ظنَّ ذلك بينَ دليلينِ أن يسلكَ باذلاً وُسعهُ ما يوصلُهُ إلى الحقيقةِ المُرادَةٍِ للشَّرعِ، مع استِحضارِ أنَّ التَّعارضَ في ذِهنِهِ وظنِّهِ لا في الأدلَّةِ لقصُورِهِ وكمالِهَا. * ترتيب مسالك النظر: المنطقيَّةُ المُتناسقَةُ مع هذه المقدِّمَةِ تتمثَّلُ في التَّرتيبِ التَّالي: 1ـ إعمالُ الدَّليلينِ بأيِّ طريقٍ مُمكنٍ. 2ـ فإنْ تعذَّر فالبحثُ في إمكانِ النَّسخِ. 3ـ فإنْ تعذَّرَ فالتَّرجيحُ بالقرائنِ. وإليكَ بيانَ تلكَ المسالكِ، معَ التَّفصيلِ لهَا بما يُناسبُهَا. * * *

1- إعمال الدليلين

1- إعمال الدليلين * المقصود به: أن يبذُلَ المجتهدُ وُسعهُ للجمعِ والتَّوفيقِ بين الدَّليلينِ المُتعارضينِ، جريًا مع الأصلِ في نفي التَّعارضِ الطَّاريء وتحقيقِ مقصودِ الشَّارعِ بخِطابهِ. وفي (قواعدِ الاستنباطِ) ما يُساعدُ المجتهدَ لتحقيقِ ذلكَ، وأهمُّ ذلكَ ثلاثُ قواعد: الأولى: بناءُ العامِّ على الخاصِّ. فيُنظرُ إن كانَ أحدُ النَّصَّينِ عامًّا، وكان الآخرُ خاصًّا، فيُخرجُ ذلك الخاصُّ من العمومِ بهذه القاعِدَة. والثَّانية: حملُ المُطلقُ على المقيَّدِ. وذلكَ أيضًا بالنَّظرِ إلى ما بينَ الدَّليلينِ من الإطلاقِ والتَّقييدِ، فإنْ وُجِدَ حُملَ المُطلقُ على المقيَّدِ، وسبقَ من أمثلتِهَا والَّتي قبلهَا ما فيهِ

كفايَةٌ في مبحثي (المُطلقُ والمقيَّدُ، والعامِّ) . والثَّالثة: تأويلُ أحدِ الدَّليلينِ على معنى مُناسبٍ من غيرِ تكلُّفٍ، كتعليقه بظرْفٍ أو صِفةٍ. مثالهُ: ما وردَ في كتابِ الله تعالى من آياتِ الأمرِ الإعراضِ عن المشركينَ، وماجاءَ بعد ذلكَ من الأمرِ بقتالِهِم، فظاهرُ الصُّورَتينِ التَّعارضُ، ولذا صارتْ طائفةٌ إلى ادِّعاءِ النَّسخِ لآياتِ الإعراضِ بآيةِ القتالِ الَّتي اصطلحُوا عليها بـ (آية السَّيفِ) وهي قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية [التوبة:5] ، فدعوى النَّسخِ بهذه الآيةِ دعوى ضعيفةٌ مردودةٌ، وإنَّما هذه مرحلَةٌ غيرُ الأولى، فإذا اقتضى الظَّرفُ حكمَ الإعراضِ فهو باقٍ مُحكمٌ، وإذا اقتضى السَّيفُ فهو باقٍ مُحكمٌ. وحديثُ أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خيرُ أُمتي القرنُ الَّذينَ بُعثتُ فيهم، ثمَّ الَّذينَ يلونَهُم)) والله أعلمُ أذكَر الثَّالث أم لا، قال: ((ثُمَّ يخلفُ قومٌ يُحبُّون السَّمانَةَ، يشهدُونَ قبل أن يُستشهدُوا)) [أخرجه مسلمٌ] ، مع حديثِ زيدِ بن خالدٍ الجُهنيِّ، أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((ألا أُخبركُم بخيرِ الشُّهداءِ؟ الَّذي يأتي بشهَادَتِهِ قبلَ أن يُسألهَا)) [أخرجه مسلمٌ] ، فالأوَّلُ ذمَّ من يشهدُ قبلَ أن يُسألَ

الشَّهادَة بما ينفي عنهُ الخيريَّةَ، والثَّاني يُثبتُ لمن فعلَ ذلك الخيريَّةَ، وهذا تعارُضٌ ظاهرٌ، لكنَّ الفقيهَ لا يعدَمُ جوابًا يُعملُ به الخبرَينِ الصَّحيحينِ، فتأوَّل أهلُ العلمِ حديثَ زيدٍ على واحدٍ من معنيينِ: أن يكونَ من الشَّهادَةِ لصاحبِ حقٍّ لا يعلمُ أنَّكَ شاهدٌ ليأتيكَ فيسْألَكَ، فتشهدُ لهُ قبلَ أنْ تُسألَ الشَّهادَة لتنصُرَهُ في حقِّه، أو يكُونَ في حقوقِ الله تعالى الَّتي يُرجَى فيها الثَّوابُ عندَهُ، لا للآدميِّينَ. وما كانَ من هذا النَّمطِ من الأدلَّة فإنَّ العملَ بكلا الدَّليلينِ حاصلٌ فيهِ، ولوْ مِن وجهٍ، وهذا واجبٌ ما وجَدَ إليهِ الفقيهُ سبيلاً. * * *

2ـ الناسخ والمنسوخ

2ـ الناسخ والمنسوخ * تعريف النسخ: لغة: الرَّفعُ والإزالَةُ، ومنهُ يُقالُ: (نسَخَتِ الشَّمسُ الظِّلَّ) أزالتْهُ، و (نسخَ الكتَاب) رفعَ منهُ إلى غيرهِ. واصطلاحًا: رفعُ حكمٍ شرعيٍّ عمليٍّ جُزئيٍّ ثبتَ بالنَّصِّ بحكمٍ شرعيٍّ عمليٍّ جزئيٍّ ثبتَ بالنَّصِّ وردَ على خلافِه مُتأخِّر عنهُ في وقتِ تشريعِه، ليسَ متَّصلاً بهِ. فالرَّفعُ هو (النَّسخُ) ، والحُكمُ الشَّرعيُّ المرفوعُ هوَ (المنسوخُ) ، والحُكمُ الشَّرعيُّ المتأخِّرُ هو (النِّاسخُ) . * ثبوت النسخ في الكتاب والسنة: النسخُ واقعٌ في نصُوصِ الوحيِ بدلالةِ الكتابِ والسُّنَّةِ، فمن ذلكَ قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106] ، وقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 101ـ 102] ، وقولهُ: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] ، وقوله: {وَإِذَا

تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى} [يونس: 15] . والأمثلةُ الآتية قريبًا من الكتابِ والسُّنَةِ على النسخِ قاطعةٌ بصحَّةِ وقوعِ ذلكَ فيهمَا، وتواترَ عن أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذِكرُ النَّسخِ، وذهبَ إلى القولِ به عامَّةُ أئمَّةِ الإسلامِ من السَّلفِ والخلفِ، إلاَّ شِرذِمَةٌ عُرفتْ بالبِدعَةِ. * حكمة النسخ: النَّسخُ جارٍ على مقاصِدِ الشَّرعِ في تحقيقِ مصلحَةِ المُكلَّفِ، فقدْ ينزلُ الحُكمُ في أمرٍ شديدٍ يشقُّ على المؤمنينَ يُرادُ به اختبارُهم وامتِحانُ صِدقِ إيمانِهِم، كما في نُزُول قولهِ تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284] ، حتَّى إذا ظهرَ التَّسليمُ والانقِيادُ أنْزلَ الله عزَّوجلَّ تصديقَ ما في قُلوبِهِم: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] ، ونزلتِ الآيةُ بعدَهَا بالتَّخفيفِ، وتارةً يُرادُ به التَّدرُّجُ في التَّشريعِ لحدَاثةِ النَّاسِ بالجاهليَّةِ، فيُراعي الشَّارعُ استِعدَادُهم لذلكَ، كالتَّدرُّجِ

شروط النسخ

في الصَّلاةِ في قلَّةِ الرَّكعاتِ والأوقاتِ، إلى خمسٍ في اليومِ واللَّيلَةِ بأوقاتهَا المعلومَةِ، والتَّدرُّجِ في الصِّيامِ بفرضِ صومِ يومٍ واحدٍ أوَّلاً هو يومُ عاشُوراءَ، ثمَّ نُسِخَ بصومِ شهرٍ كاملٍ هُوَ رمضَانَ، وهكذا. وهذا كما قال عزَّوجلَّ: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102] . وحقيقةُ النَّسخِ تغييرٌ للأحكامِ بتغيُّرِ الأحوالِ والظُّروفِ، ممَّن يعلمُ مصالحَ خلقِهِ تباركَ وتعالَى، ولمَّا امتنعَ أن يكونَ للعُلماءِ من الإحاطَةِ بالمصالحِ والمفاسدِ في أحوالِ البشرِ كإحاطَةِ علمِ الله تعالى، امتنعَ القولُ بالنَّسخِ بالاجتهادِ، لما يقعُ به من إبطالِ أحكامِ الشَّرعِ المُتيقَّنَةِ بالظَّنِّ، لكنْ للعلماءِ الاهتِداءُ بمبدإِ النَّسخِ في مُراعَاةِ الظُّروفِ والمناسباتِ فيما مجالُه الاجتهادُ من الأحكامِ، فيُفتي أحدُهُم في المسألةِ في ظرفٍ يكونُ على خلافِهِ في ظرْفٍ آخرَ. * شروط النسخ: أفادَ تعريفُ النَّسخِ المتقدِّمُ الشُّروطَ الَّتي لا بدَّ من توفُّرهَا للقولِ بهِ، وهيَ: 1ـ أن يكونَ الحُكمانِ شرعيَّينِ. 2ـ أن يكونَا عمليَّينِ. 3ـ أن يكونَا جُزْئيَّينِ.

