تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذى هو حق الله على العبيد

سليمان بن عبد الله آل الشيخ

مقدمة

مقدمة ... تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب كتاب التّوحيد الذي هو حقّ الله على العبيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي رضي الإسلام للمؤمنين دينًا، ونصب الأدلة على صحته وبيّنها تبيينًا، وغرس التوحيد في قلوبهم، فأثمرت بإخلاصه فنونا، وأعانهم على طاعته هداية منه وكفى بربك هاديًا ومعينًا. {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} ، [الإسراء: 111] . {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} ، [الفرقان: 54-55] . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوييته وإلهيته، تعالى عن ذلك {عُلُوّاً كَبِيراً} ، [الإسراء، من الآية: 4] . {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ، [الفرقان: 59] . وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} ، [الأحزاب: 45-46] . وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا. أمّا بعد، فهذا شرحٌ لكتاب (التوحيد) 1، وافٍ إن شاء الله تعالى بالتنبيه على بعض ما تضمنه من بيان أنواع التوحيد؛ إذ هو المقصود بالأصالة هنا، ولم أخله أيضًا من التنبيه على بعض ما يتضمنه من غير ذلك، إلا أن الأولى بنا هو بيان ما وضع لأجله الكتاب؛ لعموم الضرر والفساد الواقع من مخالفة ما فيه.

_ 1 في النسخة (أ) زيادة: (تأليف الشيخ الإمام محمّد بن عبد الوهاب, أحسن الله له المآب, وأجزل له الثواب) .

والأصل في ذلك هو الإعراض عن الهدى والنور الذي أنزله الله تعالى على رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، والاستغناء عن ذلك بمتابعة الآباء والأهواء والعادات المخالفة لذلك. ولهذا كرّر الله تعالى الأمر بمتابعة الكتاب والسنة في مواضعَ كثيرةٍ من القرآن، وضرب الأمثال لذلك، وأكّده وتوعد على الإعراض عنه، وما ذاك إلا لشدّة الحاجة، بل الضرورة إلى ذلك فوق كلّ ضرورة، فإنه لا صلاح للعبد ولا فلاح ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلاّ بذلك، ومتى لم يحصل ذلك للعبد فهو ميت. كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام] فسمّى سبحانه وتعالى الخالي عن هذا الهدى والنور ميتًا، وسمى من حصل له ذلك حيًا، وذلك أنه لا مقصود به في حياة الدنيا إلا توحيد الله تعالى، ومعرفته وخدمته، والإخلاص له، والاستلذاذ بذكره، والتذلّل لعظمته، والانقياد لأوامره، والإنابة إليه، والإسلام له، فإذا حصل هذا للعبد، فهو الحي، يل قد حصلت له الحياة الطيبة في الدارين. كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. فإذا فاته هذا المقصود فهو ميّت، بل شرّ من الميت. قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2. وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ

_ 1 سورة النحل آية: 97. 2 سورة الأنعام آية: 153. 3 سورة آية: 15-16.

جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} 1. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ... } 2 إلى قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3 4.وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 5.وقال تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} 6. وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 7. قال ابن عباس: " تكفل الله لِمَن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألاّ {يَضِلُّ} في الدنيا، {وَلا يَشْقَى} في الآخرة. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 8. فيا عجبًا مِمَّن يزعم أنّ الهداية والسعادة لا تحصل بالقرآن ولا بالسنة، مع أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يهتد إلا بذلك. كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} 9، ثم بعد ذلك يحيلها على قول فلان وفلان. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 10. والآيات في هذا المعنى كثيرة، فوجب على كلّ مَن عقل عن الله أن يكون على بصيرة ويقين في دينه. كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 11.

_ 1 سورة النساء آية: 174. 2 سورة النساء آية: 59. 3 سورة النساء آية: 64. 4 سورة النساء آية: 65. 5 سورة النحل آية: 89. 6 سورة آية: 99-101. 7 سورة آية: 123-124. 8 سورة الشورى آية: 52. 9 سورة سبأ آية: 50. 10 سورة الحشر آية: 7. 11 سورة يوسف آية: 108.

ومحال أن يحصل اليقين والبصيرة إلا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكيف ينال الهدى والإيمان مَن زعم أن ذلك لا يحصل من القرآن إنّما يحصل من الآراء الفاسدة التي هي زبالة الأذهان. تالله لقد مسخت عقول هذا غاية ما عندها من التحقيق والعرفان. وهذه المتابعة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هي حقيقة دين الإسلام، الذي افترضه الله على الخاص والعام، وهو حقيقة الشهادتين الفارقتين بين المؤمنين والكفار، والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار، إذ معنى الإله: هو المعبود المطاع، وذلك هو دين الله الذي ارتضاه لنفسه وملائكته ورسله وأنبيائه. فبه اهتدى المهتدون، وإليه دعا المرسلون. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1. {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} 2، فلا يتقبل من أحد دينًا سواه من الأولين والآخرين. كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3. شهد الله تعالى بأنّه دينه قبل شهادة المخلوقين، وأنزلها تتلى في كتابه إلى يوم الدين. فقال تعالى وهو العزيز العليم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 4. جعل أهله هم الشهداء على الناس يوم القيامة، لما فضلهم به من الأقوال، والأعمال، والاعتقادات التي توجب إكرامه فقال تعالى ولم يزل عزيزًا حميدا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} 5. وفضله على سائر الأديان، فهو أحسنها حكمًا، وأقومها قيلا. فقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} 6.

_ 1 سورة الأنبياء آية: 25. 2 سورة آل عمران آية: 83. 3 سورة آل عمران آية: 85. 4 سورة آل عمران آية: 18. 5 سورة البقرة آية: 143. 6 سورة النساء آية: 125.

وكيف لا يميز مَن له بصيرة بين دين {أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} ، [التّوبة، من الآية: 109] , وارتفع بناؤه على طاعة الرحمن، والعمل بما يرضاه في السر والإعلان، وبين دينٍ {أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ} ، [التّوبة، من الآية: 109] ، بصاحبه في النار، أسس على عبادة الأصنام والأوثان، والالتجاء إلى الصالحين وغيرهم من الإنس والجان، عند الشدائد والأحزان، وصرف مخ العبادة لغير الملك الديان، ورجا النفع والعطاء والمنع مِمَّن لا يملك لنفسه نفعًا، ولا ضرا فضلاً عن غيره من نوع الإنسان، ودعوى التصرف في الملك لصالح رميم في التراب والأكفان. قد عجز عن دفع ما حل به من أمر الله، فكيف يدفع عمَّن دعاه من بعيد الأوطان؟! أو فاسق يشاهدون فسقه وفجوره فهو أبعد الناس من الرحمن، أو ساحر يريهم من سحره ما يحير به الأذهان، فيظن المخذولون أنّها كرامة من الله، وإنّما هي من مخاريق الشيطان، تبًا لهم سدوا على أنفسهم باب العلم والإيمان، وفتحوا عليها باب الجهل والكفران. قابلوا خبر الله بالتكذيب، وأمره بالعصيان. أخبر بأن الهدى والنور في كتابه، فقالوا: كان ذاك فيما مضى من الزمان، وأمرهم باتباع ما {أُنْزِلَ} إليهم {مِنْ} ربهم، ولا يتبعوا {مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاء} [الأعراف، من الآية: 3] ، فقالوا: لا بد لنا من ولي غير القرآن. إن جئتهم بكتاب الله قالوا: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ} ، [المائدة، من الآية: 104] أهل الزمان، أو جئتهم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قالوا: خالفها الشيخ فلان، وهو أعلم منا ومنكم، فاعتبروا يا أولي الإيمان. عمدوا إلى قبور الأنبياء والصالحين، فبنوا عليها البنيان، ونقشوا سقوفها والحيطان، وحلوها بالغالي من الأثمان، وألبسوها ألوان الستور الحسان، وجعلوا لها السدنة والخدام، فِعْل عباد الأوثان والصلبان، وذبحوا ونذروا لِمَن فيها، وقربّوا لهم القربان، وقالوا: {هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا} ، [يونس، من الآية: 18] في كشف الكروب وغفران الذنوب ودخول الجنان.

أما مَن قدّره باسم تقديره: باسم الله ابتدائي. فلقوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} 1، ومَن قدّره بالفعل أمرًا أو خبرًا نحو: بدأ باسم الله، وابتدأت باسم الله، فلقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} 2، وكلاهما صحيح، فإنّ الفعل لا بد له من مصدر، فلك أن تقدّر الفعل ومصدره، وذلك بحسب الفعل الذي سَمَّيته قبله إن كان قيامًا أو قعودًا، أو أكلاً، أو شربًا، أو قراءة، أو وضوءًا، أو صلاة. فالمشروع ذكر اسم الله تعالى في ذلك كله تبركًا وتيمنًا واستعانة على الإتمام والتقبل. وقدّره الزمخشري فعلاً مؤخرًا، أي: باسم الله أقرأ أو أتلو؛ لأن الذي يتلوه مقروء، وكل فاعل يبدأ في فعله باسم الله كان مضمرًا ما تجعل التسمية مبدأ له، كما أن المسافر إذا حلّ أو ارتحل، فقال: بسم الله، كان المعنى بسم الله أحل، وبسم الله أرتحل، وهذا أولى من أن يضمر أبدًا، لعدم ما يطابقه ويدل عليه، أو ابتدائي لزيادة الإضمار فيه، وإنّما قدم المحذوف متأخرًا وقدم المعمول، لأنه أهم وأدل على الاختصاص، وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود، فإن اسم الله تعالى مقدَّم على القراءة، كيف وقد جعل آلة لها من حيث إنّ الفعل لا يعتد به شرعًا ما لم يصدر باسمه تعالى. وأما ظهور فعل القراءة في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} 3؛ فلأن الأهمّ ثمة القراءة، ولذا قدّم الفعل فيها على متعلقه، بخلاف البسملة فإنّ الأهم فيها الابتداء، قاله البيضاوي. وهذا القول أحسن الأقوال، وأظنه اختيار شيخ الإسلام، وقد ألم به ابن كثير إلا أنه جعل المحذوف مقدرًا قبل البسملة وذكر ابن القيم لحذف العامل في بسم الله فوائدَ عديدةً: منها: أنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه سوى ذكر الله تعالى، فلو

_ 1 سورة هود آية: 41. 2 سورة العلق آية: 1. 3 سورة العلق آية: 1.

ذكرت الفعل وهو لا يستغني عن فاعله، كان ذلك مناقضًا للمقصود، فكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى ليكون المبدوء به اسم الله، كما تقول في الصلاة: الله أكبر، ومعناه: من كل شيء، ولكن لا تقول هذا القدر ليكون اللفظ مطابقًا لمقصود الجنان، وهو أن لا يكون في القلب إلا ذكر الله وحده، فكما تجرد ذكره في قلب المصلي تجرد ذكره في لسانه. ومنها: أن الفعل إذا حذف صحّ الابتداء بالتسمية في كل عمل وقول وحركة، وليس فعل أولى بها من فعل، فكان الحذف أعم من الذكر، فأي فعل ذكرته كان المحذوف أعم منه. (الله) : عَلَمٌ على الرب تبارك وتعالى. ذكر سيبويه أنه أعرف المعارف. ويقال: إنه الاسم الأعظم، لأنه يوصف بجميع الصفات، كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له. واختلفوا هل هو اسم جامد أو مشتق؟ على قولين؛ أصحهما أنه مشتق. قال ابن جرير [الطّبري] : فإنه على ما روي لنا عن ابن عباس قال: "الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين". وذكر سيبويه عن الخليل أن أصله إله مثل فعال، فأدخلت الألف واللام بدلاً من الهمزة. قال سيبويه: مثل الناس أصله إناس. وقال الكسائي والفراء: أصله الإله، حذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية. وعلى هذا فالصحيح أنه مشتق من أله

_ 1 سورة الحشر آية: 24.

الرجل: إذا تعبد، كما قرأ ابن عباس: {ويذرك وإلهتك} 1، أي: عبادتك، وأصله الإله، أي: المعبود، فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة، فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام التي للتعريف، فأدغمت إحداهما في الأخرى، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة وفخمت تعظيما، فقيل: الله. قال ابن القيم: "القول الصحيح أن (الله) ، أصله: (الإله) ، كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم، وإن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلا. قال: وزعم السهيلي وشيخه أبو بكر بن العربي: "أن اسم الله غير مشتق، لأن الاشتقاق يستلزم مادة يشتق منها، واسمه تعالى قديم، والقديم لا مادة له فيستحيل الاشتقاق"، ولا ريب أنه إن أريد بالاشتقاق هذا المعنى، وأنه مستمد من أصل آخر فهو باطل، ولكن الذين قالوا بالاشتقاق لم يريدوا هذا المعنى، ولا ألم بقلوبهم، وإنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى، وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم، والقدير، والغفور، والرحيم، والسميع، والبصير. فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهي قديمة، والقديم لا مادة له، فما كان جوابكم عن هذه الأسماء فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله تعالى، ثم الجواب عن الجميع أنا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله. وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه ـ أصلاً وفرعًا ـ ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر، وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة. وذكر ابن القيم لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية ثم قال: وأما خصائصه المعنوية فقد قال فيها أعلم الخلق به ـ صلّى الله عليه وسلّم:

_ 1 من سورة الأعراف من الآية: 127، وهي ليس من القراءات العشر.

فبالله صِفْ لي شرك المشركين، هل هو بعينه إلا هذا كما نطق به القرآن في سورة يونس، والزمر [3] ، وغيرهما من محكمات الفرقان. 1- إن غرّك أنّ الأكثر عليه، فقد حكم الله بأنهم {أَضَلُّ سَبِيلاً} ، [الفرقان، من الآية: 144] ، من الأنعام، إذ استبدلوا الشرك بالتوحيد، والضلال بالهدى، والكفر بالإسلام، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه فهو السلام. 2- أو غرّك أنّ بعض مَنْ تعظمه قد رأى شيئًا من هذا أو قاله، فالخطأ جائز على مَنْ سوى الرسول من الأنام. فعليك بالرجوع إلى العصمة الذي لا سبيل إلى تطرق الخطأ إليه، وهو كلام ذي الجلال والإكرام، وسنة رسوله ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ، مع ما قاله العلماء الأعلام، الذين نطقوا بكلمة التوحيد وحققوها بالأعمال والكلام. ولم يزل الحال على ما وصفنا لك من الأمور العِظام منتشرًا في أهل البلدان المنتسبين إلى الإسلام، المارقين منه كما تمرق الرمية من السهام، إلى أن أراد الله إزالة تلك الظلمات، وكشف البدع والضلالات، ونفي الشبهات والجهالات، وتصديق بشارة رسول رب الأرض والسموات، في قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"1، رواه أبو داود (4291) ، والحاكم (4/522) ، والبيهقي في (المعرفة 52) وإسناده صحيح - على يدي مَن أقامه هذا المقام، ومنحه جزيل الفضل والإنعام، أعني به: الشيخ الإمام خلف السلف الكرام، المتبع لهدي سيد الأنام، المنافح عن دين الله في كلّ مقام، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ـ أحسن الله له المآب، وضاعف له الثواب ـ، فدعا إلى الله ليلاً ونهارًا، وسرًا وجهارًا، وقام بأمر الله في الدعوة إليه، وما حابى أحدًا فيه ولا دارى، فعظم على الأكثرين وأنفوا استكبارًا، ولم يثنه ذلك عن أمر الله حتى قيض الله له أعوانًا وأنصارًا، فرفعوا ألويته وأعلامه حتى انتشرت في الخافقين انتشارًا.

_ 1 أبو داود: الملاحم (4291) .

وصنف ـ رحمه الله تعالى ـ التصانيف في توحيد الأنبياء والمرسلين، والرّدّ على مَن خالفه من المشركين، ومن جملتها: كتاب (التوحيد) ، وهو كتاب فرد في معناه، لم يسبقه إليه سابق، ولا لحقه فيه لاحق، وهو الذي قصدت الكلام عليه إن شاء الله تعالى، وإن كنتُ لستُ مِمَّن يتصدّى لهذا الشأن، لكن لما رأيتُ الكتاب لم يتعرض للكلام عليه أحد يعتد به، ورأيتُ تشوق الطلبة والإخوان إلى شرح يفي ببعض ما فيه من المقاصد، أحببت أن أسعفهم بمرادهم على حسب طاقتي، "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"1؛ ولذلك يسر الله الكلام عليه، ومنّ به من عنده وحده لا شريك له بحوله وقوته، لا بحولي وقوتي، فناسب أن يسمى: (تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد) . وحيث أطلقت: شيخ الإسلام، فالمراد به الإمام أبو العباس بن تيمية. والحافظ، فالمراد به أبو الفضل بن حجر العسقلاني، صاحب (فتح الباري) وغيره ـ رحمهما الله تعالى ـ. وأسأل الله تعالى أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم.

_ 1 هو في: صحيح مسلم 26/99.

بسم الله الرحمن الرحيم افتتح المصنِّف ـ رحمه الله ـ كتابه بالبسملة، اقتداء بالكتاب العزيز، وعملاً بالحديث: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع"1. رواه الحافظ عبد القادر الرهاوي في (الأربعين) من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وأخرجه الخطيب في (الجامع 12/10) بنحوه. فإن قلت: هلا جمع المصنف بين البسملة والحمدلة، لِمَا روى ابن ماجه (1894) ، والبيهقي (3/208) عن أبي هريرة مرفوعًا: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع" 2. وفي رواية لأحمد (8686) :" لا يفتح بذكر الله فهو أبتر وأقطع " 3. قيل: المراد الافتتاح بما يدل على المقصود مِن حمد الله والثناء عليه، لأن الحمد متعين، لأن القدر الذي يجمع ذلك هو ذكر الله وقد حصل بالبسملة. وأيضا فليس في الحديث ما يدلّ على أنه تتعين كتابتها مع النطق بها، فقد يكون المصنِّف نطق بذلك في نفسه4. واتفق العلماء على أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف قدّره الكوفيون فعلاً مقدمًا، والتقدير: أبدأ، وقدّره البصريون اسمًا مقدمًا، والتقدير: ابتدائي كائن، أو مستقر. قال: فالجار والمجرور في موضع نصب على الأوّل، وعلى الثّاني في موضع رفع. وذكر ابن كثير أن القولين متقاربان، وكلٌّ قد ورد به القرآن.

_ 1 أبو داود: الأدب (4840) , وابن ماجه: النكاح (1894) . 2 أبو داود: الأدب (4840) , وابن ماجه: النكاح (1894) . 3 أبو داود: الأدب (4840) , وابن ماجه: النكاح (1894) , وأحمد (2/359) . 4 لكن الحمدل قد ثبتت في بعض النّسخ، وعليها شرح صاحب: (فتح المجيد) .

"لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" 1، وكيف تحصى خصائص اسم مسمَّاه؛ كل كمال على الإطلاق وكل مدح وكل حمد وكل ثناء وكل مجد وكل جلال وكل إكرام وكل عز وكل جمال وكل خير وإحسان وجود وبر وفضل فله ومنه؟! فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثّره، ولا عند خوف إلا أزاله، ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند هم وغم إلا فرّجه، ولا عند ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز، ولا فقير إلا أصاره غنيًا، ولا مستوحش إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه. فهو الاسم الذي تكشف به الكربات، وتستنْزل به البركات والدعوات، وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات، وتستجلب به الحسنات. وهو الاسم الذي به قامت السموات والأرض، وبه أنزلت الكتب، وبه أرسلت الرسل، وبه شرعت الشرائع، وبه قامت الحدود، وبه شرع الجهاد، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء، وبه حقت {الْحَاقَّةُ} ، و {وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} ، وبه وضعت {الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} ، ونصب الصراط، وقام سوق الجنة والنار، وبه عبد رب العالمين وحمد، وبحقه بعثت الرسل، وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور، وبه الخصام، وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة، وبه سعد مَنْ عرفه وقام بحقه، وبه شقي مَنْ جهله وترك حقه، فهو سر الخلق والأمر، وبه قاما وثبتا، وإليه انتهيا، فالخلق والأمر به وإليه ولأجله، فما وجد خلق ولا أمر ولا ثواب ولا عقاب إلا مبتدئًا منه، منتهيًا إليه، وذلك موجبه ومقتضاه، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 2 إلى آخر كلامه رضي الله عنه. (الرحمن الرحيم) ، قال ابن كثير: اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، و (رحمن) أشد مبالغة من (رحيم) . قال ابن عباس: " وهما اسمان رقيقان؛ أحدهما أرق من الآخر ". أي: أوسع رحمة. وقال

_ 1 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497) . 2 سورة آل عمران آية: 191.

ابن المبارك: " الرحمن إذا سئل أعطى، والرحيم إذا لم يسأل يغضب". قلت: كأن فيه إشارة إلى معنى كلام ابن عباس؛ لأن رحمته تعالى تغلب غضبه، وعلى هذا فالرحمن أوسع معنى من الرحيم كما يدل عليه زيادة البناء. وقال أبو علي الفارسي: (الرحمن) اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، و (الرحيم) إنما هو في جهة المؤمنين. قال الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} 1، ونحوه قال بعض السلف. ويشكل عليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2. وقوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الحديث: " رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ". فالصواب ـ إن شاء الله تعالى ـ ما قاله ابن القيم أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته. وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} {نَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 3 4 ولم يجئ قط (رحمن بهم) ، فعلم أن رحمن هو الموصوف بالرحمة، و (رحيم) ، هو الراحم برحمته. والرحمن الرحيم نعتان لله تعالى. واعترض بورود اسم الرحمن غير تابع لاسم قبله. قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5 فهو علم فكيف ينعت به؟ والجواب ما قاله ابن القيم: إن أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت؛ فإنها دالة على صفات كماله، فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية، فـ (الرحمن) اسمه تعالى ووصفه تعالى لا ينافي اسميته، فمن حيث هو صفة جرى تابعًا لاسم الله تعالى، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع، بل ورد الاسم العلم. ولما كان هذا الاسم مختصًا به سبحانه حسن مجيئه مفردًا غير تابع كمجيء اسم الله، وهذا لا ينافي دلالته على صفة الرحمة كاسم الله، فإنه دال

_ 1 سورة الأحزاب آية: 43. 2 سورة البقرة آية: 143. 3 سورة الأحزاب آية: 43. 4 سورة التوبة آية: 117. 5 سورة طه آية: 5.

على صفة الألوهية فلم يجئ قط تابعا لغيره بل متبوعًا، وهذا بخلاف العليم والقدير والسميع والبصير ونحوها، ولهذا لا تجيء هذه مفردة بل تابعة. قلت: قوله عن اسم الله: (ولم يجئ قط تابعًا لغيره) ، بل لقد جاء في قوله تعالى: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ [مَا فِي] الأَرْضِ} 1، على قراءة الجر، وجواب ذلك من كلامه المتقدم، فيقال فيه ما قاله في اسم الرحمن.

_ 1 سورة إبراهيم آياتان: 1-2.

كتاب التوحيد

[كتاب التوحيد] أنواع التوحيد: (النوع الأول) : توحيد الربوبية والملك. الـ (كتاب) مصدر كتب يكتب كتابًا وكتابة وكتبًا، ومدار المادة على الجمع. ومنه تكتب بنو فلان: إذا اجتمعوا. والكتيبة لجماعة الخيل، والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف، وسمي الكتاب كتابًا لجمعه ما وضع له، ذكره غير واحد. و (التوحيد) : مصدر وحد يوحد توحيدًا، أي: جعله واحدًا، وسمي دين الإسلام توحيدًا؛ لأن مبناه على أن الله واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له، وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له، وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له، وإلى هذه الأنواع الثلاثة ينقسم توحيد الأنبياء، والمرسلين الذين جاؤوا به من عند الله، وهي متلازمة، كل نوع منها لا ينفك عن الآخر، فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر، فما ذاك إلا أنه لم يأت به على وجه الكمال المطلوب. وإن شئت قلت: التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات ـ وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات ـ، وتوحيد في الطلب والقصد؛ وهو توحيد الإلهية والعبادة. ذكره شيخ الإسلام، وابن القيم وذكر معناه غيرهما. (النوع الأول) : توحيد الربوبية والملك: وهو: الإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومالكه وخالقه ورازقه، وأنه المحيي المميت النافع الضار المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، القادر على ما يشاء، ليس له في ذلك شريك، ويدخل في ذلك الإيمان بالقدر، وهذا التوحيد لا يكفي العبد في حصول الإسلام، بل لا بد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الإلهية، لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد لله وحده، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ

وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1. وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 2.وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3.وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 4. فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك لله وحده ولم يكونوا بذلك مسلمين بل قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 5. قال مجاهد في الآية: إيمانهم بالله قولهم: إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا، فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وعن ابن عباس وعطاء والضحاك نحو ذلك، فتبين أن الكفار يعرفون الله ويعرفون ربوبيته، وملكه وقهره، وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعًا من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك. ويدّعون أنهم على ملة إبراهيم ـ عليه السلام ـ، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 6 وبعضهم يؤمن بالبعث والحساب، وبعضهم يؤمن بالقدر. كما قال زهير: يؤخّر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقم. وقال عنترة: يا عبل أين من المنية مهرب إن كان ربي في السماء قضاها. ومثل هذا يوجد في أشعارهم، فوجب على كل من عقل عن الله تعالى أن ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم، وسبي نسائهم، وإباحة أموالهم، مع هذا الإقرار والمعرفة، وما ذاك إلا لإشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا الله.

_ 1 سورة يونس آية: 31. 2 سورة الزخرف آية: 87. 3 سورة العنكبوت آية: 63. 4 سورة النمل آية: 62. 5 سورة يوسف آية: 106. 6 سورة آل عمران آية: 67.

(النوع الثاني) : توحيد الأسماء والصفات: وهو الإقرار بأن {الله بكل شيء عليم} ، و {على كل شيء قدير} ، وأنه {الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم} ، له المشيئة النافذة، والحكمة البالغة، وأنه {سميع بصير} ، {رؤوف رحيم} ، {على العرش استوى} ، وعلى الملك احتوى، وأنه {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، [الحشر، من الآية: 23] . إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى، والصفات العلى. وهذا أيضًا لا يكفي في حصول الإسلام، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه، من توحيد الربوبية والإلهية. والكفار يقرون بجنس هذا النوع، وإن كان بعضهم قد ينكر بعض ذلك، إما جهلاً، وإما عنادًا، كما قالوا: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 1. قال الحافظ ابن كثير: والظاهر أن إنكارهم هذا، إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم، فإنه قد وجد في بعض أشعار الجاهلية تسمية الله بالرحمن. قال الشاعر: وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق وقال الآخر: ألا قضب الرحمن ربي يمينها وهما جاهليان. وقال زهير: فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ليخفى ومهما يكتم الله يعلم قلت: ولم يعرف عنهم إنكار شيء من هذا التوحيد إلا في اسم الرحمن خاصة، ولو كانوا ينكرونه لردّوا على النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ذلك، كما ردّوا عليه توحيد الإلهية. فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ} 2، لاسيما السور المكية مملوءة بهذا التوحيد. [ (النوع الثالث) : توحيد الإلهية:] المبني على إخلاص التأله لله تعالى، من المحبة والخوف، والرجاء والتوكل، والرغبة والرهبة، والدعاء لله وحده. وينبني على ذلك إخلاص العبادات كلها ظاهرها

_ 1 سورة الرعد آية: 30. 2 سورة ص آية: 5.

وباطنها لله وحده لا شريك له، لا يجعل فيها شيئًا لغيره، لا لملك مقرَّب، ولا لنبي مرسّل، فضلاً عن غيرهما. وهذا التوحيد هو الذي تضمنه قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1. وقوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 2. وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 3. وقوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلمُ لَهُ سَمِيّاً} 4. وقوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} 5. وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} 6. وقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} 7. وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول: لا إله إلا الله. فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة، والخشية، والإجلال، والتعظيم، وجميع أنواع العبادة، ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 8. فهذا أول أمر في القرآن. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 9. فهذا دعوة أول رسول بعد حدوث الشرك. وقال هود لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 10. وقال صالح لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 11. وقال شعيب لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 12. وقال إبراهيم ـ عليه السلام ـ لقومه: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 13. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 14 وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ

_ 1 سورة الفاتحة آية: 5. 2 سورة هود آية: 123. 3 سورة التوبة آية: 129. 4 سورة مريم آية: 65. 5 سورة هود آية: 88. 6 سورة الفرقان آية: 58. 7 سورة الحجر آية: 99. 8 سورة البقرة آية: 21. 9 سورة المؤمنون 23. 10 سورة الأعراف آية: 59، و65. 11 سورة هود آية: 61. 12 سورة الأعراف آية: 59، 85. 13 سورة الأنعام آية: 79. 14 سورة الأنبياء آية: 25.

الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 1. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2. وقال (هرقل) لأبي سفيان ـ لما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول لكم؟ ـ قال: يقول: "اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم"3. وقال النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لمعاذ: "إنك تأتي قومًا أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله"4. وفي رواية:"أن يوحدوا الله". وهذا التوحيد هو أول واجب على المكلف، لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك في الله، كما هي أقوال لِمَن لم يدر ما بعث الله به رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من معاني الكتاب والحكمة، فهو أول واجب وآخر واجب، وأوّل ما يدخل به الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "مَنْ كان آخر كلامه (لا إله إلا الله) دخل الجنة"5. حديث صحيح. وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله"6 متفق عليه. وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح وأبدأ فيه وأعاد، وضرب لذلك الأمثال، بحيث إن كل سورة في القرآن ففيها الدلالة على هذا التوحيد، ويسمى هذا النوع: 1- توحيد الإلهية؛ لأنه مبني على إخلاص التأله، وهو أشد المحبة لله وحده، وذلك يستلزم إخلاص العبادة. 2- وتوحيد العبادة لذلك. 3- وتوحيد الإرادة، لأنه مبني على إرادة وجه الله بالأعمال. 4- وتوحيد القصد، لأنه مبني على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة لله وحده. 5- وتوحيد العمل، لأنه مبني على إخلاص العمل لله وحده. قال الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 7. وقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّين وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} 8. {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ... } 9،

_ 1 سورة الزخرف آية: 45. 2 سورة الذاريات آية: 56. 3 البخاري: بدء الوحي (7) ، ومسلم 1773. 4 البخاري: الزكاة (1395) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) والبر والصلة (2014) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) . 5 أبو داود: الجنائز (3116) , وأحمد (5/233 ,5/247) . 6 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . 7 سورة الزمر آية: 2. 8 سورة الزّمر آية: 11-12. 9 سورة الزّمر آية: 14-15.

إلى قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ... } 1، إلى قوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ... } 2 الآية، إلى قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ... } 3، إلى قوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ... } 4 إلى قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ... } 5 إلى آخر سورة الزّمر. فكل هذه السور في الدعاء إلى هذا التوحيد، والأمر به، والجواب عن الشبهات والمعارضات، وذكر ما أعد الله لأهله من النعيم المقيم، وما أعد لِمَن خالفه من العذاب الأليم. وكل سورة في القرآن بل كل آية في القرآن، فهي داعية إلى هذا التوحيد، شاهدة به، متضمنة له، لأن القرآن: 1- إما خبر عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو توحيد الربوبية، وتوحيد الصفات فذاك مستلزم لهذا، متضمن له. 2- وإما دعاء إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه أو أمر بأنواع من العبادات، ونهي عن المخالفات، فهذا هو توحيد الإلهية والعبادة، وهو مستلزم للنوعين الأولين، متضمن لهما أيضًا. 3- وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده. 4- وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بها في العقبى من الوبال، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد. وهذا التوحيد هو حقيقة دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد سواه، كما قال النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن

_ 1 سورة الزمر آية: 29. 2 سورة الزمر آية: 38. 3 سورة الزّمر آية: 43-44. 4 سورة الزمر آية: 54. 5 سورة الزّمر آية: 64-66.

لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت"1. رواه البخاري ومسلم، فأخبر أن دين الإسلام مبني على هذه الأركان الخمسة وهي الأعمال، فدل على أن الإسلام هو عباد ة الله وحده لا شريك له، بفعل المأمور، وترك المحظور، والإخلاص في ذلك لله. وقد تضمن ذلك جميع أنواع العبادة، فيجب إخلاصها لله تعالى، فَمَنْ أشرك بين الله تعالى وبين غيره في شيء فليس بمسلم. 1- فمنها: المحبة، فمن أشرك بين الله تعالى وبين غيره في المحبة التي لا تصلح إلا لله، فهو مشرك كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ... } إلى قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 2. ومنها: التوكل، فلا يتوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 4. والتوكل على غير الله فيما يقدر عليه شرك أصغر. 2- ومنها: الخوف، فلا يخاف خوف السر إلا من الله. ومعنى خوف السر، هو أن يخاف العبد من غير الله تعالى أن يصيبه مكروه بمشيئته وقدرته وإن لم يباشره، فهذا شرك أكبر، لأنه اعتقادٌ للنفع والضر في غير الله. قال الله تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 5. وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 6. وقال تعالي: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 7. 3- ومنها: الرجاء فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ كمَنْ يدعو الأموات أو غيرهم راجيًا حصول مطلوبه من جهتهم فهذا شرك أكبر.

_ 1 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/26 ,2/92 ,2/120 ,2/143) . 2 سورة البقرة آية: 167-167. 3 سورة المائدة آية: 23. 4 سورة آل عمران آية: 122. 5 سورة النحل آية: 51. 6 سورة المائدة آية: 44. 7 سورة يونس آية: 107.

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} 1. وقال علي رضي الله عنه: "لا يرجونّ عبد إلا ربَّه". ومنها: الصلاة والركوع والسجود. قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ... } 3. 4- ومنها: الدعاء فيما لا يقدر عليه إلا الله، سواء كان طلبًا للشفاعة أو غيرها من المطالب. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 4. وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 5. وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 6. وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 7. 5- ومنها: الذبح، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 8. والنسك: الذبح. 6- ومنها: النذر، قال الله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} 9. وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 10. 7- ومنها: الطواف، فلا يطاف إلا ببيت الله. قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 11. 8- ومنها: التوبة، فلا يتاب إلا لله. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} 12. وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 13.

_ 1 سورة البقرة آية: 218. 2 سورة الكوثر آية: 2. 3 سورة الحج آية: 77. 4 سورة فاطر آية: 13-14. 5 سورة غافر آية: 60. 6 سورة يونس آية: 106. 7 سورة الزّمر آية: 43-44. 8 سورة الزّمر الأنعام آية: 162-163. 9 سورة الحج آية: 29. 10 سورة الإنسان آية: 7. 11 سورة الحج آية: 29. 12 سورة آل عمران آية: 135. 13 سورة النور آية: 31.

9- ومنها: الاستعاذة فيما لا يقدر عليه إلا الله. قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} 1. وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} 2. 10- ومنها: الاستغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله. قال الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 3. فمن أشرك بين الله تعالى وبين مخلوق ـ فيما يختص بالخالق تعالى من هذه العبادات أو غيرها ـ، فهو مشرك. وإنما ذكرنا هذه العبادات خاصة؛ لأن عباد القبور صرفوها للأموات من دون الله تعالى، أو أشركوا بين الله تعالى وبينهم فيها، وإلا فكل نوع من أنواع العبادة، مَنْ صرفه لغير الله، أو شرك ـ بين الله تعالى وبين غيره فيه ـ، فهو مشرك. قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 4. وهذا الشرك في العبادة هو الذي كفر الله به المشركين، وأباح به دماءهم وأموالهم ونساءهم، وإلا فهم يعلمون أن الله هو الخالق الرازق المدبر، ليس له شريك في ملكه، وإنما كانوا يشركون به في هذه العبادات ونحوها، وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملّك فأتاهم النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالتوحيد ـ الذي هو معنى لا إله إلا الله الذي مضمونه: أن لا يُعْبَدَ إلا الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما ـ فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 5. وكانوا يجعلون {مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً} ، [الأنعام، من الآية: 136] ، لله وللآلهة مثل ذلك، فإذا صار شيء من الذي لله إلى الذي للآلهة تركوه لها، وقالوا: الله غني، وإذا صار شيء من الذي للآلهة إلى الذي لله تعالى ردّوه، وقالوا: الله غني، والآلهة فقيرة فأنزل الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ

_ 1 سورة الفلق آية: 1. 2 سورة الناس آية: 1. 3 سورة الأنفال آية: 9. 4 سورة النساء آية: 36. 5 سورة ص آية: 5.

مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 1. وهذا بعينه يفعله عباد القبور، بل يزيدون على كل ذلك فيجعلون للأموات نصيبًا من الأولاد. إذا تبين هذا، فاعلم أن الشرك ينقسم ثلاثة أقسام بالنسبة إلى أنواع التوحيد، ـ وكل منها قد يكون أكبر وأصغر مطلقًا، وقد يكون أكبر بالنسبة إلى ما هو أصغر منه، ويكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه ـ. القسم الأول: الشرك في الربوبية: أحدهما: شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كـ: 1- شرك فرعون. إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ؟ 2- ومن هذا شرك الفلاسفة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدومًا أصلاً، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها، يسمونها: العقول، والنفوس. 3- ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود، كابن عربي، وابن سبعين، والعفيف التلمساني، وابن الفارض، ونحوهم من الملاحدة الذين كسوا الإلحاد حلية الإسلام، ومزجوه بشيء من الحق، حتى راج أمرهم على خفافيش البصائر. 4- ومن هذا شرك من عطّل أسماء الرب وأوصافه، من غلاة الجهمية، والقرامطة. النوع الثاني: شرك من جعل معه إلهًا آخر ولَمْ يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، وشرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة. ومن هذا شرك كثير مِمَّن يشرك بالكواكب العلويات، ويجعلها مدبرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم.

_ 1 سورة الأنعام آية: 136.

قلت: ويلتحق به من وجه شرك غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت، فيقضون الحاجات، ويفرجون الكربات، وينصرون من دعاهم، ويحفظون مَنْ التجأ إليهم، ولاذ بحماهم، فإنّ هذه من خصائص الربوبية، كما ذكره بعضهم في هذا النوع. القسم الثاني: الشرك في توحيد الأسماء والصفات. وهو أسهل مما قبله، وهو نوعان: أحدهما: تشبيه الخالق بالمخلوق، كمَنْ يقول: يد كيدي، وسمع كسمعي، وبصر كبصري، واستواء كاستوائي، وهو شرك المشبهة. الثاني: اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الإله الحق. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. قال ابن عباس: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} ، [الأعراف، من الآية: 180] : يشركون، وعنه: سموا اللات من الإله، والعُزَّى من العزيز. القسم الثالث: الشرك في توحيد الإلهية والعبادة. قال القرطبي: أصل الشرك المحرَّم اعتقاد شريكٍ لله تعالى في الإلهية، وهو الشرك الأعظم، وهو شرك الجاهلية، ويليه في الرتبة اعتقاد شريكٍ لله تعالى في الفعل، وهو قول مَنْ قال: إن موجودًا ما غير الله تعالى يستقل بإحداث فعلٍ وإيجاده وإن لم يعتقد كونَه إلهًا، هذا كلام القرطبي. وهو نوعان: أحدهما: أن يجعل لله ندًا يدعوه كما يدعو الله، ويسأله الشفاعة كما يسأل الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويحبه كما يحب الله، ويخشاه كما يخشى الله. وبالجملة فهو أن يجعل الله ندًا يعبده كما يعبد الله،

_ 1 سورة الأعراف آية: 180.

وهذا هو الشرك الأكبر، وهو الذي قال الله فيه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 1. وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} 3. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 4. والآيات في النهي عن هذا الشرك وبيان بطلانه كثيرة جدًا. الثاني: الشرك الأصغر، كيسير الرياء والتصنع للمخلوق، وعدم الإخلاص لله تعالى في العبادة، بل يعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب المنْزلة والْجاه عند الخلق تارة، فله من عمله نصيب، ولغيره منه نصيب، ويتبع هذا النوعَ الشركُ بالله في الألفاظ، كالْحلفِ بغير الله وقول: ما شاء الله وشئت، ومالي إلا الله وأنت، وأنا في حسب الله وحسبك، ونحوه. وقد يكون ذلك شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. هذا حاصل كلام ابن القيم وغيره. وقد استوفى المصنف ـ رحمه الله ـ بيان جنس العبادة التي يجب إخلاصها لله بالتنبيه على بعض أنواعها، وبيان ما يضادُّها من الشرك بالله تعالى في العبادات والإرادات والألفاظ، كما سيمر بك ـ إن شاء الله تعالى ـ مفصلا في هذا الكتاب، فالله تعالى يرحمه ويرضى عنه. فإن قلت: هلا أتى المصنف رحمه الله بخطبة تنبئ عن مقصده، كما صنع غيره؟ قيل: كأنه - والله أعلم - اكتفى بدلالة الترجمة الأولى على مقصوده، فإنه صدره بقوله: (كتاب التوحيد) وبالآيات التي ذكرها وما يتبعها، مما يدل على مقصوده، فكأنه قال: قصدت جمعَ أنواع توحيد الإلهية التي وقع أكثر الناس في الإشراك فيها وهم لا يشعرون، وبيان شيء مما يضاد ذلك من أنواع الشرك، فاكتفى

_ 1 سورة النساء آية: 36. 2 سورة النحل آية: 36. 3 سورة يونس آية: 18. 4 سورة السجدة آية: 4.

بالتلويح عن التصريح. والألف واللام في التوحيد للعَهْدِ الذِّهْنِي. قوله: وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} 1. يجوز في (قول الله) الرفع والجر، وهكذا حكم ما يمر بك من هذا الباب. قال شيخ الإسلام: العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل. وقال أيضًا: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأعمال الباطنة والظاهرة. قال ابن القيم: ومدارها على خمس عشر قاعدة، من كملها كمل مراتب العبودية، وبيان ذلك أن العبادة منقسمة على القلب، واللسان، والجوارح. والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح. وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح. وقال القرطبي: أصل العبادة: التذلل والخضوع، وسُمِّيَتْ وظائف الشرع على المكلفين عبادات، لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى. وقال ابن كثير [عند الفاتحة آية: 5] : العبادة في اللغة من الذلة، يقال: طريق معبَّد وغير معبَّدٍ، أي: مذلّل. وفي الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، وهكذا ذكر غيرهم من العلماء. ومعنى الآية: أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الإنس والجن إلا لعبادته، فهذا هو الحكمة في خلقهم، ولم يرد منهم ما تريده السادة من عبيدها من الإعانة لهم بالرزق والإطعام، بل هو الرازق ذو القوة المتين، الذي يطعم ولا يطعم، كما قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ

_ 1 سورة الذاريات آية: 56.

أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. وعبادته هي طاعته بفعل المأمور، وترك المحظور، وذلك هو حقيقة دين الإسلام، لأن معنى الإسلام هو: الاستسلام لله المتضمن غاية الانقياد، في غاية الذل والخضوع. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الآية: إلا لآمُرَهم أن يعبدوني، وأدعوهم إلى عبادتي. وقال مجاهد: إلا لآمُرَهم وأنْهاهم، واختاره الزجاج وشيخ الإسلام. قال: ويدل على هذا قوله: {أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 2. قال الشافعي: لايؤمر ولا ينهى. وقوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} 3، أي: لولا عبادتكم إياه. وقد قال في القرآن في غير موضع: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ، {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} ، فقد أمرهم بما خلقوا له، وأرسل الرسل إلى الجن والإنس بذلك، وهذا المعنى هو الذي قصد الآية قطعًا، وهو الذي يفهمه جماهير المسلمين، ويحتجون بالآية عليه، ويقرون أن الله إنما خلقهم ليعبدوه العبادة الشرعية ـ وهي طاعته وطاعة رسله ـ، لا ليضيعوا حقه الذي خلقهم له. قال: وهذه الآية تشبه قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} 4. وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 5. ثم قد يطاع وقد يعصى. وكذلك ما خلقهم إلا للعبادة، ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون. وهو سبحانه لم يقل: إنه فعل الأول وهو خلقهم ليفعل بهم كلهم الثاني وهو عبادته، ولكن ذكر الأول ليفعلوا هم الثاني فيكونوا هم الفاعلين له، فيحصل لهم بفعله سعادتهم، ويحصل ما يحبه ويرضاه منهم ولهم. انتهى. والآية دالة على وجوب اختصاص الخالق تعالى بالعبادة، لأنه سبحانه: 1- هو ابتدأك بخلقك والإنعام عليك بقدرته ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلاً، وما فعله بك لا يقدر عليه غيره، ثم إذا احتجت إليه في جلب رزق أو دفع ضر، فهو الذي يأتي بالرزق لا يأتي به غيره، وهو الذي يدفع الضر لا يدفعه غيره. كما قال تعالى: {أَمَّنْ

_ 1 سورة الأنعام آية: 14. 2 سورة القيامة آية: 36. 3 سورة الفرقان آية: 77. 4 سورة البقرة آية: 185. 5 سورة النساء آية: 64.

هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} 1 2- وهو سبحانه ينعم عليك، ويحسن إليك بنفسه، فإن ذلك موجب ما تَسَمَّى به، ووصف به نفسه، إذ هو الرحمن الرحيم، الودود المجيد، وهو قادر بنفسه، وقدرته من لوازم ذاته، وكذلك رحمته وعلمه وحكمته، لا يحتاج إلى خلقه بوجهٍ من الوجوه، بل هو الغني عن العالمين {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} 2. فالرب سبحانه غني بنفسه، وما يستحقه من صفات الكمال ثابت له بنفسه، واجب له من لوازم ذاته، لا يفتقر في شيء من ذلك إلى غيره، ففعله وإحسانه وجوده من كماله، لا يفعل شيئًا لحاجة إلى غيره بوجه من الوجوه، بل كل ما يريد فعله فإنه {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، [هود: من الآية: 107، والبروج، من الآية: 16] . وهو سبحانه {بَالِغُ أَمْرِهِ} ، [الطلاق، من الآية: 3] ، فكل ما يطلبه فهو يبلغه ويناله ويصل إليه وحده، ولا يعينه أحد، ولا يعوقه أحد، لا يحتاج في شيء من أموره إلى مُعِيْنٍ، وما له من المخلوقين {مِنْ ظَهِيرٍ} ، [سبأ، من الآية: 22] ، وليس {له ولي من الذل} ، قاله شيخ الإسلام. الأمر بعبادة الله واجتناب عبادة الطاغوت. قال: وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 3. قالوا: {الطاغوت} ؛ مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد. وقد فسَّره السلف ببعض أفراده. قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: الطاغوت: الشيطان. وقال جابر ـ رضي الله عنه ـ "الطواغيت: كهان كانت تنْزل عليهم الشياطين". رواهما ابن أبي حاتم. وقال مجاهد: "الطاغوت: الشيطان في صورة الإنسان، يتحاكمون إليه وهو صاحب أمرهم". وقال مالك: الطاغوت: كل ما عبد من دون الله. قلت: وهو صحيح، لكن لا بد فيه من استثناء مَنْ لا يرضى بعبادته.

_ 1 سورة آية: 20-21. 2 سورة النمل آية: 40. 3 سورة النحل آية: 36.

وقال ابن القيم: الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم مَن يتحاكمون إلى غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله. فهذه طواغيت العالم، إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى طاعة الطاغوت ومتابعته. وأما معنى الآية، فأخبر تعالى أنه بعث {فِي كُلِّ أُمَّةٍ} ، أي: في كل طائفة، وقَرْنٍ من الناس {رَسُولاً} ، بهذه الكلمة: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، أي: اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه، فلهذا خلقت الخليقة، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} 2. وهذه الآية هي معنى: لا إله إلا الله، فإنها تضمنت النفي والإثبات كما تضمنته لا إله إلا الله، ففي قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ} الإثبات، وفي قوله: {اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} النفي. فدلت الآية على أنه لا بد في الإسلام من النفي والإثبات، فيثبت العبادة لله وحده، وينفي عبادة ما سواه، وهو التوحيد الذي تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 3. وهو معنى قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 4. قال ابن القيم: وطريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات، فينفي عبادة ما سوى الله، ويثبت عبادته، وهذا هو حقيقة التوحيد، والنفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنًا للنفي والإثبات، وهذا حقيقة لا إله إلا الله. انتهى.

_ 1 سورة الأنبياء آية: 25. 2 سورة الرعد آية: 36. 3 سورة الكافرون آية: 1. 4 سورة البقرة آية: 256.

ويدخل في الكفر بالطاغوت بُغْضُهُ وكراهتُه، وعدمُ الرضى بعبادته بوجه من الوجوه. ودلت الآية على: 1- أن الحكمة في إرسال الرسل هو عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه. 2- وأن أصل دين الأنبياء واحد وهو الإخلاص في العبادة لله، وإن اختلفت شرائعُهم، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} 1، وأنه لا بد في الإيمان من العمل ردًا على المرجئة. [الأمر بعبادة الله والإحسان إلى الوالدين] قال: قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 2. هكذا ثبت في بعض الأصول، لم يذكر الآية بكمالها. قال مجاهد: {وقضى} يعني: وصى، وكذلك قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم. وروى ابن جرير، عن " ابن عباس في قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ} يعني: أمر". وقوله: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} 3، (أن) ، هي المصدرية وهي في محل جر بالباء، والمعنى: أن تعبدوه ولا تعبدوا غيره ممن لا يملك ضرًا ولا نفعًا، بل هو: 1- إما فقير محتاج إلى رحمة ربه يرجوها كما ترجونها 2- وإما جماد لا يستجيب لمن دعاه. وقوله: {بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 4، أي: وقضى أن تحسنوا {بالوالدين إحسانًا} ، كما قضى بعبادته وحده لا شريك له. وعطف حقهما على حق الله تعالى دليل على تأكد حقهما وأنه أوجب الحقوق بعد حق الله، وهذا كثير في القرآن يقرن ببن حقه ـ عزّ وجلّ ـ وبين حق الوالدين، كقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} 5. وقال {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 6. ولم يخص تعالى نوعًا من أنواع الإحسان ليعم أنواع الإحسان.

_ 1 سورة المائدة آية: 48. 2 سورة الإسراء آية: 23. 3 سورة يوسف آية: 40. 4 سورة البقرة آية: 83. 5 سورة لقمان آية: 14. 6 سورة البقرة آية: 83.

وقد تواترت النصوص عن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بالأمر ببر الوالدين والحث على ذلك، وتحريم عقوقهما كما في القرآن، ففي صحيح البخاري (5970) عن ابن مسعود قال: سألت النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله حدثني بهن ولو اسْتَزَدْتُهُ لزادني" 1. وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت" 2. رواه البخاري (5976) ومسلم (87) . وعن أبي هريرة قال: " قال رجل: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم مَن؟ قال: أمك. قال: ثم مَن؟ قال: أمك. قال: ثم مَن؟ قال: أبوك. أخرجاه"3. وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: "رضي الرب في رضي الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين " 4. رواه الترمذي (1979) ، وصححه ابن حبان (429) والحاكم (4/151) . وعن أبي أُسَيْدٍ الساعدي، قال: "بينا نحن جلوس عند النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذ جاء رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أَبَرُّهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما" 5. رواه أبو داود (5142) ، وابن ماجة (3364) ، وابن حبان في صحيحه (418) . والأحاديث في هذا كثيرة قد أفردها العلماء بالتصنيف وذكر

_ 1 البخاري: مواقيت الصلاة (527) , ومسلم: الإيمان (85) , والترمذي: الصلاة (173) والبر والصلة (1898) , والنسائي: المواقيت (610) , وأحمد (1/409 ,1/418 ,1/439 ,1/442 ,1/444 ,1/448 ,1/451) , والدارمي: الصلاة (1225) . 2 البخاري: الأدب (5976) , ومسلم: الإيمان (87) , والترمذي: البر والصلة (1901) والشهادات (2301) وتفسير القرآن (3019) , وأحمد (5/36 ,5/38) . 3 البخاري: الأدب (5971) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2548) , وأحمد (2/327 ,2/391) . 4 الترمذي: البر والصلة (1899) . 5 أبو داود: الأدب (5142) , وابن ماجه: الأدب (3664) .

البخاري منها شطرًا صالحا في كتاب (الأدب المفرد (1-46) . [المأمورات والمنهيات في الوصايا الواردة في سورة الأنعام] قال المصنِّف ـ رحمه الله ـ وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ، [النّساء، من الآية: 36] . قال: وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1. قال ابن كثير: يقول الله تعالى لبنيه ورسوله محمد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله، وحرموا ما رزقهم الله، وقتلوا أولادهم، وكل ذلك فعلوه بآرائهم الفاسدة، وتسويل الشيطان لهم {تَعَالَوْا} أي: هلموا وأقبلوا، {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} ، أي: أقصص عليكم، وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقًا، لا تخرصا ولا ظنًا، بل وحي منه وأمر من عنده، {أَلاً تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} . قال: وكأن في الكلام محذوفًا دل عليه السياق، وتقديره: وصاكم {أن لا تشركوا به شيئًا} ، ولهذا قال في آخر الآية {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} . قلت: ابتدأ تعالى هذه الآيات المحكمات بتحريم الشرك والنهي عنه، فحرم علينا أن نشرك به شيئًا، فشمل ذلك كلَّ مُشرَكٍ به، وكل مُشْرَكٍ فيه من أنواع العبادة، فإن {شيئًا} من النكرات فيعم جميع الأشياء، وما أباح تعالى لعباده أن يشركوا به شيئًا؛

_ 1 سورة آية: 151-153.

فإن ذلك أظلم الظلم وأقبح القبيح، ولفظ (الشرك) يدل على أن المشركين كانوا يعبدون الله، ولكن يشركون به غيره من الأوثان والصالحين والأصنام؛ فكانت الدعوة واقعة على ترك عبادة ما سوى الله، وإفراد الله بالعبادة. وكانت (لا إله إلا الله) متضمنة لهذا المعنى، فدعاهم النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إلى الإقرار بها نطقًا وعملا واعتقادًا، ولهذا إذا سئلوا عما يقول لهم، قالوا: يقول: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ، [النّساء، من الآية: 36] ، واتركوا ما يقول آباؤكم كما قاله أبو سفيان. وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} . قال القرطبي: الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما، وامتثال أمرهما، وإزالة الرق عنهما، وترك السلطنة عليهما و {إِحْسَانًا} نصب على المصدرية، وناصبه فعل مضمر من لفظه: تقديره: {و} أحسنوا {بالوالدين إحسانًا} . وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} 1 الإملاق: الفقر، أي: لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر، فإني رازقكم وإياهم، وكان منهم من يفعل ذلك بالإناث والذكور خشية الفقر. ذكره القرطبي. وفي (الصحيحين: البخاري (4761) ، ومسلم (86"، عن ابن مسعود قال: "قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل الله ندًا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي قال: أن تزاني حليلة جارك. ثم تلا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} ، [الفرقان: 68] ". {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 2. قال ابن عطية: نهي عام عن جميع أنواع الفواحش، وهي: المعاصي، و {ظَهَرَ} ،

_ 1 سورة الأنعام آية: 151. 2 سورة الأنعام آية: 151.

و {بَطَنَ} : حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء. وفي التفسير المنسوب إلى أبي علي الطبري من الحنفية، ـ وهو تفسير عظيم ـ: {وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} أي: القبائح. وعن ابن عباس، والضحاك، والسدي، أن من الكفار من كان لا يرى بالزنا بأسًا إذا كان سرًا. وقيل: (الظاهر) ما بينك وبين الخلق، و (الباطن) ما بينك وبين الله. انتهى. وفي (الصحيحين: البخاري 4634، ومسلم 2761) عن ابن مسعود مرفوعًا "لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم {الفواحش ما ظهر منها وما بطن} " 1. {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} 2. قال ابن كثير: هذا مما نص تعالى على النهي عنه تأكيدًا، وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش وفي (الصحيحين: البخاري 6878، مسلم 1676) ، عن ابن مسعود مرفوعًا: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"3. وعن ابن عمر مرفوعًا: " مَنْ قتل معاهَدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا "4. رواه البخاري (3166) . {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 5. قال ابن عطية: {ذلكم} إشارة إلى هذه المحرمات; و (الوصية) الأمر المؤكد المقرر. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، ترجٍّ بالإضافة إلينا، أي: من سمع هذه الوصية يرجى وقوع أثر العقل بعدها. قلت: هذا غير صحيح، والصواب أن (لعل) هنا للتعليل، أي:

_ 1 البخاري: النكاح (5220) , ومسلم: التوبة (2760) , والترمذي: الدعوات (3530) , وأحمد (1/381 ,1/425 ,1/436) , والدارمي: النكاح (2225) . 2 سورة الأنعام آية: 151. 3 البخاري: الديات (6878) , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676) , والترمذي: الديات (1402) , والنسائي: تحريم الدم (4016) , وأبو داود: الحدود (4352) , وابن ماجه: الحدود (2534) , وأحمد (1/382 ,1/428 ,1/444 ,1/465 ,6/181) , والدارمي: الحدود (2298) والسير (2447) . 4 البخاري: الديات (6914) , والنسائي: القسامة (4750) , وابن ماجه: الديات (2686) , وأحمد (2/186) . 5 سورة الأنعام آية: 151.

أن الله وصانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه، ونعمل بها، كما قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 1. وفي تفسير الطبري الحنفي: ذكر أولاً {تَعْقِلُونَ} ثم {تَذَكَّرُونَ} ثم {تَتَّقُونَ} ؛ لأنهم إذا عقلوا تذكروا، فإذا تذكروا خافوا واتقوا المهالك. {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} 2. قال ابن عطية: هذا نهي عن القرب الذي يعم وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة، ثم استثنى ما يحسن؛ وهو التشمير والسعي في نمائه. قال مجاهد: {التي هي أحسن} : التجارة فيه، فمن كان من الناظرين، له مال يعيش به، فالأحسن إذا ثَمَّر مال اليتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرهما، ومَن كان من الناظرين لا مال له، ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه من ربح نظره، ـ وإلا دعت الضرورة إلى ترك مال اليتيم دون نظر ـ، فالأحسن أن ينظر ويأكل بالمعروف. قاله ابن زيد. وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} . قال مالك وغيره: هو الرشد، وزوال السفه مع البلوغ. قال ابن عطية: وهو أصح الأقوال وأليقها بهذا الموضع. قلت: وقد روي نحوه عن زيد بن أسلم، والشعبي، وربيعة، وغيرهم، ويدل عليه قوله تعالى،: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} 3. فاشترط تعالى للدفع إليهم ثلاثة شروط: الأول: ابتلاؤهم، وهو اختبارهم وامتحانهم بما يظهر به معرفتهم لمصالح أنفسهم وتدبير أموالهم. والثاني: البلوغ. والثالث: الرشد. {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} 4. قال ابن كثير: يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء، كما توعد عليه في قوله: {وَيْلٌ

_ 1 سورة البينة آية: 5. 2 سورة الأنعام آية: 152. 3 سورة النساء آية: 6. 4 سورة الأنعام آية: 152.

لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان. وقال غيره: القسط: العدل. وقد روى الترمذي (1240) ، وغيره بإسناد ضعيف عن ابن عباس قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لأصحاب الكيل والميزان: "إنكم وليتم أمرًا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم" 2. وروي عن ابن عباس موقوفًا بإسناد صحيح. {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} 3. قال ابن كثير: أي: مَن اجتهد في أداء الحق وأخذه، فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده، فلا حرج عليه. وقد روى ابن مردويه عن سعيد بن المسيب مرفوعًا: " {أوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسًا إلا وسعها} قال: مَن أوفى على يده في الكيل والميزان - والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما - لم يؤاخذ وذلك تأويل وسعها ". قال: هذا مرسل غريب. قلت: وفيه رد على القائلين بجواز تكليف ما لا يطاق. {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 4. هذا أمر بالعدل في القول والفعل على القريب والبعيد. قال الحنفي: العدل في القول في حق الولي والعدو، لا يتغير بالرضى والغضب، بل يكون على الحق والصدق، وإن كان ذا قربى فلا يميل إلى الحبيب، ولا إلى القريب {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (5. {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} 6. قال ابن جرير: يقول: وبوصية الله التي وصاكم بها فأوفوا وانقادوا لذلك، بأن تطيعوه فيما أمر به ونهاكم عنه، وتعملوا بكتابه وسنة رسوله، وذلك هو الوفاء بعهد الله، وكذا قال غيره. قلت: وهو حسن، ولكن الظاهر أن الآية فيما هو أخص،

_ 1 سورة آية: 1-6. 2 الترمذي: البيوع (1217) . 3 سورة الأنعام آية: 152. 4 سورة الأنعام آية: 152. 5 سورة المائدة آية: 8. 6 سورة الأنعام آية: 152.

كالبيعة والذمة والأمان والنذر ونحو ذلك، وهذه الآية كقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} 1. فهذا هو المقصود بالآية، وإن كانت شاملة، لما قالوا بطريق العموم. {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 2. يقول تعالى: هذا وصاكم وأمركم به وأكّد عليكم فيه {لعلكم تذكرون} ، أي: تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه. قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 3. ش: قال القرطبي: هذه آية عظيمة عطفها الله على ما تقدم، فإنه لما نهى وأمر، حذر عن اتباع غير سبيله، وأمر فيها باتباع طريقه على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف. (وأن) في موضع نصب، أي: {و} اتلوا، {أن هذا صراطي} عن الفراء والكسائي. قال الفراء: ويجوز أن يكون خفضًا، أي: {وصاكم به ... و} ب {أن هذا صراطي} . قال: و (الصراط) : الطريق الذي هو دين الإسلام. {مستقيمًا} ، نصب على الحال، ومعناه: مستويًا قويمًا لا اعوجاج فيه، فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وشرعه، ونهايته الجنة، وتشعبت منه طرق، فمَن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار. قال الله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 4. أي: تميل. انتهى. وروى أحمد (4143) ، والنسائي (11175) ، والدارمي (1/67) ، وابن أبي حاتم، والحاكم (2/318) ، وصححه، عن ابن مسعود قال: " خط رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خطًا بيده، ثم قال: هذا سبيل الله مستقيمًا، ثم خط خطوطًا عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} .

_ 1 سورة النحل آية: 91. 2 سورة الأنعام آية: 152. 3 سورة الأنعام آية: 153. 4 سورة الأنعام آية: 153.

وعن النواس بن سمعان مرفوعا قال: " ضرب الله مثلاً صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا، وداعٍ يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب، قال: لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه. فالصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم "1 رواه أحمد (17603) ، والترمذي (3031) ، والنسائي، وابن جرير وابن أبي حاتم. وعن مجاهد في قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} 2. قال: البدع والشبهات. رواه ابن جوير، وابن أبي حاتم. وهذه السبل تعم اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، وعباد القبور، وسائر أهل الملل والأوثان، والبدع والضلالات من أهل الشذوذ والأهواء، والتعمق في الجدل، والخوض في الكلام، فاتباع هذه من اتباع السبل التي تذهب بالإنسان عن الصراط المستقيم إلى موافقة أصحاب الجحيم، كما قال النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ " مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "3. وفي رواية: " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " 4. حديث صحيح. قال ابن مسعود: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله، ألا وإياكم والتنطّع والتعمّق والبدع، وعليكم بالعتيق. رواه الدارمي (1/54) . قلت: العتيق هو القديم، يعني: ما كان عليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأصحابه من الهدي، دون ما حدث بعدهم، فالهرب الهرب، والنجاء النجاء، والتمسك بالطريق المستقيم والسنن القويم، وهو الذي كان عليه السلف الصالح، وفيه المتجر الرابح، قاله القرطبي. وقال سهل بن عبد الله التّستري: عليكم بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ والاقتداء به

_ 1 الترمذي: الأمثال (2859) , وأحمد (4/182) . 2 سورة الأنعام آية: 153. 3 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240 ,6/270) . 4 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/256) .

في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرؤوا منه، وأذلوه وأهانوه. قلت: رحم الله سهلاً ما أصدق فراسته! فلقد كان ذلك وأعظم، وهو أن يكفر الإنسان بتجريد التوحيد والمتابعة، والأمر بإخلاص العباد لله، وترك عبادة ما سواه والأمر بطاعة رسول الله وتحكيمه في الدقيق والجليل. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولنذكر في الصراط المستقيم قولاً وجيزًا، فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه، وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلاً لهم إليه، ولا طريق إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلاً لعباده إليه، وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة، فلا يشرك به أحد في عبوديته. ولا يشرك برسوله أحد في طاعته، فيجرد التوحيد، ويجرد متابعة الرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهذا معنى قول بعض العارفين: إن السعادة كلها والفلاح كله مجموع في شيئين: صدق محبة، وحسن معاملة. وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فأي شيء فسر به الصراط المستقيم، فهو داخل في هذين الأصلين. ونكتة ذلك أن تحبه بقلبك كله، وترضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته، فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله، وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به، فقل ما شئت من العبارات التي هذا آخيَّتُها وقطب رحاها. [الأمر بعبادة الله وحده وعدم الإشراك به] قال: وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 1.

_ 1 سورة النساء آية: 36.

هكذا أثبت في نسخة بخط شيخنا ولم يذكر الآية. قال ابن كثير: يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، فإنه الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئًا من مخلوقاته. قلت: هذا أول أمر في القرآن، وهو الأمر بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك، كما في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1. وتأمل كيف أمر تعالى بعبادته، أي: فعلها خالصة له، ولم يخص بذلك نوعًا من أنواع العبادة، لا دعاء ولا صلاة ولا غيرهما، ليعم جميع أنواع العبادة، ونهى عن الشرك به، ولم يحض أيضًا نوعًا من أنواع العبادة بجواز الشرك فيه. 1- وفي هذه الآية واللواتي قبلها دليل على أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه، وإلا فكان المشركون يعبدون الله ويعبدون غيره، فأمروا بالتوحيد، وهو عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه. 2- وفيهن دليل على أن التوحيد أول واجب على المكلف، وهو الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله المستلزم لعبادته وحده لا شريك له، وأن مَن عبد غير الله بنوع من أنواع العبادة فقد أشرك، سواء كان المعبود ملكًا أو نبيًا أو صالحًا أو صنما. قال ابن مسعود من أراد أن ينظر إلى وصية محمد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ التي عليها خاتمه فليقرأ {تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، [الأنعام الآيات: 151-153] . ابن مسعود هو: عبد الله بن مسعود بن غافل ـ بمعجمة وفاء ـ ابن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن، صحابي جليل من السابقين

_ 1 سورة البقرة آية: 21.

الأولين وأهل بدر وبيعة الرضوان، ومن كبار العلماء من الصحابة، أمرّه عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين. وهذا الأثر رواه الترمذي (3278) ، وحسنه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني (10060) بنحوه، وروى أبو عبيد وعبد بن حميد عن الربيع بن خثيم نحوه. قال بعضهم ما معناه. أي: من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها، ثم طويت فلم تغير ولم تبدل، تشبيهًا لها بالكتاب الذي كتب ثم ختم عليه فلم يزد فيه ولم ينقص، لأن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كتبها وختم عليها وأوصى بها، فإن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لم يوص إلا بكتاب الله، كما قال فيما رواه مسلم (1218) : " وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله "1. قلت: وقد روى عبادة بن الصامت, قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: " أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث، ثم تلا {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} حتى فرغ من ثلاث آيات، ثم قال: من وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئًا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله، إن شاء أخذه، وإن شاء عفا عنه " رواه ابن أبي حاتم، والحاكم (2/371) وصححه، فهدا يدل على أن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يعتني بهن، ويبالغ في الحث على العمل بهن. [حق الله على العباد وحق العباد على الله] . وعن معاذ بن جبل قال: " كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا. فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال: لا تبشرهم فيتكلوا "2. أخرجاه في "الصحيحين". هذا الحديث في "الصحيحين" وبعض رواياته نحو ما ذكر المصنف. ومعاذ هو: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن صحابي مشهور من أعيان الصحابة، شهد بدرا وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم

_ 1 الترمذي: المناقب (3788) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وأبو داود: الجهاد (2559) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/260 ,5/228 ,5/229 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242) .

بالأحكام والقرآن رضي الله عنه، مات سنة ثمان عشرة بالشام. قوله: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فيه جواز الإرداف على الدابة، وفضيلة لمعاذ من جهة ركوبه خلف النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "على حمار"، في رواية اسمه: عفير بعين مهملة مضمومة ثم فاء مفتوحة. قال ابن الصلاح: وهو الحمار الذي كان له صلى الله عليه وسلم. قيل: إنه مات في حجة الوداع، وفيه تواضعه صلى الله عليه وسلم للإرداف ولركوب الحمار، خلاف ما عليه أهل الكبر. قوله: " أتدري ما حق الله على العباد"؟ الدراية هي المعرفة وأخرج السؤال بصيغة الاستفهام، ليكون أوقع في النفس، وأبلغ في فهم المتعلم، فإن الإنسان إذا سئل عن مسألة لا يعلمها، ثم أخبر بها بعد الامتحان بالسؤال عنها، فإن ذلك أوعى لفهمها وحفظها، وهذا من حسن إرشاده وتعليمه صلى الله عليه وسلم. وحق الله على العباد، هو ما يستحقه عليهم ويجعله متحتمًا. وحق العباد على الله معناه أنه متحقق لا محالة، لأنه قد وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده، ووعده حق، {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ، [آل عمران، من الآية9، والرّعد، من الآية: 31] . وقال شيخ الإسلام: كون المطيع يستحق الجزاء، هو استحقاق إنعام وفضل، ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول: لا معنى للاستحقاق إلا أنه أخبر بذلك، ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقًا زائدًا على هذا كما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 1. ولكن أهل السنة يقولون: هو الذي {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ، [الأنعام، من الآية: 12] ، وأوجب هذا الحق على نفسه لم يوجبه عليه مخلوق، والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس على الخلق، وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك، وهذا الباب غلطت فيه القدرية والجبرية أتباع جهم والقدرية النافية.

_ 1 سورة الروم آية: 47.

قوله:"فقلت: الله ورسوله أعلم ". فيه حسن أدب المتعلم، وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك، بخلاف أكثر المتكلفين. قوله: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا" أي: يوحدوه بالعبادة وحده ولا يشركوا به شيئًا. وفائدة هذه الجملة: 1- بيان أن التجرد من الشرك لا بدّ منه في العبادة، وإلا فلا يكون العبد آتيا بعبادة الله بل مشرك، وهذا هو معنى قول المصنف: إن العبادة هي التوحيد، لأن الخصومة فيه. 2- وفيه معرفة حق الله على العباد، وهو عبادته وحده لا شريك له. فيا مَنْ حق سيده الإقبال عليه، والتوجه بقلبه إليه، لقد صانك وشرفك عن إذلال قلبك ووجهك لغيره، فما هذه الإساءة القبيحة في معاملته مع هذا التشريف والصيانة! فهو يعظمك ويدعوك إلى الإقبال وأنت تأبى إلا مبارزته بقبائح الأفعال. في بعض الآثار الإلهية: إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليَّ صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي. وكيف يعبده حق عبادته مَنْ صرف سؤاله ودعاؤه وتذلله واضطراره وخوفه ورجاءه وتوكله وإنابته وذبحه ونذره لمن لا يملك لنفسه {ضَرّاً وَلا نَفْعاً} ، [الفرقان، من الآية: 3] ، ولا {مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} ، [الفرقان، من الآية: 3] ، من ميت رميم في التراب، أو بناء مشيد من القباب، فضلاً مما هو شر من ذلك. قوله: "وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا" قال الخلخالي: تقديره: أن لا يعذب من يعبده ولا يشرك به شيئًا والعبادة هي الإتيان بالأوامر، والانتهاء عن المناهي، لأن مجرد عدم الإشراك لا يقتضي نفي العذاب، وقد علم ذلك من القرآن والأحاديث الواردة في تهديد الظالمين والعصاة. وقال الحافظ: اقتصر على نفي الإشراك، لأنه يستدعي التوحيد

بالاقتضاء، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم، إذ مَنْ كذب رسول الله، فقد كذب الله، ومَنْ كذب الله، فهو مشرك، وهو مثل قول القائل: من توضأ صحت صلاته، أي: مع سائر الشروط، فالمراد: من مات حال كونه مؤمنًا بجميع ما يجب الإيمان به. قلت: وسيأتي تقرير هذا في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى. قوله:"أفلا أبشر الناس"، فيه استحباب بشارة المسلم بما يسره. وفيه ما كان عليه الصحابة من الاستبشار، بمثل هذا نبه عليه المصنف. قوله: قال: " لا تبشرهم فيتكلوا"، وفي رواية: " إني أخاف أن يتكلوا"، أي: يعتمدوا على ذلك، فيتركوا التنافس في الأعمال الصالحة. وفي رواية: فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا، أي: تحرجًا من الإثم. قال الوزير أبو المظفر [بن هبيرة] : لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة، فأما الأكياس ـ الذين إذا سمعوا بمثل هذا ازدادوا في الطاعة، ورأوا أن زيادة النعم تستدعي زيادة الطاعة ـ فلا وجه لكتمانها عنهم. وقال الحافظ: دل هذا على أن النهي للتبشير ليس على التحريم، وإلا لما أخبر به أصلاً، أو أنه ظهر له أن المنع إنما هو من الأخبار عمومًا، فبادر قبل موته فأخبر بها خاصًا من الناس وفي الباب من الفوائد غير ما تقدم: 1- التنبيه على عظمة حق الوالدين. 2-وتحريم عقوقهما. 3-والحث على إخلاص العبادة لله تعالى. 4- وأنها لا تنفع مع الشرك، بل لا تسمى عبادة شرعًا. 5-والتنبيه على عظمة الآيات المحكمات في سورة الأنعام، ذكره المصنف. 6-وجواز كتمان العلم للمصلحة، ولا سيما أحاديث الرجاء التي إذا سمعها الجهال ازدادوا من الآثام.

كما قال بعض: فأكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم. 7-وتخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض. 8-وفضيلة معاذ، ومنْزلته من العلم، لكونه خص بما ذكر. 9-واستئذان المتعلم في إشاعة ما خص به من العلم. 10-والخوف من الاتكال على سعة رحمة الله. 11-وأن الصحابة لا يعرفون مثل هذا إلا بتعليمه صلى الله عليه وسلم ذكره المصنف. قوله: أخرجاه في "الصحيحين" أي: أخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" وإنما أضمرهما للعلم بهما. والبخاري هو: الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي مولاهم، الحافظ الكبير صاحب "الصحيح"، و "التاريخ"، و "الأدب المفرد" وغير ذلك من مصنفاته. روى عن الإمام أحمد بن حنبل، والحميدي، وابن المديني وطبقتهم. وروى عنه مسلم والترمذي، والنسائي، والفربري، راوي "الصحيح" وغيرهم. ولد سنة أربع وتسعين ومائة، ومات سنة ست وخمسين ومائتين. ومسلم هو: ابن الحجاج بن مسلم، أبو الحسين القشيري النيسابوري صاحب "الصحيح"، و "العلل"، و"الوحدان" وغير ذلك روى عن أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبي خيثمة، وابن أبي شيبة، وطبقتهم. روى عنه الترمذي، وإبراهيم بن محمد بن سفيان. راوي "الصحيح" وغيرهم. ولد سنة أربع ومائتين، ومات سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور رحمه الله تعالى.

باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

[م2 باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب] باب: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا باب بيان فضل التوحيد، وبيان ما يكفر من الذنوب، و " ما " يجوز أن تكون

موصولة، أي: وبيان ما يكفره من الذنوب. ويجوز أن تكون مصدرية، أي: وبيان تكفيره الذنوب، وهذا أرجح، لأن الأول يوهم أن ثم ذنوبًا لا يكفرها التوحيد، وليس بمراد، ولما ذكر معنى التوحيد، ناسب ذكر فضله وتكفيره للذنوب ترغيبًا فيه وتحذيرًا من الضد. وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1. قال بعض الحنفية في تفسيره: هذا ابتداء. قال [عبد الرّحمن] ابن زيد وابن إسحاق: هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه. قال الزجاج: سأل إبراهيم وأجاب بنفسه. وعن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية قالوا: فأينا لم يظلم؟ قال عليه السلام: " {إن الشرك لظلم عظيم} ". [البخاري 3636] وكذا عن أبي بكر الصديق أنه فسره بالشرك، فيكون الأمن من تأييد العذاب. وعن عمر أنه فسره بالذنب، فيكون الأمن من كل عذاب. وقال الحسن والكلبي: {أولئك لهم الأمن} في الآخرة {وهم مهتدون} في الدنيا. انتهى. وإنما ذكرته، لأن فيه شاهدًا لكلام شيخ الإسلام الآتي في الحديث الذي ذكره حديث صحيح في "الصحيح" [البخاري 3636] ، و"المسند" [3588] ، وغيرهما. وفي لفظ لأحمد عن عبد الله [بن مسعود] قال: " لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 2 شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: "إنه ليس الذي تعنون "، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح:. يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم إنما هو الشرك ". قال شيخ الإسلام: والذي شق عليهم ظنوا أن الظلم المشروط هو ظلم العبد لنفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبيّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، وحينئذ فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانهم بهذا الظلم، فمن لم يلبس إيمانه به كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان من

_ 1 سورة الأنعام آية: 82. 2 البخاري: الإيمان (32) وأحاديث الأنبياء (3360 ,3428 ,3429) وتفسير القرآن (4629 ,4776) واستتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6918 ,6937) , ومسلم: الإيمان (124) , والترمذي: تفسير القرآن (3067) , وأحمد (1/378) .

أهل الاصطفاء في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} 1. وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب، كما قال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 2 وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " يا رسول الله، وأينا لم يعمل سوءًا؟ فقال: " يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس تصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به " 3. فبيَّن أن المؤمن الذي إذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب التي تصيبه، قال: فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة، يعني: الظلم الذي هو الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومن لم يسلم من ظلم نفسه كان له الأمن والاهتداء مطلقًا، بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة، كما وعد بذلك في الآية الأخرى، وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء، بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه، ليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " إنما هو الشرك " أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام، فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام الذي يكونون به مهتدين إلى الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من غير عذاب يحصل لهم، بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط ومعهم أصل نعمة الله عليهم، ولا بد لهم من دخول الجنة. وقوله: "إنما هو الشرك"، إن أراد به الأكبر فمقصوده أن من لم يكن من أهله، فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة، وهو مهتد إلى ذلك، وإن كان مراده جنس الشرك فيقال: ظلم العبد نفسه، كبخله - لحب المال - ببعض الواجب وهو شرك أصغر، وحبه ما يبغض الله حتى يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر، ونحو ذلك، فهذا فاته من

_ 1 سورة فاطر آية: 32. 2 سورة الزّلزلة آية: 7-8. 3 الترمذي: تفسير القرآن (3039) , وأحمد (1/6) .

الأمن والاهتداء بحسبه، ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الظلم بهذا الاعتبار. انتهى ملخصًا. وبه تظهر مطابقة الآية للترجمة، فدلت على فضل التوحيد وتكفيره للذنوب، لأن من أتى به تامًا فله الأمن التام والاهتداء التام، ودخل الجنة بلا عذاب، ومَن أتى به ناقصًا بالذنوب التي لم يتب منها، فإن كانت صغائر كفرت باجتناب الكبائر، لآية (النّساء: 31) ، و (النّجم: 32) وإن كانت كبائر فهو في حكم المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه، ومآله إلى الجنة، والله أعلم. عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} ، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " 1 أخرجاه. عبادة هو ابن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد، أحد النقباء بدري مشهور من جلة الصحابة، مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله اثنتان وسبعون سنة. وقيل: عاش إلى خلافة معاوية. قوله: "من شهد أن لا إله إلا الله "، أي: من تكلم بهذه الكلمة عارفًا لمعناها، عاملاً بمقتضاها باطنًا وظاهرًا، كما دل عليه قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} 2 وقوله: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 3. أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا عمل بمقتضاها، فإن ذلك غير نافع بالإجماع. وفي الحديث ما يدل على هذا، وهو قوله: " من شهد "، إذ كيف يشهد وهو لا يعلم، ومجرد النطق بشيء لا يسمى شهادة به. قال بعضهم: أداة الحصر لقصر الصفة على الموصوف قصر إفراد، لأن معناه: الألوهية في الله الواحد في مقابلة من يزعم اشتراك غيره معه،

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3435) , ومسلم 28، وأحمد (5/313) . 2 سورة محمد آية: 19. 3 سورة الزخرف آية: 86.

وليس قصر قلب، لأن أحدًا من الكفار لم ينفها عن الله، وإنما أشرك معه غيره. وقال النووي: هذا حديث عظيم جليل الموقع، وهو أجمع ـ أو من أجمع ـ الأحاديث المشتملة على العقائد، فإنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج عن ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها، فاقتصر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين به جميعهم. انتهى. ومعنى " لا إله إلا الله"، أي: لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1. مع قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2. فصح أن معنى الإله هو المعبود، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش: "قولوا لا إله إلا الله" قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 3. وقال قوم هود: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 4. وهو إنما دعاهم إلى " لا إله إلا الله "، فهذا هو معنى لا إله إلا الله، وهو عبادة الله وترك عبادة ما سواه، وهو الكفر بالطاغوت، وإيمان بالله. فتضمنت هذه الكلمة العظيمة أن ما سوى الله ليس بإله، وأن إلهية ما سواه أبطل الباطل، وإثباتها أظلم الظلم، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، فتضمنت نفي الإلهية عما سواه، وإثباتها له وحده لا شريك له، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه إلهًا وحده، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهًا. وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلاً يستفتي أو يستشهد من ليس أهلاً لذلك، ويدع مَنْ هو أهل له، فتقول: هذا ليس بمفت ولا شاهد، المفتي فلان، والشاهد فلان، فإن هذا أمر منه ونهي. وقد دخل في الإلهية جميع أنواع العبادة الصادرة عن تأله

_ 1 سورة الأنبياء آية: 25. 2 سورة النحل آية: 36. 3 سورة ص آية: 5. 4 سورة الأعراف آية: 70.

القلب لله بالحب والخضوع والانقياد له وحده لا شريك له، فيجب إفراد الله تعالى بها، كالدعاء والخوف والمحبة، والتوكل والإنابة، والتوبة، والذبح، والنذر، والسجود، وجميع أنواع العبادة فيجب صرف جميع ذلك لله وحده لا شريك له، فمن صرف شيئًا مما لا يصلح إلا لله من العبادات لغير الله، فهو مشرك ولو نطق بـ: لا إله إلا الله، إذ لم يعمل بما تقتضيه من التوحيد والإخلاص. ذكر نصوص العلماء في معنى الإله، قال ابن عباس رضي الله عنه: الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وقال الوزير أبو المظفر [بن هبيرة] في "الإفصاح"، قوله: " شهادة أن لا إله إلا الله "، يقتضي أن يكون الشاهد عالمًا بأن: لا إله إلا الله، كما قال: الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} 1. وينبغي أن يكون الناطق بها شاهدًا فيها، فقد قال الله عز وجل ما أوضح به أن الشاهد بالحق إذا لم يكن عالمًا بما شهد به، فإنه غير بالغ من الصدق به مع من شهد من ذلك بما يعلمه في قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. قال: واسم الله تعالى مرتفع بعد " إلا " من حيث إنه الواجب له الإلهية. فلا يستحقها غيره سبحانه. قال: واقتضى الإقرار بها أن تعلم أن كل ما فيه أمارة للحدث، فإنه لا يكون إلهًا، فإذا قلت: لا إله إلا الله، فقد اشتمل نطقك هذا على أن ما سوى الله ليس بإله، فيلزمك إفراده سبحانه بذلك وحده. قال: وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة هي مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية، وأثبت الإيجاب لله سبحانه، كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله. وقال أبو عبد الله القرطبي في" التفسير": {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ، أي. لا معبود إلا هو. وقال الزمخشري: الإله من أسماء الأجناس - كالرجل والفرس - اسم يقع على كل معبود بحق أو بباطل، ثم غلب على المعبود بحق.

_ 1 سورة محمد آية: 19. 2 سورة الزخرف آية: 86.

وقال شيخ الإسلام: الإله هو المعبود المطاع. وقال أيضا في (لا إله إلا الله) : إثبات انفراده بالإلهية، والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد. فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع. وقال ابن القيم رحمه الله: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة وإكرامًا وتعظيمًا وذلاً وخضوعًا وخوفًا ورجاءً وتوكلاً. وقال ابن رجب رحمه الله: - الإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالاً ومحبة، وخوفًا ورجاء، وتوكلاً عليه وسؤالاً منه ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقًا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحًا في إخلاصه في قول: لا إله إلا الله، ونقصًا في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وهذا كله من فروع الشرك. وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي: انتفى انتفاء عظيمًا أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علمًا إذا كان نافعًا، وإنما يكون نافعًا إذا كان الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف. وقال الطيبي: الإله فِعَالٌ بِمعنى: مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة، أي: عبد عبادة. وهذا كثير جدًا في كلام العلماء، وهو إجماع منهم أن الإله هو المعبود، خلافًا لما يعتقده عباد القبور وأشباههم في معنى الإله أنه الخالق أو القادر على الاختراع أو نحو هذه العبارات، ويظنون أنهم إذا قالوها بهذا المعنى، فقد أتوا من التوحيد بالغاية القصوى، ولو

فعلوا ما فعلوا من عبادة غير الله، كدعاء الأموات، والاستغاثة بهم في الكربات، وسؤالهم قضاء الحاجات، والنذر لهم في الملمات، وسؤالهم الشفاعة عند رب الأرض والسموات، إلى غير ذلك من أنواع العبادات، وما شعروا أن إخوانهم من كفار العرب يشاركونهم في هذا الإقرار، ويعرفون أن الله هو الخالق القادر على الاختراع، ويعبدونه بأنواع من العبادات، فليهن أبو جهل وأبو لهب ومن تبعهما بحكم عباد القبور، وليهن أيضًا إخوانُهم عباد ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، إذ جعل هؤلاء دينهم هو الإسلام المبرور. ولو كان معناها ما زعمه هؤلاء الجهال، لم يكن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبينهم نزاع، بل كانوا يبادرون إلى إجابته، ويلبون دعوته، إذ يقول لهم: قولوا: لا إله إلا الله، بمعنى: أنه لا قادر على الاختراع إلا الله. فكانوا يقولون: سمعنا وأطعنا. قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 2. {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ ... } 3 الآية، إلى غير ذلك من الآيات. لكنَ القومَ أهلُ اللسان العربي، فعلموا أنها تهدم عليهم دعاء الأموات والأصنام من الأساس، وتكب بناء سؤال الشفاعة من غير الله، وصرف الإلهية لغيره لأم الرأس، فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 4. {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 5. {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 6. فتبًا لمن كان أبو جهل ورأس الكفر من قريش وغيرهم أعلم منه بـ: " لا إله إلا الله ". قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 7. فعرفوا أنها تقتضي ترك عبادة ما سوى الله، وإفراد الله بالعبادة، وهكذا يقول عباد القبور إذا طلبت منهم إخلاص الدعوة والعبادة لله وحده: أنترك سادتنا وشُفعاءنا في

_ 1 سورة الزخرف آية: 87. 2 سورة الزخرف آية: 9. 3 سورة يونس آية: 31. 4 سورة الزمر آية: 3. 5 سورة يونس آية: 18. 6 سورة ص آية: 5. 7 سورة الصّافات آية: 35-36.

قضاء حوائجنا؟! فيقال لهم: نعم وهذا الترك والإخلاص هو الحق، كما قال تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} 1. فـ: " لا إله إلا الله " اشتملت على نفي وإثبات، فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى، فكل ما سواه من الملائكة والأنبياء فضلاً عن غيرهم، فليس بإله، ولا له من العبادة شيء، وأثبتت الإلهية لله وحده، بمعنى أن العبد لا يأله غيره، أي: لا يقصده بشيء من التأله وهو تعلق القلب الذي يوجب قصده بشيء من أنواع العبادة، كالدعاء والذبح والنذر وغير ذلك وبالجملة فلا يأله إلا الله، أي: لا يعبد إلا هو، فمن قال هذه الكلمة عارفًا لمعناها، عاملاً بمقتضاها، من نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته من ذلك والعمل به، فهذا هو المسلم حقًا، فإن عمل به ظاهرًا من غير اعتقاد، فهو المنافق، وإن عمل بخلافها من الشرك، فهو الكافر ولو قالها، ألا ترى أن المنافقين يعملون بها ظاهرًا وهم {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّار} ، [النّساء، من الآية: 145] ، واليهود يقولونها وهم على ما هم عليه من الشرك والكفر، فلم تنفعهم، وكذلك من ارتد عن الإسلام بإنكار شيء من لوازمها وحقوقها، فإنها لا تنفعه، ولو قالها مائة ألف، فكذلك من يقولها ممن يصرف أنواع العبادة لغير الله، كعباد القبور والأصنام، فلا تنفعهم ولا يدخلون في الحديث الذي جاء في فضلها، وما أشبهه من الأحاديث. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: " وحده لا شريك له "، تنبيهًا على أن الإنسان قد يقولها وهو مشرك، كاليهود والمنافقين وعباد القبور، لما رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى قول: " لا إله إلا الله "، ظنوا أنه إنما دعاهم إلى النطق بها فقط، وهذا جهل عظيم، وهو عليه السلام إنما دعاهم إليها ليقولوها ويعملوا بمعناها، ويتركوا عبادة غير الله، ولهذا قالوا: {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 2. وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} 3. فلهذا أبوا عن النطق بها، وإلا فلو قالوها

_ 1 سورة الصافات آية: 37. 2 سورة الصافات آية: 36. 3 سورة ص آية: 5.

وبقوا على عبادة اللات والعزى ومناة لم يكونوا مسلمين، ولقاتلهم عليه السلام حتى يخلعوا الأنداد، ويتركوا عبادتها، ويعبدوا الله وحده لا شريك له، وهذا أمر معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة والإجماع. وأما عبادة القبور فلم يعرفوا معنى هذه الكلمة، ولا عرفوا الإلهية المنفية عن غير الله الثابتة له وحده لا شريك له، بل لم يعرفوا من معناها إلا ما أقرّ به المؤمن والكافر، اجتمع عليه الخلق كلهم من أن معناها: لا قادر على الاختراع، أو أن معناها: الإله، هو الغني عما سواه، الفقير إليه كل ما عداه، ونحو ذلك، فهذا حق، وهو من لوازم الإلهية، ولكن ليس هو المراد بمعنى: " لا إله إلا الله "، فإن هذا القدر قد عرفه الكفار، وأقروا به، ولم يدعوا في آلهتهم شيئًا من ذلك، بل يقرون بفقرهم، وحاجتهم إلى الله، وإنما كانوا يعبدونهم على معنى أنهم وسائط وشفعاء عند الله في تحصيل المطالب ونجاح المآرب، وإلا فقد سلموا الخلق والملك والرزق والإحياء والإماتة، والأمر كله لله وحده لا شريك له، وقد عرفوا معنى: " لا إله إلا الله "، وأبوا على النطق والعمل بها، فلم ينفعهم توحيد الربوبية مع الشرك في الإلهية، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1.وعباد القبور نطقوا بها وجهلوا معناها، وأبوا عن الإتيان به، فصاروا كاليهود الذين يقولونها ولا يعرفون معناها، ولا يعملون به، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بالحب والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء والتوكل والدعاء عند الكرب، ويقصده بأنواع العبادة الصادرة عن تأله قلبه لغير الله مما هو أعظم مما يفعله المشركون الأولون، ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الإيمان صادقًا أو كاذبًا، ولو قيل له: احلف بحياة الشيخ فلان، أو بتربته ونحو ذلك، لم يحلف إن كان كاذبًا، وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أعظم في قلبه من رب الأرباب، وما كان الأولون هكذا، بل كانوا إذا أرادوا التشديد في اليمين حلفوا بالله تعالى، كما في قصة

_ 1 سورة يوسف آية: 106.

القسامة التي وقعت في الجاهلية، وهي في "صحيح البخاري [3845] ". وكثير منهم وأكثرهم يرى أن الاستغاثة بإلهه الذي يعبده عند قبره أو غيره أنفع وأنجح من الاستغاثة بالله في المسجد، ويصرحون بذلك، والحكايات عنهم بذلك فيها طول، وهذا أمر ما بلغ إليه شرك الأولين، وكلهم إذا أصابتهم الشدائد أخلصوا للمدفونين في التراب، وهتفوا بأسمائهم، ودعوهم ليكشفوا ضر المصاب في البر والبحر والسفر والإياب، وهذا أمر ما فعله الأولون، بل هم في هذه الحال يخلصون ل {الكبير المتعال} ، فاقرأ قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ... } 1 الآية، وقوله: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} 2.وكثير منهم قد عطلوا المساجد وعمروا القبور والمشاهد، فإذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه، أخذ في دعاء صاحبه باكيًا خاشعًا ذليلاً خاضعًا، بحيث لا يحصل له ذلك في الجمعة والجماعات وقيام الليل وإدبار الصلوات، فيسألونهم مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب والنجاة من النار، وأن يحطوا عنهم الأوزار، فكيف يظن عاقل ـ فضلاً عن عالم ـ أن التلفظ بـ: " لا إله إلا الله " مع هذه الأمور تنفعهم؟! وهم إنما قالوها بألسنتهم وخالفوها باعتقادهم وأعمالهم؟! ولا ريب أنه لو قالها أحد من المشركين ونطق أيضًا بشهادة أن محمدا رسول الله ولم يعرف معنى الإله ولا معنى الرسول، وصلى وصام وحج، ولا يدري ما ذلك إلا أنه رأى الناس يفعلونه فتابعهم ولم يفعل شيئًا من الشرك، فإنه لا يشك أحد في عدم إسلامه. وقد أفتى بذلك فقهاء المغرب كلهم في أول القرن الحادي عشر أو قبله في شخص كان كذلك كما ذكره صاحب " الدر الثمين في شرح المرشد المعين [ميارة] " من المالكية، ثم قال شارحه: وهذا الذي أفتوا به جلي في غاية الجلاء، لا يمكن أن يختلف فيه اثنان انتهى. ولا ريب أن عباد القبور أشد من هذا؟ لأنهم اعتقدوا الإلهية في أرباب متفرقين.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 65. 2 سورة آية: 53-54.

فإن قيل: قد تبين معنى الإله والإلهية، فما الجواب عن قول من قال: بأن معنى الإله القادر على الاختراع ونحو هذه العبارة؟ قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: أن هذا قول مبتدع لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا من أئمة اللغة، وكلام العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم فيكون هذا القول باطلاً. الثاني: على تقدير تسليمه، فهو تفسير باللازم للإله الحق، فإن اللازم له أن يكون خالقًا قادرًا على الاختراع، ومتى لم يكن كذلك، فليس بإله حق وإن سمي إلهًا، وليس مراده أن من عرف أن الإله هو القادر على الاختراع، فقد دخل في الإسلام وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلام، فإن هذا لا يقوله أحد، لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين، ولو قدر أن بعض المتأخرين أرادوا ذلك فهو مخطئ يرد عليه بالدلائل السمعية والعقلية. قوله: "وأن محمدًا عبده ورسوله"، أي: وشهد بذلك، وهو معطوف على ما قبله، فتكون الشهادة واقعة على هذه الجملة وما قبلها وما بعدها، فإن العامل في المعطوف وما عطف عليه واحد، ومعنى " العبد" هنا يعني المملوك العابد، أي: مملوك لله تعالى، وليس له من الربوبية والإلهية شيء، إنما هو عبد مقرب عند الله ورسوله، أرسله الله كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} 1.قيل: وقدم العبد هنا على الرسول ترقيًا من الأدنى إلى الأعلى، وجمع بينهما لدفع الإفراط والتفريط الذي وقع في شأن عيسى عليه السلام، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " 2 رواه البخاري عن عمر بن الخطاب. وذلك يتضمن تصديقه فيما

_ 1 سورة الجن آية: 19-23. 2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23) .

أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه زجر، فلا يكون كامل الشهادة له بالرسالة من ترك أمره وأطاع غيره، وارتكب نهيه. [تفسير قوله تعالى وروح منه] . قوله: " وإن عيسى عبد الله ورسوله"، وفي رواية "وابن أمته"، أي: خلافًا لما يعتقده النصارى أنه الله، أو ابن الله، تعالى الله عن ذلك {علوًا كبيرا} {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1 فيشهد بأنه عبد الله، أي: عابد مملوك لله، لا مالك، فليس له من الربوبية ولا من الإلهية شيء. ورسول صادق، خلافًا لقول اليهود: إنه ولد بغي، بل يقال فيه ما قال عن نفسه كما قال تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} 2. وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} 3 قال القرطبي: ويستفاد منه ما يلقنه النصراني إذا أسلم. قوله: " {وَكَلِمَتُهُ} "، إنما سمي عليه السلام كلمة الله، لصدوره بكلمة {كن} بلا أب. قاله قتادة وغيره من السلف. قال الإمام أحمد فيما أملاه في الرد على الجهمية: الكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: {كن} فكان عيسى بـ {كن} ، وليس عيسى هو كن، ولكن ب: كن كان، فـ: كن من الله قول، وليس: كن، مخلوقًا، وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالت: عيسى روح الله وكلمته، إلا أن الكلمة مخلوقة. وقالت النصارى، عيسى روح الله من ذات الله، وكلمة الله من ذات الله، كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب. وقلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان، وليسى عيسى هو الكلمة. انتهى. يعني به ما قال قتادة وغيره.

_ 1 سورة المؤمن آية: 91-92. 2 سورة مريم آية: 30-34. 3 سورة النساء آية: 172.

قوله: " {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} ، [النّساء، من الآية: 171] ، قال ابن كثير: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبرائيل عليه السلام إلى مريم، فنفخ فيها في روحه بإذن ربه عز وجل، فكان عيسى بإذن الله عز وجل، وصارت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها فنزلت حتى ولجت فرجها، بمنزلة لقاح الأب الأم، والجميع مخلوق لله عز وجل. ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة الله وروح منه، لأنه لم يكن له أب تولد منه، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له: كن، فكان، والروح التي أرسل بها جبرائيل عليه السلام. قوله: {وروح منه} قال أبي بن كعب: عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله عز وجل واستنطقها بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 1، بعثه الله إلى مريم فدخل مَن فيها. رواه عبد بن حميد، وعبد الله بن أحمد في زوائد "المسند" [2124] وابن جرير، وابن أبي حاتم وغيرهم. وقال أبو روق [عطية بن الحارث] {وروح منه} ، أي: نفخة منه، إذ هي من جبرائيل بأمره، وسمي روحًا، لأنه حدث من نفخة جبرائيل عليه السلام. وقال الإمام أحمد: {وَرُوحٌ مِنْهُ} ، يقول: من أمره كان الروح فيه، كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 2 يقول: من أمره. وقال شيخ الإسلام: المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا بغيره المخلوقات، وجب أن يكون صفة لله تعالى، قائمة به، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب، وإن كان المضاف عينًا قائمة بنفسها، كعيسى وجبرائيل عليه السلام وأرواح بني آدم، امتنع أن يكون صفة لله تعالى، لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره، لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين: أحدهما: أن تكون تضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها، فهذا شامل لجميع المخلوقات، كقولهم: سماه الله، وأرض الله، ومن هذا الباب، فجميع المخلوقين عبيد الله، وجميع المال مال الله، وجميع البيوت والنوق لله.

_ 1 سورة الأعراف آية: 172. 2 سورة الجاثية آية: 13.

الوجه الثاني: أن يضاف إليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه كما خص البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون في غيره، وكما يقال عن مال الفيء والخمس: هو مال الله ورسوله، ومن هذا الوجه فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره، فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه. انتهى ملخصًا. والمقصود منه أن إضافة روح إلى الله هو من الوجه الثاني، والله أعلم. قوله: "والجنة حق والنار حق" أي: وشهد أن الجنة ـ التي أخبر بها الله في كتابه أنه أعدها لمن آمن به وبرسوله حق، أي: ثابتة لا شك فيها، وشهد أن النار ـ التي أخبر الله في كتابه أنه أعدها للكافرين به وبرسله حق كذلك، كما قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1. وقال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 2.وفيهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، خلافًا لأهل البدع الذين قالوا: لا يخلقان إلا في يوم القيامة، وفيه دليل على المعاد وحشر الأجساد. قوله:"أدخله الله الجنة على ما كان، من العمل"، هذه الجملة جواب الشرط وفي رواية: " أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية " قال القاضي عياض: وما ورد في حديث عبادة يكون خصوصا لمن قال ما ذكره صلى الله عليه وسلم وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته، ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة. [فضل من قال لا إله إلا الله] قال: ولهما من حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله". قوله: ولهما، أي للبخاري [425] ن ومسلم [263] في "صحيحيهما".

_ 1 سورة الحديد آية: 21. 2 سورة البقرة آية: 24.

وهذا الحديث طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان كما قال المصنف. وعتبان - بكسر المهملة بعدها مثناة فوقية ثم موحدة - ابن مالك بن عمر بن العجلان الأنصاري من بني سالم بن عوف صحابي شهير، مات في خلافة معاوية. قوله: "فإن الله حرم على النار. الحديث". اعلم أنه قد وردت أحاديث ظاهرها أنه من أتى بالشهادتين حرم على النار، كهذا الحديث، وحديث أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل، فقال: "يا معاذ. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال. "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، إلا حرمه على النار." قال: يا رسول الله ألا أخبر بها الناس فيستبشروا.؟ قال: "إذًا يتكلوا" 1. فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا. أخرجاه. ولمسلم عن عبادة مرفوعًا: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، حرم الله عليه النار." 2 ووردت أحاديث فيها أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة، وليس فيها أنه يحرم على النار. منها حديث عبادة الذي تقدم قبل هذا، وحديث أبي هريرة أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم: في غزوة تبوك ... الحديث. وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكٍّ فيحجب عن الجنة" 3 رواه مسلم. وحديث أبي ذر في " الصحيحين " مرفوعًا: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ... " 4.وأحسن ما قيل في معناه ما قاله شيخ الإسلام وغيره: إن هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها كما جاءت مقيدة، وقالها خالصًا من قلبه مستيقنًا بها قلبه، غير شاك فيها بصدق ويقين، فإن

_ 1 البخاري: العلم (128) , ومسلم: الإيمان (32) . 2 البخاري: العلم (128) , ومسلم: الإيمان (32) , وأحمد (3/131 ,3/157 ,3/244) . 3 مسلم: الإيمان (27) , وأحمد (2/421) . 4 البخاري: اللباس (5827) , ومسلم: الإيمان (94) .

حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصًا من قلبه، دخل الجنة، لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحًا، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك؛ فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة، وتواترت بأن كثيرا ممن يقول: لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين، ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبينها، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليدًا أو عادة، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث: - سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم وهم أقرب الناس من قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 1. وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام، لم يكن في هذه الحال مصرًا على ذنب أصلاً، فإنه كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذًا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ولا كراهية لما أمر الله، وهذا هو الذي يحرم من النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان، وهذه التوبة، وهذا الإخلاص، وهذه المحبة وهذا اليقين، لا يتركون له ذنبًا إلا يُمحى كما يُمحى الليل بالنهار، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلاً، فيغفر له ويحرم على النار، وإن قالها على وجه خلص به

_ 1 سورة الزخرف آية: 23.

على الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة، فيحرم على النار ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته على حسناته ومات مصرًا على ذلك، فإنه يستوجب النار، وإن قال: لا إله إلا الله، وخلص بها من الشرك الأكبر، لكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعد ذلك بسيئات رجحت على حسنة توحيده، فإنه في حال قولها كان مخلصًا، لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك، بخلاف المخلص المستيقن، فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته، ولا يكون مصرًا على سيئة، فإن مات على ذلك دخل الجنة، وإنما يخاف على المخلص أن يأتي بسيئات راجحة يضعف إيمانه، فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر، فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك، فيرجح جانب السيئات، فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف بذلك قول: لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص في القلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم، أو من يحسن صوته بآية من القرآن من غير ذوق طعم ولا حلاوة، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقص ذلك الصدق واليقين، بل يقولونها من غير يقين وصدق، ويموتون على ذلك ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة، وإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح، وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غيره، واطمأن إلى الباطل واستحلى الرفث ومخالطة أهل الغفلة، وكره مخالطة أهل الحق، فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدق عمله، كما قال الحسن: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في

القلوب وصدقته الأعمال، فمن قال خيرا وعمل خيرًا قبل منه، ومن قال شرًا وعمل شرًا لم يقبل منه. وقال بكر بن عبد الله المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه. فمن قال: لا إله إلا الله ولم يقم بموجبها، بل اكتسب مع ذلك ذنوبًا وسيئات، وكان صادقًا في قولها موقنًا بها، لكن ذنوبه أضعاف أضعاف صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، رجحت هذه الأشياء على هذه الحسنة، ومات مصرًا على الذنوب، بخلاف من يقولها بيقين وصدق تام، فإنه لا يموت مصرًا على الذنوب، إما أن لا يكون مصرًا على سيئة أصلاً أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته. والذين يدخلون النار ممن يقولها قد فاتهم أحد هذين الشرطين: إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التامين المنافيين للسيئات، أو لرجحان السيئات، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام، لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فَقَوْلُها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات بل ترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى ملخصًا. وقد ذكر معناه غيره كابن القيم، وابن رجب، والمنذري، والقاضي عياض، وغيرهم. وحاصله: أن لا إله إلا الله سبب لدخول الجنة، والنجاة من النار، ومقتض لذلك، ولكن المقتضي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه، وانتفاء موانعه، فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه، أو لوجود مانع. ولهذا قيل للحسن إن ناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة وقال وهب بن منبه، لمن سأله: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح.

ويدل على ذلك أن الله رتب دخول الجنة على الإيمان والأعمال الصالحة، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في "الصحيحين" عن أبي أيوب: "أن رجلاً قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة. فقال: "تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم" 1. وفي " المسند " عن بشر بن [معبد] بن الخصاصية قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه، فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن أقيم الصلاة، وأن أوتي الزكاة، وأن أحج حجة الإسلام، وأن أصوم رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله. فقلت: يا رسول الله، أما اثنتين، فوالله ما أطيقهما: الجهاد والصدقة، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حركها وقال: "فلا جهاد ولا صدقة، فبم تدخل الجنة إذًا؟! "قلت: يا رسول الله أبايعك عليهن كلهن" 2 ففي الحديث: أن الجهاد والصدقة شرط في دخول الجنة مع حصول التوحيد، والصلاة، والحج، والصيام. والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد، وبالعكس. وفيه تحريم النار على أهل التوحيد الكامل، وفيه أن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصًا لله تعالى. [فضل لا إله إلا الله ورجحانها في الميزان] قال: وعن أبي سعيد الخدري عن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "قال موسى: يارب علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضون السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله" رواه ابن حبان، والحاكم وصححه. أبو سعيد: اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، وأبوه أيضًا كذلك، استصغر أبو سعيد بأحد، ثم شهد ما بعدها، مات بالمدينة سنة ـ ثلاث أو أربع أو خمس ـ وستين. وقيل: أربع وسبعين.

_ 1 البخاري: الزكاة (1396) , ومسلم: الإيمان (13) , والنسائي: الصلاة (468) , وأحمد (5/417 ,5/418) . 2 أحمد (5/224) .

قوله: (أذكرك) . هو بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: أنا أذكرك. وقيل: بل هو صفة، وأدعوك معطوف عليه، أي: أثني عليك وأحمدك به، وأدعوك، أي: أتوسل به إليك إذا دعوتك. قوله: "قل يا موسى: لا إله إلا الله". فيه أن الذاكر بها يقولها كلها، ولا يقتصر على لفظ الجلالة كما يفعله جهال المتصوفة، ولا يقول أيضًا: هو كما يقوله غلاة جهالهم، فإذا أرادوا الدعاء قالوا: يا هو، فإن ذلك بدعة وضلالة. وقد صنف جهالهم في المسألتين، وصنف ابن عربي كتابًا سماه بـ: "الهو". قوله: "كل عبادك يقولون هذا"، هكذا ثبت في المصنف، يقولون بالجمع مراعاة لمعنى كل، والذي في الأصول: (يقول) بالإفراد مراعاة للفظها دون معناها، لكن قد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو هذا الحديث بهذا اللفظ الذي ذكره المصنف أطول منه. وفي " سنن النسائي [10670] " و " الحاكم " و " شرح السنة [1273] " بعد قوله: (كل عبدك يقولون هذا) وإنما أريد أن تخصني به"، أي: بذلك الشيء من بين عموم عبادك فإن من طبع الإنسان أن لا يفرح فرحا شديدًا إلا بشيء يختص به دون غيره، كما إذا كانت عنده جوهرة ليست موجودة عند غيره. مع أن من رحمة الله وسنته المطردة أن ما اشتدت إليه الحاجة والضرورة، كان أكثر وجودًا، كالبر والملح، والماء ونحو ذلك دون الياقوت واللؤلؤ، ولما كان بالناس ـ بل بالعالم كله ـ من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية في الضرورة فوقه كانت أكثر الأذكار وجودًا، وأيسرها حصولاً، وأعظمها معنى. والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الأسماء الغريبة،

والدعوات المبتدعة التي لا أصل لها في الكتاب والسنة كالأحزاب والأوراد التي ابتدعها جهلة المتصوفة. قوله: "وعامرهن غيري"، هو بالنصب عطف على السماوات، أي: لو أن السماوات السبع ـ ومن فيهم من العمار غير الله والأرضين السبع ومن فيهن ـ وضعوا في كفة الميزان، ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى، مالت بهن لا إله إلا الله. وروى الإمام أحمد [6580] عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نوحًا عليه السلام قال لابنه عند موته: " آمرك بـ: " لا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله ". وفيه دليل على أن الله تعالى فوق السماوات. قوله: (في كفة) بكسر الكاف وتشديد الفاء من كفة الميزان. قال بعضهم: ويطلق لكل مستدير. قوله: "مالت بهن لا إله إلا الله"، أي: رجحت عليهن، وذلك لما اشتملت عليه من توحيد الله الذي هو أفضل الأعمال، وأساس الملة، ورأس الدين، فمن قالها بإخلاص ويقين، وعمل بمقتضاها ولوازمها، واستقام على ذلك، فهو من {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، [البقرة، من الآية: 62] ، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} 1. والحديث يدل على أن: " لا إله إلا الله " أفضل الذكر، كما في حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير

_ 1 سورة فصلت آية: 30-32.

ما قلت أنا والنبيون من قبلي، لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" 1. رواه أحمد والترمذي. وعنه أيضًا مرفوعًا: "يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئًا؟ فيقول: لا يا رب، فيقال: ألك عذر أو حسنة، فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة". رواه الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وقال الذهبي في "تلخيصه": صحيح. قال ابن القيم: فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العمل واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض. قال: تأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات، فلا يعذب. ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه. وعن أبي هريرة مرفوعًا: "ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصًا قط إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنب الكبائر" 2 رواه الترمذي وحسنه والنسائي، والحاكم وقال: على شرط مسلم. قوله: (رواه ابن حبان، والحاكم) . (ابن حبان) : اسمه محمد بن حبان -بكسر المهملة وتشديد الموحدة- بن أحمد بن حبان أبو حاتم التميمي البستي الحافظ صاحب التصانيف كـ " الصحيح "

_ 1 الترمذي: الدعوات (3585) . 2 الترمذي: الدعوات (3590) .

و " التاريخ " و " الضعفاء " و " الثقات " وغير ذلك. قال الحاكم: كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال، مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست بالمهملة. وأما الحاكم، فاسمه محمد بن عبد الله بن محمد الضبي النيسابوري أبو عبد الله الحافظ، ويعرف بابن البيِّع. ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وصنف التصانيف كـ " المستدرك " و " تاريخ نيسابور " وغيرهما، مات سنة خمس وأربعمائة. [بيان سعة مغفرة الله تعالى] قال: وللترمذي وحسنه عن أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة " 1. الترمذي، اسمه: محمد بن عيسى بن سورة - بفتح المهملة - ابن موسى ابن الضحاك السلمي أبو عيسى صاحب " الجامع " وأحد الأئمة الحفاظ، كان ضرير البصر. روى عن قتيبة وهناد والبخاري وخلق، ومات سنة تسع وسبعين ومائتين. وأنس هو: ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه عشر سنين، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة " 2 ومات سنة اثنتين ـ وقيل: ثلاث ـ وتسعين. وقد جاوز المائة. والحديث قطعة من حديث رواه الترمذي من طريق كثير بن فائد: حدثنا سعيد بن عبيد، سمعت بكر بن عبد الله المزني يقول: حدثنا أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض.... " 3 الحديث.

_ 1 الترمذي: الدعوات (3540) . 2 البخاري: الدعوات (6334) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (660) . 3 الترمذي: الدعوات (3540) .

قال ابن رجب: وإسناده لا بأس به. وسعيد بن عبيد: هو الْهُنَائِي: ذكره ابن حبان في " الثقات " وقال الدارقطني: تفرد به كثير بن فائد عن سعيد بن عبيد مرفوعًا. قال ابن رجب: وتابعه على رفعه أبو سعيد مولى بني هاشم، فرواه عن سعيد بن عبيد مرفوعًا، وقد رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر بمعناه، وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله: من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا" 1 الحديث. وفيه: "ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة، لا يشرك بي شيئًا لقيته بقرابها مغفرة" 2. قوله: " لو أتيتني بقراب الأرض ". قراب الأرض، بضم القاف، وقيل بكسرها، والضم أشهر، وهو ملؤها أو ما يقارب ملءها. قوله: " ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا ". شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك كثيره وقليله، صغيره وكبيره، ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه الله، وذلك هو القلب السليم. كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 3. قال ابن رجب: من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة، فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية، فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه، أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيما وإجلالاً ومهابة وخشية وتوكلاً، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر، وربما قلبتها حسنات، فإن

_ 1 البخاري: التوحيد (7405) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2675) , والترمذي: الدعوات (3603) , وابن ماجه: الأدب (3822) , وأحمد (2/251 ,2/509 ,2/524 ,2/534) . 2 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2687) , وابن ماجه: الأدب (3821) , وأحمد (5/148 ,5/167 ,5/169 ,5/172 ,5/180) , والدارمي: الرقاق (2788) . 3 سورة الشّعراء آية: 88-89.

هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم، فلو وضع منه ذرة على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات. وقال شيخ الإسلام: الشرك نوعان: أكبر، وأصغر، فمن خلص منهما وجبت له الجنة، ومن مات على الأكبر، وجبت له النار، ومن خلص من الأكبر، وحصل له بعض الأصغر مع حسنات راجحة على ذنوبه، دخل الجنة، فإن تلك الحسنات توحيد كثير مع يسير من الشرك الأصغر، ومن خلص من الأكبر، ولكن كثر الأصغر حتى رجحت به سيئاته دخل النار، فالشرك يؤاخذ به العبد إذا كان أكبر أو كان كثيرًا أصغر، والأصغر القليل في جانب الإخلاص الكثير لا يؤاخذ به. وفي هذه الأحاديث: 1-كثرة ثواب التوحيد. 2-وسعة كرم الله، وجوده ورحمته، حيث وعد عباده أن العبد لو أتاه بملء الأرض خطايا وقد مات على التوحيد فإنه يقابله بالمغفرة الواسعة التي تسع ذنوبه. 3-والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة الذين يقولون بالمنْزلة بين المنزلتين وهي منْزلة الفاسق، فيقولون: ليس بمؤمن ولا كافر ويخلد في النار والصواب في ذلك قول أهل السنة أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان على الإطلاق، ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاصٍ أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. وقال المصنف: 1-تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة، فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قول لا إله إلا الله، وتبين لك خطأ المغرورين.2- وفيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على معنى قول لا إله إلا الله. 3- وفيه التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات مع أن كثيرًا ممن يقولها يخف ميزانه. 4-وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس عرفت أن قوله في حديث عتبان: "إن الله حرم

على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" 1. إذا ترك الشرك، ليس قولها باللسان. انتهى ملخصًا.

_ 1 البخاري: الصلاة (425) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33) .

باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

[م3- باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب] أي: ولا عذاب. وتحقيق التوحيد: هو معرفته، والاطلاع على حقيقته، والقيام بها علمًا وعملاً، وحقيقة ذلك هو انجذاب الروح إلى الله محبة وخوفًا، وإنابة وتوكلاً، ودعاء وإخلاصًا وإجلالاً وهيبة، وتعظيمًا وعبادة. وبالجملة فلا يكون في قلبه شيء لغير الله، ولا إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله؟ وذلك هو حقيقة لا إله إلا الله، فإن الإله هو المألوه المعبود. وما أحسن ما قال ابن القيم: فلِواحِدٍ كن واحدًا في واحد ... أعني سبيل الحق والإيمان وذلك هو حقيقة الشهادتين، فمن قام بهما على هذا الوجه فهو من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب. قوله: وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. مناسبة الآية للترجمة من جهة أن الله تعالى وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بهذه الصفات الجليلة التي هي أعلى درجات تحقيق التوحيد، ترغيبًا في اتباعه في التوحيد، وتحقيق العبودية فاتباع الأوامر، وترك النواهي، فمن اتبعه في ذلك، فإنه يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب كما يدخلها إبراهيم عليه السلام. الأولى: أنه {كَانَ أُمَّةً} ، أي: قدوة وإمامًا معلمًا للخير، وإمامًا يقتدى به. روي معناه عن ابن مسعود. وما كان كذلك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين اللذين بهما تنال الإمامة في الدين.

_ 1 سورة النحل آية: 120.

كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} 1. الثانية: أنه كان {قَانِتاً لِلَّهِ} ، أي: خاشعًا مطيعًا، دائمًا على عبادته وطاعته كما قال شيخ الإسلام: القنوت في اللغة: دوام الطاعة. والمصلي إذا طال قيامه أو ركوعه أو سجوده، فهو قانت في ذلك كله. قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} 2 فجعله قانتًا في حال السجود والقيام. انتهى. فوصفه في هاتين الصفتين بتحقيق العبودية في نفسه أولاً علمًا وعملاً. وثانيا: دعوة وتعليمًا واقتداء به، وما كان يقتدى به إلا لعمله به في نفسه، ووصفه في الثانية بالاستقامة على ذلك كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 3. فتضمنت العلم والعمل والاستقامة والدعوة. الدعوة الثالثة: أنه كان حنيفًا، والحنف الميل، أي: مائلاً منحرفًا قصدًا عن الشرك كما قال تعالى حكاية عنه: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4 وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 5. الرابعة: أنه ما كان من المشركين. أي: هو موحد خالص من شوائب الشرك مطلقًا، فنفى عنه الشرك ـ على أبلغ وجوه النفي، بحيث لا ينسب إليه شرك وإن قل ـ، تكذيبًا لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام. وقال المصنف في الكلام على هذه الآية: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} 6، لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين. {قَانِتاً لِلَّهِ} 7، لا للملوك ولا للتجار المترفين {حَنِيفاً} لا يميل يمينًا ولا شمالا كفعل العلماء المفتونين {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 8 خلافا لمن كثر سوادهم وزعم أنه من المسلمين. قلت: وهو من

_ 1 سورة السجدة آية: 24. 2 سورة الزمر آية: 9. 3 سورة فصلت آية: 33. 4 سورة الأنعام آية: 79. 5 سورة الروم آية: 30. 6 سورة النحل آية: 120. 7 سورة النحل آية: 120. 8 سورة النحل آية: 120.

أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية، لكنه ينبه بالأدنى على الأعلى. وقوله: لئلا يستوحش. تنبيه على بعض معنى الآية، وهو المنفرد وحده في الخير. وقد روى يابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتا} 1، كان على الإسلام ولم يكن في زمانه من قومه أحد على الإسلام غيره، فلذلك قال الله: {كَانَ أُمَّةً قَانِتا} 2، ولا تنافي بينه وبين كلام ابن مسعود المتقدم. قوله: وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} 3، مناسبة الآية للترجمة من جهة أن الله تعالى وصف المؤمنين السابقين إلى الجنات بصفات، أعظمها الثناء عليهم بأنهم {بربهم لا يشركون} ، أي: شيئا من الشرك في وقت من الأوقات فإن الإيمان النافع مطلقًا لا يوجد إلا بترك الشرك مطلقًا. ولما كان المؤمن قد يعرض له ما يقدح في إيمانه من شرك جلي أو خفي، نفى عنهم ذلك، ومن كان كذلك فقد بلغ من تحقيق التوحيد النهاية، وفاز بأعظم التجارة، ودخل الجنة بلا حساب ولا عذاب. قال ابن كثير: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} 4، أي: لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحد صمد، لم يتخذ {صاحبة ولا ولدًا} وأنه لا نظير له. [صفات المتوكلين الذين يدخلون الجنة بغير حساب] قال عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا. ثم، قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي. قال: وما حدثكم الشعبي؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة "5.فقال: قد أحسن من انتهى إِلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل

_ 1 سورة النحل آية: 120. 2 سورة النحل آية: 120. 3 سورة المؤمنون آية: 59. 4 سورة المؤمنون آية: 59. 5 مسلم: الإيمان (220) , وأحمد (1/271) .

والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه. فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منْزله فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئًا فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه. فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال. سبقك بها عكاشة ". ش: هكذا أورد المصنف هذا الحديث غير معزو، وقد رواه البخاري مختصرًا ومطولاً. ومسلم واللفظ له، والترمذي، والنسائي. قوله: (عن حصين بن عبد الرحمن) ، هو: السلمي أبو الهذيل الكوفي ثقة، تغير حفظه في الآخر، مات سنة ست وثلاثين ومائه، وله ثلاث وتسعون سنة. وسعيد بن جبير هو الإمام الفقيه من جلة أصحاب ابن عباس، روايته عن عائشة، وأبي موسى مرسلة، وهو كوفي مولى لبني أسد، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين، ولم يكمل الخمسين. قوله: (انقض) هو بالقاف والضاد المعجمة، أي: سقط. والبارحة هي أقرب ليلة مضت. قال أبو العباس ثعلب: يقال قبل الزوال: رأيت الليلة، وبعد الزوال: رأيت البارحة، وهكذا قال غيره، وهي مشتقة من برح: إذا زال. قوله: (أما إني لم أكن في صلاة) . القائل هو حصين، خاف أن يظن الحاضرون أنه ما رأى النجم إلا لأنه يصلي، فأراد أن ينفي عن نفسه إيهام العبادة، وأنه يصلي مع أنه لم يكن فعل ذلك، وهذا يدل

على فضل السلف الصالح وحرصهم على الإخلاص، وشدة ابتعادهم عن الرياء بخلاف من يقول: فعلت وفعلت ليوهم الأغمار أنه من الأولياء، وربما علق السبحة في عنقه، أو أخذها في يده يمشي بها بين الناس إعلامًا للناس أنه يسبح عدد ما فيها من الخرز. وقد قال الإمام محمد بن وضاح: حدثنا أسد عن جرير بن حازم عن الصلت بن بهرام قال: مر ابن مسعود بامرأة [معها تسبيح] تسبح به فقطعه وألقاها، ثم مر برجل يسبح بحصى فضربه برجله ثم قال: لقد جئتم ببدعة ظلمًا، أو: لقد غلبتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علمًا؟!. قوله: (ولكني لُدغْتُ) . هو بضم أوله وكسر ثانيه مبني لما لم يسم فاعله، أي: لدغته عقرب أو نحوها. قوله: (قلت: ارتقيت) ، لفظ مسلم: استرقيت، أي: طلبت من يرقيني قوله: (فما حمله على ذلك؟) ، فيه طلب الحجة على صحة المذهب. قوله: (حديث حدثناه الشعبي) ، أي: حملني عليه حديث حدثناه الشعبي، واسمه عامر بن شرحبيل الهمداني - بسكون الميم - الشعبي، ولد في خلافة عمر وهو من ثقات التابعين وحفاظهم وفقهائهم، مات سنة ثلاثة ومائة. قوله: (عن بريدة) - بضم أوله وفتح ثانيه - تصغير بردة - بن الحصيب - بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين - ابن عبد الله بن الحارث الأسلمي، صحابي شهير. مات سنة ثلاث وستين. قاله ابن سعد. قوله: " لا رقية إلا من عين أو حمة "1. هكذا روي هنا موقوفًا، وقد رواه أحمد وابن ماجة عنه مرفوعًا، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعًا. قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات.

_ 1 مسلم: الإيمان (220) , وأحمد (1/271) .

والعين: هي إصابة العائن غيره بعينه، والحمة - بضم المهملة وتخفيف الميم - سم العقرب وشبهها. قال الخطابي: ومعنى الحديث: "لا رقية أشفى أو أولى من رقية العين والحمة" وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم ورقي ". قلت: وسيأتي ما يتعلق بالرقى إن شاء الله تعالى. قوله: (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع) ، أي: من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن، لأنه أدى ما وجب وعمل بما بلغه من العلم، بخلاف من يعمل بجهل أو لا يعمل بما يعلم فإنه مسيء آثم وفيه فضيلة علم السلف وحسن أدبهم وهديهم وتلطفهم في تبليغ العلم، وإرشادهم من أخذ بشيء - إن كان مشروعًا - إلى ما هو أفضل منه، وأن من عمل بما بلغه عن الله وعن رسوله فقد أحسن، ولا يتوقف العمل به على معرفة كلام أهل المذاهب أو غيرهم. قوله: (ولكن حدثنا ابن عباس) . هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" 1. فكان كذلك. قال عمر: "لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد"، أي: ما بلغ عشره في العلم، مات بالطائف سنة ثمان وستين. قال المصنف: فيه عمق علم السلف، لقوله: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن ... كذا وكذا، فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني. قوله: (عرضت على الأمم) . وفي رواية الترمذي والنسائي من رواية عَبْثَر بن القاسم، عن حصين بن عبد الرحمن أن ذلك كان ليلة الإسراء ولفظه: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم جعل يمر بالنبي ومعه الواحد. قال الحافظ: فإن كان ذلك محفوظًا، كانت فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد

_ 1 أحمد (1/266) .

الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضًا غير الذي وقع بمكة، كذا قال، وليس بظاهر، بل قد يكون رأى ذلك ليلة الإسراء ولم يحدث به إلا في المدينة. وليس في الحديث ما يدل على أنه حدث به قريبًا من العرض عليه. قوله: (فرأيت النبي ومعه الرهط) : هو الجماعة دون العشرة، قاله النووي. قوله: (والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد) . فيه أن الأنبياء متفاوتون في عدد أتباعهم، وأن بعضهم لا يتبعه أحد، وفيه الرد على من احتج بالأكثر، وزعم أن الحق محصور فيهم، وليس كذلك، بل الواجب اتباع الكتاب والسنة مع من كان وأين كان. قوله: (إذ رفع لي سواد عظيم) . السواد: ضد البياض، والمراد هنا: الشخص الذي يرى من بعيد، أي: رفع لي أشخاص كثيرة. قوله: فظننت أنهم أمتي. استشكل الإسماعيلي كونه صلى الله عليه وسلم لم يعرف أمته حتى ظن أنهم أمة موسى عليه السلام ; وقد ثبت حديث أبي هريرة: "كيف تعرف من لم تر من أمتك؟ فقال: إنهم غر محجلون من أثر الوضوء" 1. وأجاب بأن الأشخاص التي رآها في الأفق لا يدرك منها إلا الكثرة من غير تمييز لأعيانهم. وأما ما في حديث أبي هريرة فمحمول على ما إذا قربوا منه، ذكره الحافظ. قوله: (فقيل لي: هذا موسى وقومه) ، أي: موسى بن عمران، كليم الرحمن، وقومه: الذين اتبعوه وفيه فضيلة موسى وقومه. قوله: (فنظرت فإذا سواد عظيم) . لفظ مسلم ـ بعد قوله: هذا موسى وقومه ـ، ولكن انظر إلى الأفق فنظرت، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك. قوله: (ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب) ، أي: لتحقيقهم التوحيد.

_ 1 ابن ماجه: الطهارة وسننها (284) , وأحمد (1/403 ,1/453) .

قال الحافظ: المراد بالمعية المعنوية، فإن السبعين ألفًا المذكورين من جملة أمته، لكن لم يكونوا في الذين عرضوا إذ ذاك، فأريد الزيادة في تكثير أمته بإضافة السبعين ألفًا إليهم. قلت: وما قاله ليس بظاهر فإن في رواية ابن فضيل: "ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفًا". وقد ورد في حديث أبي هريرة في " الصحيحين " وصف السبعين ألفًا بأنهم تضيء وجوهم إضاءة القمر ليلة البدر. وفيهما عنه مرفوعًا: " أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة " 1. وجاء في أحاديث أخر أن مع السبعين ألفًا زيادة عليهم، فروى أحمد والبيهقي في البعث حديث أبي هريرة في السبعين ألفًا فذكره وزاد. قال: " فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفًا " 2. قال الحافظ: وسنده جيد. وفي الباب عن أبي أيوب عند الطبراني، وعن حذيفة عند أحمد، وعن أنس عند البزار، وعن ثوبان عند [ابن] أبي عاصم قال: فهذه طرق يقوي بعضها بعضًا. قال: وجاء في أحاديث أخر أكثر من ذلك، فأخرج الترمذي وحسنه، والطبراني وابن حبان في "صحيحه " من حديث أبي أمامة رفعه " وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا مع كل ألف سبعين كذا ألفًا لا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربي " 3. وروى أحمد وأبو يعلى من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعطيت سبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي عز وجل فزادني مع كل واحد سبعين ألفًا " 4.قال الحافظ: وفي سنده راويان: أحدهما: ضعيف الحفظ والآخر لم يسمّ) . قلت: وفيه أن كل أمة تحشر مع نبيها. قوله: (ثم نهض) ، أي: قام.

_ 1 البخاري: بدء الخلق (3254) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2834) , والترمذي: صفة الجنة (2537) , وابن ماجه: الزهد (4333) , وأحمد (2/230 ,2/231 ,2/247 ,2/253 ,2/257 ,2/316 ,2/473 ,2/502 ,2/504 ,2/507) , والدارمي: الرقاق (2823) . 2 أحمد (2/359) . 3 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2437) , وابن ماجه: الزهد (4286) , وأحمد (5/250 ,5/268) . 4 أحمد (1/6) .

قوله: (فخاض الناس في أولئك) . قال النووي هو بالخاء والضاد المعجمتين، أي: تكلموا وتناظروا. قال: وفي هذا إباحة المناظرة في العلم والمباحثة في نصوص الشرع على جهة الاستفادة وإظهار الحق. وفيه عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعملٍ، وفيه حرصهم على الخير; ذكره المصنف. قوله: فقال " هم الذين لا يسترقون ". هكذا ثبت في "الصحيحين" وفي رواية مسلم التي ساقها المصنف هنا زيادة: "ولا يرقون"، وكأن المصنف اختصرها ـ كغيرها ـ لما قيل: إنها معلولة. قال شيخ الإسلام: هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: لا يرقون، لأن الراقي محسن إلى أخيه. وقد قال صلى الله عليه وسلم ـ وقد سئل عن الرقى ـ قال: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه" 1 وقال: "لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا" 2. قال: وأيضا فقد "رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم "، "ورقى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه" 3. قال: والفرق بين الراقي والمسترقي في أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه، والراقي محسن. قال: وإنما المراد وصف السبعين ألفًا بتمام التوكل فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم ولا يتطيرون. وكذا قال ابن القيم; ولكن اعترضه بعضهم بأن قال: تغليط الراوي مع إمكان تصحيح الزيادة لا يصار إليه. والمعنى الذي حمله على التغليط موجود في المرقى، لأنه اعتل بأن الذي لا يطلب من غيره أن يرقيه تام التوكل، فكذا يقال: والذي يفعل به غيره ذلك ينبغي أن لا يمكنه منه لأجل تمام التوكل، وليس في وقوع ذلك من جبريل عليه السلام دلالة على المدعى، ولا في فعل النبي صلى الله عليه وسلم له أيضًا دلالة؛ لأنّه في مقام التشريع، وتبيين الأحكام كذا قال هذا القائل وهو خطأ من وجوه: الأول: أن هذه الزيادة لا يمكن تصحيحها إلا بحملها على وجوه لا يصح حملها عليها كقول بعضهم: المراد لا يرقون بما كان شركًا أو

_ 1 مسلم: السلام (2199) . 2 مسلم: السلام (2200) , وأبو داود: الطب (3886) . 3 البخاري: الطب (5746) , ومسلم: السلام (2194) , وأبو داود: الطب (3895) , وابن ماجه: الطب (3521) , وأحمد (6/93) .

احتمله فإنه ليس في الحديث ما يدل على هذا أصلا. وأيضًا فعلى هذا لا يكون للسبعين مزية على غيره; فإن جملة المؤمنين لا يرقون بما كان شركًا. الثاني: قوله: (فكذا يقال ... ) إلخ لا يصح هذا القياس، فإنه من أفسد القياس وكيف يقاس من سأل وطلب على من لم يسأل؟! مع أنه قياس مع وجود الفارق الشرعي، فهو فاسد الاعتبار، لأنه تسوية بين ما فرق الشارع بينهما بقوله: "من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل" 1. رواه أحمد والترمذي وصححه وابن ماجة، وصححه ابن حبان والحاكم أيضًا. وكيف يجعل ترك الإحسان إلى الخلق سببًا للسبق إلى الجنان؟! وهذا بخلاف من رقى أو رقي من غير سؤال، فقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يجوز أن يقال: إنه عليه السلام لم يكن متوكلاً في تلك الحال. الثالث: قوله: (ليس في وقوع ذلك من جبريل عليه السلام ... ) إلخ، كلام غير صحيح بل هما سيدا المتوكلين، فإذا وقع ذلك منهما، دل على أنه لا ينافي التوكل فاعلم ذلك. قوله: "ولا يكتوون"، أي: لا يسألون غيرهم أن يكويهم، كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم استسلامًا للقضاء وتلذذًا بالبلاء. أما الكي في نفسه، فجائز كما في " الصحيح " عن جابر بن عبد الله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلي أبي بن كعب طبيبًا، فقطع له عرقًا وكواه" 2. وفي " صحيح البخاري " عن أنس: "أنه كوي من ذات الجنب والنبي صلى الله عليه وسلم حي" 3. وروى الترمذي وغيره عن أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة" 4. وفي " صحيح البخاري "عن ابن عباس مرفوعًا: "الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار. وأنا أنهى عن الكي" 5. وفي لفظ: "وما أحب أن أكتوي" 6.

_ 1 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337) . 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) . 3 البخاري: الطب (5721) . 4 البخاري: المرضى (5673) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2816) , وأحمد (2/256 ,2/264 ,2/326 ,2/385 ,2/390 ,2/469 ,2/473 ,2/524) . 5 الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . 6 البخاري: الصلاة (434) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/51) .

قال ابن القيم: فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع. أحدها: فعله، والثاني: عدم محبته له. والثالث: الثناء على من تركه. والرابع: النهي عنه. ولا تعارض بينها بحمد الله، فإن فعله له يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه. وأما الثناء على تاركيه، فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه، فعلى سبيل الاختيار والكراهية. قوله: "ولا يتطيرون"، أي: لا يتشاءمون بالطيور ونحوها، وسيأتي بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها إن شاء الله تعالى. قوله: "وعلى ربهم يتوكلون"1. ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال وهو التوكل على الله، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه الذي هو خلاصة التفريد، ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء، والرضى به ربًا وإلهًا، والرضى بقضائه، بل ربما أوصل العبد إلى التلذذ بالبلاء، وعده من النعماء، فسبحان من يتفضل على من يشاء بما يشاء، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ، [البقرة، من الآية: 105] . واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً كما يظنه الجهلة، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه حتى الحيوان البهيم، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 2، أي: كافيه إنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله، كالاسترقاء والاكتواء فتركهم له ليس لكونه سببا لكن لكونه سببا مكروهًا، لاسيما والمريض ـ يتشبث بما يظنه سببًا لشفائه ـ بخيط العنكبوت أما نفس مباشرة الأسباب، والتداوي على وجه لا كراهية فيه، فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعًا؟ في " الصحيحين "

_ 1 البخاري: الطب (5752) , ومسلم: الإيمان (220) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2446) , وأحمد (1/271) . 2 سورة الطلاق آية: 3.

عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء" 1. وعن أسامة بن شريك قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، فقالوا يا رسول الله! أنتداوى؟ فقال: نعم يا عباد الله تَدَاوَوا، فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له شفاء، غير داء واحد قالوا: ما هو؟ قال: الهرم" 2. رواه أحمد. قال ابن القيم: فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطشى والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح بمباشرته في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى من التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه. ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للأمر والحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزًا. وقد اختلف العلماء في التداوي، هل هو مباح وتركه أفضل، أو مستحب أو واجب؟ فالمشهور عن أحمد الأول لهذا الحديث وما في معناه، ولكن على ما تقدم لا يتم الاستدلال به على ذلك، والمشهور عند الشافعي الثاني، حتى ذكر النووي في " شرح مسلم " أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف. واختاره الوزير أبو المظفر. قال: ومذهب أبو حنيفة أنه مؤكد حتى يداني به الوجوب قال: ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه فإنه قال: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه. وقال شيخ الإسلام: ليس بواجب عند جماهير الأئمة، إنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد. قوله: (فقام إليه عكاشة بن محصن) . بضم العين وتشديد الكاف

_ 1 البخاري: الطب (5678) , وابن ماجه: الطب (3439) . 2 الترمذي: الطب (2038) , وأبو داود: الطب (3855) , وابن ماجه: الطب (3436) .

ويجوز تخفيفها. ومحصن بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الصاد المهملتين - ابن حرثان- بضم المهملة وسكون الراء وبعدها مثلثة- الأسدي من بني أسد بن خزيمة ومنه خلفاء بني أمية، كان من السابقين إلى الإسلام، ومن أجمل الرجال - هاجر وشهد بدرا وقاتل فيها. قال ابن إسحاق: وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:- "خير فارس في العرب عكاشة". ومناقبه مشهورة استشهد في قتال أهل الردة مع خالد بن الوليد بيدي طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة ثم أسلم طليحة بعد ذلك. قوله: "قال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم"1. في رواية البخاري: فقال: (اللهم اجعله منهم) . وكذلك في حديث أبي هريرة عند البخاري مثله. وفي بعض الروايات: "أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: نعم" 2. قال الحافظ: ويجمع بأنه سأل الدعاء أولاً، فدعا له ثم استفهم هل أجيب؟ فأخبره. وفيه طلب الدعاء من الفاضل. قوله: (ثم قام إليه رجل آخر) . لم نقف على تسميته إلا في طريق واهية ذكرها الخطيب في "المبهمات" من رواية أبي حذيفة إسحاق بن بشر ـ أحد الضعفاء ـ من طريقين له عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من غزاة بني المصطلق ... ، فساق قصة طويلة فيها ذلك. قال الحافظ: وهذا مع ضعفه وإرساله يستبعد من جهة جلالة سعد بن عبادة، فإن كان محفوظًا، فلعله آخر باسم سيد الخزرج واسم أبيه، فإن في الصحابة كذلك آخر له في " مسند بقي بن مخلد " وفي الصحابة سعد بن عمارة فلعل اسم أبيه تحرف. قوله: "سبقك بها عكاشة"3. قال ابن بطال: معنى قوله سبقك. أي: إلى إحراز هذه الصفات، وهي التوكل وعدم التطير وما ذكر معه، وعدل ـ عن قوله: لست منهم، أو لست على أخلاقهم ـ تلطفًا بأصحابه، وحسن أدب معهم. وقال القرطبي: لم يكن عند الثاني

_ 1 مسلم: الإيمان (220) . 2 البخاري: الطب (5752) , ومسلم: الإيمان (220) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2446) , وأحمد (1/271) . 3 البخاري: الطب (5705) , ومسلم: الإيمان (220) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2446) , وأحمد (1/271) .

من الأحوال ما كان عند عكاشة، فلذلك لم يجب؛ إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضرًا فيتسلسل الأمر، فسدَّ الباب بقوله ذلك، وهذا أولى من قول من قال: كان منافقًا لوجهين: أحدهما: أن الأصل في الصحابة عدم النفاق فلا يثبت ما يخالف ذلك إلا بنقل صحيح. والثاني: أنه قل أن يصدر مثل هذا السؤال إلا عن قصد صحيح، ويقين بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم. وكيف يصدر ذلك من منافق؟! قلت: هذا أولى ما قيل في تأويله، وإليه مال شيخ الإسلام. قال المصنف: وفيه استعمال المعاريض وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم.

باب الخوف من الشرك

[م4 باب الخوف من الشرك] ش: لما كان الشرك أعظم ذنب عُصِيَ الله به، ولهذا رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، من إباحة دماء أهله وأموالهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه; نبه المصنف بهذه الترجمة على أنه ينبغي للمؤمن أن يخاف منه ويحذره ويعرف أسبابه ومبادئه وأنواعه لئلا يقع فيه، ولهذا قال حذيفة: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أساله عن الشر مخافة أن أقع فيه". رواه البخاري. وذلك أن من لم يعرف إلا الخير قد يأتيه الشر ولا يعرف أنه شر فإما أن يقع فيه، وإما أن لا ينكره كما ينكره الذي عرفه، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية ". قال شيخ الإسلام: وهو كما قال عمر، فإن كمال الإسلام هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله، ومن نشأ في المعروف، فلم يعرف غيره، فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند مَنْ عَلِمَهُ، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم; ولهذا يوجد [في] الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز

عنه والجهاد لهم ما ليس عند غيره، ولهذا كان الصحابة أعظم إيمانًا وجهادًا ممن بعدهم لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر لما علموه من حسن حال الإيمان والعمل الصالح، وقُبْح حال الكفر والمعاصي. قال: وقول الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1. قال ابن كثير: أخبر تعالى أنه {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ، أي: {لا يَغْفِرُ} لعبد لقيه وهو مشرك به، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} ، أي: من الذنوب {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} من عباده. قلت: فتبين بهذا أن الشرك أعظم الذنوب، لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره، أي: إلا بالتوبة منه، وما عداه، فهو داخل تحت مشيئة الله إن شاء غفره بلا توبة وإن شاء عذب به. وهذا يوجب للعبد شدة الخوف من هذا الذنب الذي هذا شأنه عند الله، وإنما كان كذلك؟ 1-لأنه أقبح القبح وأظلم الظلم إذ مضمونه تنقيص رب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به كما قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 2. 2-ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر منافٍ له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعته والذل له، والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك. فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله" 3 رواه مسلم. ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق ـ تعالى وتقدس ـ في خصائص الإلهية من ملك الضر والنفع، والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده. فمن علق ذلك لمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه {ضرًا ولا نفعًا ولا ... موتًا ولا حياة ولا نشورًا} [الفرقان]_ فضلاً عن غيره ـ شبيهًا بمن {لَهُ الْخَلْقُ}

_ 1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة الأنعام آية: 1. 3 مسلم: الإيمان (148) , والترمذي: الفتن (2207) , وأحمد (3/107 ,3/201 ,3/259) .

كله، {وَلَهُ الْمُلْكُ} كله وبيده الخير كله، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} . فَأَزِمَّة الأمور كلها بيديه سبحانه، ومرجعها إليه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس {رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات القادر الغني بالذات، ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والتوبة والاستعانة وغاية الحب مع غاية الذل، كل ذلك يجب عقلاً وشرعًا وفطرة أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلاً وشرعًا وفطرة أن يكون لغيره، فمن فعل شيئًا من ذلك لغيره، فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثل له ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه أنه لا يغفره مع أنه {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ، فهذا معنى كلام ابن القيم. وفي الآية رد على الخوارج المكفِّرين بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يدخلون النار ولا بد، ولا يخرجون منها، وهم أصحاب المنْزلة بين المنْزلتين. ووجه ذلك أن الله تعالى جعل مغفرة ما دون الشرك معلقة بالمشيئة، ولا يجوز أن يحمل هذا على التأكيد، فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره. كما قال تعالى في الآية الأخرى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} 1. فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق؛ لأن المراد به ما لم يتب. قاله شيخ الإسلام. قوله: وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 2. (الصنم) : ما كان منحوتًا على صورة البشر. والوثن: ما كان منحوتًا على غير ذلك. ذكره الطبري عن مجاهد. والظاهر أن الصنم ما كان مصورًا على أي صورة، والوثن بخلافه كالحجر والبينة، وإن

_ 1 سورة الزمر آية: 53. 2 سورة إبراهيم آية: 35.

كان الوثن قد يطلق على الصنم، ذكر معناه غير واحد، ويروى عن بعض السلف ما يدل عليه. وقوله: {وَاجْنُبْنِي} ، أي: اجعلني {وَبَنِيَّ} في جانب عن عبادة الأصنام، وباعد بيني وبينها. قيل: وأراد بذلك بنيه وبناته من صلبه، ولم يذكر البنات لدخولهم تبعا في البنين، وقد استجاب الله دعاءه وجعل بنيه أنبياء وجنبهم عبادة الأصنام، وإنما دعا إبراهيم عليه السلام بذلك، لأن كثيرًا من الناس افتتنوا بها، كما قال: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1. فخاف من ذلك ودعا الله أن يعافيه وبنيه من عبادتها، فإذا كان إبراهيم عليه السلام يسأل الله أن يجنبه ويجنب بنيه عبادة الأصنام، فما ظنك بغيره؟ كما قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن من البلاء بعد إبراهيم؟! رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وهذا يوجب للقلب الحي أن يخاف من الشرك، لا كما يقول الجهال: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة، ولهذا أمنوا الشرك فوقعوا فيه، وهذا وجه مناسبة الآية للترجمة. [بيان أن الرياء من الشرك الأصغر] قال: وفي الحديث "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء" 2. ش: هكذا أورد المصنف هذا الحديث مختصرًا غير معزوّ، وقد رواه الإمام أحمد والطبراني، وابن أبي الدنيا، والبيهقي في " الزهد" ; وهذا لفظ أحمد قال: حدثنا يونس، ثنا ليث عن يزيد، يعني ابن الهاد، عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء" 3. قال المنذري: ومحمود بن لبيد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح له منه سماع فيما أرى. وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال: له صحبة. قال: وقال أبي: لا تعرف له صحبة، ورجح ابن عبد البر والحافظ أن له صحبة وقال: جل روايته عن الصحابة. وقد

_ 1 سورة إبراهيم آية: 36. 2 أحمد (5/428) . 3 أحمد (5/428) .

رواه الطبراني بإسناد جيد عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج. وقيل: إن حديث محمود هو الصواب دون ذكر رافع. مات محمود سنة ست وتسعين. وقيل: سنة سبع، وله تسع وتسعون سنة. قوله: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" 1. هذا من رحمته صلى الله عليه وسلم لأمته وشفقته عليهم، وتحذيره مما يخاف عليهم، فإنه ما من خير إلا دلهم عليه وأمر به، وما من شر إلا وأخبرهم به وحذرهم عنه. كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم" 2. ولما كانت النفوس مجبولة على محبة الرياسة والمنْزلة في قلوب الخلق إلا من سلم الله، كان هذا أخوف ما يخاف على الصالحين، لقوة الداعي إلى ذلك، والمعصوم مَنْ عَصَمَهُ الله، وهذا بخلاف الداعي إلى الشرك الأكبر، فإنه إما معدوم في قلوب المؤمنين الكاملين، ولهذا يكون. الإلقاء في النار أسهل عندهم من الكفر. وإما ضعيف، هذا مع العافية، وإما مع البلاء، ف {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} . فلذلك صار خوفه صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء أشد لقوة الداعي وكثرته، دون الشرك الأكبر لما تقدم، مع أنه أخبر أنه لا بد من وقوع عبادة الأوثان في أمته، فدل على أنه ينبغي للإنسان أن يخاف على نفسه الشرك الأكبر، إذا كان الأصغر مخوفًا على الصالحين من الصحابة مع كمال إيمانهم، فينبغي للإنسان أن يخاف الأكبر لنقصان إيمانه ومعرفته بالله، فهذا وجه إيراد المصنف له هنا مع أن الترجمة تشمل النوعين. قال المصنف: وفيه أن الرياء من الشرك، وأنه من الأصغر، وأنه أخوف ما يخاف على الصالحين، وفيه قرب الجنة والنار، والجمع بين قربهما في حديث واحد على عمل واحد متقارب في الصورة.

_ 1 أحمد (5/428) . 2 مسلم: الإمارة (1844) , والنسائي: البيعة (4191) , وابن ماجه: الفتن (3956) , وأحمد (2/191) .

قال: وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو لله ندًا دخل النار" 1. رواه البخاري. ش: قال ابن القيم: (الند) : الشبه، يقال: فلان ند فلان ونديده، أي: مثله وشبهه انتهى. وهذا كما قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2. وقال تعالى: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 3. أي: من مات وهو يدع لله ندًا، أي: يجعل لله ندًا فيما يختص به تعالى ويستحقه من الربوبية والإلهية، دخل النار، لأنه مشرك، فإن الله تعالى هو المستحق للعبادة لذاته، لأنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وترغب إليه، وتفزع إليه عند الشدائد، وما سواه فهو مفتقر إليه، مقهور بالعبودية له، تجري عليه أقداره وأحكامه {طوعًا وكرهًا} ، فكيف يصلح أن يكون ندًا؟ قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الأِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} 4. وقال: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} 5. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 6. فبطل أن يكون له نديد من خلقه، تعالى عن ذلك {علوًا كبيرًا} {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 7. واعلم أن دعاء الند على قسمين: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو الشرك الأكبر. والأصغر كيسير الرياء، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ونحو ذلك. فقد ثبت "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت قال: أجعلتني لله ندًا؟ بل ما شاء الله وحده" 8. رواه أحمد وابن أبي شيبة، والبخاري في " الأدب المفرد " والنسائي، وابن ماجة، وقد تقدم حكمه في باب فضل التوحيد.

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/374 ,1/402 ,1/407 ,1/462 ,1/464) . 2 سورة البقرة آية: 22. 3 سورة الزمر آية: 8. 4 سورة الزخرف آية: 15. 5 سورة مريم آية: 93-95. 6 سورة فاطر آية: 15. 7 سورة المؤمنون آية: 91-92. 8 أحمد (1/214) .

[من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار] قال: ولمسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار" 1. ش: جابر: هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام ـ بمهملتين ـ الأنصاري ثم السلمي بفتحتين، صحابي جليل مكثر، ابن صحابي، له ولأبيه مناقب مشهورة رضي الله عنهما. مات بالمدينة بعد السبعين، ـ وقد كف بصره ـ وله أربع وتسعون سنة. قوله: "من لقي الله لا يشرك به شيئًا". قال القرطبي: أي: من لم يتخذ معه شريكًا في الإلهية ولا في الخلق، ولا في العبادة. ومن المعلوم ـ من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة ـ أن من مات على ذلك، فلا بد له من دخول الجنة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة، وإن مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد من غير انقطاع عذاب، ولا تصرم آماد، وهذا معلوم ضروري من الدين، مجمع عليه بين المسلمين. وقال النووي: أما دخول المشرك إلى النار، فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة من المرتدين والمعطلين، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادًا وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام، وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده وغير ذلك. وأما دخول من مات غير مشرك الجنة، فهو مقطوع له به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرًا عليها دخل الجنة أولاً، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرًا عليها، فهو تحت المشيئة، فإن عفا عنه دخل الجنة أولاً، وإلا عذب في النار ثم أخرج فيدخل الجنة. وقال غيره: اقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء، واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم، إذ من كذب رسل الله، فقد كذب الله، ومن كذب الله، فهو مشرك، وهو قولك: من توضأ صحت صلاته، أي مع سائر الشروط، فالمراد من مات حال كونه مؤمنًا بجميع

_ 1 مسلم: الإيمان (93) , وأحمد (3/374) .

ما يجب الإيمان به إجمالاً في الإجمالي، وتفصيلاً في التفصيلي. قلت: قد تقدم بعض ما يتعلق بذلك في باب فضل التوحيد. قال المصنف: وفيه تفسير لا إله إلا الله، كما ذكره البخاري في "صحيحه" يعني أن معنى لا إله إلا الله: ترك الشرك، وإفراد الله بالعبادة، والبراءة ممن عبد سواه، كما بينه الحديث، وفيه فضيلة من سلم من الشرك.

باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا لله

باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا لله ... [م5 باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله] ش: لما بين المصنف رحمه الله الأمر الذي خلقت له الخليقة وفضله وهو التوحيد، وذكر الخوف من ضده الذي هو الشرك، وأنه يوجب لصاحبه الخلود في النار، نبّه بهذه الترجمة على أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه كما يظن الجهال; ويقولون: اعمل بالحق واترك الناس وما يعنيك من الناس، بل يدعو إلى الله {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} والمجادلة {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، كما كان ذلك شأن المرسلين وأتباعهم إلى يوم الدين، وكما جرى للمصنف وأشباهه من أهل العلم والدين والصبر واليقين. وإذا أراد الدعوة إلى ذلك، فليبدأ بالدعوة إلى التوحيد الذي هو معنى شهادة أن: لا إله إلا الله، إذ لا تصح الأعمال إلا به، فهو أصلها الذي تبنى عليه، ومتى لم يوجد، لم ينفع العمل، بل هو حابط، إذ لا تصح العبادة مع الشرك، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} 1. ولأن معرفة معنى هذه الشهادة هو أول واجب على العباد، فكان أول ما يبدأ به في الدعوة. قال: وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} 2. ش: قال ابن كثير: يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمرًا له أن يخبر

_ 1 سورة التوبة آية: 17. 2 سورة يوسف آية: 108.

الناس أن هذه سبيله، أي: طريقته وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك، ويقين وبرهان ـ هو وكل من اتبعه ـ يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة وبرهان عقلي شرعي. وقوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ} . أي: وأنزه الله وأجل وأعظم عن أن يكون له شريك ونديد، تبارك وتعالى عن ذلك {علوًا كبيرًا} . قلت: فتبين وجه المطابقة بين الآية والترجمة. قيل: ويظهر ذلك إذا كان قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} عطفًا على الضمير في {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} ، فهو دليل على أن أتباعه هم الدعاة إلى الله تعالى، وإن كان عطفًا على الضمير المنفصل، فهو صريح في أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون من عداهم، والتحقيق أن العطف يتضمن المعنيين، فأتباعه هم أهل البصيرة الذين يدعون إلى الله. وفي الآية مسائل نبه عليها المصنف: منها: التنبيه على الإخلاص، لأن كثيرًا ولو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه. ومنها: أن البصيرة من الفرائض، ووجه ذلك أن اتباعه صلى الله عليه وسلم واجب، وليس اتباعه حقًا إلا أهل البصيرة، فمن لم يكن منهم فليس من أتباعه، فتعين أن البصيرة من الفرائض. ومنها: أن من دلائل حسن التوحيد أنه تنْزيه لله عز وجل عن المسبة. ومنها: أن من أقبح الشرك كونه مسبة لله. ومنها: إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير معهم ولو لم يشرك، وكل هذه الثلاث في قوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ ... } الآية. [وصية الرسول لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن] قال: وعن ابن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" 1. وفي رواية: "إلى أن يوحدوا الله فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم

_ 1 البخاري: الزكاة (1395 ,1496) والمغازي (4347) والتوحيد (7372) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) .

أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة; فإن أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائمَ أموالهم: واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجاه. ش: قوله: "لما بعث معاذًا إلى اليمن". قال الحافظ: كان صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره المصنف - يعني البخاري - في أواخر المغازي. وقيل: كان ذلك في آخر سنة تسع عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك. رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك، وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه. ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر. وقيل: بعثه عام الفتح سنة ثمان. واتفقوا أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر، ثم توجه إلى الشام فمات بها; واختلف هل كان معاذ واليًا أو قاضيًا، فجزم ابن عبد البر بالثاني، والغساني بالأول. قلت: الظاهر أنه كان واليًا قاضيًا. قوله: (إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب) . قال القرطبي: يعني به اليهود والنصارى، لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب، وإنما نبهه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم، ويعد الأدلة لامتحانهم، لأنهم أهل علم سابق، بخلاف المشركين وعبدة الأوثان. وقال الحافظ: هو كالتوطئة للوصية ليجمع همته عليها، ثم ذكر معنى كلام القرطبي. قلت: وفيه أن مخاطبة العالم ليست كمخاطبة الجاهل، والتنبيه على أنه ينبغي للإنسان أن يكون على بصيرة في دينه، لئلا يبتلى بمن يورد عليه شبهة من علماء المشركين، ففيه التنبيه على الاحتراز من الشبه، والحرص على طلب العلم. قوله: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله". يجوز رفع "أول " مع نصب " شهادة " وبالعكس. قوله: وفي رواية: "إلى أن يوحدوا الله"، هذه الرواية في التوحيد من " صحيح البخاري " وفي بعض الروايات: "فادعهم

إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" 1. وفي بعضها وأن محمدًا رسول الله وأكثر الروايات فيها ذكر الدعوة إلى الشهادتين. وأشار المصنف رحمه الله بإيراد هذه الرواية إلى التنبيه على معنى شهادة أن لا إله إلا الله، إذ معناها توحيد الله بالعبادة، وترك عبادة ما سواه. فلذلك جاء الحديث مرة بلفظ "شهادة أن لا إله إلا الله" ومرة "إلى أن يوحدوا الله". ومرة "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات" 2. وذلك هو الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله الذي قال الله فيه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} 3. ومعنى الكفر بالطاغوت: هو خلع الأنداد والآلهة ـ التي تدعى من دون الله ـ من القلب، وترك الشرك بها رأسًا، وبغضه وعداوته. ومعنى الإيمان بالله: هو إفراده بالعبادة التي تتضمن غاية الحب بغاية الذل والانقياد لأمره، وهذا هو الإيمان بالله المستلزم للإيمان بالرسل عليهم السلام، المستلزم لإخلاص العبادة لله تعالى، وذلك هو توحيد الله تعالى ودينه الحق المستلزم للعلم النافع، والعمل الصالح، وهو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وحقيقة المعرفة بالله، وحقيقة عبادته وحده لا شريك له. فلله ما أفقه من روى هذا الحديث بهذه الألفاظ المختلفة لفظًا المتفقة معنى! فعرفوا أن المراد من شهادة أن لا إله إلا الله هو الإقرار بها علمًا ونطقًا وعملاً، خلافًا لما يظنه بعض الجهال أن المراد من هذه الكلمة هو مجرد النطق بها، أو الإقرار بوجود الله أو ملكه لكل شيء من غير شريك، فإن هذا القدر قد عرفه عباد الأوثان وأقروا به، فضلاً عن أهل الكتاب، ولو كان كذلك لم يحتاجوا إلى الدعوة إليه. وفيه دليل على أن التوحيد ـ الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه ـ هو أول واجب، فلهذا كان أول ما

_ 1 مسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) . 2 البخاري: الزكاة (1458) , ومسلم: الإيمان (19) . 3 سورة البقرة آية: 256.

دعت إليه الرسل عليهم السلام، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1. وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلمًا، والعدو وليًا، والمباح دمه وماله معصومَ الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه، فقد دخل في الإيمان، وإن قاله بلسانه دون قلبه، فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان، وفيه البداءة في الدعوة والتعليم بالأهم فالأهم، واستدل به من قال من العلماء: إنه لا يشترط في صحة الإسلام النطق بالتبري من كل دين يخالف دين الإسلام، لأن اعتقاد الشهادتين يستلزم ذلك ... ، وفي ذلك تفصيل. وفيه: أنه لا يحكم بإسلام الكافر إلا بالنطق بالشهادتين. قال شيخ الإسلام: فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطنًا وظاهرًا عند سلف الأمة وأئمتها، وجماهير علمائها. قلت: هذا ـ والله أعلم ـ فيمن لا يقر بهما أو بإحداهما، أما من كُفْرُهُ مع الإقرار بهما ... ففيه بحث، والظاهر أن إسلامه هو توبته عما كفر به. وفيه أن الإنسان قد يكون قارئًا عالمًا وهو لا يعرف معنى لا إله إلا الله، أو يعرفه ولا يعمل به، نبه عليه المصنف. وقال بعضهم: هذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا، هو الدعوة قبل القتال التي كان يوصي بها النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه. قلت: فعلى هذا فيه استحباب الدعوة قبل القتال لمن بلغته الدعوة، أما من لم تبلغه فتجب دعوته.

_ 1 سورة الأنبياء آية: 25. 2 سورة النحل آية: 36.

قوله: (فإن هم أطاعوك لذلك) ، أي: شهدوا وانقادوا لذلك. قوله: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) ، فيه أن الصلاة ـ بعد التوحيد والإقرار بالرسالة ـ أعظم الواجبات وأحبها، واستُدِلَ به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع؛ حيث دعاهم أولًا إلى التوحيد فقط، ثم دعوا إلى العمل ورتب ذلك عليها بالفاء، وأيضًا فإن قوله: "فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم"، يفهم منه أنهم لو لم يطيعوا لم يجب عليهم شيء. قال النووي: وهذا الاستدلال ضعيف، فإن المراد أعلمهم بأنهم مطالبون بالصلوات وغيرها في الدنيا، والمطالبة في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام، ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها، ويزاد في عذابهم بسببها في الآخرة، قال: ثم اعلم أن المختار أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه، هذا قول المحققين والأكثرين. قلت: ويدل عليه قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 1 الآيات. وفيه دليل على أن الوتر ليس بفرض إذ لو كان فرضًا لكان صلاة سادسة لا سيما وهذا في آخر الأمر. قوله: "فإن هم أطاعوك" لذلك، أي: آمنوا بأن الله افترضها عليهم وفعلوها. قوله: "فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"، فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلاة، وأنها تؤخذ من الأغنياء، وتصرف إلى الفقراء، وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم الفقراء بالذكر ـ مع أنها تدفع إلى المجاهد والعامل ونحوهما وإن كانوا أغنياء ـ؛ لأن الفقراء - والله أعلم - هم أكثر من تدفع إليهم، أو لأن حقهم آكد. وفيه أن الإمام هو الذي يتولى قبض

_ 1 سورة المدثّر آية: 43-48.

الزكاة وصرفها إما بنفسه أو نائبه، فمن امتنع عن أدائها إليه أخذت منه قهرًا. قيل: وفيه دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد كما هو مذهب مالك وأحمد. وعلى ما تقدم لا يكون فيه دليل. وفيه أنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا كافر، وأن الفقير لا زكاة عليه، وأن من ملك نصابًا لا يعطى من الزكاة من حيث إنه جعل المأخوذ منه غنيًا وقابله بالفقير. ومن ملك النصاب فالزكاة مأخوذة منه فهو غني، والغنى مانع من إعطاء الزكاة إلا من استثني، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون، كما هو قول الجمهور لعموم قوله: من أغنيائهم. قوله: "فإياك وكرائمَ أموالهم"1 هو بنصب كرائم على التحذير، والكرائم جمع كريمة، أي: نفيسة. قال صاحب " المطالع [ابن قلقل] ". وهي جامعة الكمال الممكن في حقها من غزارة لبن وجمال صورة، أو كثرة لحم وصوف. ذكره النووي. وفيه أنه يحرم على العامل أخذ كرائم المال في الزكاة، بل يأخذ الوسط، ويحرم على صاحب المال إخراج شر المال، بل يخرج: الوسط، فإن طابت نفسه بإخراج الكريمة جاز. قوله: "واتق دعوة المظلوم" أي: احذر دعوة المظلوم واجعل بينك وبينهم وقاية بفعل العدل وترك الظلم، لئلا يدعو عليك المظلوم. وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم، والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم إشارة إلى أن أخذها ظلم، ذكره الحافظ. قوله: فإنه- أي الشأن - ليس بينها وبين الله حجاب. أي: لا تحجب عن الله تعالى، بل ترفع إليه فيقبلها وإن كان عاصيًا، كما في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعًا: "دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه" 2. وإسناده حسن، قاله

_ 1 البخاري: الزكاة (1496) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) . 2 أحمد (2/367) .

الحافظ. وقال أبو بكر بن العربي: هذا وإن كان مطلقًا، فهو مقيد بالحديث الآخر أن الداعي على ثلاث مراتب: إما أن يعجل له ما طلب، وإما أن يدخر له [في الآخرة] أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله. وهذا كما قيد مطلق قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} 1. بقوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} 2.وفي الحديث أيضا قبول خبر الواحد العدل ووجوب العمل به، وأن الإمام يبعث العمال لجباية الزكاة وأنه يعظ عماله وولاته، ويأمرهم بتقوى الله، ويعلمهم ما يحتاجون إليه، وينهاهم عن الظلم، ويعرفهم قبح عاقبته والتنبيه على التعليم بالتدريج، ذكره المصنف. واعلم أنه لم يذكر في هذا الحديث ونحوه الصوم والحج، مع أن بعث معاذ كان في آخر الأمر كما تقدم، فأشكل ذلك على كثير من العلماء. قال شيخ الإسلام: أجاب بعض الناس أن الرواة اختصر بعضهم الحديث وليس الأمر كذلك، فإن هذا طعن في الرواة، لأن هذا إنما يقع في الحديث الواحد مثل حديث عبد القيس ـ حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره ـ. فأما الحديثان المنفصلان، فليس الأمر فيهما كذلك، ولكن عن هذا جوابان: أحدهما: أن ذلك بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله الشهادتان. ثم الصلاة، فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي، ولهذا لم يذكر وجوب الحج في عامة الأحاديث إنما جاء في الأحاديث المتأخرة. قلت: وهذا من الأحاديث المتأخرة ولم يذكر فيها الجواب. الثاني: أنه كان صلى الله عليه وسلم يذكر في كل مقام ما يناسبه، فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها كالصلاة والزكاة، ويذكر تارة الصلاة والصيام إن لم يكن عليه زكاة، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصيام، فإما أن يكون قبل فرض الحج، كما في حديث عبد القيس ونحوه، وإما أن يكون المخاطب بذلك لا حج عليه.

_ 1 سورة النمل آية: 62. 2 سورة الأنعام آية: 41.

وأما الصلاة والزكاة، فلهما شأن ليس لسائر الفرائض، ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما، لأنهما عبادتان ظاهرتان بخلاف الصوم، فإنه أمر باطن وهو مما ائتمن عليه الناس، فهو من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة: ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد، فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سرًا، كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، بخلاف الصلاة والزكاة، وهو صلى الله عليه وسلم يذكر في الإعلام الأعمال الظاهرة التي يقاتل الناس عليها، ويصيرون مسلمين بفعلها، فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصيام، وإن كان واجبًا كما في آيتي (براءة11) فإن (براءة) نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس. وكذلك لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن لم يذكر في حديثه الصيام؛ ـ لأنه تبع وهو باطن ـ ولا ذكر الحج، لأن وجوبه خاص ليس بعام، وهو لا يجب في العمر إلا مرة واحدة. انتهى ملخصًا بمعناه قوله: أخرجاه، أي: أخرجه البخاري [4347] ومسلم [19] في " الصحيحين " وأخرجه أيضًا أحمد [2070] وأبو داود [1584] والترمذي [629] والنسائي [2284] وابن ماجة [1784] . إعطاء الرسول الراية لعلي بن أبي طالب يوم خيبر. قال: ولهما عن سهل بن سعد: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله; يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلهم يرجو أن يعطاها. فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه قال: فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق في عينيه، ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجَع، فأعطاه الراية. وقال: انفذ على رسلك حتى تنْزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم" 1. يدوكون أي: يخوضون.

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (3009) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأحمد (5/333) .

ش: قال شيخ الإسلام: هذا الحديث أصح ما روي لعلي رضي الله عنه من الفضائل أخرجاه في " الصحيحين " من غير وجه. قوله: (عن سهل) . هو سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي أبو العباس صحابي شهير، وأبوه صحابي أيضًا. مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة. قوله: (قال يوم خيبر) ، أي: في غزوة خيبر. في " الصحيحين " واللفظ لمسلم عن سلمة بن الأكوع قال: "كان علي رضي الله عنه قد تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان رمدًا، فقال: أنا تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج علي رضي الله عنه فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله عز وجل في صباحها" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية، أو ليأخذن بالراية غدًا رجل يحبه الله ورسوله أو قال: يحب الله ورسوله يفتح الله عليه فإذا نحن بعلي وما نرجوه. فقالوا: هذا علي: فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية، ففتح الله عليه" 1. وهذا يبين أن عليًا رضي الله عنه لم يشهد أول خيبر، وأنه عليه السلام قال هذه المقالة مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها. قوله: "لأعطين الراية". قال الحافظ في رواية بريدة: "إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله" 2. والراية بمعنى اللواء، وهو العلم الذي يحمل في الحرب، يعرف به موضع صاحب الجيش وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم العسكر. وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفهما، لكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض. ومثله عند الطبراني عن بريدة، وعند ابن عدي عن أبي هريرة وزاد: مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهو ظاهر في التغاير فلعل التفرقة بينهما عرفية.

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (2975) , ومسلم: فضائل الصحابة (2407) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2975) , ومسلم: فضائل الصحابة (2407) .