4ـ أن يكونَا ثابتينِ بالنَّصِّ. 5ـ أن يكونَا مُتناقضينِ في المعنى. 6ـ أن يكونَا منفصلينِ. 7ـ أن يكونَ النَّاسخُ مُتأخِّرًا عن المنسوخِ في تشريعِهِ. فإذا اجتمَعتْ هذهِ الشُّروطُ في حُكمينِ صحَّ القولُ بالنَّسخِ. وفي هذه الشُّروطِ منعُ وقوعِ النَّسخِ في أشياءَ، هيَ: 1ـ التَّوحيدُ والصِّفاتُ وسائرُ العقائدِ لامتناعِ التَّناقُضِ فيهَا، وليسَتْ أحكامًا عمليَّةً. 2ـ الأخبارُ الَّتي لم يُقصدُ بها الطَّلبُ، كالإخبارِ عن الأُممِ الماضيَةِ، والإخبارَ عمَّا سيكونُ كأشراطِ السَّاعَةِ، لأنَّ خبرَ الصَّادق يستحيلُ الرُّجوعُ عنهُ لما يقتضيهِ الرُّجوعُ من الإخبارِ على خلافِ الواقعِ في أحدِ الخبرينِ، فإنَّ من قالَ: (جاءَ زيدٌ) ثمَّ قال بعدَهُ: (لمْ يأتِ) فأحدُ خبريةِ على خلافِ الواقعِ جزمًا، بكذبٍ أو وهمٍ، وخبرُ الله ورسولِه مُنزَّهُ عن ذلكَ. ولا ينقضي العجبُ من قولِ بعضِ منْ يُنسبُ إلى السُّنَّة في مسألة (امتناعِ النَّسخِ في الأخبار) : أنَّ النَّسخ ممتنعٌ في الأخبارِ إلاَّ أخبارَ الوعيدِ، فإنَّه يجوزُ فيها النَّسخُ.

وهذا القولُ فلْتَةٌ ممَّن قالهُ، فإنَّ خبر الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في وعدٍ أو وعيدٍ حقٌّ كما أُخبرنا بهِ، وهوَ واقعٌ كما جاءَ به الخبرُ، ولا يُستشكلُ أنَّ الله تعالى قدْ لا ُينفِذُ الوعيدَ، لأنَّه أخبرنَا أنَّ وعيدَه بمشيئتِهِ، فإنْ شاء عذَّب وإن شاءَ رحمَ كما هوَ الشَّأنُ في عُصاةِ الموحِّدينَ، وأخبرنَا أنَّ فريقًا ممَّن وجب عليهمُ الوعيدُ لاانفِكاكَ لهُم عنهُ بحالٍ كالكُفَّارِ في نارِ جهنَّم، فأيُّ نسخٍ سيقعُ في الوعيدِ، وهوَ إمَّا مُنجَّزٌ وإمَّا مُعلَّقٌ بنفسِ دلالةِ الخبرِ؟ 3ـ نصوصُ الأخلاقِ والفضائلِ، فإنَّها لا يُتصوَّرُ في مثلهَا التَّبديلُ، فالفضيلةُ لا يُقابلُها إلاَّ الرَّذيلةَ، والصِّلةُ تُقابلُها القطيعَةُ، والإحسانُ تُقابلُه الإساءَة، والكرَمُ يُقابلُه البُخلُ، وهكذَا، ومن شرْطِ النَّاسخِ التَّقابلُ بين النَّاسخِ والمنسُوخِ، فإمَّا هذا أو ذاكَ، لا يجتمعانِ في التَّكليفِ. 4ـ القواعدُ الكُلِّيَّةُ ومقاصدُ التَّشريعِ، لأنَّها كُلِّيات، ولم يقعْ في جميعِ ما يُذكرُ مِمَّا وقع فيه النَّسخُ من نصُوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ نسخٌ لقاعِدَةٍ كلِّيَّةٍ، إنَّما جميُعُها واردٌ في جُزئيَّاتِ الأحكامِ رِعايَةً للمقاصِدِ الكُلِّيَّة كما سبقَ الإشارَةُ إليهِ في (حِكمةِ النَّسخِ) . 5ـ أحكامٌ جُزئيَّةٌ اقترَنَ تشريعُها بما دلَّ على تأبيدِهَا، كقوله تعالى في حديثِ فرْضِ الصَّلواتِ ليلةَ المِعراجِ: ((هيَ خمسٌ وهيَ خمسُونَ، لا

يُبدَّلُ القولُ لديَّ)) [متفقٌ عليه] ، وقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تنْقطِعُ الهِجرَةُ حتَّى تنقطِع التَّوبةُ، ولا تنقطِعُ التَّوبَةُ حتَّى تطلُع الشَّمسُ من مغربِها)) [حديثٌ حسنٌ أخرجه أبوداود وغيرُه عن مُعاوية] . كما دلَّت الشُّروطُ المذكورةُ على منعِ وقوع النَّسخِ بأشياءٍ، هيَ: 1ـ قولُ الصَّحابيِّ: (هذا النَّصُّ منسوخٌ) حتَّى يُذكرَ النَّاسخَ ويُفسِّرُ ذلك بما ينطبِقُ ومعنى النَّسخِ، وذلكَ لجوازِ أن يعني بالنَّسخِ التَّخصيصِ، أو ظنَّه كذلكَ باجتِهادِه، فيكونُ من قبيلِ مذاهبِ الصَّحابةِ، وهيَ وارِدَةٌ بعدَ النَّصِّ. والقولُ بعدَمِ قبولِ النَّسخِ بهذا الطَّريقِ عليهِ جمهُورُ العلماءِ. 2ـ الإجماعُ المُدَّعى في كثيرٍ من المسائلِ والَّذي سبقَ بيانُه في (دليل الإجماع) بأنَّه القولُ الَّذي لا يُعرفُ لهُ مخالفٌ، فإنَّ هذا الإجماعَ ليسَ بحُجَّةٍ بنفسِهِ، ثمَّ إنه جاءَ بعد النَّصِّ، ومن لازِمٍ ثُبوتِ النَّاسخِ والمنسوخِ بالنَّصِّ أن يكونَ القولُ بالنَّسخِ قدِ انقطَعَ بموتِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لانقطاعِ النُّصوصِ. وفي هذا إبطالٌ لمذهبِ من قالَ بنسخِ بعضِ النُّصوصِ بالإجماعِ، كنسخِ قتلِ شاربِ الخمرِ في الرَّابعةِ. وزعمَ البعضُ: أنَّ الإجماعَ على تركِ العملِ بالنَّصِّ يدلُّ على وُجودِ النَّاسخِ لكنَّه لم يصِلنَا.

أنواع ما يقع به النسخ

وهذا خطأٌ جسيمٌ بُني على ظنٍّ ووهمٍ، ذلكَ أنَّهُ تضمَّن الاعتقادَ بضياعِ شيءٍ من الدِّينِ وحفظِ ما يُعارضُهُ، وهذا ضلالٌ وجهلٌ م قائلِه، فإنَّ الله الَّذي أكملَ لنا الدِّينَ تعهَّدَ بحفظِه، وإن كانَ يخفَى بعضُه على الأفرادِ فلا يجوزُ أن يخفَى جميعُه على جميعِ الأمَّةِ، فإنَّ اتِّفاقها على تضييعِ نصٍّ من نصوصِ الشَّرعِ اتِّفاقٌ منها على الضَّلالِ، فكيفَ يصحُّ هذا وهيَ معصُومَةٌ منهُ، وما هذا القولُ في الحقيقةِ إلاَّ دليلٌ على فسادِ هذهِ الدَّعاوى في الإجماعِ الموهومِ. 3ـ القياسُ، لأنَّ من شرطِ صحَّتِهِ البناءَ على النَّصِّ، فإذا ناقضَ نصًّا آخرَ فاحتِمالُ النَّسخِ وارِدٌ بين النَّصِّ الَّذي استُفيدَ منهُ حكمُ القِياسِ، والنَّصِّ المعارضِ لهُ، لا بينَ نصٍّ وقياسٍ، على أنَّ القياسَ لا يصحُّ وُرودُه بخلافِ النَّصِّ. كما دلَّ التَّعريفُ المتقدِّمُ علَى: أنَّ ما ثبتَ بدليلِ (استِصحابِ الإباحَةِ الأصليَّةِ) ، ثمَّ جاءَ نَصٌّ نقلَ عن تلكَ الإباحَة، فليسَ هذا من قبيلِ النَّسخِ، لأنَّ الإباحَةَ لم تُبنَ على دليلِ بخصوصِ تلكَ الجُزئيَّةِ، إنَّما أُلحقَتْ بدليلٍ عامٍّ وقاعِدَةٍ كليَّة ترجعُ إلى عدَمِ النَّصِّ، فليسَتْ (حُكمًا شرعيًّا فرعيًّا ثبتَ بالنَّصِّ) . * أنواع ما يقع به النَّسخ: لمَّا كانَ أمرُ (النَّسخِ) قدْ فُرغَ منهُ لارتِباطٍه بِنُزولِ الوحيِ، ثبَتَ

باستِقراءِ صُورِ النَّسخِ أنَّه واقعٌ بأربعَةِ أشياءَ: الأوَّلُ: نسخُ قُرآنٍ، كنسخِ قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] بآياتِ المواريثِ من سورةِ النِّساءِ، وصحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قولهُ: ((إنَّ الله قدْ أعطَى كلَّ ذِي حقٍّ حقَّهٌ، فلا وصيَّةَ لوارثٍ)) [أخرجه أصحابُ السُّنن وغيرُهم] ، وصحَّ القولُ بنسخِهَا عن جماهيرِ السَّلفِ، كابنِ عبَّاسٍ وغيرِه، وإنْ كانُوا قدِ اختلفُوا في النَّاسخِ: هلْ هوَ آياتُ المواريثِ أمِ الحديثُ؟ والثَّاني: نسخُ سنَّةٍ بسنَّةٍ، كصفَةِ التَّطبيقِ في الرُّكوعِ، فعنْ علقَمَةَ بنِ قيسٍ والأسودِ بنِ يزيدَ: أنَّهما دخلاَ على عبد الله (هُو ابنُ مسعودٍ) ، فقالَ: أصلَّى من خلفَكُم؟ قالاَ: نعَمْ، فقامَ بينهُمَا، وجعلَ أحدَهُما عن يمينهِ والآخرَ عن شمالِهِ، ثمَّ ركعنَا، فوضَعنَا أيدينَا على رُكبِنَا، فضرَبَ أيدينَا، ثمَّ طبَّق بين يديهِ، ثمَّ جعلهُما بينَ فخِذيهِ، فلمَّا صلَّى قالَ: هكذا فعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: [رواه مسلمٌ] ، نسخَهُ ما في حديث سعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنهُ، فعنِ ابنِهِ مُصعبٍ قالَ: صلَّيتُ إلى جنبِ أبي، فلمَّا ركعتُ شبَّكتُ أصابِعِي وجعلتُهُما بينَ رُكبتيَّ، فضرَبَ يديَّ، فلمَّا صلَّى قالَ: قدْ كُنَّا نفعلُ هذا، ثمَّ أُمرنَا أن نرفَع إلى الرُّكبِ [متفقٌ عليه] .