قوله: "يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله". فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بذلك، ولكن ليس هذا من خصائصه. قال شيخ الإسلام: ليس هذا الوصف مختصًا بعلي ولا بالأئمة، فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذي يتبرؤون منه ولا يتولونه، بل لقد يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج. لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك، لكن هذا باطل فإن الله ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم أنه يموت كافرًا. وفيه إثبات صفة المحبة لله، وفيه إشارة إلى أن عليًا تام الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحبه الله، ولهذا كانت محبته علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق ذكره. الحافظ بمعناه. قوله: "يفتح الله على يديه". صريح في البشارة بحصول الفتح على يديه، فكان الأمر كذلك، ففيه دليل على شهادة أن محمدًا رسول الله. قوله: (فبات الناس يدوكون ليلتهم) ، هو بنصب " ليلتهم " على الظرفية، ويدوكون. قال المصنف: يخوضون. والمراد أنهم باتوا تلك الليلة في خوض واختلاف فيمن يدفعها إليه، وفيه حرص الصحابة على الخير ومزيد اهتمامهم به، وذلك يدل على علو مراتبهم في العلم والإيمان. قوله: أيهم يعطاها. فهو برفع " أي " على البناء. قوله: "فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها" 1. وفي رواية أبي هريرة عند مسلم: "أن عمر قال: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ ". فإن قلت: إن كانت هذه الفضيلة لعلي رضي الله عنه

_ 1 البخاري: المناقب (3701) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأحمد (5/333) .

ليست من خصائصه; فلماذا تمنى بعض الصحابة أن يكون له ذلك؟ قيل الجواب كما قال شيخ الإسلام أن في ذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بإيمانه باطنًا وظاهرًا، وإثبات لموالاته لله ورسوله، ووجوب موالاة المؤمنين له، وإذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمعين بشهادة أو دعا له بدعاء أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة، ومثل ذلك الدعاء، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو به لخلق كثير، وكان تعيينه لذلك المعين من أعظم فضائله ومناقبه، وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس، وعبد الله بن سلام وغيرهما، ـ وإن كان قد شهد بالجنة لآخرين ـ، والشهادة لمحبة الله ورسوله للذي ضرب في الخمر. قلت: وفي هذه الجملة أيضًا حرص الصحابة على الخير. قوله: فقال: "أين علي بن أبي طالب؟ ". قال بعضهم: كأنه صلى الله عليه وسلم استبعد غيبته عن حضرته في مثل ذلك الموطن، لا سيما وقد قال: "لأعطين الراية"، إلى آخره وقد حضر الناس وكلهم طمع بأن يكون هو الذي يفوز بذلك الوعد. وفيه سؤال الإمام عن رعيته وتفقده أحوالهم وسؤاله عنهم في مجامع الخير. قوله: (فقيل له: هو يشتكي عينيه) ، أي: من الرمد كما في " صحيح مسلم " عن سعد بن أبي وقاص فقال: "ادعوا لي عليًا، فأتي به أرمد فبصق في عينيه" 1. قوله: قال: "فأرسلوا إليه". بهمزة قطع، أمر من الإرسال، أمرهم بأن يرسلوا إليه فيدعوه له. ولمسلم من طريق إياس بن سلمة عن أبيه قال: "فأرسلني إلى علي ... ، فجئت به أقوده ... أرمد ... ، فبصق في عينيه فبرأ". قوله: " فبصق "، بفتح الصاد، أي: تفل. قوله: "ودعا له فبرأ". وهو بفتح الراء والهمزة، بوزن ضرب،

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (2942) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأحمد (5/333) .

ويجوز الكسر بوزن علم، أي: عوفي في الحال عافية كاملة، كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر أصلاً. وعند الطبراني من حديث علي: فما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلي النبي صلى الله عليه وسلم الراية. وفيه دليل على الشهادتين. قوله: "فأعطاه الراية". قال المصنف: فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع، ومنعها عمن سعى، وفيه التوكل على الله، والإقبال بالقلب إليه، وعدم الالتفات إلى الأسباب، وإن فعلها لا ينافي التوكل. قوله: "وقال انفُذ على رسلك". أما " انفذ " فهو بضم الفاء، أي: امض لوجهك. ورسلك: ـ بكسر الراء وسكون السين ـ، أي: على رفقك ولينك من غير عجلة، يقال لمن يعمل الشيء برفق. وساحتهم: فناء أرضهم، وهو حواليها. وفيه الأدب عند القتال، وترك الطيش والأصوات المزعجة التي لا حاجة إليها، وفيه أمر الإمام عماله بالرفق واللين من غير ضعف ولا انتقاض عزيمة كما يشير إليه قوله: "حتى تنْزل بساحتهم". قوله: "ثم ادعهم إلى الإسلام"، أي: الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ومن هذا الوجه طابق الحديث الترجمة. وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب، فأعطاه الراية. وقال: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك. فسار علي شيئًا ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ فقال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" 1.

_ 1 مسلم: فضائل الصحابة (2405) .

وفيه أن الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، المراد بها الدعوة إلى الإخلاص بها وترك الشرك وإلا فاليهود يقولونها، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إليها بينهم وبين من لا يقولها من مشركي العرب، فعلم أن المراد من هذه الكلمة هو اللفظ بها، واعتقاد معناها، والعمل به، وذلك هو معنى قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 1. وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} ، [الرّعد، من الآية: 36] . وذلك هو معنى قوله: "ثم ادعهم إلى الإسلام " الذي هو الاستسلام لله تعالى، والانقياد له بفعل التوحيد وترك الشرك. وفيه مشروعية الدعوة قبل القتال، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وتستحب دعوتهم لهذا الحديث وما في معناه، وإن كانوا لم تبلغهم وجبت دعوتهم. وقوله: "وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه". أي.: في الإسلام، أي: إذا أجابوا إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقوقه التي لا بد من فعلها، كالصلاة، والزكاة، وهذا كقوله في حديث أبي هريرة: " فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 2 وقد فسره أبو بكر الصديق لعمر رضي الله عنهما لما قاتل أهل الردة الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فقال له عمر: "كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟! قال أبو بكر: فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعها"3.

_ 1 سورة آل عمران آية: 64. 2 مسلم: فضائل الصحابة (2405) . 3 البخاري: الصلاة (393) , والترمذي: الإيمان (2608) , والنسائي: تحريم الدم (3966 ,3967) والإيمان وشرائعه (5003) , وأبو داود: الجهاد (2641) , وأحمد (3/199 ,3/224) .

وحاصله أنهم إذا أجابوا إلى الإسلام الذي ـ هو التوحيد ـ فأخبرهم بما يجب عليهم بعد ذلك من حق الله تعالى في الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام الظاهرة وحقوقه؛ فإن أجابوا إلى ذلك فقد أجابوا إلى الإسلام حقًا، وإن امتنعوا عن شيء من ذلك فالقتال باق بحاله إجماعًا. فدل على أن النطق بكلمتي الشهادة دليل العصمة لا أنه عصمة، أو يقال: هو العصمة لكن بشرط العمل، يدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} 1 الآية، ولو كان النطق بالشهادتين عاصمًا لم يكن للتثبت معنى، يدل على ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا} ، أي: عن الشرك وفعلوا التوحيد {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 2 فدل على أن القتال يكون على هذه الأمور. وفيه أن لله تعالى حقوقًا في الإسلام من لم يأت بها لم يكن مسلمًا، كإخلاص العبادة له والكفر بما يعبد من دونه. وفيه بعث الإمام الدعاة إلى الله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يفعلون. وفيه تعليم الإمام أمراءه وعماله ما يحتاجون إليه. قوله: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم"3 أن: هي المصدرية، واللام قبلها مفتوحة، لأنها لام القسم، ومدخولها مسبوك بمصدر مرفوع على أنه مبتدأ خبره " خير ". وحمر بضم المهملة وسكون الميم. والنعم بفتح النون والعين المهملة. أي: خير لك من الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء. قيل: المراد خير من أن تكون لك فتتصدق بها. وقيل تقتنيها وتملكها. قلت: هذا هو الأظهر، والأول لا دليل عليه. أي أنكم تحبون متاع الدنيا، وهذا خير منه. قال النووي: وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام، وإلا فذرة من الآخرة خير من الأرض بأسرها، وأمثالها معها.

_ 1 سورة النساء آية: 94. 2 سورة التوبة آية: 5. 3 البخاري: الجهاد والسير (3009) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأبو داود: العلم (3661) , وأحمد (5/333) .

وفيه فضيلة الدعوة إلى الله، وفضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد، وجواز الحلف على الفتية والقضاء والخبر، والحلف من غير استحلاف.

باب تفسير التوحيد وشهادة أن (لا إله إلا الله)

[م6 باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله] ش: أي تفسير هاتين الكلمتين، والعطف لتغاير اللفظين، وإلا فالمعنى واحد. ولما ذكر المصنف في الأبواب السابقة التوحيد وفضائله، والدعوة إليه، والخوف من ضده الذي هو الشرك، فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة هذا الأمر الذي خلقت له الخليقة، والذي بلغ من شأنه عند الله أن من لقيه به غفر له، ـ وإن لقيه بملء الأرض خطايا ـ; بين رحمه الله في هذا الباب أنه ليس اسمًا لا معنى له، أو قولاً لا حقيقة له، كما يظنه الجاهلون الذين يظنون أن غاية التحقيق فيه هو النطق بكلمة الشهادة من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معنى الإله هو الخالق المتفرد بالملك، فتكون غاية معرفته هو الإقرار بتوحيد الربوبية، وهذا ليس هو المراد بالتوحيد، ولا هو أيضًا معنى " لا إله إلا الله " وإن كان لا بد منه في التوحيد بل التوحيد اسم لمعنى عظيم، وقول له معنى جليل هو أجل من جميع المعاني. وحاصله هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله، والإقبال بالقلب والعبادة على الله، وذلك هو معنى الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، وهو معنى " لا إله إلا الله" كما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1. وقال تعالى حكاية عن مؤمن يس: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 2. وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ

_ 1 سورة البقرة آية: 163. 2 سورة يس آية: 22-24.

أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} 1. وقال تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ} 2 والآيات في هذا كثيرة تبين أن معنى " لا إله إلا الله " هو البراءة من عبادة ما سوى الله من الشفعاء والأنداد، وإفراد الله بالعبادة. فهذا هو الهدى، ودين الحق الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه. أما قول الإنسان: " لا إله إلا الله " من غير معرفة لمعناها، ولا عمل به، أو دعواه أنه من أهل التوحيد، وهو لا يعرف التوحيد، بل ربما يخلص لغير الله من عبادته من الدعاء والخوف والذبح والنذر والتوبة والإنابة وغير ذلك من أنواع العبادات، فلا يكفي في التوحيد، بل لا يكون إلا مشركًا والحالة هذه، كما هو شأن عباد القبور. ثم ذكر المصنف آيات تدل على هذا فقال: وقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 3 الآية. قلت: يبين معنى هذه الآية التي قبلها، وهي قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ... } 4 الآية. قال ابن كثير: يقول تعالى: قل للمشركين ادعوا الذين زعمتم من دونه من الأنداد، وارغبوا إليهم، فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم، أي: بالكلية، ولا تحويلاً، أي: أن يحولوه إلى غيركم، والمعنى: إن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له. قال العوفي عن ابن عباس في الآية: "كان أهل الشرك يقولون: نعبد

_ 1 سورة الزمر آية: 11-14. 2 سورة غافر آية: 41-43. 3 سورة الإسراء آية: 57. 4 سورة الإسراء آية: 56-57.

الملائكة والمسيح والمسيح وعزيرًا وهم الذين يدعون يعني: الملائكة وعزيرًا". وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ... } 1 الآية. وروى البخاري عن ابن مسعود في الآية قال: "ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا". وفي رواية: "كان ناس من الإنس يعبدون ناسًا من الجن، فأسلم الجن، وتمسك هؤلاء بدينهم". وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في الآية: قال: عيسى وأمه وعزير. وقال مغيرة عن إبراهيم: كان ابن عباس يقول في هذه الآية هم: عيسى وعزير والشمس والقمر. وقال مجاهد: عيسى وعزير والملائكة. وقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 2، لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء. وفي التفسير المنسوب إلى الطبري الحنفي قل للمشركين: يدعون أصنامهم دعاء استغاثة فلا يقدرون كشف الضر عنهم، ولا تحويلا إلى غيرهم أولئك الذين يدعون، أي: الملائكة المعبودة لهم يتبادرون إلى طلب القرية إلى الله، فيرجون رحمته، ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذورًا، أي: مما يحذره كل عاقل. وعن الضحاك وعطاء، أنهم الملائكة. وعن ابن عباس: أولئك الذين يدعون عيسى وأمه وعزيرًا. قال شيخ الإسلام: وهذه الأقوال كلها حق، فإن الآية تعم من كان معبوده عابدًا لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر، والسلف في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله ما معنى لفظ الخبز؟ فيريه رغيفًا، فيقول: هذا، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه، وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول الآية للنوعين، فالآية خطاب لكل من دعا دون الله مدعوًا. وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه. فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها، فقد تناولته هذه الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجن، ومعلوم أن هؤلاء كلهم

_ 1 سورة الإسراء آية: 57. 2 سورة الإسراء آية: 57.

يكونون وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى الله عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلى موضع، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال: {وَلا تَحْوِيلاً} ، فذكر نكرة تعم أنواع التحويل فكل من دعا ميتًا أو غائبا من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة أو دعا الجن، فقد دعا من لا يغيثه، ولا يملك كشف الضر عنه، ولا تحويله انتهى. وبنحو ما تقدم من كلام هؤلاء قال جميع المفسرين: فتبين أن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: هو ترك ما عليه المشركون من دعوة الصالحين، والاستشفاع بهم إلى الله في كشف الضر وتحويله، فكيف ممن أخلص لهم الدعوة، وأنه لا يكفي في التوحيد دعواه، والنطق بكلمة الشهادة من غير مفارقة لدين المشركين، وأن دعاء الصالحين لكشف الضر أو تحويله هو الشرك الأكبر نبه عليه المصنف. قال: وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي ... } 1 الآية. قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها: إنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 2 أي: هذه الكلمة؛ وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله أي: جعلها في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم عليه السلام. لعلهم يرجعون، أي: إليها. قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 3 يعني لا إله إلا الله، لا يزال في ذريته من يقولها. وقال ابن زيد: كلمة الإسلام، وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة.

_ 1 سورة الزّخرف آية: 26-27. 2 سورة الزّخرف آية: 26-28. 3 سورة الزخرف آية: 28.

قلت: وروى ابن جرير عن قتادة في قوله: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} 1. قال: خلقني: وعنه {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} 2. قال: إنهم يقولون: إن الله ربنا {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3، فلم يبرأ من ربه. رواه عبد بن حميد. قلت: يعني أن قوم إبراهيم يعبدون الله ويعبدون غيره، فتبرأ مما يعبدون إلا الله، لا كما يظن الجهال أن الكفار لا يعرفون الله، ولا يعبدونه أصلاً. وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 4 قال: الإخلاص والتوحيد، لا يزال في ذريته من يوحد الله ويعبده. فتبين بهذا أن معنى لا إله إلا الله هو البراءة مما يُعْبَدُ من دون الله، وإفراد الله بالعبادة، وذلك هو التوحيد لا مجرد الإقرار بوجود الله وملكه وقدرته وخلقه لكل شيء، فإن هذا يقرُّ به الكفار وذلك هو معنى قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 5 فاستثنى من المعبودين ربه وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي شهادة أن لا إله إلا الله. قاله المصنف. قال: وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } 6. ش: الأحبار: هم العلماء. والرهبان: هم العباد. وهذه الآية قد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، وذلك أنه "لما جاء مسلمًا دخل على رسول صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: إنهم حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم فذاك عبادتهم إياه" رواه أحمد والترمذي وحسنه وعبد بن حميد وابن سعد وابن أبي حاتم والطبراني وغيرهم من طرق. وهكذا قال جميع المفسرين. قال السدي: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} 7، أي: الذي إذا حرم شيئًا فهو الحرام وما حلله حل، وما شرعه اتبع.

_ 1 سورة الزخرف آية: 27. 2 سورة آية: 26-27. 3 سورة الزخرف آية: 87. 4 سورة الزخرف آية: 28. 5 سورة الزّخرف آية: 26-28. 6 سورة التوبة آية: 31. 7 سورة التوبة آية: 31.

{سُبْحَانَهُ} وتعالى {عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، أي: تعالى وتقدس عن الشركاء والنظراء والأضداد، والأندا، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ،، ولا رب سواه. ومراد المصنف رحمه الله بإيراد الآية هنا أن الطاعة في تحريم الحلال، وتحليل الحرام، من العبادة المنفية من غير الله تعالى، ولهذا فسرت العبادة بالطاعة، وفسر الإله بالمعبود المطاع، فمن أطاع مخلوقًا في ذلك فقد عبده، إذ معنى التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله يقتضي إفراد الله بالطاعة، وإفراد الرسول بالمتابعة، فإن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، وهذا أعظم ما يبين التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، لأنها تقتضي نفي الشرك في الطاعة، فما ظنك بشرك العبادة، كالدعاء والاستغاثة والتوبة وسؤال الشفاعة وغير ذلك من أنواع الشرك في العبادة، وسيأتي مزيد لهذا إن شاء الله تعالى في باب من أطاع العلماء والأمراء (= 469) . قال وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ... } 1. ش: قال المصنف رحمه الله في مسائله: ومنها، أي: من الأمور المبينة لتفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله، آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 2. وذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبًا عظيما، ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند حبًا أكبر من حب الله؟! فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده، ولم يحب الله؟! قلت: مراده أن معنى التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله، هو إفراد الله بأصل الحب الذي يستلزم إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وعلى قدر التفاضل في هذا الأصل، وما ينبني عليه من الأعمال الصالحة يكون تفاضل الإيمان والجزاء عليه في الآخرة. فمن أشرك بالله تعالى في ذلك، فهو المشرك، لهذه الآية، أخبر تعالى عن أهل

_ 1 سورة البقرة آية: 165. 2 سورة البقرة آية: 167.

هذا الشرك أنهم يقولون لآلهتهم وهم في الجحيم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الخلق والرزق والملك، وإنما ساووهم به في المحبة والإلهية والتعظيم والطاعة. فمن قال لا إله إلا الله، وهو مشرك بالله في هذه المحبة، فما قالها حق القول وإن نطق بها، إذ هو قد خالفها بالعمل، كما قال المصنف. فكيف بمن أحب الند حبًا أكبر من حب الله؟! .وسيأتي الكلام على هذه الآية في بابها إن شاء الله تعالى (=401) . [شرح حديث من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه] قال في "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله" 2. ش: قوله في " الصحيح " أي: " صحيح مسلم" عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وأبو مالك اسمه سعد بن طارق كوفي ثقة مات في حدود الأربعين ومائة، وأبوه طارق بن أشيم ـ بالمعجمة والمثناة التحتية وزن أحمر ـ ابن مسعود الأشجعي صحابي له أحاديث. قال مسلم: لم يرو عنه غير ابنه. قوله: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله" 3. اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث علق عصمة المال والدم بأمرين: الأول: قول: لا إله إلا الله. الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لا بد من قولها والعمل بها قال المصنف: وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع التلفظ بها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم دمه وماله حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أجلها! ويا له من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع! قلت: وقد أجمع العلماء على معنى ذلك فلا بدّ في العصمة

_ 1 سورة الشّعراء آية: 97-97. 2 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) . 3 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) .

من الإتيان بالتوحيد، والتزام أحكامه، وترك الشرك كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 1 والفتنة هنا: الشرك، فدل على أنه إذا وجد الشرك، فالقتال باق بحاله كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} 2 وقال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3 فأمر بقتالهم على فعل التوحيد، وترك الشرك، وإقامة شعائر الدين الظاهرة، فإذا فعلوها خلي سبيلهم، ومتى أبوا عن فعلها أو فعل شيء منها، فالقتال باق بحاله إجماعًا. ولو قالوا: لا إله إلا الله. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم علق العصمة بما علقها الله به في كتابه كما في هذا الحديث. وفي " صحيح مسلم ". عن أبي هريرة مرفوعًا: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" 4. وفي "الصحيحين " عنه قال: "لما توفي رسول الله وكفر من كفر من العرب، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه. فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق"5 لفظ مسلم. فانظر كيف فهم صديق الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد مجرد اللفظ بها من غير إلزام لمعناها وأحكامها، فكان ذلك هو الصواب، واتفق عليه الصحابة، ولم يختلف فيه منهم اثنان إلا ما كان من عمر

_ 1 سورة الأنفال آية: 39. 2 سورة التوبة آية: 36. 3 سورة التوبة آية: 5. 4 البخاري: الجهاد والسير (2946) , ومسلم: الإيمان (21) , والترمذي: الإيمان (2606) , والنسائي: الجهاد (3090 ,3095) وتحريم الدم (3972 ,3974 ,3976 ,3977) , وأبو داود: الجهاد (2640) , وابن ماجه: الفتن (3927 ,3928) , وأحمد (2/377 ,2/423 ,2/502 ,2/528 ,3/332 ,3/339 ,3/394) . 5 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924) , ومسلم: الإيمان (20) , والترمذي: الإيمان (2607) , والنسائي: الزكاة (2443) والجهاد (3091 ,3092) , وأبو داود: الزكاة (1556) , وأحمد (1/19 ,1/47) .

حتى رجع إلى الحق. وكان فهم الصديق هو الموافق لنصوص القرآن والسنة. وفي " الصحيحين " أيضا عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوه عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" 1. فهذا الحديث كآية براءة بيّن فيه ما يقاتل عليه الناس ابتداء، فإذا فعلوه، وجب الكف عنهم إلا بحقه، فإن فعلوا بعد ذلك ما يناقض هذا الإقرار والدخول في الإسلام، وجب القتال حتى يكون الدين كله لله، بل لو أقروا بالأركان الخمسة وفعلوها، وأبوا عن فعل الوضوء للصلاة ونحوه، ـ أو عن تحريم بعض محرمات الإسلام كالربا أو الزنا أو نحو ذلك ـ وجب قتالهم إجماعًا، ولم تعصمهم لا إله إلا الله ولا ما فعلوه من الأركان. وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، وأنه ليس المراد منها مجرد النطق، فإذا كانت لا تعصم من استباح محرمًا، أو أبى عن فعل الوضوء مثلاً بل يقاتل على ذلك حتى يفعله، فكيف تعصم من دان بالشرك وفعله وأحبه ومدحه، وأثنى على أهله، ووالى عليه، وعادى عليه، وأبغض التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله، وتبرأ منه، وحارب أهله، وكفرهم، وصد عن سبيل الله كما هو شأن عباد القبور، وقد أجمع العلماء على أن من قال: لا إله إلا الله، وهو مشرك أنه يقاتل حتى يأتي بالتوحيد. ذكر التنبيه على كلام العلماء في ذلك فإن الحاجة داعية إليه لدفع شبه عباد القبور في تعلقهم بهذه الأحاديث وما في معناها مع أنها حجة عليهم بحمد الله لا لهم. قال أبو سليمان الخطابي في قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" 2. معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون

_ 1 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . 2 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924) , ومسلم: الإيمان (20) , والترمذي: الإيمان (2607) , والنسائي: الزكاة (2443) والجهاد (3091 ,3092) , وأبو داود: الزكاة (1556) , وأحمد (1/19 ,1/47) .

أهل الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم السيف. وقال القاضي عياض: اختصاص عصم المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب، وأهل الأوثان، ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام، وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقوله لا إله إلا الله، إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر: "ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" 1. وقال النووي: لا بد مع هذا من الإيمان لجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما جاء في الرواية الأخرى: "ويؤمنوا بي وبما جئت به" 2. وقال شيخ الإسلام: لما سئل عن قتال التتار مع التمسك بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام، فقال: كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ملتزمين بعض شرائعه كما قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم قال: فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء أو الأموال أو الخمر أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء. قال: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنْزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام بمنْزلة مانعي الزكاة.

_ 1 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) . 2 مسلم: الإيمان (21) .

ومثل هذا كثير في كلام العلماء. والمقصود التنبيه على ذلك، ويكفي العاقل المنصف ما ذكره العلماء من كل مذهب في باب حكم المرتد، فإنهم ذكروا فيه أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان، ولو أتى بجميع الدين. وهو صريح في كفر عباد القبور، ووجوب قتالهم إن لم ينتهوا حتى يكون الدين لله وحده، فإذا كان من التزام شرائع الدين كلها إلا تحريم الميسر أو الربا أو الزنا يكون كافرًا يجب قتاله، فكيف بمن أشرك بالله ودعي إلى إخلاص الدين لله والبراءة والكفر بمن عبد غير الله، فأبى عن ذلك، واستكبر وكان من الكافرين؟! قوله: "وحسابه على الله" أي: إلى الله تبارك وتعالى، هو الذي يتولى حسابه، فإن كان صادقًا من قلبه جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقا عذبه العذاب الأليم. وأما في الدنيا، فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد والتزم شرائعه ظاهرًا، وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك. واستدل الشافعية بالحديث على قبول توبة الزنديق، وهو الذي يظهر الإسلام، ويسر الكفر. والمشهور في مذهب أحمد ومالك أنها لا تقبل، لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} 1 والزنديق لا يتبين رجوعه، لأنه مظهر الإسلام، مسر للكفر، فإذا أظهر التوبة لم يزد على ما كان منه قبلها. والحديث محمول على المشرك. ويتفرع على ذلك سقوط القتل وعدمه، أما في الآخرة فإن كان دخل في الإسلام صادقًا قبلت. وفيه وجوب الكف عن الكافر إذا دخل في الإسلام ولو في حال القتال حتى يتبين منه ما يخالف ذلك. وفيه أن الإنسان قد يقول: لا إله إلا الله، ولا يكفر بما يعبد من دون الله. وفيه أن شرط الإيمان الإقرار بالشهادة، والكفر بما يعبد من دون الله مع اعتقاد ذلك واعتقاد جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وفيه أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن مال المسلم ودمه حرام إلا في حق، كالقتل قصاصًا ونحوه، وتغريمه قيمة ما يتلفه.

_ 1 سورة البقرة آية: 160.

قوله: وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب. يعني أن ما يأتي بعد هذه الترجمة من الأبواب شرح للتوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله، لأن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، أن لا يُعْبَدُ إلا الله ولا يعتقد النفع والضر إلا في الله، وأن يكفر بما يعبد من دون الله، ويتبرأ منها ومن عابديها، وما بعد هذا من الأبواب بيان لأنواع من العبادات والاعتقادات التي يجب إخلاصها لله تعالى، وذلك هو معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، والله أعلم.

باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه

[1ــ باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه] ش: رفع البلاء: إزالته بعد حصوله، ودفعه: منعه قبله، ومن هنا ابتدأ المصنف في تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله بذكر شيء مما يضاد ذلك من أنواع الشرك الأكبر والأصغر، فإن الضد لا يعرف إلا بضده. كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء. فمن لا يعرف الشرك لم يعرف التوحيد وبالعكس، فبدأ بالأصغر الاعتقادي انتقالاً من الأدنى إلى الأعلى فقال: وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ ... } 1. ش: قال ابن كثير في تفسيرها، أي: لا تستطيع شيئا من الأمر. قل: {حَسْبِيَ اللَّهُ} ، أي: الله كافي مَن توكل عليه، {عَلَيْهِ} يتوكل {الْمُتَوَكِّلُونَ} ، كما قال هود عليه السلام حين قال له قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} 2.

_ 1 سورة الزمر آية: 38. 2 سورة هود آية: 54-56.

قلت: حاصله أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: أرأيتم، أي: أخبروني عن {مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} مّا تدعون من دون الله، أي: تعبدونهم وتسألونهم من الأنداد والأصنام والآلهة المسميات بأسماء الإناث الدالة أسماؤهن على بطلانهن وعجزهن، لأن الأنوثة من باب اللين والرخاوة، كاللات والعزى {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ} 1، أي: بمرض أو فقر أو بلاء أو شدة {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} 2، أي: لا يقدرون على ذلك أصلاً {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} 3، أي: صحة، وعافية، وخير، وكشف بلاء. {هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} 4. قال مقاتل: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا، أي: لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها، وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله، لا لأنهم يكشفون الضر ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} 5. وقد دخل في ذلك كل من دعي من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين، فضلا عن غيرهم فلا يقدر أحد علىكشف ضر ولا إمساك رحمة، كما قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 6. وإذا كان كذلك بطلت عبادتهم من دون الله، وإذا بطلت عبادتهم فبطلان دعوة الآلهة والأصنام أبطل وأبطل، وليس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه كذلك، فهذا وجه استدلال المصنف بالآية، وإن كانت الترجمة في الشرك الأصغر، فإن السلف يستدلون بما نزل في الأكبر على الأصغر، كما استدل حذيفة وابن عباس وغيرهما وكذلك من جعل رؤوس الْحُمُر ونحوها في البيت والزرع لدفع العين كما يفعله أشباه المشركين، فإنه يدخل في ذلك، وقد يحتجون على ذلك بما رواه أبو داود في المراسيل [540] عن علي بن الحسين مرفوعًا: "احرثوا فإن الحرث مبارك، وأكثروا فيه من الجماجم". وعنه أجوبة:

_ 1 سورة الزمر آية: 38. 2 سورة الزمر آية: 38. 3 سورة الزمر آية: 38. 4 سورة الزمر آية: 38. 5 سورة النّحل آية: 53-54. 6 سورة فاطر آية: 2.

أحدها: أنه حديث ساقط مرسل وأبو داود لم يشترط في مراسيله جمع المراسيل الصحيحة الإسناد، وقد ضعفه السيوطي وغيره. الثاني: أنه اختلف في تفسير الجماجم، فقيل: هي البذر، ذكره العزيزي في "شرح الجامع". وقيل: الخشبة التي يكون في رأسها سكة الحرث، قاله أبو السعادات بن الأثير في " النهاية ". وقيل: هي جماجم رؤوس الحيوان ذكره العزيزي وغيره. وعلى هذا فقيل: أمر بجعلها لدفع الطير، ذكره العزيزي وغيره، وهذا هو الأقرب لو ثبت الحديث مع أنه باطل وقيل: بل لدفع العين، وفيه حديث ساقط أنه أمر بالجماجم في الزرع من أجل العين، وهو مع ذلك منقطع، ذكره السيوطي وغيره، وهذا المعنى هو الذي تعلق به أشباه المشركين ولا ريب أنه معنى باطل، لم يرده النبي صلى الله عليه وسلم لو كان الحديث صحيحًا، وكيف يريده وقد أمر بقطع الأوتار كما في " الصحيح ". وقال: "من تعلق شيئًا وكل إليه" 1. وقال: "من تعلق ودعة فلا ودع الله له" 2 وكانوا يجعلون ذلك من أجل العين كما سيأتي، فهلا أرخص لهم فيه؟! الثالث: أن هذا مضاد لدين الإسلام الذي بعث الله به رسله، فإنه تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يشرك به شيء، لا في العبادة ولا في الاعتقاد، وهذا من جنس فعل الجاهلية الذين يعتقدون البركة والنفع والضر فيما لم يجعل الله فيه شيئًا من ذلك، ويعلقون التمائم والودع ونحوهما على أنفسهم لدفع الأمراض والعين فيما زعموا. فإن قيل: الفاعل لذلك لم يعتقد النفع فيه استقلالاً، فإن ذلك لله وحده، فهو النافع الضار، وإنما اعتقد أن الله جعله سببا كغيره من الأسباب. قيل: هذا باطل أيضًا، فإن الله لم يجعل ذلك سببًا أصلاً

_ 1 الترمذي: الطب (2072) , وأحمد (4/310) . 2 أحمد (4/154) .

وكيف يكون الشرك سببًا لجلب الخير ولدفع الضر، ولو قدر أن فيه بعض النفع، فهو كالخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما. فإن قيل: كيف يكون شركًا وقد روى أبو داود ذلك في مراسيله وغيره من العلماء يروون الحديث ولم ينكره. قيل: أهل العلم يروون الأحاديث الضعيفة والموضوعة لبيان حالها وإسنادها لا للاعتماد عليها واعتقادها، وكتب المحدثين مشحونة بذلك، فبعضهم يذكر علة الحديث، ويبين حاله وضعفه إن كان ضعيفًا، ووضعه إن كان موضوعًا، وبعضهم يكتفي بإيراد الحديث بإسناده ويرى أنه قد برئ من عهدته إذا أورده بإسناده لظهور حال رواته، كما يفعل ذلك الحافظ أبو نعيم، وأبو القاسم بن عساكر وغيرهما، فليس في رواية من رواه وسكوته عنه دليل على أنه عنده صحيح أو حسن أو ضعيف، بل قد يكون موضوعًا عنده، فلا يدل سكوته عنه على جواز العمل به عنده، وسيأتي في الكلام على حديث قطع الأوتار ما يدل على النهي عن هذا من كلام العلماء. قال: عن عمران بن حصين "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر. فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة. فقال انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا" 1. رواه أحمد بسند لا بأس به. ش: هذا الحديث ذكره المصنف بمعناه، أما لفظه فقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، ثنا المبارك عن الحسن قال أخبرني عمران بن حصين "أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة ـ قال: أراه قال: من صفر ـ، فقال: ويحك ما هذه قال من الواهنة قال: أما إنها لا تزيدك إلا وهنا، انبذها عنك، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا" 2. ورواه ابن ماجة دون قوله

_ 1 ابن ماجه: الطب (3531) , وأحمد (4/445) . 2 ابن ماجه: الطب (3531) , وأحمد (4/445) .

انبذها إلى آخره، وابن حبان في " صحيحه". وقال: فإنك إن مت وكلت إليها والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي: قال المنذري: رووه كلهم عن مبارك بن فضالة عن الحسن عن عمران. ورواه ابن حبان أيضًا بنحوه عن أبي عامر الخزاز، عن الحسن، وهذه متابعة جيدة، إلا أن الحسن اختلف في سماعه من عمران. قال ابن المديني وغيره: لم يسمع منه،: وقال الحاكم: وأكثر مشايخنا على أنه سمع منه. قلت: رواية الإمام أحمد ظاهرة في سماعه منه وهو الصواب. قوله: عن عمران بن حصين. أي: ابن عبيد بن خلف الخزاعي أبو نجيد - بنون وجيم مصغر - صحابي ابن صحابي. أسلم عام خيبر، ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة. قوله: " رأى رجلاً " في رواية الحاكم: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر. فقال: ما هذه؟ قلت: من الواهنة فقال: انبذها". فالمبهم في رواية أحمد ومن وافقه هو عمران راوي الحديث. قوله: "فقال ما هذا؟ ". يحتمل أن الاستفهام للاستفصال هل لبسها تحليًا أم لا؟ ويحتمل أن يكون للإنكار فظن اللابس أنه استفصل. قوله: "من الواهنة". قال أبو السعادات: الواهنة: عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها، فيرقى منها. وقيل: هو مرض يأخذ في العضد، وربما علق عليها جنس من الخرز يقال له: خرز الواهنة، وهي تأخذ الرجال دون النساء قال: وإنما نهاه عنها، لأنه اتخذها على معنى أنها تعصمه من الألم، فكان عنده في معنى التمائم المنهي عنه. قلت: وفيه استفصال المفتي واعتبار المقاصد.

قوله: "انزعها"؛ فإنها لا تزيدك إلا وهنا. لفظ الحديث: "انبذها" وهو أبلغ، أي: اطرحها. والنّزع هو الجذب بقوة، والنبذ يتضمن ذلك وزيادة وهو الطرح والإبعاد، أمره بطرحها عنه وأخبر أنها لا تنفعه بل تضره، فلا تزيده إلا وهنًا، أي: ضعفًا. وكذلك كل أمر نهي عنه فإنه لا ينفع غالبًا أصلاً، وإن نفع بعضه، فضره أكبر من نفعه، وفيه النهي عن تعليق الحلق والخرز ونحوهما على المريض أو غيره، والتنبيه على النهي عن التداوي بالحرام. وروى أبو داود بإسناد حسن، والبيهقي عن أبي الدرداء مرفوعًا في حديث: "تداوَوا ولا تداوَوا بحرام" 1. فإن قيل كيف قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزيدك إلا وهنًا" وهي ليس لها تأثير؟ وقيل: هذا - والله أعلم - يكون عقوبة له على شركه لأنه وضعها لدفع الواهنة، فعوقب بنقيض مقصوده. قوله: "فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا،"، أي:- لأنه مشرك والحالة هذه، والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة. قال المصنف: فيه شاهد لكلام الصحابة أن الشرك الأصغر أكبر الكبائر، وأنه لم يعذر بالجهالة، والإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك. قلت: وفيه أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح أبدًا، ففيه رد على المغرورين الذين يفتخرون بكونهم من ذرية الصالحين، أو من أصحابهم، ويظنون أنهم يشفعون لهم عند الله، وإن فعلوا المعاصي وفيه أن رتب الإنكار متفاوتة فإذا كفى الكلام في إزالة المنكر لم يحتج إلى ضرب ونحوه. وفيه أن المسلم إذا فعل ذنبًا وأنكر عليه فتاب منه فإن ذلك لا ينقصه، وأنه ليس من شرط أولياء الله عدم الذنوب. قوله: رواه أحمد بسند لا بأس به. هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، أبو عبد الله المروزي، ثم البغدادي; إمام أهل عصره وأعلمهم بالفقه والحديث، وأشدهم ورعًا

_ 1 أبو داود: الطب (3874) .

ومتابعة للسنة. روى عن الشافعي ويزيد بن هارون وابن مهدي ويحيى القطان وابن عيينة وعفان وخلف. وروى عنه ابناه: عبد الله وصالح والبخاري ومسلم وأبو داود وأبو بكر الأثرم والمروزي وخلق لا يحصون، مات سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة. قال: وله عن عقبة بن عامر مرفوعًا: "من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له" 1. وفي رواية: "من تعلق تميمة فقد أشرك" 2. ش: الحديث الأول رواه أحمد كما قال المصنف، ورواه أيضًا أبو يعلى والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي. وقوله: "وفي رواية": هذا يوهم أن هذا في بعض الأحاديث المذكورة، وليس كذلك، بل المراد أنه في حديث آخر رواه أحمد أيضًا فقال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا عبد العزيز بن مسلم، ثنا يزيد بن أبي منصور، عن دخين الحجري، عن عقبة بن عامر الجهني "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد. فقالوا: يا رسول الله، بايعت تسعة وأمسكت عن هذا؟ قال: إن عليه تميمة فأدخل يده فقطعها، فبايعه. وقال: من علق تميمة فقد أشرك" 3. ورواه الحاكم بنحوه، ورواته ثقات. وقوله: (في هذا الحديث) : فأدخل يده فقطعها. أي: الرجل، بينه الحاكم في روايته. قوله: (عن عقبة بن عامر) . هو الجهني، صحابي مشهور، وكان فقيهًا فاضلاً ولي إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين ومات قريبًا من الستين. قوله: "من تعلق تميمة"، أي: متمسكًا بها عليه وعلى غيره من طفل أو دابة ونحو ذلك. قال المنذري: يقال: إنها خرزة كانوا يعلقونها

_ 1 أحمد (4/154) . 2 أحمد (4/156) . 3 أحمد (4/156) .

يرون أنها تدفع عنهم الآفات واعتقاد هذا الرأي جهل وضلالة إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى. وقال أبو السعادات: التمائم جمع تميمة وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم، يتقون بها العين في زعمهم، فأبطله الإسلام. قال: كأنّهم كانوا يعتقدون أنها تمائم الدواء والشفاء. قوله: "فلا أتم الله له"، دعاء عليه بأن الله لا يتم له أموره. قوله: "ومن تعلق ودعة"، بفتح الواو وسكون المهملة. قال [الدّيلمي] في "مسند الفردوس" شيء يخرج من البحر يشبه الصدف، يتقون به العين، قوله: "فلا ودع الله له"، بتخفيف الدال، أي: لا جعله في دعة وسكون، وقيل: هو لفظ بني من الودعة، أي: لا خفف الله عنه ما يخافه، قاله أبو السعادات. وهذا دعاء عليه، فيه وعيد شديد لمن فعل ذلك، فإنه مع كونه شركًا، فقد دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقيض مقصوده. قوله: "من تعلق تميمة فقد أشرك". قال ابن عبد البر: إذا اعتقد الذي علقها أنها ترد العين، فقد ظن أنها ترد القدر، واعتقاد ذلك شرك. وقال أبو السعادات: إنما جعلها شركًا، لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه. قال: ولابن أبي حاتم، "عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1 ". ش: هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم كما قال المصنف. ولفظه: حدثنا محمد بن الحسين بن إبراهيم بن إشكاب، ثنا يونس بن محمد ثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود،

_ 1 سورة يوسف آية: 106.

عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده سيرًا1 فقطعه أو انتزعه، ثم قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2 وابن أبي حاتم هو الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي التميمي الحنظلي، الحافظ ابن الحافظ، صاحب "الجرح والتعديل"، والتفسير وغيرهما. مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. وحذيفة هو ابن اليمان، واسم اليمان حسيل بمهملتين. مصغرًا ويقال حسل بكسر ثم سكون، العبسي بالموحدة، حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين ويقال [له] : صاحب السر، وأبوه أيضًا صحابي، مات حذيفة في أول خلافة علي سنة ست وثلاثين. قوله: (رأى رجلاً في يده خيط من الحمى) . أي: من أجل الحمى لدفعها، وكان الجهال يعلقون لذلك التمائم والخيوط ونحوها. وروى وكيع: "عن حذيفة أنه دخل على مريض يعوده، فلمس عضده فإذا فيه خيط فقال: ما هذا؟ فقال: شيء رقي لي فيه، فقطعه فقال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك". قوله: (فقطعه) ، فيه إنكار هذا، وإن كان يعتقد أنه سبب فإن الأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع عدم الاعتماد عليه، فكيف بما هو شرك كالتمائم والخيوط والخرز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهال؟ وفيه إزالة المنكر باليد بغير إذن الفاعل، وإن كان يظن أن الفاعل يزيله، وإن إتلاف آلات المنكر واللهو جائزة وإن لم يأذن صاحبها. قوله: وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ

_ 1 السّير من الجلد ونحوه، ما يشقّ منه مستطيلاً. 2 سورة يوسف آية: 106.

مُشْرِكُونَ} 1. استدل حذيفة بهذه الآية على أن تعليق الخيط ونحوه مما ذكر شرك، أي: أصغر كما تقدم في الحديث، ففيه صحة الاستدلال بما نزل في الأكبر على الأصغر، ومعنى الآية أن الله أخبر عن المشركين أنهم يجمعون بين الإيمان بالله، أي: بوجوده، وأنه الخالق الرزاق المحيي المميت، ثم مع ذلك يشركون في عبادته فسرها بذلك ابن عباس وعطاء ومجاهد والضحاك وابن زيد وغيرهم.

_ 1 سورة يوسف آية: 106.

باب ما جاء في الرقى والتمائم

[2- باب ما جاء في الرقى والتمائم] ش: أي: في حكمها. ولما كانت الرقى على ثلاثة أقسام، قسم يجوز، وقسم لا يجوز، وقسم في جوازه خلاف; لم يجزم المصنف بكونهما من الشرك، لأن في ذلك تفصيلاً بخلاف لبس الحلقة والخيط ونحوهما مما ذكر، فإن ذلك شرك مطلقًا. قال في "الصحيح": عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً "أن لا يبقين في رقبة بعير ـ قلادة من وتر أو ـ قلادة إلا قطعت" 1. ش: قوله: في "الصحيح" أي: في "الصحيحين". قوله: (عن أبي بشير) ـ بفتح أوله وكسر المعجمة- الأنصاري، قيل: اسمه قيس بن عبيد، قاله ابن سعد. وقال ابن عبد البر: لا يوقف له على اسم صحيح، وهو صحابي شهد الخندق ومات بعد الستين، يقال: جاوز المائة. قوله: "في بعض أسفاره". قال الحافظ: لم أقف على تعيينها. قوله: (فأرسل رسولا) . هو زيد بن حارثة. وروى ذلك الحارث بن أبي أسامة في " مسنده " قاله الحافظ. قوله: "أن لا يبقين". هو بالمثناة والقاف المفتوحتين; وفي رواية لا تبقين بحذف "أن" والمثناة الفوقية والقاف المفتوحتين

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (3005) , ومسلم: اللباس والزينة (2115) , وأبو داود: الجهاد (2552) , وأحمد (5/216) , ومالك: الجامع (1745) .

أيضًا. و"قلادة" مرفوع على أنه فاعل و"الوتر" بفتحتين واحد أوتار القوس. قوله: "أو قلادة إلا قطعت" هو برفع "قلادة" أيضًا، عطف على الأول، ومعناه أن الراوي شك، هل قال شيخه قلادة من وتر؟ فقيد القلادة بأنها من وتر، أو قال: قلادة وأطلق ولم يقيد. ويؤيده ما روي عن مالك أنه سئل عن القلادة فقال: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر. وفي رواية أبي داود: "ولا قلادة"، بغير شك، والأولى أصح، لاتفاق الشيخين عليها، وللرخصة في القلائد، إلا الأوتار ولما روى أبو داود والنسائي من حديث أبي وهب الجشمي مرفوعًا: "ارتبطوا الخيل وقلدوها، ولا تقلدوها الأوتار" ولأحمد عن جابر مرفوعًا مثله وإسناده جيد. قال البغوي في "شرح السنة1 ": تأول مالك أمره عليه السلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين، وذلك أنهم كانوا يشدون بتلك الأوتار والتمائم والقلائد، ويعلقون عليها العوذ، يظنون أنها تعصم من الآفات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئًا. وقال أبو عبيد القاسم بن سلاّم: كانوا يقلدون الإبل الأوتار لئلا نصيبها العين، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإزالتها إعلامًا لهم بأن الأوتار لا ترد شيئًا، وكذلك قال ابن الجوزي وغيره. قال الحافظ: ويؤيده حديث عقبة بن عامر رفعه: "من تعلق تميمة فلا أتم الله له" 2. رواه أبو داود، وهي ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك انتهى. فعلى هذا، يكون تقليد الإبل وغيرها الأوتار وما في معناها لهذا المعنى حرامًا، بل شركًا، لأنه

_ 1 ذكر ذلك في كتاب الجهاد باب قطع القلائد والأوتار 11/ 27. وشرح السنة من أعظم الكتب في بابه, وقد شرفنا الله بخدمته وطبعه في 16 مجلدا مع الفهارس المسهلة, ولله الحمد والمنة. 2 أحمد (4/154) .

من تعليق التمائم المحرمة، ومن تعلق تميمة فقد أشرك ولم يصب من قال: إنه مكروه كراهة تنْزيه. قال: وعن ابن مسعود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك" 1 رواه أحمد وأبو داود. ش: الحديث رواه أحمد، وأبو داود، كما قال المصنف، وفيه قصة كأن المصنف اختصرها. ولفظ أبي داود: "عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود أن عبد الله بن مسعود رأى في عنقي خيطًا، فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقي لي فيه. قالت: فأخذه فقطعه ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك. فقلت: لم تقول هكذا؟ لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فإذا رقاها: سكنت: فقال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان ينخسها بيده، فإذا رقيتها كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلاّ شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا". ورواه ابن ماجة وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح وأقره الذهبي. قوله: "إن الرقى". قال المصنف: الرقي هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة. يشير إلى أن الرقى الموصوفة بكونها شركًا هي الرقى التي فيها شرك، من دعاء غير الله، والاستغاثة والاستعاذة به، كالرقى بأسماء الملائكة والأنبياء والجن ونحو ذلك، أما الرقى بالقرآن وأسماء الله وصفاته ودعائه والاستعاذة به وحده لا شريك له، فليست شركًا، بل ولا ممنوعة، بل مستحبة أو جائزة. قوله: "فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة". تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد، وكذلك رخص فيه من

_ 1 أبو داود: الطب (3883) , وابن ماجه: الطب (3530) , وأحمد (1/381) .

غيرها، كما في "صحيح مسلم": "عن عوف بن مالك قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى، ما لم يكن فيه شرك" 1. وفيه "عن أنس قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة" 2. "وعن عمران بن حصين مرفوعًا "لا رقية إلا من عين أو حمة أو دم" 3. رواه أبو داود وفي الباب أحاديث كثيرة. قال الخطابي: وكان عليه السلام قد رقى ورقي، وأمر بها وأجازها، فإذا كانت بالقرآن أو بأسماء الله تعالى، فهي مباحة أو مأمور بها، وإنما جاءت الكراهية والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفرًا، أو قولاً يدخله الشرك، قال: ويحتمل أن يكون الذي يكره من ذلك ماكان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها، وأنها تدفع عنهم الآفات، ويعتقدون ذلك من قبل الجن ومعونتهم. قلت: ويدل على ذلك: "قول علي بن أبي طالب: إن كثيرًا من هذه الرقى والتمائم شرك، فاجتنبوه". رواه وكيع، فهذا يبين معنى حديث ابن مسعود ونحوه. وقال [عبد الواحد] بن التين: الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى هو الطب الروحانِي، فإذا كان على لسان الأبرار من الخلق، حصل الشفاء بإذن الله تعالى، فلما عفي عن هذا النوع، فزع الناس إلى الطب الجسماني وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له، فيأتي بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر الله تعالى وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم والتعوذ بمردتهم. ويقال: إن الحية لعداوتها الإنسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزم على الحية

_ 1 مسلم: السلام (2200) , وأبو داود: الطب (3886) . 2 مسلم: السلام (2196) , وابن ماجه: الطب (3516) , وأحمد (3/118 ,3/119 ,3/127) . 3 مسلم: الإيمان (220) , وأحمد (1/271) .

بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها. وكذا اللديغ إذا رقي بتلك الأسماء سالت سمها من بدن الإنسان، ولذلك كره الرقى ما لم تكن بآيات الله وأسمائه خاصة، وباللسان العربي الذي يعرف معناه، ليكون بريئًا من شوب الشرك، وعلى كراهية الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة. قال شيخ الإسلام: كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقى به، فضلاً عن أن يدعو به ولو عرف معناه، لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يعرف العربية، فأما جعل الألفاظ العجمية شعارًا، فليس من الإسلام. قلت: وسئل ابن عبد السلام عن الحروف المقطعة، فمنع منها ما لا يعرف، لئلا يكون فيه كفر. وقال السيوطي: قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي وبما يعرف معناه، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى، فتلخص أن الرقية ثلاثة أقسام. قوله: "والتمائم". تقدم كلام المنذري وابن الأثير في معناه في الباب قبله وظاهره تخصيص التمائم بما ذكراه. وقال المصنف: التمائم شيء يعلق على الأولاد من العين. وقال الخلخالي: التمائم جمع تميمة وهي ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين، وهذا منهي عنه، لأنه لا دافع إلا الله، ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وأسمائه وصفاته، وظاهره أن ما علق لدفع العين وغيرها فهو تميمة من أي شيء كان، وهذا هو الصحيح. وقد يقال: إن كلام المنذري وابن الأثير وغيرهما لا يخالفه. قال المصنف: لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود.

اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته، فقالت طائفة: يجوز ذلك، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره، وهو ظاهر ما روي عن عائشة، وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية، وحملوا الحديث على التمائم الشركية، أما التي فيها القرآن وأسماء الله وصفاته، فكالرقية بذلك. قلت: وهو ظاهر اختيار ابن القيم. وقالت طائفة: لا يجوز ذلك، وبه قال ابن مسعود، وابن عباس وهو ظاهر قول حذيفة، وعقبة بن عامر، وابن عكيم رضي الله عنهم، وبه قال جماعة من التابعين، منهم أصحاب ابن مسعود، وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه، وجزم بها المتأخرون، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه فإن ظاهره العموم لم يفرق بين التي في القرآن وغيرها بخلاف الرقى فقد فرق فيها، ويؤيد ذلك أن الصحابة الذين رووا الحديث فهموا العموم كما تقدم عن ابن مسعود. وروى أبو داود: "عن عيسى بن حمزة1, قال: دخلت على عبد الله بن عكيم وبه حمرة. فقلت: ألا تعلق تميمة؟ فقال: نعوذ بالله من ذلك قال رسول الله: "من تعلق شيئًا وكل إليه" 2. وروى وكيع: "عن ابن عباس قال: اتفل بالمعوذتين ولا تعلق". وأما القياس على الرقية بذلك، فقد يقال بالفرق، فكيف يقاس التعليق الذي لا بد فيه من ورق أو جلود ونحوهما على ما لا يوجد ذلك فيه، فهذا إلى الرقى المركبة من حق وباطل أقرب. هذا اختلاف العلماء في تعليق القرآن وأسماء الله وصفاته، فما ظنك بما حدث بعدهم من الرقى بأسماء الشياطين وغيرهم وتعليقها؟! بل والتعلق عليهم، والاستعاذة بهم، والذبح لهم، وسؤالهم كشف الضر، وجلب الخير مما هو شرك محض، وهو غالب على كثير من الناس إلا من سلم الله،

_ 1 كذا، والصّواب: عيسى بن عبد الله بن أبي ليلى. 2 الترمذي: الطب (2072) , وأحمد (4/310) .

فتأمل ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه والتابعون، وما ذكره العلماء بعدهم في هذا الباب وغيره من أبواب الكتاب، ثم انظر إلى ما حدث في الخلوف المتأخرة، يتبين لك دين الرسول صلى الله عليه وسلم وغربته الآن في كل شيء، فالله المستعان. قوله: "والتولة شرك:" قال المصنف: هو شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والزوج إلى امرأته، وكذا قال غيره أيضًا. وبهذا فسره ابن مسعود راوي الحديث كما في "صحيح ابن حبان" والحاكم. قالوا: يا أبا عبد الرحمن هذه الرقى والتمائم قد عرفناهما، فما التولة؟ قال شيء يضعه النساء يتحببن إلى أزواجهن. قال الحافظ: التولة بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففًا شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، وإنما كان ذلك من الشرك، لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله. قال: وعن عبد الله بن عكيم مرفوعًا: "من تعلق شيئًا وكل إليه" 1 رواه أحمد، والترمذي. ش: ورواه أيضًا أبو داود والحاكم. قوله: (عن عبد الله بن عكيم) . هو بضم المهملة مصغرًا، ويكنى أبا معبد الجهني الكوفي. قال البخاري: أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له سماع صحيح، وكذا قال أبو حاتم: وقال معناه أبو زرعة، وابن حبان وابن منده، وأبو نعيم. وقال البغوي: يشك في سماعه. وقال الخطيب: سكن الكوفة، وقدم المدائن في حياة حذيفة، وكان ثقة، وذكر ابن سعد عن غيره أنه مات في ولاية الحجاج، وظاهر كلام هؤلاء الأئمة أن الحديث مرسل. قوله: "من تعلق شيئًا وكل إليه". التعلق يكون بالقلب ويكون بالفعل، ويكون بهما جميعًا، أي: من تعلق شيئا بقلبه، أو تعلقه

_ 1 الترمذي: الطب (2072) , وأحمد (4/310) .

بقلبه وفعله، وكل إليه، أي: وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه، فمن تعلقت نفسه بالله، وأنزل حوائجه بالله، والتجأ إليه، وفوض أمره كله إليه، كفاه كل مؤنة، وقرب إليه كل بعيد، ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى علمه وعقله ودوائه وتمائمه، واعتمد على حوله وقوته، وكله الله إلى ذلك وخذله، وهذا معروف بالنصوص والتجارب. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 1. وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، ثنا أبو سعيد المؤدب، ثنا من سمع: "عطاء الخراساني، قال: لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت، فقلت له: حدثني حديثًا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز. قال: "نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود: يا داود أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبيدي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السموات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له من بينهن مخرجًا، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبيدي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالي بأي واد هلك". قال: وروى الإمام أحمد: "عن رويفع قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا رويفع، لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترًا أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمدًا بريء منه" 2. ش: الحديث رواه الإمام أحمد عن يحيي بن إسحاق، والحسن بن موسى الأشيب، كلاهما عن ابن لهيعة، وفيه قصة، فاختصرها المصنف، وهذا لفظ الحسن. قال: حدثنا ابن لهيعة: ثنا عياش بن عباس، عن شييم بن بيتان قال: ثنا: "رويفع بن ثابت قال: كان أحدنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما يغنم، وله النصف، حتى إن أحدنا ليصير له النصل

_ 1 سورة الطلاق آية: 3. 2 النسائي: الزينة (5067) , وأبو داود: الطهارة (36) , وأحمد (4/109) .

والريش، والآخر القدح، ثم قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا رويفع لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أنه من عقد لحيته، أو تقلد وترًا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه". ثم رواه أحمد عن يحيى بن غيلان، ثنا المفضل، حدثني عياش بن عباس أن شييم بن بيتان أخبره أنه سمع شيبان القتباني يقول: استخلف مسلمة بن مخلد رويفع بن ثابت الأنصاري على أسفل الأرض، قال: فسرنا معه، فقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث. وفي الإسناد الأول ابن لهيعة، وفيه مقال، وفي الثاني شيبان القتباني قيل فيه: مجهول، وبقية رجالهما ثقات. ورواه أبو داود من طريق المفضل به مطولاً وسكت عليه، ثم قال: حدثنا يزيد بن خالد، أنا مفضل عن عياش أن شييم بن بيتان أخبره أيضًا بهذا الحديث عن أبي سالم الجيشاني عن عبد الله بن عمرو يذكر ذلك وهو معه مرابط بحصن باب أليون. قال أبو داود: حصن أليون بالفسطاط على جبل. قلت: وهذا إسناد جيد. رواه النسائي من رواية شييم عن رويفع، وصرح بسماعه منه ولم يذكر شيبان، فإن كان ذكر شيبان وهمًا فالإسناد صحيح، وحسنه النووي، وصححه بعضهم. قال الحافظ أبو زرعة [بن العراقي] في "شرح أبي داود": ورواه الطحاوي مختصرًا فذكر منه الاستنجاء برجيع دابة أو عظم فقط. ورواه محمد بن الربيع الجيزي في كتاب من دخل مصر من الصحابة أولاً، وفيه أن من عقد لحيته في الصلاة. قوله: "فأخبر الناس". دليل على وجوب إخبار الناس بذلك على رويفع، وليس هذا مختصًا به، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس، وجب عليه تبليغه للناس، وإعلامهم به فإن اشترك هو وغيره في علم ذلك، فالتبليغ فرض كفاية. هذا كلام أبي زرعة. قوله: "لعل الحياة تطول بك". علم من إعلام النبوة، لأنه وقع

كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فإن رويفعًا طالت حياته إلى سنة ست وخمسين، فمات فيها ببرقة من أعمال مصر أميرًا عليها، وهو من الأنصار. وقيل: مات سنة ثلاث وخمسين، قاله ابن يونس. قوله: أن من عقد لحيته. بكسر اللام لا غير، قاله في "المشارق" والجمع لحى، بالكسر والضم، قاله الجوهري. قال الخطابي: وأما نهيه عن عقد اللحية، فإن ذلك يفسر على وجهين: أحدهما: ما كانوا يفعلونه من ذلك في الحروب، كانوا في الجاهلية يعقدون لحاهم، وذلك من زي بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها. قلت: كأنهم كانوا يفعلونه تكبرًا وعجبًا، كما ذكره أبو السعادات. قال: ثانيهما: أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد، وذلك من فعل أهل التوضيع والتأنيث. وقال أبو زرعة بن العراقي: والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع المتقدم ذكرها، فهو موافق للحديث الصحيح في النهي عن كف الشعر والثوب فإن عقد اللحية فيه كفها وزيادة. قوله: "أو تقلد وترًا". أي: جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته ونحو ذلك. وفي رواية محمد بن الربيع: أو تقلد وترًا، يريد تميمة، فهذا يدل على أنهم كانوا يتقلدون الأوتار من أجل العين، إذ فسره بالتميمة وهي تجعل لذلك. قوله:"أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمدًا بريء منه". قال النووي: أي: بريء من فعله. وقال بهذه الصيغة ليكون أبلغ في الزجر. قلت: فيه النهي عن الاستنجاء برجيع الدواب والعظام. وقد ورد في ذلك أحاديث، منها: ما في "صحيح مسلم" عن ابن

مسعود مرفوعًا: "لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن" 1. وعلى هذا فلا يجزئ الاستنجاء بهما كما هو ظاهر مذهب أحمد، واختار شيخ الإسلام وجماعة الإجزاء وإن كان محرمًا. قالوا: لأنه لم ينه عنه لكونهما لا ينقيان، بل لإفسادهما. قلت: الأول أولى، لما رواه ابن خزيمة، والدارقطني من طريق الحسن بن الفرات، عن أبيه، عن أبي حازم الأشجعي، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن يستنجى بعظم أو روث وقال: إنهما لا يطهران". وهذا إسناد جيد. قال: وعن سعيد بن جبير، قال:"من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة". رواه وكيع. ش: هذا عند أهل العلم له حكم الرفع، لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي فيكون على هذا مرسلاً، لأن سعيدًا تابعي، وفيه فضل قطع التمائم، لأنها من الشرك. ووكيع هو ابن الجراح بن وكيع الكوفي، ثقة إمام، صاحب تصانيف منها "الجامع" وغيره. روى عنه الإمام أحمد وطبقته. مات سنة سبع وتسعين ومائة. قال: وله عن إبراهيم، كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن. ش: إبراهيم: هو إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي يكنى أبا عمران، ثقة إمام، من كبار فقهاء الكوفة. قال المزني: دخل على عائشة ولم يثبت له سماع منها، مات سنة ست وتسعين وله خمسون سنة ونحوها. قوله:"كانوا يكرهون التمائم ... " إلى آخره. مراده بذلك أصحاب عبد الله بن مسعود كعلقمة والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد وعبيدة السلماني، ومسروق والربيع بن خيثم وسويد بن غفلة وغيرهم من أصحاب ابن مسعود وهم من سادات التابعين، وهذه الصيغة يستعملها

_ 1 مسلم: الصلاة (450) , والترمذي: الطهارة (18) , وأحمد (1/436) .

إبراهيم في حكاية أقوالهم كما بين ذلك الحفاظ كالعراقي وغيره.

باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما

[3- باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما] ش: كبقعة وغار وعين وقبر ونحو ذلك مما يعتقد كثير من عباد القبور وأشباههم فيه البركة فيقصدونه رجاء البركة. ويعني بقوله: تبرك أي: طلب البركة ورجاها واعتقدها، أي: ما حكمه هل هو شرك أم لا؟ . [ذكر صفة الأوثان التي كانت تعبد من دون الله] قال: وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} 1. ش: هكذا ثبت في خط المصنف الآيات يعني إلى قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} . قال القرطبي لما ذكر الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر من آثار قدرته ما ذكر، حاج المشركين، إذ عبدوا ما لا يعقل وقيل: أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونها أوحَيْنَ إليكم شيئًا كما أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟ وكانت اللات لثقيف، والعزى لقريش وبني كنانة، ومناة لبني هلال. وقال ابن هشام [بن الكلبي في الأصنام] : كانت مناة لهذيل وخزاعة. ذكر صفة هذه الأوثان. ليعرف المؤمن كيفية الأوثان، وكيفية عبادتها، وما هو شرك العرب الذين كانوا يفعلونه حتى يفرق بين التوحيد والإخلاص وبين الشرك والكفر. فأما اللات فقرأ الجمهور بتخفيف التاء، وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح ورويس عن يعقوب: اللات

_ 1 سورة النجم آية: 19-23.

بتشديد التاء. 1- فعلى الأولى قال الأعمش: سموا اللات من الإله والعزى من العزيز. قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من الله تعالى، فقالوا: اللات مؤنثة منه، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا. قال: وكذا العزى من العزيز. قال ابن كثير: وكانت صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت بالطائف، له أستار وسدنة1، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش. قال ابن هشام [بن الكلبي] : وكانت في موضع مسجد الطائف اليسرى، فلم يزل كذلك إلى أن أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار. 2- وعلى الثانية قال ابن عباس: كان رجلاً يَلُتُّ2 السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره. ذكره البخاري. وقال ابن عباس كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويلته عليها، فلما مات ذلك الرجل، عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظامًا لصاحب السويق. وعن مجاهد نحوه، وقال: فلما مات عبدوه. رواه سعيد بن منصور والفاكهي، وكذا روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنهم عبدوه. وقال ابن جُريج: كان رجل من ثقيف يَلُتُّ السويق بالزيت، فلما توفي جعلوا إلى قبره وثنا،. وبنحو ذلك قال

_ 1 جمع سادِنٍ، وهو الحاجب. 2 أي: يخطله بالسَّمن أو غيره. و (السّويق) : طعام يتّخذ من مدقوق الحنطة والشّعير.

جماعة من أهل العلم، ولا تخالف بين القولين، فإن من قال: إنها صخرة لم ينف أن تكون صخرة على القبر أو حواليه فعظمت وعبدت تبعًا لا قصدًا، فالعبادة إنما أرادوا بها صاحب القبر، فهو الذي عبدوه بالأصالة; يدل على ذلك ما روى الفاكهي عن ابن عباس أن اللات لما مات قال لهم عمرو بن لُحَيْيّ: إنه لم يمت، ولكنه دخل الصخرة فعبدوها، وبنوا عليها بيتًا، فتأمل فعل المشركين مع هذا الوثن، ووازن بينه وبين بناء القباب على القبور والعكوف عندها ودعائها، وجعلها ملاذًا عند الشدائد. وأما العزى فقال ابن جرير: كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف كانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: "لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا: "الله مولانا ولا مولى لكم" 1. وروى النسائي وابن مردويه عن أبي الطفيل قال: "لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات2 فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئًا، فرجع خالد، فلما أبصرته السدنة وهم حجبتها أمعنوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى يا عزى فأتاها خالد، فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها، تحفن التراب على رأسها فعمّمها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: تلك العزى" قال هشام [بن الكلبي] : وكانوا يسمعون منها الصوت. وقال أبو صالح [با ذام مولى أم هانئ] : "العزى نخلة كانوا يعلقون عليها السيور والعهن". رواه عبد بن حميد وابن جرير. فتأمل فعل المشركين مع هذا الوثن، ووازن بينه وبين ما يفعله عباد القبور من دعائها، والذبح عندها، وتعليق الخيوط وإلقاء الخرق في ضرائح الأموات ونحو ذلك، فالله المستعان.

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (3039) , وأحمد (4/293) . 2 السَّمُرُ: ضربٌ من شجر العِضاهِ. عِظامٌ، والعِضاه: كلّ شجر له شوك.

وأما مناة، فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها، ويهلون مهنا للحج إلى الكعبة وأصل اشتقاقها من اسم الله المنان، وقيل: من منى الله الشيء: إذا قدره. وقيل: سميت مناة لكثرة ما يمنى، أي: يراق عندها من الدماء للتبرك بها. قال هشام [بن الكلبي] : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا فهدمها عام الفتح. قال ابن إسحاق في "السيرة": وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي لها كما يهدى للكعبة، وتطوف بها وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده. قلت: هذا الذي ذكره ابن إسحاق من شرك العرب هو بعينه الذي يفعله عباد القبور، بل زادوا على الأولين. إذا تبين هذا فمعنى الآية كما قال القرطبي: إن فيها حذفًا تقديره: أفرأيتم هذه الآلهة هل نفعت أو ضرت حتى تكون شركاء لله؟!. وقال غيره: ومناة الثالثة الأخرى، ذم، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله: {وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ} [الأعراف، من الآية: 39] ، أي وضعاؤهم لرؤسائهم. وقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} . قال ابن كثير: أي أتجعلون له ولدًا وتجعلون ولده الأنثى، وتختارون لكم الذكور؟! وقال غيره: بجوز أن يراد اللات والعزى ومناة إناث، وقد جعلتموهن لله شركاء، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث وتستنكفوا من أن يولدن لكم، أو ينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادًا لله وتسمونهن آلهة؟!. قلت: ما أقرب هذا القول إلى سياق الآية؟! وقوله: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} ، أي: جور وباطلة، فكيف. تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورًا وسفهًا، فتنْزهون أنفسكم عن الإناث، وتجعلونهن لله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا؟!. وقوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم} . قال ابن كثير،

ثم قال منكرًا عليهم فيما ابتدعوه، وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر من عبادة الأصنام، وتسميتها آلهة: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} ، أي: من تلقاء أنفسكم. {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} ، أي: من حجة. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنّ} ، أي: ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظ أنفسهم في رياستهم، وتعظيم آبائهم الأقدمين! . وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} 1. ش: قال ابن كثير: ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير، والحجة القاطعة، ومع هذا ما اتبعوا ما جاؤوهم به ولا انقادوا له. قلت: في هذه الآيات من الدلائل القطعية على بطلان عبادة هذه الطواغيت، وأشباهها بما لا مزيد عليه، فسبحان من جعل كلامه شفاء وهدى ورحمة، وبشرى للمسلمين. منها: أنها أسماء مؤنثة دالة على اللين والرخاوة، وما كان كذلك فليس بإله, ومنها: أنكم قاسمتم الله بزعمكم فجعلتم له هذه الأسماء المؤنثة شركاء ودعوتم له الأولاد، ثم جعلتموهم بنات واختصصتم بالذكور، فجعلتم له المكروه الناقص، ولكم المحبوب الكامل: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2. ومنها: أنها أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم، ابتدعتموها. ومنها: أنها ما أنزل الله بها من سلطان، أي: حجة وبرهان، ومنها أنكم لم تستندوا في تسميتها إلى علم ويقين، وإنما استندتم في ذلك إلى الظن والهوى اللذين هما أصلا الهلاك دنيا وأخرى. ومنها: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} ، أي: بإبطال عبادتها، وما كان كذلك، فهو عين المحال البين البطلان، وكل واحد من هذه الأدلة كاف شاف في بطلان عبادتها.

_ 1 سورة النجم آية: 23. 2 سورة النحل آية: 60.

فإن قلت: فأين دليل الترجمة من الآيات؟ قيل: هو بيّن بحمد الله، لأنه إن كان التبرك بالشجر والقبور والأحجار من الأكبر فواضح، وإن كان من الأصغر، فالسلف يستدلون بما نزل في الأكبر على الأصغر. قال:"وعن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط. فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر إنها السنن، قلتم: والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إِلهًا كما لهم آلهة. قال: إِنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم" 1. رواه الترمذي وصححه. ش: الحديث رواه الترمذي كما قال المصنف: ولفظه: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي حدثنا سفيان عن الزهري عن سنان بن أبي سنان عن أبي واقد الليثي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم، قالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم" 2 هذا حديث حسن صحيح. وأبو واقد الليثي اسمه الحارث بن عوف وفي الباب عن أبي سعيد، وأبي هريرة، هذا لفظ الترمذي بحروفه. وفيه مخالفة لما في الكتاب لفظًا ومعنى، وقد اتفق اللفظان على المقصود هنا. وقد رواه أحمد وأبو داود وأبو يعلى وابن أبي شيبة والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه. وروى ابن أبي

_ 1 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218) . 2 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218) .

حاتم وابن مردويه والطبراني من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف [بن زيد] عن أبيه عن جده نحوه أيضًا. قوله: "عن أبي واقد الليثي". اسمه الحارث بن عوف، كما قال الترمذي، وقيل: الحارث بن مالك، صحابي مشهور. مات سنة ثمان وستين وله خمس وثمانون سنة. قوله: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين) . في حديث عمرو بن عوف، قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ونحن ألف ونيف حتى إذا كنا بين حنين والطائف". ولا مخالفة بينهما في المعنى، فإن غزوة الفتح وحنين كانتا في سفر واحد. قوله: "ونحن حدثاء عهد بكفر". أي: قريبو عهد بكفر، ففيه دليل أن غيرهم لا يجهل هذا، وأن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادات الباطلة، ذكره المصنف. قوله:"يعكفون عندها". الاعتكاف: هو الإقامة على الشيء بالمكان، ولزومها، ومنه قوله: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} 1. وكانوا يعكفون عند هذه السدرة تبركًا بها. وفي حديث عمرو بن عوف قال،: كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط، وكانت تعبد من دون الله، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم صرف عنها في يوم صائف إلى ظل هو أدنى منها. الحديث فيجمع بينهما بأن عبادتها هي العكوف عندها رجاء لبركتها. قوله: "وينوطون بها أسلحتهم"، أي: يعلقونها عليها للبركة قوله: يقال لها: ذات أنواط. قال أبو السعادات: سألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك. وأنواط جمع نوط، وهو مصدر سمي به المنوط. قوله: (فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط) . أي. شجرة

_ 1 سورة الأنبياء آية: 52.

مثلها نعلق عليها، ونعكف حواليها، ظنوا أن هذا أمر محبوب عند الله فقصدوا التقرب إلى الله بذلك، وإلا فهم أجل قدرًا، وإن كانوا حديثي عهد بكفر عن قصد مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله أكبر". هكذا في بعض الروايات. وفي رواية الترمذي "سبحان الله" والمقصود باللفظين واحد، لأن المراد تعظيم الله، وتنْزيهه عن الشرك، والتقرب به إليه، وفيه تكبير الله وتنْزيهه عند التعجب، أو ذكر الشرك، خلافًا لمن كرهه. قوله: "إنها السنن". بضم السين،- أي: الطرق. قوله: "قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها. إلخ". أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا الأمر الذي طلبوه منه، وهو اتخاذ شجرة للعكوف عندها، وتعليق الأسلحة بها تبركاً كالأمر الذي طلبه بنو إسرائيل من موسى عليه السلام حيث قالوا: (اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة) ، فإذا كان اتخاذ شجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف عندها، اتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما الظن بما حدث من عباد القبور من دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، والذبح، والنذر لهم، والطواف بقبورهم، وتقبيلها، وتقبيل أعتابها وجدرانها، والتمسح بها، والعكوف عندها، وجعل السدنة والحجاب لها؟! وأي نسبة بين هذا، وبين تعليق الأسلحة على شجرة تبركًا؟! قال الإمام أبو بكر الطرطوشي من أئمة المالكية: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط فاقطعوها. وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بأبي شامة في كتاب "البدع والحوادث": ومن هذا القسم

أيضًا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة، تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاكٍ أنه رأى في منامه بها أحدًا ممن شهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر، وفي مدينة دمشق صانها الله من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحما خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث! ثم ذكر الحديث المتقدم، وكلام الطرطوشي الذي ذكرنا، ثم قال: ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الجبنياني رحمه الله تعالى أحد الصالحين ببلاد أفريقية في المائة الرابعة حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبد الله محمد ابن أبي العباس المؤدب أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية، كان العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق، من تعذر عليها نكاح أو ولد قالت: امضوا بي إلى العافية، فتعرف بها الفتنة، قال أبو عبد الله: فأنا في السحر ذات ليلة إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها وأذن الصبح عليها ثم قال: اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسًا، قال: فما رفع لها رأس إلى الآن. قلت: أبو إسحاق الذي هدمها إمام مشهور من أئمة المالكية زاهد اسمه إبراهيم بن أحمد بن علي بن أسلم، وكان الإمام أبو محمد ابن أبي زيد يعظم شأنه، ويقول: طريق

أبي إسحاق خالية لا يسلكها أحد في الوقت، وكان القابسي يقول: الجبنياني إمام يقتدى به. مات سنة تسع وستين وثلاثمائة. وذكر ابن القيم نحو ما ذكره أبو شامة، ثم قال: فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله، ولو كانت ما كانت، ويقولون: إن هذا الحجر، وهذه الشجرة، وهذه العين تقبل النذر، أي: تقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له. وسيأتي شيء يتعلق بهذا الباب عند قوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد" 1. وفي هذه الجملة من الفوائد: أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها، والعكوف عندها، والذبح لها، هو الشرك، ولا يغتر بالعوام والطغام، ولا يستبعد كون هذا شركًا، ويقع في هذه الأمة. فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسنًا، وطلبوه من النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين لهم أن ذلك كقول بني إسرائيل: اجعل لنا إلهًا، فكيف بغيرهم مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة؟ . وفيها أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم طلبتهم كطلبة بني إسرائيل، ولم يلتفت إلى كونهم سموها ذات أنواط، فالمشرك وإن سمى شركه ما سماه، كمن يسمي دعاء الأموات، والذبح لهم والنذر ونحو ذلك تعظيمًا ومحبة، فإن ذلك هو الشرك، وإن سماه ما سماه، وقس على ذلك. وفيها: أن من عبد فهو إله، لأن بني إسرائيل والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم،لم يريدوا من الأصنام والشجرة الخلق والرزق، وإنما أرادوا البركة، والعكوف عندها، فكان ذلك اتخاذًا له مع الله تعالى. وفيها: أن معنى الإله هو المعبود، وأن من أراد أن يفعل الشرك جهلاً فنهي عن ذلك فانتهى لا يكفر. وأن لا إله إلا الله

_ 1 مالك: النداء للصلاة (416) .

تنفي هذا الفعل مع دقته وخفائه على أولئك الصحابة. ذكره المصنف، فكيف بما هو أعظم منه؟ ففيه رد على الجهال الذين يظنون أن معناها الإقرار بأن الله خالق كل شيء، وأن ما سواه مخلوق ونحو ذلك من العبارات، والإغلاظ على من وقع منه ذلك جهلاً. قوله: "لتركبن"، بضم الموحدة، أي: لتتبعن أنتم أيها الأمة سنن من كان قبلكم بضم السين، أي: طرقهم ومناهجهم وأفعالهم، ويجوز فتح السين، وهذا خبر صحيح وجد كما أخبر صلى الله عليه وسلم ففيه دليل على شهادة أن محمدًا رسول الله. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية من أهل الكتاب والمشركين، وأنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيها التنبيه على مسائل القبر، أما من ربك؟ فواضح، وأما من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما ما دينك؟ فمن قولهم: اجعل لنا إلهًا إلى آخره، قاله المصنف. وفيه أن الشرك لا بد أن يقع في هذه الأمة كما وقع فيمن قبلها، ففيه رد على من قال: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة، وفيه سد الذرائع والغضب عند التعليم، وأن ما ذم الله به اليهود والنصارى، فإنه لنا لنحذره، ذكر ذلك المصنف. تنبيه: ذكر بعض المتأخرين أن التبرك بآثار الصالحين مستحب كشرب سؤرهم، والتمسح بهم أو بثيابهم، وحمل المولود إلى أحد منهم ليحنكه بتمرة حتى يكون أول ما يدخل جوفه ريق الصالحين، والتبرك بعرقهم ونحو ذلك، وقد أكثر من ذلك أبو زكريا النووي في "شرح مسلم" في الأحاديث التي فيها أن الصحابة فعلوا شيئًا من ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم وظن أن بقية الصالحين في ذلك كالنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا خطأ صريح لوجوه: منها: عدم المقاربة فضلاً عن المساواة للنبي صلى الله عليه وسلم في الفضل والبركة. ومنها: عدم تحقق الصلاح، فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب، وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص، كالصحابة الذين أثنى الله عليهم ورسوله، أو أئمة التابعين،

ومن شهر بصلاح ودين كالأئمة الأربعة ونحوهم من الذين تشهد لهم الأمة بالصلاح وقد عدم أولئك، أما غيرهم، فغاية الأمر أن نظن أنهم صالحون فنرجو لهم. ومنها: أنا لو ظننا صلاح شخص، فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء، والأعمال بالخواتيم، فلا يكون أهلاً للتبرك بآثاره. ومنها: أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره لا في حياته، ولا بعد موته، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، فهلا فعلوه مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم من الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكذلك التابعون، هلا فعلوه مع سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وأويس القرني، والحسن البصري ونحوهم ممن يقطع بصلاحهم، فدل أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: أن فعل هذا مع غيره صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أن يفتنه، وتعجبه نفسه، فيورثه العجب والكبر والرياء، فيكون هذا كالمدح في الوجه بل أعظم.

باب ما جاء في الذبح لغير الله

[باب ما جاء في الذبح لغير الله] أي: من الوعيد، وهل يكون شركًا أم لا؟ . قال وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ ... } 1. ش: قال ابن كثير: يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغير اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2. أي: أخلص له صلاتك وذبيحتك، فإن المشركين يعبدون الأصنام، ويذبحون لها، فأمر الله بمخالفتهم، والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية، والعزم على الإخلاص لله تعالى. قال مجاهد في قوله: {صَلاتِي وَنُسُكِي} .

_ 1 سورة الأنعام آية: 162-163. 2 سورة الكوثر آية: 2.

قال: النسك الذبح في الحج والعمرة، وقال الثّووي عن السدي عن سعيد بن جبير: {وَنُسُكِي} : ذبحي، وكذا قال الضحاك. وقال غيره: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} ، أي وما آتيه في حياتي، وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خالصة لوجهه، {لا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ} من الإخلاص {أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ، لأن إسلام كل نبي متقدم لإسلام أمته كما قال قتادة: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ، أي: من هذه الأمة. قال ابن كثير: وهو كما قال، فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له. كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1. وأخبر تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 2. وذكر آيات في هذا المعنى. قلت: وفي الآية دلائل متعددة على أن الذبح لغير الله شرك، كما هو بين عند التأمل، وفيها بيان العبادة، وأن التوحيد مناف للشرك مضاد له. قال وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 3. قال شيخ الإسلام: أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين، وهما: الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار، وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عدته، عكس حال أهل الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها، والذين لا ينحرون له خوفًا من الفقر. ولهذا جمع بينهما في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} الآية. والنسك: الذبيحة لله تعالى ابتغاء وجهه، فإنها أجل ما يتقرب به إلى الله، فإنه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب، لأن فعل ذلك سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله من الكوثر، وأجل العبادات البدنية الصلاة، وأجل العبادات المالية النحر، وما يجتمع للعبد في الصلاة

_ 1 سورة الأنبياء آية: 25. 2 سورة يونس آية: 72. 3 سورة الكوثر آية: 2.

لا يجتمع له في غيرها، كما عرفه أرباب القلوب الحية. وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص من قوة اليقين، وحسن الظن أمر عجيب. وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثير الصلاة، كثير النحر. وقال غيره: أي: فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه، وشرفك وصانك، من منن الخلق مراغمًا لقومك الذين يعبدون غير الله، وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت مخالفًا لهم في النحر للأوثان. انتهى. وهذا هو الصحيح في تفسيرها. وأما ما رواه الحاكم عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 1. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: "ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟ قال: إنها ليست بنحيرة، ولكن يأمرك إذا أحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت، وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع" الحديث. فهو حديث منكر جدًا، في إسناده إسرائيل بن حاتم، قال ابن حبان: يروي عن مقاتل الموضوعات والأوابد والطامات من ذلك خبر يرويه عمر بن صبح عن مقاتل، وظفر به إسرائيل فرواه عن مقاتل عن الأصبغ بن نباته عن علي لما نزلت: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} الحديث. [حديث علي: لعن الله من ذبح لغير الله] قال عن علي رضي الله عنه قال: "حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى محدثًا، ولعن الله من غير منار الأرض" 2. رواه مسلم. ش: الحديث رواه مسلم من طرق بمعنى ما ذكره المصنف، وفيه قصة ورواه الإمام أحمد كذلك. وعلي بن أبي طالب هو الإمام أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم. وزوج ابنته

_ 1 سورة آية: 1-2. 2 مسلم: الأضاحي (1978) , والنسائي: الضحايا (4422) , وأحمد (1/108 ,1/118 ,1/152) .

فاطمة الزهراء -واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم القرشي- كان من السابقين الأولين إلى الإسلام ومن أهل بدر وبيعة الرضوان، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ورابع الخلفاء الراشدين، ومناقبه كثيرة رضي الله عنه. قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين. قوله:"لعن الله". قالوا: اللعنة: البعد عن مظان الرحمة ومواطنها. فيل: واللعين والملعون: من حقت عليه اللعنة، أو دعي عليه بها قال أبو السعادات: أصل اللعنة، الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق: السّبّ والدعاء. قوله:"من ذبح لغير الله". قال النووي. المراد به أن يذبح باسم غير اسم الله تعالى، كمن يذبح للصنم أو للصليب أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما وسلم، أو للكعبة ونحو ذلك، وكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلمًا أو نصرانيًا أو يهوديًا نص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابنا، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله والعبادة له، كان ذلك كفرًا، فإن كان الذابح مسلمًا قبل ذلك صار بالذبح مرتدًا. ذكره في "شرح مسلم" ونقله غير واحد من الشافعية وغيرهم. وقال شيخ الإسلام قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 1. ظاهره أنه ما ذبح لغير الله مثل أن يقال: هذه الذبيحة لكذا. وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ. وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحنا للحم، وقلنا عليه: بسم الله. فإن عبادة الله بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فكذلك الشرك بالصلاة لغيره. والنسك لغيره أعظم من الاستعانة باسم غيره في فواتح الأمور، فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل

_ 1 سورة البقرة آية: 173.

فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى، فإن العبادة لغير الله أعظم كفرًا من الاستعانة بغير الله، وعلى هذا، فلو ذبح لغير الله متقرّباً إليه لَحَرُم َ، وإنْ قال فيه: باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، الذين قد يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان. ومن هذا الباب ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن ذبائح الجن" قلت: هذا الحديث رواه البيهقي عن الزهري مرسلاً، وفي إسناده عمر بن هارون، وهو ضعيف عند الجمهور إلا أن أحمد بن سيار روى عن قتيبة أنه كان يوثقه ورواه ابن حبان في الضعفاء من وجه آخر عن عبد الله بن أذينة عن ثور بن يزيد، عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة مرفوعًا. قال ابن حبان: وعبد الله يروي عن ثور ما ليس من حديثه. قال الزمخشري: كانوا إذا اشتروا دارًا أو بنوها أو استخرجوا عينًا ذبحوا ذبيحة خوفًا أن تصيبهم الجن، فأضيفت الذبائح إليهم، لذلك قال النووي: وذكر الشيخ إبراهيم المروذي من أصحابنا أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربًا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير الله. قال الرافعي: هذا إنما يذبحونه استبشارًا بقدومه، فهو كذبح العقيقة لولادة المولود. قلت: إن كانوا يذبحون استبشارًا كما ذكر الرافعي فلا يدخل في ذلك، وإن كانوا يذبحونه تقربًا، إليه فهو داخل في الحديث. قوله:"لعن الله من لعن والديه". قال بعضهم: يعني أباه وأمه

وإن علوا وفي "الصحيح" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الكبائر شتم الرجل والديه". قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه" 1 فإذا كان هذا حال المتسبب فما ظنك بالمباشر؟ . قوله: "ولعن الله من آوى محدثًا". أما "آوى" بفتح الهمزة ممدودة أي: ضم إليه وحمى، وقال أبو السعادات: يقال: أويت إلى المنْزل وآويت غيري وأويته، وأنكر بعضهم المقصور المتعدي. وقال الأزهري: هي لغة فصيحة. وأما "محدثًا" فقال أبو السعادات: يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانيًا وآواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه، والفتح: هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضى به والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر عليها فاعلها، ولم ينكر عليه، فقد آواه. قلت: الظاهر أنه على الرواية الأولى يعم المعنيين، لأن المحدث أعم من أن يكون بجناية أو ببدعة في الدين، بل المحدث بالبدعة في الدين شر من المحدث بالجناية، فإيواؤه أعظم إثمًا، ولهذا عده ابن القيم في كتاب "الكبائر" وقال: هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر، كانت الكبيرة أعظم قوله:"ولعن الله من غير منار الأرض". قال المصنف: هي المراسيم التي تفرق بينك وبين جارك. وقال النووي: منار الأرض -بفتح الميم- علامات حدودها، والمعنى واحد. قيل: وتغييرها أن يقدمها أو يؤخرها، فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "من ظلم شبرًا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين". رواه البخاري ومسلم.

_ 1 أبو داود: الزكاة (1641) , وابن ماجه: التجارات (2198) .

وفي الحديث دليل على جواز لعن أنواع الفساق، كقوله:"لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه" 1. ونحو ذلك، فأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان: ذكرهما شيخ الإسلام أحدهما: أنه جائز اختاره ابن الجوزي وغيره. والثاني: لا يجوز، اختاره أبو بكر عبد العزيز وشيخ الإسلام. قال: والمعروف عن أحمد كراهة لعن المعين كالحجاج وأمثاله، وأن يقول كما قال الله تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} 2. قال: وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب". قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: " مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئًا. فقالوا لأحدهما: قرب. قال: ما عندي شيء. قالوا: قرب ولو ذبابًا، فقرب ذبابًا فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب. قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئًا دون الله عز وجل. فضربوا عنقه، فدخل الجنة". رواه أحمد ش: هذا الحديث. ذكره المصنف معزوًا لأحمد، وأظنه تبع ابن القيم في عزوه لأحمد. قال ابن القيم: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه قال: "دخل رجل الجنة في ذباب". الحديث. وقد طالعت "المسند" فما رأيته فيه، فلعل الإمام رواه في كتاب الزهد3 أو غيره. قوله: (عن طارق بن شهاب) . أي: البجلي الأحمسي أبو عبد الله رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل، ويقال: إنه لم يسمع منه شيئًا. قال البغوي: ونزل الكوفة. قال أبو حاتم: ليست له صحبة. والحديث الذي رواه مرسل. وقال أبو داود: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئًا.

_ 1 أحمد (4/127) . 2 سورة هود آية: 18. 3 هو فيه 15 عن طارق عن سلمان الفارسي موقوفاً بسندٍ صحيحٍ.

قال الحافظ: إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي على الراجح، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه، فروايته عن مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح. وقد أخرج له النسائي عدة أحاديث، وذلك مصير منه إلى إثباتِ صحبته. وكانت وفاته على ما جزم به ابن حبان سنه ثلاث وثمانين. قوله: "دخل الجنة رجل في ذباب". أي: من أجل ذباب. قوله: "قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله". سألوا عن هذا الأمر العجيب؛ لأنهم قد علموا أن الجنة لا يدخلها أحد إلا بالأعمال الصالحة كما قال تعالى: {دْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1. وأن النار لا يدخلها أحد إلا بالأعمال السيئة. فكأنهم تَقَالُّوا ذلك وتعجبوا واحتقروه، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما صَيَّرَ هذا الأمر الحقير عندهم عظيما يستحق هذا عليه الجنة، ويستحق الآخر عليه النار، ولعل هذين الرجلين من بني إسرائيل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم. يحدثهم عن بني إسرائيل كثيرًا. قوله: "فقال: مر رجلان على قوم لهم صنم". الصنم: ما كان منحوتًا على صورة. قوله: "لا يجاوزه". أي: لا يمر به ولا يتعداه أحد حتى يقرب له شيئًا وإن قل. قوله: "قالوا: قرب ولو ذبابًا، فقرب ذبابًا فخلوا سبيله فدخل النار". في هذا بيان عظمة الشرك ولو في شيء قليل، وأنه يوجب النار، ألا ترى إلى هذا لما قرب لهذا الصنم أرذل الحيوان وأخسه وهو الذباب كان جزاؤه النار، لإشراكه في عبادة الله، إذ الذبح على سبيل القربة والتعظيم عبادة، وهذا مطابق لقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 2. وفيه الحذر من الذنوب وإن كانت صغيرة في الحسبان، كما قال أنس: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات". رواه البخاري.

_ 1 سورة النحل آية: 32. 2 سورة المائدة آية: 72.

قال المصنف ما معناه: وفيه أنه دخل النار بسبب لم يقصده، بل فعله تخلصًا من شرهم. وفيه أن الذي دخل النار مسلم، لأنه لو كان كافرًا لم يقل: دخل النار في ذباب، وفيه أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان. قوله: "وقالوا للآخر: قرب. قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئًا دون الله عز وجل" إلى آخره. في هذا بيان فضيلة التوحيد والإخلاص. قال المصنف: وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين،. كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر، وفيه شاهد للحديث الصحيح: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك" 1. قلت: وفيه التنبيه على سعة مغفرة الله وشدة عقوبته، وأن الأعمال بالخواتيم.

_ 1 البخاري: الرقاق (6488) , وأحمد (1/387 ,1/413 ,1/442) .

باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

[5- باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله] ش: أي أن ذلك لا يجوز لما سيذكره المصنف. قال: وقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 1. ش: "حاصل كلام المفسرين في الآية أن الله نهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوم في مسجد الضرار في الصلاة فيه أبدًا، والأمة تبع له في ذلك، ثم حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بني فيه على التقوى، وهي طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجمعًا لكلمة المؤمنين، ومعقلاً ومنْزلاً للإسلام وأهله بقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} والسياق إنما هو في مسجد قباء، ولهذا جاء في الحديث الصحيح "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة في

_ 1 سورة التوبة آية: 108.

مسجد قباء كعمرة" 1. وفي "الصحيح: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء راكبًا وماشيًا" 2. وقد صرح بأن المسجد المؤسس على التقوى هو مسجد قباء. ذكره جماعة من السلف، منهم: ابن عباس وعروة وعطية والشعبي والحسن وغير واحد. وقيل: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث أبي سعيد قال: "تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هو مسجدي هذا" 3 رواه مسلم. وهو قول عمر وابنه وزيد بن ثابت وغيرهم. قال ابن كثير: وهذا صحيح، ولا منافاة بين الآية وبين هذا، لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى. وهذا بخلاف مسجد الضرار الذي أسس على معصية الله تعالى كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 4. فلهذه الأمور نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن القيام فيه للصلاة، وكان المنافقون الذين بنوه جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى تبوك فسألوه أن يصلي فيه ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره. وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: "إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله" فلما قفل عليه السلام راجعًا إلى المدينة ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل الوحي بخبر المسجد، فبعث إليه فهدمه قبل مقدمه إلى المدينة" ووجه الدلالة من الآية على الترجمة من جهة القياس، لأنه إذا منع الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن القيام لله تعالى في هذا المسجد المؤسس على هذه المقاصد الخبيثة مع أنه لا يقوم فيه إلا لله، فكذلك المواضع المعدة للذبح لغير الله لا يذبح فيها الموحد لله، لأنها قد أسست على معصية الله والشرك به، يؤيده حديث ثابت بن الضحاك الآتي.

_ 1 الترمذي: الصلاة (324) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1411) . 2 البخاري: الجمعة (1192 ,1194) , ومسلم: الحج (1399) , والنسائي: المساجد (698) , وأبو داود: المناسك (2040) , وأحمد (2/4 ,2/57 ,2/58 ,2/65 ,2/72 ,2/80 ,2/101 ,2/107 ,2/155) , ومالك: النداء للصلاة (402) . 3 الترمذي: تفسير القرآن (3099) , والنسائي: المساجد (697) , وأحمد (3/8 ,3/23 ,3/91) . 4 سورة التوبة آية: 107.

وقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} روى الإمام أحمد وابن خزيمة والطبراني والحاكم عن عويم في ساعدة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: "إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ فقالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا" 1. وفي رواية عن جابر وأنس مرفوعًا "هو ذاك فعليكموه" رواه ابن ماجة وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم. وقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} . أي: الذين يتنزهون من القاذورات والنجاسات بعد ما يتنَزهون من أوضار الشرك وأقذاره. قال أبو العالية. إن الطهور بالماء لحسن، ولكنهم المتطهرون من الذنوب. قال ابن كثير: وفيه دليل على استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين المتنَزهين عن ملابسة القاذورات، المحافظين على إسباغ الوضوء. قلت: وفيه إثبات صفة المحبة. قال: عن ثابت بن الضحاك، قال: نذر رجل أن ينحر إِبلًا ببوانة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم" 2. رواه أبو داود وإِسناده على شرطهما. ش: هذا الحديث رواه أبو داود، فقال: حدثنا داود بن رشيد قال: ثنا شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو قلابة، قال: حدثني ثابت بن الضحاك. "قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هل كان فيها وثن." الحديث. وهذا إسناد جيد، وروى أبو داود أيضًا عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده "أن

_ 1 أحمد (3/422) . 2 أبو داود: الأيمان والنذور (3313) .

امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا، مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية قال: "لصنم"، قالت: لا. قال: "لوثن؟ " قالت: لا قال: "أوف بنذرك" 1. مختصر. ومعنى قوله: "لصنم" إلى آخره. هل يذبحون فيه لصنم أو وثن فيكون كحديث ثابت. قوله: (عن ثابت بن الضحاك) ، أي: ابن خليفة الأشهلي، صحابي مشهور، روى عنه أبو قلابة وغيره ومات سنة أربع وستين. قوله: نذر رجل. يحتمل أن يكون هو كردم بن سفيان والد ميمونة لما روى أبو داود عنها، "قالت: خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم "قالت: فدنا إليه أبي. فقال: يا رسول الله، إني نذرت إن وُلِدَ لي ولد ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من النعم. قال: لا أعلم إلا أنها قالت خمسين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل بها من هذه الأوثان شيء؟ قال: لا قال: فأوف بما نذرت لله" وذكر الحديث. قوله: "أن ينحر إبلًا في حديث ميمونة، قال: فأوف بما نذرت لله قال: فجمعها فجعل يذبحها، فانفلتت منه شاة فطلبها. وهو يقول: اللهم أوف بنذري فظفر بها فذبحها". فيحتمل أن يكون نذر إبلاً وغنمًا ويحتمل أن يكون ذلك قضيتين! . قوله: "ببوانة". بضم الباء وقيل بفتحها. قال البغوي: موضع في أسفل مكة دون يلملم، وقال أبو السعادات: هضبة من وراء ينبع. قوله: "فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ = " قال [الحرالي] في "عروة المفتاح" الصنم: هو ما له صورة، والوثن: ما ليس له صورة. قلت: هذا هو الصحيح في الفرق بينهما، وقد جاء عن السلف ما يدل على ذلك. وفيه المنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان وثن من أوثانهم، ولو بعد زواله. ذكره المصنف.

_ 1 أبو داود: الأيمان والنذور (3312) .

قوله: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قال شيخ الإسلام: العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائدًا إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك، والمراد به هنا الاجتماع المعتاد من اجتماع الجاهلية، فالعيد يجمع أمورًا منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات. وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقًا. وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدًا، فالزمان: كقول النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة: "إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيدًا" 1. والاجتماع والأعمال "كقول ابن عباس: شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". والمكان كقوله: "لا تتخذوا قبري عيدًا "2. وقد يكون لفظ العيد اسمًا لمجموع اليوم والعمل فيه، وهو الغالب " كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدًا" 3. انتهى. وفيه استفصال المفتي، والمنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان عيد من أعياد الجاهلية ولو بعد زواله، والحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده. ذكره المصنف. قوله: "فأوف بنذرك". هذا يدل على أن الذبح لله في المكان الذي يذبح فيه المشركون لغيره، أو في محل أعيادهم معصية، لأن قوله: فأوف بنذرك تعقيب للوصف بالحكم بحرف الفاء، وذلك يدل على أن الوصف سبب الحكم، فيكون سبب الأمر بالوفاء وجود النذر خاليًا عن هذين الوصفين، فيكونان مانعين من الوفاء، ولو لم يكن معصية لجاز الوفاء به، ولأنه عقبه بقوله: فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله. فدل أن الصورة المسئول عنها مندرجة في هذا اللفظ العام؛ لأن العام إذا أورد على سبب فلا بد أن يكون السبب مندرجًا فيه، ولأنه لو كان الذبح فيما ذكر جائزًا لسوغ صلى الله عليه وسلم للناذر الوفاء به كما سوغ لمن نذرت الضرب بالدف أن تضرب به؛ لأنه عليه السلام

_ 1 ابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1098) , ومالك: الطهارة (146) . 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 3 البخاري: الجمعة (988) , ومسلم: صلاة العيدين (892) , والنسائي: صلاة العيدين (1593 ,1597) , وابن ماجه: النكاح (1898) , وأحمد (6/33 ,6/84 ,6/99 ,6/127 ,6/134 ,6/186) .

استفصل. فلما قالوا: لا. قال له: "فأوف بنذرك". وهذا يقتضي أن كون البقعة مكانًا لعيدهم، أو بها وثن من أوثانهم مانع من الذبح بها وإن نذر، وإلا لما حسن الاستفصال، هذا معنى كلام شيخ الإسلام. وفيه أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع. قوله: "فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله". دليل على أن هذا نذر معصية، لا يجوز الوفاء به لما تقدم1. وعلى أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به. وقد أجمع العلماء على ذلك لهذا الحديث، وحديث عائشة الآتي وما في معناهما، واختلفوا هل تجب به كفارة يمين؟ على قولين هما روايتان عن أحمد، أحدهما: تجب وهو المذهب المشهور عن أحمد. وروي عن ابن مسعود وابن عباس، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه لحديث عائشة مرفوعًا: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" 2. رواه أحمد وأهل السنن، واحتج به أحمد وإسحاق. والثاني: لا كفارة عليه. روي ذلك عن مسروق والشعبي، والشافعي لحديث الباب، وحديث عائشة الآتي. ولم يذكر فيهما كفارة، وجوابه أن عدم ذكر الكفارة لا يدل على عدم وجوبها. قوله: "ولا فيما لا يملك ابن آدم". قال في "شرح المصابيح": يعني إذا أضاف النذر إلى معين لا يملكه بأن قال: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق عبد فلان، أو أتصدق بثوبه ونحو ذلك، فأما إذا التزم في الذمة شيئًا لا يملكه فيصح نذره، مثاله إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أعتق رقبة، وهو في ذلك الحال لا يملك رقبة ولا قيمتها، فيصح نذره، وإذا شفي ثبت النذر في ذمته.

_ 1 قوله: لما تقدم. أي من أن العام إذا ورد على سبب فلا بد أن يكون داخلا فيه. 2 الترمذي: النذور والأيمان (1524) , والنسائي: الأيمان والنذور (3834 ,3835 ,3836 ,3837 ,3838 ,3839) , وابن ماجه: الكفارات (2125) .

قوله: (رواه أبو داود وإسناده على شرطيهما) ، أي: شرط البخاري ومسلم، وأضمرهما للعلم بذلك. وأبو داود اسمه: سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشر بن شداد الأزدي السجستاني، صاحب الإمام أحمد، ومصنف "السنن" وغيرها ثقة إمام حافظ من كبار العلماء. مات سنة خمس وسبعين ومائتين.

باب من الشرك النذر لغير الله

[6- باب من الشرك النذر لغير الله] ش: أي إنه من العبادة، فيكون صرفه لغير الله شركًا، فإذا نذر طاعة وجب عليه الوفاء بها وهو عبادة، وقربة إلى الله. ولهذا مدح الله الموفين به، فإن نذر لمخلوق تقربًا إليه ليشفع له عند الله، ويكشف ضره ونحو ذلك فقد أشرك في عبادة الله تعالى غيره ضرورة، كما أن من صلى لله وصلى لغيره، فقد أشرك، كذلك هذا، لقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} 1 وجه الدلالة من الآية على الترجمة أن الله تعالى مدح الموفين بالنذر، والله تعالى لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب، أو ترك محرم، لا يمدح على فعل المباح المجرد، وذلك هو العبادة، فمن فعل ذلك لغير الله متقربًا إليه فقد أشرك. قال: وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} 2. وجه الدلالة من الآية على الترجمة أن الله تعالى أخبر بأن ما أنفقناه من نفقة، أو نذرناه من نذر متقربين بذلك إليه أنه يعلمه، ويجازينا عليه. فدل ذلك أنه عبادة. وبالضرورة يدري كل مسلم أن من صرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله فقد أشرك. قال ابن كثير: يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات. وتضمن ذلك مجازاته على

_ 1 سورة الإنسان آية: 7. 2 سورة البقرة آية: 270.

ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك، ابتغاء وجهه، ورجاء موعوده. إذا علمت ذلك فهذه النذور الواقعة من عباد القبور وأشباههم لمن يعتقدون فيه نفعًا أو ضرًا فيتقرب إليه بالنذر، ليقضي حاجته أو ليشفع له. كل ذلك شرك في العبادة، وهو شبيه بما ذكر الله عن المشركين في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 1. روى ابن أبي حاتم في الآية. يعني: جعلوا لله جزءًا من الحرث ولشركائهم ولأوثانهم جزءًا، فما ذهبت به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه، وقالوا: الله عن هذا غني، وما ذهبت به الريح من جزء أوثانهم إلى جزء الله أخذوه. وعباد القبور يجعلون لله جزءًا من أموالهم بالنذر والصدقة، وللأموات والطواغيت جزءًا كذلك، وقد نص غير واحد من العلماء، على أن النذر لغير الله شرك. قال شيخ الإسلام: وأما ما نذره لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك، فهو بمنْزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات، والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوق ليس عليه وفاء ولا كفارة، فإن كليهما شرك، والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر الله من هذا العقد ويقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله" 2. وقال أيضًا فيمن نذر للقبور ونحوها دهنًا لتنور به ويقول: إنها تقبل النذر كما يقول بعض الضالين. فهذا النذر معصية باتفاق العلماء، لا يجوز الوفاء به، وكذلك إذا نذر مالاً من النقد أو غيره للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن هؤلاء السدنة فيهم شبه من السدنة التي كانت للات والعزى ومناة يأكلون {أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}

_ 1 سورة الأنعام آية: 136. 2 البخاري: الأدب (6107) , ومسلم: الأيمان (1647) , والترمذي: النذور والأيمان (1545) , والنسائي: الأيمان والنذور (3775) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3247) , وابن ماجه: الكفارات (2096) , وأحمد (2/309) .

والمجاورون هناك فيهم شبه من العاكفين الذين قال فيهم إبراهيم الخليل عليه السلام: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} 1. والذين اجتاز بهم موسى عليه السلام وقومه؛ قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} 2. فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع التي لا فضل للشريعة في المجاورة فيها نذر معصية، وفيه شبه من النذر للسدنة الصلبان المجاورين عندها، أو لسدنة الأبدال التي في الهند والمجاورين عندها، ثم هذا المال إذا صرفه في جنس تلك العبادة من المشروع مثل أن يصرفه في عمارة المساجد أو للصالحين من فقراء المسلمين، يستعينون بالمال على عبادة الله كان حسنًا. وقد تقدم كلام ابن القيم في قوله: ويقولون إنها تقبل النذر، أي: تقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة. إلى آخره. وقال الإمام الأذرعي " في شرح منهاج النووي": وأما النذر للمشاهد التي بنيت على قبر ولي أو شيخ، أو على اسم من حلها من الأولياء، أو تردد في تلك البقعة من الأنبياء والصالحين، فإن قصد الناذر بذلك وهو الغالب أو الواقع من قصود العاقد تعظيم البقعة والمشهد والزاوية، أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه، أو بنيت على اسمه، فهذا النذر باطل غير منعقد، فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات لأنفسها، ويرون أنها مما يدفع به البلاء، ويستجلب به النعماء، ويستشفى بالنذر لها من الأدواء، حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل: إنه جلس إليها أو استند إليها عبد صالح، وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت، ويقولون: القبر الفلاني أو المكان الفلاني يقبل النذر، يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض، وقدوم غائب، وسلامة مال، وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة. فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه، بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقًا، من

_ 1 سورة الأنبياء آية: 52. 2 سورة الأعراف آية: 138.

ذلك نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر الخليل عليه السلام، ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء، فإن الناذر لا يقصد بذلك إلا الإيقاد على القبر تبركًا وتعظيمًا، ظانًا أن ذلك قربة، فهذا مما لا ريب في بطلانه. والإيقاد المذكور محرم سواء انتفع به هناك منتفع أم لا إلى آخر كلامه. وقال الشيخ قاسم [بن قُطُلُبُغَى] الحنفي في "شرح درر البحار": النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد، كأن يكون للإنسان غائب أو مريض أو له حاجة ضرورية، فيأتي إلى بعض الصلحاء، ويجعل على رأسه سترة ويقول: يا سيدي فلان إن رد الله غائبي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب كذا أو من الفضة كذا، أو من الطعام كذا، أو من الماء ومن الشمع والزيت كذا، فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه. منها: أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز لأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق. ومنها أن المنذور له ميت والميت لا يملك. ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله، واعتقاد ذلك كفر، إلى أن قال: إذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربًا إليهم فحرام بإجماع المسلمين. نقله عنه ابن نجيم في "البحر الرائق" في آخر كتاب الصوم. ومنه نقله المرشدي أيضًا في "تذكرته" ونقله غيرهما عنه وزاد: وقد ابتلي الناس بهذا لا سيما في مولد أحمد البدوي. وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء، وأثبت الأجر في ذلك: فهذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان وفلان فهو لغير الله، فيكون باطلاً. وفي التنزيل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 1. وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2. أي: صلاتي وذبحي لله، كما فسر به قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 3. وفي

_ 1 سورة الأنعام آية: 121. 2 سورة الأنعام آية: 162. 3 سورة الكوثر آية: 2.

الحديث: "لا نذر في معصية الله" 1. رواه أبو داود وغيره. والنذر لغير الله إشراك مع الله، إلى أن قال: فالنذر لغير الله كالذبح لغيره. وقال الفقهاء: خمسة لغير الله شرك: الركوع والسجود والنذر والذبح واليمين. قال: والحاصل أن النذر لغير الله فجور، فمن أين تحصل لهم الأجور؟ انتهى ملخصًا. وقال القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي: قد نهي عن النذر، وندب إلى الدعاء، والسبب فيه أن الدعاء عبادة عاجلة، ويظهر به التوجه إلى الله تعالى، والتضرع له، وهذا بخلاف النذر فإن فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضرورة. فقد نص أبو بكر على أن الدعاء والنذر عبادتان، ولا يمتري مسلم أن من عبد غير الله فقد أشرك، ولكن كما قال تعالى: {وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} 2. قال: وفي " الصحيح " " عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " 3. ش: قوله في "الصحيح" أي: "صحيح البخاري". قوله: "عن عائشة". هي أم المؤمنين، وزوج النبي صلى الله عليه وسلم. وبنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم. وهي بنت سبع سنين، ودخل بها وهي بنت تسع سنين، وهي أفقه النساء مطلقًا، وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلا خديجة ففيهما خلاف كثير. وماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح، قاله الحافظ [في التّقريب] . قوله: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" أي: فليفعل ما نذره من طاعة الله وقد أجمع العلماء على أن من نذر طاعة بشرط يرجوه كقوله: إن شفى الله مريضي فعلي أن أتصدق بكذا ونحو ذلك، وجب عليه أن يوفي بها مطلقًا إذا حصل الشرط، إلا أنه حكي عن أبي حنيفة أنه لا يلزمه الوفاء بما لا أصل له في الوجوب،

_ 1 مسلم: النذر (1641) , والنسائي: الأيمان والنذور (3812 ,3849) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/443) , والدارمي: السير (2505) . 2 سورة يونس آية: 101. 3 البخاري: الأيمان والنذور (6696) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806 ,3807 ,3808) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجه: الكفارات (2126) , وأحمد (6/36 ,6/41 ,6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338) .

كالاعتكاف، وعيادة المريض. والحديث حجة عليه، لأنه لم يفرق بين ما له أصل في الوجوب وما لا أصل له، فإنّ نذر ابتداء كقوله: لله تعالى علي صوم شهر فالحكم أيضًا كذلك في قول الأكثرين. وعن بعضهم أنه لا يلزم، والحديث حجة عليه أيضًا، لأنه لم يفرق بين ما علقه على شرط وبين ما نذره ابتداء قوله: "ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" 1. زاد الطحاوي "وليكفر عن يمينه". قال ابن القطان: عندي شك في رفع هذه الزيادة، أي: لا يفعل المعصية التي نذرها وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية. قال الحافظ في "الفتح": واتفقوا على تحريم النذر في المعصية، وتنازعوا هل ينعقد موجبًا للكفارة أم لا؟ وقد تقدم ذلك في الباب قبله. وقد يستدل بقوله: "ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" بصحة النذر في المباح، كما هو مذهب أحمد وغيره. يؤيده ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورواه أحمد والترمذي عن بريدة "أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف. فقال: "أوف بنذرك" 2 وإذا صححناه فحكمه حكم الحلف على فعله، فيخير بين فعله وكفارة اليمين. وأما نذر اللجاج والغضب، فهو يمين عند أحمد، فيخير بين فعله وكفارة اليمين، لحديث عمران بن حصين مرفوعًا: "لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين" 3. رواه سعيد [بن منصور] وأحمد، والنسائي، وله طرق، وفيه كلام، فإن نذر مكروها كالطلاق، استحب أن يكفر ولا يفعله.

_ 1 البخاري: الأيمان والنذور (6696 ,6700) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806 ,3807 ,3808) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجه: الكفارات (2126) , وأحمد (6/36 ,6/41 ,6/208 ,6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338) . 2 أبو داود: الأيمان والنذور (3312) . 3 النسائي: الأيمان والنذور (3842) , وأحمد (4/433) .

باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

[باب من الشرك الاستعاذة بغير الله] الاستعاذة: الالتجاء، والاعتصام، والتحرز، وحقيقتها: الهرب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه، ولهذا يسمى المستعاذ به معاذًا،

وملجأ ووزرًا، فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه إلى ربه ومالكه، وفر إليه، وألقى نفسه بين يديه واعتصم به، واستجار به، والتجأ إليه، وهذا تمثيل وتفهيم، وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله، والاعتصام به، والإطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه، والتذلل بين يديه، أمر لا تحيط به العبارة. هذا معنى كلام ابن القيم. وقال ابن كثير: الاستعاذة هي: الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر. والعياذ يكون لدفع الشر. واللياذ لطلب الخير. وهذا معنى كلام غيرهما من العلماء، فتبين بهذا أن الاستعاذة بالله عبادة لله، ولهذا أمر الله بالاستعاذة به في غير آية، وتواترت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1. وقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 2. وقال: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3. وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} 4. وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} 5. فإذا كان تعالى هو ربنا وملكنا وإلهنا، فلا مفزع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبود لنا غيره، فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى ولا يحب غيره، ولا يذل ولا يخضع لغيره، ولا يتوكل إلا عليه، لأن من تخافه وترجوه وتدعوه وتتوكل عليه، إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك، ومتولي شأنك، فهو ربك، ولا رب لك سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقًّا، وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين، بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك وروحك، فهو الإله الحق إله الناس، فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه، ولا يلجئوا إلى غير حماه،

_ 1 سورة فصلت آية: 36. 2 سورة المؤمنون آية: 97-98. 3 سورة غافر آية: 56. 4 سورة الفلق آية: 1. 5 سورة آية: 1-3.

فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم ومتولي أمورهم جميعًا بربوبيته وملكه وإلهيته لهم، فكيف لا يلتجئ العبد عند النوازل ونزول عدوه به إلى ربه وملكه وإلهه، وهذه طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على توحيد الإلهية، هذا معنى كلام ابن القيم، فإذا تحقق العبد بهذه الصفات: الرب والملك والإله، وامتثل أمر الله واستعاذ به، فلا ريب أن هذه عبادة من أجل العبادات، بل هو من حقائق توحيد الإلهية، فإن استعاذ بغيره فهو عابد لذلك الغير، كما أن من صلى لله وصلى لغيره يكون عابدًا لغير الله كذلك في الاستعاذة، ولا فرق إلا أن المخلوق يطلب منه ما يقدر عليه ويستعاذ به فيه، بخلاف ما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يستعاذ فيه إلا بالله، كالدعاء، فإن الاستعاذة من أنواعه. قال: وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1. ش: المعنى والله أعلم على قول أن الإنس زادوا الجن باستعاذتهم بهم رهقًا، أي: إثمًا وطغيانًا وشرًا، فضمير الفاعل على هذا للعائذين من الإنس وضمير المفعول للمستعاذ بهم من الجن، وعلى القول الثاني بالعكس، وزيادتهم للإنس رهقًا بإغوائهم وإضلالهم، وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر في بعض سيره وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد الجن وكبيرهم. قال مجاهد: كانوا يقولون إذا هبطوا واديًا: نعوذ بعظيم هذا الوادي، فزادوهم رهقًا. قال: زادوا الكفار طغيانًا. رواه عبد بن حميد، وابن المنذر. والآثار بذلك عن السلف مشهورة، ووجه الاستدلال بالآية على الترجمة أن الله حكى عن مؤمني الجن أنهم لما تبين لهم دين الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، ذكروا أشياء من الشرك كانوا يعتقدونها في الجاهلية، من جملتها الاستعاذة بغير الله.

_ 1 سورة الجن آية: 6.

وقد أجمع العلماء على أنه لا تجوز الاستعاذة بغير الله، ولهذا نهوا عن الرقى التي لا يعرف معناها، خشية أن يكون فيها شيء من ذلك. قال ملا علي القاري الحنفي: ولا تجوز الاستعاذة بالجن، فقد ذم الله الكافرين على ذلك فقال:: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1، إلى أن قال: وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} 2. فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره، أو إخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه، واستعاذته به، واستغاثته وخضوعه له. وفيه أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع لا يدل على أنه ليس من الشرك. ذكره المصنف. قال: وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نزل منْزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك" 3. رواه مسلم. قوله: "عن خولة بنت حكيم". أي: ابن أمية السلمية، يقال لها: أم شريك. ويقال لها: خويلة بالتصغير، ويقال: إنها هي الواهبة، وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون. قال ابن عبد البر: وكانت صالحة فاضلة. قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) . هذا ما شرعه الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلاً عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن، فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا به أو بصفاته. قال القرطبي في "المفهم": قيل: معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب، كما يلحق كلام البشر. وقيل: معناه الشافية الكافية، وقيل: الكلمات هنا: هي القرآن، فإن الله أخبر عنه بأنه {هُدىً وَشِفَاءٌ} وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به

_ 1 سورة الجن آية: 6. 2 سورة الأنعام آية: 128. 3 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي: الدعوات (3437) , وابن ماجه: الطب (3547) , وأحمد (6/377 ,6/378 ,6/409) , والدارمي: الاستئذان (2680) .

الأذى. ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى والالتجاء إليه، كان ذلك من باب المندوب إليه المرغب فيه. وعلى هذا فحق المتعوذ بالله تعالى وبأسمائه وصفاته أن يصدق الله في التجائه إليه، ويتوكل في ذلك عليه، ويحضر ذلك في قلبه، فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه، ومغفرة ذنبه. وقال غيره: وقد اتفق العلماء على أن الاستعاذة بالمخلوق لا تجوز، واستدلوا بحديث خولة، وقالوا: فيه دليل على أن كلمات الله غير مخلوقة، وردوا به على الجهمية والمعتزلة في قولهم بخلق القرآن، قالوا: فلو كانت كلمات الله مخلوقة لم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بها، لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك. وقال شيخ الإسلام: وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق. قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والتعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون فيها شرك. وقال ابن القيم: ومن ذبح للشيطان ودعاه واستغاث به، وتقرب إليه بما يحب، فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة، ويسميه استخدامًا، وصدق هو استخدام الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له ويعبده كما يفعل هو به. قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} 1. أي: من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسيًّا كان أو جنيًّا أو هامة أو دابة، أو ريحًا أو صاعقة، أي نوع كان من أنواع البلاء في

_ 1 سورة الفلق آية: 2.

الدنيا والآخرة. وما ههنا موصولة ليس إلا، وليس المراد بها العموم الإطلاقي، بل المراد التقييدي الوصفي والمعنى من شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر كل ما خلقه الله تعالى، فإن الجِنة والملائكة والأنبياء ليس فيهم شر، هذا معنى كلام ابن القيم. قال: والشر يقال على شيئين على الألم وعلى ما يفضي إليه. قوله: "لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك". قال القرطبي: هذا خبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلاً وتجربة، فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شيء إلى أن تركته، فلدغتني عقرب بالمهدية1 ليلاً، فتفكرت في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات. قال المصنف: فيه فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.

_ 1 مدينة قرب القيروان في شمالِها، وتقع الآن في الجمهورية التّونسية، اختطّها المهديُّ رأسُ الدّولة العُبيدية المشهورة بالفاطمية.

باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

[8- باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره] ش: قال شيخ الإسلام: الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون. وقال غيره: الفرق بين الاستغاثة والدعاء: أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب كما قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 1. وقال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 2.والدعاء أعم من الاستغاثة لأنه يكون من المكروب وغيره، فعلى هذا عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. وقال أبو السعادات: الإغاثة: الإعانة، فعلى هذا تكون الاستغاثة هي الاستعانة. ولا ريب أن من استغاثك فأغثته فقد أعنته، إلا أن لفظ الاستغاثة مخصوص بطلب العون في حالة الشدة، بخلاف الاستعانة.

_ 1 سورة القصص آية: 15. 2 سورة الأنفال آية: 9.

وقوله: "أو يدعو غيره". المراد بالدعاء هنا. هو دعاء المسألة فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فإن ذلك شرك لما سيذكره المصنف من الآيات. واعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة كما حققه غير واحد منهم: شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما، ويراد به في القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان. فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، فالمعبود لا بد أن يكون مالكًا للنفع والضر، ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرًّا ولا نفعًا كقوله: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1. وقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2. وذلك كثير في القرآن يبين أن المعبود لا بد وأن يكون مالكًا للنفع والضر، فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعى خوفًا ورجاء دعاء العبادة، فعلم أن النوعين متلازمان. فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة. وبهذا التحقيق يندفع عنك ما يقوله عباد القبور إذ احتج عليهم بما ذكر الله في القرآن من الأمر بإخلاص الدعاء له. قالوا: المراد به العبادة، فيقولون في مثل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 3. أي: لا تعبدوا مع الله أحدًا، فيقال لهم: وإن أريد به دعاء العبادة، فلا ينفي أن يدخل دعاء المسألة في العبادة، لأن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، هذا لو لم يرد في دعاء المسألة بخصوصه من القرآن إلا الآيات التي ذكر فيها دعاء العبادة. فكيف وقد ذكر الله في القرآن في غير موضع. قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 4. وقال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} 5.

_ 1 سورة المائدة آية: 76. 2 سورة يونس آية: 18. 3 سورة الجن آية: 18. 4 سورة الأعراف آية: 55. 5 سورة الأعراف آية: 56.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} 1. وقال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} 2. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 3. وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} 4. وقال تعالى: عن إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} 5. وقال عنه أيضًا: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } 6. وقال تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} 7.8. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 9. وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الأِنْسَانُ كَفُوراً} 10. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 11. وقال تعالى عن زكريا عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} 12. وقال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} 13. وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 14. فكفى بهذه الآيات نجاة وحجة وبرهانًا في الفرق بين التوحيد والشرك عمومًا وفي هذه المسألة خصوصًا. وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} 15. وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 16. وقال تعالى:

_ 1 سورة آل عمران آية: 135. 2 سورة النساء آية: 32. 3 سورة آية: 40-41. 4 سورة الرعد آية: 14. 5 سورة إبراهيم آية: 39. 6 سورة آية: 48-49. 7 سورة النحل آية: 53. 8 سورة النحل آية: 53-54. 9 سورة الإسراء آية: 56. 10 سورة الإسراء آية: 67. 11 سورة الإسراء آية: 110. 12 سورة مريم آية: 4. 13 سورة القصص آية: 64. 14 سورة العنكبوت آية: 65. 15 سورة العنكبوت آية: 17. 16 سورة الزمر آية: 8.

{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 1. وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 2. وغير ذلك من الآيات. وفي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى، منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم" 3. رواه مسلم "وقوله صلى الله عليه وسلم ينْزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ثم يقول: من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " 4. رواه البخاري ومسلم. وقوله: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" 5 رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان، والحاكم وصححه. وقوله: "من لم يدع الله يغضب عليه" 6 رواه أحمد وابن أبي شيبة والحاكم وقوله: "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل" 7. رواه الترمذي، وقوله: "الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض". رواه الحاكم وصححه8. وقوله: "الدعاء هو العبادة" 9. رواه أحمد والترمذي. وفي حديث آخر: "الدعاء مخ العبادة" 10. رواه الترمذي. وقوله لما سئل: "أي العبادة أفضل؟ قال: دعاء المرء لنفسه". رواه البخاري في "الأدب"11. وقوله: "لن ينفع حذر من قدر ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينْزل فعليكم بالدعاء يا عباد الله" 12. رواه أحمد. وقوله: "سلوا الله كل شيء

_ 1 سورة فاطر آية: 13-14. 2 سورة غافر آية: 60. 3 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2495) , وابن ماجه: الزهد (4257) , وأحمد (5/154 ,5/160 ,5/177) . 4 البخاري: الجمعة (1145) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504 ,2/521) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479) . 5 الترمذي: الدعوات (3370) , وابن ماجه: الدعاء (3829) , وأحمد (2/362) . 6 الترمذي: الدعوات (3373) , وابن ماجه: الدعاء (3827) , وأحمد (2/477) . 7 الترمذي: الدعوات (3571) . 8 موضوع، الجامع [300] . 9 البخاري: الزكاة (1461) , ومسلم: الزكاة (998) , والترمذي: تفسير القرآن (2997) , والنسائي: الأحباس (3602) , وأبو داود: الزكاة (1689) , وأحمد (3/141) , ومالك: الجامع (1875) , والدارمي: الزكاة (1655) . 10 مسلم: الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863) . 11 موضوع، الجامع [1008] . 12 البخاري: الإيمان (36) وفرض الخمس (3123) والتوحيد (7457 ,7463) , ومسلم: الإمارة (1876) , والنسائي: الجهاد (3122 ,3123) والإيمان وشرائعه (5029 ,5030) , وابن ماجه: الجهاد (2753) , وأحمد (2/231 ,2/384 ,2/399 ,2/424 ,2/494) , ومالك: الجهاد (974) , والدارمي: الجهاد (2391) .

حتى الشسع1 إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر" رواه أبو يعلى بإسناد صحيح. وقوله: "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع وحتى يسأله الملح" 2. رواه البزار بإسناد صحيح. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء علمت أن الإجابة معه". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " أفضل العبادة الدعاء وقرأ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " رواه ابن المنذر والحياكم وصححه. "وقال مطرف: تذكرت ما جماع الخير؟ فإذا الخير كثير، الصلاة والصيام، وإذا هو في يد الله تعالى، وإذا أنت لا تقدر على ما في يد الله إلا أن تسأله فيعطيك". رواه أحمد. [في الزّهد] . والأحاديث والآثار في ذلك لا يحيط بها إلا الله تعالى. فثبت بهذا أن الدعاء عبادة من أجل العبادات، بل هو أكرمها على الله كما تقدم، فإن لم يكن الإشراك فيه شركًا، فليس في الأرض شرك، وإن كان في الأرض شرك فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركًا من الإشراك في غيره من أنواع العبادة، بل الإشراك في الدعاء - هو أكبر شرك المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم يدعون الأنبياء والصالحين والملائكة، ويتقربون إليهم ليشفعوا لهم عند الله، ولهذا يخلصون في الشدائد لله وينسون ما يشركون، حتى جاء أنهم إذا جاءتهم الشدائد في البحر يلقون أصنامهم في البحر ويقولون: يا الله يا الله، لعلمهم أن آلهتهم لا تكشف الضر ولا تجيب المضطر. وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ

_ 1 الشِّسْعُ: أحد سُيور النّعل. هو الي يُدخَل بين الإصبعين، ويُدخَل طرفه في الثّقب الذي في صدر النّعل المشدود في الزّمام. والزّمام السَّير الذي يُعقَد فيه الشّسع. 2 البخاري: الجهاد والسير (2896) , وأحمد (1/173) .

الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 1. فهم كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده، وأن آلهتهم ليس عندها شيء من ذلك، ولهذا احتج سبحانه وتعالى عليهم بذلك أنه هو الإله الحق، وعلى بطلان إلهية ما سواه. وقال تعالى:: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 2.فهذه حال المشركين الأولين. وأما عباد القبور اليوم فلا إله إلا الله، كم ذا بينهم وبين المشركين الأولين من التفاوت العظيم في الشرك، فإنهم إذا أصابتهم الشدائد برًّا وبحرًا أخلصوا لآلهتهم وأوثانهم التي يدعونها من دون الله، وأكثرهم قد اتخذ ذكر إلهه وشيخه ديدنه، وهجيراه إن قام وإن قعد وإن عثر. هذا يقول: يا علي [الشّاذلي] ، وهذا يقول: يا عبد القادر [الجيلاني] ، وهذا يقول: يا ابن علوان، وهذا يدعو البدوي، وهذا يدعو العيدروس. وبالجملة ففي كل بلد في الغالب أناس يدعونهم ويسألونهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات. بل بلغ الأمر إلى أن سألوهم مغفرة الذنوب، وترجيح الميزان، ودخول الجنة والنجاة من النار، والتثبيت عند الموت والسؤال، وغير ذلك من أنواع المطالب التي لا تطلب إلا من الله. وقد يسألون ذلك من أناس يدعون الولاية، وينصبون أنفسهم لهذه الأمور وغيرها من أنواع النفع والضر التي هي خواص الإلهية، ويلفقون لهم من الأكاذيب في ذلك عجائب. منها أنهم يدعون أنهم يخلصون مَنِ اْلَتَجَأَ إليهم وَلاَذَ بِحماهم من النار والعذاب، فيقول أحدهم: إنه يقف عند النار فلا يدع أحدًا ممن يرتجيه ويدعوه يدخلها أو نحو هذا، وقد قال تعالى لسيد المرسلين صلى الله عليه وعليهم أجمعين: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} 3. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر على تخليص أحد من النار، فكيف بغيره، بل كيف بمن يدعي نفسه

_ 1 سورة النمل آية: 62. 2 سورة العنكبوت آية: 65. 3 سورة الزمر آية: 19.

أنه هو يفعل ذلك؟! ومنها أن أكثرهم يلفق حكايات في أن بعض الناس استغاث بفلان فأغاثه، أو دعا الولي الفلاني فأجابه، أو في كربة ففرج عنه، وعند عباد القبور من ذلك شيء كثير من جنس ما عند عباد الأصنام الذين استولت عليهم الشياطين، ولعبوا بهم لعب الصبيان بالكرة. ويوجد شيء من ذلك في أشعار المادحين لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم الذين جاوزوا الحد في مدحه صلى الله عليه وسلم وعصوه في نهيه من الغلو فيه، وإطرائه كما أطرت النصارى ابن مريم، وصار حظهم منه صلى الله عليه وسلم هو مدحه بالأشعار والقصائد، والغلو الزائد، مع عصيانهم له في أمره ونهيه، فتجد هذا النوع من أعصى الخلق له صلوات الله عليه وسلامه. ويقع من ذلك كثير في مدح غيره، فإن عباد القبور لا يقتصرون على بعض من يعتقدون فيه الضر والنفع، بل كل من ظنوا فيه ذلك بَالَغُوا في مدحه وأنزلوه منْزلة الربوبية وصرفوا له خالص العبودية، حتى إنهم إذا جاءهم رجل وادعى أنه رأى رؤيا مضمونها أنه دفن في المحل الفلاني رجل صالح، بادروا إلى المحل وبنوا عليه قبة وزخرفوها بأنواع الزخارف، وعبدوها بأنواع من العبادات. وأما القبور المعروفة أو المتوهمة، فأفعالهم معها وعندها لا يمكن حصره، فكثير منهم إذا رأوا القباب التي يقصدونها كشفوا الرؤوس فنَزلوا عن الأكوار، فإذا أتوها طافوا بها واستلموا أركانها، وتمسحوا بها، وصلوا عندها ركعتين، وحلقوا عندها الرؤوس ووقفوا باكين متذللين متضرعين سائلين مطالبهم، وهذا هو الحج، وكثير منهم يسجدون لها إذا رأوها، ويعفرون وجوههم في التراب تعظيمًا لها، وخضوعًا لمن فيها، فإن كان للإنسان منهم حاجة من شفاء مريض أو غير ذلك، نادى صاحب القبر، يا سيدي فلان جئتك قاصدًا من مكان بعيد، لا تخيبني، وكذلك إذا قحط المطر، أو عقرت المرأة عن الولد، أو دهمهم عدو أو جراد، فزعوا إلى صاحب القبر، وبكوا عنده فإن

جرى المقدور بحصول شيء مما يريدون، استبشروا وفرحوا ونسبوا ذلك إلى صاحب القبر، فإن لم يتيسر شيء من ذلك اعتذروا عن صاحب القبر بأنه إما غائب في مكان آخر، أو ساخط لبعض أعمالهم، أو أن اعتقادهم في الولي ضعيف، أو أنهم لم يعطوه نذره ونحو هذه الخرافات. ومن بعض أشعار المادحين لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم قول البوصيري: 152 يا أكرم الخلق ما لي مَنْ أَلُوذُ به ... سواك عند حلول الحادث العمم. 153 ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذا الكريم تجلى باسم منتقم. 146 فإن لي ذمة منه بتسميتي ... محمدًا وهو أوفى الخلق بالذمم. 147 إن لم يكن في معادي آخذًا بيدي ... فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم. فتأمل ما في هذه الأبيات من الشرك. منها. أنه نفى أن يكون له ملاذًا إذا حلت به الحوادث، إلا النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو. الثاني. أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه، وسأل منه هذه المطالب التي لا تُطْلَبُ إلا من الله، وذلك هو الشرك في الإلهية. الثالث. سؤاله منه أن يشفع له في قوله: ولن يضيق رسول الله. البيت. وهذا هو الذي أرادها المشركون ممن عبدوه، وهو الجاه والشفاعة عند الله، وذلك هو الشرك وأيضًا فإن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله فلا معنى لطلبها من غيره، فإن الله تعالى هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لأن الشافع يشفع ابتداء. الرابع. قوله: فإن لي ذمة. إلى آخره. كذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فليس بينه وبين من اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة، لا بمجرد الإشراك في الاسم مع الشرك. الخامس. قوله: إن لم يكن في معادي. البيت. تناقض

عظيم وشرك ظاهر، فإنه طلب أولاً أن لا يضيق به جاهه، ثم طلب هنا أن يأخذ بيده فضلاً وإحسانًا، وإلاّ فيا هلاكه! فيقال: كيف طلبت منه أولاً الشفاعة ثم طلبت منه هنا أن يتفضل عليك؟! فإن كنت تقول: إن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله، فكيف تدعو النبي صلى الله عليه وسلم وترجوه وتسأله الشفاعة؟! فهلا سألتها مَنْ له الشفاعة جميعًا الذي له ملك السموات والأرض الذي لا تكون الشفاعة إلا من بعد إذنه، فهذا يبطل عليك طلب الشفاعة من غير الله. وإن قلت: ما أريد إلا جاهه، وشفاعته بإذن الله. قيل: فكيف سألته أن يتفضل عليك ويأخذ بيدك في يوم الدين، فهذا مضاد لقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} 1. فكيف يجتمع في قلب عبد الإيمان بهذا وهذا؟! وإن قلت: سألته أن يأخذ بيدي، ويتفضل علي بجاهه وشفاعته. قيل: عاد الأمر إلى طلب الشفاعة من غير الله، وذلك هو محض الشرك. السادس. في هذه الأبيات من التبري من الخالق - تعالى وتقدس - والاعتماد على المخلوق في حوادث الدنيا والآخرة ما لا يخفى علىمؤمن، فأين هذا من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2. وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 3. وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} 4. وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} 5.

_ 1 سورة الانفطار آية: 19-20-. 2 سورة الفاتحة آية: 5. 3 سورة التوبة آية: 129. 4 سورة الفرقان آية: 58. 5 سورة الجنّ آية: 21-23.

فإن قيل: هو لم يسأله أن يتفضل عليه، وإنما أخبر أنه إن لم يدخل في عموم شفاعته فيا هلاكه. قيل: المراد بذلك سؤاله، وطلب الفضل منه، كما دعاه أول مرة وأخبر أنه لا ملاذ له سواه، ثم صرح بسؤال الفضل والإحسان بصيغة الشرط والدعاء، والسؤال كما يكون بصيغة الطلب يكون بصيغة الشرط كما قال نوح عليه السلام: {إِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. ومن شعر البرعي قوله: ماذا تعامل يا شمس النبوة من ... أضحى إليك من الأشواق في كبدي فامنع جناب صريع لا صريخ له ... نائي المزار غريب الدار مبتعد. حليف ودك واه الصبر منتظر ... لغارة منك يا ركني ويا عضدي. أسير ذنبي وزلاتي ولا عمل ... أرجو النجاة به إن أنت لم تجد. وجرى في شركه إلى أن قال: وحُلَ عقدة كربي يا محمد من ... هم على خطرات القلب مطرد. أرجوك في سكرات الموت تشهدني ... كيما يهون إذ الأنفاس في صعد وإن نزلت ضريحا لا أنيس به ... فكن أنيس وحيد فيه منفرد. وارحم مؤلفها عبد الرحيم ومن ... يليه من أجله وانعشه وافتقد. وإن دعا فأجبه واحم جانبه ... من حاسد شامت أو ظالم نكد وقوله من أخرى: يا رسول الله يا ذا الفضل يا ... بهجة في الحشر جاها ومقاما. عد على عبد الرحيم الملتجي ... بحمى عزك يا غوث اليتامى. وأقلني عثرتي يا سيدي ... في اكتساب الذنب في خمسين عاما. وقوله: يا سيدي يا رسول الله يا أملي ... يا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني. هبني بجاهك ما قدمت من زلل ... جودًا ورجح بفضل منك ميزاني. واسمع دعائي واكشف ما يساورني ... من الخطوب ونفس كل أحزاني.

_ 1 سورة هود آية: 47.

فأنت أقرب من ترجى عواطفه ... عندي وإن بعدت داري وأوطاني. إني دعوتك من "نيابتي برع" ... وأنت أسمع من يدعوه ذو شان. فامنع جنابي وأكرمني وصل نسبي ... برحمة وكرامات وغفران. لقد أنسانا هذا ما قبله، وهذا بعينه هو الذي ادعته النصارى في عيسى عليه السلام، إلا أن أولئك أطلقوا عليه اسم الإله، وهذا لم يطلقه ولكن أتى بلباب دعواهم وخلاصتها، وترك الاسم، إذ في الاسم نوع تمييز، فرأى الشيطان أن الإتيان بالمعنى دون الاسم أقرب إلى ترويج الباطل، وقبوله عند ذوي العقول السخيفة، إذ كان من المتقرر عند الأمة المحمدية أن دعوى النصارى في عيسى عليه السلام كفر. فلو أتاهم بدعوى النصارى اسما ومعنى لردوه وأنكروه، فأخذ المعنى وأعطاه البرعي وأضرابه، وترك الاسم للنصارى وإلا فما ندري ماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث للخالق تعالى وتقدس من سؤال مطلب أو تحصيل مأرب، فالله المستعان. وهذا كثير جدًّا في أشعار المادحين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حجة أعداء دينه الذين يجوزون الشرك بالله، ويحتجون بأشعار هؤلاء، ولم يقتصروا أيضًا على طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بل يطلبون مثل ذلك من غيره، كما حدث بعض الثقاة أنه رأى في رابية صاحب مشهد من المشاهد: هذه راية البحر التيار، به أستغيث، وأستجير، وبه أعوذ من النار. وقال بعضهم في قصيدة في بعض آلهتهم: يا سيدي يا صفي الدين يا سندي ... يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري أنت الملاذ لما أخشى ضرورته ... وأنت لي ملجأ من حادث الدهر. إلى أن قال: وامنن علي بتوفيق وعافية ... وخير خاتمة مهما انقضى عمري. وكف عنا أكف الظالمين إذا ام ... تدت بسوء لأمر مؤلم نكر. فإنني عبدك الراجي بودك ما ... أملته يا صفي السادة الغرر.

قال بعض العلماء: فلا ندري أي معنى اختص به الخالق تعالى بعد هذه المنزلة، وماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث لخالقه من الأمر، فإن المشركين أهل الأوثان ما يؤهلون من عبدوه لشيء من هذا. انتهى. وكثير من عباد القبور ينادون الميت من مسافة شهر وأكثر يسألونه حوائجهم، ويعتقدون أنه يسمع دعاءهم ويستجيب لهم، وتسمع عندهم حال ركوبهم البحر واضطرابه من دعاء الأموات والاستغاثة بهم ما لا يخطر على بال، وكذلك إذا أصابتهم الشدائد، من مرض، أو كسوف، أو ريح شديدة، أو غير ذلك، فالولي في ذلك نصب أعينهم، والاستغاثة به هي ملاذهم، ولو ذهبنا نذكر ما يشبه هذا لطال الكلام. إذا عرفت هذا، فقد تقدم ذكر دعاء المسألة. [كلام العلماء في الغلو والمغالين] وأما دعاء العبادة، فهو عبادة الله تعالى بأنواع العبادات، من الصلاة، والذبح، والنذر، والصيام، والحج وغيرها، خوفًا وطمعًا، يرجو رحمته، ويخاف عذابه، وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب، فالعابد الذي يريد الجنة ويهرب من النار، وهو سائل راغب راهب. يرغب في حصول مراده، ويذهب من فواته، وهو سائل لما يطلبه بامتثال الأمر في فعل العبادة، وقد فسر قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 1. بهذا. وهذا قيل: اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم، وقيل: سلوني أعطكم، وعلى هذا القول تدل الأحاديث والآثار. إذا تبين ذلك، فاعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئًا من نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك، ولو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وصلى وصام، إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعبد إلا الله، فمن أتى بالشهادتين وعبد غير الله فما أتى بهما حقيقة وإن تلفظ بهما كاليهود الذين يقولون: لا إله إلا الله وهم

_ 1 سورة غافر آية: 60.

مشركون، ومجرد التلفظ بهما لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعًا. ذكر شيء من كلام العلماء في ذلك وإن كنا غنيين بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم عن كل كلام، إلا أنه قد صار بعض الناس منتسبًا إلى طائفة معينة، فلو أتيته بكل آية من كتاب الله وكل سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل حتى تأتيه بشيء من كلام العلماء، أو بشيء من كلام طائفته التي ينتسب إليها. قال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي صاحب كتاب "الفنون" الذي ألفه في نحو أربعمائة مجلد، وغيره من التصانيف. قال في الكتاب المذكور: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار لهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، أو إلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى. نقله غير واحد، مقررين له، راضين به، منهم الإمام أبو الفرج بن الجوزي، الإمام ابن مفلح صاحب كتاب "الفروع" وغيرهما. وقال شيخ الإسلام في "الرسالة السنية": فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان أيضًا قد يمرق أيضًا من الإسلام وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ... } 1. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح عليه السلام، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعًا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو

_ 1 سورة النساء آية: 171.

هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يدعى معه إله آخر والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم، يقولون: إنما {نَعْبُدُهُمْ ... لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1. ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2. فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. انتهى. وقد نص الحافظ أبو بكر أحمد بن علي المقريزي صاحب كتاب "الخطط" في كتاب له في التوحيد على أن دعاء غير الله شرك. وقال شيخ الإسلام: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم يدعوهم ويسألهم، كفر إجماعًا، نقله عنه غير واحد مقررين له، منهم ابن مفلح في "الفروع" وصاحب "الإنصاف [المرداوي] " وصاحب "الغاية [مرعي الكرمي] " وصاحب "الإقناع [الحجاوي] " وشارحه [البهوتي] ، وغيرهم، ونقله صاحب "القواطع [ابن حجر الهيثمي] " في كتابه عن صاحب "الفروع". قلت: وهو إجماع صحيح معلوم بالضرورة من الدين، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم في باب حكم المرتد، على أن من أشرك بالله فهو كافر، أي: عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادات. وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن دعاء الله عبادة له، فيكون صرفه لغير الله شركًا. وقال الإمام ابن النحاس الشافعي في كتاب "الكبائر": ومنها إيقادهم السرج عند الأحجار، والأشجار والعيون، والآبار، ويقولون: إنها تقبل النذر، وهذه كلها بدع شنيعة ومنكرات قبيحة تجب

_ 1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة يونس آية: 18.

إزالتها ومحو أثرها، فإن أكثر الجهال يعتقدون أنها تنفع وتضر، وتجلب وتدفع، وتشفي المرض وترد الغائب، إذا نذر لها، وهذا شرك ومحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم. قلت: فصرح رحمه الله أن الاعتقاد في هذه الأمور أنها تضر وتنفع وتجلب، وتدفع، وتشفي المريض وترد الغائب إذا نذر لها، أن ذلك شرك، وإذا ثبت أنه شرك، فلا فرق في ذلك بين اعتقاده في الملائكة والنبيين، ولا بين اعتقاده في الأصنام والأوثان، إذ لا يجوز الإشراك بين الله تعالى وبين مخلوق فيما يختص بالخالق سبحانه، كما قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1 وهذا بعينه هو الذي يعتقده من دعا الأنبياء والصالحين، ولهذا يسألونهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وشفاء ذوي الأمراض والعاهات، فثبت أن ذلك شرك. وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في "شرح المنازل" ومن أنواعه أي: الشرك، طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، فضلاً لمن استغاث به أو سأله أن يشفع إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله سبحانه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله سبحانه لم يجعل سؤال غيره سببًا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، والميت محتاج إلى من يدعو له، كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، وندعو لهم، ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانًا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق سبحانه بالشرك وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به

_ 1 سورة آل عمران آية: 80.

غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان. وما أكثر المستجيبين لهم! ولله در خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1. وما نجا مَنْ أشرك بهذا الشرك الأكبر، إلا مَنْ جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله. وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي في رده على السبكي وقوله: أي: قول السبكي: إن المبالغة في تعظيمه، أي تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة: إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيمًا، حتى الحج إلى قبره، والسجود له، والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء، فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين. قلت: هذا هو اعتقاد عباد القبور فيمن هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم فضلاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم بعض ذلك، والأمر أعظم وأطم من ذلك. وفي "الفتاوى البزازية" من كتب الحنفية، قال علماؤنا: من قال: أرواح المشايخ حاضرة تعلم، يكفر. فإن أراد بالعلماء علماء الشريعة فهو حكاية للإجماع على كفر معتقد ذلك، وإن أراد علماء الحنفية خاصة، فهو حكاية لاتفاقهم على كفر معتقد ذلك، وعلى التقديرين تأمله تجده صريحًا في كفر من دعا أهل القبور، لأنه ما دعاهم حتى اعتقد أنهم يعلمون ذلك، ويقدرون على إجابة سؤاله، وقضاء مأموله. وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفًا على الحياة وبعد الممات في سبيل

_ 1 سورة إبراهيم آية: 35-36.

الكرامة: هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهممهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم، وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، وقالوا: منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيها الأجور. قال: وهذا الكلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة. وفي التنْزيل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1، إلى أن قال: الفصل الأول فيما انتحلوه من الإفك الوخيم والشرك العظيم. إلى أن قال: فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، فيرده قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 2، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 3، {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 4، ونحوه من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه، فالكل تحت ملكه وقهره تصرفًا وملكًا، وإحياء وإماتة، وخلقًا، وتمدح الرب سبحانه بانفراده في ملكه بآيات من كتابه كقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 5. {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 6. وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فقوله في الآيات كلها {مِنْ دُونِهِ} ، أي: من غيره، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي وشيطان تستمده، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره، إلى أن قال: فكيف يتصور لغيره من ممكن أن يتصرف، إن هذا من السفاهة لقول وخيم، وشرك عظيم، إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد

_ 1 سورة النساء آية: 115. 2 سورة النمل آية: 60. 3 سورة الأعراف آية: 54. 4 سورة آل عمران آية: 189. 5 سورة فاطر آية: 3. 6 سورة فاطر آية: 13.

الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة. قال جل ذكره: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 1، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} 2، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 3، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 4. وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله" 5. الحديث، فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك أن ليس للميت تصرفًا في ذاته فضلاً عن غيره بحركة، وأن روحه محبوسة مرهونة بعملها من خير وشر، فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره؟! فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة. قل أأنتم أعلم أم الله؟. قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات، فهو من المغالطة، لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياءه، لا قصد لهم فيه ولا تحدي، ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني. قال: وأما قولهم: فيستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله، وأبدع لمصادمته قوله جل ذكره: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 6، {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 7. وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال: فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المتعين لكشف الشدائد والكرب وأنه المتفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، والقادر على إيصال الخير، فهو المنفرد بذلك فإذا تعين هو جل ذكره، خرج غيره من ملك ونبي وولي. قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوه كقولهم: يا لزيد

_ 1 سورة الزمر آية: 30. 2 سورة الزمر آية: 42. 3 سورة آل عمران آية: 185. 4 سورة المدثر آية: 38. 5 مسلم: الوصية (1631) , والترمذي: الأحكام (1376) , والنسائي: الوصايا (3651) , وأبو داود: الوصايا (2880) , وأحمد (2/372) , والدارمي: المقدمة (559) . 6 سورة النمل آية: 62. 7 سورة الأنعام آية: 63.

يا لقوم يا للمسلمين كما ذكروا ذلك في كتب النحو بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد، كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه، فمن خصائص الله، فلا يطلب فيها غيره. قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية والجهال، وينادونهم ويستنجدون بهم، فهذا من المنكرات، إلى أن قال: فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربه أو قضاء حاجته تأثيرًا، فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير. وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشا لله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة، فهذا ظن أهل الأوثان كذا أخبر الرحمن {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2، {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} 3. فإنَّ ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نَبِيٍّ وولي وغيره على وجه الإمداد منه إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره قال: وأما ما قالوه: من أن منهم أبدالاً ونقباء، وأوتادًا ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، فهذا من موضوعات إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في "سراج المريدين" وابن الجوزي وابن تيمية. انتهى باختصار. ومثل هذا يوجد في كلام غيرهم من العلماء، والمقصود أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور ويبينون أنها شرك، وإن كان بعض المتأخرين ممن ينتسب إلى العلم والدين ممن أصيب في عقله ودينه قد يُرَخِّصُ في بعض هذه الأمور، وهو مخطئ في ذلك، ضال مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، فكل أحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا قول ربنا، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لا

_ 1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 سورة يس آية: 23.

يتطرق إليه الخطأ بحال، بل واجب على الخلق اتباعه في كل زمان، على أنه لو أجمع المتأخرون على جواز هذا لم يعتد بإجماعهم المخالف لكلام الله وكلام رسوله في محل النّزاع، لأنه إجماع غير معصوم، بل هو من زلة العالم التي حُذِّرْنَا من اتباعها، وأما الإجماع المعصوم، فهو إجماع الصحابة والتابعين وما وافقه، وهو السواد الأعظم الذي ورد الحث على اتباعه وإن لم يكن عليه إلا الغرباء الذين أخبر بهم صلى الله عليه وسلم في قوله: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء" 1 رواه مسلم، لا ما كان عليه العوام والطغام، والخلف المتأخرون الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. [النفع والضر من الله وحده] قال: وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ... } 2. ش: قال ابن عطية: معناه قيل لي: ولا تدع، فهو عطف على "أقم" وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت هكذا، فأحرى أن يحذر من ذلك غيره. وقال غيره: {فَإِنْ فَعَلْتَ} معناه: فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، فكنى عنه بالفعل إيجازًا، {فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} ، إذًا جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر، كأن سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان، وجُعِلَ من الظالمين، لأنه لا ظلم أعظم من الشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 3. قلت: حاصل كلام المفسرين أن الله تعالى نهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو من دونه ما لا ينفعه ولا يضره، والمراد به كل ما سوى الله، فإنهم لا ينفعون ولا يضرون وسواء في ذلك الأنبياء والصالحون وغيرهم، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 4. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك

_ 1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . 2 سورة يونس آية: 106-107. 3 سورة لقمان آية: 13. 4 سورة الجن آية: 18.

بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" 1 رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح. وفي الآية تنبيه على أن المدعو لا بد أن يكون مالكًا للنفع والضر حتى يعطي من دعاه أو يبطش بمن عصاه، وليس ذلك إلا لله وحده، فتعين أن يكون هو المدعو دون ما سواه، والآية شاملة لنوعي الدعاء. وقوله: {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} أي المشركين، وهذا كقوله: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 2. وقوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3. وقوله في الأنعام: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4. فإذا كان هذا الأمر لا يصدر من الأنبياء وحاشاهم من ذلك لم يفكوا أنفسهم من عذاب الله، فما ظنك بغيرهم؟! فلم يبق شيء يقرب إلى الله ويباعد من سخطه إلا توحيده والعمل بما يرضاه، لا الاعتماد على شخص أو قبر أو صنم أو وثن أو مال أو غير ذلك من الأسباب {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 5 والآية. نص في أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك أكبر، ولهذا قال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 6؛ لأنه المتفرد بالملك والقهر والعطاء والمنع، ولازم ذلك إفراده بتوحيد الإلهية لأنهما متلازمان، وإفراده بسؤال كشف الضر وجلب الخير، لأنه لا يكشف الضر إلا هو، ولا يجلب الخير إلا هو {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 7. فتعين أن لا يدعى لذلك إلا هو، وبطل دعاء من سواه ممن لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا فضلاً عن غيره، وهذا ضد ما عليه عباد القبور، فإنهم يعتقدون أن الأولياء والطواغيت الذي يسمونهم

_ 1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293 ,1/303 ,1/307) . 2 سورة الشعراء آية: 213. 3 سورة الزمر آية: 65. 4 سورة الأنعام آية: 88. 5 سورة المؤمنون آية: 117. 6 سورة يونس آية: 107. 7 سورة فاطر آية: 2.

المجاذيب ينفعون ويضرون ويمسون بالضر ويكشفونه، وأن لهم التصرف المطلق في الملك، أي: على سبيل الكرامة، وهذا فوق شرك كفار العرب، وإما على سبيل الوساطة بينهم وبين الله بالشفاعة وهذا شرك الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1.وفي الآية دليل على أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين. ذكره المصنف. وقوله: {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ، فلا يرده عنه راد، لأنه العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، فأي فائدة في دعاء غيره لشفاعة أو غيرها؟ فإنه تعالى فعال لما يريد، لا يغنيه عنه شفيع ولا غيره، بل لا يتكلم أحد عنده إلا بإذنه، ولا يشفع أحد إلا بإذنه {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 2. وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي لمن تاب إليه وأقبل عليه حتى ولو كان من الشرك. قال: وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} 3. ش: أمر الله تعالى بابتغاء الرزق عنده لا عند غيره ممن لا يملك رزقًا من الأوثان والأصنام وغيرها، كما قال في أولا الآية: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} ، [العنكبوت، من الآية: 17] . قال ابن كثير: وهذا أبلغ في الحصر كقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 4. {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} 5. ولهذا قال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} 6. أي: لا عند غيره لأنه المالك له وغيره لا يملك شيئًا من ذلك {فَاعْبُدُوهُ} ، أي: أخلصوا له العبادة وحده لا شريك له {وَاشْكُرُوا لَهُ} أي: على ما أنعم عليكم {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، أي: فيجازي كل عامل بعمله. قلت: في الآية الرد على المشركين الذين يدعون غير الله

_ 1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة السجدة آية: 4. 3 سورة العنكبوت آية: 17. 4 سورة الفاتحة آية: 5. 5 سورة التحريم آية: 11. 6 سورة العنكبوت آية: 17.

ليشفعوا لهم عنده في جلب الرزق، فما ظنك بمن دعاهم أنفسهم، واستغاث بهم ليرزقوه وينصروه كما هو الواقع من عباد القبور؟ . وقال المصنف: وفيه أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه. قال: وقوله {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ، [الأحقاف الآيتان: 5-6] . ش: حاصل كلام المفسرين أن الله تعالى حكم بأنه لا أضل ممن يدعو من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة واستغاثة من هذه حاله. ومعنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالاً ممن عبد غير الله ودعاه، حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كل بغية ومرام، ويدعون من دونه من لا يستجيب لهم، ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دام في الدنيا وإلى أن تقوم القيامة، كما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} 1 وقوله: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 2.أي لا يشعرون بدعاء من دعاهم، لأنهم إما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم كالملائكة، وإما أموات كالأنبياء والصالحين، وإما أصنام وأوثان. وقوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} 3. أي: إذا قامت القيامة وحشر الناس للحساب عادوهم وكانوا بعبادتهم الدعاء وغيره من أنواع العبادة كافرين، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} 4. فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرة، لا تتولاهم بالاستجابة في الدنيا، وتجحد عبادتهم في الآخرة وهم أحوج ما كانوا إليها. وفي الآيتين مسائل نبه عليها المصنف: أحدها: أنه لا أضل ممن دعا غير الله. الثانية: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه. الثالثة:

_ 1 سورة الرعد آية: 14. 2 سورة الأحقاف آية: 5. 3 سورة الأحقاف آية: 6. 4 سورة مريم آية: 81-82.

أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له. الرابعة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو. الخامسة: كفر المدعو بتلك العبادة. السادسة: أن هذه الأمور هي سبب كونه أضل الناس. [لا يجيب المضطر إلا الله] قال: وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} 1. ش: يقرر تعالى أنه الإله الواحد الذي لا شريك له، ولا معبود سواه مما يشترك في معرفته المؤمن والكافر، لأن القلوب مفطورة على ذلك، فمتى جاء الاضطرار رجعت القلوب إلى الفطرة، وزال ما ينازعها، فالتجأت إليه وأنابت إليه وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} 2 وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 3. ومثل هذا كثير في القرآن. يبين تعالى أنه المدعو عند الشدائد، الكاشف للسوء وحده، فيكون هو المعبود وحده، وكذا قال في هذه الآية: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} 4. أي: من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه والذي لا يكشف ضر المضطرين سواه، ومن المعلوم أن المشركين كانوا يعلمون أنه لا يقدر على هذه الأمور إلا الله وحده، وإذا جاءتهم الشدائد أخلصوا الدعاء لله، كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 5. فتبين أن من اعتقد في غير الله أنه يكشف السوء أو يجيب دعوة المضطر، أو دعاه لذلك فقد أشرك شركًا أكبر من شرك العرب كما هو الواقع من عباد القبور. [تحريم الاستغاثة بغير الله] قال: وروى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين. فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله".

_ 1 سورة النمل آية: 62. 2 سورة النّحل آية: 53-54. 3 سورة الزمر آية: 8. 4 سورة النمل آية: 62. 5 سورة العنكبوت آية: 65.

ش: قوله: (روى الطبراني) ، هو: الإمام الحافظ الثقة، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها. روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الدَّبَرِي وخلق كثير، ومات سنة ستين وثلاثمائة، وقد بيض المصنف لاسم الراوي، وكأنه والله أعلم نقله عن غيره أو كتبه من حفظه، والحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه. قوله: (إنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين) . هذا المنافق لم أقف على تسميته، ويحتمل أن يكون هو عبد الله بن أُبَيّ، فإنه معروف بالأذى للمؤمنين بالكلام في أعراضهم ونحو ذلك، أما أذاهم بنحو ضرب أو زجر، فلا نعلم منافقًا بهذه الصفة. قوله: (فقال بعضهم) . أي: بعض المؤمنين، وهذا البعض القائل لذلك يحتمل أن يكون واحدًا، وأن يكون جماعة، والظاهر أنه واحد، وأظن في بعض الروايات أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. قوله: (قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم) . مرادهم الاستغاثة به فيما يقدر عليه بكف المنافق عن أذاهم، بنحو ضربه أو زجره، لا الاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا الله. قوله: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله" قال بعضهم: فيه التصريح بأنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأمور، وإنما يستغاث بالله. والظاهر أن مراده صلى الله عليه وسلم إرشادهم إلى التأدب مع الله في الألفاظ، لأن استغاثتهم به صلى الله عليه وسلم من المنافق من الأمور التي يقدر عليها، إما بزجره أو تعزيره ونحو ذلك، فظهر أن المراد بذلك الإرشاد إلى حسن اللفظ والحماية منه صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد، وتعظيم الله تبارك وتعالى. فإذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في الاستغاثة به فيما يقدر عليه، فكيف بالاستغاثة به أو بغيره في الأمور المهمة التي لا يقدر عليها أحد إلا الله كما هو جار على ألسنة كثير من الشعراء وغيرهم؟! وقَلَّ من يعرف أن ذلك منكر، فضلاً عن معرفة كونه شركًا.

فإن قلت: ما الجمع بين هذا الحديث وبين قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 1. فإن ظاهر الحديث المنع من إطلاق لفظ الاستغاثة على المخلوق فيما يقدر عليه، وظاهر الآية جوازه. قيل: تحمل الآية على الجواز، والحديث على الأدب والأولى، والله أعلم. وقد تبين بما ذُكِرَ في هذا الباب وشرحه من الآيات والأحاديث وأقوال العلماء أن دعاء الميت والغائب والحاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله والاستغاثة بغير الله في كشف الضر أو تحويله، هو الشرك الأكبر، بل هو أكبر أنواع الشرك، لأن الدعاء مخ العبادة، ولأن من خصائص الإلهية إفراد الله بسؤال ذلك، إذ معنى الإله هو الذي يعبد لأجل هذه الأمور، ولأن الداعي إنما دعوا إلهه عند انقطاع أمله مما سواه، وذلك هو خلاصة التوحيد، وهو انقطاع الأمل مما سوى الله، فمن صرف شيئًا من ذلك لغير الله، فقد ساوى بينه وبين الله، وذلك هو الشرك، ولهذا يقول المشركون لآلهتهم وهم في الجحيم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 2. ولكن لعباد القبور على هذا شبهات، ذكر المصنف كثيرًا منها في "كشف الشبهات" ونحن نذكر هنا ما لم يذكره. فمن ذلك أنهم احتجوا بحديث رواه الترمذي في "جامعه" حيث قال: حدثنا محمود بن غيلان، ثنا عثمان بن عمرو، ثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حُنَيْف "أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ، ويحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت به إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في". قال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من رواية أبي جعفر،

_ 1 سورة القصص آية: 15. 2 سورة الشّعراء آية: 97-98.

وهو غير الخطمي، هكذا رواه الترمذي ورواه النسائي وابن شاهين والبيهقي كذلك، وفي بعض الروايات: "يا محمد إني أتوجه ... " 1 إلى آخره. وهذه اللفظة هي التي تعلق بها المشركون، وليست عند هؤلاء الأئمة. قالوا: فلو كان دعاء غير الله شركًا لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى هذا الدعاء الذي فيه نداء غير الله. والجواب من وجوه: الأول: أن هذا الحديث من أصله وإن صححه الترمذي، فإن في ثبوته نظرًا، لأن الترمذي يتساهل في التصحيح كالحاكم، لكن الترمذي أحسن نقدًا، كما نص على ذلك الأئمة. ووجه عدم ثبوته أنه قد نص أن أبا جعفر الذي عليه مدار هذا الحديث هو غير الخطمي، وإذا كان غيره، فهو لا يعرف، ولعل عمدة الترمذي في تصحيحه أن شعبة لا يروي إلا عن ثقة، وهذا فيه نظر، فقد قال عاصم بن علي: سمعت شعبة يقول: لو لم أحدثكم إلا عن ثقة لم أحدثكم إلا عن ثلاثة، وفي نسخة عن ثلاثين، ذكره الحافظ العراقي، وهذا اعتراف منه بأنه يروي عن الثقة وغيره فينظر في حاله، ويتوقف الاحتجاج به على ثبوت صحته. الثاني: أنه في غير محل النّزاع، فأين طلب الأعمى من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، وتوجهه بدعائه مع حضوره، من دعاء الأموات، والسجود لهم، ولقبورهم، والتوكل عليهم، والالتجاء إليهم في الشدائد والنذر والذبح لهم، وخطابهم بالحوائج من الأمكنة البعيدة: يا سيدي يا مولاي افعل بي كذا؟! فحديث الأعمى شيء، ودعاء غير الله تعالى والاستغاثة به شيء آخر، فليس في حديث الأعمى شيء غير أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، ويشفع له، فهو توسل بدعائه وشفاعته، ولهذا قال في آخره "اللهم فشفعه في". فعلم أنه شفع له.

_ 1 البخاري: الفتن (7056) , والنسائي: البيعة (4149 ,4151 ,4152 ,4153 ,4154) , وابن ماجه: الجهاد (2866) , وأحمد (3/441 ,5/316 ,5/318 ,5/319 ,5/325) , ومالك: الجهاد (977) .

وفي رواية أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فدل الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم شفع له بدعائه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو أن يدعو الله ويسأله قبول شفاعته، فهذا من أعظم الأدلة على أن دعاء غير الله شرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يسأل قبول شفاعته، فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعى. ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يقدر على شفائه إلا بدعاء الله له. فأين هذا من تلك الطوام، والكلام إنما هو في سؤال الغائب أو سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله، أما أن تأتي شخصًا يخاطبك فتسأله أن يدعو لك فلا إنكار في ذلك على ما في حديث الأعمى، فالحديث سواء كان صحيحًا أو لا، وسواء ثبت قوله فيه: يا محمد أو لا، لا يدل على سؤال الغائب، ولا على سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله بوجه من وجوه الدلالات. ومن ادعى ذلك، فهو مفتر على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إن كان سأل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فهو لم يسأل منه إلا ما يقدر عليه، وهو أن يدعو له، وهذا لا إنكار فيه وإن كان توجه به من غير سؤال منه نفسه، فهو لم يسأل منه، وإنما سأل من الله به، سواء كان متوجهًا بدعائه، كما هو نص أول الحديث وهو الصحيح، أو كان متوجهًا بذاته على قول ضعيف، فإن التوجه بذوات المخلوقين، والإقسام بهم على الله بدعة منكرة، لم تأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، والتابعين لهم بإحسان، ولا الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة الدين. قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. وقال أبو يوسف: أكره بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام. وقال القدوري: المسألة بحق المخلوق لا تجوز، فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك أو أنبيائك ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، واختاره العز بن عبد السلام، إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم خاصة إن ثبت الحديث، يشير إلى حديث الأعمى، وقد تقدم أنه على تقدير ثبوته ليس فيه إلا أنه توسل بدعائه لا بذاته.

وقد ورد في ذلك حديث رواه الحاكم في "مستدركه" فأبعد النجعة من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم [عن أبيه عن جدّه عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه، رفع رأسه إلى العرش، فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي". الحديث. وهو حديث ضعيف بل موضوع، لأنه مخالف للقرآن. قال تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. فهذا هو الذي قاله آدم. قال الذهبي في هذا الحديث: أظنه موضوعًا، وعبد الرحمن بن زيد متفق على ضعفه، قال ابن معين: ليس حديثه بشيء. الثالث. أن قوله: يا محمد إني أتوجه إلخ لم تثبت في أكثر الروايات. وبتقدير ثبوتها لا يدل على جواز دعاء غير الله، لأن هذا خطاب لحاضر معين يراه ويسمع كلامه، ولا إنكار في ذلك، فإن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه ما يقدر عليه، فأين هذا من دعاء الغائب والميت لو كان أهل البدع والشرك يعلمون؟! . واحتجوا أيضًا بحديث رواه أبو يعلى وابن السني في "عمل اليوم والليلة" فقال ابن السني: حدثنا أبو يعلى ثنا الحسن بن عمرو بن شقيق ثنا معروف بن حسان أبو معاذ السمرقندي عن سعيد عن قتادة عن أبي بردة عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض [فلاة] فليناد يا عباد الله احبسوا" هكذا في كتاب ابن السني. وفي "الجامع الصغير:" فإن لله عز وجل في الأرض حاضرًا سيحبسه عليكم".والجواب أن هذا الحديث مداره على معروف ابن حسان وهو أبو معاذ السمرقندي. فقوله في الأصل: ثنا أبو معاذ السمرقندي خطأ أظنه من الناسخ. قال ابن عدي: منكر الحديث، وقال الذهبي في "الميزان": قال ابن عدي: منكر الحديث، قد روى عن عمر بن ذر

_ 1 سورة الأعراف آية: 23.

نسخة طويلة كلها غير محفوظة، وقال السيوطي: حديث ضعيف، وأقول: بل هو باطل، إذ كيف يكون عند سعيد عن قتادة، ثم يغيب عن أصحاب سعيد الحفاظ الأثبات مثل يحيى القطان، وإسماعيل بن علية، وأبي أسامة، وخالد بن الحارث، وأبي خالد الأحمر وسفيان، وشعبة، وعبد الوارث، وابن المبارك، والأنصاري، وغندر، وابن أبي عدي ونحوهم، حتى يأتي به هذا الشيخ المجهول المنكر الحديث! فهذا من أقوى الأدلة على وضعه، وبتقدير ثبوته لا دليل فيه، لأن هذا من دعاء الحاضر فيما يقدر عليه كما قال: "فإن لله في الأرض حاضرًا سيحبسه عليكم". واحتجوا أيضًا بحديث رواه الطبراني في "المعجم الكبير" فقال: حدثنا طاهر بن عيسى بن قيرس المصري ثنا أصبغ بن الفرج، ثنا ابن وهب عن أبي سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المديني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف "أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان ابن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك ليقضي لي حاجتي". الحديث. والجواب من وجوه: الأول: أن راوية طاهر بن عيسى ممن لا يعرف بالعدالة بل هو مجهول، قال الذهبي: طاهر بن عيسى بن قيرس أبو الحسين المصري المؤدب عن سعيد بن أبي مريم، ويحيى بن بكير، وأصبغ بن الفرج. وعنه الطبراني. توفي سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، فهو إذًا مجهول الحال لا يجوز الاحتجاج بخبره، لا سيما فيما يخالف نصوص الكتاب والسنة. الثاني: قوله: عن أبي سعيد المكي أشد جهالة من الأول،

فإن مشايخ ابن وهب المكيين معروفون كداود بن عبد الرحمن، وزمعة بن صالح، وابن عيينة، وطلحة بن عمرو الحضرمي، وابن جريج، وعمر بن قيس، ومسلم بن خالد الزنجي، وليس فيهم من يكنى أبا سعيد، فتبين أنه مجهول. الثالث: إن قلنا بتقدير ثبوته، فليس فيه دليل على دعاء الميت والغائب، غاية ما فيه أنه توجه به في دعائه، فأين هذا من دعاء الميت؟ فإن التوجه بالمخلوق سؤال به لا سؤال منه، والكلام إنما هو في سؤال المخلوق نفسه ودعائه والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا الله، وكل أحد يفرق بين سؤال الشخص، وبين السؤال به، فإنه في السؤال به قد أخلص الدعاء لله، ولكن توجه على الله بذاته أو بدعائه. وأما في سؤاله نفسه ما لا يقدر عليه إلا الله، فقد جعله شريكًا لله في عبادة الدعاء، فليس في حديث الأعمى، وحديث ابن حنيف هذا إلا إخلاص الدعاء لله كما هو صريح فيه، إلا قوله، يا محمد إني أتوجه بك، وهذا ليس فيه المخاطبة لميت فيما لا يقدر عليه، إنما فيه مخاطبته مستحضرًا له في ذهنه كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. الرابع: أنهم زعموا أنه دليل على دعاء كل غائب وميت من الصالحين، فخرجوا عما فهموه من الحديث بفهمهم الفاسد إلى أنه دليل على دعاء كل غائب وميت صالح، ولا دليل فيه أصلاً على دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا في حياته فيما لا يقدر عليه، ثم لو كان فيه دليل على ذلك لم يكن فيه دليل على دعاء الغائب والميت مطلقًا، لأن هذا قياس مع وجود الفارق، وهو باطل بالإجماع، إذ ما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم من الفضائل والكرامات لا يساويه فيه أحد، فلا يجوز قياس غيره عليه، وأيضًا فالقياس إنما يجوز للحاجة ولا حاجة إلى قياس غيره عليه، فبطل قياسهم بنفس مذهبهم، هذا غاية ما احتجوا به مما هو موجود في بعض الكتب

المعروفة، وما سوى هذه الأحاديث الثلاثة فهو مما وضعوه بأنفسهم، كقولهم: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور، وقولهم: لو حسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه. قال ابن القيم: وهو من وضع المشركين عباد الأوثان.