والثالثُ: نسخُ قُرآنٍ بسُنَّةٍ، وهو واقعٌ في مذهبِ طائفَةٍ كبيرةٍ من أهلِ العِلمِ خلافًا للشَّافعيِّ وأحمدَ، وممَّا يُذكرُونَهُ لهُ مثالاً: نسخُ قولِه تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] بقولهِ - صلى الله عليه وسلم - المتقدِّم ذِكرهُ قريبًا: ((لا وصيَّةَ لوارثٍ)) . ووُقوعُ النَّسخِ في المثالِ المذكورِ بهذهِ الصُّورِ أظهرُ، والله أعلمُ. وكونُ القرآنِ والسُّنَّةِ وحيًا لا يمنعُ وُقوعَ النَّسخِ بينَهُمَا، لأنَّهُمَا جميعًا من عندِاللهِ. والرَّابعُ: نسخُ سُنَّةٍ بقُرآنٍ، كنسخِ استِقبالِ بيتِ المقدِسِ باستِقبالِ الكعبَةِ، فالأوَّلُ ثابتٌ بالسُّنَّةِ، وهو الحالُ الَّتي كان عليهَا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنونَ معهُ في مكَّةَ وبعدَ الهِجرَةِ زمانًا، ونسخُه بالكتابِ، فعنْ عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهمَا قالَ: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي وهوَ بمكَّةَ نحوَ بيتِ المقدِسِ، والكعبَةُ بين يديهِ، وبعدمَا هاجرَ إلى المدينةِ ستَّةَ عشرَ شهرًا، ثمَّ صُرف إلى الكعبةِ [أخرجه أحمد بسندٍ صحيحٍ] ، وعنِ البرَاءِ بن عازبٍ رضي الله عنهُمَا قالَ: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى نحو بيتِ المقدِسِ ستَّةَ عشرَ أو سبعَةَ عشرَ شهرًا، وكَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ أن يُوجَّه إلى الكعبةِ، فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] فتوجَّه نحوَ الكعبَةِ، وقالَ السُّفهاءُ

الوجوه التي يقع عليها النسخ في القرآن

من النَّاسِ وهمُ اليهُودُ: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] [متفقٌ عليه] . * الوجوه التي يقع عليها النسخ في القرآن: النَّسخُ في القرآن واقعٌ على وُجوهٍ، هيَ: 1ـ نسخُ الحُكمِ مع بقاءِ التِّلاوَةِ. مثالهُ: قولهُ تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نسائكم فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] ، نُسخَ بقولهِ تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] كما صحَّ ذلكَ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهمَا [أخرجه أبو داود] ، وعن عُبادَة بنِ الصَّامتِ رضي الله عنهمَا [أخرجه ابوداود] ، وعن عُبادَةَ بن الصَّامتِ رضي الله عنهُ قالَ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خُذوا عنِّي، خُذُوا عنِّي، قد جعلَ الله لهنَّ سبيلاً، البِكرُ بالبكرِ جلدُ مئةٍ ونفيُ سَنَةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيبِ جلدُ مئةٍ والرَّجمُ)) [أخرجه مسلمٌ] . 2ـ نسخُ التَّلاوَةِ مع بقاءِ الحُكمِ. مثالُهَا: آيةُ الرَّجمِ، فعنْ عُمرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنهُ قالَ: إنَّ الله قد بعثَ محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحقّ، وأنزلَ عليهِ الكتابَ، فكانَ ممَّا أُنزلَ

طريق معرفة النسخ

عليهِ آيةُ الرَّجمِ، قرأْنَاهَا ووعينَاهَا وعقلنَاهَا، فرجَمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنَا بعدَهُ، فأخشَى إن طالَ بالنَّاسِ زمانٌ أن يقولَ قائلٌ: مَا نجدُ الرَّجمَ في كتابِ الله، فيضلُّوا بتركِ فريضةٍ أنزلَهَا الله، وإنَّ الرَّجمَ في كتابِ الله حقٌّ على من زنَى إذا أحصَنَ من الرِّجالِ والنَّساء، إذا قامَتِ البيِّنَةُ، أو كَانَ الحبلُ، أوِ الاعترافُ [متفقٌ عليه] ، وكذلكَ روَى بعضَ معنَى ذلك سعيدُ بن المسيَّب عن عُمرَ، فذَكرَ الآيةَ المنسوخَةَ: ((الشَّيخُ والشَّيخَةُ فارجمُوهُمَا البتَّةَ)) [أخرجه مالكٌ في ((الموطَّأ)) ] . 3ـ نسخُ التَّلاوَةِ والحُكمِ. مثالهُ: ما أفادَهُ حديثُ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: كانَ فيما أُنزلَ من القرآنِ: عشرُ رضعاتٍ معلومَاتٍ يُحرِّمنَ، ثمَّ نُسِخنَ بخمسٍ معلوماتٍ [أخرجه مسلمٌ] . * طريقُ معرفة النسخ: يُعرفُ النَّسخُ بطريقينِ، هُمَا: 1ـ دلالةُ اللَّفظِ عليهِ صراحَةً، بلفظِ رسول الله، كقولهِ: ((نهيتُكمْ عن زيَارَةِ القُبورِ فزُورهَا، ونهيتُكم عن لُحومِ الأضاحي فوقَ ثلاثٍ فأمسَكُوا ما بدا لكُمْ، ونهيتُكمْ عنِ النَّبيذِ إلاَّ في سقَاءٍ، فاشربُوا في الأسقيةِ كُلِّهَا، ولا تشربُوا مُسكِرًا)) [أخرجه مسلمٌ من حديثِ بُريدةَ بن الحصيبِ] ، أو قولِ الصَّحابيِّ راوي الحديثِ،

كحديثِ عليٍّ رضي الله عنه قالَ: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَنَا بالقيامِ في الجنَازَةِ، ثمَّ جلسَ بعدَ ذلكَ وأمرَنَا بالجُلوسِ [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أحمدُ وغيرُهُ، ومعناهُ عندَ مسلمٍ] ، وحديثِ جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهُمَا قالَ: كان آخرَ الأمرينِ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تركُ الوُضوءِ ممَّا مسَّتِ النَّارُ [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أبوداودَ والنَّسائيُّ] . 2ـ قرينَةٌ في سياقِ النَّصِّ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديثِ المتقدِّم قريبًا: ((خُذُوا عنِّي، خُذُوا عنِّي، قد جعلَ الله لهنَّ سبيلاً)) الحديثَ، فهذا يُشيرُ إلىالمنسوخِ، وهو قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نسائكم فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] ، ومثلهُ قولهُ - صلى الله عليه وسلم - في نسخِ آيةِ الوصيَّةِ: ((إنَّ الله قد أعطَى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فلا وصيَّةَ لوارثٍ)) ففيهِ قرينةٌ واضحَةٌ في إرادَةِ آياتِ المواريثِ المُحكَمَةَ. 3ـ معرفَةُ تاريخ المُتقدِّ والمُتأخِّرِ، فيكونُ المتَأخِّرُ ناسخًا للمتقدِّمِ، كما هُو الشَّأنُ في نسخِ القِبلةِ من بيتِ المقدِسِ إلىالكعبَةَ، وقد سبقَ. ومِمَّا ينتدرجُ تحتَ هَذا: أنَّ الأحكامَ الواقعَةَ في حجَّةِ الوَداعِ أوْ بعدَهَا ممَّا يُعارضُ أحكامًا غيرَ معلومَةِ التَّاريخِ، فما ورَدَ في تلكَ الحجَّةِ أو بعدَهَا ناسخٌ لتلكَ الأحكام، لأنَّ في تلكَ الحجَّةِ كمالِ الدِّينِ،

وجميعُ الأحكامِ المُستخلِصةِ منها مُحكمَةٌ، وما وقعَ بعدَ الحجَّةِ أيضًا ممَّا عارضَ ما قبلَهَا قرينَةٌ على إبطالِ الحُكمِ السَّابقِ، وذلكَ نسخٌ. ويُمكنُ أن يُكرَ لكُلِّ من هاتينِ الصُّورتينِ مثالٌ: [1] صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - النَّهيُ عن الشُّربِ قائمًا من وُجوهٍِ، منهَا: حديثُ أبي سعيدٍ الخُدريِّ وأنسِ بن مالكٍ رضي الله عنهُمَا: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - زَجرَ عن الشُّربِ قائمًا [أخرجه مسلمٌ] ، فهذا جاء الفعلُ النَّبويُّ علىخلافِه في حجَّةِ الوداعِ، فعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهُمَا قالَ: سقيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زمْزَمَ، فشربَ وهوَ قائمٌ [متفقٌ عليه] . [2] وعن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنهُ: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سقطَ عن فرسِه فجُحِشَتْ ساقُهُ أو كتِفهُ، وآلى من نسائِه شهرًا، فجلسَ في مشرُبةٍ لهُ درجتُها من جُذُوعٍِ، فأتاهُ أصحابُه يعودُونهُ، فصلَّى بهِمْ جالسًا وهُم قيامٌ، فلمَّا سلَّ قال: ((إنَّما جُعلَ الإمامُ ليُؤتَمَّ بهِ، فإذا كبَّرَ فكبِّرُوا، وإذا ركعَ فاركعُوا، وإذا سَجَدَ فاسْجُدُوا، وإن صلَّى قائمًا فصلُّوا قيامًا)) الحديث [متفقٌ عليه] ، قالَ الحُميدِيُّ فيما نقلهُ عنهُ تلميذُهُ البُخاريُّ في ((صحيحهِ)) في هذا الحديثِ: ((هُوَ في مرضِهِ القديمِ، ثمَّ صلَّى بعدَ ذلكَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جالسًا والنَّاسُ خلفَهُ قيامًا لم يأمُرُهُم بالقُعودِ، وإنَّما يُؤخَذُ بالآخرِ فالآخرِ من فعلِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -)) . عنَى صلاتَهُ - صلى الله عليه وسلم - بالنَّاسِ في مرضِه الَّذي مات فيهِ، والقصَّةُ في

((الصَّحيحينِ)) حيثُ صلَّى قاعدًا، وأبوبكرٍ رضي الله عنهُ يأتّمُّ بهِ قائمًا، والنّاسُ يأتمُّونَ بأبي بكرٍ. أمَّا النَّسخُ بتأخُّرِ إسلامِ الرَّاوي لحديثِ من تقدَّمهُ في الإسلامِ فغيرُ صحيحٍ. * مسائل في النسخ: 1ـ النَّسخُ غيرُ (التَّخصيصِ) في الاصطِلاحِ، وقدْ جرَى الخلفْطُ بينهمَا في طريقةِ المُتقدِّمينَ، ووقعَ ذلكَ في كلامِ بعضِ الصَّحابَةِ في التَّفسيرِ يُطلقُونَ (النَّسخَ) وقدْ يريدُونَ بهِ التَّصيصَ، فليُلاحَظْ هذا من طريقَتِهِم، ولا يُستعملُ إطلاقُهُم النَّسخَ إلاَّ بعدَ تفسيرِهِم للمُرادِ بهِ. مثالهُ: قولُ عبدلله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهمَا: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الآية [النور: 31] ، فنسخَ واسْتثنَى من ذلكَ: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} [النور: 60] [أخرجه أبوداودَ بسندٍ جيِّدٍ] . فسمَّى التَّخصيصَ نسخًا، ولا حرَجَ في الألفاظِ في هذا إذا تبيَّنتْ معانيهَا، لكنْ عليكَ أن تعلمَ ذلكَ، وإذا كانَ الاصطِلاحُ جرَى على معنَى مُعيَّنٍ فلا يصحُّ أن يُقحَمَ فيه ما ليسَ منهُ، خاصَّةً في أحكامِ الشَّريعَةِ، وهذا من أعظمِهَا.

وقد تقدَّم معنَى التَّخصيصِ والنَّسخِ جميعًا على ماجرَى عليهِ الاصطلاحُ، وفي الجُملَةِ فإنَّ التَّخصيصَ من بابِ البيانِ للمُرادِ باللَّفظِ، أمَّا النَّسخُ فهوَ إظهارٌ لِما يُنافي استِمرارَ الحُكمِ الأوَّلِ كليَّةً. 2ـ لا مانعَ من وُقوعِ نسخِ الحُكمِ مرَّتينِ، كتحريمٍ فإباحَةٍ فتحريمٍ، كما ذهبتْ طائفَةٌ من أهلِ العِلمِ إلى وقُوعِهِ في نكاحِ المِتعَةِ، فقدْ حُرِّمَتْ في غزْوَةِ خيبرَ، ثُمَّ أُبيحتْ بعدَهَا، ثمَّ حُرِّمَتْ إلى الأبدِ في عامِ الفتحِ، وفي ذلك نصُوصٌ في ((الصَّحيحينِ)) وغيرِهمَا تُستفادُ من مظانِّها. 3ـ مع ضرُورَةِ معرفَةِ النَّاسخِ والمنسوخِ للفقيهِ، إلاَّ أنَّهُ لا يُظنُّ كثرةُ وجودِ ذلكَ في أدلَّةِ التَّشريِ، وقد أُلِّفتْ فيه مُصنَّفاتٌ خاصَّةٌ مُفيدَةٌ، وفي كثيرٍ ممَّا ادُّعيَ فيه النَّسخُ ممَّا يُذكرُ في تلكَ المُصنَّفاتِ أو غيرهَا تحقيقٍ، ولاحِظِ انطِباقَ شُروطِ النَّسخِ قبلَ القولِ بهِ، كمَا عليكَ مُلاحَظةَ صحَّةِ النَّقلِ لمَا يعتمِدُ على الرِّوايةِ ممَّا قيلَ فيه ناسخٌ أو منسُوخٌ، فإنَّ القولَ بالنَّسخِ شديدٌ لما فيهِ من إبطالِ العملِ بنصٍّ من نُصوصِ الشَّرعِ. * * *

3ـ الترجيح

3ـ الترجيح * تعريفه: هوإثباتُ مرتبَةٍ في أحدِ الدَّليلينِ على الآخرِ. وهوَ إنَّما يصحُّ بين الدَّليلينِ الثَّابتينِ من جهَةِ النَّقلِ في نظرِ الفقيهِ، يكونَانِ مُتضادَّينِ لا سبيلَ لإعمالِهما جميعًا، ولا سبيلَ للقولِ بالنَّسخِ، فالفقيهُ مُضطرٌّ لاختيارِ القولِ بأحدِهِمَا وتركِ الآخرِ. * بين النظرية والواقع: التَّرجيحُ طريقٌ اجتهادِيٌّ، والمُرجَّحاتُ قرائنُ يستعملُهَا الفقيهِ، لوزْنِ الدَّليلَينِ، فأيُّهما رَجَحَتْ كِفَّتهُ بالقرينَةِ فالحُكمُ لهُ ويسقُطُ الآخرُ. لكنْ أينَ موضِعُ هذه الصُّورَةِ من الواقعِ؟ إنَّ حقيقَةَ الاضطِرارِ إلى التَّرجيحِ بينَ دليلينِ تعذَّر الجمعُ بينهُمَا؛ وتعذَّر العلمُ بالنَّسخِ فيهمَا؛ أمرٌ نادرٌ الوُرودِ والوُجودِ، وإذا وقع فلاَ يعدَمُ المُجتهدُ سبيلاً للتَّرجيحِ، وذلكَ بما حقيقتُهُ التَّضعيفُ لأحدِ الدَّليلينِ: 1ـ إمَّا من جهَةِ نقلِ الرِّوايتينِ، فتكونُ إحداهُمَا أقوَى من الأخرَى في حفظِ رُواتِهَا وإتقانِهمْ، أو بكثرتِهِم مع الإتقانِ، فيُحكمُ للدَّليلِ

المُخالفِ بالشُّذُوذِ. 2ـ وإمَّا من جهَةِ ظُهورِ الدَّلالةِ فتكونُ في أحدِهِمَا أظهرَ منهَا في الآخرِ، فيُحكمُ للمُخالفِ بضعفِ وجهِهِ في الاستنباطِ. والتَّرجيحُ بالقوَةِ تضعيفٌ وردٌّ لدَّليل المخالفِ، وحينئذٍ لا تصلُحُ تسمِيَتُهُ دليلاً. أمَّا أن يوجدَ ذلكَ في متْنينِ تكافآ قوَّةً من كلِّ وجهٍ نقلاً ودلالةً ووقَ التَّضادُّ بينهُمَا على وجهٍ يستحيلُ الخُروجُ منهُ إلاَّ بإسقاطِ أحدِهِمَا فهذا مُجرَّدُ دَعوى لا يوجدُ لهَا مثالٌ صحيحٌ، والتَّأصيلُ مع استِحالَةِ التَّفريعِ عبثٌ، وهوَ يمنزلَةِ من يزْرعُ بذْرَةً ميتَةً، ونصُوصُ الدِّينِ المُعظَّمةُ مُنزَّهَةٌ عن ذلكَ. وليسَ من بابِ (التَّرجيحِ) الرِّيبَةُ تقعُ في الأمرِ المُشتبَهِ في حلِّهِ وحُرمتِه، فإنَّ هذا ليسَ من بابِ الأحكامِ، كما تقدَّمتِ الإشارَةُ إليهِ. * * *

الاجتهاد والتقليد

الاجتهاد والتقليد

1ـ الاجتهاد

1ـ الاجتهاد "تعريفه: لغةً: استفراغُ الوُسعِ في أيِّ فعلٍ كانَ. واصطلاحًا: استِفراغُ الفقيهِ وُسعهُ في طلبِ العِلمِ بالأحكامِ الشَّرعيَّةِ بطريقِ الاستِنباطِ من أدلَّةِ الشَّرعِ. ومن التَّعريفِ تتبيَّنُ صفةُ الاجتهادِ، وفيه القيُودُ التَّاليَّةُ: 1ـ وُجوبُ بذْلِ الجُهدِ إلى مُنتهَى الطَّاقةِ. 2ـ وجوبُ أن يكونَ الباذِلُ جُهدَهُ فقيهًا تحقَّقتْ قُدرتُهُ على استفادَةِ الحُكمِ. 3ـ أن يكونَ المطلوبُ التَّوصُّل إلى الأحكامِ الشَّرعيَّةِ العمليَّةِ. 4ـ أن يكونَ التَّوصُّل بطريقِ البَحثِ والنَّظرِ، ممَّا يصلُ بهِ المُجتهِدُ إلى نتيجَةِ مُستقلَّةٍ بهِ. 5ـ أن يكونَ ذلك النَّظرُ في أدلَّةِ الشَّرعِ. وهذا فيه: إخراجُ من يحفظُ المسائلَ بحفظِ المُتُونِ الفقهيَّةِ، أو منْ يأخُذُ تلكَ المسائلِ من المُفتي أو ينقُلُها من الكُتبِ، فهذا ليسَ بمُجتهِدٍ.