باب قول الله تعالى: {أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون}

[9- باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُم يَنْصُرُونَ} ، [الأعراف الآيتان: 191-192] ش: المراد من هذه الترجمة بيان حال المدعوين من دون الله أنهم لا ينفعون ولا يضرون، وسواء في ذلك الملائكة والأنبياء والصالحون والأصنام، فكل من دعي من دون الله فهذه حاله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 1. ويكفيك في ذلك قوله تعالى لأكرم الخلق: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} 2.وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3. وقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 4.ومن المعلوم أنهم كانوا قد عبدوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن الملائكة أنهم يتبرؤون منهم يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا

_ 1 سورة الحجّ آية: 73-74. 2 سورة الجنّ آية: 21-23. 3 سورة الأعراف آية: 188. 4 سورة الفرقان آية: 3.

يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 1. إذا تبين ذلك فحاصل كلام المفسرين على الآية المترجم لها أن قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 2. توبيخ وتعنيف للمشركين بأنهم يعبدون مع الله تعالى عبادًا لا تخلق شيئًا وليس فيها ما تستحق به العبادة من الخلق والرزق والنصر، لأنفسهم أو لمن عبدهم وهم مع ذلك مخلوقون محدثون ولهم خالق خلقهم، وإن خرج الكلام مخرج الاستفهام، فالمراد به ما ذكرناه. وقوله: {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُم يَنْصُرُونَ} 3. أي: ويشركون به، ويعبدون من هذه حاله لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه بأن يدفع عن نفسه من أراد به الضر، ومن هذه حاله فهو في غاية العجز، فكيف يكون إلهًا معبودًا؟! وجميع الأنبياء والملائكة والصالحين وغيرهم داخلون في هذه الأوصاف، فلا يقدر أحد منهم أن يخلق شيئًا ولا يستطيعون لمن عبدهم نصرًا، ولا ينصرون أنفسهم، وإذا كان كذلك بطلت دعوتهم من دون الله. قال: وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ... } 4. ش: حاصل كلام المفسرين كابن كثير وغيره أنه تعالى يخبر عن حال المدعوين من دونه من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها بما يدل على عجزهم وضعفهم، وأنهم قد انتفت عنهم الشروط التي لا بد أن تكون في المدعو وهي الملك، وسماع الدعاء، والقدرة على استجابته، فمتى عدم شرط بطل أن يكون مدعوًا، فكيف إذا عدمت كلها، فنفى عنهم الملك بقوله: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} .قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والحسن، وقتادة: القطمير: اللفافة التي تكون على نواة التمر، أي: ولا {يَمْلِكُونَ} من السموات

_ 1 سورة سبأ آية: 40-41. 2 سورة الأعراف آية: 191. 3 سورة الأعراف آية: 192. 4 سورة فاطر آية: 13.

والأرض شيئًا، ولا بمقدار هذا القطمير، كما قال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} 1. وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ ... } 2. فمن كان هذا حاله فكيف يدعى من دون الله؟ ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} 3. يعني أن الآلهة التي تدعونها لا يسمعون دعاءكم؛ لأنهم أموات أو ملائكة مشغولون بأحوالهم مسخرون لما خلقوا له أو جماد، فلعل المشرك يقول: هذا في الأصنام، أما الملائكة والأنبياء والصالحون فيسمعون ويستجيبون، فنفى سبحانه ذلك بقوله: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} ، أي: لا يقدرون على ما تطلبون منهم، وما خص تعالى الأصنام، بل عم جميع مَن يدعى مِن دونه. ومن المعلوم أنهم كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين، كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه، فلم يرخص في دعاء أحد منهم لا استقلالًا ولا وساطة بالشفاعة. وقوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 4. كقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} 5. وهذا نص صريح على أن من دعا غير الله فقد أشرك بشرطه، وأن المدعوين يكفرون به يوم القيامة، ويتبرءون منهم كقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} 6.فهل على كلام رب العزة استدراك؟ ولهذا قال: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي: ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير بها. قال قتادة: يعني نفسه تبارك وتعالى، فإنه أخبر بالواقع لا محالة.

_ 1 سورة النحل آية: 73. 2 سورة سبأ آية: 22. 3 سورة فاطر آية: 14. 4 سورة فاطر آية: 14. 5 سورة آية: 81-82. 6 سورة البقرة آية: 166.

قال: وفي " الصحيح " عن أنس. قال: "شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنَزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} ، [آل عمران: 128] ". ش: قوله في "الصحيح"، أي "الصحيحين" فعلقه البخاري عن حميد وثابت عن أنس، ووصله أحمد والترمذي والنسائي، عن حميد، عن أنس به. ووصله مسلم عن ثابت عن أنس وقال ابن إسحاق في " المغازي ": حدثني حميد الطويل، عن أنس قال: "كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وشج في وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ " 1. فأنزل الله الآية. قوله: شج النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو السعادات: الشج في الرأس خاصة في الأصل، وهو أن يضربه بشيء فيجرحه فيه ويشقه، ثم استعمل في غيره من الأعضاء. وذكر ابن هشام من حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في جبهته، وأن عبد الله بن قمئة جرحه في وجنته، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وأن مالك بن سنان مص الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده، فقال له: "لن تمسك النار". وروى الطبراني من حديث أبي أمامة. قال: "رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، فشجه في وجهه، وكسر رباعيته. فقال: خذها وأنا ابن قمئة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك أقمأك الله فسلط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة".

_ 1 مسلم: الجهاد والسير (1791) , والترمذي: تفسير القرآن (3003) , وابن ماجه: الفتن (4027) , وأحمد (3/99 ,3/178 ,3/201 ,3/206 ,3/253 ,3/288) .

قال القرطبي: والرباعية - بفتح الراء وتخفيف الياء، وهي كل سن بعد ثنية. قال النووي: وللإنسان أربع رباعيات. قال الحافظ: والمراد أنها كسرت فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها. قلت: فظهر بهذا أن قول بعضهم: إنه شج في رأسه فيه نظر. قال النووي: وفي هذا وقوع الأسقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر والثواب، ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم، ويتأسوا بهم. قال القرطبي: وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون، ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات، ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم. قوله: "يوم أُحد" جبل معروف إلى الآن، كانت عنده الواقعة المشهورة فأضيفت إليه. قوله: فقال: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ "1. زاد مسلم من طريق ثابت عن أنس "وكسروا رباعيته وأدموا وجهه" 2. قوله: فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} . قال ابن عطية: كان النبي صلى الله عليه وسلم لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش، فمالت نفسه إلى أن يستأصلهم الله، ويريح منهم. فقيل له: بسبب ذلك {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} ، أي: عواقب الأمور بيد الله فامض أنت لشأنك، ودم على الدعاء لربك. وقال غيره: المعنى أن الله تعالى مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم {أَوْيَكْبِتَهُمْ} ، {أَوْيَتُوبَ عَلَيْهِمْ} إن أسلموا، {أَوْيُعَذِّبَهُمْ} إن

_ 1 البخاري: المناقب (3783) , ومسلم: الإيمان (75) , والترمذي: المناقب (3900) , وأحمد (4/283 ,4/292) . 2 مسلم: الجهاد والسير (1791) , والترمذي: تفسير القرآن (3002 ,3003) , وابن ماجه: الفتن (4027) , وأحمد (3/99 ,3/178 ,3/201 ,3/206 ,3/253 ,3/288) .

أصروا، و {لَيْسَ لَكَ مِنَ} أمرهم {شَيْءٌ} ، وإنما أنت عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم، فعلى هذا يكون قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} ، اعتراض المعطوف والمعطوف عليه. وقال ابن إسحاق: أي ليس لك من الحكم بشيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم. قال: وفيه عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: "اللهم العن فلانًا وفلانًا"، بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. فأنزل الله: {ليس لك من الأمر شيء} " 1. وفي رواية: "يدعو على صفوان ابن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فنَزلت: {ليس لك من الأمر شيء} " 2. ش: قوله: وفيه: أي في "الصحيح" والمراد به "صحيح البخاري"، ورواه النسائي. قوله: عن ابن عمر. هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، صحابي جليل، من عباد الصحابة، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاح. مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها، أو أول التي تليها. قوله: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلى آخره. هذا القنوت على هؤلاء هو بعد ما شج، وكسرت رباعيته يوم أحد. قوله: "اللهم العن فلانًا وفلانًا". قال أبو السعادات: أصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السب والدعاء. قلت: الظاهر أنه من الخلق طلب طرد الملعون وإبعاده من الله بلفظ اللعن، لا مطلق السب والشتم. قوله: (فلانًا وفلانًا) ، يعني صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام كما بينه في الرواية التي بعدها. وفيه جواز الدعاء على المشركين في الصلاة، وتسمية المدعو عليهم ولهم بأسمائهم في الصلاة، وأن ذلك لا يضر الصلاة.

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4559) , والترمذي: تفسير القرآن (3005) , والنسائي: التطبيق (1078) , وأحمد (2/93 ,2/104 ,2/118 ,2/147) . 2 البخاري: المغازي (4070) , والترمذي: تفسير القرآن (3004) , وأحمد (2/93) .

قوله: (بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده) . قال أبو السعادات، أي: أجاب حمده وتقبله. وقال السهيلي: مفعول "سمع" محذوف، لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها، فاللام تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة المقارنة للسمع، فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد، وهو الاستجابة لمن حمده. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى ما معناه: عدى سمع الله لمن حمده باللام لتضمنه معنى: استجاب له، ولا حذف هناك، وإنما هو مضمن. قوله: ربنا ولك الحمد. في بعض روايات البخاري بإسقاط الواو. قال النووي: لا ترجيح لإحداهما على الأخرى. وقال ابن دقيق العيد: كأن إثباتها دال على معنى زائد، لأنه يكون التقدير مثلاً: ربنا استجب ولك الحمد، فيشتمل على معنى الدعاء، ومعنى الخبر. قال شيخ الإسلام: والحمد ضد الذم، والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له، كما أن الذم يكون على مساوئه مع البغض له، وكذا قال ابن القيم، وفرق بينه وبين المدح بأن الإخبار عن محاسن الغير، إما أن يكون إخبارًا مجردًا عن حب وإرادة، أو مقرونًا بحبه وإرادته، فإن كان الأول، فهو المدح، وإن كان الثاني، فهو الحمد. فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه، ولهذا كان خبرًا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح، فإنه خبر مجرد. فالقائل إذا قال: الحمد لله، وقال: ربنا ولك الحمد، تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الجملة المحققة والمقدرة، وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى، ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه، ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه، وهو الحميد المجيد. وفيه التصريح بأن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي يوسف، وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة فقالا: يقتصر على قول: سمع الله لمن حمده. قوله: وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن

عمرو، والحارث بن هشام. إنما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم رؤساء المشركين يوم أُحد، والسبب في تلك الأفاعيل التي جرت على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هم وأبو سفيان، ومع ذلك فما استجيب له فيهم، بل أنزل الله عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} 1. فتاب الله عليهم وآمنوا، مع أنهم فعلوا أشياء لم يفعلها أكثر الكفار، منها غزوهم نبيهم صلى الله عليه وسلم في بلاده، وشجهم له، وكسر رباعيته، وقتلهم بني عمهم المؤمنين، وقتلهم الأنصار والتمثيل بقتلى المسلمين، وإعلانهم بشركهم وكفرهم، ومع هذا كله لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفعهم عن نفسه، ولا عن أصحابه، كما قال تعالى:: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} 2. بل لجأ صلى الله عليه وسلم إلى ربه المالك القادر على النفع والضر وإهلاكهم، ودعا عليهم صلى الله عليه وسلم في الصلاة المكتوبة جهرا، وخلفه سادات الأولياء يُؤَمِّنون على دعائه، ومع هذا كله ما استجاب الله له فيهم، بل تاب عليهم وآمنوا، فلو كان عنده صلى الله عليه وسلم من النفع والضر شيء لكان يفعل بهم ما يستحقونه على هذه الأفعال العظيمة، ولكن الأمر كما قال تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} 3. فأين هذا مما يعتقده عباد القبور في الأولياء والصالحين بل في الطواغيت الذين يسمونهم المجاذيب والفقراء أنهم ينفعون من دعاهم، وينصرون من لاذ بحماهم، ويدعونهم برًّا وبحرًا في غيبتهم وحضرتهم. [إنذاره عليه الصلاة والسلام لأقاربه وعشيرته] قال: وفيه عن أبي هريرة قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عليه" {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 4. قال: يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا".

_ 1 سورة آل عمران آية: 128. 2 سورة الجنّ آية: 21-23. 3 سورة إبراهيم آية: 52. 4 سورة الشّعراء آية: 214. البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (206) , والنسائي: الوصايا (3646 ,3647) , وأحمد (2/350 ,2/398) , والدارمي: الرقاق (2732) .

ش: قوله: وفيه، أي: في "صحيح البخاري". قوله: عن أبي هريرة. اختلف الحفاظ في اسمه على أكثر من ثلاثين قولاً، وصحح النووي أن اسمه عبد الرحمن بن صخر، كما رواه الحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة قال: "كان اسمي في الجاهلية عبد شمس بن صخر، فَسُمِّيَت في الإسلام عبد الرحمن". وقال غيره: اسمه عبد الله بن عمرو، وقيل: ابن عامر. وقال ابن الكلبي: اسمه عمير بن عامر، ويقال: كان اسمه في الجاهلية عبد شمس وكنيته أبو الأسود، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وكناه أبا هريرة. وروى الدولابي بإسناده عن "أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه عبد الله". وهو دوسي من فضلاء الصحابة، وحفاظهم، وعلمائهم، حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما حفظه غيره، وروي له في كتب السنة أكثر من خمسة آلاف حديث، ومات سنة سبعة أو ثمان أو تسع وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة؟ . قوله: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم. في "الصحيح" من رواية ابن عباس "صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا " 1. قوله: حين أنزل الله عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} عشيرة الرجل: هم بنو أبيه الأدنون أو قبيلته. والأقربين: أي الأقرب فالأقرب منهم. 1- لأنهم أحق الناس بِبِرِّك وإحسانك الديني والدنيوي، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 2. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: من أبر؟ قال: "أمك قال: ثم من، قال: ثم أباك، ثم أختك وأخاك" 3. 2- ولأنه إذا قام عليهم في أمر الله كان أدعى لغيرهم إلى الانقياد، والطاعة له. 3- ولئلا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من الرأفة والمحاباة فيحابيهم في الدعوة والتخويف، ولذلك أُمِرَ بإنذارهم خاصة، وقد أمره الله أيضًا بالنذارة العامة كما قال: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} 4. وقال: {لِتُنْذِرَ

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4770) , ومسلم: الإيمان (208) , والترمذي: تفسير القرآن (3363) , وأحمد (1/281 ,1/307) . 2 سورة التحريم آية: 6. 3 البخاري: الأدب (5971) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2548) , وأحمد (2/327 ,2/391 ,2/402) . 4 سورة مريم آية: 97.

قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} 1. ولا تنافي بينهما، لأن النذارة الخاصة فرد من أفراد العامة. قوله: "يا معشر قريش" المعشر كمسكن: الجماعة. قوله، أو كلمة نحوها. هو بنصب "كلمة" على أنه معطوف على ما قبله، أي أو قال كلمة نحو قوله: يا معشر قريش، أي: بمعناها. قوله: "اشتروا أنفسكم". أي: بتوحيد الله، وإخلاص العباده له وعدم الإشراك به، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه زجر، فإن جميع ذلك ثمن النجاة، والخلاص من عذاب الله، لا الاعتماد على الأنساب، وترك الأسباب، فإن ذلك غير نافع عند رب الأرباب: ودفع بقوله: " {لا أغني عنكم من الله شيئا} " 2. ما عساه أن يتوهم بعضم أنه يغني عنهم من الله شيئا بشفاعته، فإذا كان لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرا، ولا يدفع عن نفسه عذاب ربه لو عصاه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 3. فكيف يملك لغيره نفعًا أو ضرًا، أو يدفع عنه عذاب الله؟ وأما شفاعته صلى الله عليه وسلم في بعض العصاة، فهو أمر من الله ابتداء فضلا عليه وعليهم، لا أنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء. وفي صحيح البخاري بعد قوله: "لا أغني عنكم من الله شيئا يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا" 4 فلعل المصنف اختصرها. قوله: "يا عباس بن عبد المطلب". بنصب "ابن" ويجوز في "عباس" الرفع والنصب، وكذا القول في قوله: "ويا صفية عمة رسول الله، ويا فاطمة بنت محمد"5 صلى الله عليه وسلم.

_ 1 سورة يس آية: 6. 2 البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (206) , والنسائي: الوصايا (3646 ,3647) , والدارمي: الرقاق (2732) . 3 سورة الأنعام آية: 15. 4 البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (206) , والنسائي: الوصايا (3646 ,3647) , والدارمي: الرقاق (2732) . 5 البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (204 ,206) , والنسائي: الوصايا (3644 ,3646 ,3647) , وأحمد (2/333 ,2/350 ,2/360 ,2/398 ,2/448 ,2/519) , والدارمي: الرقاق (2732) .

قوله: "سليني من مالي ما شئت" 1. في رواية مسلم عن عائشة. قالت "لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 2. قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، سلوني من مالي ما شئتم". فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا ينجيهم من عذاب الله، ولا يدخلهم الجنة، ولا يقربهم إلى الله، وإنما الذي يقرب إلى الله، ويدخل الجنة، وينجي من النار برحمة الله، هو طاعة الله. وأما ما يقدر عليه صلى الله عليه وسلم من أمور الدنيا فلا يبخل بها عنهم، كما قال: "سلوني من مالي ما شئتم" 3 وكما قال: "ألا إن لكم رحمًا سأبلها ببلالها" 4. رواه أحمد وعبد بن حميد وابن المنذر، وهو عند مسلم في حديث آخر. فإذا صرح وهو سيد المرسلين لأقاربه المؤمنين وغيرهم، خصوصا سيدة نساء العالمين وعمه وعمته، وآمن الإنسان أنه لا يقول إلا الحق، ثم نظر إلى ما وقع في قلوب كثير من الناس من الاعتقاد فيه وفي غيره من الأنبياء والصالحين، أنهم ينفعون ويضرون ويغنون من عذاب الله حتى يقول صاحب "البردة [البوصيري] ". فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم. تبين له التوحيد، وعرف غربة الدين: فأين هذا من قول صاحب "البردة" والبرعي وأضرابهما من المادحين له صلى الله عليه وسلم بما هو يتبرأ منه ليلا ونهارًا، ويبين اختصاصه، بالخالق تعالى وتقدس، كما قال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 5. {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 6 تالله لقد تاهت عقول تركت كلام ربها، وكلام نبيها لوساوس صدرها، وما

_ 1 البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (204 ,206) , والنسائي: الوصايا (3646 ,3647) , وأحمد (2/333 ,2/350 ,2/360 ,2/398 ,2/448 ,2/519) , والدارمي: الرقاق (2732) . 2 مسلم: الإيمان (205) , والترمذي: الزهد (2310) وتفسير القرآن (3184) , والنسائي: الوصايا (3648) , وأحمد (6/136 ,6/187) . 3 مسلم: الإيمان (205) , والترمذي: الزهد (2310) وتفسير القرآن (3184) , والنسائي: الوصايا (3648) , وأحمد (6/136 ,6/187) . 4 مسلم: الإيمان (204) , والترمذي: تفسير القرآن (3185) , والنسائي: الوصايا (3644) , وأحمد (2/360) . 5 سورة الأعراف آية: 188. 6 سورة آية: 32-33.

ألقاه الشيطان في نفوسها. ومن العجب أن اللعين كادهم مكيدة أدرك بها مأموله، فأظهر لهم هذا الشرك في صورة محبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، ومحبة الصالحين وتعظيمهم، ولعمر الله إن تبرئتهم من هذا التعطيم والمحبة، هو التعطيم لهم والمحبة، وهو الواجب المتعين. وأظهر لهم التوحيد والإخلاص في سورة بغض النبي صلى الله عليه وسلم وبغض الصالحين، والتنقص بهم، وما شعروا أنهم تنقصوا الخالق سبحانه وتعالى، وبخسوه حقه، وتنقصوا النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين بذلك. أما تنقّصهم للخالق تعالى، فلأنهم جعلوا المخلوق العاجز مثل الرب القادر في القدرة على النفع والضر. وأما بخسهم حقه تعالى، فلأن العبادة بجميع أنواعها حق لله تعالى، فإذا جعلوا شيئًا منها لغيره، فقد بخسوه حقه. وأما تنقصهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللصالحين، فلأنهم ظنوا أنهم راضون منهم بذلك أو أمروهم به وحاشا لله أن يرضوا بذلك أو يأمروا به، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1.وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم، جِدّه صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب به إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن، قاله المصنف. وفيه دليل على الاجتهاد في الأعمال وترك البطالة والاعتماد على مجرد الانتساب إلى الأشخاص كما يفعله أهل الطيش والحمق ممن ينتسب إلى نبي أو صالح ونحو ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم إذا خاطب بنته وعمه وعمته وقرابته بهذا الخطاب كان تنبيها لذريتهم ونحوهم على ذلك، لأنه إذا كان لا يغني عن هؤلاء شيئًا، كان ذريتهم أولى أن لا يغني عنهم من الله شيئًا، وقد قال تعالى لمن اكتفى بالانتساب إلى الأنبياء عن متابعتهم: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2. وفيه أن أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل طاعته، ومتابعته

_ 1 سورة الأنبياء آية: 25. 2 سورة البقرة آية: 134.

في محياه ومماته، كما قال صلى الله عليه وسلم: "ألا إن آل أبي -يعني فلانًا- ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالحو المؤمنين" 1. رواه مسلم. وروى عبد بن حميد عن الحسن. أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع أهل بيته قبل موته فقال: "ألا إن لي عملي ولكم عملكم، ألا إني لا أغني عنكم من الله شيئا، ألا إن أوليائي منكم المتقون، ألا لا أعرفنكم يوم القيامة تأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم ويأتي الناس يحملون الآخرة".

_ 1 البخاري: الأدب (5990) , ومسلم: الإيمان (215) , وأحمد (4/203) .

باب قول الله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير}

باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ، [سبأ، من الآية: 23] . ش: أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة بيان حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم مَن عبد مِن دون الله، فإذا كان هذا حالهم مع الله تعالى، وهيبتهم منه، وخشيتهم له، فكيف يدعوهم أحد من دون الله؟! وإذا كانوا لا يدعون مع الله تعالى لا استقلالا، ولا وساطة بالشفاعة، فغيرهم ممن لا يقدر على شيء من الأموات والأصنام أولى أن لا يدعى، ولا يعبد، ففيه الرد على جميع فرق المشركين الذين يدعون مع الله من لا يداني الملائكة ولا يساويهم في صفة من صفاتهم. وقد قال تعالى فيهم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 1. فهذه حالهم وصفاتهم، وليس لهم من الربوبية

_ 1 سورة الأنبياء آية: 26-29.

والإلهية شيء، بل ذلك لله وحده لا شريك له، وكذا قال في هذه الآية: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} ، أي: زال الفزع عنها " قاله ابن عباس، وابن عمر، وأبو عبد الرحمن السلمي، والشعبي والحسن وغيرهم. والضمير عائد على ما عادت عليه الضمائر التي للغيبة في قوله: (لا يملكون) ، (وفي أموالهم) ، (وما له منهم) . و "حتى" تدل على الغاية، وليس في الكلام ما يدل على أنه غاية له، فقال ابن عطية: في الكلام حذف يدل عليه الظاهر، كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم، بل هم عبدة مسلمون أبدًا، يعني: منقادون، حتى إذا فزع عن قلوبهم، والمراد الملائكة على ما اختاره ابن جرير وغيره. قال ابن كثير: وهو الحق الذي لا مرية فيه، لصحة الأحاديث فيه والآثار. وقال أبو حيان: تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} ، إنما هي في الملائكة، إذا سمعت الوحي إلى جبريل يأمر الله به، سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة. قال: وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى، ومَنْ لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: (الذين زعمتم) لم تتصل له هذه الآية بما قبلها. وقال ابن كثير: هذا مقام رفيع في العظمة، وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي، فسمع أهل السماوات كلامه، أُرْعِدُوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي قاله ابن مسعود ومسروق وغيرهما. وقوله: {قَالُوا الْحَقَّ} أي: قالوا: قال الله الحق، وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله وصعقوا ثم أفاقوا، أخذوا يتساؤلون، فيقولون: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟} فيقولون: قال {الْحَقُّ} .

قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ} أي: العالي، فهو فوق كل شيء، فهو تعالى على العرش الذي هو فوق السماوات كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1. قال: في "الصحيح" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله. كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 2 فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض" وصفه سفيان بكفه فحرقها وبدد بين أصابعه، فيسمع الكلمة فيلقيها إلى مَنْ تحته، ثم يلقيها الآخر إلى مَنْ تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر والكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" ش: قوله: في "الصحيح" أي "صحيح البخاري" قوله: إذا قضى الله الأمر في السماء. أي: إذا تكلم الله بأمره الذي قضاه في السماء مما يكون، كما روى سعيد بن منصور، وأبو داود، وابن جرير عن ابن مسعود قال: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان. وروى ابن أبي حاتم، وابن مردوية عن ابن عباس قال: "لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كُشِفَ عن قلوبهم سألوا عما قال الله، فقالوا: الحق، وعلموا أن الله لا يقول إلا حقًا". قوله: "ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله"3. أي:

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة سبأ آية: 23. 3 البخاري: تفسير القرآن (4701) , والترمذي: تفسير القرآن (3223) , وابن ماجه: المقدمة (194) .

لقول الله تعالى؟ قال الحافظ: خضعانًا بفتحتين من الخضوع، وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه، وهو مصدر بمعنى خاضعين. قوله: كأنه سلسلة على صفوان. أي: كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان، وهو الحجر الأملس. قال الحافظ: هو مثل قوله في بدء الوحي: صلصلة كصلصلة الجرس، وهو صوت الملك بالوحي. وقد روى ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه: "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان ... " 1 الحديث. قوله: ينفذهم ذلك هو بفتح التحتيه وسكون النون وضم الفاء والذال المعجمة، ذلك، أي القول، والضمير في (ينفذهم) عائد على الملائكة. أي ينفذ الله ذلك القول إلى الملائكة، أي: يلقيه إليهم. وقيل: وهو أظهر. أي: يخلص ذلك القول، ويمضي في قلوب الملائكة حتى يفزعوا من ذلك، كما في حديث النواس وفي حديث ابن عباس عن ابن مردويه من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه: "فلا ينْزل على أهل سماء إلا صعقوا" وفي حديث ابن مسعود عند أبي داود وغيره مرفوعًا: "إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل" الحديث. قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أي: أزيل عنها الخوف والغشي. قوله: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} أي: قال الملائكة بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم. قوله: {قَالُوا الْحَقَّ} ، أي: قالوا: قال الله الحق، علموا أن الله لا يقول إلا حقا.

_ 1 أبو داود: السنة (4738) .

قوله:"فيسمعها مسترق السمع"أي: يسمع الكلمة التي قضاها الله مسترق السمع، وهم الشياطين يركب بعضهم بعضًا، فيسمعون أصوات الملائكة بالأمر يقضيه الله، كما قال تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} ، [الحجر الآيتان: 17-18] .وفي "صحيح البخاري" عن عائشة مرفوعًا: "إن الملائكة تنْزل في العنان وهو السحاب، فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه، فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم" 1. وظاهر هذا أنهم لا يسمعون كلام الملائكة الذين في السماء الدنيا، وإنما يسمعون كلام الملائكة الذين في السحاب. قوله: (وصفه سفيان بكفه) . أي: وصف ركوب بعضهم فوق بعض. وسفيان هو ابن عيينة أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة، إلا أنه تغير حفظه بأخرة، وربما، دلس لكن عن الثقات. مات سنة ثمان وتسعين ومائة وله إحدى وتسعون سنة. قوله: فحرفها. بحاء مهملة وراء مشددة وفاء. قوله: (وبدد) . أي: فرّق بين أصابعه. قوله: (فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته) . أي: يسمع المسترق الفوقاني الكلمة من الوحي، فيلقيها إلى الشيطان الذي تحته، ثم يلقيها الآخر مَنْ تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر والكاهن، وحينئذ يقع الرجم. قوله: (فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها) . الشهاب: هو النجم الذي يرمى به. أي: ربما أدرك المسترق الشهاب إذا رمي به قبل أن يلقي الكلمة إلى من تحته، وربما ألقاها المسترق قبل أن يدركه الشهاب، وهذا يدل على أن الرجم بالنجوم كان قبل المبعث، كما روى أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في نفر من أصحابه فرمي بنجم فاستنار، فقال

_ 1 البخاري: الأحكام (7144) , ومسلم: الإمارة (1839) , والترمذي: الجهاد (1707) , وأبو داود: الجهاد (2626) , وابن ماجه: الجهاد (2864) , وأحمد (2/17 ,2/142) .

ما كنتم تقولون إذا كان هذا في الجاهلية قالوا: كنا نقول: يولد عظيم، أو يموت عظيم، قال فإنها لا يرمى بها لموت أحد، ولا لحياته، ولكن ربنا إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يحرفونه ويزيدون فيه" قال معمر: قلت للزهري: "أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال نعم. قال أرأيت: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} ، [الجن:9] . قال: غلظت، وشدد أمرها حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه الرد على المنجمين الذين ينسبون الخير والشر والإعطاء والمنع إلى الكواكب بحسب السعود منها والنحوس، وعلى حسب كونها في البروج الموافقة، أو المنافرة، ونحو ذلك لما في الرمي بها من الدلالة على تسخيرها لما خلقت له، كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1. قوله: فيكذب معها مائة كذبة، أي: يكذب الكاهن أو الساحر مع الكلمة التي ألقاها إليه وليّه من الشياطين مائة كذبة، بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة، أو يكذب الشيطان مع الكلمة التي استرقها مائة كذبة، ويخبر بالجميع وليّه من الإنس، فما جاؤوا به على وجهه فهو صدق، وما خلط فيه فهو كذب، ومع هذا فيفتتن الإنس بالإنس الساحر والكاهن، ويفتتنان بولّيهما من الشياطين، ويقبلون ما جاؤوا به من الصدق والكذب، لكونهم قد يصدقون فيما يأتون به من خبر السماء. قوله: فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا كذا؟ هكذا بيض المصنف في هذا الموضع، ولفظ الحديث في "الصحيح" فيقال:

_ 1 سورة الأعراف آية: 54.

"أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا هكذا" 1. والمعنى أن الذين يأتون الكهان يصدقونهم في كذبهم، ويستدلون على ذلك بكونهم يصدقون بعض الأحيان فيما سمعوه من الوحي، ويذكرون أنه أخبرهم بشيء مرة فوجدوه حقًا، وتلك الكلمة من الحق كما في "الصحيح" عن عائشة قلت: "يا رسول الله: إن الكهان كانوا يحدثونا بالشيء فنجده حقا، قال: "تلك الكلمة الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه، ويزيد فيها مائة كذبة" 2 وفيه قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة، ولا يعتبرون بمائة كذبة؟! ذكره المصنف. وفيه أن الشيء إذا كان فيه نوع من الحق لا يدل على أنه حق كله، بل لا يدل على إباحته كما في الكهانة والسحر والتنجيم. قوله: فيصدق بتلك الكمة التي سمعت من السماء. أي: يستدلون على صدقها. قال: وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة أو قال: رعدة شديدة خوفا من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخرّوا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء يسأله ملائكته: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال: الحق وهو العلي الكبير قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل". ش قوله: عن النواس بن سمعان بكسر السين، أي: ابن

_ 1 مسلم: العلم (1017) , والترمذي: العلم (2675) , والنسائي: الزكاة (2554) , وابن ماجه: المقدمة (203) , وأحمد (4/357) , والدارمي: المقدمة (512 ,514) . 2 مسلم: الجهاد والسير (1731) , وأبو داود: الجهاد (2612) , وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352 ,5/358) .

خالد الكلابي، ويقال: الأنصاري، صحابي، ويقال: إن أباه صحابي أيضًا. قال أبو حاتم الرازي: سكن الشام. قوله: "ذا أراد الله أن يوحي بالأمر" إلخ هذا والله أعلم في جميع الأمور التي يقضيها الرب تبارك وتعالى، كما يدل عليه عموم اللفظ، ويدل على ذلك أيضًا حديث أبي هريرة الذي تقدم وغيره من الأحاديث المتقدمة. قوله:"أخذت السماوات منه رجفة" هو برفع "رجفة" على أنه فاعل، أي: أصاب السماوات منه رجفة، أي: ارتجفت، كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: إذا قضى الله أمرًا تكلم وتبارك وتعالى، رجفت السماوات والأرض والجبال، وخرت الملائكة كلهم سجدًا. قوله:"أو قال: رعدة شديدة".يعني أن الراوي شك، هل قال النبي صلى الله عليه وسلم: رجفة، أو قال: رعدة، وهو بفتح الراء بمعنى الأول. قوله:"خوفا من الله عز وجل".لا ينكر أن السماوات والأرض ترجف وترتعد خوفا من الله عز وجل فقد قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} 1. وقال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 2. وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} 3. قال تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 4. وفي "البخاري" عن أبي مسعود قال: "كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل" وفي حديث أبي ذر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات، فسمع لهن تسبيح كخنين النحل، وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان" وهو حديث مشهور في "المسانيد".

_ 1 سورة الإسراء آية: 44. 2 سورة فصلت آية: 11. 3 سورة مريم آية: 90. 4 سورة البقرة آية: 74.

وكذلك في "الصحيح" قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل اتخاذ المنبر، ومثل هذا كثير. قوله:"صعقوا وخروا لله سجدا"،أي: يقع منهم الأمران: الصعق - وهو الغشي- والسجود، والله أعلم أيهما قبل الآخر، فإن الواو لا تقتضي ترتيبًا. قوله:"فيكون أول مَنْ يرفع رأسه جبريل"معنى جبريل: عبد الله كما روى ابن جرير، وأبو الشيخ الأصبهاني عن على بن حسين قال: اسم جبريل عبد الله، واسم ميكائيل عبيد الله، وإسرافيل عبد الرحمن، وكل شيء راجع إلى إيل فهو معبد لله عز وجل. وفيه دليل على فضيلة جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} ، [التكوير: 19-21] . قال أبو صالح [باذم] في قوله: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} . قال: جبريل يدخل في سبعين حجابًا من نور بغير إذن. وقد ورد في صفة جبريل أحاديث صحيحة، منها: ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم" 1. قوله: "ثم يمر جبريل على الملائكة ... " إلى آخره. معناه ظاهر، فإذا كان هذا حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم مِمَّن عُبِدَ من دون الله، وشدة خشيتهم من الله، وهيبتم له مع ما أعطاهم الله من القوة العظيمة التي لا يعلمها إلا الله، ومع هذا فقد نفى عنهم الشفاعة بغير إذنه كما قال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 2. وأخبر أنهم لا يملكون كشف الضر عمن دعاهم ولا تحويله. فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 3. وفي ضمن ذلك النهي عن دعائهم وعبادتهم الشفاعة وغيرها، كما قال

_ 1 مسلم: الإيمان (174) , والترمذي: تفسير القرآن (3277) , وأحمد (1/395) . 2 سورة النجم آية: 26. 3 سورة الإسراء آية: 56.

تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 1. فكيف يدعوهم المشرك ويظن أنهم يشفعون له عند الله كما يشفع الوزراء عند الملوك، وإذا بطلت دعوتهم مع أنهم أحياء ناطقون مقرَبُّون عند الله، فدعاء غيرهم من الأموات الذين لا يستطيعون سمعًا ولا يملكون ضرًا ولا نفعًا أولى بالبطلان. {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2. وقال: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُون} 3. قوله:"ثم ينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل".قد بيض المصنف رحمه الله بعد هذا، ولعله أراد أن يكتب تمام الحديث ومن رواه. وتمامه: إلى حيث أمره الله عز وجل من السماء والأرض. ورواه ابن جرير وابن خزيمة [في التّوحيد 206] ، وابن أبي حاتم والطبراني، وفي الحديث من الفوائد إثبات الكلام خلافًا للجهمية، وإثبات الصوت خلافًا لهم وللأشاعرة.

_ 1 سورة الزّمر آية: 43-44. 2 سورة الأعراف آية: 194. 3 سورة النّحل آية: 20-22.

باب الشفاعة

[11- باب الشفاعة] لما كان المشركون في قديم الزمان وحديثه إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم بأذيال الشفاعة، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. وكذلك قطع الله أطماع المشركين منها، وأخبر أنه شرك، ونزه نفسه عنه، ونفى أن يكون الخلق من دونه ولي أو شفيع، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا

_ 1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة الزمر آية: 3.

تَتَذَكَّرُونَ} 1. أراد المصنف في هذا الباب إقامة الحجج على أن ذلك هو عين الشرك وأن الشفاعة التي يظنها مَنْ دعا غير الله ليشفع له كما يشفع الوزير عند الملك منتفية دنيا وأخرى، وإنما الله هو الذي يأذن للشافع ابتداء، لا يشفع ابتداء كما يظنه أعداء الله. فإن قلت: إذا كان من اتخذ شفيعا عند الله، إنما قصده تعظيم الرب تعالى وتقدس أن يتوصل إليه إلا بالشفعاء، فلم كان هذا القدر شركًا؟! قيل: قصده للتعظيم لا يدل على أن ذلك تعظيم لله تعالى، فكم من يقصد التعظيم لشخص ينقصة بتعظيمه، ولهذا قيل في المثل المشهور: يضر الصديق الجاهل ما لا يضر العدو العاقل. فإن اتخاذ الشفعاء والأنداد من دون الله هضم لحق الربوبية، وتنقص للعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، كما قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 2 فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحدوه حق توحيده، ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره وكيف يقدره حق قدره من اتخذ من دونه ندًا، أو شفيعًا يحبه ويخافه ويرجوه، ويذل له، ويخضع له ويهرب من سخطه ويؤثر مرضاته ويدعوه ويذبح له وينذر، وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم، وعرفوا وهم في النار أنها كانت باطلا وضلالاً، فيقولون وهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. ومعلوم، أنهم ما ساووهم به في الذات والصفات والأفعال، ولا قالوا: إن آلهتكم خلقت السماوات والأرض وإنها تحيي وتميت، وإنما ساووهم به في المحبة والتعظيم والعبادة، كما ترى عليه أهل الإشراك ممن ينتسب إلى الإسلام، وإنما كان ذلك هضمًا لحق الربوبية، وتنقصًا لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، لأن

_ 1 سورة السجدة آية: 4. 2 سورة الفتح آية: 6. 3 سورة الشّعراء آية: 97-98.

المتخذ للشفعاء والأنداد، إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى مَنْ يدبّر أمر العالم معه من وزير أو ظهير أو معين، وهذا أعظم التنقص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته، وإما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشفيع، وإما أن يظن أنه لا يعلم حتى يعلمه الشفيع، أو لا يرحم حتى يجعله الشفيع يرحم، أو لا يكفي وحده، أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده كما يشفع عند المخلوق، أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الشفيع أن يرفع حاجتهم إليه، كما هو حال ملوك الدنيا. وهذا أصل شرك الخلق، أو يظن أنه لا يسمع حتى يرفع الشفيع إليه ذلك، أو يظن أن للشفيع عليه حقًا، فهو يقسم عليه بحقه، ويتوسل إليه بذلك الشفيع، كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم، ولا تمكنهم مخالفته، وكل هذا تنقص للربوبية، وهضم لحقها. ذكر معناه ابن القيم. فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك شرك، ونزه نفسه عنه فقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. فإن قلت: إنما حكم سبحانه وتعالى بالشرك على من عبد الشفعاء، أما من دعاهم للشفاعة فقط، فهو لم يعبدهم، فلا يكون ذلك شركًا. قيل: مجرد اتخاذ الشفعاء ملزوم للشرك، والشرك، لازم له كما أن الشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه وتعالى، والتنقص لازم له ضرورة، شاء المشرك أم أبى، وعلى هذا فالسؤال باطل من أصله لا وجود له في الخارج، وإنما هو شيء قدره المشركون في أذهانهم، فإن الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، فإذا دعاهم للشفاعة، فقد عبدهم وأشرك في عبادة الله شاء أم أبى. قال: وقول الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 2.

_ 1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة الأنعام آية: 51.

ش: الإنذار: هو الإعلام بموضع المخافة- وقوله: "به"، قال ابن عباس بالقرآن وقوله: {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} 1، أي أنذر يا محمد بالقرآن الذين هم من خشية ربهم مشفقون. الذين يخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب، وهم المؤمنون، كما روي ذلك عن ابن عباس والسدي وعن "الفضيل بن عياض: ليس كل خلقه عاتب، إنما عاتب الذين يعقلون فقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} ، أي: وهم المؤمنون أصحاب القلوب الواعية، فإنهم المقصودون، والمنظور إليهم لا أصحاب التجمل والسيادة، فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" وقوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 2. قال الزجاج: موضع "ليس" نصب على الحال كأنه قال: متخلين من ولي وشفيع، والعامل فيه "يخافون". وقال ابن كثير: ليس لهم من دونه يومئذ ولي ولا شفيع من عذابه إن أرادهم به لعلهم يتقون، فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به من عذابه يوم القيامة. قلت: فنفى سبحانه وتعالى عن المؤمنين أن يكون لهم ولي أو شفيع من دون الله كما هو دين المشركين، فمن اتخذ من دون الله شفيعا، فليس من المؤمنين، ولا تحصل له الشفاعة. وليس في الآية دليل على نفي الشفاعة لأهل الكبائر بإذن الله كما ادعته المعتزلة، بل فيها دليل على نفي اتخاذ الشفعاء من المؤمنين، وعلى نفيها بغير إذن الله، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع كما قال: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 3. قال وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} ، [الزّمر، من الآية: 44] . ش: هكذا أوردها المصنف، ونتكلم عليها وعلى الآية التي قبلها ليتضح المعنى. قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ

_ 1 سورة الأنعام آية: 51. 2 سورة الأنعام آية: 51. 3 سورة يونس آية: 3.

جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، [الزّمر: 43-44] .فقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا} ، أي: بل اتخذوا، أي: المشركون. والهمزة للإنكار من دون الله شفعاء، أي: أتشفع لهم عند الله بزعمهم كما قال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1. وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2. فكذبهم وكفرهم بذلك وقال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 3. فهذا هو مقصود المشركين ممن عبدوهم وهو الشفاعة لهم عند الله. قوله: من دون الله. أي: من دون إذنه وأمره. والحال أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأن يكون المشفوع له مرتضى، وههنا الشرطان مفقودان، فإن الله سبحانه لم يجعل اتخاذ الشفعاء ودعاءهم من دونه سببًا لإذنه ورضاه، بل ذلك سبب لمنعه وغضبه. قوله: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} 4. أي: أيشفعون ولو كانوا على هذه الصفة كما تشاهدونهم جمادات لا تقدر ولا تعلم، أو أموات كذلك، حتى ولا يملكون الشفاعة كما قال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} ، أي: هو مالكها كلها فليس لمن تدعونهم منها شيء، قال البيضاوي: لعله رد لما عسى يجيبون به وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون، هي تماثيلهم. والمعنى: أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه، ولا يستقل بها. وقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} . تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه بأنه مالك الملك كله، لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه، فاندرج في ذلك ملك الشفاعة، فإذا كان هو مالكها بطل اتخاذ الشفعاء من دونه كائنًا من كان. وقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، أي:

_ 1 سورة يونس آية: 18. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 سورة الأحقاف آية: 28. 4 سورة الزمر آية: 43.

فتعلمون أنهم لا يشفعون، ويخيب سعيكم في عبادتهم، بل، يكونون عليكم ضدًا ويتبرؤون من عبادتكم كما قال تعالى: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} 1،وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} 2. قال: وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 3. في هذه الآية رد على المشركين الذين اتخذوا الشفعاء من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام المصورة على صور الصالحين وغيرهم، وظنوا أنهم يشفعون عنده بغير إذنه فأنكر ذلك عليهم، وبين عظيم ملكوته وكبريائه وأن أحدا لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام كقوله: {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} ، [النبأ، من الآية: 38] . وقوله: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود] . قال ابن جرير في هذه الآية: نزلت لما قال الكفار: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى فقال الله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء بالشفاعة، وهم الأنبياء والعلماء وغيرهم، والإذن راجع إلى الأمر فيما نص عليه كمحمد صلى الله عليه وسلم إذا قيل له: اشفع تشفع، وكذلك قاله غير واحد من المفسرين. [بيان أنه لا شفاعة إلا بإذن الله] قال: وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 4 ش: قال أبو حيان: "كم" خبرية ومعناها: التكثير، وهي في موضع رفع بالابتداء والخبر. "لا تغني" والغناء جلب النفع، ودفع الضرر بحسب الأمر الذي يكون فيه الغناء. و"كم": لفظها مفرد، ومعناها جمع. وإذا كانت الملائكة المقربون {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ}

_ 1 سورة مريم آية: 82. 2 سورة يونس آية: 28-29. 3 سورة البقرة آية: 255. 4 سورة النجم آية: 26.

إلا بعد إذن الله ورضاه أن يرضاه أهلا للشفاعة، فكيف تشفع الأصنام لمن عبدها؟ قلت: في هذه الآيات من الرد على مَنْ عَبَدَ الملائكة والصالحين لشفاعة أو غيرها ما لا يخفى، لأنهم إذا كانوا لا يشفعون إلا بإذن من الله ابتداء، فلأي معنى يُدعَون ويُعْبَدُون؟ وأيضًا فإن الله لا يأذن إلا لمن ارتضى. قوله: (وعمله) ، وهو الموحد لا المشرك. كما قال: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 1 والله لا يرتضي إلا التوحيد كما قال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه" 3. فلم يقل: أسعد الناس بشفاعتي مَنْ دعاني. فإن قال المشرك: أنا أعلم أنهم لا يشفعون إلا بإذنه لكن أدعوهم ليأذن الله لهم في الشفاعة لي. قيل: فإن الله لم يجعل الشرك به ودعاء غيره سببًا لإذنه ورضاه، بل ذلك سبب لغضبه، ولهذا نهى عن دعاء غيره في غير آية كقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 4. فتبين أن دعاء الصالحين من الملائكة والأنبياء وغيرهم شرك كما كان المشركون الأولون "يدعونهم ليشفعوا لهم عند الله، فأنكر الله عليهم ذلك، وأخبر أنه لا يرضاه، ولا يأمر به كما قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 5. وقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} 6. قال ابن كثير: تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدنيا: فنقول الملائكة: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} . وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} 7

_ 1 سورة طه آية: 109. 2 سورة آل عمران آية: 85. 3 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373) . 4 سورة يونس آية: 106. 5 سورة آل عمران آية: 80. 6 سورة البقرة آية: 166. 7 سورة المائدة آية: 116.

وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 1. روى سعيد بن منصور والبخاري والنسائي وابن جرير عن ابن مسعود في الآية: "كان نفر من الإنس يعبدون نفرًا من الجن فأسلم نفر من الجن وتمسك الإنسيون بعبادتهم فأنزل الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} " كلاهما بالياء. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن "ابن عباس في الآية لما كان أهل الشرك يعبدون الملائكة والمسيح وعزيرًا. وفي رواية عنه عندهما في قوله: {فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ} قال عيسى وأمه وعزير. وقال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 2 إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} 3 قال ابن إسحاق: لما ذكر قصة ابن الزبعري ومخاصمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية قال: وأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ... } 4 الآيتين، أي: عيسى وعزير ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على أمر الله، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابًا من دون الله. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} 5 الآيات. وروى ابن أبي حاتم عن الزهري قال: "نزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من السب والشتم والشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما نال أصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالتهم، فكان يتمنى هداهم، فلما أنزل الله سورة النجم قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم] ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الطواغيت فقال: تلك الغرانيق العلا، وإن

_ 1 سورة الإسراء آية: 56. 2 سورة الأنبياء آية: 98. 3 سورة الأنبياء آية: 101. 4 سورة الأنبياء آية: 101. 5 سورة الحج آية: 52.

شفاعتهن لترتجى، وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وذلت بها ألسنتهم، وتباشروا بها وقالوا: إن محمدًا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم، سجد، وسجد كل من حضر من مسلم ومشرك، ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ... } الآيات. فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بعداوتهم وضلالتهم للمسلمين، واشتدوا عليه ". وهي قصة مشهورة صحيحة رويت عن ابن عباس من طرق بعضها صحيح. ورويت عن جماعة من التابعين بأسانيد صحيحة منهم عروة وسعيد بن جبير وأبو العالية وأبو بكر بن عبد الرحمن وعكرمة، والضحاك وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس والسدي وغيرهم. وذكرها أيضًا أهل السير وغيرها وأصلها في "الصحيحين". والمقصود منها قوله: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى. فإن الغرانيق هي الملائكة على قول، وعلى آخر هي الأصنام ولا تنافي بينهما، فإن المقصود بعبادتهما الأصنام الملائكة والصالحين كما تقدم عن البيضاوي. فلما سمع المشركون هذا الكلام المقتضي لجواز عبادة الملائكة رجاء شفاعتهم عند الله ظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، فرضوا عنه وسجدوا معه، وحكموا بأنه قد وافقهم على دينهم من دعاء الملائكة والأصنام للشفاعة حتى طارت الكلمة كل مطار، وبلغ المهاجرين إلى الحبشة أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفت أن الفارق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هي مسألة الشفاعة، لأنم يقولون: نريد من الملائكة

والأصنام المصورة على صورهم بزعمهم أن يشفعوا لنا عند الله، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أتاهم بإبطال ذلك، والنهي عنه، وتكفير من دان به وتضليلهم وتسفيه عقولهم ولم يرخص لهم في سؤال الشفاعة من الملائكة، ولا من الأنبياء ولا الأصنام، بل أتاهم بقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} . وقوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1. وهذا كثير جدًا لمن تتبعه. والمقصود أن المشركين الأولين يدعون الملائكة والصالحين ليشفعوا لهم عند الله، كما تشهد به نصوص القرآن، وكتب التفسير والسير، والآثار طافحة بذلك، ويكفي العاقل المنصف قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 2. قال: وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ... } 3. ش: هذه الآية هي التي قال فيها بعض العلماء: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها. قال ابن القيم في الكلام عليها: وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها قطعًا، يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليًا، فمثله {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت] ، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن يكون فيه خصالا من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له، كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينًا ولا ظهيرًا، كان شفيعًا عنده، فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة التي، قال: فهو الذي يأذن

_ 1 سورة آية: 23-24. 2 سورة آية: 40-41. 3 سورة سبأ آية: 22.

للشافع، وإن لم يأذن له لم يتقدم في الشفاعة بين يديه كما يكون في حق المخلوقين، فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له، فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها، وأما كل ما سواه فقير إليه بذاته وهو الغني بذاته عن كل ما سواه، فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه؟! فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا ونجاة وتجريدًا للتوحيد، وقطعًا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها. والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنه في نوع، وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثًا، وهذا الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم وشر منهم ودونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية". وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما دعا به القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه الجاهلية، أو نظيره أو شر منه أو دونه، فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانًا، فالله المستعان. وقال الله تعالى حاكيًا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1. فهذه حال من اتخذ من دون الله وليًا يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى، وما أعز من يخلص من هذا بل ما أعز من يعادي من أنكره. والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك، وقد أنكره الله عليهم في كتابه، وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه

_ 1 سورة الزمر آية: 3.

لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن الله تعالى أن يشفع له فيه، ورضي قوله وعملة. وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، فإنه سبحانه وتعالى يأذن في الشفاعة فيهم لمن يشاء، حيث لم يتخذوهم شفعاء من دونه، فيكون أسعد الناس بشفاعته من يأذن الله تعالى له، صاحب التوحيد الذي لم يتخذ شفيعا من دون الله. والشفاعة التي أثبتها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحده، والتي نفاها الله تعالى هي الشفاعة الشركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله شفعاء، فيعاملون بنقيض مقصودهم من شفاعتهم، ويفوز بها الموحدون. انتهى. ولكن تأمل الآية كيف أمرهم تعالى بدعاء الملائكة أمر تعجيز، والمراد بيان أنهم لا يملكون شيئا، فلا يدعون لا لشفاعة ولا غيرها، ثم أخبر أنهم هم الذين اتخذوهم بزعمهم شفعاء فنسبه إلى زعمهم وإفكهم الذي ابتدعوه من غير برهان ولا حجة من الله وهذه الآية نزلت في دعوة الملائكة، ودخول غيرهم فيها من باب أولى، كما روى ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} . يقول: من عون الملائكة. وكما يدل عليه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} . كما تقدم. فإذا كان اتخاذ الملائكة شفعاء من دون الله شركًا، فكيف باتخاذ الأموات كما يفعله عباد القبور؟ أم كيف باتخاذ الفجار والفساق إخوان الشياطين من المجاذيب الذين جذبهم إبليس إلى جانبه وطاعته شفعاء؟ وأعظم من ذلك اعتقاد الربوبية في هؤلاء الملاعين مع ما يشاهده الناس منهم من الفجور، وأنواع الفسوق، وترك الصلوات، وفعل المنكرات، والمشي في الأسواق عراة. كما قال بعض المتأخرين: كقوم عراة في ذرى مصر ما يرى ... على عورة منهم هناك ثياب. يدورون فيها كاشفين لعورة ... تواتر هذا لا يقال كذاب. يعدونهم في مصرهم فضلاءهم ... دعاؤهم فيما يرون مجاب ومن العجب أنهم لم يأتوا بشيء يدل على كون هؤلاء الشياطين

من جملة المسلمين، فضلا عن كونهم أولياء، فضلاً عن كونهم يدعون ويستغاث بهم إلا بشيء من المخاريق والسحر والشعبذة، يدعون أن لهم كرامات، وأنهم أولياء لما يظهرونه من المخاريق. وأعلم أن الضلال والكفر إنما استولى على أكثر المتأخرين بسبب نبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإحسان الظن بمن سحرهم، ودعا إلى نفسه، واقتصارهم على القوانين والدعاوي والأوضاع التي وضعوها لأنفسهم، وإلا فلو قرؤوا كتاب الله، وعلموا بما فيه، ورجعوا عند الاختلاف إليه لوجدوا فيه الهدى والشفاء والنور، ولكن نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلا فبئس ما يشترون وتقدم الكلام على بقية الآية. قال المؤلف: قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عونًا لله، ولم يبق إلا الشفاعة. فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} . فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له. ارفع رأسك، وقل يسمع، واسأل تعط واشفع تشفع. وقال له أبو هريرة: "من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 1. فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ولا تكون لمن أشرك، بالله وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، وينال المقام المحمود فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه.

_ 1 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373) .

ش: قوله: قال أبو العباس. هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، الإمام المشهور، صاحب "المصنفات" شهرته وإمامته في علوم الإسلام وتفننه تغني عن الإطناب في وصفه. قال الذهبي: لم يأت قبلة بخمس مائة سنة مثله، وفي رواية: بأربع مائة وقال أيضًا: لو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني لم أر مثله. وما رأي بعينيه مثل نفسه رحمه الله. وقال ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما يشاء، ويدع ما يشاء. وبالجملة فما أتى بعد عصر الإمام أحمد له نظير، وكانت وفاته سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. قوله: نفي الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، أي: أن الله تعالى نفى في الآية المذكورة قبل ما يتعلق به المشركون من الاعتقاد في غير الله من الملك والشركة فيه والمعاونة والشفاعة، فهذه الأمور الأربعة هي التي يتعلق بها المشركون. قوله: فنفى أن يكون لغيره ملك، وذلك في قوله تعالى: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 1. ومن لا يملك هذا المقدار فليس بأهل أن يدعى قوله: أو قسط منه. أي من الملك، والقسط- بكسر القاف- هو النصيب من الشيء، وذلك في قوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} . أي: ما لمن تدعون من الملائكة وغيرهم فيها، أي: في السماوات والأرض من شرك ومن ليس بمالك ولا شريك للمالك فكيف يدعي من دون الله؟! قوله: أو أن يكون عونًا لله، وذلك في قوله: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} أي ما لله ممن تدعونهم عون. قوله: ولم يبق إلا الشفاعة، فتبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب. إلخ. جملة الشروط التي لا بد وأن يكون أحدها في المدعو، أربعة حتى يقدر على إجابة من دعاه:

_ 1 سورة سبأ آية: 22.

الأول: الملك، فنفاه بقوله: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 1. الثاني: إذا لم يكن مالكا فيكون شريكا للمالك،. فنفاه بقوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} . الثالث: إذا لم يكن مالكا ولا شريكا للمالك فيكون عونا ووزيرًا فنفاه بقوله: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} الرابع: إذا لم يكن مالكا ولا شريكا ولا عونًا فيكون شفيعا، فنفى سبحانه وتعالى الشفاعة عنده إلا بإذنه، فهو الذي يأذن للشافع ابتداء فيشفع، فبنفي هذه الأمور بطلت دعوة غير الله، إذ ليس عند غيره من النفع والضر ما يوجب قصده بشيء من العبادة. كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 2. وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} 3. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} 4. قوله: فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن. يعني أن الشفاعة التي يطلبها المشركون من الشفعاء والأنداد من دون الله منتفية دنيا وأخرى، كما قال تعالى عن مؤمن يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 5. وقال تعالى عن مؤمن آل فرعون: {لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ} 6. وقال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 7. وقال تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي

_ 1 سورة سبأ آية: 22. 2 سورة الفرقان آية: 3. 3 سورة آية: 74-75. 4 سورة الفرقان آية: 55. 5 سورة آية: 23-24. 6 سورة غافر آية: 43. 7 سورة الأحقاف آية: 28.

يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} 1. وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} 2. وقال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} 3. فهذه حال كل من دعي من دون الله لشفاعة أو غيرها في الدنيا والآخرة قوله: وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولاً. إلى آخره. هذا ثابت في "الصحيحين" وغيرهما من حديث أنس وغيره عنه صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال: " فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين حتى أستأذن على ربي، فإذا رأيته وقعت له، أو خررت ساجدا لربي، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم قال: ارفع محمد، قل يسمع واشفع تشفع، وسل تعطه، فأرفع رأسي فأحمد بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه الثانية، فإذا رأيت ربي وقعت له، أو خررت ساجدًا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد، قل يسمع، وسل فتعطه. واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم اشفع فيحد لي حدًا، فأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة، فإذا رأيت ربي وقعت له، أو خررت ساجدًا لربي، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلّمنيه، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة، ثم أعود الرابعة فأقول: يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن" الحديث، فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يشفع إلا بعد الإذن في الشفاعة وفي المشفوع فيهم، كما قال: "فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة" 4. [أنواع الشفاعة التي تكون للرسول صلى الله عليه وسلم في القيامة] قوله: وقال أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك إلى آخره.

_ 1 سورة هود آية: 101. 2 سورة الأنعام آية: 94. 3 سورة القصص آية: 64. 4 البخاري: تفسير القرآن (4476) , ومسلم: الإيمان (193) , وابن ماجه: الزهد (4312) , وأحمد (3/116 ,3/244 ,3/247) .

هذا الحديث رواه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة فقال: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قبل نفسه" 1. وفي رواية: "خالصًا مخلصًا من قلبه أو نفسه " 2 رواه أحمد من طريق آخر، وصححه ابن حبان، وفيه: "وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا، يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه" 3. قال شيخ الإسلام: فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصًا. وقال في الحديث الصحيح: "من سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة" 4. ولم يقل: كان أسعد الناس بشفاعتي، فعلم أن ما يحصل للعبد بالتوحيد والإخلاص من شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها ما لا يحصل بغيره من الأعمال، وإن كان صالحا لسؤال الوسيلة للرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بما لم يأمر به من الأعمال، بل نهى عنه، فذلك لا يُنال به خيرٌ لا في الدنيا ولا في الآخرة، مثل غلو النصارى في المسيح، فإنه يضرهم ولا ينفعهم، ونظير هذا في "الصحيح" عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئًا" 5. وكذلك في أحاديث الشفاعة كلها إنما يشفع في أهل التوحيد، فبحسب توحيد العبد لربه، وإخلاصه دينه لله تعالى يستحق كرامة الله بالشفاعة وغيرها. وقال ابن القيم ما معناه: تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين من أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء، وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع. ومن جهل

_ 1 البخاري: الرقاق (6570) , وأحمد (2/373) . 2 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373) . 3 أحمد (2/307) . 4 مسلم: الصلاة (384) , والترمذي: المناقب (3614) , والنسائي: الأذان (678) , وأبو داود: الصلاة (523) , وأحمد (2/168) . 5 البخاري: الدعوات (6304) والتوحيد (7474) , ومسلم: الإيمان (199) , والترمذي: الدعوات (3602) , وابن ماجه: الزهد (4307) , وأحمد (2/275 ,2/313 ,2/381 ,2/396 ,2/409 ,2/426 ,2/430 ,2/486) , ومالك: النداء للصلاة (492) , والدارمي: الرقاق (2805) .

المشرك اعتقاده أن من اتخذه وليا أو شفيعًا أنه يشفع له، وينفعه عند الله، كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم، ولم يعلموا أن الله لا يشفع عند أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا من رضي قوله وعمله، قال تعالى في الفصل الأول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1. وفي الفصل الثاني: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 2. وبقي فصل ثالث وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فهذه ثلاثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها. انتهى ملخصًا. وقال الحافظ: المراد بهذه الشفاعة، المسؤول عنها هنا بعض أنواع الشفاعة، وهي التي يقول صلى الله عليه وسلم: "أمتي أمتي"، فيقال له: أخرج من النار من كان في قلبه وزن كذا من الإيمان. فأسعد الناس بهذه الشفاعة من يكون إيمانه أكمل ممن دونه. وأما الشفاعة العظمى فالإراحة من كرب الموقف. فأسعد الناس بها من يسبق إلى الجنة، وهم الذين يدخلونها بغير حساب، ثم الذين يلونهم وهو من يدخلها بغير عذاب بعد أن يحاسب. ويستحق العذاب، ثم من يصيبه لفح من النار ولا يسقط. واعلم أن شفاعته صلى الله عليه وسلم في القيامة ستة أنواع كما ذكره ابن القيم: الأول: الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها. أولو العزم عليهم الصلاة والسلام حتى تنتهي إليه فيقول: "أنا لها". وذلك حين يرغب الخلائق إلى الأنبياء ليشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف. وهذه شفاعة يختص بها، لا يشركه فيها أحد. الثاني: شفاعته لأهل الجنة في دخولها. وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه. الثالث: شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار، فيشفع لهم أن لا يدخلوها.

_ 1 سورة البقرة آية: 255. 2 سورة الأنبياء آية: 28.

الرابع: شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين دخلوا النار بذنوبهم، والأحاديث بها متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة، وبدعوا من أنكرها، وصاحوا به من كل جانب، ونادوا عليه بالضلال. الخامس: شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفع درجتهم، وهذه مما لم ينازع فيها أحد. السادس: شفاعته في بعض الكفار من أهل النار حتى يخفف عذابه، وهذه خاصة بأبي طالب وحده. قوله: وحقيقته. أي: حقيقة الأمر، أي: أمر الشفاعة أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه، وينال المقام المحمود. فهذا هو حقيقة الشفاعة، لا كما يظن المشركون والجهال أن الشفاعة هي كون الشفيع يشفع ابتداء فيمن شاء، فيدخله الجنة وينجيه من النار. ولهذا يسألونها من الأموات وغيرهم إذا زاروهم وذلك أنهم قالوا: إن الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله لا تزال تأتيه الألطاف من الله، وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به، وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له. قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره. وكل ما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به، وشفاعته له. قال ابن القيم: وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور. وبهذا

السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذ أعياد، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد الرسول صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقه، وناقضوه في قصده وكان صلى الله عليه وسلم في شق وهؤلاء في شق. وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله. قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله، وتوجه بهمته إليه، وعكف بقلبه عليه، صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به، فما يحصل لذلك السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق بحسب تعلقه به. فهذا سر عبادة الأصنام وهو الذي بعث الله رسله، وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه، ولعنهم، وأباح دماءهم، وأموالهم، وسبى ذراريهم، وأوجب لهم النار، والقرآن من أوله إلى آخره، مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم. انتهى. قوله: (وينال المقام المحمود) ، أي: المقام الذي يحمده فيه الخلائق كلهم وخالقهم تبارك وتعالى: قال ابن جرير: قال أكثر أهل التأويل: ذلك المقام، الذي يقومه صلى الله عليه وسلم الشفاعة للناس ليريحهم ربهم مما هم فيه من شدة ذلك اليوم. وقال "ابن عباس: المقام المحمود مقام الشفاعة". وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال قتادة: هو أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود. قوله: فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك. يعني: أن الشفاعة التي نفاها الله في القرآن هي الشفاعة التي فيها شرك بالله، من دعاء غير الله وعبادته ليشفع له عند الله، فإن الله سبحانه نفى هذه

الشفاعة، وأخبر أنها لا تكون أبدًا، بل أخبر أن ذلك شرك، ونزه نفسه عنه، ونفى أن يكون للمؤمنين ولي أو شفيع من دونه، مع أن الشفاعة يوم القيامة لهم بإذنه، لا للمشركين كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 1. فنفى سبحانه أن تنفع الشفاعة أحدًا {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ} قوله وعمله، وهو المؤمن المخلص. وأما المشرك الداعي لغير الله ليشفع له فلا تنفعه الشفاعة، ولا يؤذن لأحد في الشفاعة فيه. كما قال: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} . وقال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} 2. قوله: وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخره. تقدم ما يتعلق بذلك والله أعلم

_ 1 سورة طه آية: 109. 2 سورة القصص آية: 64.

باب قول الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت}

[باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ، [القصص: 56] ،] . أراد المصنف رحمه الله الرد على عباد القبور الذين يعتقدون في الأنبياء والصالحين أنهم ينفعون ويضرون، فيسألونهم مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب، وهداية القلوب، وغير ذلك من أنواع المطالب الدنيوية والأخروية، ويعتقدون أن لهم التصرف بعد الموت على سبيل الكرامة. وقد وقفت على رسالة لرجل منهم في ذلك، ويحتجون على ذلك بقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يقول قائلهم [البوصيري] في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم الروح والقلم. فإذا عرف الإنسان معنى هذه الآية ومن نزلت فيه; تبين له بطلان قولهم وفساد شركهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق

وأقربهم من الله، وأعظمهم جاها عنده، ومع ذلك حرص واجتهد على هداية عمه أبي طالب في حياة أبي طالب وعند موته، فلم يتيسر ذلك ولم يقدر عليه، ثم استغفر له بعد موته، فلم يغفر له حتى نهاه الله عن ذلك. ففي هذا أعظم البيان، وأوضح البرهان على أنه صلى الله عليه وسلم لا يملك ضرًا ولا نفعًا، ولا عطاء ولا منعًا، وأن الأمر كله بيد الله، فهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، ويكشف الضر عمن يشاء، ويصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم وهو الذي من جوده الدنيا والآخرة، وهو بكل شيء عليم. ولو كان عنده صلى الله عليه وسلم من هداية القلوب ومغفرة الذنوب وتفريج الكروب شيء ; لكان أحق الناس به، وأولاهم من قام معه أتم القيام ونصره، وأحاطه من بلوغه ثمان سنين إلى ما بعد النبوة بثمان سنين أو أكثر، بل قال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1. وقال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى} 2. فهل يجتمع في قلب عبد الإيمان بهذه الآيات وما أشبهها، والإيمان بذلك البيت وما أشبهه، ولكن قاتل الله أعداءه الذين جاوزوا الحد في إطرائه والغلو فيه. وأما معنى الآية فقال ابن كثير: يقول تعالى لرسوله: إنك يا محمد لا تهدي من أحببت، أي: ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 3 وقال: {وَمَا أَكْثَرُ

_ 1 سورة الأعراف آية: 188. 2 سورة الأنعام آية: 50. 3 سورة البقرة آية: 272.

النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 1. وهذه الآية أخص من هذا كله فإنه قال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 2. أي: أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية. وقد ثبت في "الصحيحين" أنها نزلت في أبي طالب، وقد كان يحوطه وينصره، ويقوم في حقه، ويحبه حبًا طبعيًا لا حبًا شرعيًا، فلما حضرته الوفاة وحان أجله دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام فسبق القدر فيه، واختطف من يده، واستمر على ما كان عليه من الكفر ولله الحجة البالغة. فإن قلت: قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3. فالجمع بينها وبين الآية. المترجم لها، قيل: الهداية التي تصح نسبتها لغير الله بوجه ما هي هداية الإرشاد والدلالة، كما قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4. أي: ترشد وتبين، والهداية المنفية عن غير الله هي هداية التوفيق وخلق القدرة على الطاعة، ذكره بعضهم بمعناه. قال: في " الصحيح " عن ابن المسيب عن أبيه قال. "لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل فقال: يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أُحَاجُّ لك بها عند الله، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة] " وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 5. ش: قوله في "الصحيح". أي "الصحيحين". قوله: (عن ابن المسيب) ، هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي

_ 1 سورة يوسف آية: 103. 2 سورة القصص آية: 56. 3 سورة الشورى آية: 52. 4 سورة الشورى آية: 52. 5 سورة القصص آية: 56.

وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي، أحد العلماء الأثبات، الفقهاء الكبار، الحفاظ العباد، اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل. وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين، وأبوه المسيب صحابي، بقي إلى خلافة عثمان رضي الله عنه وكذلك جده حزن صحابي، استشهد باليمامة. قوله: (لما حضرت أبا طالب الوفاة) ، أي: حضرت علامات الوفاة وإلا فلو كان انتهى إلى المعاينة لم ينفعه الإيمان لو آمن. ويدل على ذلك ما وقع من المراجعة بينه وبينهم، ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة، لكن رجا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقر بالتوحيد ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه بخصوصه، ويسوغ فيه شفاعته صلى الله عليه وسلم ولهذا قال: أجادل لك بها، وأشهد لك بها، وأحاج لك بها. ويدل على الخصوصية أنه بعد أن امتنع من الإقرار بالتوحيد، ومات على الامتناع منه لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة له، بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة إلى غيره. وكان ذلك من الخصائص في حقه. قوله: (جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، يحتمل أن يكون المسيب حضر هذه القصة، فإن المذكورين من بني مخزوم وهو أيضًا مخزومي، وكانوا يومئذ كفارًا فمات أبو جهل على كفره، وأسلم الآخران. وقول بعض الشراح: إن هذا الحديث من مراسيل الصحابة مردود، وفي هذا جواز عيادة المشرك إذا رجي إسلامه. وجواز حمل العلم إذا كان فيه مصلحة راجحة على عدمه. قوله: (يا عم) . منادى مضاف يجوز فيه إثبات الياء وحذفها. قوله: (قل لا إله إلا الله) ، أي: قل هذه الكلمة، عارفًا لمعناها، معتقدًا له في هذه الحال وإن لم تعمل به، إذ لا يمكن عند الموت إلا ذلك، ولا بد مع ذلك من شهادة أن محمدًا رسول الله.

قوله: (كلمة) . قال القرطبي: أحسن ما تقيد "كلمة" بالنصب على أنه بدل من لا إله إلا الله، ويجوز رفعها على احتمال المبتدأ. قوله: (أحاج لك بها عند الله) . هو بتشديد الجيم من "المحاجة" وهي مفاعلة من الحجة، والجيم مفتوحة، على الجزم جواب الأمر، أي: أشهد لك بها عند الله كما في الرواية الأخرى وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم، لأنه لو قالها لنفعته، وإن مات على التوحيد نفعته الشفاعة وإن لم يعمل شيئًا غير ذلك، وأن من كان كافرًا يجحدها إذا قالها عند الموت أجريت عليه أحكام الإسلام، فإن كان صادقًا من قلبه نفعته عند الله، وإلا فليس لنا إلا الظاهر، بخلاف من كان يتكلم بها في حال كفره. قوله: (فقالا له) : أترغب عن ملة عبد المطلب. ذَكَّرَاهُ الحجة الملعونة التي يتعلق بها المشركون من الأولين والآخرين، ويردون بها على الرسل، وهي تقليد الآباء والكبراء، وأخرجا الكلام مخرج الاستفهام مبالغة في الإنكار لعظمة هذه الحجة في قلوب الضالين، وكذلك اكتفيا بها في المجادلة، مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصرا عليها. قال المصنف: وفيه تفسير لا إله إلا الله بخلاف ما عليه أكثر من يدعي العلم. وفيه أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال الرجل: قل لا إله إلا الله. فقبح الله مَن أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام. قوله: (فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأعادا) ، أي: أعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم مقالته، وأعادا عليه مقالتهما مبالغة منه صلى الله عليه وسلم وحرصًا على إسلام عمه، ومع ذلك لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولا على تخليصه من عذاب الله، بل سبق فيه القضاء المحتوم، واستمر على كفره ليعلم الناس أن لا إله إلا الله فلو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم من هداية القلوب، وتفريج الكروب شيء، لكان أحق الناس بذلك وأولاهم عمه الذي فعل معه ما فعل. وفيه الحرص في الدعوة إلى الله والصبر على

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن رد ذلك على صاحبه، وتكريره وعدم الاكتفاء بمرة واحدة. قوله: (فكان آخر ما قال - هو بنصب آخر على الظرفية-) ، أي: آخر زمن تكليمه إياهم، ويجوز رفعه. قوله: (هو على ملة عبد المطلب) . الظاهر أن أبا طالب قال: أنا، فغيره الراوي أنفة أن يحكي كلام أبي طالب استقباحًا للفظ المذكور، وهي من التصرفات الحسنة، قاله الحافظ وقد رواه الإمام أحمد بلفظ أنا. فدل على ما ذكرناه. قوله: (وأبى أن يقول لا إله إلا الله) . قال الحافظ: هذا تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب، وكأنه استند في ذلك إلى عدم سماعه منه في تلك الحال. كذا قال. وفيه نظر، بل نفيه مستند إلى إباء أبي طالب عن قولها بقوله: وهو على ملة عبد المطلب. قال المصنف: وفيه الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه، ومضرة أصحاب السوء على الإنسان، ومضرة تعظيم الأسلاف والأكابر. أي: زيادة على المشروع بحيث يجعل أقوالهم حجة يرجع إليها عند التنازع. قوله: فقال النبي: "لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك" 1. أقسم صلى الله عليه وسلم ليستغفرن له إلا أن ينهى عن ذلك، كما في رواية مسلم: "أما والله لأستغفرن لك" قال النووي: وفيه جواز الحلف من غير استحلاف، وكأن الحلف هنا لتأكيد العزم على الاستغفار، وتطبيبًا لنفس أبي طالب وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل. قال ابن فارس: مات أبو طالب ولرسول الله صلى الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يومًا. وتوفيت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثمانية أيام.

_ 1 البخاري: الجنائز (1360) , ومسلم: الإيمان (24) , والنسائي: الجنائز (2035) , وأحمد (5/433) .

قوله: فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 1. أي: ما ينبغي لهم ذلك، وهو خبر بمعنى النهي. وقد روى الطبري عن عمرو بن دينار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى نهاني عنه ربي فقال أصحابه: نستغفر لآبائنا كما استغفر نبينا لعمه فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} ". وهذا فيه إشكال لأن وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقًا. وقد ثبت "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية" 2. وفيه دلالة على تأخر نزول الآية عن وفاة أبي طالب، ولكن يحتمل أن يكون نزول الآية تأخر وإن كان سببها تقدم، ويكون لنُزولها سببان: متقدم: وهو أمر أبي طالب، ومتأخر: وهو أمر أمه ويؤيد تأخر النّزول استغفاره صلى الله عليه وسلم للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك، فإن ذلك يقتضي تأخر النزول وإن تقدم السبب ويشير إلى ذلك أيضًا قوله في حديث الباب، وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} . لأنه يشعر بأن الأولى نزلت في أبي طالب وفي غيره، والثانية فيه وحده. ويؤيد تعدد السبب ما أخرج أحمد عن علي قال: "سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ... } الآية". قاله الحافظ، وفيه تحريم الاستغفار للمشركين، وتحريم موالاتهم ومحبتهم، لأنه إذا حرم الاستغفار لهم، فموالاتهم ومحبتهم أولى.

_ 1 سورة التوبة آية: 113. 2 ضعيف. وأخرجه مسلم (976) ، بنحوه دون سبب النُّزول.

باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين ... [13- باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم وهو الغلو في الصالحين] أما تركهم فهو مجرور عطفًا على المضاف إليه، ولما ذكر المصنف رحمه الله بعض ما يفعله عباد القبور مع الأموات من الشرك، أراد أن يبين السبب في ذلك ليحذر، وهو الغلو مطلقًا لاسيما في الصالحين، فإنه أصل الشرك قديمًا وحديثًا لقرب الشرك بالصالحين من النفوس فإن الشيطان يظهره في قالب المحبة والتعظيم. وقول الله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 1. قال العلماء: الغلو هو مجاورة الحد في مدح الشيء أو ذمه، وضابطه تعدي ما أمر الله به وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله: {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} 2. وكذا قال تعالى في هذه الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 3. أي: لا تتعدوا ما حدد الله لكم. وأهل الكتاب هنا هم اليهود والنصارى، فنهاهم عن الغلو في الدين ونحن كذلك، كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 4. والغلو كثير في النصارى، فإنهم غلوا في عيسى عليه السلام، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدون الله، بل غلوا فيمن زعم أنه على دينه من أتباعه، فادعوا فيهم العصمة، فاتبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقا أو باطلا، وناقضتهم اليهود في أمر عيسى عليه السلام، فغلوا فيه فحطوه من منْزلته حتى جعلوه ولد بغي. قال شيخ الإسلام: ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط وضاهاهم في ذلك، فقد شابههم كالخوارج المارقين من الإسلام، الذين خرجوا في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقاتلهم حين خرجوا على المسلمين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك من عشرة أوجه في "الصحاح" و "المسانيد" وغير: ذلك،

_ 1 سورة المائدة آية: 77. 2 سورة طه آية: 81. 3 سورة النساء آية: 171. 4 سورة هود آية: 112.

وكذلك من غلا في دينه من الرافضة والقدرية والجهمية والمعتزلة والأشاعرة. وقال أيضًا: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام، وقد مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام وذلك، بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 1. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذفهم فيها واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم، ولكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف من غير تحريق. وهو قول أكثر العلماء. [سبب عبادة الأصنام] قال: في "الصحيح" عن "ابن عباس في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} . قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت". ش: قوله: في "الصحيح"، أي: "صحيح البخاري". وهذا الأثر اختصره المصنف، وقد رواه البخاري عن ابن عباس ولفظه: (وصارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث، فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف2 عند سبأ، وأما يعوق، فكانت لهمدان، وأما نسر، فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين في قوم نوح ... ) إلى آخره. وهكذا روي عن عكرمة والضحاك وابن إسحاق نحو هذا.

_ 1 سورة المائدة آية: 77. 2 كذا تبعاً لبعض نسخ البخاري، ولعلّ الصّواب: (الْجَوف) تبعاً لبعضها الآخر، كما قال ياقوت الحموي.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس: أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كانوا أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون، دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم. قال سفيان عن أبيه عن عكرمة قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، وروى ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أنهم كانوا أولاد آدم لصلبه، وكان ود أكبرهم وأبرهم به، هكذا رواه عمر بن شبه في "أخبار مكة" من طريق محمد بن كعب القرظي، وذكر السهيلي في "التعريف": أن يغوث بن شيث بن آدم فيما قيل، وكذا سواع وما بعده. فكانوا يتبركون بدعائهم، وكلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بها إلى زمن مهلاييل، فعبدوها بتدريج الشيطان لهم، ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية. ولا أدري من أين سرت تلك الأسماء أمن قبل الهند؟ فقد قيل: إنهم كانوا المبدأ في عبادة الأصنام بعد نوح عليه السلام، أم الشيطان ألهم العرب ذلك. انتهى وقد روى الفاكهي عن ابن الكلبي قال: كان لعمرو بن ربيعة رئي1 من الجن فأتاه فقال: أجب أبا ثمامة وادخل بلا ملامة، ثم ائت سيف2 جدة، تجد بها أصناما معدة، ثم أوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تُجَبْ. قال فأتى عمرو ساحل جدة فوجد بها ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا، وهي الأصنام التي عبدت على عهد نوح وإدريس، ثم إن الطوفان طرحها هناك فسفا عليها

_ 1 هو: الْجِنِّيّ يعرض للإنسان ويُطْلبه على ما يزعم من الغيب، أو يُلْهِمه الشِّعر. 2 أي: ساحل.

الرمل، فاستثارها عمرو وخرج بها إلى تهامة، وحضر الموسم ودعا إلى عبادتها فأجيب. وعمرو بن ربيعة: هو عمرو بن لحي، قاله الحافظ. قلت: وهو سيد خزاعة، وكان أول من سيب السوائب، وغير دين إبراهيم عليه السلام. وكانت العرب قبله على دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، حتى نشأ فيهم عمرو فأحدث الشرك، كما روى ابن جرير عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون1: "يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك فقال أكثم: أتخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك مؤمن، وهو كافر، إنه أول من غير دين إبراهيم، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، وحمى الحامي". إسناده حسن. وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب" 2. قوله: أن انصبوا. بكسر الصاد المهملة. قوله: أنصابًا جمع نصب، وأصله ما نصب كغرض ونحوه، والمراد به هنا الأصنام المصورة على صورهم المنصوبة في مجالسهم. قوله: حتى إذا هلك أولئك، أي: الذين نصبوها ليكون أشوق إليهم إلى العبادة، وليتذكروا برؤيتها أفعال أصحابها.

_ 1 هو: صحابي جليل وعمّ الصّحابي سليمان بن صُرَد، وهما من نسل ابن لُحَيْيّ. 2 البخاري: تفسير القرآن (4623) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2856) .

قوله: ونسي العلم. أي: زالت المعرفة بحالها وما قصده من صورها، وغلب الجهال الذين لا يميزون بين التوحيد والشرك، وذهب العلماء الذين يعرفون ذلك. قوله: عبدت. تقدم أنه دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم. وفي رواية أنهم قالوا: ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله، فعبدوهم فهذا هو السبب في عبادة هؤلاء الصالحين، وهو رجاء شفاعتهم عند الله، وكذلك هو السبب في عبادة صورهم، وهذه هي الشبهة التي ألقاها الشيطان على المشركين من الأولين والآخرين. وقد بين الله ذلك في القرآن بيانًا شافيًا، وتقدم في هذا الكتاب من الكلام على ذلك ما يكفي لمن هداه الله. قال: وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمر فعبدوهم. ش: قوله: وقال ابن القيم. هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية، تلميذ شيخ الإسلام، وصاحب المصنفات الكثيرة في فنون العلم. قال الحافظ السخاوي في حقه: العلامة الحجة، المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان، المجمع عليه بين الموافق والمخالف، صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة. مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. قوله: قال غير واحد من السلف إلى آخره. الظاهر أن ابن القيم ذكر ذلك بالمعنى لا باللفظ، وقد روي عن غير واحد من السلف معنى ذلك، منهم أبو جعفر الباقر وغيره، وتقدم ما يدل على ذلك.