حكمه

* حكمه: تقدَّمتِ الإشارَةُ غيرَ مرَّةٍ إلى أنَّ حاجاتِ النَّاسِ لا تتناهَى، والمُستجِدَّاتِ لا تنقطِعُ، من أجلِ ذلكَ جاءَتْ أحكامُ شريعَةِ الإسلامِ فيما يتعلَّقُ بالحوادِثِ مُقنَّنَةً على صفَةِ تُناسبُ أن تُستفادَ منها الحُلولُ لأيِّ أمرٍ طاريءٍ يتَّصلُ بمصالحِ المُكلَّفينَ، وتلكَ القوانِينُ مُتمَثِّلَةٌ بأدلَّة الشَّريعَةِ المُستوعِبَةِ الشَّاملةِ، وهي بينَ نُصوصٍ عامَّةٍ لا تختصُّ بواقِعَةٍ، أو قواعدَ عامَّةٍ، يُمكنُ أن يستَعملهَا الفقيهُ لجميعِ العوارِضِ، فيجِدَ لها الأحكامَ المُناسبَةَ. فلِعلَّةِ بقاءِ الحوادِثِ وحاجَةِ المُكلَّفينَ إلى معرفَةِ أحكامِ دينهِم فيها فإنَّه يجبُ أن يكونَ فيهمْ من يُحقِّقُ الكِفايَةَ لهُم في ذلكَ، وهذا هوَ قولُه عزَّوجلَّ: [التوبة: 122] . والأمَّةُ ونبيُّها - صلى الله عليه وسلم - بينَ أظهُرِهَا كانَ إليه مرجِعُهَا، فكانَ الحُكمُ ينزلُ من السَّماءِ، أو يقعُ باجتهَادِ رَسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيُسدِّدَهُ الله تعالى فيهِ، فلمَّا ماتَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صارَ مرجِع النَّاسِ بعدهُ إلى عُلمائِهمْ والفُقهاءِ فيهم يُبيِّنُونَ لهُم ما أشكلَ، ويُجيبُونَهُم عمَّا أعْضلَ، ولم يزلْ تاريخُ الأمَّةِ شاهدًا على استِمرارِ وُجودِ أهلِ الاجتهادِ فيهَا، وإن كانَ يقصُرُ ذلكَ في أحيانٍ لكنَّهُ لم يُعدَم، فالاجتهادُ باقٍ ما بقيتِ الحاجَةُ إليهِ، وإيجادُ

الخطأ في الاجتهاد

المُجتهدينَ فرضٌ على الأمَّةِ المُسلمَةِ حتَّى تتحقَّقَ كِفايتُها، لا يملِكُ أحدٌ من الخلقِ أن يُلغي ذلكَ. ولقد كانَ من أبطلِ النَّاسِ قولاً من زَعَم أنَّ الاجتهادَ قدْ أُغلِقَ بابَهُ، بلْ هذا القولُ من الضَّلالِ البيِّنِ مهمَا أُلصِق بهِ من المُبرِّراتِ. * الخطأ في الاجتهاد: لمَّا كانَ الاجتهادُ تنزيلاً للقواعِدِ والعُمومَاتِ الشَّرعيَّةِ على المسائلِ المُعيَّنةِ بنظرِ المُجتهِدِ، فإنَّهُ مهمَا قويَتْ ملكَتُه وقُدرتُه فقولهُ غيرُ معصومٍ، فيجوزُ عليه الخطأُ، ومن أجلِ هذا وقعَ الاختلافُ بينَ الفُقهاءِ، إلاَّ أنَّهُ لما كانَ قصدُ المجتهدِ إصابَةَ الحقِّ من الدِّينِ، كانَ خطؤهُ مغفورًا، بلْ لجلالةِ قدْرِ الاجتهادِ فإنَّهُ لم يُجازَ بمُجرَّدِ العُذرِ في الخطإ، إنَّما أثيبَ على ما بذلَ من الجُهدِ في الاجتهادِ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا حكَمَ الحاكِمُ فاجتَهَدَ ثمَّ أصابَ فلهُ أجرانِ، وإذا حَكَم فاجتهَدَ ثمَّ أخطأَ فلهُ أجرٌ)) [متفقٌ عليه عن عمرِو بن العاصِ وأبي هريرَةَ] . ومن لازِمٍ هذا: ضرُورَةُ استِمرارِ طلبِ الحقِّ في المسائِل المُختلفِ فيها حرصًا على إصابَةِ وجهِهِ، فإنَّ الحقَّ واحدٌ لا يتعدَّدُ، ولا يُمكنُ أن يُرادَ في حكمِ الله ورسولهِ - صلى الله عليه وسلم - القولاَنِ المُختلفَانِ. ومن لازِمِه أيضًا: بُطلانَ العصبيَّةِ للمذاهبِ الفقهيَّةِ، وامتناعُ ظنِّ العِصمَةِ لأحدٍ من الفُقهاءِ.

ما يمتنع فيه الاجتهاد

* ما يمتنع فيه الاجتهاد ممَّا تقدَّم ذكرُه في توضيحِ معنى الاجتهادِ والمُجتهد دالٌّ على حصرِ الاجتهادِ فيما لم تبتَّ به نصوصُ الكتابِ والسُّنَّة، فيبقى فيه مجالٌ للنَّظرِ، أمَّا القضايا والأحكامُ الَّتي قطعتْ فيها النُّصوصُ فالأصلُ فيها التَّوقُّفُ عند النَّصِّ من غيرِ زيادةٍ ولا استدراكٍ ولا وجهٍ من التَّغيير، وعليه فيخرُج من الاجتهادِ أمورٌ، هيَ: 1ـ العقائدُ: فهي كلُّها توقيفيَّة، ولهذا امتنعَ اشتِقاقُ الأسماءِ الحسنى من صفاتِ الأفعالِ، فإنَّ الله تعالى هو الَّذي سمَّى نفسهُ في كتابهِ وعلى لسانِ رسولهِ - صلى الله عليه وسلم - بما شاءَ من الأسماءِ، ولسنَا نُدركَ الحُسنَ فيها ليصحَّ لنا القياسُ، فلا يسمَّى الله تعالى: راضيًا ولا ساخطًا ولا غاضبًا، ولا ماكرًا ولا مُهلكًا، ولا غير ذلكَ من الأسماءِ اشتقاقًا من صفاتِ فعلِه: الرِّضى، والسَّخطِ، والغضبِ، والمكرِ، والإهلاكِ. كما يمتنعُ القياسُ لصفاتِه بصفاتِ خلقِهِ بأيِّ وجهٍ من الوُجوهِ، كقول من قالَ: (لله عينان) على التثنيَّة، استِلالاً بأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ في المسيحِ الدَّجالِ: ((إنَّه أعورُ، وإنَّ ربَّكُم ليسَ بِأعورَ)) [متفقٌ عليه من حديث أنسٍ] ، والعورُ في اللُّغة: زوالُ حاسَّةِ البصرِ في إحدَى العينينِ، فيحثُ نفاهُ عن الله تعالى فقدْ دلَّ على أنَّه لهُ عينينِ صحِحتَينِ، فهذا القولُ زيادَةٌ على الأدلَّةِ بتفسيرٍ استُفيدَ من العُرفِ في المخلوقِ، وإنَّما

ما يجوز فيه الاجتهاد

نفى الحديثُ عن الله تعالى العورَ، وإثباتُ لازمهِ يجبُ أن يكونَ بالنَّصِّ، والنَّصُّ إنَّما جاء بإثباتِ كمالِ البصرِ لله ربِّ العالمينَ، فيوقفُ عندهُ من غيرِ زيادَةٍ، وتُثْبَتُ لله العينُ كما أخبرَ عن نفسهِ تعالى، ولا يُقالُ (لهُ عينانِ) لعدمِ وُرودِ ذلكَ صريحًا في النُّصوصِ، إلاَّ في حديثٍ موضوعٍ. 2ـ المقطوعُ بحُكمهِ ضرورةً، وهو ما انعقدَ إجماعُ الأمَّةِ عليهِ، كفرضِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحجِّ، وحرمَةِ الزِّنَا والسَّرقةِ وشربِ الخمرِ وقتلِ النَّفسِ بغير الحقِّ، فإنَّ هذهِ وشِبهُهَا شرائعُ أُحكمتْ على ما عُلمَ للكافَّةِ من أحكامِهَا، لا تُقبلُ الاستِنباطَ في هذا الجانبِ المعلومِ منهَا. 3ـ المقطوعُ بصحَّةِ نقلهِ ودلالتِهِ، كألفاظِ الخاصِّ الَّتي هي نصوصٌ قطعيَّةٌ على ما وردتْ بهِ، مثلُ تحديدِ عددِ الجلدَاتِ في الزِّنَا والقذفِ، وفرائضِ الورثَةِ، ونحوِ ذلكَ. وهذه الأنواعُ هي الَّتي يقالُ فيها: (لا اجتهادَ في موضعِ النَّصِّ) ، المُرادُ به النَّصُّ القطعيُّ في ثُبوتِه ودلالتِهِ، لا مُطلقَ النَّصِّ. * ما يجوزُ فيه الاجتهاد: جميعُ ما لا يندَرجُ تحتَ صُورةٍ من الثَّلاثِ المُتقدِّمةِ فإنَّهُ يسوغُ فيهِ الاجتهادُ، وهوَ يعودُ في جُملتِه إلى صُورتينِ:

1ـ ما وردَ فيه النَّصُّ الظَّنيُّ. وحيثُ أنَّ الظَّنيَّة واردَةٌ على النَّقلِ والثُّبوتِ في نصُوصِ السُّنَّةِ خاصَّةً، وعلى الدَّلالةِ على الحُكمِ في نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ جميعًا، فمجالُ الاجتهادِ في الأمرِ الأوَّلِ أن يبذُلَ المجتهدُ وُسعهُ للوُصولِ إلى ثبوتِ نقلِ الخبرِ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يُزيلُ الشُّبهَةَ في بناءِ الأحكامِ على الأحاديثِ الضَّعيفةِ، فلا يبنِي ويفرِّعُ على الحديثِ قبل العِلمِ بصحَّتِهِ. ومجالُ الاجتهادِ في الأمر الثَّاني وهوَ دلالَةُ النّصِّ على الحُكمِ، فذلكَ بالنَّظرِ إلى ما يدلُّ عليه ذلكَ النَّصُّ من الأحكامِ، وههُنَا يأتي دورُ (قواعدِ الاستِنباطِ) فيتبيَّنُ المجتهدُ ما أُريدَ بالعامِّ في هذا الموضعِ هل هُو باقٍ على شُمولِه جميعَ أفرادِهِ أم خُصِّصَ، والمُطلقُ؛ هل هُو باقٍ على إطلاقهِ أم قيِّدَ، والمُشتركُ؛ ما السَّبيلُ إلى ترجيحِ المعنى المُرادِ، والأمرُ والنَّهيُ؛ هل هُما في هذا النَّصِّ على الأصلِ في دلالتِهمَا أم مصرُوفانِ عنهَا، وهكذَا في سائرِ القواعِدِ. 2ـ ما لا نصَّ فيه. وهذا يستعملُ فيه المُجتهِدُ قواعِدَ النَّظرِ، كالقِياسِ، والمصالحِ المُرسلَةِ، والاستِصحابِ، ومقاصِدِ التَّشريعِ، كُلاًّ بأُصولِه، ليصِلَ إلى استفادِةِب الحُكمِ في الواقعَةِ النَّازلَةِ.