قوله: ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. أي: طال عليهم الزمان، ونسوا ما قصده الأولون بتصوير صورهم، فعبدوهم، فتبين أن مبدأ الشرك بالصالحين هو الغلو فيهم، كما أن سبب الشرك بالنجوم هو الغلو فيها واعتقاد النحوس فيها والسعود، ونحو ذلك. وهذا هو الغالب على الفلاسفة ونحوهم، كما أن ذاك هو الغالب على عباد القبور، ونحوهم، وهو أصل عبادة الأصنام، فإنهم عظموا الأموات تعظيمًا مبتدعًا، فصوروا صورهم، وتبركوا بها، فآل الأمر إلى أن عبدت الصور ومن صورته، وهذا أول شرك حدث في الأرض، وهو الذي أوحاه الشيطان إلى عباد القبور في هذه الأزمان، فإنه ألقى إليهم أن البناء على القبور والعكوف عليها من محبة الصالحين وتعظيمهم، وأن الدعاء عندها أرجى في الإجابة من الدعاء في المسجد الحرام والمساجد، فاعتادوها لذلك. فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى الدعاء به والإقسام على الله به. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذا أعظم من الذي قبله، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعائه وعبادته، وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنًا يعكف عليه، وتعلق عليه القناديل والستور ويطاف به ويستلم، ويقبل ويحج إليه، ويذبح عنده، فإذا تقرر ذلك عندهم، نقله منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدًا ومنسكًا، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم، وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد لله، وألا يعبد إلا الله، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أنّ مَنْ نَهى عن ذلك، فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم عن منْزلتهم، وزعم أنهم لا حرمة لهم، ولا قدر، وغضب المشركون، واشمأزت قلوبهم كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 1. وسرى

_ 1 سورة الزمر آية: 45.

ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} 1. قلت: وفي القصة فوائد نبه المصنف على بعضها. منها: أن من فهم هذا الباب وما بعده تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله، وتقليبه القلوب العجب. ومنها: معرفة أن أول شرك حدث في الأرض بشبهة محبة الصالحين. ومنها: معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء. ومنها: معرفة سبب قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تنكرها. ومنها: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول محبة الصالحين، والثاني فعل أناس من أهل العلم والدين شيئًا أرادوا به خيرًا فظن من بعدهم أنهم أرادوا غيره. ومنها: معرفة جبلة الإنسان في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد. ومنها: أن فيها شاهدًا لما نقل عن بعض السلف أن البدعة سبب للكفر، وأنها أحب إلى إبليس من المعصية، لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. ومنها: معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل. ومنها: معرفة القاعدة الكلية وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يؤول إليه.

_ 1 سورة الأنفال آية: 34.

ومنها: مضرة العكوف على قبر لأجل عمل صالح. ومنها: معرفة النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها. ومنها: معرفه عظم شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها. ومنها: -وهي أعجب العجب- قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بين قلوبهم، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن نهي الله ورسوله هو الكفر المبيح للدم والمال. ومنها: التصريح أنهم لم يريدوا إلا الشفاعة. ومنها: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك ومنها: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها معرفة قدر وجوده، ومضرة فقده. ومنها: أن سبب فقد العلم موت العلماء. انتهى بمعناه. ومنها: شدة حاجة الخلق بل ضرورتهم إلى الرسالة، وأن ضرورتهم إليها أشد وأعظم من ضرورتهم إلى الطعام والشراب. ومنها: الرد على من يقدم الشبهات التي يسميها عقليات على ما جاء من عند الله، لأن ذلك الذي أوقع المشركين في الشرك. ومنها: مضرة التقليد وكيف آل بأهله إلى المروق من الإسلام. [النهي عن الإطراء ومجاوزة الحد في المدح] قال: وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" 1 أخرجاه. ش: قوله عن عمر. هو ابن الخطاب بن نفيل بنون وفاء مصغرًا بن عبد العزى بن رياح بتحتانية بن عبد الله بن قرط بضم القاف بن رزاح براء ثم زاي خفيفة بن عدي بن كعب

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23) .

القرشي العدوي، أمير المؤمنين وأفضل الصحابة بعد الصديق رضي الله عنهما، ولي الخلافة عشر سنين ونصفًا، فامتلأت الدنيا عدلاً، وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر، واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. قوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" 1. الإطراء: مجاوزة الحد في المدح، والكذب فيه، قاله أبو السعادات. وقال غيره: لا تطروني بضم التاء وسكون الطاء المهملة من الإطراء، أي: لا تمدحوني بالباطل، أو لا تجاوزوا الحد في مدحي. قوله: (إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) ، أي: لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى، فادعوا فيه الربوبية، وإنما أنا عبد لله فصفوني بذلك كما وصفني به ربي، وقولوا عبد الله ورسوله. فأبى عباد القبور إلا مخالفة لأمره، وارتكابًا لنهيه، وناقضوه أعظم المناقضة، وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبد الله ورسوله، وأنه لا يدعى ولا يستغاث به، ولا ينذر له، ولا يطاف بحجرته، وأنه ليس له من الأمر شيء، ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، أن في ذلك هضمًا لجنابه، وغضًا من قدره، فرفعوه فوق منْزلته، وادعوا فيه ما ادعت النصارى في عيسى أو قريبًا منه، فسألوه مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب. وقد ذكر شيخ الإسلام في كتاب "الاستغاثة" عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف فيه مصنفًا. وكان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله. وحكى عن آخر من جنسه يباشر التدريس، وينسب إلى الفتيا أنه كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه، وأن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن، ثم انتقل في ذرية الحسن إلى أبي الحسن الشاذلي، وقالوا: هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع، ومن هؤلاء من يقول

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23) .

في قول الله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يسبَّح بكرة وأصيلاً ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله، فيجعلون الرسول معبودًا. قلت: وقال البوصيري: 154 فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم الروح والقلم. فجعل الدنيا والآخرة من جوده، وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، وهذا هو الذي حكاه شيخ الإسلام عن ذلك المدرس، وكل ذلك كفر صريح. ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته عليه السلام وتعظيمه ومتابعته، وهذا شأن اللعين لا بد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام اتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، لأن هذا ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح وهم أبعد الناس منه، فإن التعظيم بالقلب: ما يتبع اعتقاد كونه عبدًا رسولاً، من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين. ويصدق هذه المحبة أمران: أحدهما: تجريد التوحيد، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرص الخلق على تجريده، حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال: "أجعلتني لله ندًّا؟ بل ما شاء الله وحده" 1. ونهى أن يحلف بغير الله، وأخبر أن ذلك شرك. ونهى أن يصلى إلى القبر أو يتخذ مسجدًا أو عيدًا، أو يوقد عليه سراج، بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحا النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره النبي بقوله وفعله، وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه. الثاني: تجريد متابعته، وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من

_ 1 أحمد (1/214) .

أصول الدين وفروعه، والرضى بحكمه، والانقياد له والتسليم، والإعراض عما خالفه، وعدم الالتفات إلى ما خالفه، حتى يكون وحده هو الحاكم المتبع المقبول قوله، المردود ما خالفه، كما كان ربه تعالى وحده هو المعبود المألوه المخوف المرجو المستغاث به، المتوكل عليه، الذي إليه الرغبة والرهبة، الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد ومغفرة الذنوب، الذي من جوده الدنيا والآخرة، الذي خلق الخلق وحده، ورزقهم وحده، ويبعثهم وحده، ويغفر ويرحم ويهدي ويضل، ويسعد ويشقي وحده، وليس لغيره من الأمر شيء كائنًا من كان، لا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ولا لجبريل عليه السلام ولا غيرهما. فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم، النافع للمعظم في معاشه ومعاده، والذي هو لازم إيمانه وملزومه. وأما التعظيم باللسان، فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به عليه ربه وأثنى على نفسه من غير غلو ولا تقصير، كما فعل عباد القبور، فإنهم غلوا في مدحه إلى الغاية. وأما التعظيم بالجوارح، فهو العمل بطاعته، والسعي في إظهار دينه، ونصر ما جاء به، وجهاد ما خالفه. وبالجملة فالتعظيم النافع هو التصديق فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله، وتحكيمه وحده، والرضى بحكمه، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله فما وافقها من قوله صلى الله عليه وسلم قبله، وما خالفها رده أو تأوله أو أعرض عنه، والله سبحانه يشهد وكفى به شهيدًا وملائكته ورسله وأولياؤه، أن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك، والله المستعان. [النهي عن التنطع في الدين] وقال المصنف: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" 1.

_ 1 النسائي: مناسك الحج (3057) .

ش: هكذا ثبت هذا البياض في أصل المصنف، وذكره أيضًا غير معزو. والحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس، وهذا لفظ ابن ماجة: حدثنا علي بن محمد حدثنا أبو أسامة عن عوف عن زياد بن الحصين عن أبي العالية عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غداة العقبة وهو على ناقته: القط لي حصى. فلقطت له سبع حصيات هن حصى الحذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" 1. وهذا إسناد صحيح. وعوف، هو الأعرابي ثقة مشهور. قوله: إياكم والغلو. إلى آخره. قل شيخ الإسلام: هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه، مثل الرمي بالحجارة الكبار، بناء على أنه أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقتضي مجانبة هديهم، أي: هدي من كان قبلنا إبعادًا عن الوقوع فيما هلكوا به، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك. قال: ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون قالها ثلاثا" 2. ش: قوله: "هلك المتنطعون"3. قال الخطابي: المتنطع المتعمق في الشيء، المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام، الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم. وقال أبو السعادات: هم المتعمقون الغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم; مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولاً وفعلاً. وقال غيره: هم الغالون في عبادتهم بحيث تخرج عن قوانين الشريعة، ويسترسل مع الشيطان في الوسوسة. وكل هذه الأقوال

_ 1 النسائي: مناسك الحج (3057) . 2 مسلم: العلم (2670) , وأبو داود: السنة (4608) , وأحمد (1/386) . 3 مسلم: العلم (2670) , وأبو داود: السنة (4608) , وأحمد (1/386) .

صحيحة، فإن المتكلفين من أهل الكلام متنطعون، والمتقعرون في الكلام ومخارج الحروف متنطعون، والغالون في عباداتهم متنطعون، وبالجملة فالتنطع: التعمق في قول أو فعل كما قال أبو السعادات. وقال النووي: فيه كراهة المتقعر في الكلام بالتشدق، وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم. قوله: (قالها ثلاثًا) . أي: قال هذه الكلمة ثلاث مرات، مبالغة في التحذير والتعليم، فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين، فما ترك شيئًا يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا أخبرنا به، وإنما ضل الأكثرون بمخالفة هذه الأحاديث وما في معناها، فغلوا وتنطعوا فهلكوا، ولو اقتصروا على ما جاءهم من ربهم على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلموا وسعدوا، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 51.

باب ما جاء من التغليظ في من عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟!

باب ما جاء من التغليظ في من عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟! ... [باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟!] أي: عبد القبر أو الرجل الصالح، ولما كان عباد القبور إنما دُهُوا من حيث ظنوا أنهم محسنون، فرأوا أن أعمالهم القبيحة حسنة، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ... } 1 الآية. نَوَّعَ المصنف التحذير من الافتتان بالقبور، وأخرجه في أبواب مختلفة، ليكون أوقع في القلب، وأحسن في التعليم، وأعظم في الترهيب، فإذا كان قصد قبور الصالحين لعبادة الله عندها فيه من

_ 1 سورة فاطر آية: 8.

النهي والوعيد ما سَيَمُرُّ بك إن شاء الله، فكيف بعبادة أربابها من دون الله واعتيادها لذلك في اليوم والأسبوع والشهر مرات كثيرة. قال: في "الصحيح" عن عائشة أن "أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور. فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" 1. فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل. ش قوله: في "الصحيح". أي في "الصحيحين". قوله: أن أم سلمة. هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله ابن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية; تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل ثلاث، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة، ماتت سنة اثنتين وستين. قوله: (ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم) . كان ذكر أم سلمة هذه الكنيسة للنبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته، كما جاء مبينًا في رواية في "الصحيح". وفي "الصحيحين" أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (كنيسة) . وفي رواية يقال: لها مارية، وهي بفتح الكاف وكسر النون: معبد النصارى. قوله: (أولئك) . بفتح الكاف وكسرها. قوله: (إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح) . هذا والله أعلم شك من بعض رواة الحديث، هل قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا أو هذا، ففيه التحري في الرواية، وجواز رواية الحديث بالمعنى. قوله: (بنوا على قبره مسجدًا) ، أي: موضعًا للعبادة، وإن لم يسم مسجدًا كالكنائس والمشاهد. قوله: (وصوروا فيه تلك الصور) . الإشارة بتلك الصور إلى

_ 1 البخاري: الصلاة (434) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/51) .

ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنيسة، كما في بعض ألفاظ الحديث فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها. قوله: (أولئك شرار الخلق عند الله) . مقتضى هذا تحريم ما ذكر، لا سيما وقد ثبت اللعن عليه. قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانًا، لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم ومنع المسلمين عن مثل ذلك. قال القرطبي: وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سدًّا للذريعة المؤدية إلى ذلك. قوله: (فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين....) إلى آخره. هذا من كلام شيخ الإسلام، ذكره المصنف عنه. يعني أن الذين بنوا هذه الكنيسة جمعوا فيها بين فتنتين، ضل بها كثير من الخلق. الأولى: فتنة القبور، لأنهم افتتنوا بقبور الصالحين، وعظموها تعظيمًا مبتدعًا، فآل بهم إلى الشرك، وهي أعظم الفتنتين، بل هي مبدأ الفتنة. الثانية: وهي فتنة التماثيل، أي: الصور، فإنهم لما افتتنوا بقبور الصالحين وعظموها، وبنوا عليها المساجد، وصوروا فيها الصور للقصد الذي ذكره القرطبي، فآل الأمر إلى أن عبدت الصور ومن هي صورته من دون الله، وهاتان الفتنتان هما سبب عبادة الصالحين كاللات وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وغيرهم من الصالحين. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وهذه العلة هي التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور، وهي التي أوقعت كثيرًا من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم لكواكب ونحو ذلك، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب

إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر. ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها ويخشعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد، فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقًا وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد. كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها، لأنها أوقات يقصد المشركون فيها الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون سدًّا للذريعة. قال: وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركًا بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد. فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، فقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليط فيه. وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة. وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة. والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم إحسانًا للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه. [لعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد] قال: ولهما عنها قالت: "لما نُزِلَ برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا" 1 أخرجاه.

_ 1 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121) , والدارمي: الصلاة (1403) .

ش: هكذا ثبت في أول هذا الحديث "ولهما" وفي آخره: "أخرجاه" بخط المصنف، وأحد اللفظين يغني عن الآخر، لأن المراد صاحبا "الصحيحين". قوله: (لما نزل) . هو بضم النون وكسر الزاي. أي: نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام. قوله: (طفق) ، بكسر الفاء وفتحها والكسر أفصح، وبه جاء القرآن ومعناه: جعل. قوله: (خميصة) ، بفتح المعجمة كساء له أعلام. قوله: (فإذا اغتم بها كشفها) ، أي: إذا احتبس نفسه عن الخروج كشفها عن وجهه. قوله: "لعن الله اليهود والنصارى" إلى آخره. لعنهم صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل بعينه وهو اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، أي: كنائس وبيع يتعبدون ويسجدون فيها لله، وإن لم يسموها مساجد، فإن الاعتبار بالمعنى لا بالاسم. ومثل ذلك القباب والمشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، فإنها هي المساجد الملعون من بناها على قبورهم وإن لم يسمها من بناها مساجد. وفيه رد على من أجاز البناء على قبور العلماء والصالحين تمييزًا لهم عن غيرهم، فإذا كان صلى الله عليه وسلم لعن من بنى المساجد على قبور الأنبياء، فكيف بمن بناها على قبور غيرهم؟! قوله: "يحذر ما صنعوا". الظاهر أن هذا من كلام عائشة رضي الله عنها، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على ذلك تحذيرًا لأمته أن تصنع ما صنعوا. قال القرطبي: وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام. قوله: (ولولا ذاك) ، أي: لولا تحذير النبي صلى الله عليه وسلم ما صنعوا ولعن من فعل ذلك.

قوله: (لأبرز قبره) ، أي: لدفن خارج بيته ومنه الحديث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بارزًا للناس. أي: جالسًا خارج بيته" 1. قوله: (غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا) . روي بفتح الخاء وضمها بالبناء للفاعل والمفعول، قالوا: فأما رواية الفتح، فإنها تقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم بذلك، وأما رواية الضم، فيحتمل أن تكون عائشة هي التي خشيت كما في لفظ آخر، غير أني أخشى. أو هي ومن معها من الصحابة. قلت: وهذا أظهر. ورواية: غير أني أخشى، لا تخالفه. قال القرطبي: ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره. قلت: وفي الحديثين مسائل نبه المصنف على بعضها. منها: ما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن بنى مسجدًا يعبد الله فيه على قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل. ومنها: النهي عن التماثيل بتغليظ الأمر. ومنها: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر. ومنها: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم. ومنها: لعنه إياهم على ذلك. ومنها: مراده بذلك تحذيره إيانا عن قبره، ومنها: العلة في عدم إبراز قبره، ومنها: ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النّزع. قلت: ومنها التنبيه على علة تحريم ذلك، وعلة لعن من فعله. [النهي عن اتخاذ القبور مساجد] قال: ولمسلم: عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن

_ 1 أحمد (6/240) .

يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك" 1. فقد نهى عنه وهو في آخر حياته، ثم إنه لعن -وهو في السياق- مَنْ فعله، والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجدًا، وهو معنى قوله: أخشى أن يتخذ مسجدًا، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا. وكل موضع قُصِدَتِ الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدًا، بل كل موضع يُصَلَّى فيه يُسَمَّى مسجدًا كما قال صلى الله عليه وسلم "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" 2. ش: قوله: عن جندب بن عبد الله. أي: ابن سفيان البجلي أبو عبد الله، وينسب إلى جده، صحابي مشهور مات بعد الستين. قوله: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، أي: أمتنع من هذا وأنكره. والخليل: هو المحبوب غاية المحبة، مشتق من الخلة بفتح الخاء وهي تخلل المودة في القلب، كما قال الشاعر: قد تخللت مسلك الروح ... مني وبذا سمي الخليل خللاً هذا هو الصحيح في معناه، كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وغيرهم. قال القرطبي: وإنما كان ذلك لأن قلبه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ من محبة الله، وتعظيمه ومعرفته، فلا يسع لمخالة غيره. قوله: "فإن الله قد اتخذني خليلاً". فيه التصريح بأن الخلة أكمل من المحبة قال ابن القيم: وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة، وأن إبراهيم خليل الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم حبيب الله، فمن جهلهم، فإن المحبة عامة والخلة خاصة، وهي نهاية المحبة، قال: وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد اتخذه خليلاً، ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن

_ 1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) . 2 البخاري: التيمم (335) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي: الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي: الصلاة (1389) .

الخطاب رضي الله عنهم وغيرهم. وأيضًا فإن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الصابرين، وخلته خاصة بالخليلين. وفيه جواز ذكر الإنسان ما فيه من الفضل إذا دعت الحاجة الشرعية إلى ذلك. قوله: "ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلاً" 1. فيه دليل على أن الصِّدِّيق أفضل الصحابة، حيث صرح صلى الله عليه وسلم أنه لو اتخذ خليلاً غير ربه، لاتخذ أبا بكر، فيه رد على الرافضة وعلى الجهمية الذين هم شر أهل البدع، بل أخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد قاتلهم الله، قاله المصنف. وفيه إشارة إلى خلافته، لأن من كانت محبته لشخص أشد، فهو أحق الناس بالنيابة عنه، لا سيما وقد قال ذلك في مرض موته، خصوصًا وقد استخلفه على الصلاة بالناس، وغضب لما صلى بهم عمر. واسم أبي بكر: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الصحابة بإجماع من يعتد به من أهل السنة، مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنة. قوله: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ... ) ، إلى آخر الحديث. قال الخلخالي: وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم صنيعهم هذا يخرج على وجهين، أحدهما: أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لهم، والثاني: أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والسجود في مقابرهم، والتوجه إليها حالة الصلاة نظرًا منهم بذلك إلى عبادة الله، والمبالغة في تعظيم الأنبياء. والأول هو الشرك الجلي، والثاني الخفي، فلذلك استحقوا اللعن. قلت: (الحديث أعم من ذلك) ، فيشمله ويشمل بناء المساجد والقباب عليها.

_ 1 البخاري: المناقب (3656) , وأحمد (1/270) .

قوله: (فقد نهى عنه في آخر حياته) ، أي: كما في حديث جندب. قوله: (ثم إنه لعن) -وهو في السياق- من فعله، أي: كما في حديث عائشة. قوله: (والصلاة عندها من ذلك) ، وإن لم يبن مسجدًا، يعني: أن الصلاة عند القبور وإليها من اتخاذها مساجد الملعون من فعله، وإن لم يبن مسجدًا، فتحرم الصلاة في المقبرة وإلى القبور، بل لا تنعقد أصلاً لما في هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها، من لعن من اتخذها مساجد. وروى مسلم عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" 1 وعن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" 2. رواه أحمد وأهل السنن، وصححه ابن حبان والحاكم من طرق على شرط الشيخين، وفي "صحيح البخاري" أن: "عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر فقال: القبر القبر". وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة ما نهاهم عنه نبيهم صلى الله عليه وسلم من الصلاة عند القبور. وفعل أنس لا يدل على اعتقاد جوازه، فإنه لعله لم يره، ولم يعلم أنه قبر أو ذهل عنه، فلما نبهه عمر تنبه. وفي هذا كله إبطال قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، بل العلة في ذلك الخوف على الأمة أن يقعوا فيما وقعت فيه اليهود والنصارى، وعباد {اللَّاتَ وَالْعُزَّى} من الشرك، ويدل على

_ 1 مسلم: الجنائز (972) , والترمذي: الجنائز (1050) , والنسائي: القبلة (760) , وأبو داود: الجنائز (3229) , وأحمد (4/135) . 2 الترمذي: الصلاة (317) , وأبو داود: الصلاة (492) , وابن ماجه: المساجد والجماعات (745) .

ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم قطعًا أن هذا ليس لأجل النجاسة، لأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم، فهم في قبورهم طريون. وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم متخذي المساجد عليها وموقدي السرج عليها، ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما هو لعن فاعله، لكونه وسيلة إلى تعظيمها وجعلها نصبًا يوفض إليها المشركون كما هو الواقع، فهكذا اتخاذ المساجد عليها. قال ابن القيم: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه، وذرائعه، وفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده جزم جزمًا لا يحتمل النقيض، أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغتيه: صيغة: (لا تفعلوا) وصيغة: (إني أنهاكم) ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه واتبع هواه ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه، أو عدم من تحقيق لا إله إلا الله، فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابًا لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا التعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشد لها تعظيمًا، وأشد فيهم غلوًّا كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد. ولعمر الله من هذا الباب بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر، ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة. فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية، وسلب خصائص الإلهية.

قلت: وممن علل بخوف الفتنة والشرك الشافعي وأبو بكر الأثرم وأبو محمد المقدسي وشيخ الإسلام وغيرهم وهو الحق. قوله: فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا، أي: لما علموا من تشديده في ذلك وتغليظه، ولعن من فعله، فكيف يتخذون على قبره مسجدًا؟ وإنما خشوا أن يعتاده بعض الجهال للصلاة عنده، من غير شعور من الصحابة بذلك، فلذلك دفنوه في بيته. قوله: (وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدًا) ، أي: وإن لم يبن مسجدًا. قوله: "بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدًا"، الظاهر أن الأول في الأمكنة المعدة للصلاة، وإن لم يبن فيها مسجدًا. وهذا في أي موضع صلي فيه، وإن لم يعد لذلك، كالمواضع التي يصلي فيها المسافر ونحو ذلك. فعلى هذا إذا صلى عند القبور ولو مرة واحدة وإن لم يكن هناك مسجد، فقد اتخذها مساجد. قوله: كما قال صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" 1 أي: فسمى الأرض مسجدًا، وليست مسجدًا مبنيًّا، لكن لما كان يسجد فيها سميت مسجدًا. فدل هذا الحديث أن من صلى عند القبور أو إليها فقد اتخذها مساجد. وهذا الحديث طرف من حديث صحيح متفق عليه عن جابر. قال البغوي في "شرح السنة": أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، وأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا، تخفيفًا عليهم وتيسيرًا، ثم خص من جميع المواضع الحمام والمقبرة والمكان النجس. وقوله: (طهورا) . أراد به التيمم. وفي حديث جندب من الفوائد أيضًا، العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في النهي عن بناء المساجد على القبور، كيف بيّن لهم ذلك أولاً، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في النّزع لم يكتف بما تقدم، بل

_ 1 البخاري: التيمم (335) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي: الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي: الصلاة (1389) .

لعن من فعل ذلك. فدلت هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة على تحريم البناء على القبور مطلقًا، فلذلك اكتفى المصنف بإيرادها عن غيرها، كحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه. رواه مسلم وغيره وزاد أبو داود والحاكم: وأن يكتب عليه. [شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد] قال: ولأحمد بسند جيد، عن ابن مسعود مرفوعًا: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد" 1 رواه أبو حاتم [وابن حبان] في " صحيحه". ش: قوله: "إن من شرار الناس". هو بكسر الشين جمع شر. قوله: "من تدركهم الساعة وهم أحياء". أي: من تقوم عليهم الساعة بحيث ينفخ في الصور وهم أحياء، وهذا كحديثه الآخر الذي في مسلم: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق". فإن قلت: ما الجمع بين هذا وبين حديث ثوبان: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق" 2. وما في معناه. قيل: حديث ثوبان مستغرق للأزمنة، عامّ فيها، وهذا مخصص وسيأتي زيادة لذلك عند الكلام على حديث ثوبان إن شاء الله تعالى. قوله: "والذين يتخذون القبور مساجد". "الذين" في محل نصب عطفًا على "من" الموصولة، أي: إن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد، بالصلاة عندها وإليها، وبناء المساجد عليها. وهذا المعنى متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم معلوم بالاضطرار من دينه. وكل ذلك شفقة على الأمة وخوفًا عليهم أن يقودهم ذلك إلى الشرك بها وبأصحابها، كما قاد إلى ذلك اليهود والنصارى. فأبى عباد القبور إلا الضرب بهذه الأحاديث الجدار ونبذها وراء الظهر، أو الدفع في

_ 1 ابن ماجه: الفتن (4019) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (3058) , وابن ماجه: الفتن (4014) .

صدورها وأعجازها بحمل ذلك على غير قبور الأنبياء والصالحين. أما قبورهم فتجوز الصلاة إليها وعندها، وبناء المساجد والقباب عليها رجاء أن تصل إليهم العواطف الروحانية. ولا ريب أن هذا مراغمة ومحادة لله ورسوله، وهذا هو قول اليهود: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة، النساء] ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لعن من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، كما هو نص حديث عائشة رضي الله عنها وغيره، وقبور غيرهم إنما أخذ النهي عن البناء عليها من هذه الأحاديث ونحوها بقياس الأولى، أو من عموم أحاديث أخر، فمن أعظم المراغمة والمناصبة والمحادة لله ورسوله، أن تحمل على غير ما وردت فيه، ويباح ما وردت بالنهي عنه، ولعن من فعله، ولكن هذا شأن عباد القبور {أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1. وقد أجمع العلماء على النهي عن البناء على القبور وتحريمه ووجوب هدمه لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن فيها بوجه من الوجوه، ولا فرق في ذلك بين البناء في مقبرة مسبلة، أو مملوكة، إلا أنه في المملوكة أشد. ولا عبرة بمن شذ من المتأخرين فأباح ذلك، إما مطلقًا، وإما في المملوكة. قال الإمام أبو محمد بن قدامة: "ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا. ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها". وقال شيخ الإسلام: "أما بناء المساجد على القبور، فقد صرح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث الصحيحة، وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي، بتحريمه. قال: ولا ريب في

_ 1 سورة القصص آية: 50.

القطع بتحريمه، ثم ذكر الأحاديث في ذلك. إلى أن قال: فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، أو الملوك وغيرهم، تتعين إزالتها بهدم أو بغيره هذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين". وقال ابن القيم: "يجب هدم القباب التي على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم". وقال أبو حفص: "تحرم الحجرة بل تهدم. فإذا كان هذا كلامه في الحجرة فكيف بالقبة". وقال الشافعي: "أكره أن يعظم مخلوق، حتى يجعل قبره مسجدًا مخافة الفتنة عليه، وعلى من بعده من الناس". وقال أيضًا: "تسطح القبور ولا تبنى ولا ترفع، وتكون على وجه الأرض. وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية، منهم ابن الجميزي والظهير التزمنْتِي وغيرهما". وقال القاضي ابن كج: "ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يبنى عليها قباب ولا غير قباب، والوصية بها باطلة". وقال الأذرعي: "وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة، وإنفاق الأموال الكثيرة، فلا ريب في تحريمه". قلت: وجزم النووي في "شرح المهذب" بتحريم البناء مطلقًا، وذكر في "شرح مسلم" نحوه أيضًا. وقال القرطبي في حديث جابر: "نهى أن يجصص القبر أو يبنى عليه، وبظاهر هذا الحديث قال مالك، وكره البناء والجص على القبور، وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه، ووجه النهي عن البناء والتجصيص في القبور أن ذلك مباهاة، واستعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبه بمن كان يعبد القبور ويعظمها، وباعتبار هذه المعاني وبظاهر هذا النص ينبغي أن يقال: هو حرام كما قال به بعض أهل العلم". وقال ابن رشد: "كره مالك البناء على القبر، وجعل البلاطة المكتوبة، وهو من بدع أهل الطول، أحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة،

وهو مما لا اختلاف فيه". وقال الزيلعي في "شرح الكنْز": "ويكره أن يبنى على القبر. وفي "الخلاصة" ولا يجصص القبر ولا يطين، ولا يرفع عليه بناء". وذكر أيضًا قاضي خان "أنه لا يجصص القبر، ولا يبنى عليه، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التجصيص وعن البناء فوق القبر، والمراد بالكراهة عند الحنفية كراهة التحريم التي هي في مقابلة ترك الواجب". وقد ذكر ذلك ابن نجيم في "شرح الكنْز". "ومثل هذا كثير في كلام العلماء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم، والمقصود أن كلام العلماء موافق لما دلت عليه السنة الصحيحة في النهي عن البناء على القبور". واعلم أنه قد وقع بسبب البناء على القبور من المفاسد التي لا يحيط بها على التفصيل إلا الله، ما يغضب من أجله كل من في قلبه رائحة إيمان، كما نبه عليه ابن القيم وغيره. فمنها: اعتيادها للصلاة عندها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. ومنها: تحري الدعاء عندها. ويقولون: من دعا الله عند قبر فلان استجاب له، وقبر فلان الترياق المجرب، وهذا بدعة منكرة. ومنها: ظنهم أن لها خصوصيات بأنفسها في دفع البلاء وجلب النعماء. ويقولون: إن البلاء يدفع عن أهل البلدان بقبور من فيها من الصالحين، ولا ريب أن هذا مخالف للكتاب والسنة والإجماع. فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله، فلما عصوا الرسول وخالفوا ما أمرهم الله به، سلط الله عليهم من انتقم منهم. وكذلك أهل المدينة لما تغيروا بعض التغير، جرى عليهم عام الحرة من النهب والقتل وغير ذلك

من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك. وهذا أكثر من أن يحصر. ومنها: الدخول في لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها. ومنها: أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد، وخراب المساجد، كما هو الواقع، ودين الله بضد ذلك. ومنها: اجتماعهم لزيارتها واختلاط النساء بالرجال، وما يقع في ضمن ذلك من الفواحش وترك الصلوات، ويزعمون أن صاحب التربة تَحَمَّلَهَا عنهم، بل اشتهر أن البغايا يسقطن أجرتهن على البغاء في أيام زيارة المشايخ، كالبدوي وغيره تقربًا إلى الله بذلك، فهل بعد هذا في الكفر غاية؟ ومنها: كسوتها بالثياب النفيسة المنسوجة بالحرير والذهب والفضة ونحو ذلك. ومنها: جعل الخزائن والأموال ووقف الوقوف لما يحتاج إليه من ترميمها ونحو ذلك. ومنها: إهداء الأموال ونذر النذور لسدنتها العاكفين عليها الذين هم أصل كل بلية وكفر، فإنهم الذين يكذبون على الجهال والطغام بأن فلانًا دعا صاحب التربة فأجابه، واستغاثه فأغاثه، ومرادهم بذلك تكثير النذر والهدايا لهم. ومنها: جعل السدنة لها كسدنة عباد الأصنام. ومنها: الإقسام على الله في الدعاء بالمدفون فيها. ومنها: أن كثيرًا من الزوار إذا رأى البناء الذي على قبر صاحب التربة سجد له. ولا ريب أن هذا كفر بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، بل هذا هو عبادة الأوثان، لأن السجود للقبة عبادة لها، وهو من جنس عبادة النصارى للصور التي في كنائسهم على صور من يعبدونه بزعمهم الباطل، فإنهم عبدوها ومن هي صورته، وكذلك

عباد القبور لما بنوا القباب على القبور آل بهم إلى أن عبدت القباب ومن بنيت عليه من دون الله عزّ وجل. ومنها: النذر للمدفون فيها، وفرض نصيب من المال والولد، وهذا هو الذي قال الله فيه: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا ... } 1. بل هذا أبلغ فإن المشركين ما كانوا يبيعون أولادهم لأوثانهم. ومنها: أن المدفون فيها أعظم في قلوب عباد القبور من الله وأخوف، ولهذا لو طلبت من أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الأيمان كاذبًا أو صادقًا، وإذا طلبت بصاحب التربة لم يقدم إن كان كاذبًا. ولا ريب أن عباد الأوثان ما بلغ شركهم إلى هذا الحد، بل كانوا إذا أرادوا تغليظ اليمين، غلظوها بالله كما في قصة القسامة وغيرها. ومنها: سؤال الميت قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والإخلاص له من دون الله في أكثر الحالات. ومنها: التضرع عند مصارع الأموات والبكاء بالهيبة والخشوع لمن فيها أعظم مما يفعلونه مع الله في المساجد والصلوات. ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله وهي المساجد، فيعتقدون أن العبادة والعكوف فيها أفضل من العبادة والعكوف في المساجد، وهذا أمر ما بلغ إليه شرك الأولين، فإنهم يعظمون المسجد الحرام أعظم من بيوت الأصنام يرون فضله عليها، وهؤلاء يرون العكوف في المشاهد أفضل من العكوف في المساجد. ومنها: أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور إنما هو تذكرة الآخرة، كما قال: "زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة" 2. والإحسان إلى المزور بالترحم عليه، والدعاء له

_ 1 سورة الأنعام آية: 136. 2 ابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1569) .

والاستغفار، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت، فقلب عباد القبور الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم ونصرهم على الأعداء ونحو ذلك. فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه الله من الدعاء والترحم عليه والاستغفار له. ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله عباد القبور بها، فإنه يؤذيهم ما يفعلونه عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهة، كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرؤون منهم كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1. ومنها: محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها. ومنها: التعب العظيم مع الوزر الكبير، والإثم العظيم، وكل هذه المفاسد العظيمة وغيرها مما لم يذكر، إنما حدثت بسبب البناء على القبور، ولهذا تجد القبور التي ليس عليها قباب لا يأتيها أحد ولا يعتادها لشيء مما ذكر إلا ما شاء الله، وصاحب الشرع أعلم بما يؤول إليه هذا الأمر، فلذلك غلظ فيه وأبدأ وأعاد، ولعن من فعله، فالخير والهدى في طاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته. والعجب ممن يشاهد هذه المفاسد العظيمة عند القبور، ثم يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة، كما يظنه بعض متأخري الفقهاء، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر المجازر والحشوش بل ذكر التحرز من البول والغائط أولى. وإنما ذلك لأجل نجاسة الشرك التي وقعت من عباد

_ 1 سورة الأحقاف آية: 5-6.

القبور لما خالفوا ذلك ونبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلاً فبئس ما يشترون.

باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

[15- باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله] ش: أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة أمورًا: الأول: التحذير من الغلو في قبور الصالحين. الثاني: أن الغلو فيها يؤول إلى عبادتها. الثالث: أنها إذا عبدت سميت أوثانًا ولو كانت قبور الصالحين. الرابع: التنبيه على العلة في المنع من البناء عليها واتخاذها مساجد والأوثان هي المعبودات التي لا صورة لها، كالقبور والأشجار والعمد والحيطان والأحجار ونحوها، وقد تقدم بيان ذلك. وقيل: الوثن هو الصنم، والصنم هو الوثن، وهذا غير صحيح إلا مع التجريد، فأحدهما قد يعني به الآخر، وأما مع الاقتران، فيفسر كل واحد بمعناه. قال: روى مالك في "الموطأ" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1. ش: هذا الحديث رواه مالك في "باب جامع الصلاة" مرسلاً عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله. ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن أبي خالد الأحمر عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم به ولم يذكر عطاء. ورواه البزار عن عمر بن محمد عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا، وعمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ثقة من أشراف أهل المدينة روى عنه مالك والثوري وسليمان بن بلال، فالحديث صحيح عند من يحتج بمراسيل الثقات. وعند من قال

_ 1 مالك: النداء للصلاة (416) .

بالمسند لإسناد عمر بن محمد له بلفظ "الموطأ" سواء، وهو ممن تقبل زيادته. وله شاهد عند الإمام أحمد والعقيلي من طريق سفيان عن حمزة ابن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1. قوله: (روى مالك في "الموطأ") ، هو الإمام مالك بن أنس بن مالك ابن أبي عامر بن عمر الأصبحي أبو عبد الله المدني الفقيه، إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة، وأحد المتقنين في الحديث، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر. مات سنة تسع وسبعين ومائة. وكان مولده سنة ثلاث وتسعين. وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة. قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد) . قد استجاب الله دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم فمنع الناس من الوصول إلى قبره لئلا يعبد استجابة لدعاء رسوله صلى الله عليه وسلم. كما قال ابن القيم: فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة من الجدران ودل الحديث على أن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لو عبد لكان وثنًا، فما ظنك بقبر غيره من القبور التي عبدت هي وأربابها من دون الله، وإذا أريد تغيير شيء من ذلك أنف عبادها، واشمأزت قلوبهم، واستكبرت نفوسهم، وقالوا: تنقص أهل الرتب العالية، ورموهم بالعظائم، فماذا يقولون لو قيل لهم: إنها أوثان تعبد من دون الله؟! فالله المستعان على غربة الإسلام، وهذه هي الفتنة العظمى التي قال فيها عبد الله بن مسعود: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، تجري على الناس يتخذونها سنة، إذا غيرت". قيل: غيرت السنة. ويؤخذ من الحديث المنع من تتبع آثار الأنبياء والصالحين

_ 1 أحمد (2/246) .

كقبورهم ومجالسهم، ومواضع صلاتهم للصلاة، والدعاء عندها، فإن ذلك من البدع، أنكره السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم. ولا نعلم أحدًا أجازه أو فعله إلا ابن عمر على وجه غير معروف عند عباد القبور، وهو إرادة التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فيما صلى فيه ونحو ذلك. ومع ذلك فلا نعلم أحدا وافقه عليه من الصحابة، بل خالفه أبوه وغيره، لئلا يفضي ذلك إلى اتخاذها أوثانا كما وقع. قال ابن عبد الباقي [الزّرقاني] في "شرح الموطأ" روى أشهب عن مالك أنه كره لذلك أن يدفن في المسجد قال: "وإذا منع من ذاك فسائر آثاره أحرى بذلك". وقد كره مالك طلب موضع شجرة بيعة الرضوان مخالفة لليهود والنصارى. انتهى. قال ابن وضاح: سمعت عيسى بن يونس يقول: "أمر عمر بن الخطاب بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعها، لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة". قال عيسى بن يونس: وهو عندنا من حديث ابن عون عن نافع: أن الناس كانوا يأتون الشجرة فقطعها عمر رضي الله عنه. وقال "المعرور بن سويد: صليت مع عمر بن الخطاب في طريق مكة صلاة الصبح، فقرأ فيها: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} ، [الفيل: 1] ، و {لإِيلافِ قُرَيْشٍ} ، [قريش: 1] ، ثم رأى الناس يذهبون مذاهب فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يصلون فيه، فقال: إنما أهلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم، ويتخذونها كنائس وبيعًا، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها".

وفي "مغازي ابن إسحاق" من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة: خالد بن دينار، حدثنا "أبو العالية قال: لما فتحنا تستر [سنة: 17هـ] . وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرًا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر، فدعا له كعبًا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل قرأه من العرب، قرأته مثل ما أقرأ القرآن، فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبرًا متفرقة فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال. فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة. قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض". قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو إنكار منهم لذلك، فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم يستحب الشارع قصدها، فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء قصدها ليصلي عندها، أو ليدعوا عندها

أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله عندها، أو ليسكن عندها بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيصها به لا نوعًا ولا عينًا، لأن ذلك قد يجوز بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها، كمن يدعو الله في طريقه، ويتفق أن يمر في طريقه بالقبور أو كمن يزورها ويسلم عليها، ويسأل الله العافية له وللموتى كما جاءت به السُّنَّة، فإن ذلك ونحوه لا بأس به. وأما تحري الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره، فهذا هو المنهي عنه. والفرق بين النوعين ظاهر، فإن الرجل لو كان يدعو الله واجتاز في ممره بصنم أو صليب أو كنيسة أو دخل إليها ليبيت فيها مبيتًا جائزًا ودعا الله في الليل، أو أتى بعض أصدقائه ودعا الله في بيته لم يكن بهذا بأس. ولو تحرى الدعاء عند هذه المواضع لكان من العظائم بل قد يكون كفرًا. قوله: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1 هذه الجملة بعد الأولى تنبيه على سبب لحوق اللعن بهم، وهو توسلهم بذلك إلى أن تصير أوثانًا تعبد. ففيه إشارة إلى ما ترجم له المصنف، وفيه تحريم البناء على القبور، وتحريم الصلاة عندها. وقد روى أصحاب مالك عنه أنه كره أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وعلل وجه الكراهة بقوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 2 فكره إضافة هذا اللفظ إلى القبر لئلا يقع التشبه بفعل أولئك سدًّا للذريعة، وحسمًا للباب. ذكره [الْمُحِبّ] الطبري [في القرى 629] . وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه. ذكره المصنف. قال: ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} 3. قال: كان يلت لهم السويق فمات، فعكفوا على قبره وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج. ش: قوله: (ولابن جرير) . هو الإمام الحافظ محمد بن جرير بن

_ 1 مالك: النداء للصلاة (416) . 2 مالك: النداء للصلاة (416) . 3 سورة النجم آية: 19.

يزيد الطبري صاحب "التفسير" و "التاريخ" وغيرهما. قال ابن خزيمة: لا أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير، وكان من الأئمة المجتهدين، لا يقلد أحدًا وله أصحاب يتفقهون على مذهبه. ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، ومات ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة. قوله: (عن سفيان) . هو أحد السفيانين، إما ابن عيينة وإما الثوري، فإن كان ابن عيينة فقد تقدمت ترجمته، وإن كان الثوري وهو الأظهر فهو سفيان بن سعيد بن مسروق أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة عابد. وكان مجتهدًا، له أتباع وأصحاب يتفقهون على مذهبه. مات سنة إحدى وستين ومائة، وله أربع وستون سنة. قوله: (عن منصور) . هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي أبو عتاب -بمثناة ثقيلة ثم موحدة- الكوفي، ثقة ثبت فقيه. مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. قوله: (عن مجاهد هو ابن جبر) -بالجيم والموحدة- أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير والعلم، أخذ التفسير عن ابن عباس وغيره. مات سنة أربع ومائة، قاله يحيى القطان، وقال ابن حبان: مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد، وكان مولده سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر رضي الله عنه. قوله: (كان يلت لهم السويق فمات) ، فعكفوا على قبره. لت السويق هو خلطه بسمن ونحوه. وقد قيل: إن اسم الرجل صرمة بن غنم، وعن ابن عباس: كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه، رواه ابن أبي حاتم. وعن مجاهد: كان اللات رجلاً في الجاهلية، وكان له غنم فكان يسلؤ من رسلها

ويأخذ من زبيب الطائف والأقط، فيجعل منه حيسًا ويطعم من يمر من الناس، فلما مات عبدوه وقالوا: هو اللات. وكان يقرأ اللات مشددة، رواه سعيد بن منصور والفاكهي. قوله: (وكذا قال أبو الجوزاء ... ) إلى آخره. هو أوس بن عبد الله الربعي، بفتح الراء والباء، ثقة مشهور، مات سنة ثلاث وثمانين. وهذا الأثر ذكره المصنف ولم يعزه، وقد رواه البخاري، ولا تخالف بين هذا التفسير والقراءة وبين قراءة من قرأ بالتخفيف. وقال: إنه كان حجرًا فعبدوه، واشتقوا له من اسم الله الإله، كما تقدم تقريره في باب: من تبرك بشجرة. وأيضا فيجاب على الأول بأن أصله التشديد، وخفف لكثرة الاستعمال، وأما كونهم اشتقوا هذا الاسم من اسم الله الإله، فلا ينافي ذلك أيضًا، فقد رأيت أن سبب عبادة اللات هو الغلو في قبره حتى صار وثنًا يعبد، كما كان ذلك هو السبب في عبادة الصالحين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وغيرهم، وكما كان ذلك هو السبب في عبادة الصالحين من الأموات وغيرهم اليوم، فإنهم غلوا فيهم، وبنوا على قبورهم القباب والمشاهد، وجعلوها ملاذًا لقضاء المآرب. وبالجملة فالغلو أصل الشرك في الأولين والآخرين إلى يوم القيامة. وقد أمرنا الله تعالى بمحبة أوليائه وإنزالهم منازلهم من العبودية، وسلب خصائص الإلهية عنهم، وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم، ونهانا عن الغلو فيهم، فلا نرفعهم فوق منْزلتهم، ولا نحطهم منها لما يعلمه تعالى في ذلك من الفساد العظيم، فما وقع الشرك إلا بسبب الغلو فيهم، فإن الشرك بهم غلو فيهم، وأنزلوهم منازل الإلهية، وعصوا أمرهم، وتنقصوهم في صورة التعظيم لهم، فتجد أكثر هؤلاء الغالين فيهم، العاكفين على قبورهم،

معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته، عائبين لها مشتغلين بقبورهم عما أمروا به ودعوا إليه. وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما هي باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح، واقتفاء آثارهم، وسلوك طريقتهم دون عبادتهم وعبادة قبورهم، والعكوف عليها كالذين يعكفون على الأصنام واتخاذها أعيادًا ومجامع للزيارات والفواحش وترك الصلوات، فإن من اقتفى آثارهم كان متسببًا في تكثير أجورهم باتباعه لهم، ودعوته الناس إلى اتباعهم; فإذا أعرض عما دعوا إليه واشتغل بضده حرم نفسه وحرمهم ذلك الأجر. فأي تعظيم لهم واحترام في هذا؟! قال: وعن ابن عباس قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" 1. رواه أهل السنن. ش: قوله: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور" 2. أي: من النساء وهذا يدل على تحريم زيارة القبور عليهن كما هو مذهب أحمد وطائفة. وقيل في تعليل ذلك: إنه يخرجها إلى الجزع والندب والنياحة والافتتان بها وبصورتها وتأذي الميت ببكائها، كما في حديث آخر: "فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت". وإذا كان زيارة النساء مظنة وسببًا للأمور المحرمة في حقهن وحق الرجال، وتقدير ذلك غير مضبوط، لأنه لا يمكن حد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ولا التمييز بين نوع ونوع. ومن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها، فتحرم سدًّا للذريعة، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة لما في ذلك من الفتنة، وكما حرمت الخلوة بالأجنبية، وليس في زيارتها من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة، لأنه ليس في زيارتها إلا دعواها للميت أو اعتبارها به، وذلك ممكن في بيتها. وقد روى الإمام أحمد وابن ماجة والحاكم عن حسان بن ثابت مرفوعًا: "لعن رسول الله زوارات القبور" 3. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعن زوارات القبور" 4. رواه أحمد

_ 1 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337) . 2 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337) . 3 الترمذي: الجنائز (1056) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1576) . 4 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2702) , وأحمد (4/211) .

وابن ماجة، والترمذي وصححه، وضعفه عبد الحق، وحسنه ابن القطان. ولا يعارض هذا حديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" رواه مسلم وغيره; لأن هذا إن سلم دخول النساء فيه، فهو عامّ والأول خاص، والخاص مقدم عليه، وأيضا ففي دخول النساء في خطاب الذكور خلاف عند الأصوليين. قوله: "والمتخذين عليها المساجد" 1 تقدم في الباب قبله شرحه وتعليله. قوله: (والسرج) . هذا دليل على تحريم اتخاذ السرج على القبور. قال أبو محمد المقدسي: لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله، لأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطا في تعظيم القبور، أشبه تعظيم الأصنام. وقال ابن القيم: اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها من الكبائر. ووجه إيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب دون الذي قبله، هو أنه لعن المتخذين عليها المساجد والسرج، وقرن بينهما، فهما قرينان في اللعنة، فدل ذلك على أنه ليس المنع من اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة، بل لأجل نجاسة الشرك، ولذلك قرن بينه وبين من لا سراج عليها، وليس النهي عن الإسراج لأجل النجاسة، فكذلك البناء. قوله: (رواه أهل "السنن") يعني هنا أبا داود، وابن ماجة، والترمذي فقط، ولم يروه النسائي.

_ 1 الترمذي: الإيمان (2641) .

باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك

[16- باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك] الجناب: هو الجانب. واعلم أن في الأبواب المتقدمة شيئًا من حمايته صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد، ولكن أراد المصنف هنا بيان حمايته

الخاصة. ولقد بالغ صلى الله عليه وسلم وحذر وأنذر، وأبدأ وأعاد، وخص وعم في حماية الحنيفية السمحة التي بعثه الله بها، فهي حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل، كما قال بعض العلماء: هي أشد الشرائع في التوحيد والإبعاد عن الشرك، وأسمح الشرائع في العمل. قال: وقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ... } 1. ش: قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} 2. هذا خطاب من الله تعالى للعرب في قول الجمهور، وهذا على جهة تعديده نعمه عليهم، إذ جاءهم بلسانهم، وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة، وشرفوا به أبد الآبدين. وقوله: رسول، أي: رسول عظيم أرسله الله إليكم من أنفسكم، أي: ترجعون معه إلى نفس واحدة، لأنه وأنتم من أب قريب، كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3. وذلك أقرب وأسرع إلى فهم الحجة، وأبعد من المحْكِ واللجاجة، وهذا يقتضي مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب. قال جعفر بن محمد في قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. وقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ} 4 أي: شديد عليه جدا ما عنتم، أي: عنتكم وهو لحاق الأذى الذي يضيق به الصدر، ولا يهتدي للمخرج، وهي هنا لفظ عام أي: ما شق عليكم من كفر وضلال وقتل وأسر وامتحان بسبب الحق. و"ما" مصدرية وهي مبتدأ، و "عزيز" خبر مقدم، ويجوز أن يكون "ما عنتم" فاعلاً ب "عزيز" و "عزيز" صفة للرسول، وهذا أصوب.

_ 1 سورة التوبة آية: 128. 2 سورة التوبة آية: 128. 3 سورة البقرة آية: 129. 4 سورة التوبة آية: 128.

وقوله: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي: بليغ الحرص عليكم، أي: على نفعكم وإيمانكم وهداكم. والمعنى: شدة طلب الشيء على الاجتهاد فيه. وروى الطبراني بإسناد جيد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهوى إلا وهو يذكر لنا منه علمًا. قال: وقال: "ما بقي شيء يقرِّب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم". وروى مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثلي كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها قال: "فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار. هَلُمَّ عن النار، هَلُمَّ عن النار، فتغلبونني وتَقَحَمُّون فيها" 1. وقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ} ، أي: لا بغيرهم، كما يفيده تقديم الجار رؤءوف، أي: بليغ الشفقة. قال أبو عبيدة: الرأفة أرق الرحمة (رحيم) . أي: بليغ الرحمة، كما هو اللائق بشريف منصبه، وعظيم خلقه، فتأمل هذه الآية وما فيها من أوصافه الكريمة ومحاسنه الجمة التي تقتضي أن ينصح لأمته، ويبلغ البلاغ المبين، ويسد الطرق الموصلة إلى الشرك، ويحمي جناب التوحيد غاية الحماية، ويبالغ أشد المبالغة في ذلك لئلا تقع الأمة في الشرك، وأعظم ذلك الفتنة بالقبور، فإن الغلو فيها هو الذي جر الناس في قديم الزمان وحديثه إلى الشرك، لا جرم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وحمى جناب التوحيد حتى في قبره الذي هو أشرف القبور، حتى نهى عن جعله عيدًا، ودعا الله أن لا يجعله وثنًا يعبد. وفي الآية مسائل: منها: التنبيه على هذه النعمة العظيمة، وهي

_ 1 أبو داود: الملاحم (4339) , وابن ماجه: الفتن (4009) .

إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم فينا، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1. ومنها: كونه منا نعمة أخرى عظيمة. ومنها: كونه بهذه الصفات نعم متعددة. ومنها: مدح نسبه صلى الله عليه وسلم فهو أشرف العرب بيتًا ونسبًا. ومنها: رأفته بالمؤمنين. ومنها: غلظته على الكفار والمنافقين. قال: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلُّوا عَلَيَّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم" 2. رواه أبو داود بإسناد حسن. رواته ثقات. ش قوله: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا" 3. قال شيخ الإسلام نور الله ضريحه: أي: لا تعطّلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنْزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى، ومن تشبه بهم. وفي "الصحيحين" عن ابن عمر مرفوعا "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا" 4. وفي "صحيح مسلم" عن ابن عمر مرفوعًا "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه" 5. وفيه أن الصلاة في المقبرة لا تجوز، وأن التطوع في البيت أفضل منه في المسجد. وفي حديث أبي هريرة الذي ذكرنا كراهة القراءة في المقابر، وكل هذا إبعاد لأمته عن الشرك. قوله: "ولا تجعلوا قبري عيدًا" 6. قال شيخ الإسلام: "العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائدًا إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك وتقدم ذلك". وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "العيد ما يعتاد مجيئه

_ 1 سورة آل عمران آية: 164. 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 3 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 4 البخاري: الصلاة (432) والجمعة (1187) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (777) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1598) , وأبو داود: الصلاة (1448) , وأحمد (2/16 ,2/122) . 5 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (780) , والترمذي: فضائل القرآن (2877) , وأحمد (2/284 ,2/337 ,2/378 ,2/388) . 6 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) .

وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإن كان اسمًا للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة أو لغيرها، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدًا للحنفاء ومثابة، كما جعل أيام العيد فيها عيدًا، وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوّض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام مني، كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر". وقال غيره: "هذا أمر بملازمة قبره والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه، ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين، فكأنه قال: لا تجعلوه كالعيد الذي يكون من الحول إلى الحول، واقصدوه كل ساعة وكل وقت". قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا مراغمة ومحادة ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وقلب للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التلبيس والتدليس بعد التناقض، فقاتل الله أهل الباطل أنَّى يؤفكون. ولا ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر وملازمته وكثرة انتيابه بقوله: لا تجعلوا عيدًا، فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان، وهكذا غُيِّرَت أديان الرسل، ولولا أن الله أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابّين عنه، لجرى عليه، ما جرى على الأديان قبله. ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله هؤلاء الضلال لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ويلعن فاعل ذلك، فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها وأن يعتاد قصدها وانتيابها؟! ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنًا يعبد، وكيف يقول أعلم الخلق بذلك: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجدًا، وكيف يقول: "لا تجعلوا قبري

عيدًا، وصلُّوا عليّ حيثما كنتم" 1. وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف؟! وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما، نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم واستدل بالحديث وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علي رضي الله عنهما، وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال، وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته، كره أن يقصد الرجل القبر إذا لم يكن يريد المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدًا. انتهى. قلت: وكيف يريد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى ويعبر عنه بهذا الكلام، مع أنه أفصح الخلق وأنصحهم، وكان يمكنه أن يقول: أكثروا زيارة قبري، أو اجعلوه عيدًا تعتادون المجيء إليه والعبادة عنده؟! فظهر بطلان هذا القول. إذا تبين ذلك، فمعنى الحديث نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، واجتماع معهود كالعيد الذي يكون على وجه مخصوص، في زمان مخصوص. وذلك يدل على المنع في جميع القبور وغيرها، لأن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدًا فقبر غيره أولى بالنهي كائنًا من كان. قال المصنف: وفيه النهي عن الإكثار من الزيارة. قوله: "وصلُّوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" 2. قال شيخ الإسلام: يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدًا. انتهى. وقد روى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما من أحد يسلِّم عَلَيَّ إلا رد الله عَلَيَّ روحي حتى أرد عليه السلام" 3؟ وعن أوس بن أوس مرفوعًا: "أكثروا من الصلاة علي يوم

_ 1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 3 أبو داود: المناسك (2041) , وأحمد (2/527) .

الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي" قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: "إن الله حرّم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء" 1. رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة. فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن صلاتنا عليه تبلغه سواء كنا عند قبره أو لم نكن، فلا مزية لمن سلم عليه أو صلى عند قبره، كما قال الحسن بن الحسن: ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. وأما حديث:. فرواه البيهقي [في حياة الأنبياء ص: 15] ، وغيره من حديث العلاء بن عمرو الحنفي: حدثنا أبو عبد الرحمن عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. قال البيهقي: أبو عبد الرحمن هذا، هو محمد بن مروان السدي فيما أرى، وفيه نظر. قلت: محمد بن مروان السدي الصغير قال فيه يحيى بن معين: ليس بثقة، وقال الجوزجاني: ذاهب الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وكذلك قال أبو حاتم الرازي والأزدي. وقال صالح بن محمد: كان يضع الحديث على أن معناه صحيح معلوم من أحاديث أخر، كإخباره بسماع الموتى لسلام من يسلم عليهم إذا مر على قبورهم. فإن قيل: إذا سمع سلام المسلم عليه عند قبره حصلت المزية بسماعه. قيل: هذا لو حصل الوصول إلى قبره، أما وقد منع الناس من الوصول إليه بثلاثة الجدران، فلا تحصل مزية، فسواء سلم عليه عند قبره أو في مسجده إذا دخله، أو في أقصى المشرق والمغرب، فالكل يبلغه، كما وردت به الأحاديث، وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي والمسلم بنفسه، إنما فيها أن ذلك يعرض عليه ويبلغه صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر به الله، سواء صلى عليه في مسجده أو في مدينته أو في مكان آخر، فعلم أن

_ 1 النسائي: الجمعة (1374) , وأبو داود: الصلاة (1047 ,1531) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1636) , وأحمد (4/8) , والدارمي: الصلاة (1572) .

ما أمر الله به من ذلك فإنه يبلغه، وأما من سلم عليه عند قبره فإنه يرد عليه وذلك كالسلام على سائر المؤمنين ليس هو من خصائصه، ولكن لا يوصل إلى قبره صلى الله عليه وسلم. قال: وعن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه. وقال ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، فإنّ تسليمكم يبلغني أين كنتم" 1. رواه في " المختارة". ش: هذان الحديثان جيدان، حسنا الإسنادين، أما الحديث الأول فرواه أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع الصائغ قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ... فذكره. ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع فيه لين لا يمنع الاحتجاج به. قال ابن معين: هو ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ تعرف وتنكر. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومثال هذا قد يخاف أن يغلط أحيانًا، فإذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة. وقال الحافظ ابن عبد الهادي: هو حديث حسن جيد الإسناد، وله شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الصحة. وأما الحديث الثاني فرواه أبو يعلى والقاضي إسماعيل والحافظ الضياء في "المختارة". قال أبو يعلى: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا زيد بن الحباب ثنا جعفر بن إبراهيم من "ولد" ذي الجناحين ثنا علي بن عمر عن

_ 1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) .

أبيه عن علي بن حسين ... فذكره. وعلي بن عمر: هو علي بن عمر بن علي بن الحسين. قال شيخ الإسلام: فانظر كيف هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا أضبط. قلت: وللحديثين شواهد، منها ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان عن سهيل عن جبير بن حنين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" 1. وقال سعيد بن منصور: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل [المدني العابد] ، قال: أتى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 2. ما أنتم ومَنْ بالأندلس إلا سواء. ورواه القاضي إسماعيل في كتاب (فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) 3. ولم يذكر: ما أنتم ومَنْ بالأندلس إلا سواء. وقال سعيد: أيضًا حدثنا حبان ابن علي ثنا محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني" 4. قال شيخ الإسلام: "فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله، وذلك يقتضي

_ 1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 3 وقد طبع لأول مرة في المكتب الإسلامي. 4 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) .

ثبوته عنده، هذا لو لم يرو من وجوه مسندة غير هذين، فكيف وقد تقدم مسندًا". قوله: (عن علي بن الحسين) . أي: ابن علي بن أبي طالب المعروف بزين العابدين رضي الله عنه وهو أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم. قال الزهري: "ما رأيت قرشيًّا أفضل منه. مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح، وأبوه الحسين سبط النبي صلى الله عليه وسلم وريحانته، وحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسون سنة". قوله: (إنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة) -هو بضم الفاء وسكون الراء واحدة الفرج- وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما. قوله: (فيدخل فيها فيدعو فنهاه إلى آخر الحديث) . وهذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها كما تقدم بعض ذلك، لأن ذلك من اتخاذها عيدًا كما فهمه علي بن الحسين من الحديث. فنهى ذلك الرجل عن المجيء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم للدعاء عنده، فكيف بقبر غيره؟! ويدل أيضًا على أن قصد الرجل القبر لأجل السلام إذا لم يكن يريد المسجد من اتخاذه عيدًا المنهي عنه، ولهذا لما رأى الحسن بن الحسن سهيلا عند القبر نهاه عن ذلك وذكر له الحديث مستدلا به، وأمر بالسلام عليه عند دخول المسجد. قال شيخ الإسلام: ما علمت أحدًا، أي: من علماء السلف رخص فيه، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدًا، ويدل أيضًا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهي عنه، لأن ذلك من اتخاذه عيدًا، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك. قال: ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، بل كان الصحابة والتابعون

يأتون إلى مسجده صلى الله عليه وسلم فيصلون خلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا، أو خرجوا ولم يكونوا يأتون القبر للسلام، لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل. وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك، أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم بل نهاهم بقوله: "لا تتخذوا قبري عيدًا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني" 1. فبين أن الصلاة تصل إليه من بعد وكذلك السلام. ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة فيها، وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر. وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه لا لسلام ولا لصلاة ولا لدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلامًا أو سلامًا فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبين لهم الأحاديث أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج كما طمع الشيطان في غيرهم، فأضلهم عند قبره وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجًا من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم، فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج. والمقصود أن الصحابة ما كانوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره، كما يفعله من بعدهم من الخلوف، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر، كما كان ابن عمر رضي الله عنه يفعل. قال عبيد الله بن عمر عن نافع: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه، ثم ينصرف. قال عبيد الله: ما نعلم أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر. وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير. قال شيخ الإسلام: إن ذلك لم ينقل عن أحد من

_ 1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) .

الصحابة، فكان بدعة محضة. وفي "المبسوط" قال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ليسلم ويمضي. والحكاية التي رواها القاضي عياض بإسناده عن مالك في قصته مع المنصور وأنه قال لمالك: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به يشفعه الله فيك. فهذه الرواية ضعيفة، أو موضوعة لأن في إسنادها من يتهم محمد بن حميد ومن يجهل حاله. ونص أحمد أنه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره وذلك بعد تحيته والسلام عليه، فظاهر هذا أنه يقف للدعاء بعد السلام. وذكر أصحاب مالك أنه يدعو مستقبلاً القبلة يوليه ظهره. وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر، وتنازعوا هل يستقبله عند السلام عليه أم لا؟ ومن الحجة في ذلك ما روى ابن زبالة وهو في "أخبار المدينة" عن عمر بن هارون، عن سلمة بن وردان وهما ساقطان قال: رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر، ثم يدعو. وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره صلى الله عليه وسلم، وإلى غيره من القبور والمشاهد، لأن ذلك من اتخاذها أعيادًا، بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها، كما وقع من عباد القبور الذين يشدون إليها الرحال، وينفقون في ذلك الكثير من الأموال، وليس لهم مقصود إلا مجرد الزيارة للقبور تبركًا بتلك القباب والجدران فوقعوا في الشرك. هذه المسألة التي أفتى فيها شيخ الإسلام أعني من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ومشاهدهم ونقل فيها اختلاف العلماء في الإباحة والمنع، فمن مبيح لذلك كأبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي، ومن مانع لذلك كابن بطة وابن عقيل وأبي محمد الجويني والقاضي عياض، وهو قول الجمهور نص عليه مالك ولم يكن يخالفه أحد من الأئمة وهو الصواب. فقام عليه بعض

المعاصرين له كالسبكي ونحوه فنسبه إلى إنكار الزيارة مطلقًا وهو لم ينكر منها إلا ما كان بشد رحل، كما أنكره جمهور العلماء قبله، أو الزيارة التي يكون فيها دعاء الأموات والاستغاثة بهم في الملمات، مع ما ينضم إلى ذلك من أنواع المنكرات. ومما يدل على النهي عن شد الرحال إلى القبور ونحوها ما أخرجاه في "الصحيحين" عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" 1. فدخل في ذلك شدها لزيارة القبور والمشاهد فإما أن يكون نهيًا، وإما أن يكون نفيًا للاستحباب. وقد جاء في رواية في "الصحيح" بصيغة النهي صريحًا فتعين أن يكون للنهي. ولهذا فهم منه الصحابة المنع، كما في "الموطأ" و "السنن" عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لأبي هريرة وقد أقبل من الطور: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" 2. وروى الإمام أحمد وعمر بن شبه في "أخبار المدينة" بإسناد جيد عن قزعة. قال: أتيت ابن عمر فقلت: "إني أريد الطور. فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك الطور فلا تأته". وروى أحمد وعمر بن شبه أيضًا عن شهر بن حوشب. قال: سمعت أبا سعيد وذكر عنده الصلاة في الطور. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" 3. فأبو سعيد جعل الطور مما نهي عن شد الرحال إليه، مع أن اللفظ الذي ذكره إنما فيه النهي عن شدها إلى المساجد، فدل على أنه علم أن غير المساجد أولى بالنهي. والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة وأن الله تعالى سماه

_ 1 البخاري: الجمعة (1189) , ومسلم: الحج (1397) , والنسائي: المساجد (700) , وأبو داود: المناسك (2033) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) , وأحمد (2/238) , والدارمي: الصلاة (1421) . 2 النسائي: الجمعة (1430) , وأحمد (6/7) , ومالك: النداء للصلاة (243) . 3 الترمذي: الصلاة (326) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1410) , وأحمد (3/64) .

{الْوَادِ الْمُقَدَّسِ} و {الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} هناك. وهذا ظاهر لا يخفى على أحد ممن يقول بفحوى الخطاب وتنبيهه، وهم الجمهور والأئمة الأربعة وأتباعهم ولهذا لم يوجبوا على من نذر أن يسافر إلى أثر نبي من الأنبياء قبورهم أو غير قبورهم الوفاء بذلك، بل لو سافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعًا باتفاق الأئمة الأربعة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت راكبًا وماشيًا، وإن كان في وجوب الوفاء بنذر إتيانه خلاف والجمهور على أنه لا يجب. وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفَّى بنذره، وإن كان مقصوه مجرد زيارة القبر من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره. قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد" 1. ذكره إسماعيل ابن إسحاق في "المبسوط" ومعناه في "المدونة" و "الجلاب" وغيرهما من كتب أصحاب مالك. وبالجملة فقد تنازع العلماء في جواز شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، فالجمهور على المنع، وطائفة من المتأخرين على الجواز، فاستحباب شد الرحال إلى القبور والمشاهد والتقرب به إلى الله كما ظنه السبكي وغيره، قول مبتدع مخالف للإجماع قبله، والأحاديث التي احتج بها كحديث: "من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي"، ونحوها لا يصح منها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه البتة، بل هي ما بين ضعيف وموضوع، أو كلها موضوعة كما قد بين عِلَلَها شيخ الإسلام وغيره. وكثير منها لا يدل على محل النّزاع إذ ليس فيه إلا مطلق الزيارة. وذلك لا ينكره شيخ الإسلام ولا غيره من العلماء، لأنه

_ 1 النسائي: الجمعة (1430) , وأحمد (6/7) , ومالك: النداء للصلاة (243) .

محمول على الزيارة الشرعية الجارية على وفق مراد النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي لا يكون فيها شرك ولا شد رحل إلى قبر، وبتقدير ثبوتها لا تدل على شد الرحال إلى قبر غيره، والسبكي أجاز ذلك في سائر القبور فخالف الأحاديث وخرق الإجماع، والله أعلم. قال المصنف: وفيه أنه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض عليه أعمال أمته في الصلاة والسلام. قوله: رواه في "المختارة" المختارة: كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة على "الصحيحين" ومؤلفه هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي، أحد أعلام الإسلام وحفاظ الحديث. قال الذهبي أفنى عمره في هذا الشأن مع الدين المتين والورع والفضيلة التامة والثقة والإتقان، انتفع الناس بتصانيفه والمحدثون بكتبه فالله يرحمه ويرضى عنه. وقال شيخ الإسلام: تصحيحه في "مختاراته" خير من تصحيح الحاكم بلا ريب. مات سنة ثلاث وأربعين وستمائة.

باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان

[17- باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان] ش: أراد المصنف بهذه الترجمة الرد على عباد القبور، الذين يفعلون الشرك ويقولون: إنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فبين في هذا الباب من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تنوع الشرك في هذه الأمة ورجوع كثير منها إلى عبادة الأوثان، وإن كانت طائفة منها لا تزال على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى. قال: وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1. ش: يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً} 2.

_ 1 سورة النساء آية: 51. 2 سورة آل عمران آية: 23.

أي: أعطوا نصيبًا أي: حظًّا {مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1. روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: "لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى إلى هذا الصنبور2 المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج، وأهل السدنة وأهل السقاية قال: أنتم خير، قال فنَزلت فيهم: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر] ونزل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ ... } إلى. { ... نَصِيراً} ". وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: "جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب، وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد فقال: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من غفار. فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلاً، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} ". قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم، وعن ابن عباس وعكرمة وأبي مالك: الجبت: الشيطان زاد ابن عباس بالحبشية وعن ابن عباس أيضًا الجبت: الشرك،

_ 1 سورة النساء آية: 51. 2 هو الأبتر الذي لا عقب له, وأصله سعفة تنبت في جذع النخلة لا في الأرض, وقيل: هي النخلة المنفردة التي دق أسفلها. أرادوا أنه إذا قلع انقطع ذكره كما يذهب الصنبور; لأنه لا عقب له.

وعنه الجبت: الأصنام، وعنه الجبت: حيي ابن أخطب، وعن الشعبي الجبت: الكاهن. وعن مجاهد الجبت: كعب ابن الأشرف. قلت: الظاهر أنه يعم ذلك كله كما قال الجوهري: الجبت: كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك. وفي الحديث "الطيرة والعيافة والطرق من الجبت" قال: وهذا ليس من محض العربية لاجتماع الجيم والباء في حرف واحد من غير حرف ذولقي1. قال المصنف: وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في [هذا] الموضع، هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟ وأما الطاغوت فتقدم الكلام عليه في أول الكتاب. قال: وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} 2. ش: يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب، الطاعنين في دينكم الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادة، دون ما سواه {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} 3، أي: هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا، هم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المذمومة المفسرة بقوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} 4، أي: أبعده وطرده من رحمته وغضب عليه، أي: غضبًا لا يرضى بعده، وجعل منهم القردة والخنازير، أي: مسخ منهم الذين عصوا أمره، فجعلهم قردة وخنازير، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا

_ 1 والحروف الذولقية ستة: الراء واللام والنون والفاء والباء والميم. 2 سورة المائدة آية: 60. 3 سورة المائدة آية: 60. 4 سورة المائدة آية: 60.

لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} 1.وذلك أن الله تعالى أخذ عليهم تعظيم السبت، والقيام بأمره، وترك الاصطياد فيه، وكانت الحيتان لا تأتيهم إلا يوم السبت، فتحيلوا اصطيادها فيه بما وضعوه لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت الحيتان يوم السبت على عادتها نشبت تلك الحبائل فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك مسخهم الله تعالى إلى صورة القردة، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، فكان جزاؤهم من جنس عملهم. قال العوفي عن ابن عباس في قوله: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} 2 فجعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شباب القوم صاروا قردة والمشيخة صاروا خنازير. وروى مسلم في "صحيحه" عن ابن مسعود قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله؟ فقال: إن الله لم يهلك قومًا أو قال: لم يمسخ قومًا فيجعل الله لهم نسلاً ولا عاقبة، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك" 3. وفي هذه القصة دليل قاطع على تحريم الحيل التي يتوصل بها إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال ونحو ذلك. وقوله: {وعبد الطاغوت} . قال شيخ الإسلام: الصواب أنه معطوف على قوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} 4. فهو فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية، أي: من لعنه الله ومن غضب عليه، ومن جعل منهم القردة والخنازير، ومن عبد الطاغوت. لكن الأفعال المقدمة الفاعل فيها

_ 1 سورة البقرة آية: 65. 2 سورة البقرة آية: 65. 3 مسلم: القدر (2663) , وأحمد (1/390 ,1/395 ,1/396 ,1/421) . 4 سورة المائدة آية: 60.

هو اسم الله مظهرًا ومضمرًا، وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت، وهو الضمير في "عبد". ولم يعد سبحانه لفظ "من" لأنه جعل هذه الأفعال كلها صفة لصنف واحد وهم اليهود. قال: وقوله: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 1. ش: يخبر تعالى عن الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف أنهم قالوا هذه المقالة لنتخذن عليهم مسجدًا. وقد حكى ابن جرير في القائلين في ذلك قولين، أحدهما: أنهم المسلمون. والثاني: أنهم المشركون. وعلى القولين فهم مذمومون. 1- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد يحذر ما فعلوا" 2. رواه البخاري ومسلم. 2- ولما يفضي إليه ذلك من الإشراك بأصحابها كما هو الواقع. ولهذا لما فعلته اليهود والنصارى جرهم ذلك إلى الشرك، فدل ذلك على أن هذه الأمة تفعله كما فعلته اليهود والنصارى، فيجرها ذلك إلى الشرك، لأن ما فعلته اليهود والنصارى ستفعله هذه الأمة شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى وبهذا يظهر وجه استشهاد المصنف بهذه الآيات. قال عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله! آليهود والنصارى؟ قال: فمن؟! " 3. أخرجاه. ش: هذا الحديث أورده المصنف بهذا اللفظ معزوا

_ 1 سورة الكهف آية: 21. 2 البخاري: الجنائز (1330) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218) , والدارمي: الصلاة (1403) . 3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94) .

"للصحيحين". ولعله نقله عن غيره ولفظهما، والسياق لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا: يا رسول الله آليهود والنصارى؟ قال فمن؟! " 1. ويحتمل أن يكون مرويًّا عند غيرهما باللفظ الذي ذكره المصنف وأراد أصله لا لفظه. قوله: (لتتبعن) ، هو بضم العين وتشديد النون. قوله: (سنن) ، بفتح المهملة، أي: طريق من كان قبلكم. أي: الذين قبلكم قال الْمُهَلَّب: الفتح أولى، وقال ابن التين: قرأناه بضمها. قوله: (حذو القذة بالقذة) ، هو بنصب حذو على المصدر، والقذة - بضم القاف - واحدة القذذ وهي ريش السهم، وله قذتان متساويتان، أي: لتفعلن أفعالهم، ولتتبعن طرائقهم حتى تشبهوهم وتحاذوهم، كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى، ثم إن هذا لفظ خبر معناه النهي عن متابعتهم، ومنعهم من الالتفات لغير دين الإسلام، لأن نوره قد بهر الأنوار وشريعته نسخت الشرائع، وهذا من معجزاته، فقد اتبع كثير من أمته سنن اليهود والنصارى وفارس في شيمهم ومراكبهم وملابسهم، وإقامة شعارهم في الأديان والحروب والعادات من زخرفة المساجد، وتعظيم القبور واتخاذها مساجد، حتى عبدوها ومن فيها من دون الله، وإقامة الحدود والتعزيرات على الضعفاء دون الأقوياء، وترك العمل يوم الجمعة، والتسليم بالأصابع، وعدم عيادة المريض يوم السبت، والسرور بخميس البيض، وأن الحائض لا تمس عجينًا، واتخاذ الأحبار والرهبان أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله، والإعراض عن كتاب الله، والإقبال على كتب الضلال

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94) .

من السحر والفلسفة والكلام والتكذيب بصفات الله التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم ووصفه بما لا يليق به من النقائص والعيوب إلى غير ذلك مما اتبعوا فيه اليهود والنصارى. قوله: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) ، الْجحر - بضم الجيم بعدها حاء مهملة - معروف. وفي حديث آخر: "حتى لو كان فيهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك" 1 وفي حديث آخر: "حتى لو أن أحدهم جامع أمه في الطريق لفعلتموه" صحت بذلك الأحاديث، فأخبر أن أمته ستفعل ما فعلته اليهود والنصارى وفارس من الأديان والعادات والاختلاف. قال شيخ الإسلام: هذا خرج مخرج الخبر والذم لمن يفعله كما كان يخبر عما يكون بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمة. وقال غيره: وجمع ذلك أن كفر اليهود أشد من جهة عدم العمل بعلمهم فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه عملاً ولا قولاً، وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم، فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون ما لا يعلمون، ففي هذه الأمة من يحذو حذو الفريقين. ولهذا كان السلف كسفيان بن عيينة يقولون: من فسد من علمائنا، ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى، وقضاء الله نافذ بما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم بما سبق في علمه، لكن ليس الحديث إخبارًا عن جميع الأمة لما تواتر عنه أنها لا تجتمع على ضلالة. قوله: "قالوا: يا رسول الله آليهود والنصارى؟ قال فمن؟ " هو برفع اليهود خبر مبتدأ محذوف، أي: أهم اليهود والنصارى الذين نتبع سنتهم؟ وقوله: قال: "فمن" استفهام إنكار، أي: فمن هم غير أولئك؟ ثم إنه فسر هنا باليهود والنصارى، وفي رواية أبي هريرة في البخاري بفارس والروم ولا تعارض، كما قال

_ 1 الترمذي: الإيمان (2641) .

بعضهم لاختلاف الجواب بحسب اختلاف المقام، فحيث قيل: فارس والروم كان ثم قرينة تتعلق بالحكم بين الناس، وسياسة الرعية، وحيث قيل: اليهود والنصارى كان هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات، أصولها وفروعها كذا قال. ولا يلزم وجود قرينة، بل الظاهر أنه أخبر أن هذه الأمة ستفعل ما فعلته الأمم قبلها من الديانات والعادات والسياسات مطلقًا، والتفسير ببعض الأمم لا ينفي التفسير بأمة أخرى، إذ المقصود التمثيل لا الحصر. ووجه مطابقة الحديث للترجمة واضح؛ لأن الأمم قبلنا وجد فيها الشرك، فكذلك يوجد في هذه الأمة كما هو الواقع. [إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن أمر أمته سيتسع] قال: ولمسلم عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنْزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا" 1. ورواه البرقاني في " صحيحه " وزاد: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى"2. ش: هذا الحديث رواه أبو داود في "سننه" وابن ماجة بالزيادة التي زكرها المصنف، ورواه الترمذي مختصرًا ببعضها.

_ 1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2889) , والترمذي: الفتن (2176) , وأبو داود: الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه: الفتن (3952) , وأحمد (5/284) . 2 أبو داود: الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه: الفتن (3952) , وأحمد (5/278 ,5/284) , والدارمي: المقدمة (209) .

قوله: (عن ثوبان) . هو ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم صحبه ولازمه ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين. قوله: (زوى لي الأرض) . قال التوربشتي: زويت الشيء جمعته وقبضته، يريد به تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب. وحاصله أن الله طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة نظره. وقال القرطبي: "أي جمعها لي حتى أبصرت ما تملك أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها، وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن الله تعالى قوى إدراك بصره، ورفع عنه الموانع المعتادة فأدرك البعيد من موضعه كما أدرك بيت المقدس من مكة، وأخذ يخبرهم عن آياته وهو ينظر إليه. وكما قال: "إني لأبصر قصر المدائن الأبيض ". ويحتمل أن يكون مثلها الله له، والأول أولى". قوله: (وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) . قال القرطبي: "هذا الخبر وجد مخبره كما قاله، فكان ذلك من دلائل نبوته، وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى بحر طنجة، بالنون والجيم الذي هو منتهى عمارة المغرب وإلى أقصى المشرق، ما وراء خراسان والنهر وكثير من بلاد الهند والسند والصغد. ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال، ولذلك لم يذكر عليه السلام أنه أريه ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه". وقوله: (زوى) ، يحتمل أن يكون مبنيًّا للفاعل، وأن يكون مبنيًّا للمفعول والأول أظهر. قوله: (وأعطيت الكنْزين: الأحمر والأبيض) ، قال القرطبي: يعني بهما كنز كسرى وهو ملك الفرس، وكنْز قيصر وهو ملك الروم، وقصورهما وبلادهما. وقد دل على ذلك قوله عليه السلام حين أخبر عن هلاكهما: "والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله" وعبر بالأحمر عن كنْز قيصر، لأن الغالب عندهم كان الذهب، وبالأبيض عن كنْز كسرى لأن الغالب عندهم كان الجوهر والفضة. وقد ظهر ذلك ووجد كذلك في زمان الفتوح في

إمارة عمر رضي الله عنه، فإنه سيق إليه تاج كسرى وحليته، وما كان في بيوت أمواله وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها، وكذلك فعل الله بقيصر لما فتحت بلاده. كذا قال في الغالب على كنوز كسرى وقيصر وعكس ذلك التوربشتي والخلخالي. والأبيض والأحمر منصوبان على البدل. قوله: (وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة) ، هكذا ثبت في أصل المصنف بعامة بالباء وهي رواية صحيحة في أصل "مسلم" وفي بعض أصوله بسنة عامة بحذفها. قال القرطبي: "وكأنها زائدة لأن عامة صفة لسنة فكأنه قال: بسنة عامة. ويعني بالسنة: الجدب العام الذي يكون به الهلاك العام، ويسمى الجدب والقحط سنة ويجمع على سنين كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} 1. أي: بالجدب المتوالي. قوله: (من سوى أنفسهم) . أي: من غيرهم يعني الكفار. قوله: (فيستبيح بيضتهم) . قال الجوهري: بيضة كل شيء: حوزته، وبيضة القوم: ساحتهم، وعلى هذا فيكون معنى الحديث: أن الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض، ولو اجتمع عليهم كل من بين أقطار الأرض، وهو جوانبها. وقيل: بيضتهم معظمهم وجماعتهم. قلت: وهذا هو الظاهر، وأن الله تعالى لا يسلط الكفار على معظم المسلمين وجماعتهم وإمامهم ما داموا بضد هذه الأوصاف المذكورة في قوله: (حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا) . فأما إذا وجدت هذه الأوصاف، فقد يسلط الكفار على جماعتهم ومعظمهم وإمامهم كما وقع. قوله: (وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد) . قال بعضهم: أي: إذا حكمت حكمًا مبرمًا فإنه نافذ لا يرد بشيء، ولا يقدر أحد على رده، بل كل جميع الخلق تمضي عليهم الأقدار

_ 1 سورة الأعراف آية: 130.