المجتهد وشروطه

* المجتهدُ وشروطه: ممَّا تقدَّم يظهرُ أنَّ المجتهدَ هو الفقيهُ، وهوَ: من كانتْ لهُ القُدْرَةُ على استِفادَةِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ العمليَّةِ من أدلَّتها التَّفصيليَّة. وهذا وصفٌ يُمكنُ أن يتَّصفَ به كُلُّ من حصلَ آلتَهُ، فلا يختصُّ به أحدٌ دونَ أحدٍ، إنَّما العبرَةُ بأن يكونَ أهلاً لهُ، ولا تتحقَّقُ تلكَ الأهليَّةُ إلاَّ بقُدرَةٍ ذاتيَّةٍ على الاستنباطِ والنَّظرِ متمثِّلًةً بفِطْنَةٍ وذكاءٍ، معَ توفُّر شُروطٍ ضروريَّةٍ، تلكَ الشُّروطُ ضوابطُ استُفيدَتْ من أدلَّةِ الشَّرعِ وقواعِدِه، لحفظِ الدِّينِ من أن يقولَ فيه من شاءَ ما شاءَ، وهيَ: 1ـ معرفَة اللُّغَةِ العربيَّةِ. وذلكَ على الوجهِ الَّذي يتمكَّنُ به من فهمِ الكلامِ وتركيبِهِ ودلالاتِهِ على المعاني، ويتطلَّبُ على التَّحديدِ معرفَةَ أصولِ العُلومِ اللُّغويَّة الَّتي لها اتِّصالٌ بكلامِ الله ورسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهيَ: [1] علمُ النَّحوِ، بما يُحسِنُ به الإعرابَ على الأصولِ المسلَّماتِ والرَّاجحاتِ، من غيرِ احتياجٍ للتَّعمُّقِ في خلافِ النُّحاةِ. [2] عِلمُ الصَّرفِ، بما يُحسنُ به ما تعودُ إليه أصولُ الكلماتِ معَ ما يتغيَّر به ضبطُها بسببِ الاشتِقاقِ، لِما يقعُ لهُ من التَّأثيرِ كثيرًا على اختلافِ الدَّلالاتِ والمعاني.

[3] علمُ البلاغَةِ، بالمقدارِ الَّذي يتمكَّنُ فيه من معرفَةِ وجوهِ المعاني، وما تتخرَّجُ عليه الأساليبُ العربيَّةُ من الاستعمالاتِ، كدلالاتِ الخبرِ والإنشاءِ، وتأثيرِ التَّقديمِ والتَّأخيرِ والحذْفِ والتَّعريفِ والتَّنكيرِ والإطلاقِ والتَّقييدِ والوصلِ والفصلِ والإيجازِ والإطنابِ والحقيقةِ والمجازِ والتَّشبيه والاستِعارَة، وغير ذلكَ. وهو علمٌ عظيمٌ لمعرفةِ أسرارِ القُرآنِ والسُّننِ. ولا يحتاجُ المجتهدُ إلى المعرفَةِ بعلمِ البديعِ منها، إنَّما حاجتُهُ إلى عِلمي (المعاني والبيانِ) . [4] علمُ الحُروفِ. والمقصودُ به الحُروفُ الَّتي هي من أقسامِ الكلامِ كحروفِ الجرِّ والعطفِ، لا الحُروفُ الَّتي تتركَّبُ منها المُفرداتُ. وهذا علمٌ يجبُ على الفقيهِ أن يُدركَ منه ما تدلُّ عليه الحُروفُ من المعانِي ليُدركَ وجوهَهَا في نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ، كمعرفَة معاني حروفِ العطفِ وماتقتضيهِ من المُغايرَةِ بين المعطُوفِ والمعطُوفِ عليهِ، أو الاشتراكِ أو التَّرتيبِ أو التَّراخي، أو غيرِ ذلكَ. وقدْ عُني بهذا الفنِّ طائفَةٌ من أئمَّةِ العربيَّةِ والأصولِ فضمَّنُوا الكلامَ في معانيِها كُتُبُهم، ومنهُم من أفردَهَا بالتَّصنيفِ، فالوُقوفُ عليها متيسِّرٌ.

2ـ معرفة القرآن

هذه العُلومُ من عُلومِ العربيَّةِ الَّتي يجبُ على المُجتهِدِ أن يُلمَّ بالقَدْرِ الّضذي يتَّصلُ بنصوصِ الشَّرعِ منها، أمَّا معرفَةُ الشِّعرِ والعروضِ فلا تلزمُ المُجتهِدَ. وكذلكَ معرفَةُ معاني المُفردَاتِ فإنَّه يكفيهِ أن يكونَ عندَهُ مرجعٌ في شرحِهَا مثلُ (لِسانِ العربِ) لابنِ منظُورٍ أو غيرِه، يعودُ إليهِ عندَ الحاجَةِ. 2ـ معرفَةُ القرآنِ. والمقصودُ أن يَعرفَ كيفَ يستفيدُ الأحكامَ من نُصوصِهِ، وهوَ يتطلَّبُ معرفَةَ خمسَةِ علُومٍ من عُلومِهِ على التَّحديدِ: [1] أحكامُ القُرآن. وذلكَ بمعرفَةِ الآياتِ الَّتي دلَّت على الأحكامِ منهُ، وقيلَ: هيَ نحوُ خمسِ مِئَةِ آيةٍ، وليسَ هذا بحصرٍ فالمُجتهدُ قد يجدُ الحُكمَ في قصَّةٍ أومثلٍ من القرآنِ، لكن عليهِ أن يعرفَ ما لهُ علاقَةٌ ظاهرَةٌ بالأحكامِ منهُ، وممَّا يُساعِدُه في ذلكَ أنَّ طائفَةً من العُلماءِ اعتَنَوْا بآياتِ الأحكامِ خاصَّةً فأفرَدُوهَا بالتَّصنيفِ، ككِتابِ (أحكامِ القُرآنِ) للجصَّاصِ الحنفيِّ، ومثلهُ لأبي بكرِ ابنِ العربيِّ المالكيِّ، ومن الجوامِعِ فيهِ (الجامعُ لأحكامِ القرآنِ) لأبي عبد الله القُرطُبيِّ، وهذا الأخيرُ عظيمُ المنفعَةِ

غزيرُ العلمِ. [2] علمُ نُزولِ القرآنِ. وأجلُّه معرفَةُ أسبابِ النُّزولِ، وفيه الوُقوفُ على حِكَمِ التَّشريعِ ومقاصِدِ الشَّريعَةِ، وإدراكِ الوجهِ الَّذي يكونُ عليهِ معنى الآيةِ، والجهلُ به مُورِدٌ لزللٍ في الفهمِ ووضعٍ للنَّصِّ في غيرِ محلِّهِ، وخُذْلَهُ مثالاً: فعنْ حُميدِ بن عبد الرَّحمنِ بنِ عوفٍ: أنَّ مرْوَانَ (وهوَ ابنُ الحَكَمِ) قالَ: اذهبْ يا رافعُ إلى ابنِ عبَّاسٍ فقلْ: لئنْ كَانَ كُلُّ امريءٍ منَّا فرحَ بما أتَى وأحبَّ أن يُحمدَ بما لم يَفْعلْ مُعذَّبًا لنُعَذَّبنَّ أجمعُونَ، فقالَ ابنُ عبَّاسٍ: ما لكُم ولهذِهِ الآيةِ؟ إنَّما أُنزِلتْ هذهِ الآيةُ في أهلِ الكتابِ، ثمَّ تلا ابنُ عبَّاسٍ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} هذه الآية [آل عمران: 187] ، وتلاَ ابنُ عبَّاسٍ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188] ، وقال ابنُ عبَّاسٍ: سألهُم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ فكتمُوهُ إيَّاهُ وأخبروهُ بغيرِهِ، فخرَجُوا قدْ أروْهُ أن قدْ أخبَرُوهُ بما سألَهُمْ عنهُ واستَحْمَدُوا بذلكَ إليهِ، وفرِحُوا بما أتَوْا من كِتْمانِهِم إيَّاهُ ما سألَهُمْ عنهُ [متفقٌ عليه] . ومنهُ معرفَةُ المكِّيِّ والمدنيِّ، ومن فوائدِهِ: معرفَةُ أحكامِ اختِلافِ

الدَّارينِ، ومُراعَاةُ الظُّروفِ والمُناسباتِ وأحوالِ المُكلَّفينَ. [3] علمُ النَّاسخِ والمنسوخِ. وهو قليلٌ في القرآنِ، إلاَّ أنَّ معرفتَهُ لا بدَّ منها للمُجتهِدِ، لمَا يَنْبنِي عليه من إبطالِ العملِ بنصٍّ وبناءِ الحُكمِ على خلافِهِ. [4] علمُ اختلافِ القراءاتِ. والَّذي يحتاجُه منهُ هوَ الوُقوفُ على وُجوهِ القراءاتِ الثَّابتَةِ لآياتِ الأحكامِ، فلهَا تأثيرٌ على استِفادَةِ الحُكمِ، تارَةً بالإبانَةِ عنهُ وإيضاحِهِ، وتارةً بإفاَدةِ حُكمٍ جديدٍ، وبِغيرِ ذلكَ. [5] علمُ التَّفسيرِ. يعرفُ منهُ ما يتَّصلُ بقواعِدِهِ ويرجعُ كثيرٌ منها في الحقيقةِ إلى (عُلوم العربيَّة) و (أُصولِ الفقهِ) ، لكنْ منهُ جوانبُ خاصَّةٌ به كمعرفَةِ وُجوهِ التَّبايُّنِ في أقوالِ المُفسِّرينَ وما ترجعُ إليهِ، ومعرفَةِ أهلِهِ والعارفينَ بهِ، وتمييزِ الإسرائيليَّاتِ حَذر التَّأثُّرِ بهَا في استِنباطِ الأحكامِ. وممَّا تنبغي مُلاحظَتُهُ: أنَّ حفظَ القرآنِ حسنٌ للمُجتهِدِ لكنَّهُ ليسَ بشرْطٍ في الاجتهادِ، لأنَّ المطلوبَ هو أن يقفَ على الآيةِ الدَّالَّةِ على الحُكمِ، فإذَا أمكنهُ ذلكَ بأيِّ طريقٍ فقدْ تحصَّلَ المقصودُ.