طوعًا وكرهًا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا راد لما قضيت". قلت: الظاهر أنه سواء في ذلك المبرم والمعلق، فالكل لا يرد فإن هذا إخبار عن عدم الرد لجنس القضاء، والنبي صلى الله عليه وسلم سأل ذلك مطلقًا فأجيب بهذا، واستجاب له دعاءه ما لم يوجد الشرط المقتضي لتسليط العدو، فإذا وجد ذلك وجد القضاء المعلق. قوله: (حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ... ) إلى آخره. أي: حتى يوجد ذلك منهم فإن وجد فإنه يسلط عليهم عدوهم من الكفار، فيستبيح جماعتهم وإمامهم ومعظمهم لا كل الأمة، ثم أيضًا تكون العاقبة لهذه الأمة إن رجعوا عما هم فيه من الأسباب الموجبة للتسليط، وكذلك وقع، فإن هذه الأمة لما جعل بأسها بينها اقتتلوا فأهلك بعضهم بعضًا، وسبى بعضهم بعضًا، فلما فعلوا ذلك تفرقت جماعتهم، واشتغل بعضهم ببعض عن جهاد العدو، واستولوا عليهم، كما وقع ذلك في المائة السابعة في المشرق والمغرب، فاختلفت ملوك المشرق وتخاذلوا واستولى التتار على غالب أرض خراسان، وعلى العراق وديار الروم، وقتلوا الخليفة والعلماء والملوك الكبار، وكذلك ملوك المغرب اختلفوا وتخاذلوا واستولت الإفرنج على جميع بلاد الأندلس والجزر القريبة منها، فهي في أيديهم إلى اليوم، بل استولوا على كثير من بلدان الشام حتى استنقذها منهم صلاح الدين ابن أيوب وغيره. [خوف الرسول صلى الله عيه وسلم من الأئمة المضلين] قوله: ورواه البرقاني في "صحيحه". البرقاني هو الحافظ الكبير أبو بكر محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي، ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ومات سنة خمس وعشرين وأربع مائة. قال الخطيب: كان ثبتًا ورعًا، لم نر في شيوخنا أثبت منه،

عارفًا بالفقه كثير التصنيف، صنف مسندًا ضمنه ما اشتمل عليه "الصحيحان" وجمع حديث الثوري، وحديث شعبة، وطائفة وكان حريصًا على العلم منصرف الهمة إليه. قلت: وهذا "المسند" الذي ذكره الخطيب هو صحيحه الذي عزا إليه المصنف. قوله: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) . أي: الأمراء والعلماء والعباد، الذين يقتدي بهم الناس، ويحكمون فيهم بغير علم فيضلون ويضلون، فهم ضالون عن الحق مضلون لغيرهم، كما قال تعالى عن أهل النار: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} 1. وقال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} 2. وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 3. ولشدة الضرورة إلى اتباع أئمة الهدى ومعرفتهم، والتفريق بينهم وبين أئمة الضلال المغضوب عليهم والضالين، أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى سلوك صراط أئمة الهدى، وهم المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير المغضوب عليهم؛ الذين يعلمون الحق ولا يعملون به، ولا الضالين الذين يعملون على غير شرع من الله، بل بما تهوى أنفسهم. فصراط المنعم عليهم هو الجامع بين العلم بالهدى والعمل به، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم أئمة الهدى لما ذكر التفرق من بعده، بأنهم الذين كانوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما رواه أبو داود وغيره. فمن كان على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو من الأئمة المهديين، ومن خالفهم فهو من الضالين، كالذي يقول لأصحابه من كانت له حاجة فليأت إلى قبري فإني أقضيها له، ولا خير في رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب، أو نحو هذا كالذي يدعي أنه يخلص أصحابه ومريديه من النار، وأنه يحفظ الناس ويكلأهم إذا اعتقدوه، ويضر بهم إذا كفروا

_ 1 سورة الأعراف آية: 38. 2 سورة الأحزاب آية: 67. 3 سورة الكهف آية: 103-104.

به وحاربوه، ويدعي أن ذلك من كراماته. وكالذي يمشي في الأسواق عريانًا، ولا يشهد بصلاة ولا ذكر الله ولا علمًا، بل يعيب علماء الشرع، ويغمزهم ويسميهم أهل علم الظاهر، ويدعي أنه صاحب علم الباطن، وربما يدعي أنه يسعه الخروج من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام، ونحو ذلك من الكفر والهذيان. وكالذي يدعي أن العبد يصل مع الله إلى حال تسقط عنه التكاليف، أو يدعي أن الأولياء يدعون، ويستغاث بهم في حياتهم ومماتهم، وأنهم ينفعون ويضرون ويدبرون الأمور على سبيل الكرامة، أو أنه يطلع على اللوح المحفوظ، ويعلم أسرار الناس وما في ضمائرهم، أو يجوز بناء المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وإيقادها بالسرج والشموع، وكسوتها بالحرير والديباج، والفرش النفيسة، أو يدعي أن من عمل بالقرآن والسنة في أصول الدين وفروعه، فقد ضل وأضل وابتدع، أو أن ظواهر القرآن في آيات الصفات تشبيه وتمثيل، وأن الهدى لا يؤخذ منه في هذا الباب ولا في غيره، وإنما يؤخذ من الشبهات الوهمية التي يسميها بزعمه براهين عقلية. فكل هؤلاء وأشباههم من أئمة الضلال الذين خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وحذر منهم. والضابط في الفرق بين أئمة المتقين وبين الأئمة المضلين قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 1 فافهم عن ربك وكن على بصيرة، ولا يغرك جلالة شخص أو عظمته في النفوس، فربك أعظم واتباعك لكلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم هو الفرض، والعصمة منتفية عن غير الرسول، وربك أدرى بما في الضمائر، فرب مَنْ تعتقده إمام هدى ليس كذلك، وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 2.

_ 1 سورة آل آية: 31-32. 2 سورة الجاثية آية: 18.

فكل مَن أتى بشيء يخالف ما جاء عن الله وعن رسوله، فهو من أهواء الذين لا يعلمون، ومن لم يستجب للرسول صلى الله عليه وسلم فإنما يتبع هواه. قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1. وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 2. وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين". رواه الدارمي. وقال يزيد بن عميرة: "كان معاذ بن جبل لا يجلس مجلسًا للذكر إلا قال حين يجلس: الله حكم قسط هلك المرتابون". الحديث. وفيه: "واحذروا زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. قلت لمعاذ: ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال لي: اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال: ما هذه ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله يراجع الحق، وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نورًا". رواه أبو داود وغيره وما أحسن ما قال ابن المبارك رضي الله عنه: وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها. قوله: (وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة) . أي: إذا وقعت الفتنة والقتال بينهم بقي إلى يوم القيامة، وكذلك وقع، فإن السيف لما وضع فيهم بقتل عثمان رضي الله عنه لم يرتفع إلى اليوم، وكذلك يكون إلى يوم القيامة، ولكن يكثر تارة ويقل أخرى، ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى. قوله: (ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين) . الحي واحد الأحياء، وهي القبائل وفي رواية أبي داود:

_ 1 سورة القصص آية: 50. 2 سورة الأعراف آية: 3.

"ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين" 1 والمعنى: أنهم ينْزلون معهم في ديارهم، ويصيرون منهم بالردة ونحوها. [لا تقوم الساعة حتى تعبد فئام من الناس الأوثان] قوله: (وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان) . الفئام - مهموز - الجماعات الكثيرة، قاله أبو السعادات، وفي رواية أبي داود: (وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان) ، ومعناه ظاهر. وهذا هو شاهد الترجمة، ففيه الرد على من قال بخلافه من عباد القبور الذين ينكرون وقوع الشرك، وعبادة الأوثان في هذه الأمة. وفي معنى هذا ما في "الصحيحين" عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة" 2. قال: وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية. وروى ابن حبان عن معمر قال: إن عليه الآن بيتًا مبنيًّا مغلقًا. وفي "صحيح مسلم" عن عائشة مرفوعًا: "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى" 3 وقيل: إن القبر المنسوب إلى ابن عباس بالطائف إنه قبر اللات، وكانوا يعبدونه، ويطوفون به ويقربون إليه القرابين وينذرون له النذور ويسألونه قضاء حاجتهم وتفريج كربتهم. إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون في هذه الأمة دجالون كذابون قوله: (وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون) ، كلهم يزعم أنه نبي. قال القرطبي: وقد جاء عددهم معينًا في حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون، منهم أربع نسوة". أخرجه أبو نعيم. وقال: هذا حديث غريب تفرد به معاوية بن هشام. قلت: حديث ثوبان أصح من هذا. قال القاضي عياض: عُدَّ من تنبأ من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن ممن اشتهر بذلك، وعرف واتبعه جماعة على ضلالته، فوجد هذا العدد فيهم، ومن طالع كتب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا. وقال الحافظ: قد ظهر مصداق ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة، والأسود العنسي باليمن، ثم خرج في خلافة

_ 1 الترمذي: الفتن (2219) , وأبو داود: الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه: الفتن (3952) , وأحمد (5/278) . 2 البخاري: الفتن (7116) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2906) , وأحمد (2/271) . 3 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2907) .

أبي بكر طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة، وسجاح التميمية في بني تميم، وقتل الأسود قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل مسيلمة الكذاب في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وتاب طليحة ومات على الإسلام على الصحيح في زمن عمر رضي الله عنه. ويقال: إن سجاح تابت أيضًا. ثم خرج المختار بن أبي عبيد الثقفي، وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير فأظهر محبة أهل البيت، ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين، فاتبعهم فقتل كثيرًا ممن باشر ذلك، أو أعان عليه فأحبه الناس، ثم إنه زين له الشيطان أن يدعي النبوة، وزعم أن جبريل عليه السلام يأتيه. ومنهم: الحارث الكذاب خرج في خلافة عبد الملك بن مروان فقتل، وخرج في خلافة بني العباس جماعة. وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقا؛ فإنهم لا يحصون كثرة لكون غالبهم ينشأ عن جنون أو سوداء، وإنما المراد من قامت له شوكة، وبدت له شبهة، كمن وصفنا، وقد أهلك الله تعالى من وقع له منهم ذلك، وبقي منهم من يلحقه بأصحابه وآخرهم الدجال الأكبر. قوله: (وأنا خاتم النبيين) . الخاتم - بفتح التاء- بمعنى الطابع، وبكسرها بمعنى فاعل الطبع والختم. قال الحسن: خاتم الذي ختم به، أي: آخر النبيين، كما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 1 وإنما ينْزل عيسى ابن مريم عليه السلام في آخر الزمان حاكماً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم مصليًا إلى قبلته، فهو كآحاد أمته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنْزير، وليضعن الجزية" 2. قوله: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم

_ 1 سورة الأحزاب آية: 40. 2 البخاري: البيوع (2222) والمظالم والغصب (2476) وأحاديث الأنبياء (3448) , ومسلم: الإيمان (155) , والترمذي: الفتن (2233) , وابن ماجه: الفتن (4078) , وأحمد (2/272 ,2/290 ,2/336 ,2/394 ,2/482 ,2/493 ,2/538) .

مَنْ خذلهم ولا مَنْ خالفهم" 1. قال يزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. وكذلك قال: إنهم أهل الحديث عبد الله ابن المبارك، وعلي بن المديني، وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم. وقال المديني في رواية: هم العرب، واستدل برواية من روى هم أهل الغرب، وفسر الغرب بالدلو العظيمة، لأن العرب هم الذين يستقون بها. قلت: ولا تعارض بين القولين، إذ يمتنع أن تكون الطائفة المنصورة لا تعرف الحديث، ولا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لا يكون منصورًا على الحق إلا من عمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم أهل الحديث من العرب وغيرهم. فإن قيل: فلم خصصه بالعرب؟ قيل: المراد التمثيل لا الحصر، أي: أن العرب إن استقاموا على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهم الطائفة المنصورة حال استقامتهم. قال القرطبي: وفيه دليل على أن الإجماع حجة، لأن الأمة إذا أجمعت فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة. وقال المصنف: وفيه الآية العظيمة أنهم مع قلتهم لا يضرهم مَنْ خذلهم ولا مَنْ خالفهم. والبشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة. قوله: (حتى يأتي أمر الله) . الظاهر أن المراد بأمر الله ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة، ووقوع الآيات العظام، ثم لا يبقى إلا شرار الناس كما روى الحاكم. وأصله في "مسلم" عن عبد الرحمن بن شماسة أن عبد الله بن عمرو قال: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية. فقال عقبة بن عامر لعبد الله: أعلم ما تقول، وأما أنا فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة على ذلك. فقال عبد الله: ويبعث الله ريحًا ريحها المسك، ومسها مس الحرير، فلا تترك أحدًا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة" 2.

_ 1 مسلم: الإمارة (1920) , والترمذي: الفتن (2229) , وابن ماجه: المقدمة (10) والفتن (3952) , وأحمد (5/279) . 2 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2949) , وأحمد (1/394) .

وفي "صحيح مسلم" عن ابن مسعود مرفوعًا: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" 1. وفي "صحيحه" أيضًا: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله" 2 وذلك إنما يقع بعد طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وسائر الآيات العظام. وقد ثبت أن الآيات العظام مثل السلك إذا انقطع تناثر الخرز بسرعة، رواه أحمد. ويؤيده حديث عمران بن حصين مرفوعًا: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على مَنْ ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال" 3 رواه أبو داود والحاكم. وعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه من الأحاديث "حتى تأتيهم الساعة". ساعتهم وهي وقت موتهم بهبوب الريح، ذكره الحافظ وهو المعتمد. وقد اختلف في محل هذه الطائفة، فقال ابن بطال: إنّها تكون ببيت المقدس إلى أن تقوم الساعة، كما روى الطبري من حديث أبي أمامة: "قيل يا رسول الله وأين هم؟ قال: (ببيت المقدس) " وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (هم بالشام) . وهذا قول أكثر الشارحين. وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائمًا إلى أن يقاتلوا الدجال، بل قد تكون في موضع آخر، لكن لا تخلو الأرض منها حتى يأتي أمر الله. قلت: وهذا هو الحق فإنه ليس في الشام منذ أزمان أحد بهذه الصفات، بل ليس فيه إلا عباد القبور، وأهل الفسق وأنواع الفواحش والمنكرات، ويمتنع أن يكونوا هم الطائفة المنصورة، وأيضًا فهم منذ أزمان لا يقاتلون أحدًا من أهل الكفر، وإنما بأسهم وقتالهم بينهم. وعلى هذا فقوله في الحديث: (هم ببيت المقدس) . وقول معاذ: (هم بالشام) . المراد أنهم يكونون في بعض الأزمان دون بعض، وكذلك الواقع فدل على ما ذكرنا4.

_ 1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2949) , وأحمد (1/394) . 2 مسلم: الإيمان (148) , والترمذي: الفتن (2207) , وأحمد (3/107 ,3/201 ,3/259) . 3 أبو داود: الجهاد (2484) , وأحمد (4/434 ,4/437) . 4 يوم أن كتب الشّيخ سليمان ذلك، كانت المعارك قائمة بين الدّولة العثمانية وبين الدّولة النّاشئة في الدِّرْعية، وهو لم يزر الشّام ولم يجتمع بأهلها، وإنّما شاهد الحرب، فكلامه غير دقيقٍ، والسّلفية انتشرت وعمَّت بلاد الشّام. وكذلك قوله: (في بعض الأزمان دون بعضٍ) تجاوز لمطلق الحديث. ويردّه أيضاً ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: "والنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ميّز أهل الشّام بالقيام بأمر الله دائماً إلى أخر الدّهر، وبأنّ الطّائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدّهر. فهو إخبار عن أمرٍ دائمٍ مستمرٍّ فيهم مع الكثرة والقوّة، وهذا الوصف ليس لغير أهل الشّام من أرض الإسلام، فإنّ الحجاز التي هي أصل الإيمان نَقَصَ في آخر الزّمان منها: العلم، والإيمان، والنّصر، والجهاد [أي: في زمان ابن تيمية] ، وكذلك اليمن والعراق والمشرق، وأمّا الشّام فلم يزل فيها العلم والإيمان ومَن يقاتل عليه منصوراً مؤيّداً في كلّ وقت". اه. مجموع الفتاوى 4/449.

قوله: (تبارك وتعالى) . قال ابن القيم: البركة نوعان: أحدهما بركة وهي فعله تبارك وتعالى، والفعل منها بارك، ويتعدى بنفسه تارة وبأداة "على" تارة، وبأداة "في" تارة والمفعول منها مبارك، وهو ما جعل كذلك فكان مباركا بجعله تعالى. والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها تبارك، ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصلح إلا له عزّ وجل، فهو سبحانه المتبارك وعبده ورسوله المبارك. كما قال المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} 1. فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك، وأما صفة تبارك، فمختصة به كما أطلقها على نفسه بقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2. {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3. أفلا تراها كيف اطّردت في القرآن جارية عليه مختصة به لا تطلق على غيره، وجاءت على بناء السعة والمبالغة، كتعالى وتعاظم ونحوه، فجاءت تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته، فكذلك تبارك، دال على كمال بركته وعظمته وسعتها. وهذا معنى قول من قال من السلف تبارك: تعاظم. وقال ابن عباس: جاء بكل بركة واعلم أن هذا الحديث بجملته مما عد من الأدلة على الشهادتين فإن كل جملة منه وقعت كما أخبر بها صلى الله عليه وسلم.

_ 1 سورة مريم آية: 31. 2 سورة غافر آية: 64. 3 سورة الملك آية: 1.

باب ما جاء في السحر

[18- باب ما جاء في السحر] ش: السحر في اللغة: عبارة عما خفي ولطف سببه، ولهذا جاء في الحديث: "إن من البيان لسحرا". وسمي السحور سحورًا، لأنه يقع خفيًا آخر الليل. وقال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} 1، أي أخفوا عنهم علمهم. ولما كان السحر من أنواع الشرك إذ لا يأتي السحر بدونه، ولهذا جاء في الحديث: "ومن سحر فقد أشرك" 2. أدخله "المصنف" في كتاب "التوحيد" ليبين ذلك تحذيرًا منه كما ذكر غيره من أنواع الشرك. قال أبو محمد المقدسي في "الكافي": السحر: عزائم ورقى وعقد يؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل، ويفرق ... المرء وزوجته، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه. قال الله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} 3، وقال سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إلى قوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} 4. يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن، ولولا أن للسحر حقيقة لم يأمر بالاستعاذة منه. وروت عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: أتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي. فقال: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: من طبه؟ قال: لبيد بن أعصم في مشط ومشاطة في جف طلعة ذكر في بئر ذي أروان" 5. رواه البخاري. انتهى. وقد زعم قوم من المعتزلة وغيرهم أن السحر تخييل لا حقيقة له، وهذا ليس بصحيح على إطلاقه، بل منه ما هو تخييل، ومنه ما له حقيقة كما يفهم مما تقدم.

_ 1 سورة الأعراف آية: 116. 2 النسائي: تحريم الدم (4079) . 3 سورة الفلق آية: 1. 4 سورة الفلق آية: 4. 5 البخاري: الدعوات (6391) , ومسلم: السلام (2189) , وابن ماجه: الطب (3545) , وأحمد (6/57 ,6/63 ,6/96) .

قال: وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} 1. ش: أي: ولقد علم اليهود الذين استبدلوا السحر عن متابعة الرسل والإيمان بالله لمن اشتراه، أي: استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله ومتابعة رسله، ما له في الآخرة من خلاق. قال ابن عباس: من نصيب. قال قتادة: وقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة. وقال الحسن: ليس له دين. فدلت الآية على تحريم السحر، وهو كذلك، بل هو محرم في جميع أديان الرسل عليهم السلام كما قال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 2. واستدل بها بعضهم على كفر الساحر لعموم قوله: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} يدل عليه قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} 3. وقد نص أصحاب أحمد على أنه يكفر بتعلمه وتعليمه. وروى عبد الرزاق عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم شيئًا من السحر قليلاً كان أو كثيرًا كان آخر عهده من الله" وهذا مرسل. واختلفوا هل يكفر الساحر أو لا؟ فذهب طائفة من السلف إلى أنه يكفر، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد، قال أصحابه: إلا أن يكون سحره بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر فلا يكفر، وقيل: لا يكفر إلا أن يكون في سحره شرك فيكفر، وهذا قول الشافعي وجماعته. قال الشافعي رحمه الله: إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر، مثل ما اعتقد أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها، فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، فإن اعتقد إباحته، كفر. وعند التحقيق ليس بين القولين اختلاف، فإن من لم يكفر لظنه أنه يتأتى بدون الشرك وليس كذلك بل لا يأتي السحر الذي من قبل

_ 1 سورة البقرة آية: 102. 2 سورة طه آية: 69. 3 سورة البقرة آية: 102.

الشياطين إلا بالشرك وعبادة الشيطان والكواكب، ولهذا سماه الله كفرًا في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 1. وقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} 2. وفي حديث مرفوع رواه رزين: "الساحر كافر". وقال أبو العالية: السحر من الكفر. وقال ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 3. وذلك أنهما علّماه الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر. وقال ابن جريج في الآية: لا يجترئ على السحر إلا الكافر. وأما سحر الأدوية والتدخين ونحوه فليس بسحر، وإن سمي سحرًا فعلى سبيل المجاز كتسمية القول البليغ والنميمة سحرًا، ولكنه يكون حرامًا لمضرته يعزر من يفعله تعزيرًا بليغًا. قال: وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 4. ش: تقدم الكلام عليها في الباب الذي قبله، ووجه إيرادها هنا ظاهر، لأن السحر من الجبت، كما قال عمر بن الخطاب. قال "المصنف": قال عمر بن الخطاب: "الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان". ش: هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم وغيره، وفيه معرفة الجبت والطاغوت والفرق بينهما. قال: وقال جابر: "الطواغيت كهان كان ينْزل عليهم الشيطان في كل حي واحد". ش: هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم بنحوه مطولا عن وهب بن مُنَبّه. قال: "سألت جابر بن عبد الله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها. قال: إن في جهينة واحدًا، وفي أسلم واحدًا، وفي هلال واحدًا، وفي كل حي واحدًا، وهم كهان تَنَزَّل عليهم الشياطين". قوله: (قال جابر) . هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام أبو عبد الله الأنصاري ثم السلمي بفتحتين. صحابي جليل ابن صحابي

_ 1 سورة البقرة آية: 102. 2 سورة البقرة آية: 102. 3 سورة البقرة آية: 102. 4 سورة النساء آية: 51.

جليل مكثر عن النبي صلى الله عليه وسلم. مات بالمدينة بعد السبعين، وقد كف بصره وله أربع وتسعون سنة. قوله: (الطواغيت كهان ... ) إلى آخره. المراد بهذا أن الكهان من الطواغيت لا أنهم الطواغيت لا غير. وقوله: (كان ينْزل عليهم الشيطان) ، أراد الجنس لا الشيطان الذي هو إبليس فقط، بل تتنَزّل عليهم الشياطين ويخاطبونهم ويخبرونهم ببعض الغيب، مما يسترقونه من السمع فيصدقون مرة ويكذبون مائة. قوله: (في كل حي واحد) . الحي: واحد الأحياء، وهم القبائل، أي: في كل قبيلة من قبائل العرب كاهن يتحاكمون إليه، ويسألونه عن الغيب. وكذلك كان الأمر قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فأبطل الله ذلك بالإسلام، وحرست السماء بالشهب. ومطابقة هذا للترجمة ظاهر من جهة أن الساحر طاغوت من الطواغيت؛ إذ كان هذا الاسم يطلق على الكاهن فالساحر أولى، لأنه أشر وأخبث. [أمره صلى الله عليه وسلم باجتناب السبع الموبقات] قال: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" 1. ش: هكذا أورد المصنف هذا الحديث غير معزو، وقد رواه البخاري ومسلم. قوله: (اجتنبوا السبع) . أي: أبعدوا، وهو أبلغ من: لا تفعلوا، لأن نهي القربان أبلغ من نهي المباشرة. ذكره الطَّيْبِي. قوله: (السبع الموبقات) . بموحدة وقاف، أي: المهلكات: وسميت الكبائر موبقات، لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب. قلت: هكذا ثبت في هذه الرواية عن السبع الموبقات، وكذلك في كتاب عمرو بن حزم الذي أخرجه

_ 1 البخاري: الوصايا (2767) , ومسلم: الإيمان (89) , والنسائي: الوصايا (3671) , وأبو داود: الوصايا (2874) .

النسائي وابن حبان في "صحيحه" والطبراني من طريق سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الفرائض والديات والسنن، وبعث به مع عمرو بن حزم إلى اليمن. الحديث بطوله. وفيه: وكان في الكتاب: "وإن أكبر الكبائر الشرك"، فذكر مثل حديث أبي هريرة سواء. وأخرجه البزار وابن المنذر من طريق عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: "الكبائر: الشرك بالله وقتل النفس". الحديث. وذكر بدل السحر الانتقال إلى الأعرابية بعد الهجرة، وكذلك في حديث عند الطبراني، وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن [مَن سمع] الحسن قال: "الكبائر الإشراك بالله ... " فذكر مثل الأول سواء، إلا أنه قال: (اليمين الفاجرة) ، بدل السحر. وفي حديث ابن عمر عند البخاري في "الأدب المفرد" والطبري في "التفسير" وعبد الرزاق مرفوعًا وموقوفًا قال: "الكبائر تسع" فذكر السبع المذكورة وزاد: "والإلحاد في الحرم وعقوق الوالدين". وأخرج إسماعيل القاضي بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب قال: (هن عشر) فذكر السبع التي في الأصل وزاد: "عقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشرب الخمر". ولابن أبي حاتم عن علي قال: الكبائر. فذكر السبع إلا مال اليتيم. وزاد: "العقوق والتعرب بعد الهجرة وفراق الجماعة، ونكث الصفقة". وللطبراني عن أبي أمامة أنهم "تذاكروا الكبائر، فقالوا: الشرك، ومال اليتيم، والفرار من الزحف، والسحر، والعقوق، وقول الزور، والغلول والربا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلاً؟! " وقد جاء في أحاديث غير ما ذكرنا جملة من الكبائر منها اليمين الغموس، وشهادة الزور والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله وسوء الظن بالله، والزنا، والسرقة وغير ذلك. قال الحافظ: "ويحتاج عندها إلى الجواب عن

الحكمة في الاقتصار على سبع، ويجاب بأن مفهوم العدد ليس بحجة وهو جواب ضعيف، أو بأنه أعلم أولاً بالمذكورات، ثم أعلم بما زاد، فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة للسائل، أو من وقعت له واقعة ونحو ذلك". وقد أخرج الطبري وإسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له: الكبائر سبع؟ فقال: هن أكثر من سبع. وفي رواية عنه: هي إلى السبعين أقرب، وفي رواية: إلى السبعمئة. وإذا تقرر ذلك عرف فساد من عرف الكبيرة بأنها ما وجب فيها الحد، لأن أكثر المذكورات لا يجب فيها الحد انتهى. وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله. قوله: قال: (الشرك بالله) . هو أن يجعل لله ندًّا يدعوه كما يدعو الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويخافه كما يخاف الله، وبدأ به لأنه أعظم ذنب عصي الله به كما في "الصحيحين" عن ابن مسعود سألت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أيّ ذنبٍ أعظ عن الله؟ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك" 1. قوله: (والسحر) . تقدم معناه، وهذا وجه إيراد المصنف لهذا الحديث في الباب. قوله: (وقتل النفس التي حرم الله) . أي: حرم قتلها إلا بالحق، أي: بفعل موجب للقتل، كقتل المشرك المحارب، والنفس بالنفس، والزاني بعد الإحصان، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} 2 وسواء في ذلك القتل عمدًا أو شبه عمد، كما صرح به طائفة من الشافعية بخلاف قتل الخطإ، فإنه لا كبيرة ولا صغيرة، لأنه غير معصية. قلت: ويلتحق بذلك قتل المعاهد كما صح الحديث: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة."الحديث.

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4477) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464) . 2 سورة النساء آية: 93.

قوله: (وأكل الربا) . أي: تناوله بأي وجه كان كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ... } 1 إلى قوله: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 2. قال ابن دقيق العيد: وهو مجرب لسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك. قوله: (وأكل مال اليتيم) . يعني التعدي فيه، وعبر بالأكل، لأنه أهم وجوه الانتفاع كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} 3. قوله: (والتولي يوم الزحف) ، أي: الإدبار من وجوه الكفار وقت ازدحام الطائفتين في القتال، وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة أو غير متحرف لقتال كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 4. قوله: (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) . هو بفتح الصاد المحفوظات من الزنا، وبكسرها: الحافظات فروجهن منه. والمراد الحرائر العفيفات، ولا يختص بالمتزوجات، بل حكم البكر كذلك بالإجماع كما ذكره الحافظ، إلا إن كانت دون تسع سنين، والمراد رميهن بزنا أو لواط. والغافلات، أي: عن الفواحش وما رمين به، لا خبر عندهن من ذلك، فهو كناية عن البريئات، لأن الغافل بريء عما بهت به من الزنا، والمؤمنات، أي: بالله تعالى احترازًا عن قذف الكافرات، فإنه من الصغائر. [ما ورد في حد الساحر] قال: وعن جندب مرفوعًا "حد الساحر ضربة بالسيف" 5. رواه الترمذي وقال: الصحيح أنه موقوف. ش: هذا الحديث رواه الترمذي كما قال المصنف من طريق

_ 1 سورة البقرة آية: 275. 2 سورة البقرة آية: 275. 3 سورة النساء آية: 10. 4 سورة الأنفال آية: 15-16. 5 الترمذي: الحدود (1460) .

إسماعيل بن مسلم المكي وقال بعد أن رواه: لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث من قبل حفظه، وإسماعيل بن مسلم العبدي البصري، قال وكيع: هو ثقة، ويروى عن الحسن أيضًا، والصحيح عن جندب موقوف انتهى. ورواه أيضًا الدارقطني والبيهقي والحاكم وقال: صحيح غريب. وقال الترمذي في "العلل": سألت عنه محمدًا يعني البخاري فقال: هذا لا شيء، وإسماعيل ضعيف جدًّا وقال الذهبي في "الكبائر": إنه من قول جندب، وأشار مغلطاي إلى أنه - وإن كان ضعيفًا يتقوى بكثرة طرقه. وقال: خرجه جمع: منهم البغوي الكبير والصغير، والطبراني، والبزار ومن لا يحصى كثرة. قوله: (عن جندب) . ظاهر صنيع الطبراني في "الكبير" أنه جندب بن عبد الله البجلي لا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر، فإنه رواه في "ترجمة" جندب البجلي من طريق خالد العبد عن الحسن عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم.... وذكره، وخالد العبد ضعيف. قال الحافظ: والصواب أنه غيره، فقد رواه ابن قانع والحسن بن سفيان من وجهين، عن الحسن عن جندب الخير أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ... ، فذكره. وجندب الخير هو جندب بن كعب - وقيل: جندب بن زهير، وقيل: هما واحد كما قاله ابن حبان - أبو عبد الله الأزدي الغامدي صحابي. وروى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يضرب ضربة فيكون أمة وحده". قوله: (حد الساحر ضربة بالسيف) . روي بالهاء والتاء وكلاهما صحيح، وبهذا الحديث أخذ أحمد ومالك وأبو حنيفة، فقالوا: يقتل الساحر. وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبد الله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن

عبد العزيز. ولم ير الشافعي عليه القتل بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر. وبه قال ابن المنذر وهو رواية عن أحمد، والأول أولى للحديث، ولأثر عمر الذي ذكره المصنف وعمل به الناس في خلافته من غير نكير فكان إجماعًا. [أمر عمر رضي الله عنه بقتل الساحر] قال: وفي " صحيح البخاري" عن بجالة بن عبدة قال: "كتب عمر بن الخطاب! أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر". ش: هذا الأثر رواه البخاري كما ذكره المصنف، لكنه لم يذكر قتل السحرة. ولفظه: عن بجالة بن عبدة قال: كنت كاتبًا لجزء بن معاوية عم الأحنف، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة: فرقوا بين كل محرم من المجوس ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. وعلى هذا فعزو المصنف إلى البخاري يحتمل أنه أراد أصله لا لفظه ورواه الترمذي والنسائي مختصرًا، ورواه عبد الرزاق وأحمد وأبو داود والبيهقي مطولاً. ورواه القطيعي في الجزء الثاني من "فوائده" بزيادة، فقال: حدثنا أبو علي بشر بن موسى الأسدي، ثنا هوذة بن خليفة، ثنا عوف عن عمار مولى بني هاشم عن بجالة بن عبدة قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب أن اعرضوا على من كان قبلكم من المجوس أن يدعوا نكاح أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ويأكلوا جميعًا كيما نلحقهم بأهل الكتاب، ثم اقتلوا كل كاهن وساحر. قلت: وإسناده حسن. قوله: (عن بجالة) . هو بفتح الموحدة بعدها جيم ابن عبدة بفتحتين التيمي العنبري بصري ثقة. قوله: (كتب إلينا عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر

وساحرة ... ) إلى آخره. صريح في قتل الساحر والساحرة، وهو من حجج الجمهور القائلين بأنه يقتل، وظاهره أنه يقتل من غير استتابة، وهو كذلك على المشهور عن أحمد، وبه قال مالك: إن الصحابة لم يستتيبوهم، ولأن علم السحر لا يزول بالتوبة. وعن أحمد يستتاب فإن تاب، قبلت توبته وخلي سبيل، وبه قال الشافعي، لأن ذنبه لا يزيد على الشرك، والمشرك يستتاب وتقبل توبته، فكذلك الساحر، وعلمه بالسحر لا يمنع توبته بدليل ساحر أهل الكتاب إذا أسلم، ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم. قلت: الأول أصح لظاهر عمل الصحابة. فلو كانت الاستتابة واجبة لفعلوها أو بينوها، وأما قياسه على المشرك فلا يصح، لأنه أكثر فسادًا وتشويها من المشرك، وكذلك لا يصح قياسه على ساحر أهل الكتاب، لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وهذا الخلاف إنما هو في إسقاط الحد عنه بالتوبة، أما فيما بينه وبين الله، فإن كان صادقًا قبلت توبته. قال: وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها. ش: هذا الأثر رواه مالك في "الموطأ" عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه "أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها وكانت قد دبرتها فأمرت بها فقتلت". ورواه عبد الرزاق. وحفصة هي أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خنيس بن حذافة سنة ثلاث وماتت سنة خمس وأربعين. قال: وكذا صح عن جندب. ش: المراد به هنا قطعًا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر، وهو جندب بن كعب بن عبد الله. قال أبو حاتم: جندب بن كعب

قاتل الساحر، ويقال: جندب بن زهير، فجعلهما واحدًا وفرق بينهما ابن الكلبي وغيره. قال ابن عبد البر: ذكره الزبير أن جندب بن زهير قاتل الساحر والصحيح أنه غيره. وأشار المصنف بهذا إلى قتله الساحر، كما رواه البخاري في "تاريخه" عن أبي عثمان النهدي قال: كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنسانًا وأبان رأسه فعجبنا فأعاد رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله. ورواه البيهقي في "الدلائل" مطولاً وفيه، فقال الناس: سبحان الله يحيي الموتى. ورآه رجل صالح من المهاجرين، فنظر إليه فلما كان من الغد اشتمل على سيفه فذهب يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنقه، وقال: إن كان صادقًا، فليحي نفسه فأمر به الوليد فسجن. وذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة. قوله: (قال أحمد عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) . ش: أحمد هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل. وقوله: عن ثلاثة أي: صح قتل الساحر عن ثلاثة أو جاء قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعني: عمر، وحفصة، وجندبًا والله أعلم.

باب بيان شيئ من أنواع السحر

باب بيان شيئ من أنواع السحر ... [19- باب بيان شيء من أنواع السحر] لما ذكر المصنف ما جاء في السحر أراد هنا أن يبين شيئًا من أنواعه لكثرة وقوعها وخفائها على الناس حتى اعتقد كثير من الناس أن من صدرت عنه هذه الأمور، فهو من الأولياء، وعدّوها من كرامات الأولياء وآل الأمر إلى أن عبد أصحابها ورجي منهم النفع والضر، والحفظ والكلاءة والنصر أحياء وأمواتًا، بل اعتقد كثير في أناس من هؤلاء أن لهم التصرف التام المطلق في الملك، ولا بد من ذكر فرقان يفرق به المؤمن بين ولي الله وبين عدو الله، من ساحر وكاهن وعائف وزاجر ومتطير ونحوهم ممن قد يجري على يده شيء من الخوارق.

فاعلم أنه ليس كل من جرى على يده شيء من خوارق العادة يجب أن يكون وليًّا لله تعالى، لأن العادة تنخرق بفعل الساحر والمشعوذ وخبر المنجم والكاهن بشيء من الغيب، مما يخبره به الشياطين المسترقون للسمع. وفعل الشياطين بأناس ممن ينتسبون إلى دين وصلاح ورياسة مخالفة للشريعة، كأناس من الصوفية وكرهبان النصارى ونحوهم، فيطيرون بهم في الهواء، ويمشون بهم على الماء، ويأتون بالطعام والشراب والدراهم، وقد يكون ذلك بعزائم ورقى شيطانية وبحيل وأدوية، كالذين يدخلون النار بحجر الطلق ودهن النارنج. وقد يكون برؤيا صادقة فيها وما يستدل به على وقوع ما لم يقع، وهذه مشتركة بين ولي الله وعدوه. وقد يكون ذلك بنوع طيرة يجدها الإنسان في نفسه فتوافق القدر، وتقع كما أخبر، وقد يكون بعلم الرمل والضرب بالحصى، وقد يكون ذلك استدراجًا والأحوال الشيطانية كثيرة. وقد فرق الله بين أوليائه وأعدائه في كتابه فاعتصم به وحده، لا إله إلا هو، فإنه لا يضل من اعتصم به ولا يشقى. قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 1. فذكر تعالى أن أولياءه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هم المؤمنون المتقون، ولم يشترط أن يجري على أيديهم شيء من خوارق العادة. فدل أن الشخص قد يكون وليًّا لله وإن لم يجر على يديه شيء من الخوارق إذا كان مؤمنًا متقيًا. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. فأولياء الله المحبوبون عند الله هم المتبعون للرسول صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا، ومن كان بخلاف هذا فليس بمؤمن فضلاً عن أن يكون وليًّا لله تعالى، وإنما أحبهم الله تعالى لأنهم والوه، فأحبوا ما يحب، وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى، وسخطوا ما يسخط، وأمروا بما يأمر، ونهوا عما ينهى، وأعطوا من يحب أن يعطى، ومنعوا من

_ 1 سورة يونس آية: 62-63. 2 سورة آل عمران آية: 31.

يحب أن يمنع. وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد. وبالجملة فأولياء الله هم أحبابه المقربون إليه بالفرائض والنوافل وترك المحارم، الموحدون له، الذين لا يشركون بالله شيئًا وإن لم تجر على أيديهم خوارق، فإن كانت الخوارق دليلاً على ولاية الله، فلتكن دليلاً على ولاية الساحر والكاهن والمنجم والمتفرس، ورهبان اليهود والنصارى، وعباد الأصنام، فإنهم يجري لهم من الخوارق ألوف، ولكن هي من قِبَل الشياطين، فإنهم يتنَزلون عليهم لمجانستهم لهم في الأفعال والأقوال كما قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 1. وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 2. وقد طارت الشياطين ببعض من ينتسب إلى الولاية، فقال: لا إله إلا الله فسقط. وتجد عمدة كثير من الناس في اعتقادهم الولاية في شخص أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض الخوارق للعادة، مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها أحيانًا، أو يمشي على الماء، أو يملأ إبريقًا من الهواء، أو يخبر في بعض الأوقات بشيء من الغيب، أو يختفي أحيانًا عن أعين الناس، أو يخبر بعض الناس بما سرق له، أو بحال غائب أو مريض، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت، فرآه قد جاء فقضى حاجته أو نحو ذلك، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها مسلم فضلاً عن أن يكون وليًّا لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يغتر

_ 1 سورة الشّعراء آية: 221-222. 2 سورة الزخرف آية: 36.

به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه. ومثل هذه الأمور قد يكون صاحبها وليًّا لله، وقد يكون عدوًّا له، فإنها قد تكون لكثير من الكفار والمشركين واليهود والنصارى والمنافقين وأهل البدع، وتكون لهؤلاء من قِبَل الشياطين أو تكون استدراجًا، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور فهو ولي لله، بل يعرف أولياء الله بصفاتهم وأحوالهم وأفعالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، وأكثر هذه الأمور قد توجد في أشخاص يكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي المكتوبة ولا يتنظف ولا يتطهر الطهارة الشرعية، بل يكون ملابسًا للنجاسات، معاشرًا للكلاب، يأوي إلى المزابل، رائحته خبيثة، ركابًا للفواحش، يمشي في الأسواق كاشفًا لعورته، غامزًا للشرع، مستهزئًا به وبحملته، يأكل العقارب والخبائث التي تحبها الشياطين، كافرًا بالله، ساجدًا لغير الله من القبور وغيرها، يكره سماع القرآن وينفر منه، ويؤثر سماع الأغاني والأشعار ومزامير الشيطان على كلام الرحمن. فلو جرى على يدي شخص من الخوارق ماذا عساه أن يجري فلا يكون وليًّا لله، محبوبًا عنده حتى يكون متبعًا لرسوله صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا. فإن قلت: فعلى هذا ما الفرق بين الكرامة وبين الاستدراج والأحوال الشيطانية؟ قيل: إن علمت ما ذكرنا عرفت الفرق، لأنه إذا كان الشخص مخالفًا للشرع، فما يجري له من هذه الأمور ليس بكرامة، بل هي إما استدراج وإما من عمل الشياطين، ويكون سببها هو ارتكاب ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن المعاصي لا تكون سببا لكرامة الله، ولا يستعان بالكرامات عليها، فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن والدعاء بل تحصل بما تحبه الشياطين كالاستغاثة بغير الله، أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش، فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية، وكلما كان الإنسان أبعد عن الكتاب والسنة كانت الخوارق الشيطانية

له أقوى وأكثر من غيره، فإن الجن الذين يقترنون بالإنس من جنسهم. فإن كان كافرًا ووافقهم على ما يختارونه من الكفر والفسوق والضلال والإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه، وللسجود لهم وكتابة أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة فعلوا معه كثيرًا مما يشتهيه بسبب ما برطلهم به من الكفر وقد يأتونه بما يهواه من امرأة وصبي، بخلاف الكرامة، فإنها لا تحصل إلا بعبادة الله والتقرب إليه ودعائه وحده لا شريك له، والتمسك بكتابه، واجتناب المحرمات، فما يجري من هذا الضرب فهو كرامة. وقد اتفق على هذا الفرق جميع العلماء. وبالجملة فإن عرفت الأسباب التي بها تنال ولاية الله عرفت أهلها وعرفت أنهم أهل الكرامة، وإن كنت ممن يسمع بالأولياء وهو لا يعرف الولاية ولا أسبابها ولا أهلها بل يميل مع كل ناعق وساحر {وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس، من الآية101] . ولشيخ الإسلام كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان1". فراجعه فإنه أتى فيه بالحق المبين. [العيافة والطرق والطيرة من الجبت] قال رحمه الله: قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر ثنا عوف ثنا حبان بن العلاء، ثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت" 2. قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط في الأرض، والجبت: قال الحسن: رنة الشيطان. إسناده جيد. ولأبي داود والنسائي وابن حبان في " صحيحه " المسند منه. ش: قوله: "قال أحمد". هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، ومحمد ابن جعفر هو المشهور بغندر الهذلي البصري ثقة مشهور،

_ 1 وهو من مطبوعات المكتب الإسلامي. 2 أبو داود: الطب (3907) , وأحمد (5/60) .

ثبت في شعبة حتى فضله علي بن المديني فيه على عبد الرحمن بن مهدي بل أقر له ابن مهدي بذلك. مات سنة ثلاث وتسعين ومائة1 أو أربع وتسعين ومائة. وعوف هو ابن أبي جميلة - بفتح الجيم - العبدي البصري المعروف بعوف الأعرابي ثقة. مات سنة ست أو سبع وأربعين ومائة، وله ست وثمانون سنة. وحبان بن العلاء هو بالتحتية ويقال: حيان بن مخارق أبو العلاء البصري مقبول. وقطن - بفتحتين - أبو سهلة البصري صدوق. قوله: (عن أبيه) . هو قبيصة - بفتح أوله وكسر الموحدة ابن المخارق - بضم الميم وتخفيف المعجمة أبو عبد الله الهلالي، صحابي نزل البصرة. قوله: (إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت) . قال عوف: العيافة زجر الطير. هذا التفسير ذكره غير واحد كما قال عوف وهو كذلك. قال أبو السعادات: العيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، وهو من عادة العرب كثيرًا وهو كثير في أشعارهم، يقال: عاف يعيف عيفًا: إذا زجر وحدس وظن. قوله: (والطرق) : الخط يخط في الأرض هكذا فسره عوف، وهو تفسير صحيح. وقال أبو السعادات: هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء. قلت: وأيًّا ما كان فهو من الجبت، وأما الطيرة، فسيأتي الكلام عليها في بابها إن شاء الله تعالى قوله: "من الجبت". أي: من أعمال السحر. قال القاضي: والجبت في الأصل: الجبس الذي لا خير فيه، ثم استعير لما يعبد من دون الله وللساحر والسحر. وقال الطيبي: "من" فيه إما ابتدائية أو تبعيضية، فعلى الأول المعنى الطيرة ناشئة من الساحر،

_ 1 في الأصل: ست ومائتين وهو خطأ.

وعلى الثاني المعنى الطيرة من جملة السحر والكهانة، أو من جملة عبادة غير الله، أي: الشرك يؤيده قوله في الحديث الآتي: (الطيرة شرك) انتهى. وفي الحديث دليل على تحريم التنجيم، لأنه إذا كان الخط ونحوه الذي هو من فروع النجامة من الجبت فكيف بالنجامة؟! . قوله: (قال الحسن: رنة الشيطان) . لم أجد فيه كلامًا. قوله: (ولأبي داود والنسائي وابن حبان في "صحيحه" المسند منه) . يعني أن هؤلاء رووا الحديث واقتصروا على المرفوع منه، ولم يذكروا التفسير الذي فسره به عوف. وقد رواه أبو داود في التفسير المذكور بدون كلام الحسن. والنسائي هو الإمام الحافظ أحمد بن شعيب بن علي ابن سنان بن بحر بن دينار أبو عبد الرحمن صاحب "السنن" وغيرها من المصنفات. روى عن محمد بن المثنى وابن بشار وقتيبة بن سعيد وخلق. وكان إليه المنتهى في الحفظ والعلم لعلل الحديث. مات سنة ثلاث وثلاثمائة وله ثمان وثمانون سنة. قال: وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد" 1. رواه أبو داود بإسناد صحيح

_ 1 أبو داود: الطب (3905) , وابن ماجه: الأدب (3726) , وأحمد (1/227 ,1/311) .

ش: هذا الحديث رواه أبو داود كما قال المصنف بإسناد صحيح، وكذا صححه النووي والذهبي ورواه أحمد وابن ماجة. قوله: (من اقتبس) . قال أبو السعادات: قبست العلم واقتبسته: إذا تعلمته. انتهى. وعلى هذا، فالمعنى من تعلم. قوله: (شعبة) ، أي: طائفة وقطعة من النجوم، والشعبة: الطائفة من الشيء والقطعة منه، ومنه الحديث: "الحياء شعبة من الإيمان" 1، أي: جزء منه. قوله: (فقد اقتبس شعبة من السحر) . أي: المعلوم تحريمه قال شيخ الإسلام: فقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن علم النجوم من السحر. وقد قال الله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 2. وهكذا الواقع فإن الاستقراء يدل على أن أهل النجوم لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة. قوله: "زاد ما زاد" يعني: كلما زاد من علم النجوم زاد له من الإثم مثل إثم الساحر، أو زاد اقتباس شعب السحر ما زاد اقتباس علم النجوم. قلت: والقولان متلازمان، لأن زيادة الإثم فرع عن زيادة السحر، وذلك لأنه تحكم على الغيب الذي استأثر الله بعلمه. فعلم أن تأثير النجوم باطل محرم، وكذا العمل بمقتضاه، كالتقرب إليها بتقريب القرابين لها كفر، قاله ابن رجب. قال: وللنسائي من حديث أبي هريرة: "من عقد عقدة ثم نفث فيها، فقد سحر، ومن سحر، فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا، وُكِّلَ إليه" 3. ش: هذا الحديث ذكره المصنف من حديث أبي هريرة وعزاه للنسائي ولم يبين هل هو موقوف أو مرفوع؟ وقد رواه النسائي مرفوعًا وذكر المصنف عن الذهبي أنه قال: لا يصح، وحسنه ابن مفلح.

_ 1 البخاري: الإيمان (9) , ومسلم: الإيمان (35) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5006) , وأبو داود: السنة (4676) , وابن ماجه: المقدمة (57) , وأحمد (2/414 ,2/442) . 2 سورة طه آية: 69. 3 النسائي: تحريم الدم (4079) .

قوله: (من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر) . اعلم أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر، عقدوا الخيوط، ونفثوا على كل عقدة حتى ينعقد ما يريدونه من السحر. ولهذا أمر الله بالاستعاذة من شرهم في قوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} 1. يعني: السواحر اللاتي يفعلن ذلك، والنفث: هو النفخ مع ريق، وهو دون التفل وهو مرتبة بينهما، والنفث فعل الساحر. فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة، نفخ في تلك العقد نفخًا معه ريق، فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى مقترن بالريق الممازج لذلك. وقد يتساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور، فيصيبه السحر بإذن الله الكوني الشرعي، لا الإذن القدري قاله ابن القيم. قوله: (ومن سحر فقد أشرك) . نص في أن الساحر مشرك إذ لا يتأتى السحر بدون الشرك كما حكاه الحافظ عن بعضهم. قوله: (ومن تعلق شيئًا وُكِّلَ إليه) . أي: من تعلق قلبه شيئًا بحيث يتوكل عليه، ويرجوه وكله الله إلى ذلك الشيء. فإن تعلق العبد على ربه وإلهه وسيده ومولاه، رب كل شيء ومليكه وكله إليه فكفاه ووقاه وحفظه وتولاه، و {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} ، [لأنفال، من الآية: 40] ، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 2. ومن تعلق على السحر والشياطين وكله الله إليهم فأهلكوه في الدنيا والآخرة. وبالجملة فمن توكل على غير الله كائنًا من كان وكل إليه، وأتاه الشر في الدنيا والآخرة من جهته مقابلة له بنقيض قصده، وهذه سنة الله في عباده التي لا تبدل، وعادته التي لا تحول، أن من اطمأن إلى غيره أو وثق بسواه، أو ركن إلى مخلوق يدبره، أجرى الله تعالى

_ 1 سورة الفلق آية: 4. 2 سورة الزمر آية: 36.

له بسببه أو من جهته خلاف ما علق به آماله. وهذا أمر معلوم بالنص والعيان. ومن تأمل ذلك في أحوال الخلق بعين البصيرة النافذة رأى ذلك عيانًا. وفائدة هذه الجملة بعد ما قبلها الإشارة إلى أن الساحر متعلق على غير الله، فإنه متعلق على الشياطين. قال: وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا هل أنبئكم ما العضه هي النميمة القالة بين الناس" 1 رواه مسلم. ش: قوله: (هل أنبئكم) ، أي: أخبركم. قوله: (ما العضه؟) ، هو بفتح العين المهملة وسكون المعجمة. قال أبو السعادات: هكذا يروى في كتب الحديث. والذي جاء في كتب الغريب ألا أنبئكم ما العضة بكسر العين وفتح الضاد. وفي حديث آخر "إياكم والعضة" قال الزمخشري: أصلها العضهة فعلة من العضه، وهو البهت فحذفت لامه، كما حذفت من السنة والشفة وتجمع على عضين. ثم فسره بقوله: هي النميمة القالة بين الناس. وعلى هذا فأطلق عليها العضه، لأنها لا تنفك عن الكذب والبهتان غالبًا، ذكره القرطبي. قلت: ظاهر إيراد المصنف لهذا الحديث هنا يدل على أن معنى العضه عنده هنا هو السحر، ويدل على ذلك حديث: "كادت النميمة أن تكون سحرًا". رواه ابن لالٍ في "مكارم الأخلاق" بإسناد ضعيف. وذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال: يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة. وقال أبو الخطاب في "عيون المسائل": ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس. قال في "الفروع" ووجهه أنه يقصد الأذى بكلامه وعلمه على وجه المكر والحيلة، أشبه السحر، ولهذا يعلم بالعرف والعادة أنه يؤثر وينتج ما يعمله الساحر أو أكثر، فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين، لكنه يقال: الساحر إنما

_ 1 مسلم: البر والصلة والآداب (2606) , وأحمد (1/437) .

كفر لوصف السحر وهو أمر خاص، ودليله خاص، وهذا ليس بساحر وإنما يؤثر عمله ما يؤثره فيعطى حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة انتهى ملخصًا. وبه يظهر مطابقة الحديث للترجمة. والحديث دليل على تحريم الغيبة والنميمة، وهو كذلك بالإجماع. وقد قال أبو محمد بن حزم: اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة، وفيه دليل على أنها من الكبائر. وقوله: (القالة بين الناس) . قال أبو السعادات: أي: كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس بما يحكى للبعض عن البعض، ومنه الحديث "ففشت القالة بين الناس" 1. قال: ولهما عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من البيان لسحرًا" 2. ش: البيان: البلاغة والفصاحة، قال صعصعة بن صوحان: صدق نبي الله أما قوله: (إن من البيان لسحرًا) ، فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق، فيسحر القوم ببيانه، فيذهب بالحق. وقال ابن عبد البر: تأولته طائفة على الذم، لأن السحر مذموم. وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح، لأن الله تعالى مدح البيان. قال: وقد قال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن حاجة، فأحسن المسألة، فأعجبه قوله فقال: "هذا والله السحر الحلال". قلت: الأول أصح وهو أنه خرج مخرج الذم لبعض البيان لا كله، وهو الذي فيه تصويب الباطل وتحسينه، حتى يتوهم السامع أنه حق أو يكون فيه بلاغة زائدة عن الحد، أو قوة في الخصومة حتى يسحر القوم ببيانه، فيذهب بالحق ونحو ذلك، فسماه سحرًا لأنه يستميل القلوب كالسحر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجلان من

_ 1 مسلم: البر والصلة والآداب (2606) , وأحمد (1/437) . 2 البخاري: النكاح (5146) , والترمذي: البر والصلة (2028) , وأبو داود: الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/59 ,2/62 ,2/94) , ومالك: الجامع (1850) .

المشرق، فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من البيان لسحرًا" 1. كما رواه مالك والبخاري وغيرهم. وأما جنس البيان، فمحمود بخلاف الشعر فجنسه مذموم إلا ما كان حكمًا، ولكن لا يحمد البيان إلا إذا لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب، أو تصوير الباطل في صورة الحق، فإذا خرج إلى هذا الحد فهو مذموم. وعلى هذا تدل الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها" 2. رواه أحمد وأبو داود. وقوله: (لقد رأيت أو لقد أمرت أن أتجوز في القول فإن الجواز هو خير) . رواه أبو داود.

_ 1 البخاري: النكاح (5146) , والترمذي: البر والصلة (2028) , وأبو داود: الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/59 ,2/62 ,2/94) , ومالك: الجامع (1850) . 2 الترمذي: الأدب (2853) , وأبو داود: الأدب (5005) , وأحمد (2/165 ,2/187) .

باب ما جاء في الكهان ونحوهم

[20- باب ما جاء في الكهان ونحوهم] اعلم أن الكهان الذين يأخذون عن مسترقي السمع موجودون إلى اليوم، لكنهم قليل بالنسبة لما كانوا عليه في الجاهلية، لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب، ولم يبق من استراقهم إلا ما يخطفه الأعلى، فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب. وأما ما يخبر به الجني مواليه من الإنس بما غاب عن غيره مما لا يطلع عليه الإنسان غالبًا فكثير جدًّا في أناس ينتسبون إلى الولاية والكشف، وهم من الكهان إخوان الشياطين لا من الأولياء. ولما ذكر المصنف شيئًا مما يتعلق بالسحر ذكر ما جاء في الكهان ونحوهم كالعراف لمشابهة هؤلاء للسحرة. والكهانة: ادعاء علم الغيب كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب. والأصل فيه استراق الجن السمع من كلام الملائكة، فتلقيه في أذن الكاهن، والكاهن لفظ يطلق على العراف والذي يضرب الحصى والمنجم. وقال في "المحكم": الكاهن: القاضي بالغيب.

وقال الخطابي: الكهان فيما علم بشهادة الامتحان: قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة، وطبائع نارية، فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم، ويستفتونهم في الحوادث، فيلقون إليهم الكلمات. ] من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يومًا] . قال: وروى مسلم في " صحيحه " عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يومًا" 1. ش: هذا الحديث رواه مسلم كما قال المصنف، ولفظه: حدثنا محمد بن المثنى العنْزي، ثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله - في نسخة: عبد الله - عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يومًا وليلة" 2. هكذا رواه، وليس فيه "فصدقه". قوله: (عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم) . هي حفصة، على ما ذكره أبو مسعود الدمشقي، لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها وكذلك سماه بعض الرواة. قوله: (من أتى عرافًا فسأله عن شيء) . العراف سيأتي بيانه وهو من أنواع الكهان، وظاهر الحديث أن هذا الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله سواء صدقه، أو شك في خبره، لأن إتيان الكهان منهي عنه، كما في حديث معاوية بن الحكم السلمي "قلت: يا رسول الله إن منا رجالاً يأتون الكهان قال: فلا تأتهم" 3. رواه مسلم. ولأنه إذا شك في خبره، فقد شك في أنه لا يعلم الغيب، وذلك موجب للوعيد، بل يجب عليه أن يقطع ويعتقد أنه لا يعلم الغيب إلا الله. قوله: (لم تقبل له صلاة أربعين يومًا) ، إذا كانت هذه حال السائل، فكيف بالمسؤول؟ قال النووي وغيره: معناه: أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه، ولا يحتاج معها إلى

_ 1 مسلم: السلام (2230) , وأحمد (4/68 ,5/380) . 2 مسلم: السلام (2230) , وأحمد (4/68 ,5/380) . 3 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537) , والنسائي: السهو (1218) , وأبو داود: الصلاة (930) , وأحمد (5/447) .

إعادة، ونظير هذه الصلاة في أرض مغصوبة مجزئة مسقطة للقضاء، لكن لا ثواب له فيها، قاله جمهور أصحابنا. قالوا: فصلاة الفرض إذا أتى بها على وجهها الكامل، ترتب عليها شيئان: سقوط الفرض، وحصول الثواب. فإذا أداها في أرض مغصوبة، حصل له الأول دون الثاني ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة فوجب تأويله، هذا كلامه. وهو مبني على الملازمة بين الإجزاء وعدم الإعادة. والصواب أن عدم الإعادة لا يستلزم الإجزاء، لكن الصلاة في الأرض المغصوبة في إجزائها نزاع، والمشهور من مذهب أحمد أنها لا تجزئ وتجب إعادتها. وفي الحديث النهي عن إتيان الكاهن ونحوه قال القرطبي: يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم على من يتعاطى شيئًا من ذلك من التعزيرات. وينكر عليهم أشد النكير وعلى من يجيء إليهم، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينسب إلى العلم، فإنهم غير راسخين في العلم، بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور. [من أتى كاهنًا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد] قال: وعن أبي هريرة. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 1. رواه أبو داود. ش: هذا الحديث رواه أبو داود ولفظه: حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد. ح وحدثنا مسدد ثنا يحيى عن حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أتى كاهنًا قال موسى في حديثه: فصدقه بما يقول أو أتى امرأة، قال مسدد: امرأته حائضًا، أو أتى امرأة. قال مسدد: يعني: امرأته في دبرها، فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"، ورواه

_ 1 الترمذي: الطهارة (135) , وأبو داود: الطب (3904) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/429 ,2/476) , والدارمي: الطهارة (1136) .

الترمذي والنسائي وابن ماجة بنحوه وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث الأثرم، وضعف محمد هذا الحديث من جهة إسناده. وقال البغوي: سنده ضعيف، وقال الذهبي: ليس إسناده بالقائم. قلت: أطال أبو الفتح اليعمري في بيان ضعفه وادعى أن متنه منكر، وأخطأ في إطلاق ذلك، فإن إتيان الكاهن له شواهد صحيحة، منها ما ذكره المصنف بعده، وكذلك إتيان المرأة في الدبر له شواهد، منها ما رواه عبد بن حميد بإسناد صحيح عن طاووس "أن رجلاً سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها فقال: تسألني عن الكفر؟ ". ومنها ما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في "صحيحه". وصححه ابن حزم عن ابن عباس مرفوعًا: "لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في الدبر" 1. والأحاديث في ذلك كثيرة. وغاية ما ينكر من متنه ذكر إتيان الحائض والله أعلم. قال: وللأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن ... "من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 2. ش: هكذا بيض المصنف اسم الراوي. وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا ولفظ أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة والحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم ... فذكره. وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري فقد روي عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة، حديث "أن موسى كان رجلاً حييا ... " الحديث. قال العراقي في أماليه: حديث صحيح. وقال الذهبي: إسناده قوي. وعلى هذا فعزو المصنف إلى الأربعة ليس كذلك، فإنه لم يروه أحد منهم، وأظنه تبع في ذلك الحافظ، فإنه عزاه في "الفتح" إلى أصحاب السنن والحاكم فوهم، ولعله أراد الذي قبله. قوله: "من أتى كاهنًا ... " 3 إلى آخره. قال بعضهم: لا تعارض

_ 1 الترمذي: الرضاع (1166) . 2 سنن ابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها (639) , وسنن الدارمي: كتاب الطهارة (1136) . 3 الترمذي: الطهارة (135) , وأبو داود: الطب (3904) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/429 ,2/476) , والدارمي: الطهارة (1136) .

بين هذا الخبر، وبين حديث: "من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" 1. إذ الغرض في هذا الحديث أنه سأله معتقدًا صدقه وأنه يعلم الغيب فإنه يكفر، فإن اعتقد أن الجن تلقي إليه ما سمعته من الملائكة، أو أنه بإلهام فصدقه من هذه الجهة لا يكفر كذا قال، وفيه نظر. وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان، لاعتقاده أنه يعلم الغيب، وسواء كان ذلك من قِبَل الشياطين، أو من قِبَل الإلهام لا سيما وغالب الكهان في وقت النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين. وفي حديث رواه الطبراني عن واثلة مرفوعًا: "من أتى كاهنًا فسأله عن شيء حجبت عنه التوبة أربعين ليلة فإن صدقه بما قال كفر". قال المنذري: ضعيف. فهذا - لو ثبت - نص في المسألة لكن ما تقدم من الأحاديث يشهد له، فإن الحديث الذي فيه الوعيد بعدم قبول الصلاة أربعين ليلة ليس فيه ذكر تصديقه والأحاديث التي فيها إطلاق الكفر مقيدة بتصديقه. قوله: "فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم". قال الطيبي: المراد بالمنزل الكتاب والسنة، أي: من ارتكب هذه فقد برئ من دين محمد صلى الله عليه وسلم وما أُنزل عليه انتهى. وهل الكفر في هذا الموضوع كفر دون كفر أو يجب التوقف؟ فلا يقال: ينقل عن الملة. ذكروا فيها روايتين عن أحمد وقيل: هذا على التشديد والتأكيد، أي: قارب الكفر والمراد كفر النعمة، وهذان القولان باطلان. قال: ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفًا. ش: أبو يعلى اسمه أحمد بن علي بن المثنى الموصلي الإمام صاحب التصانيف ك: "المسند" وغيره روى عن يحيى بن معين وأبي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة وخلق وكان من الأئمة الحفاظ مات سنة سبع وثلاثمائة. وهذا الأثر رواه البزار أيضًا وإسناده على شرط مسلم ولفظه: "من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 2. وفيه دليل على كفر

_ 1 مسلم: السلام (2230) , وأحمد (4/68 ,5/380) . 2 الترمذي: الطهارة (135) , وأبو داود: الطب (3904) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/408 ,2/429 ,2/476) , والدارمي: الطهارة (1136) .

الكاهن والساحر والمصدق لهما، لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به وذلك كفر أيضًا. قال: وعن عمران بن الحصين مرفوعًا "ليس منا من تطير أو تطير له، [أو تكهن] أو تكهن له، [أو سحر] أو سحر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم". رواه البزار بإسناد جيد. ورواه الطبراني بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: (ومن أتى ... ) إلى آخره. ش: هذا الحديث رواه الطبراني كما قال "المصنف" في "الأوسط" قال المنذري: إسناد الطبراني حسن وإسناد البزار جيد. قوله: (ليس منا) أي: ليس يفعل ذلك من هو من أشياعنا العاملين باتباعنا المقتفين لشرعنا. قوله: (من تطير) أي: فعل الطيرة أو تطير له، أي: أمر من يتطير له، وكذلك معنى تكهن أو تكهن له [أو سحر] أو سحر له. قوله: (رواه البزار) . اسمه أحمد بن عمرو بن عبد الخالق أبو بكر البزار البصري صاحب "المسند الكبير" الذي عزا إليه المصنف، روى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق. قال الدارقطني: ثقة يخطئ ويتكل على حفظه مات سنة اثنين وتسعين ومائتين. [تعريف الكاهن والعراف] قوله: قال البغوي [في شرح السّنة 3259] : "العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك، وقيل: هو الكاهن، والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل: الذي يخبر عما في الضمير، وقال أبو العباس ابن تيمية: "العرّاف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق". ش: البغوى بفتحتين اسمه الحسين بن مسعود بن الفراء

المعروف بمحيي السنة الشافعي صاحب التصانيف، وعالم أهل خراسان وكان ثقة فقيهًا زاهدًا مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة. قوله: (العراف الذي يدعي معرفة الأمور ... ) إلى آخره. هذا تفسير حسن وظاهره يقتضي أن العراف هو الذي يخبر عن الواقع كالمسروق والضالة، وأحسن منه كلام شيخ الإسلام: أن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف. وقال أيضًا: "والمنجم يدخل في اسم العراف وعند بعضهم هو في معناه". وقال أيضًا: "والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء وحكى ذلك عن العرب وعند آخرين من جنس الكاهن وأسوء حالاً منه، فيلحق به من جهة المعنى"، وقال الإمام أحمد: "العراف طرف من السحر والساحر أخبث". وقال أبو السعادات: "العراف المنجم والحازر الذي يدعي علم الغيب وقد استأثر الله تعالى به". وقال ابن القيم: "من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفًا وعرافًا. والمقصود من هذا معرفة أن من يدعي علم شيء من المغيبات، فهو إما داخل في اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به، وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف. ومنه ما هو من الشياطين ويكون بالفأل والزجر والطير والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر ونحو هذا من علوم الجاهلية. ونعني بالجاهلية: كل من ليس من أتباع الرسل كالفلاسفة والكهان والمنجمين وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. فإن هذه علوم قوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل عليهم السلام. وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهنًا أو عرافًا أو في معناهما فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد.

وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة، ولا ريب أن من ادعى الولاية، واستدل عليها بإخباره ببعض المغيبات، فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، إذ الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن المتقي، إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها بخلاف من يدعي أنه ولي لله ويقول للناس: اعلموا أني أعلم المغيبات، فإن مثل هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب وإن كانت أسبابًا محرمة كاذبة في الغالب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في وصف الكهان: "فيكذبون معها مائة كذبة" 1. فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة. وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس مع أن نفس دعواه دليل على كذبه، لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} 2. وليس هذا من شأن الأولياء، بل شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها وخوفهم من ربهم. فكيف يأتون الناس يقولون: اعرفوا أنا أولياء، وأنا نعلم الغيب. وفي ضمن ذلك طلب المنْزلة في قلوب الخلق، واقتناص الدنيا بهذه الأمور؟! وحسبك بحال الصحابة والتابعين وهم سادات الأولياء أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء؟! لا والله. بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن كالصديق. وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده بالليل فيمرض منها ليالي يعوده الناس، وكان تميم الداري يتقلب في فراشه لا يستطيع النوم إلا قليلاً خوفًا من النار، ثم يقوم إلى صلاته ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكر الله تعالى من صفاتهم في سورة الرعد [20، 22، 28] ، والمؤمنين [1، 9، 57، 61] ، والفرقان [63، 74] ، والذاريات [16، 19] ، والطور [26، 28] ، فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء لا أهل الدعوى

_ 1 البخاري: بدء الخلق (3210) , ومسلم: السلام (2228) , وأحمد (6/87) . 2 سورة النجم آية: 32.

والكذب، ومنازعة رب العالمين فيما اختص من الكبرياء والعظمة، وعلم الغيب، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر، فكيف يكون المدعي لذلك وليًّا لله؟! ولقد عظم الضرر، واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين، ولبسوا بها على خفافيش البصائر. نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة". فإن قلت: كيف يكون علم الخط من الكهانة؟ وقد روى أحمد ومسلم عن "معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنا رجال يخطون فقال كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك" 1. قلت: قال النووي: "معناه أن من وافق خطه، فهو مباح له، لكن لا طريق لنا إلى العلم باليقين بالموافقة، فلا يباح. والقصد أنه لا يباح إلا بيقين الموافقة وليس لنا يقين". وقال غيره: "المراد به النهي عنه والزجر عن تعاطيه، لأن خط ذلك النبي كان معجزة وعَلَمًا لنبوته، وقد انقطعت نبوته ولم يقل: فذلك الخط حرام دفعًا لتوهم أن خط ذلك النبي حرام". قلت: ويحتمل أن المعنى أن سبب إصابة صاحب الخط هو موافقته لخط ذلك النبي، فمن وافق خطه أصاب. وإذا كان كذلك وكانت الإصابة نادرة بالنسبة إلى الخط، ولا طريق إلى اليقين بالموافقة صار ذلك بالنسبة إلى من يتعاطاه من أنواع الكهانة لمشاركته لها في المعنى إذا علمت ذلك، فاعلم أن مذهب الإمام أحمد أن حكم الكاهن والعراف الاستتابة، فإن تابا وإلا قتلا. ذكره غير واحد من الأصحاب. فأما المعزم الذي يعزم على المصروع، ويزعم أنه يجمع الجن وأنها تطيعه، والذي يحل السحر، فقال في "الكافي" ذكرهما أصحابنا في السحرة الذين ذكرنا حكمهم. وقد توقف أحمد لما سئل عن الرجل يحل السحر، فقال: قد رخص فيه بعض الناس. قيل: إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه، فنفض يده وقال: ما أدري ما هذا؟!. قيل له: فترى أن يؤتى مثل هذا يحل؟ قال: ما أدري

_ 1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537) , وأبو داود: الطب (3909) , وأحمد (5/448) .

ما هذا؟!. قال: وهذا يدل على أنه لا يكفر صاحبه، ولا يقتل. قلت: إن كان ذلك لا يحصل إلا بالشرك والتقرب إلى الجن، فإنه يكفر ويقتل، ونص أحمد لا يدل على أنه لا يكفر، فإنه قد يقول مثل هذا في الحرام البين. قوله: وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد، وينظرون في النجوم: ما أَُرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق. ش: هذا الأثر ذكره المصنف عن ابن عباس، ولم يعزه، وقد رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا، وإسناده ضعيف، ولفظه: "رب معلم حروف أبي جاد دارس في النجوم ليس له عند الله من خلاق يوم القيامة". ورواه أيضًا حميد بن زنجويه عنه بلفظ "رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق". قوله: (ما أَُرى) . يجوز فتح الهمزة من "أرى" بمعنى: لا أعلم له عند الله من خلاق، أي: من نصيب، ويجوز ضمها بمعنى: لا أظن ذلك لاشتغاله بما فيه من اقتحام الخطر والجهالة وادعاء علم الغيب الذي استأثر الله به، وكتابة أبي جاد وتعلمها لمن يدعي بها معرفة علم الغيب هو الذي يسمى علم الحرف. ولبعض المبتدعة فيه مصنف، فأما تعليمها للتهجي وحساب الجمل، فلا بأس بذلك. قوله: (وينظرون في النجوم) . هذا محمول على علم التأثير لا التسيير، كما سيجيء في باب التنجيم، وفيه عدم الاغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 1.

_ 1 سورة غافر آية: 83.

باب ما جاء في النشرة

[21- باب ما جاء في النشرة] لما ذكر المصنف حكم السحرة والكهانة ذكر ما جاء في النشرة، لأنها قد تكون من قبل الشياطين والسحرة، فتكون مضادة للتوحيد، وقد تكون مباحة، كما سيأتي تفصيله. قال أبو السعادات: النشرة ضرب من العلاج والرقية، يعالج به من كان يظن أن به مسًّا من الجن، سميت نشرة، لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي: يكشف ويزال. وقال الحسن: النشرة من السحر، وقد نشرت عنه تنشيرًا، ومنه الحديث: "فلعل طبا أصابه ثم نشره ب {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} " أي: رقاه. وقال غيره: ونشره أيضًا إذا كتب له النشرة، وهي كالتعويذ والرقية. وقال ابن الجوزي: النشرة حل السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر. [النشرة من عمل الشيطان] قال: عن جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة، فقال: هي من عمل الشيطان" 1. رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود، قال: سئل أحمد عنها، فقال ابن مسعود: يكره هذا كله. ش: هذا الحديث رواه أحمد، ورواه عنه أبو داود في "سننه" والفضل بن زياد في كتاب "المسائل" عن عبد الرزاق عن عقيل بن معقل بن منبه عن عمه وهب بن منبه عن جابر، فذكره، قال ابن مفلح: إسناده جيد، وحسن الحافظ إسناده، ورواه ابن أبي شيبة، وأبو داود في المراسيل عن الحسن رفعه "النشرة من عمل الشيطان" 2. قوله: (سئل عن النشرة) . الألف واللام في النشرة للعهد، أي:

_ 1 أبو داود: الطب (3868) , وأحمد (3/294) . 2 أبو داود: الطب (3868) , وأحمد (3/294) .

النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يصنعونها، هي من عمل الشيطان، لا النشرة بالرقى والتعوذات الشرعية والأدوية المباحة، فإن ذلك جائز كما قرره ابن القيم فيما سيأتي. قوله: (وقال: سئل أحمد عنها فقال ابن مسعود: يكره هذا كله) . مراد أحمد - والله أعلم - أن ابن مسعود يكره النشرة التي من عمل الشيطان والنشرة التي بكتابة وتعليق كالتمائم، فإن ابن مسعود كان يكره التمائم كلها من القرآن وغير القرآن، أما النشرة بالتعويذ والرقى بأسماء الله وكلامه من غير تعليق، فلا أعلم أحدًا كرهه، وكذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم: كانوا يكرهون التمائم والرقى والنشر. محمول على ما ذكرنا. قال وفي " البخاري " عن قتادة قلت لابن المسيب: رجل به طب، أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه؟ . ش: هذا الأثر علقه البخاري، ووصله أبو بكر الأثرم في كتاب "السنن" من طريق أبان العطار عن قتادة مثله، ومن طريق هشام الدستوائي عن قتادة بلفظ: (يلتمس من يداويه) . فقال: إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع. قوله: (عن قتادة) ، هو ابن دعامة بكسر الدال السدوسي البصري ثقة ثبت فقيه من أحفظ التابعين، يقال: إنه ولد أكمه مات سنة بضع عشرة ومائة. قوله: (رجل به طب) ، بكسر الطاء، أى: سحر، يقال: طب الرجل بالضم: إذا سحر، ويقال: كنوا عن السحر بالطب تفاؤلاً، كما قالوا للديغ: سليم، وقال ابن الأنباري: الطب من الأضداد يقال لعلاج الداء: طب، والسحر من الداء، يقال له: طب. قوله: (أو يؤخذ) . بفتح الواو مهموز، وتشديد الخاء المعجمة

وبعدها ذال معجمة، أي: يحبس عن امرأته، ولا يصل إلى جماعها والأخذ بضم الهمزة: الكلام الذي يقوله الساحر. قوله: (يحل) بضم الياء وفتح الحاء مبني للمفعول. قوله: (وينشر) ، بتشديد المعجمة. قوله: (قال لا بأس به ... ) إلى آخره يعني أن النشرة لا بأس بها لأنهم يريدون بها الإصلاح، أي: إزالة السحر، ولم ينه عما يراد به الإصلاح، إنما ينهى عما يضر. وهذا الكلام من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم هل هو نوع من السحر أم لا؟ فأما أن يكون ابن المسيب يفتي بجواز قصد الساحر الكافر المأمور بقتله ليعمل السحر، فلا يظن به ذلك، حاشاه منه، ويدل على ذلك قوله: إنما يريدون به الإصلاح، فأي إصلاح في السحر؟! بل كله فساد وكفر والله أعلم. قال: وروي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر. ش: هذا الأثر ذكره ابن الجوزي في "جامع المسانيد" بغير إسناد، ولفظه: (لا يطلق السحر إلا ساحر) ، وروى ابن جرير في "التهذيب" من طريق يزيد بن زريع عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأسًا إذا كان بالرجل سحر أن يمشي إلى من يطلق عنه، فقال: هو صلاح، قال قتادة: وكان الحسن يكره ذلك يقول: لا يعلم ذلك إلا ساحر، قال: فقال سعيد بن المسيب: إنما نهى الله عما يضر، ولم ينه عما ينفع. قوله: (عن الحسن) ، هو ابن أبي الحسن، واسمه يسار بالتحتانية والمهملة البصري الأنصاري مولاهم ثقة فقيه إمام فاضل من خيار التابعين. مات سنة عشر ومائة، وقد قارب التسعين. [أنواع النشرة] قوله: قال ابن القيم: النشرة حل السحر عن المسحور. وهي نوعان: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان. وعليه

يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية المباحة، فهذا جائز. ش: هذا الثاني هو الذي يحمل عليه كلام ابن المسيب، أو على نوع لا يدرى هل هو من السحر أم لا؟ وكذلك ما روي عن الإمام أحمد من إجازة النشرة، فإنه محمول على ذلك وغلط من ظن أنه أجاز النشرة السحرية، وليس في كلامه ما يدل على ذلك، بل لما سئل عن الرجل يحل السحر قال: قد رخص فيه بعض الناس. قيل: إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه؟ فنفض يده وقال: لا أدري ما هذا؟ قيل له: أفترى أن يؤتى مثل هذا؟ قال لا أدري ما هذا؟ وهذا صريح في النهي عن النشرة على الوجه المكروه. وكيف يجيزه؟! وهو الذي روى الحديث أنها من عمل الشيطان. ولكن لما كان لفظ النشرة مشتركًا بين الجائزة والتي من عمل الشيطان، ورأوه قد أجاز النشرة ظنوا أنه قد أجاز التي من عمل الشيطان، وحاشاه من ذلك. ومما جاء في صفة النشرة الجائزة ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تقرأ في إناء فيه ماء ثم تصب على رأس المسحور الآية التي في يونس: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} ، إلى قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} ، [يونس: من الآيتان: 81-82] . وقوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ... } 1، إلى آخر أربع آيات. وقوله: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 2. وقال ابن بطال: في كتاب وهب بن منبه أنه يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله.

_ 1 سورة الأعراف آية: 118. 2 سورة طه آية: 69.

باب ما جاء في التطير

[22- باب ما جاء في التطير] مصدر تطير يتطير والطيرة أيضًا - بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن - مصدر تطير، يقال: تطير طيرة وتخير خيرة ولم يجئ من المصادر هكذا غيرهما، وأصله فيما يقال: التطير بالسوانح، والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم. فإذا أرادوا أمرًا، فإن رأوا الطير مثلاً طار يمنة، تيمنوا به، وإن طار يسرة، تشاؤموا به، فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع أو دفع ضر. قال المدائني: سألت رؤبة بن العجاج ما السانح؟ قال: ما ولاك ميامنه قلت: فما البارح؟ قال: ما ولاك مياسره. قال والذي يجيء من أمامك فهو الناطح والنطيح، والذي يجيء من خلفك هو القاعد والقعيد. ولما كانت الطيرة بابًا من الشرك منافيًا للتوحيد أو لكماله، لأنها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته، ذكره المصنف في كتاب "التوحيد" تحذيرًا منها وإرشادًا إلى كمال التوحيد بالتوكل على الله. واعلم أن ما كان معتنيًا بها قابلاً بها كانت إليه أسرع من السيل إلى منحدره، وتفتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه، وينكد عليه عيشه، فالواجب على العبد التوكل على الله ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يمضي لشأنه لا يرده شيء من الطيرة عن حاجته فيدخل في الشرك. قال: وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1. ش: أول الآية قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ... } 2 الآية. المعنى أن آل فرعون إذا أصابتهم {الْحَسَنَةُ} ، أي: الخصب والسعة والعافية

_ 1 سورة الأعراف آية: 131. 2 سورة الأعراف آية: 131.

على ما فسره مجاهد وغيره قالوا: لنا هذه، أي: نحن الجديرون الحقيقون به، ونحن أهله وإن تصبهم سيئة، أي: بلاء وضيق وقحط يطيروا بموسى ومن معه، فيقولون: هذا بسبب موسى وأصحابه أصابنا بشؤمهم كما يقوله المتطير لمن يتطير به. فأخبر سبحانه أن طائرهم عنده فقال: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} 1. قال ابن عباس: طائرهم ما قضي عليهم وقدر لهم. وفى رواية ذكرها ابن جرير عنه قال: الأمر من قبل الله، وفي رواية: شؤمهم عند الله ومن قبله، أي: إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله. وقيل: المعنى أن الشؤم العظيم هو الذي عند الله من عذاب النار لا هذا الذي أصابهم في الدنيا. والظاهر أن هذه الآية كقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 2، أي: أن الكل من الله لكن هذا الشؤم الذي أجراه عليهم من عنده هو بسبب أعمالهم لا بسبب موسى عليه السلام ومن معه. وكيف يكون ذلك وما جاء به خير محض؟ والطيرة إنما تكون بالشر لا بالخير. وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 3، أي: أن أكثرهم جهال لا يدرون، ولو فهموا أو عقلوا لعلموا أنه ليس فيما جاء به موسى عليه السلام شيء يقتضي الطيرة. وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: ألا إنمّا طائر آل فرعون وغيرهم - وذلك أنصباؤهم من الرخاء والخصب وغير ذلك من أنصباء الخير والشر - إلا عند الله، ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك كذلك، فلجهلهم بذلك كانوا يتطيرون بموسى ومن معه. قال: وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ... } 4 الآية. ش: المعنى والله أعلم، أي: حظكم وما نالكم من خير وشر معكم بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين، ليس هو من أجلنا ولا بسببنا، بل ببغيكم وعداوتكم فطائر الباغي الظالم معه وهو عند الله كما قال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ

_ 1 سورة الأعراف آية: 131. 2 سورة النساء آية: 78. 3 سورة الأنعام آية: 37. 4 سورة يس آية: 19.

مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} 1. ولو فقهوا أو فهموا لما تطيروا بما جئت به، لأنه ليس فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقتضي الطيرة، كأنه خير محض لا شر فيه، وصلاح لا فساد فيه، وحكمة لا عيب فيها، ورحمة لا جور فيها. فلو كان هؤلاء القوم من أهل الفهم والعقول السليمة لم يتطيروا من هذا، لأن الطيرة إنما تكون بالشر لا بالخير المحض والحكمة والرحمة، بل طائرهم معهم بسبب كفرهم وشركهم وبغيهم وهو عند الله كسائر حظوظهم، وأنصبائهم التي ينالونها منه بأعمالهم. ويحتمل أن يكون المعنى {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ، أي: راجع عليكم، فالتطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم، وهذا من باب القصاص في الكلام ونظيره قوله عليه السلام: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم" 2. ذكره ابن القيم. وقوله: {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} 3 أي: من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله، وإخلاص العبادة له قابلتمونا بهذا الكلام؟! وتوعدتمونا بل أنتم قوم مسرفون. وقال قتادة: أئن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا؟ ومطابقة الآيتين لمقصود الباب ظاهر، لأن الله تعالى لم يذكر الطير إلا عن أعدائه، فهو من أمر الجاهلية، لا من أمر الإسلام. [لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر] قال: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر" 4. أخرجاه. زاد مسلم عن جابر: "ولا نوء ولا غول" 5. ش: قوله: (لا عدوى) . قال أبو السعادات: العدوى اسم من الأعداء كالدعوى والبقوى من الادعاء والإبقاء. يقال: أعداه الداء يعديه إعداء، وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء. وذلك أن يكون ببعير جرب مثلاً يتقي مخالطته بإبل أخرى حَذَار أن يتعدى ما به من الجرب إليها، فيصيبها ما أصابه. انتهى.