3ـ معرفة السنة

3ـ معرفة السُّنَّة. والواجبُ أن يعرفَ منها: [1] ما يُميِّزُ بهِ الصَّحيحَ من السَّقيمِ، وهذا يتطلَّبُ معرفَةً بعلومِ مُصطلحِ الحديثِ، والجرْحِ والتَّعديلِ، وعللِ الحديثِ. لكنْ لهُ أن يعتمِدَ على العارفينَ المُتخصِّصينَ فيهِ، ويكفيهِ ذلكَ عنِ النَّظرِ بنفسِهِ واجتِهادِهِ في تفاصيلِ هذا العلمِ، فيأخُذُ مثلاً تصحيحَ الشَّيخينِ البُخاريِّ ومسلمٍ للحديثِ المُعيَّنِ أو غيرِهمَا من أهلِ هذا الفنِّ إذا تبيَّن لهُ أنَّهمْ م المُثبتينَ فيهِ. غيرَ أنَّ اعتِمَادَهُ على أصحابِ التَّخصُّصِ لا يُعفيهِ من أن يكونَ لهُ من الفهمِ في قواعِدِ هذا العلمِ ما يُرجِّحُ بهِ عندَ الاختِلافِ. ومن ذلكَ أن يُميِّزَ المُتواترَ من الآحادِ. [2] الأحاديثَ الَّتي تدُورُ عليها الأحكامُ، ويحسُنُ بهِ حفظُهَا أو ما تيسَّرَ منها ولا يجبُ. ولطائفَةٍ من العلماءِ اعتِناءٌ بأحاديثِ الأحكامِ، ومن الكُتبِ النَّافعَةِ فيها كتابُ (مُنتقى الأخبارِ) لمجْدِ الدِّينِ ابنِ تيميَّةَ، و (بُلوغِ المرَامِ) للحافظِ ابنِ حجرْ العسقلانِيِّ. ويجدُرُ به أن يعرفَ موارِدَ الأحاديثِ، فإنَّ لها من المنفعَةِ للمُجتهِدِ ما لأسبابِ نُزولِ القرآن، كما عليهِ أن يُلاحظَ زيادَاتِ الثِّقاتِ في

4ـ معرفة علم أصول الفقه

المُتونِ فيعْتنِي بتتبُّعِهَا وجمعِهَا وتحقيقِ ثُبوتِهَا، فلهَا من التَّأثير ِفي الفقهِ والاستِنباطِ ما يُسبِّبُ اختلافَ العُلماءِ كثيرًا. 4ـ معرفةُ علمِ أُصولِ الفقه. هذا العِلمُ القَاعِدَةُ العُظمَى للمُجتهِدِ للتَّوصُّلِ إلى الأحكامِ. وتقدَّم في ثنايَا هذا الكِتابِ ما يُدرِكُ بهِ ذلكَ، فهو بجميعِ تفاصيلِ أنواعِهِ واجبُ التَّحصيلِ للمُجتهِدِ. 5ـ معرفَةُ مواضعِ الإجمَاعِ. والمقصودُ به الإجماعُ الصَّحيحُ الَّذي تقدَّمَ شَرحُهُ في (أدلَّةِ الأحكامِ) ، وذلكَ لئلاَّ يقضِي بخلاَفِهِ. وما يبقَى بعدَ هذهِ الشُّروطِ فضلَةٌ وليسَ بلاَزِمٍ للمُجتهِدِ، فلهُ أن يضرِبَ بنصِيِهِ منهَا كما يشاءُ، خاصَّةً آراءَ المُجتهدِينَ من السَّلفِ في القُرونِ الفاضلَةِ لينظُرَ أساليبَهُم في النَّظرِ والاستِنباطِ، ويعرفَ الخلافُ وأدبَهُ، كما يحسُنُ به أن يعرفَ رأيَ من سبقهُ من العُلماءِ المُجتهدينَ في المسائلِ الَّتي يتعرَّضُ لها، ويتحرَّى أقوالَهُم قبلَ المصيرِ

إلى وفاقِهَا أو خلافِهَا، كما يحسُنُ به أن يكونَ لهُ نظرٌ في الشِّعرِ والأدبِ لترويضِ اللِّسانٍِ بلُغَةِ العربِ. كما يحسُنُ به أن يعرفَ مبادِيءَ في الحِسابِ تُساعِدُهُ في حسابِ المواريثِ، ويُمكنُ أن يعودَ فيها إلى من يُحسِنُهَا فيما يتعلَّقُ بالحسابِ المحضِ. أمَّا فُنونُ العلمِ الخارِجَةُ عنِ العُلومِ الشَّرعيَّةِ وما يلتَصِقُ بهَا، كالطِّبِّ والهندَسَةِ والزِّراعَةِ والصِّناعَةِ، فلا صلَةَ لها بالاجتهادِ، وإنْ عرضَ للمُجتهِدِ من الحوادثِ ما يحتاجُ إليهَا فيه فإنَّهُ يكفيهِ أن يرجِعَ إلى أهلِهَا يسألُهُم، ويعتمِدُ قولَهُمْ. * مسألتان: 1ـ هلْ الاجتهادُ يقبلُ التَّجَزُّر؟ المقصُودُ بذلكَ: القُدرةُ على الاجتهادِ في بعضِ المسائلِ دُونَ بعضٍ، أو بعضِ الأبوابِ دون بعضٍ، اختلفَ العلماءُ في جوازِ ذلكَ على قولينِ: [1] يقبلُ التَّجزُّؤ، فيُمكنُ أن يجتهدَ الإنسانُ بأحكامِ المناسِكِ لإحاطتِهِ وعنايَتِه بها، دون سائرِ الأحكامِ، ومنذُ عهدِ الصَّحابةِ كانَ هذا شائعًا في المجتهدينَ.

[2] لا يقبلُ، لأنَّ الاجتهادَ ملكَةٌ تحصُلُ للمُجتهدِ بجمعِهِ لآلاتٍ معيَّنةٍ، وهذه الآلاتُ إذا اجتمعَتْ تمكَّن بها من النَّظرِ في أيِّ مسألةٍ. وأظهرُ القولينِ هو الثَّاني، فإنَّ من أمكنهُ الاجتهادُ في المناسِك لزِمهُ فيه شُروطُ الاجتهادِ، فإذا وُجدَتْ فيه كانَ لهُ الاجتهادُ في سواهَا، وليسَ المقصودُ بالمجتهدِ أن يكونَ قدِ اجتهدَ في كلِّ قضيَّةٍ، إنَّما المجتهدُ من أمكنَهُ أن يجتهدَ في كلِّ قضيَّةٍ لتملُّكهِ لآلَةِ الاجتهَادِ. هذا مع أنَّ المجتهِدَ قد يتوقفُ عن الجوابِ لعدَمِ ظُهورِ وجهِ الحُكمِ لهُ، لا لنقصٍ في الآلةِ أو قصُورٍ في الشَّرطِ، وقد حصل من هذا شيءٌ كثيرٌ لكثيرٍ من أئمَّةِ الأمَّةِ المقتدَى بهم في الدِّينِ. 2ـ الاجتهادُ لا يُنقضُ بمثلِهِ: والمعنَى: أنَّ المجتهدَ إذا أدَّاهُ اجتِهادُه إلى حُكمِ في قضيَّةٍ باجتِهادِهِ، ثمَّ بدا لهُ الرُّجوعُ عن ذلكَ الاجتهادِ، فلاَ ينتقِضُ حكمُ الاجتهادِ الأوَّل بالاجتهادِ الثَّاني، إنَّما يمضي على ما وقعَ، ويكونُ الاجتهادُ الثَّاني هو المُعتمدَ فيما سيقعُ، لأنَّ كُلاًّ من الاجتهادَينِ وقعَ بالظَّمِّ الرَّاجحِ في نظرِ المجتهِدِ، وكانَ هُوَ المُتعيَّنَ في وقتِهِ. ومن هذا ما حدَّثَ به الحكمُ بنُ مسعودٍ الثَّقفيُّ قالَ: شهِدتُ عُمرَ بنَ الخطَّابِ أشركَ بين الإخوَةِ من الأبِ والأمِّ مع الإخوةِ من الأمِّ في

الثُّلثِ، فقالَ لهُ رجلٌ: قضيتَ في هذا عامَ أوَّل بغيرِ هذا، قالَ: كيفَ قضيتُ؟ قالَ: جعلتَهُ للإخوَةِ من الأمِّ، ولم تجعلْ للإخوَةِ من الأبِ والأمِّ شيئًا، قالَ: تلكَ على ما قضينَا، وهذه على ما قضينَا [أخرجه يعقوبُ بن سُفيانَ في ((التاريخ)) بسندٍ صحيحٍ إلى الحكمِ] . وكما لا يُنقضُ الحُكمُ النَّافذُ بالاجتهادِ السَّابقِ باجتهادٍ مُتأخِّرٍ لنفسِ المجتهدِ، فكذلكَ لا يُنقضُ ذلك باجتهادٍ مُتأخِّرٍ لمُجتهِدٍ آخرَ، وإنَّما يمضي اجتهادُ المُجتهِدِ الأوَّلِ على ما مضَى عليهِ، ويُلتزَمُ اجتهادُ المُجتهدِ الثَّاني فيما يُرادُ إمضَاؤهُ. * * *

2ـ التقليد

2ـ التقليد * تعريفه: هُو اتِّباعُ الإنسانِ غيرَهُ ممَّنْ يعتقِدُ فيه الدِّينَ، والصَّلاحَ والعلمَ في قولٍ أو فعلٍ معتقِدًا للحقيقةِ فيهِ، من غيرِ علمٍ بدليلِ ذلكَ الغيرِ على قولهِ أو فعلهِ، وكأنَّ هذا المتَّبع جعلَ قولَ الغيرِ أو فعلهُ قلاَدَةً في عُنُقِهِ. هذا التَّعريفُ يخرجُ مُتابعَةَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنَّ قولهُ وفعلَهُ دليلٌ لذاتِه، وإنَّما يندرجُ تحتَهُ مُتابعَةَ من سواهُ ممَّن يفتقِرُ قولهُ أو فعلهُ إلى الدَّليلِ، فيُتابعهُ المُقلِّدُ من غيرِ علمِ بالحُجَّةِ الَّتي استَنَدَ إليهَا في ذلكَ القولِ أوِ الفعلِ. * حكمه: النَّاسُ في هذه المسألةِ على خُصومَةٍ شديدةٍ وآراءٍ عديدَةٍ، والأمرُ فيها سهلٌ قريبٌ، فإنَّ النِّقمَةَ 'لى (التَّقليدِ) لا تليقُ أن تكونَ بِسببِ اللَّفظِ، لما يُعلمَ بالاتِّفاقِ أنَّ المُصطلحاتِ بحسبِ ما قُصدَ بهَا. فإذاَ كانتْ حقيقَةُ (التَّقليدِ) مُتابعَةَ المُجتهِدينَ من علماءِ الأمَّةِ ومفتيهَا في اجتهادَاتِهم من غيرِ علمٍ بأدلَّتهمْ على تلكَ الاجتِهادَاتِ من الكتابِ والسُّنَةِ، فلنُحاكمْ هذا المعنَى بأدلَّةِ الشَّريعَةِ نفسِهَا، فإنْ صحَّحَهُ الدَّليلُ قبلنَاهُ وإلاَّ أنكرناهُ.

وللجوابِ عن ذلكَ أُذكِّرُ بمقدِّماتٍ سبقتْ تُساعدُ على معرفَةِ حكمِ هذه القضيَّةِ، منهَا: تعريفُ الفقهِ بأنَّه فهمُ الدَّليلِ، وأنَّ الله تعالى لم يُكلِّفِ النَّاسَ جميعًا أن يكونُوا فُقهاءَ مُنقطعينَ لذلكَ، وإنَّما أوجبَ تحصيلَ الكِفايَةِ من الفقهَاءِ لحاجَةِ العامَّةِ، وأنَّ طُرقَ النَّظرِ في الأدلَّةِ ليستْ ممْكنَةً لكلِّ أحدٍ؛ إلاَّ ما علمهُ النَّاسُ بالضَّرورَةِ من دينِهم وهو خارجٌ عن موضوعِ الاجتهادِ والتَّقليدِ، وأنَّ للاجتهادِ شُروطًا لا يُتصوَّرُ أن تُكلِّفَ بها الشَّريعَةُ الرَّحيمَةُ كلَّ أحدٍ وهي الَّتي من أعظمِ مبادئهَا رفعُ الحرجِ عن عُمومِ المكلَّفينَ. إلى غيرذلكَ من المقدِّمات المسلَّماتِ السَّالفة في علمِ الأصولِ، والَّتي تجعلُ المسمينَ صنفينِ بالضَّرورةِ، همَا: قادرٌ على فهمِ الدَّليلِ والتَّفقُّع فيع بجمعِه لأسبابِ الفقهِ وآلتِهِ، أو عاجزٌ عن ذلك، فالأوَّلُ لا عُذْرَ لهُ اتِّفاقًا في تركِ الاجتهادِ فيما أمكنَهُ فهمُهُ بآلتِهِ، فإن عجزَ في شيءٍ انتقلَ ليكونَ في الصِّنفِ الثَّاني، وهو العاجزُ، وهذا الثَّاني مُحالٌّ بأمر الله تعالى لهُ على الفُقهاءِ المجتهدينَ القادرينَ على استِنباطِ الشَّرائع كما قال عزَّوجلَّ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ، فهلْ للتَّقليدِ صورةٌ في الحقيقةِ إلاَّ هذه؟ فإذا ظهر هذا فقدْ دلَّ على أنَّ التَّقليدَ للعاجزِ عن الاجتهادِ مأمورٌ

تقليد الفقهاء الأربعة

به في الشَّرعِ. وأمَّا ما يُذكرُ من نهيِ الأئمَّةِ عن تقليدهم فكانَ منهُم خطابًا لمن يظنُّونه أهلاً للاجتهادِ، وإلاَّ فالأخبارُ لا حصرَ لهَا في مسائلِ العامَّةِ لفقهاءِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعهم من طبقةِ الفقهاءِ الأربعةِ، وهُم يفتونَهُم في معظمِ المسائلِ الاجتهاديَّةِ لا يذكرونَ لهمْ كيفَ استفادُوهَا. هذا؛ والواقعُ أنَّ التَّقليدَ ضرورةٌ حاصلةٌ، وكلُّ النَّاسِ يحتاجُونَ إليهِ في بعضِ أحيانهِم، والعلَّةُ في ذلكَ أنَّ الله عزَّوجلَّ جعلَ علمَ الإنساِ محدُودًا، فيخفى عليه من الأمورِ ما لا يجدُ منهُ مخرجًا إلاَّ بتقليدِ من يقدِّمهُ في العلمِ والدِّين، حتَّى من المجتهدِينَ الكبارِ أنفسُهم، فإنَّهم موصوفونَ بالاجتهادِ المُطلقِ بحقٍّ، ومع ذلكَ فربَّمَا اضطرَّ أحدُهُم للتَّقليدِ في المسألةِ والمسائلِ لخفاءِ العلمِ فيها عليهِ فكيفَ يكونُ حالُ العامِّيِّ؟! * تقليد الفقهاء الأربعة: الأئمَّةُ الأربعةُ: أبوحنيفةَ، ومالكُ بن أنسٍ، والشَّافعيُّ، وأحمدُ بن حنبلٍ، رحمهم الله، من سادَة الأمَّةِ وأعلامِ الأئمَّةِ، كتبَ الله تعالى لهُم القبولَ في نفوسِ أهل الإسلامِ، وجعلهُم قدْوَةً للأنامِ على مرِّ العصُورِ

في فروعِ الشَّريعَةِ، كما جعلهُم مع إخوانِهم من أمثالِهم من الأئمَّةِ كالثَّوريِّ والأزواعيِّ وابنِ عُيينَةَ والحُميدِيِّ وإسحاقَ بنِ راهويه وغيرهم أئمَّةَ النَّاس في أصولِ الشَّريعةِ. ولم يكُنِ الاجتهادُ مقصورًا على هؤلاءِ الأربعةِ، ولكنَّ الله تعالى قيَّضَ لهُم من الأصحابِ من قامُوا بفقهِهم ومسائلهِم، كما أنَّ التَّأليف من بعضِهم في الفقهِ كمالكٍ والشَّافعيِّ كان من أسباِ حفظِ مذاهبِهم. وما قصد واحدٌ من هؤلاءِ السَّادَةِ أن يكونَ مذهُهُ بمثابَةِ الشَّريعَةِ المعصومَةِ، ولا قصدَ واحدٌ منهم أن يحملَ النَّاسَ على رأيهِ واجتهادِهِ، بل أرادُوا النَّصيحة لأهلِ الإسلامِ بما آتاهمُ الله من آلةِ الفقهِ والنَّظرِ، وبقيتْ مذاهبُهم وآراؤهم في اعتبارِهِم صوابًا يحتملُ الخطأ. لكن لمَّا وجَدَ من جاءَ بعدَهُم من علماءِ الأمَّةِ تدوينُ المسائلِ وتوضيح الدَّلائل بنَوا على ذلكَ، فوقعَ من العنايةِ بمسائلهِم تفصيلاً وتأصيلاً ما لا ينقضي من سعَتِه العجبُ. وكانَ الأمرُ حتَّى في حقِّ من بلغَ رُتبةَ الاجتهادِ من أتباعِهم أن تخرَّجُوا من مدارِسِهم ونهلُوا من علومِهم، وصارَ من أرادَ تلقِّي علُومِ الفقهِ لا يستَغني عن سُلوكِ سبيلِهم والانتِفاعِ بهِم، وإنْ فاتَتْهُ علومُهمْ فقد فاتهُ خيرٌ كثيرٌ.

وليسَ في هذا الَّذي علمتَ شيءٌ يذَمُّ لكنَّ لا يرتضيهِ الأئمَّةُ أنفسُهُم أن تُجعلَ آراؤُهم بمنزلَةِ النُّصوصِ، بلْ إنَّ النَّصَّ بضدِّهَا يقبلُ النَّسخَ والتَّأويلَ كما صرَّح بذلكَ بعضُ المتعصِّبينَ، أو أن يوجبَ الالتِزَامُ بها دون غيرهَا وُحرَّم النَّظرُ في أدلَّةِ الكتابِ والسُّنَّةِ، أو أنها تكونُ سببًا في تفريقِ المسلمينَ فيُجعلُ في المسجدِ الحرامِ في فترَةٍ من الزَّمنِ أربعةُ محاريبَ، أو أن يُجعلَ من فُروعِ المذهبِ بُطلانُ الصَّلاةِ للحنفيِّ خلفَ الشَّافعيِّ، وأمُورٌ سِوَى ذلكَ من الزَّيغِ والضَّلالِ للحنفيِّ خلفَ الشَّافعيِّ، وأُمورٌ سوى ذلكَ من الزَّيغِ والضَّلالِ والخُروجِ عن الهُدَى والصِّراطِ المستقيمِ، ممَّا جعلَ كثيرًا من العلماءِ يُشنِّعونَ على التَّقليدِ والمذهبيَّةِ غايَةَ التَّشنيعِ، فجرَّأ هؤلاءِ بدروهِم كثيرًا من الجهَّالِ على الكلامِ في أحكامِ الدِّينِ بغيرِ علمٍ، وهكذَا الشَّأنُ في كلِّ مسلكٍ يُجاوزُ الاعتِدالَ. فحاصلُ القولِ: أنَّ النَّاسَ كما تقدَّم صنفَانِ، عالمٌ مجتهدٌ، وَعَامِيٌّ مقلِّدٌ، فأمَّا المجتهدُ فقدْ امتنعَ عليهِ التَّقليدُ ما دامَ قادرًا على الاجتهادِ، وأمَّا المقلَّدُ فإنَّه مأمورٌ بسؤالِ من يقدرُ على سُؤالهِ من أهلِ العلمِ، ولا يتقيَّدُ بمذهبٍ من المذاهبِ الأربعَةِ، وإنَّما هو كما يقولُ بعضُ العلماءِ: (مذهبُهُ مَذهبُ من يسْتَفتِيهِ) ، وعلَى هذا أكثرُ أهلِ العلمِ. لكنَّ التَّتلمُذَ لمن يقصِدُ تحصيلَ آلَةِ الاجتهادِ على مذهبِ من هذهِ المذاهبِ لأجلِ ما وقعَ من العِنايَةِ بها مشروعٌ صحيحٌ؛ نظرًا لما يُحقِّقُ من المصالحِ العظيمَةِ في مراتِبِ العلمِ، ولا ضرُورَةَ لتسميَّتِهِ تقليدًا،

فإنْ كانَ في مراحِل العلمِ فلهُ بعضُ الحالِ يشبَهُ العامِّيَّ فيأخُذُ حُكمَهُ المذكُورَ آنفًا، ولهُ حالٌ يشبهُ المُجتهِدَ فيأخُذُ حُكمَهُ كذلكَ. أمَّا الانتِسابُ بسببِ التَّلقِّي إلى واحدٍ من هذهِ المذاهبِ، فشرْطُ جوازِهِ أنْ لا يقترِنَ بعصبيَّةٍ. والله تعالَى أعلمُ.

§1/1