_ 1 سورة النساء آية: 78. 2 البخاري: الاستئذان (6258) , ومسلم: السلام (2163) , والترمذي: تفسير القرآن (3301) , وأبو داود: الأدب (5207) , وابن ماجه: الأدب (3697) , وأحمد (3/212) . 3 سورة يس آية: 19. 4 البخاري: الطب (5757) , ومسلم: السلام (2220) , وأبو داود: الطب (3911) , وأحمد (2/267 ,2/327 ,2/397 ,2/434) . 5 البخاري: الطب (5717 ,5757 ,5771) , ومسلم: السلام (2220) , وأبو داود: الطب (3911 ,3912) , وأحمد (2/267 ,2/397) .

وفي بعض روايات هذا الحديث: "فقال أعرابي: يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجيء البعير الأجرب، فيدخل فيها فيجربها كلها؟ قال: فمن أعدى الأول" 1. وفي رواية في "مسلم" أن أبا هريرة كان يحدث بحديث: "لا عدوى" ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يورد ممرِض على مصِح" 2. ثم إن أبا هريرة اقتصر على حديث "لا يورد ممرض على مصح" 3 وأمسك عن حديث: "لا عدوى"، فراجعوه فيه، فقالوا: سمعناك تحدثه، فأبى أن يعترف به. قال أبو سلمة الراوي عن أبي هريرة: فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر. وقد روى حديث: "لا عدوى"، جماعة من الصحابة منهم أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، والسائب بن يزيد وابن عمر وغيرهم، فنسيان أبي هريرة له لا يضر. وفي بعض روايات هذا الحديث: "وفر من المجذوم كما تفر من الأسد". وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافًا كثيرًا. فردت طائفة حديث: "لا عدوى"، بأن أبا هريرة رجع عنه. قالوا: والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر فالمصير إليها أولى، وهذا ليس بشيء، لأن حديث: "لا عدوى"، قد رواه جماعة كما تقدم. وعكست طائفة هذا القول، ورجحوا حديث: "لا عدوى"، وزيفوا ما سواه من الأخبار، وأعلوا بعضها بالشذوذ كحديث: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" 4. وبأن عائشة أنكرته كما روى ابن جرير عنها: أن امرأة سألتها عنه فقالت: ما قال ذلك، ولكنه قال: "لا عدوى" 5. وقال: "فمن أعدى الأول" 6. قالت: وكان لي مولى به

_ 1 البخاري: الطب (5717 ,5771 ,5775) , ومسلم: السلام (2220) , وأبو داود: الطب (3911) , وأحمد (2/267 ,2/327) . 2 مسلم: السلام (2221) , وابن ماجه: الطب (3541) , وأحمد (2/434) . 3 مسلم: السلام (2221) , وابن ماجه: الطب (3541) , وأحمد (2/434) . 4 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجه: المقدمة (1 ,2) , وأحمد (2/247 ,2/258 ,2/313 ,2/355 ,2/428 ,2/447 ,2/456 ,2/467 ,2/482 ,2/495 ,2/508) . 5 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2518) , والنسائي: الأشربة (5711) , وأحمد (1/200) , والدارمي: البيوع (2532) . 6 البخاري: الجمعة (1014) , ومسلم: صلاة الاستسقاء (897) , والنسائي: الاستسقاء (1518) .

هذا الداء، فكان يأكل في صحافي، ويشرب في أقداحي، وينام على فراشي. وهذا أيضًا ليس بشيء، فإن الأحاديث في الاجتناب ثابتة. وحملت طائفة أخرى الإثبات والنفي على حالتين مختلفتين، فحيث جاء (لا عدوى) كان المخاطب بذلك من قوي يقينه، وصح توكله بحيث لا يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى، كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل واحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، وهذا كما أن قوة الطبيعة تدفع العلة وتبطلها. وحيث جاء الإثبات كان المراد به ضعيف الإيمان والتوكل ذكره بعض أصحابنا واختاره وفيه نظر. وقال مالك لما سئل عن حديث "فر من المجذوم": ما سمعت فيه بكراهية وما أرى ما جاء من ذلك إلا مخافة أن يقع في نفس المؤمن شيء. ومعنى هذا أنه نفى العدوى أصلاً، وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادة وسد الذريعة، لئلا يحدث للمخاطب شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة، فيثبت العدوى التي نفاها الشارع. وإلى هذا ذهب أبو عبيد وابن جرير والطحاوي وذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد. قلت: وأحسن من هذا كله ما قاله البيهقي، وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم أن قوله: (لا عدوى) على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمراض تعدي بطبعها، وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح مَنْ به شيء من هذه العيوب سببًا لحدوث ذلك. ولهذا قال: "فر من المجذوم كما تفر من الأسد" وقال: "لا يورد ممرض على مصح". وقال في الطاعون: "من سمع به بأرض فلا يقدم عليه" 1. وكل ذلك بتقدير الله تعالى كما قال: "فمن أعدى الأول" 2.

_ 1 البخاري: الجمعة (1013) , ومسلم: صلاة الاستسقاء (897) , والنسائي: الاستسقاء (1518) , وأبو داود: الصلاة (1174) , وأحمد (3/104 ,3/187 ,3/194 ,3/245 ,3/261 ,3/271) . 2 البخاري: الجمعة (1014) , ومسلم: صلاة الاستسقاء (897) , والنسائي: الاستسقاء (1518) .

يشير إلى أن الأول إنما جرب بقضاء الله وقدره، فكذلك الثاني وما بعده. وروى الإمام أحمد والترمذي عن ابن مسعود مرفوعًا: "لا يعدي شيء قالها ثلاثًا. فقال الأعرابي: يا رسول الله، النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أجرب الأول؟ لا عدوى، ولا هامة، ولا صفر، خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصابها ورزقها" , فأخبر عليه السلام أن ذلك كله بقضاء الله وقدره كما دل عليه قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} 1. وأما أمره بالفرار من المجذوم، ونهيه عن إيراد الممرض على المصح، وعن الدخول إلى موضع الطاعون، فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى، وجعلها أسبابًا للهلاك والأذى، والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية، فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء أو في النار أو تحت الهدم أو نحو ذلك مما جرت العادة بأنه يهلك ويؤذي، فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم، وقدوم بلد الطاعون، فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، والله تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها لا خالق غيره ولا مقدر غيره. وأما إذا قوي التوكل على الله، والإيمان بقضائه وقدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادًا على الله ورجاء منه أن لا يحصل به ضرر ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك لا سيما إذا كانت فيه مصلحة عامة أو خاصة وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة ثم قال: كل باسم الله، ثقة بالله، وتوكلا عليه" 2. وقد أخذ

_ 1 سورة الحديد آية: 22. 2 الدارمي: المقدمة (649) .

به الإمام أحمد. وروي ذلك عن عمر وابنه وسلمان رضي الله عنهم. ونظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد من أكل السم، ومن مشي سعد بن أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر قاله ابن رجب. قوله: "ولا طيرة"قال ابن القيم: هذا يحتمل أن يكون نفيًا أو يكون نهيًا، أي: لا تتطيروا، ولكن قوله في الحديث: "ولا عدوى ولا صفر ولا هامة" 1 يدل على أن المراد النفي وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها. والنفي في هذا أبلغ من النهي، لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدل على المنع منه وفي "صحيح مسلم" عن معاوية بن الحكم السلمي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومنا أناس يتطيرون؟ فقال: ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدَّنَّكم" 2. فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لا ما رآه وسمعه، فأوضح صلى الله عليه وسلم لأمته الأمر وبين لهم فساد الطيرة ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها دلالة، ولا نصبها سببًا لما يخافونه ويحذرونه، ولتطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله ونزل بها كتبه، وخلق لأجلها السموات والأرض، وعمر الدارين الجنة والنار بسبب التوحيد فقطع صلى الله عليه وسلم علق الشرك من قلوبهم، لئلا يبقى فيها علق منها ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار البتة. فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى واعتصم بحبله المتين، وتوكل على الله، قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها، وبادر خواطرها من قبل استمكانها. قال عكرمة: "كنا جلوسًا عند ابن عباس فمر طائر يصيح. فقال رجل من القوم: خير خير. فقال ابن عباس: لا خير ولا شر"فبادره بالإنكار عليه لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر. وخرج طاووس مع صاحب له في سفر، فصاح غراب، فقال الرجل: خير، فقال طاووس: وأي خير عند هذا لا تصحبني انتهى. ملخصًا.

_ 1 البخاري: الطب (5717) , ومسلم: السلام (2220 ,2221 ,2220) , وأبو داود: الطب (3911) , وأحمد (2/267 ,2/327 ,2/397) . 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537) , وأبو داود: الصلاة (930) , وأحمد (5/447) .

ولكن يشكل عليه ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أنس مرفوعًا: "لا طيرة، والطيرة على من تطير" فظاهر هذا أنها تكون سببًا لوقوع الشر بالمتطير. وجوابه: أن المراد بذلك من تطير تطيرًا منهيًّا عنه، وهو أن يعتمد على ما يسمعه ويراه حتى يمنعه مما يريده من حاجته، فإنه قد يصيبه ما يكرهه عقوبة له، فأما من توكل على الله، ووثق به بحيث علق قلبه بالله خوفًا ورجاء، وقطعه عن الالتفات إلى غير الله. وقال: وفعل ما أمر به فإنه لا يضره ذلك. وأما من اتقى أسباب الضرر بعد انعقادها بالأسباب المنهي عنها، فإنه لا ينفعه ذلك غالبًا كمن ردته الطيرة عن حاجته خشية أن يصيبه ما تطير به، فإنه كثيرًا ما يصاب بما يخشى به. وقد جاءت أحاديث ظن بعض الناس أنها تدل على جواز الطيرة. منها: قوله عليه السلام: "الشؤم في ثلاث: في المرأة، والدابة، والدار" 1. وفي رواية: "لا عدوى ولا طيرة، والشؤم في ثلاث ... ". الحديث وفي حديث آخر "إن كان ففي الفرس، والمرأة، والمسكن". رواهما البخاري فأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك وقالت: "كذب والذي أنزل الفرقان على أبي القاسم من حدث بها ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في المرأة والدار والدابة" ثم قرأت عائشة: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] . رواه أحمد وابن خزيمة والحاكم وصححه بمعناه. وقال الخطابي وابن قتيبة: هذا مستثنى من الطيرة، أي: الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها، أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع والطلاق ونحوه، ولا يقيم على الكراهة والتأذي به فإنه شؤم. وقالت طائفة: لم يجزم النبي صلى الله عليه وسلم بالشؤم في هذه الثلاثة، بل

_ 1 النسائي: قطع السارق (4877) , وأبو داود: الحدود (4380) , وابن ماجه: الحدود (2597) , وأحمد (5/293) , والدارمي: الحدود (2303) .

علقه على الشرط كما ثبت ذلك في الصحيح، ولا يلزم من صدق الشرطية صدق كل واحد بمفردها، قالوا: والراوي غلط. قلت: لا يصح تغليطه مع إمكان حمله على الصحة، ورواية تعليقه بالشرط لا تدل على نفي رواية الجزم. وقالت طائفة أخرى: الشؤم بهذه الثلاثة إنما يلحق من تشاءم بها فيكون شؤمها عليه، ومن توكل على الله ولم يتشاءم ولم يتطير لم تكن مشئومة عليه، قالوا: ويدل عليه حديث أنس: "الطيرة على من تطير". وقد يجعل الله سبحانه تطير العبد وتشاؤمه سببًا لحلول المكروه، كما يجعل الثقة به والتوكل عليه، وإفراده بالخوف والرجاء من أعظم الأسباب التي يدفع بها الشر. وقال ابن القيم: إخباره صلى الله عليه وسلم بالشؤم في هذه الثلاثة، ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها الله وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق أعيانًا منها مشئومة على من قاربها وسكنها، وأعيانًا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر. وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولدًا مباركًا يريان الخير على وجهه، ويعطي غيرهما ولدًا مشئومًا يريان الشر على وجهه، وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية أو غيرها. فكذلك الدار والمرأة والفرس. والله سبحانه خالق الخير والشر والسعود والنحوس فيخلق بعض هذه الأعيان سعودًا مباركة، ويقضي بسعادة من قاربها وحصول اليمن والبركة له، ويخلق بعضها نحوسًا يتنحس بها من قاربها، وكل ذلك بقضائه وقدره كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة، كما خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة، ولذذ بها من قاربها من الناس، وخلق ضدها وجعلها سببًا لألم من قاربها من الناس، والفرق بين هذين النوعين مدرك بالحس فكذلك في الديار والنساء والخيل فهذا لون والطيرة الشركية لون. انتهى. قلت: ولهذا يشرع لمن استفاد زوجة أو أمة أو دابة، أن يسأل الله من خيرها وخير ما جبلت عليه، ويستعيذ من شرها وشر ما جبلت عليه، وكذلك ينبغي لمن سكن دارًا أن يفعل ذلك

ولكن يبقى على هذا أن يقال: هذا جار في كل مشئوم فما وجه خصوصية هذه الثلاثة بالذكر؟ وجوابه أن أكثر ما يقع التطير في هذه الثلاثة فخصت بالذكر لذلك، ذكره في "شرح السنن". ومنها ما روى مالك عن يحيى بن سعيد قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقل العدد وذهب المال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوها ذميمة" 1. رواه أبو داود عن أنس بنحوه. وجوابه أن هذا ليس من الطيرة المنهي عنها، بل أمرهم بالانتقال لأنهم استثقلوها واستوحشوا منها، لما لحقهم فيها ليتعجلوا الراحة مما دخلهم من الجزع، لأن الله قد جعل في غرائز الناس استثقال ما نالهم الشر فيه، وإن كان لا سبب له في ذلك وحب من جرى على يديه الخير لهم، وإن لم يردهم به، ولأن مقامهم فيها قد يقودهم إلى الطيرة، فيوقعهم ذلك في الشرك، والشر الذي يلحق المتطير بسبب طيرته، وهذا بمنْزلة الخارج من بلد الطاعون غير فار منه، ولو منع الناس الرحلة من الدار التي تتوالى عليهم فيها المصائب والمحن، وتعذر الأرزاق مع سلامة التوحيد في الرحلة، للزم كل من ضاق عليه رزق في بلد أو قلة فائدة صناعته أو تجارته فيها أن لا ينتقل عنها إلى غيرها. ومنها فإن قيل: ما الفرق بين الدار وبين موضع الوباء حيث رخص في الارتحال عن الدار دون موضع البلاء؟ أجاب بعضهم أن الأمور بالنسبة إلى هذا المعنى ثلاثة أقسام: أحدها: ما لا يقع التطير منه إلا نادرًا، أو إلا مكررًا، فهذا لا يصغى إليه كنعي الغراب في السفر، وصراخ بومة في دار، وهذا كانت العرب تعتبره. ثانيها: ما يقع به ضرر، ولكنه يعم ولا يخص ويندر ولا يتكرر كالوباء، فهذا لا يقدم عليه ولا يفر منه. وثالثها: سبب محض ولا يعم ويلحق به الضرر لطول الملازمة كالمرأة، والفرس والدار فيباح له الاستبدال، أو التوكل على الله، والإعراض عما يقع في النفس ذكره في "شرح السنن".

_ 1 البخاري: التوحيد (7410) , ومسلم: الإيمان (193) , وابن ماجه: الزهد (4312) , وأحمد (3/116 ,3/244 ,3/247) .

ومنها: "حديث اللقحة لما منع النبي صلى الله عليه وسلم حربًا ومرة من حلبها وأذن ليعيش". رواه مالك. وجوابه: أن ابن عبد البر قال: ليس هذا عندي من باب الطيرة لأنه محال أن ينهى عن شيء ويفعله، وإنما هو من طلب الفأل الحسن. وقد كان أخبرهم عن أقبح الأسماء أنه حرب ومرة. فالمراد بذلك حتى لا يتسمى بهما أحد. وقد روى ابن وهب في "جامعه" ما يدل على هذا فإنه قال في هذا الحديث: "فقام عمر بن الخطاب فقال: أتكلم يا رسول الله أم أصمت؟ فقال: بل اصمت وأخبرك بما أردت، ظننت يا عمر أنها طيرة ولا طير إلا طيره، ولا خير إلا خيره، ولكن أحب الفأل الحسن". وعلى هذا تجري بقية الأحاديث التي توهم بعضهم أنها من باب الطيرة. قوله: "ولا هامة"بتخفيف الميم على الصحيح. قال الفراء: الهامة طائر من طير الليل كأنه يعني: البومة قال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول: نعت إلي نفسي أو أحدًا من أهل داري. وقال أبو عبيد: كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير، ويسمون ذلك الطائر الصدى، وبه جزم ابن رجب قال: وهذا شبيه باعتقاد أهل التناسخ أن أرواح الموتى تنتقل إلى أجساد حيوانات من غير بعث ولا نشور، وكل هذه اعتقادات باطلة جاء الإسلام بإبطالها وتكذيبها. ولكن الذي جاءت به الشريعة أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها إلى أن يردها الله إلى أجسادها. وذكر الزبير بن بكار في "الموفقيات" أن العرب كانت في الجاهلية تقول: إذا قتل الرجل، ولم يؤخذ بثأره، خرجت من رأسه هامة، وهي دودة فتدور حول قبره وتقول: اسقوني. وفي ذلك يقول شاعرهم: يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني قال: وكانت اليهود تزعم أنها تدور حول قبره سبعة أيام ثم تذهب.

قوله: "ولا صفر"، بفتح الفاء. روى أبو عبيد القاسم بن سلام في "غريب الحديث " له عن رؤبة أنه قال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس وهي أعدى من الجرب عند العرب. فعلى هذا فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى، ويكون عطفه على العدوى من عطف الخاص على العام. وممن قال بهذا: سفيان بن عيينة وأحمد والبخاري وابن جرير، وقال آخرون: المراد به شهر صفر، والنفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، وكانوا يحلون المحرم، ويحرمون صفر مكانه. وهذا قول مالك وفيه نظر. وروى أبو داود عن محمد بن راشد عمن سمعه يقول: إن أهل الجاهلية كانوا يستشئمون بصفر ويقولون: إنه شهر مشؤوم فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال ابن رجب: ولعل هذا القول أشبه الأقوال، وكثير من الجهال يتشاءم بصفر، وربما ينتهي عن السفر فيه. والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام، كيوم الأربعاء وتشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة. قوله: "ولا نوء"النوء واحد الأنواء. وسيأتي الكلام عليه في باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء. قوله: "ولا غول". هو بالفتح مصدر معناه: البعد والهلاك وبالضم الاسم، وجمعه أغوال وغيلان وهو المراد هنا. قال أبو السعادات: الغول واحد الغيلان، وهو جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس فتتغول تغولاً، أي: تتلون تلونًا في صور شتى وتُغْوِلُهم، أي: تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم وأبطله. وقيل: قوله: لا غول ليس نفيًا لعين الغول ووجوده، وإنما فيه إبطال زعم العرب في تلونه بالصور المختلفة واغتياله. فيكون المعنى بقوله: "لا غول"، أنها لا تستطيع أن تضل أحدًا ويشهد له الحديث الآخر: "لا غول ولكن السعالي سحرة

الجن" أي: ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل، ومنه الحديث: "إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان" 1. أي: ادفعوا شرها بذكر الله، وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها عدمها، ومنه حديث أبي أيوب: كان لي تمر في سهوة فكانت الغول تجيء فتأخذ. [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل] قال: ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة" 2. ش قوله: "ويعجبني الفأل". قال أبو السعادات: الفأل مهموز فيما يسر ويسوء، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، وربما استعملت فيما يسر، يقال: تفاءلت بكذا، وتفألت على التخفيف والقلب. وقد أولع الناس بترك الهمزة تخفيفًا، وإنما أحب الفأل، لأن الناس إذا أملوا فائدة الله، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي، فهم على خير، ولو غلطوا في جهة الرجاء، فإن الرجاء لهم خير، وإذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر. وأما الطيرة، فإن فيها سوء الظن بالله، وتوقع البلاء. ومعنى التفاؤل مثل أن يكون رجل مريض، فيتفاءل بما يسمع من كلام فيسمع آخر يقول: يا سالم، أو يكون طالب ضالة، فيسمع آخر يقول: يا واجد، فيقع في ظنه أنه برئ من مرضه ويجد ضالته ومنه الحديث قيل: "يا رسول الله ما الفأل؟ فقال: الكلمة الصالحة" 3. قوله: "قالوا وما الفأل؟ قال الكلمة الطيبة" 4. بين لهم صلى الله عليه وسلم أن الفأل يعجبه فدل أنه ليس من الطيرة المنهي عنها. قال ابن القيم:"ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة، ومن حب الفطرة الإنسانية التي

_ 1 أحمد (3/381) . 2 البخاري: الطب (5776) , ومسلم: السلام (2224) , والترمذي: السير (1615) , وأبو داود: الطب (3916) , وابن ماجه: الطب (3537) , وأحمد (3/118 ,3/130 ,3/154 ,3/173 ,3/178 ,3/251 ,3/275 ,3/277) . 3 البخاري: الطب (5754) , ومسلم: السلام (2223) , وأحمد (2/266 ,2/387 ,2/406 ,2/453 ,2/507 ,2/524) . 4 البخاري: الطب (5754) , ومسلم: السلام (2223) , وابن ماجه: الطب (3536) , وأحمد (2/266 ,2/387 ,2/406 ,2/453 ,2/524) .

تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، كما أخبرهم أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب. وكان يحب الحلوى والعسل، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه ويحب معالي الأخلاق، ومكارم الشيم، وبالجملة يحب كل كمال وخير وما يفضي إليهما. والله سبحانه وتعالى قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته، وميل نفوسهم إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك، فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع، استبشرت بها النفس، وانشرح لها الصدر، وقوي بها القلب، وإذا سمعت أضدادها، أوجب لها ضد هذه الحال، فأحزنها ذلك، وأثار لها خوفًا وطيرة وانكماشًا وانقباضًا عما قصدت له وعزمت عليه، فأورت لها ضررًا في الدنيا، ونقصًا في الإيمان، ومقارفة للشرك" وقال الحليمي: "إنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال" قال: ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: "ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنها الفأل ولا ترد مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك" 1. ش: قوله: (عن عقبة بن عامر) ، هكذا وقع في نسخ التوحيد، وصوابه عروة بن عامر كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وهو مكي اختلف في نسبه، فقال أحمد بن حنبل في روايته: عن عروة بن عامر القرشي، وقال غيره الجهني، واختلف في صحبته فقال البارودي: له صحبة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال المزي: لا صحبة له تصح.

_ 1 أبو داود: الطب (3919) .

قوله: فقال: "أحسنها الفأل". قد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل. وروى الترمذي وصححه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع يا نجيح يا راشد" 1 وروى أبو داود عن بريدة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملاً سأل عن اسمه فإذا أعجبه، فرح به وإن كره اسمه، رئي كراهيته ذلك في وجهه" 2. وإسناده حسن. فهذا في استعمال الفأل. قال ابن القيم في الكلام على الحديث المشروح: أخبر صلى الله عليه وسلم أن الفأل من الطيرة وهو خيرها، فأبطل الطيرة، وأخبر أن الفأل منها، ولكنه خير منها، ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد، ونفع أحدهما ومضرة الآخر، ونظير هذا منعه من الرقى بالشرك، وإذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك لما فيها من المنفعة الخالية عن المفسدة. قوله: "ولا ترد مسلمًا". قال الطّيْبِي: تعريض بأن الكافر بخلافه. قوله: "اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت"، أي: لا تأتي الطيرة بالحسنات ولا تدفع المكروهات، بل أنت وحدك لا شريك لك، الذي تأتي بالحسنات وتدفع السيئات. وهذا دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة، وتصريح بأنها لا تجلب نفعًا ولا تدفع ضرًّا، ويعد من اعتقدها سفيهًا مشركًا. قوله: "ولا حول ولا قوة إلا بك"، استعانة بالله تعالى على فعل التوكل، وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سببًا لوقوع المكروه وعقوبة لفاعلها، وذلك إنما يصدر من تحقيق التوكل الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات، ودفع المكروهات. والحول: التحول والانتقال من حال إلى حال، والقوة على ذلك، أي: لا حول ولا قوة على ذلك الحول إلا بك، وذلك يفيد التوكل على الله لأنه علم وعمل، فالعلم معرفة القلب بتوحد الله بالنفع والضر، وعامة

_ 1 الترمذي: السير (1616) . 2 أبو داود: الطب (3920) , وأحمد (5/347) .

المؤمنين بل كثير من المشركين يعلمون ذلك، والعمل هو ثقة القلب بالله وفراغه من كل ما سواه، وهذا عزيز ويختص به خواص المؤمنين، وهو داخل في هذه الكلمة، لأن فيها التبرؤ من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته والإقرار بقدرته على كل شيء، وبعجز العبد عن كل شيء إلا ما أقدره عليه ربه، وهذا نهاية توحيد الربوبية الذي يثمر التوكل وتوحيد العبادة. [الطيرة شرك] قال: وعن ابن مسعود مرفوعًا: "الطيرة شرك الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل" 1. رواه أبو داود والترمذي وصححه وجعل آخره من قول ابن مسعود. ش: هذا الحديث رواه أيضًا ابن ماجة وابن حبان ولفظ أبي داود: "الطيرة شرك الطيرة شرك ثلاثًا" 2. قوله: "الطيرة شرك"، صريح في تحريم الطيرة وأنها من الشرك لما فيها من تعلق القلب على غير الله. وقال ابن حمدان في "الرعاية": تكره الطيرة، وكذا قال غير واحد من أصحاب أحمد. قال ابن مفلح: والأولى القطع بتحريمها. ولعل مرادهم بالكراهة التحريم. قلت: بل الصواب القطع بتحريمها، لأنها شرك وكيف يكون الشرك مكروهًا الكراهة الاصطلاحية؟! فإن كان القائل بكراهتها أراد ذلك فلا ريب في بطلانه. قال في "شرح السنن": وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب لهم نفعًا، أو يدفع عنهم ضرًّا إذا عملوا بموجبه فكأنهم شركوه مع الله تعالى. قوله: "وما منا إلا ... ". قال أبو القاسم الأصبهاني والمنذري: في الحديث إضمار والتقدير: وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك انتهى. وحاصله: وما منا إلا من يعتريه التطير، ويسبق إلى قلبه الكراهة فيه. فحذف ذلك اعتمادًا على فهم السامع. وقال الخلخالي: حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة وهذا نوع من أدب الكلام.

_ 1 الترمذي: السير (1614) , وأبو داود: الطب (3910) , وابن ماجه: الطب (3538) , وأحمد (1/389 ,1/438 ,1/440) . 2 الترمذي: السير (1614) , وأبو داود: الطب (3910) , وابن ماجه: الطب (3538) , وأحمد (1/389 ,1/438 ,1/440) .

قوله: "ولكن الله يذهبه بالتوكل"أي: ما منا إلا من يقع في قلبه ذلك، ولكن لما توكلنا على الله وآمنا به، واتبعنا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقدنا صدقه، أذهب الله ذلك عنا، وأقر قلوبنا على السنة واتباع الحق. قوله: (وجعل آخره من قول ابن مسعود) . قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان سليمان بن حرب يقول في هذا: "وما منا" هذا عندي من قول ابن مسعود، فالترمذي نقل ذلك عن سليمان بن حرب ووافقه على ذلك العلماء. قال ابن القيم: وهو الصواب، فإن الطيرة نوع من الشرك. قال: ولأحمد من حديث ابن عمرو "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك قالوا: فما كفارة ذلك قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك" 1. ش: هذا الحديث رواه الإمام أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا وفي إسناده ابن لهيعة وفيه اختلاف، وبقية رجاله ثقات. قوله: (من حديث ابن عمرو) . هو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن أحد السابقين المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة الفقهاء مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف. قوله: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك". وذلك أن التطير هو التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع فإذا استعملها الإنسان فرجع بها عن سفره، وامتنع بها عما عزم عليه، فقد قرع باب الشرك، بل ولجه وبرئ من التوكل على الله، وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله، وذلك قاطع له عن مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فيصير قلبه متعلقًا بغير الله، وذلك شرك،

_ 1 أحمد (2/220) .

فيفسد عليه إيمانه، ويبقى هدفًا لسهام الطيرة. ويقيض له الشيطان من ذلك ما يفسد عليه دينه ودنياه، وكم ممن هلك بذلك وخسر الدنيا والآخرة! قوله: (فما كفارة ذلك ... ) إلى آخر الحديث. هذا كفارة لما يقع من الطيرة، ولكن يمضي مع ذلك ويتوكل على الله، وفيه الاعتراف بأن الطير خلق مسخر مملوك لله، لا يأتي بخير ولا يدفع شرًّا، وأنه لا خير في الدنيا والآخرة إلا خير الله، فكل خير فيهما فهو من الله تعالى تفضلاً على عباده، وإحسانًا إليهم وأن الإلهية كلها لله ليس فيها لأحد من الملائكة والأنبياء عليهم السلام شركة، فضلاً عن أن يشرك فيها ما يراه ويسمعه مما يتشاءم به. قوله: وله من حديث الفضل بن العباس "إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك" 1. ش: هذا الحديث رواه أحمد في "المسند" ولفظه حدثنا حماد بن خالد قال: ثنا ابن علاثة عن مسلمة الجهني قال: سمعته يحدث عن الفضل بن عباس قال: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فبرح ظبي فمال في شقه فاحتضنته فقلت: يا رسول الله تطيرت قال: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك" 2. هكذا رواه أحمد وفي إسناده نظر. وقرأت بخط المصنف: فيه رجل مختلف فيه، وفيه انقطاع أي: بين مسلم وبين الفضل وهو ابن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأكبر ولد العباس. قال ابن معين: قتل يوم اليرموك في عهد أبي بكر رضي الله عنه. وقال غيره: قتل يوم مرج الصفر، سنة ثلاث عشرة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة. قال أبو داود: قتل بدمشق كان عليه درع النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الواقدي وابن سعد: مات في طاعون عمواس. قوله: "إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك" 3. هذا حد للطيرة المنهي

_ 1 أحمد (1/213) . 2 أحمد (1/213) . 3 أحمد (1/213) .

عنها بأنها ما أوجب للإنسان أن يمضي لما يريده ولو من الفأل، فإن الفأل إنما يستحب لما فيه من البشارة والملاءمة للنفس، فأما أن يعتمد عليه ويمضي لأجله مع نسيان التوكل على الله، فإن ذلك من الطيرة. وكذلك إذا رأى أو سمع ما يكره فتشاءم به ورده عن حاجته، فإن ذلك أيضًا من الطيرة.

باب ما جاء في التنجيم

[23- باب ما جاء في التنجيم] [التنجيم على ثلاثة أقسام] : المراد هنا ذكر ما يجوز من التنجيم وما لا يجوز وما ورد فيه من الوعيد. قال شيخ الإسلام: التنجيم هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية. وقال الخطابي: علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان، كأوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار، وما كان في معناها من الأمور التي يزعمون أنهم يدركون معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها، ويدعون أن لها تأثيرًا في السفليات، وأنها تجري على قضايا موجباتها، وهذا منهم تحكم على الغيب، وتعاطٍ لعلم قد استأثر الله به لا يعلم الغيب سواه. قلت: واعلم أن التنجيم على ثلاثة أقسام: أحدها: ما هو كفر بإجماع المسلمين، وهو القول بأن الموجودات في العالم السفلي مركبة على تأثير الكواكب والروحانيات، وأن الكواكب فاعلة مختارة وهذا كفر بإجماع المسلمين، وهذا قول الصابئة المنجمين الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل عليه السلام، [كما في الأنعام 75-79] ولهذا كانوا يعظمون الشمس والقمر والكواكب تعظيمًا يسجدون لها ويتذللون لها ويسبحونها تسابيح معروفة في كتبهم، ويدعونها دعوات لا تنبغي إلا لخالقها وفاطرها وحده لا شريك له، ويبنون لكل كوكب هيكلاً، أي: موضعًا لعبادته ويصورون فيه ذلك الكوكب، ويتخذونه لعبادته

وتعظيمه، ويزعمون أن روحانية ذلك الكوكب تنْزل عليهم وتخاطبهم وتقضي حوائجهم. وتلك الروحانيات هي الشياطين تنَزلت عليهم، وخاطبتهم وقضت حوائجهم. وقد صنف بعض المتأخرين في هذا الشرك مصنفًا وذكر صاحب "التذكرة" فيها. الثاني: الاستدلال على الحوادث الأرضية بمسير الكواكب واجتماعها وافتراقها ونحو ذلك، ويقول: إن ذلك بتقدير الله ومشيئته، فلا ريب في تحريم ذلك، واختلف المتأخرون في تكفير القائل بذلك. وينبغي أن يقطع بكفره، لأنها دعوى لعلم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه بما لا يدل عليه. الثالث: ما ذكره المصنف في تعلم المنازل وسيأتي الكلام عليه. [خلق الله النجوم لثلاث] : قوله قال البخاري في: " صحيحه " قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث، زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. ش: هذا الأثر علقه البخاري في "صحيحه" كما قال المصنف وأخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ والخطيب في كتاب "النجوم" عن قتادة. ولفظه: قال: إن الله إنما جعل هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يُهتدى بها، وجعلها رجومًا للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك، فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به، وإن ناسًا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والطويل والقصير والحسن والذميم، وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب، ولو أن أحدًا

علم الغيب، لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء. قوله: خلق الله هذه النجوم لثلاث. إلى آخره. هذا مأخوذ من القرآن في قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} 1. وقوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 2. وفيه إشارة إلى أن النجوم في السماء الدنيا كما هو ظاهر الآية، وفيه حديث رواه ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما السماء الدنيا، فإن الله خلقها من دخان، وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وزينها بمصابيح النجوم، وجعلها رجومًا للشياطين وحفظًا من كل شيطان رجيم". وقوله: {وَعَلامَاتٍ} ، أي: دلالات على الجهات والبلدان ونحو ذلك يُهتدى بها بصيغة المجهول. أي: يهتدي بها الناس في ذلك كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 3. وليس المراد: يهتدون بها في علم الغيب ولهذا قال: فمن تأول فيها [غير] ذلك، أي: زعم فيها غير ما ذكر الله تعالى في هذه الثلاث، فادعى بها علم الغيب، فقد أخطأ، أي: حيث تكلم رجمًا بالغيب وأضاع نصيبه، أي: حظه من عمره، لأنه اشتغل بما لا فائدة فيه، بل مضرة محضة، وتكلف ما لا علم له به، أي: تعاطى شيئًا لا يتصور علمه، لأن أخبار السماء، والأمور المغيبة لا تعلم إلا من طريق الكتاب والسنة، وليس فيهما أزيد مما تقدم. قال الداوودي: قول قتادة في النجوم حسن إلا قوله: أخطأ وأضاع نصيبه، فإنه قصر في ذلك، بل قائل ذلك كافر. فإن قلت: إن المنجمين قد يصدقون بعض الأحيان. قيل: صدقهم كصدق الكهان يصدقون مرة ويكذبون مائة، وليس في صدقهم مرة ما يدل على أن ذلك علم صحيح كالكهان.

_ 1 سورة الملك آية: 5. 2 سورة النحل آية: 16. 3 سورة الأنعام آية: 97.

وقد استدل بعض المنجمين بآيات من كتاب الله على صحة علم التنجيم 1-منها قوله: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 1 والجواب أنه ليس المراد بهذه الآية أن النجوم علامات على الغيب يهتدي بها الناس في علم الغيب، وإنما المعنى وعلامات، أي: دلالات على قدرة الله وتوحيده. وعن قتادة ومجاهد أن من النجوم ما يكون علامة لا يهتدى إلا بها، وقيل: إن هذا من تمام الكلام الأول وهو قوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ} 2، أي: وألقى لكم معالم يعلم بها الطريق والأراضي من الجبال الكبار والصغار يستدل بها المسافرون في طرقهم. وقوله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 3. قال ابن عباس في الآية: {وَعَلامَاتٍ} يعني: معالم الطرق بالنهار {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 4. قال: يهتدون به في البحر في أسفارهم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. فهذا القول ونحوه هو معنى الآية، فالاستدلال بها على صحة علم التنجيم استدلال على ما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام بما لا يدل عليه لا نصًّا ولا ظاهرًا، وذلك أفسد أنواع الاستدلال، فإن الأحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإبطال علم التنجيم وذمه، منها حديث "من اقتبس شعبة من علم النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر" 5. الحديث وقد تقدم. وعن عبد الله بن محيريز التابعي الجليل أن سليمان بن عبد الملك دعاه فقال: لو علمت علم النجوم فازددت إلى علمك. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث: حيف الأئمة، وتكذيب بالقدر، وإيمان بالنجوم". وعن رجاء بن حيوة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة". رواهما عبد بن حميد. فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان

_ 1 سورة النحل آية: 16. 2 سورة آية: 15-16. 3 سورة النحل آية: 16. 4 سورة النحل آية: 16. 5 مسلم: الإيمان (153) , وأحمد (2/317 ,2/350) .

على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج به من أرسله. وعن أبي محجن مرفوعًا: "أخاف على أمتي من بعدي ثلاثًا: حيف الأئمة، وإيمانًا بالنجوم، وتكذيبًا بالقدر". رواه ابن عساكر وحسنه السيوطي. وعن أنس مرفوعًا: "أخاف على أمتي بعدي خصلتين تكذيبًا بالقدر، وإيمانًا بالنجوم". رواه أبو يعلى وابن عدي والخطيب في كتاب "النجوم" وحسنه السيوطي أيضًا. وروى الإمام أحمد والبخاري عن ابن عمر مرفوعًا: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما في غد إلا الله: ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله" 1. لفظ البخاري. وعن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد طهر الله هذه الجزيرة من الشرك ما لم تضلهم النجوم". رواه ابن مردويه. وعن ابن عمر مرفوعًا: "تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا" 2. وعن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النظر في النجوم". رواهما ابن مردويه والخطيب. وعن سمرة بن جندب أنه خطب فذكر حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أما بعد: فإن ناسًا يزعمون أن كسوف هذه الشمس، وكسوف هذا القمر، وزوال هذه النجوم عن مواضعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض، وأنهم قد كذبوا ولكنها آيات من آيات الله يعتبر بها عباده لينظر من يحدث له منهم توبة". رواه أبو داود. وفي الباب أحاديث وآثار غير ما ذكرنا. فتبين بهذا أن الاستدلال بالآية على صحة أحكام النجوم من أفسد أنواع الاستدلال.

_ 1 الترمذي: الإيمان (2641) . 2 أبو داود: الملاحم (4338) , وأحمد (1/5 ,1/7 ,1/9) .

2- ومنها قوله تعالى عن إبراهيم: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} 1. والجواب: أن هذا من جنس استدلاله بالآية الأولى في الفساد، فأين فيها ما يدل على صحة أحكام النجوم بوجه من وجوه الدلالات؟! وهل إذا رفع إنسان بصره إلى النجوم، فنظر إليها، دل ذلك على صحة علم النجوم عنده؟! وكل الناس ينظرون إلى النجوم، فلا يدل ذلك على صحة علم أحكامها. وكأن هذا ما شعر أن إبراهيم عليه السلام إنما بعث إلى الصابئة المنجمين مبطلاً لقولهم مناظرًا لهم على ذلك. فإن قيل على هذا: فما فائدة نظرته في النجوم؟. قيل: نظرته في النجوم من معارض الأفعال ليتوصل به إلى غرضه من كسر الأصنام كما كان قوله: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} 2. فمن ظن أن نظرته في النجوم ليستنبط منها علم الأحكام، وعلم أن طالعه يقضي عليه بالنحس، فقد ضل ضلالاً بعيدًا. ولهذا جاء في حديث الشفاعة الصحيح أنه عليه السلام يقول: "لست هناكم ويذكر ثلاث كذبات كذبهن" وعدها العلماء قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} . قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} . وقوله لسارة: هي أختي. فلو كان قوله: إني سقيم أخذه من علم النجوم لم يعتذر من ذلك، وإنما هي من معاريض الأفعال، فلهذا اعتذر منها كما اعتذر من قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} ، ذكر ذلك ابن القيم. لكن قوله: وعدها العلماء. يدل على أنه لم يستحضر الحديث الوارد في عدها. وقد رواه أحمد والبخاري وأصحاب "السنن" وابن جرير وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

_ 1 سورة الصّافات آية: 88-89. 2 سورة الأنبياء آية: 63.

"لم يكذب إبراهيم عليه السلام غير ثلاث كذبات اثنتين في ذات الله قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله في سارة هي أختي" لفظ ابن جرير. وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد مرفوعًا: "في كلمات إبراهيم الثلاث التي قال: ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله، فقال: إني سقيم، وقال: بل فعله كبيرهم هذا، وقال للملك حين أراد امرأته: هي أختي". وفي إسناده ضعف. وقال قتادة في الآية: العرب تقول لمن تفكر: نظر في النجوم قال ابن كثير: يعني قتادة: أنه نظر إلى السماء متفكرًا فيما يكذبهم به فقال: إني سقيم، أي: ضعيف. قال: وكره قتادة تعلم منازل القمر ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق. ش: هذا هو القسم الثالث من علم التنجيم وهو تعلم منازل الشمس والقمر، للاستدلال بذلك على القبلة وأوقات الصلوات والفصول، وهو كما ترى من اختلاف السلف فيه، فما ظنك بذينك القسمين؟! ومنازل القمر ثمانية وعشرون كل ليلة في منْزلة منها، فكره قتادة وسفيان بن عيينة تعلم المنازل، وأجازه أحمد وإسحاق وغيرهما. قال الخطابي: "أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والْخُبْر الذي يعرف به الزوال، وتعلم به جهة القبلة، فإنه غير داخل فيما نهي عنه، وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئًا بأكثر من أن الظل ما دام متناقصًا، فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي، وإذا أخذ في الزيادة، فالشمس هابطة من وسط السماء

نحو الأفق الغربي. وهذا علم يصح دركه بالمشاهدة، إلا أن أهل هذه الصناعة قد دبروها بما اتخذوا له من الآلات التي يستغني الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصدته، وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة، فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة بها من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين، ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به عنها. مثل أن يشاهدوها بحضرة الكعبة، ويشاهدوها على حال الغيبة عنها، فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة وإدراكنا ذلك بقبول خبرهم، إذ كانوا عندنا غير متهمين في دينهم، ولا مقصرين في معرفته". وروى ابن المنذر عن مجاهد أنه كان لا يرى بأسًا أن يتعلم الرجل منازل القمر قلت: لأنه لا محذور في ذلك. وعن إبراهيم أنه كان لا يرى بأسًا أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به. رواه ابن المنذر. قال ابن رجب: "والمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم التأثير، فإنه باطل محرم قليله وكثيره. وأما علم التسيير، فتعلم ما يحتاج إليه للاهتداء، ومعرفة القبلة، والطرق جائز عند الجمهور، وما زاد عليه لا حاجة إليه لشغله عما هو أهم منه، وربما أدى تدقيق النظر فيه إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين، كما وقع من أهل هذا العلم قديمًا وحديثًا، وذلك يفضي اعتقاده إلى خطإ السلف في صلاتهم وهو باطل. انتهى مختصرًا". قلت: وهذا هو الصحيح إن شاء الله، ويدل على ذلك الآيات والأحاديث التي تقدمت. وهل يدخل في النهي وقت الكسوف الشمسي والقمري أم لا؟ رجح ابن القيم أنه لا يدخل. قوله: (ذكره حرب عنهما) . هو الإمام الحافظ حرب بن إسماعيل أبو محمد الكرماني الفقيه من أجلة أصحاب الإمام

أحمد روى عن أحمد وإسحاق وابن المديني وابن معين وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وغيرهم، وله مصنفات جليلة منها كتاب "المسائل" التي سئل عنها الإمام أحمد وغيره وأورد فيها الأحاديث والآثار، وأظنه روى أثر قتادة وابن عيينة فيها. مات سنة ثمانين ومائتين. وإسحاق هو [ابن] إبراهيم بن مخلد أبو يعقوب الحنظلي النيسابوري الإمام المعروف بابن راهويه، روى عن ابن المبارك وأبي أسامة وابن عيينة وطبقتهم قال أحمد: إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين، وروى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، وروى هو أيضًا عن أحمد مات سنة تسع وثلاثين ومائتين. [ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر] قال: وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر" 1. رواه أحمد وابن حبان في " صحيحه". ش: هذا الحديث رواه أيضًا الطبراني والحاكم وقال: صحيح وأقره الذهبي: وتمام الحديث: "ومن مات وهو مدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوطة نهر يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريح فروجهن" 2. قوله: (عن أبي موسى) ، هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بفتح المهملة وتشديد الضاد المعجمة أبو موسى الأشعري، صحابي جليل استعمله النبي صلى الله عليه وسلم وأمره عمر ثم عثمان، وهو أحد الحكمين بصفين مات سنة خمسين. قوله: "ثلاثة لا يدخلون الجنة"، هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف تأويلها وقالوا: أمروها كما جاءت. وإن كان صاحبها لا ينتقل عن الملة عندهم، وكأن المصنف رحمه الله يميل إلى هذا القول. وقالت طائفة: هو على ظاهره فلا يدخل الجنة أصلاً مدمن الخمر ونحوه، ويكون هذا مخصصًا لعموم الأحاديث الدالة على خروج

_ 1 أحمد (4/399) . 2 أحمد (4/399) .

الموحدين من النار ودخولهم الجنة، وحمله أكثر الشراح على من فعل ذلك مستحلاً، أو على معنى أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد العذاب إن لم يتوبوا والله أعلم. قوله: (مدمن الخمر) ، أي: المداوم على شربها. قوله: (وقاطع الرحم) . أي: القرابة كما قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} 1. قوله: "ومصدق بالسحر"مطلقًا ويدخل فيه التنجيم لحديث: "من اقتبس علمًا من النجوم اقتبس علمًا من السحر" 2. وهذا وجه مطابقة الحديث للباب. قال الذهبي في "الكبائر": ويدخل فيه تعلم السيمياء وعملها، وهو محض السحر، وعقد المرء عن زوجته، ومحبة الزوج لامرأته وبغضها وبغضه، وأشباه ذلك بكلمات مجهولة قال: وكثير من الكبائر بل عامتها إلا الأقل يجهل خلق من الأمة تحريمه، وما بلغه الزجر فيه، ولا الوعيد عليه، فهذا الضرب فيهم تفصيل، فينبغي للعالم أن لا يجهل على الجاهل، بل يرفق به ويعلمه سيما إذا قرب عهده بجهله، كمن أسر وجلب إلى أرض الإسلام وهو تركي فبالجهد أن يتلفظ بالشهادتين فلا يأثم أحد إلا بعد العلم بحاله وقيام الحجة عليه.

_ 1 سورة محمّد آية: 22-23. 2 أبو داود: الطب (3905) , وابن ماجه: الأدب (3726) , وأحمد (1/227 ,1/311) .

باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

[24- باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء] أي: من الوعيد، والمراد نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء جمع نوء وهي منازل القمر. قال أبو السعادات: وهي ثمانية وعشرون منْزلة ينزل القمر كل ليلة منْزلة منها ومنه قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} 1، يسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت في الشرق فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة. وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنْزلة

_ 1 سورة يس آية: 39.

وطلوع رقيبها يكون مطر، وينسبونه إليها فيقولون: مطرنا بنوء كذا، وإنما سمي نوءًا لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق ينوء نوءًا، أي: نهض وطلع. قال: وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 1. روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في "المختارة" عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} ، يقول: شكركم: {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} ، يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا" وهذا أولى ما فسرت به الآية. وروي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم. وهو قول جمهور المفسرين، وبه يظهر وجه استدلال المصنف بالآية على الترجمة، فالمعنى على هذا: وتجعلون شكركم لله على ما أنزل إليكم من الغيث والمطر والرحمة أنكم تكذبون، أي: تنسبونه إلى غيره. وقال ابن القيم: أي: وتجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم التكذيب به يعني: القرآن. قال الحسن: تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون، قال: وخسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب به. قلت: والآية تشمل المعنيين. [أربع من أمر الجاهلية] قال: عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة" 2. وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب" 3 رواه مسلم. ش: قوله: (عن أبي مالك الأشعري) اسمه الحارث بن الحارث الشامي صحابي تفرد عنه بالرواية أبو سلام، وفي الصحابة أبو مالك الأشعري اثنان غير هذا، جزم به الحافظ.

_ 1 سورة الواقعة آية: 82. 2 مسلم: الجنائز (934) , وأحمد (5/342 ,5/343 ,5/344) . 3 مسلم: الجنائز (934) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1581) , وأحمد (5/342 ,5/343 ,5/344) .

قوله: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن". أي: من أفعال أهلها بمعنى أنها معاصي ستفعلها هذه الأمة، إما مع العلم بتحريمها، وإما مع الجهل بذلك كما كان أهل الجاهلية يفعلونها. والمراد بالجاهلية هنا ما قبل المبعث، سموا بذلك لفرط جهلهم، وكل ما يخالف ما جاءت به الأنبياء والمرسلون فهو جاهلية منسوبة إلى الجاهل، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جاهل وإنما يفعله جاهل. قال شيخ الإسلام: أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذمًّا لمن لم يتركه، وهذا يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم، فهو مذموم في دين الإسلام وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها. ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم وهذا كقوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 1 فإن في ذلك ذمًّا للتبرج، وذمًّا لحال الجاهلية الأولى وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة. قوله: "الفخر بالأحساب"، أي: التشرف بالآباء والتعاظم بعدِّ مناقبهم ومآثرهم وفضائلهم وذلك جهل عظيم، إذ لا شرف إلا بالتقوى كما قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ... } 2 الآية. وقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 3. وروى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم من تراب، لَيَدَعَنَّ رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون

_ 1 سورة الأحزاب آية: 33. 2 سورة سبأ آية: 37. 3 سورة الحجرات آية: 13.

على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن" 1. والأحساب جمع حسب وهو ما يعده الإنسان له ولآبائه من شجاعة وفصاحة ونحو ذلك. قوله: "والطعن في الأنساب". أي: الوقوع فيها بالذم والعيب أو يقدح في نسب أحد من الناس فيقول: ليس هو من ذرية فلان أو يعيره بما في آبائه من المطاعن، ولهذا لما عير أبو ذر رضي الله عنه رجلاً بأمه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "أعيرته بأمه؟! إنك امرؤٌ فيك جاهلية" 2. متفق عليه. فدل ذلك أن التعيير بالأنساب من أخلاق الجاهلية، وأن الرجل مع فضله وعلمه ودينه قد يكون فيه بعض هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية، ولا يوجب ذلك كفره وفسقه. قاله شيخ الإسلام. قوله: "والاستسقاء بالنجوم". أي: نسبة السقيا ومجيء المطر إلى النجوم والأنواء، وهذا هو الذي خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، كما روى الإمام أحمد وابن جرير عن جابر السوائي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أخاف على أمتي ثلاثًا: استسقاء بالنجوم، وحيف السلطان، وتكذيبًا بالقدر" 3. إذا تبين هذا، فالاستسقاء بالنجوم نوعان: أحدهما: أن يعتقد أن المنَزل للمطر هو النجم، فهذا كفر ظاهر، إذ لا خالق إلا الله، وما كان المشركون هكذا، بل كانوا يعلمون أن الله هو المنزل للمطر، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 4. وليس هذا معنى الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا لا يزال في أمته، ومن اعتقد أن النجم ينَزل المطر، فهو كافر. الثاني: أن ينسب إنزال المطر إلى النجم، مع اعتقاده أن الله تعالى هو الفاعل لذلك المنَزل له، إلا أنه سبحانه وتعالى أجرى

_ 1 الترمذي: المناقب (3955) , وأبو داود: الأدب (5116) . 2 البخاري: الإيمان (30) , ومسلم: الأيمان (1661) , وأبو داود: الأدب (5157 ,5158) , وأحمد (5/161) . 3 أحمد (5/89) . 4 سورة العنكبوت آية: 63.

وكراهته، وصرح أصحاب الشافعي بجوازه، والصحيح أنه محرم، لأنه من الشرك الخفي، وهو الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه من أمر الجاهلية، ونفاه، وأبطله، وهو الذي كان يزعم المشركون، ولم يزل موجودًا في هذه الأمة إلى اليوم، وأيضًا فإن هذا من النبي صلى الله عليه وسلم حماية لجناب التوحيد وسدًّا لذرائع الشرك ولو بالعبادات الموهمة التي لا يقصدها الإنسان، كما قال لرجل قال له: "ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندًّا؟! بل ما شاء الله وحده" 1. وفيه التنبيه على ما هو أولى بالمنع من نسبة السقيا إلى الأنواء كدعاء الأموات، وسؤالهم الرزق والنصر والعافية ونحو ذلك من المطالب، فإن هذا من الشرك الأكبر، سواء قالوا: إنهم شفعاؤنا إلى الله، كما قال المشركون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ، [يونس: من الآية: 18] ، أو اعتقدوا أنهم يخلقون، ويرزقون وينصرون استقلالاً على سبيل الكرامة، كما ذكره بعض عباد القبور في رسالة صنفها في ذلك، لأنه إذا منع من إطلاق نسبة السقيا إلى الأنواء مع عدم القصد والاعتقاد، فلأن يمنع من دعاء الأموات والتوجه إليهم في الملمات مع اعتقاد أن لهم أنواع التصرفات أولى وأحرى. قوله: (والنياحة) . أي: رفع الصوت بالندب على الميت، لأنها سخط لقضاء الله ومعارضة لأحكامه وسوء أدب مع الله، ولا كذلك ينبغي أن يفعل المملوك مع سيده، فكيف يفعله مع ربه وسيده ومالكه وإلهه الذي لا إله له سواه! الذي كل قضائه عدل، وأيضًا ففيها تفويت الأجر مع ذهاب المصيبة. وفي الحديث دليل على شهادة أن محمدًا رسول الله، لأن هذه الأخبار من أنباء الغيب، فأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم فكان كما أخبر.

_ 1 ابن ماجه: الكفارات (2117) , وأحمد (1/214) .

قوله: وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها". فيه تنبيه على أن الوعيد والذم لا يلحق مَنْ تاب من الذنب، وهو كذلك بالإجماع، فعلى هذا إذا عرف شخص بفعل ذنوب توعد الشرع عليها بوعيد لم يجز إطلاق القول بلحوقه لذلك الشخص المعين، كما يظنه كثير من أهل البدع، فإن عقوبات الذنوب ترتفع بالتوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وشفاعة نبيهم صلى الله عليه وسلم فيهم، وعفو الله عنهم. وفيه أن مَنْ تاب قبل الموت ما لم يغرغر، فإن الله يتوب عليه، كما في حديث ابن عمر مرفوعًا: "إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" 1. رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان في "صحيحه". قوله: "تقام يوم القيامة"، أي: تبعث من قبرها، وعليها سربال من قطران ودرع من جرب. قال القرطبي: السربال. واحد السرابيل، وهي الثياب والقمص، يعني أنهن يلطخن بالقطران، فيصير لهن كالقميص حتى يكون اشتعال النار والتصاقها بأجسادهن أعظم ورائحتهن أنتن وألمها بسبب الجرب أشد. وروي عن "ابن عباس أن القطران هو النحاس المذاب"وروى الثعلبي في "تفسيره" عن "عمر بن الخطاب أنه سمع نائحة فأتاها، فضربها بالدرة حتى وقع خمارها، فقيل يا أمير المؤمنين: المرأة المرأة قد وقع خمارها. قال: إنها لا حرمة لها". قال: ولهما عن زيد بن خالد قال: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس. فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما مَنْ قال: مُطِرْنَا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر

_ 1 الترمذي: الدعوات (3537) , وابن ماجه: الزهد (4253) .

بالكوكب، وأما مَنْ قال: مُطِرْنَا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" 1. ش: قوله: (عن زيد بن خالد) . أي: الجهني المدني، صحابي مشهور، مات سنة ثمان وستين بالكوفة، وقيل غير ذلك، وله خمس وثمانون سنة. قوله: (صلى لنا) ، أي: صلى بنا، فاللام بمعنى الباء. قال الحافظ: وفيه جواز إطلاق ذلك مجازًا، وإنما الصلاة لله. قوله: (بالحديبية) . بالمهملة والتصغير وتخفف ياؤها وتثقل. قوله: (على إثر) . بكسر الهمزة وسكون المثلثة على المشهورة، وهو ما يعقب الشيء. قوله: (سماء) . أي: مطر، وأطلق عليه سماء لكونه ينْزل من جهة السماء. قوله: (فلما انصرف) . أي: من صلاته لا من مكانه، كما يدل عليه. قوله: (أقبل على الناس) . أي: التفت إليهم بوجهه الشريف، ففيه دليل على أنه لا ينبغي للإمام إذا صلى أن يجلس مستقبل القبلة، بل ينصرف إلى المأمومين، كما صحت بذلك الأحاديث. قوله: (هل تدرون؟) ، لفظ استفهام، ومعناه التنبيه. وفي رواية النسائي "ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة؟ " 2 وهذا من الأحاديث القدسية قال الحافظ: وهي تحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها عن الله بواسطة أو بلا واسطة، وفيه إلقاء العالم المسألة على أصحابه ليخبرهم، وإخراج العالم التعليم للمسألة بالاستفهام فيها ذكره المصنف. قوله: "قالوا: الله ورسوله أعلم"فيه حسن الأدب للمسئول عما لا يعلم، وأنه يقول ذلك أو نحوه، ولا يتكلف ما لا يعنيه. قوله: قال: "أصبح من عبادي". الإضافة هنا للعموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر.

_ 1 البخاري: الجمعة (1038) , ومسلم: الإيمان (71) , والنسائي: الاستسقاء (1525) , وأبو داود: الطب (3906) , وأحمد (4/117) , ومالك: النداء للصلاة (451) . 2 البخاري: الأذان (846) والجمعة (1038) والمغازي (4147) والتوحيد (7503) , ومسلم: الإيمان (71) , والنسائي: الاستسقاء (1525) , وأبو داود: الطب (3906) , وأحمد (4/116) , ومالك: النداء للصلاة (451) .

فإن قيل: هذا يدل على أن المراد بالكفر هنا هو الأكبر. قيل: ليس فيه دليل إذ الأصغر يصدر من الكفار. قوله: "مؤمن بي وكافر". المراد بالكفر هنا هو الأصغر بنسبة ذلك إلى غير الله وكفران نعمته، وإن كان يعتقد أن الله تعالى هو الخالق للمطر المنَزل له بدليل قوله في الحديث "فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته ... "إلى آخره، فلو كان المراد هو الأكبر، لقال: أنزل علينا المطر نوء كذا، فأتى بباء السببية ليدل على أنهم نسبوا وجود المطر إلى ما اعتقدوه سببًا. وفي رواية: "فأما من حمدني على سقياي وأثنى علي، فذاك من آمن بي" 1. فلم يقل فأما من قال: إني المنَزل للمطر، فذاك من آمن بي، لأن المؤمنين والكفار يقولون ذلك. فدل على أن المراد إضافة ذلك إلى غير الله، وإن كان يعتقد أن الفاعل لذلك هو الله. وروى النسائي والإسماعيلي نحوه. وقال في آخره: "وكفر بي أو كفر نعمتي" وفي رواية أبي صالح عن أبي هريرة عند مسلم: "قال الله تعالى: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين" 2. وله من حديث ابن عباس "أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر ... " 3 الحديث. وفي حديث معاوية الليثي مرفوعًا: "يكون الناس مجدبين فينَزل الله عليهم رزقًا من رزقه فيصبحون مشركين، يقولون: مُطِرْنَا بنوء كذا" 4. رواه أحمد، فبين الكفر والشرك المراد هنا بأن نسبة ذلك إلى غيره تعالى، بأن يقال: مطرنا بنوء كذا، قال ابن قتيبة: كانوا في الجاهلية يظنون أن نزول الغيث بواسطة النوء إما بصنعه على زعمهم، وإما بعلامته، فأبطل الشرع قولهم، وجعله كفرًا، فإن اعتقد قائل ذلك أن للنوء صنعًا في ذلك، فكفره كفر شرك، وإن اعتقد أن ذلك من قبيل التجربة، فليس بشرك، لكن يجوز إطلاق الكفر عليه وإرادة كفر النعمة، لأنه لم يقع في شيء من طرق الحديث بين الكفر والشرك واسطة، فيحمل الكفر فيه على المعنيين.

_ 1 البخاري: الأذان (846) والجمعة (1038) والمغازي (4147) , ومسلم: الإيمان (71) , والنسائي: الاستسقاء (1525) , وأبو داود: الطب (3906) , وأحمد (4/116 ,4/117) , ومالك: النداء للصلاة (451) . 2 أحمد (1/283) . 3 البخاري: الشروط (2729) , ومسلم: العتق (1504) , وأبو داود: العتق (3929) , ومالك: العتق والولاء (1519) . 4 أحمد (2/169) , والدارمي: الرقاق (2721) .

وقال الشافعي: من قال: مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا في وقت كذا، فلا يكون كفرًا، وغيره من الكلام أحب إلي منه. قلت: قد يقال: إن كلام الشافعي لا يدل على جواز ذلك، وإنما يدل على أنه لا يكون كفر شرك، وغيره من الكلام أحسن منه. أما كونه يجوز إطلاق ذلك أو لا يجوز، فالصحيح أنه لا يجوز، لما تقدم أن معنى الحديث هو نسبة السقيا إلى الأنواء لفظًا، وإن كان القائل لذلك يعتقد أن الله هو المنَزل للمطر، فهذا من باب الشرك الخفي في الألفاظ، كقوله: لولا فلان لم يكن كذا، وفيه معنى قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} 1. فإن كثيرًا من النعم قد تجر الإنسان إلى شر، كالذين قالوا: مطرنا بنوء كذا بسبب نزول النعمة. وفيه التفطن للإيمان في هذا الموضع. ذكره المصنف، يشير إلى أن المراد به هنا نسبة النعمة إلى الله وحمده عليها، كما في قوله تعالى: "فأما من حمدني على سقياي وأثنى علي فذاك مَنْ آمن بي"، وقوله: "فأما من قال: مُطِرْنَا بفضل الله ورحمته" الحديث. وفيه أن من الكفر ما لا يخرج عن الملة. ذكره المصنف. قوله: (فأما مَنْ قال: مُطِرْنَا بفضل الله ورحمته) . أي: من نسبه إلى الله واعتقد أنه أنزله بفضله ورحمته من غير استحقاق من العبد على ربه وأثنى به عليه، فقال: مطرنا بفضل الله ورحمته، وفي الرواية الأخرى: "فأما مَنْ حمدني على سقياي، وأثنى علي فذاك من آمن بي" 2. وهكذا يجب على الإنسان أن لا يضيف نعم الله إلى غيره ولا يحمدهم عليها بل يضيفها إلى خالقها ومقدرها الذي أنعم بها على العبد بفضله ورحمته، ولا ينافي ذلك الدعاء لمن أحسن بها إليك، وذكر ما أولاكم من المعروف إذا سلم لك دينك، والسر في ذلك -والله أعلم- أن العبد يتعلق قلبه بمن يظن حصول الخير له من جهته وإن كان لا صنع له في ذلك، وذلك نوع شرك خفي فمنع من ذلك.

_ 1 سورة البقرة آية: 216. 2 البخاري: الأذان (657) , وأحمد (2/472 ,2/479) .

قوله: (وأما من قال: مُطِرْنَا بنوء كذا ... ) إلى آخره. كالصريح فيما ذكرنا أن المراد نسبة ذلك إلى غير الله، وإن كان يعتقد أن المنَزل للمطر هو الله. ولهذا لم يقل: فأما من قال: أنزل علينا المطر أو أمطرنا بنوء كذا. قال المصنف: وفيه التفطن للكفر في هذا الموضع، يشير إلى أن المراد بالكفر هنا هو نسبة النعمة إلى غير الله كالنوء ونحوه على ما تقدم، ولما كان إنزال الغيث من أعظم نعم الله وإحسانه إلى عباده لما اشتمل عليه من منافعهم، فلا يستغنون عنه أبدًا كان من شكره الواجب عليهم أن يضيفوه إلى البر الرحيم المنعم، ويشكروه فإن النفوس قد جبلت على حب من أحسن إليها، والله تعالى هو المحسن المنعم على الإطلاق الذي ما بالعباد من نعمة فمنه وحده، كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 1. [تفسير قوله تعالى: فلا أقسم بمواقع النجوم] قال: ولهما من حديث ابن عباس معناه. وفيه قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ... } 2 إلى قوله: { ... تُكَذِّبُونَ} . ش قوله: (ولهما) . الحديث لمسلم فقط، ولفظه عن ابن عباس قال: "مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، قال فنَزلت هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} 3 حتى بلغ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} . قوله: (قال بعضهم) : ذكر الواقدي في "مغازيه" عن أبي قتادة أن عبد الله بن أبي هو القائل في ذلك الوقت: مطرنا بنوء الشعرى، وفي صحة ذلك نظر. قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} 4. هذا قسم

_ 1 سورة النحل آية: 53. 2 سورة الواقعة آية: 75. 3 مسلم: الإيمان (73) . 4 سورة الواقعة آية: 75.

من الله عزّ وجل يقسم بما شاء من خلقه، وهو دليل على عظمة المقسم به وتشريفه. وتقديره: أقسم بمواقع النجوم، ويكون جوابه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} 1، فعلى هذا تكون "لا" صلة لتأكيد النفي، فتقدير الكلام: ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة، بل هو قرآن كريم. قال ابن جرير: "قال بعض أهل العربية: معنى قوله: {فلا أقسم} ، فليس الأمر كما تقولون، ثم استؤنف القسم بعد، فقيل: أقسم ; ومواقع النجوم. قال ابن عباس: يعني نجوم القرآن، فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقًا في السنين بعد، ثم قرأ ابن عباس هذه الآية. ومواقعها: نزولها شيئًا بعد شيء، وقيل: النجوم هي الكواكب، ومواقعها: مساقطها عند غروبها، قال مجاهد: مواقع النجوم يقال: مطالعها ومشارقها، واختاره ابن جرير. وعلى هذا فتكون المناسبة بين ذكر النجوم في القسم وبين المقسم عليه وهو القرآن من وجوه: أحدها: أنّ النجوم جعلها الله يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الغي والجهل، فتلك هداية في الظلمات الحسية، وآيات القرآن هداية في الظلمات المعنوية، فجمع بين الهدايتين مع ما في النجوم من الزينة الظاهرة للعالم وفي القرآن من الزينة الباطنة، ومع ما في النجوم من الرجوم للشياطين، وفي آيات القرآن من رجوم شياطين الإنس والجن، والنجوم آياته المشهودة العيانية، والقرآن آياته المتلوة السمعية مع ما في مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النّزول، ذكره ابن القيم. وقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} 2. قال ابن كثير: أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم، لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم عليه.

_ 1 سورة الواقعة آية: 77. 2 سورة الواقعة آية: 76.

وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} 1. هذا هو المقسم عليه، وهو القرآن أي: إنه وحي الله وتنْزيله وكلامه، لا كما يقول الكفار: إنه سحر وكهانة أو شعر، بل هو قرآن كريم، أي: عظيم كثير الخير، لأنه كلام الله. قال ابن القيم: فوصفه بما يقتضي حسنه وكثرة خيره ومنافعه وجلالته، فإن الكريم هو البهي الكثير الخير، العظيم النفع، وهو من كل شيء أحسنه وأفضله، والله سبحانه وصف نفسه بالكرم [الانفطار 6، والنّحل 40] ، ووصف به كلامه، ووصف به عرشه [المؤمنون 16] ، ووصف به ما كثر خيره، وحسن منظره من النبات وغيره، ولذلك فسر السلف الكريم بالحسن، قال الأزهري: الكريم: اسم جامع لما يحمد، والله تعالى كريم جميل الفعال، إنه لقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان، والعلم والحكمة. وقوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} 2. قال ابن كثير: أي: معظم في كتاب معظم محفوظ موقر. وقال ابن القيم: اختلف المفسرون في هذا فقيل: هو اللوح المحفوظ، والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة وهو المذكور في قوله: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} 3. ويدل على أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} 4. فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه.

_ 1 سورة الواقعة آية: 77. 2 سورة الواقعة آية: 78. 3 سورة عبس آية: 13-16. 4 سورة الواقعة آية: 79.

وقوله: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} 1. قال "ابن عباس: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} 2. قال: الكتاب الذي في السماء"وفي رواية:" {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} 3، يعني: الملائكة وقال قتادة: لا يمسه عند الله إلا المطهرون". أما في الدنيا، فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس. قال: وهي في قراءة ابن مسعود: ما يمسه إلا المطهرون. واختار هذا القول كثيرون منهم: ابن القيم ورجحه. وقال ابن زيد: زعمت قريش أن هذا القرآن تنَزلت به الشياطين فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ... } 4 إلى قوله: {لَمَعْزُولُون} . وقال ابن كثير: وهذا قول جيد وهو لا يخرج عن القول قبله. وقال البخاري في "صحيحه" في هذه الآية: لا يجد طعمه إلا من آمن به. قال ابن القيم: وهذا من إشارة الآية وتنبيهها وهو أنه لا يلتذ به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من يشهد أنه كلام الله تكلم به حقًا، وأنزله على رسوله وحيًا، ولا ينال معانيه إلا من لم يكن في قلبه منه حرج بوجه من الوجوه. وقال آخرون: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} ، [الواقعة: 79] ، أي: من الجنابة والحدث قالوا: ولفظ الآية خبر ومعناه الطلب. قالوا: والمراد بالقرآن هنا المصحف، كما في حديث ابن عمر مرفوعًا: "نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو" 5. واحتجوا على ذلك بما رواه مالك في "الموطأ" عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: "أن لا يمس القرآن إلا طاهر". وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 6. قال ابن كثير: أي: هذا القرآن منَزل من الله رب العالمين، وليس كما يقولون: إنه سحر أو كهانة أو شعر، بل هو الحق الذي لا مرية فيه وليس وراءه حق

_ 1 سورة الواقعة آية: 79. 2 سورة الواقعة آية: 79. 3 سورة الواقعة آية: 79. 4 سورة الشعراء آية: 210. 5 البخاري: الجهاد والسير (2990) , ومسلم: الإمارة (1869) , وأبو داود: الجهاد (2610) , وابن ماجه: الجهاد (2879 ,2880) , وأحمد (2/6 ,2/7 ,2/10 ,2/63 ,2/76 ,2/128) , ومالك: الجهاد (979) . 6 سورة الواقعة آية: 80.

نافع. وفي هذه الآية 1-إثبات أنه كلام الله تكلم به. قال ابن القيم: ونظيره {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} 1 وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} 2. 2-وإثبات علو الله سبحانه على خلقه، فإن النّزول والتنْزيل الذي تعقله العقول، وتعرفه الفطر هو وصول الشيء من أعلى إلى أسفل، ولا يرد عليه قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} 3. لأنا نقول: إن الذي أنزلها من فوق سماواته قد أنزلها لنا بأمره. قال ابن القيم: وذكر التنْزيل مضافًا إلى ربوبيته للعالمين المستلزمة لملكه لهم، وتصرفه فيهم، وحكمه عليهم، وإحسانه وإنعامه عليهم، وأن من هذا شأنه مع الخلق كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى، ويدعهم هملاً، ويخلقهم عبثًا، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم؟! فمن أقر بأنه رب العالمين أقر بأن القرآن نزله على رسوله، واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به. وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس، وتلك إنما تكون لخواص العقلاء. وقوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} 4 قال مجاهد: أي: أتريدون أن تمالؤوهم فيه وتركنوا إليهم. قال ابن القيم: ثم وبخهم سبحانه على وضعهم الأدهان في غير موضعه، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به، ويفرق به، ويعض عليه بالنواجذ، وتثنى عليه الخناصر، وتعقد عليه القلوب والأفئدة، ويحارب ويسالم لأجله، ولا يلتوي عنه يمنة ولا يسرة، ولا يكون للقلب التفات إلى غيره، ولا محاكمة إلا إليه، ولا مخاصمة إلا به، ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به. فهو روح الوجود، وحياة العالم، ومدار السعادة، وقائد الفلاح، وطريق النجاة، وسبيل الرشاد، ونور البصائر، فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه؟! ولم

_ 1 سورة السجدة آية: 13. 2 سورة النحل آية: 102. 3 سورة الزمر آية: 6. 4 سورة الواقعة آية: 81.

ينْزل للمداهنة، وإنما أنزل بالحق وللحق، والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا تمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق، ويلتزم بعض الباطل. فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن فيه؟! وقوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 1، تقدم الكلام عليها أول الباب، والله أعلم.

_ 1 سورة الواقعة آية: 82.

باب قول الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}

باب قول الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله} ... [25- بابقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 1] [أقسام المحبة وأنواعها] . ش: لما كانت محبة الله سبحانه هي أصل دين الإسلام، الذي يدور عليه قطب رحاها، فبكمالها يكمل الإيمان، وبنقصانها ينقص توحيد الإنسان، نبه المصنف رحمه الله على وجوبها على الأعيان، ولهذا جاء في الحديث: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ... ". الحديث رواه الترمذي والحاكم. وفي حديث آخر: "أحبوا الله بكل قلوبكم". وفي حديث معاذ بن جبل في حديث المنام: "وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك". رواه أحمد والترمذي وصححه. وما أحسن ما قال ابن القيم في وصفها: هي المنْزلة التي يتنافس فيها المتنافسون، وإلى عملها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها، فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده، ففي بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه، حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها، فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال التي متى خلت منها، فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم

_ 1 سورة البقرة آية: 165.

يكونوا إلا إِلاَّ {بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا أبدًا بدونها واصليها، وتبوئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولا هي داخليها. تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، وقد قضى الله تعالى يوم قدر مقادير الخلائق، بمشيئته وحكمته البالغة، أن المرء مع من أحب، فيا لها من نعمة على المحبين سابغة. تالله لقد سبق القوم السعاة، وهم على ظهور الفرش نائمون، ولقد تقدموا الركب بمراحل وهم في مسيرهم واقفون، وأجابوا مؤذن الشوق، إذ نادى بهم: حي على الفلاح، وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم، وكان بذلهم بالرضى والسماح، وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح، تالله لقد حمدوا عند الوصول مسراهم، وشكروا مولاهم على ما أعطاهم، وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح. وأطال في وصفها فراجعه في "المدارج". واعلم أن المحبة قسمان، مشتركة وخاصة: فالمشتركة: ثلاثة أنواع، أحدها: محبة طبيعية، كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، ونحو ذلك. وهذه لا تستلزم التعظيم. الثاني: محبة رحمة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده الطفل، وهذه أيضًا لا تستلزم التعظيم. الثالث: محبة أنس وألف، وهي محبة المشتركين في صناعة، أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر لبعضهم بعضًا، وكمحبة الإخوة، بعضهم بعضًا. فهذه الأنواع الثلاثة، التي تصلح للخلق، بعضهم من بعض ووجودها فيهم لا يكون شركا في محبة الله، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان يحب نساءه، وعائشة أحبهن إليه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصِّدِّيق رضي الله عنه.

القسم الثاني: المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله، ومتى أحب العبد بها غيره، كان شركا لا يغفره الله، وهي محبة العبودية، المستلزمة للذل، والخضوع والتعظيم، وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره. فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلاً كما حققه ابن القيم، وهي التي سوَّى المشركون بين الله تعالى وبين آلهتهم فيها. كما قال تعالى في الآية التي ترجم لها المصنف: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} 1. قال ابن كثير: يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا، وما لهم في الآخرة من العذاب والنكال حيث جعلوا لله أندادًا، أي: أمثالاً ونظراء، يحبونهم كحبه، ويعبدونهم معه، وهو الله الذي لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ند له، ولا شريك معه. وقوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 2، أي: يساوونهم بالله في المحبة والتعظيم، ولهذا يقولون لأندادهم، وهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. فهذا هو مساواتهم برب العالمين، وهو العدل المذكور، في قوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 4. أما مساواتهم بالله في الخلق والرزق وتدبير الأمور، فما كان أحد من المشركين يساوون أصنامهم بالله في ذلك. وهذا القول رجحه شيخ الإسلام. والثاني: أن المعنى يحبون أندادهم، كما يحب المؤمنون الله، ثم بين أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم. قال شيخ الإسلام: وهذا متناقض، وهو باطل، فإن المشركين لا يحبون الأنداد، مثل محبة المؤمنين الله، ودلت الآية على أن من أحب شيئًا، كحب الله، فقد اتخذه ندًّا لله، وذلك هو الشرك الأكبر، قاله المصنف. وعلى وجوب إفراد الله بالمحبة الخاصة التي هي توحيد الإلهية، بل الخلق والأمر والثواب والعقاب، إنما نشأ عن المحبة، ولأجلها، فهي الحق الذي خلقت به السموات والأرض، وهي الحق

_ 1 سورة البقرة آية: 165. 2 سورة البقرة آية: 165. 3 سورة الشّعراء آية: 97-98. 4 سورة الأنعام آية: 1.

الذي تضمنه الأمر والنهي، وهي سر التأله، وتوحيدها هو شهادة أن لا إله إلا الله وليس كما زعم المنكرون، أن الإله هو الرب الخالق، فإن المشركين كانوا مقرين، بأنه لا رب إلا الله، ولا خالق سواه، ولم يكونوا مقرين بتوحيد الإلهية الذي هو حقيقة لا إله إلا الله، فإن الإله الذي تألهه القلوب حبًّا وذلاًّ وخوفًا ورجاء، وتعظيما وطاعة، إله بمعنى مألوه، أي: محبوب معبود، وأصله من التأله، وهو التعبد الذي هو آخر مراتب الحب، فالمحبة حقيقة العبودية، ودلت أيضًا على أن المشركين يعرفون الله ويحبونه، وإنما الذي أوجب كفرهم مساواتهم به الأنداد في المحبة، فكيف بمن أحب الأنداد أكثر من حب الله! فكيف بمن لم يحب الله أصلاً، ولم يحب إلا الند وحده فالله المستعان. قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 1. نتكلم عليها لتعلقها بما قبلها تكميلاً للفائدة، وإن لم يذكرها المصنف، وفيها قولان: أحدهما وهو الصحيح أن المعنى: والذين آمنوا أشد حبًّا لله من محبة المشركين بالأنداد لله، فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة. والثاني: والذين آمنوا أشد حبًّا لله من حب أصحاب الأنداد لأندادهم التي يحبونها من دون الله. قال ابن القيم: والقولان مرتبان على القولين في قوله: يحبونهم كحب الله. وفي الآية دليل على أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، وأن الشرك محبط للأعمال. [توعد من قدم شيئا على محبة الله ورسوله] قال: وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ ... } 2 إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... } 3. هذا أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يتوعد من أحب أهله وعشيرته وأمواله ومساكنه، أو أحد هذه الأشياء على الله ورسوله،

_ 1 سورة البقرة آية: 165. 2 سورة التوبة آية: 24. 3 سورة التوبة آية: 24.

وجهاد في سبيله، وقد خوطب بهذا المؤمنين في آخر الأمر، كما قاله شيخ الإسلام، فقيل لهم: {إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} 1، أي: حصلتموها، {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} 2، أي: رخصها وفوات وقت نفاقها، {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} 3، أي: لحسنها وطيبها، {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} 4، أي: انتظروا ماذا يحل بكم من عذاب الله، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 5، أي: الخارجين عن طاعة الله. وهو تنبيه على أن من فعل ذلك، فهو من الفاسقين فهذا تشديد، ووعيد عظيم، ولا يخلص منه إلا من صح إيمانه فخلص لله سره وإعلانه، وعلى أن المحبة الصادقة تستلزم تقديم مراضي الله على هذه الثمانية كلها، فكيف بمن آثر بعضها على الله ورسوله، وجهاد في سبيله! فإن قلت: قد قال شيخ الإسلام: إن كثيرًا من المسلمين أو أكثرهم بهذه الصفة. قيل: مراده أن كثيرًا من المسلمين قد يكون ما ذكر أحب إليه من الله ورسوله، أي: في إيثار ذلك على فعل أمر الله، وأمر رسوله الذي ينشأ عن المحبة لا في الحب الذي يوجب قصد المحبوب بالتأله، فإن من ساوى بين الله وبين غيره في هذا الحب، فهو مشرك، فكيف إذا كان غير الله أحب إليه كما هو الواقع من عباد القبور، فإنهم يحبون أندادهم أعظم من حب الله، وذلك أن أصل الحب يحتمل الشركة بخلاف الخلة، فإنها لا تقبل الشركة أصلاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن وأسامة: "اللهم إني أحبهما وأحب من يحبهما". حديث صحيح. واعلم أن هذه الآية شبيهة بقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ

_ 1 سورة التوبة آية: 24. 2 سورة التوبة آية: 24. 3 سورة التوبة آية: 24. 4 سورة التوبة آية: 24. 5 سورة المائدة آية: 108.

فَاتَّبِعُونِي} 1. فلما كثر المدعون لمحبة الله، طولبوا بإقامة البينة، فجاءت هذه الآية ونحوها. فمن ادعى محبة الله، وهو يحب ما ذكر على الله ورسوله، فهو كاذب كمن يدعي محبة الله، وهو على غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كاذب، إذ لو كان صادقًا لكان متبعًا له، قال مبارك ابن فضالة: عن الحسن. قال: كان ناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: يا رسول الله إننا نحب ربنا حبًّا شديدًا، فأحب الله أن يجعل لحبه عَلَمًا فأنزل الله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 2. وقد وقع لكثير من المدعين نوع انبساط في دعوى المحبة أخرجهم إلى شيء من الرعونة والدعاوي التي تنافي العبودية، ويدعي أحدهم دعاوي تتجاوز حدود الأنبياء، ويطلبون من الله ما لا يصلح بكل وجه إلا لله. وسبب هذا ضعف تحقيق المحبة التي هي محض العبودية، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته، ومدعي ذلك فيه شبه من اليهود والنصارى الذين قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. وشرط المحبة موافقة المحبوب، فتحب ما يحب، وتكره ما يكره، وتبغض ما يبغض، وذلك كمن يدعي أن الذنوب لا تضره، لكون الله يحبه فيصر عليها أو يدعي أنه يصل إلى حد في محبة الله تسقط عنه التكاليف، وكقول بعضهم: أي مريد لي ترك في النار أحدًا، فإن بريء منه، فقال الآخر: أي مريد لي ترك أحدًا من المؤمنين يدخل النار، فإنه بريء منه. ونحو ذلك من الدعاوي مع أن كثيرًا من هذا ونحوه لا يصدر إلا من كافر، والعاقل يتنبه. وما هكذا كان سادات المحبين: الأنبياء والمرسلون، والصحابة، والتابعون، فكن على حذر من ذلك، فإن كثيرًا من جهال المتصوفة وقع فيه، وقد ينسب ذلك إلى بعض المشايخ المشهورين، وهو إما كذب عليهم، وإما خطأ منهم، فإن العصمة منتفية عن غير الرسول صلى الله عليه وسلم.

_ 1 سورة آل عمران آية: 31. 2 سورة آل عمران آية: 31.

[لا يكمل إيمان العبد حتى يحب الرسول أكثر من جميع البشر] قال: عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" 1. أخرجاه ش: قوله: (لا يؤمن أحدكم) . أي. لا يحصل له الإيمان الذي تبرأ به ذمته، ويستحق به دخول الجنة بلا عذاب حتى يكون الرسول أحب إليه من أهله وولده ووالده والناس أجمعين، بل لا يحصل له ذلك حتى يكون الرسول أحب إليه من نفسه أيضًا، كما في حديث "عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا نفسي فقال: والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنك الآن والله أحب إلي من نفسي، فقال: الآن يا عمر" 2. رواه البخاري. فمن لم يكن كذلك، فهو من أصحاب الكبائر، إذا لم يكن كافرًا، فإنه لا يعهد في لسان الشرع نفي اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته، فأما إذا كان الفعل مستحبًّا في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، ولو صح هذا لنفي عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج وحب الله ورسوله، لأن ما من عمل إلا وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا أبو بكر ولا عمر، فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه لجاز أن ينفى عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل. وعلى هذا فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق، وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قاله شيخ الإسلام. وأكثر الناس يدعي أن الرسول أحب إليه مما ذكر، فلا بد من تصديق ذلك بالعمل والمتابعة له، وإلا فالمدعي كاذب، فإن القرآن بين أن المحبة التي في القلب تستلزم العمل الظاهر بحبها كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 3. وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ

_ 1 البخاري: الإيمان (15) , ومسلم: الإيمان (44) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5013 ,5014) , وابن ماجه: المقدمة (67) , وأحمد (3/177 ,3/207 ,3/275 ,3/278) , والدارمي: الرقاق (2741) . 2 البخاري: الأيمان والنذور (6632) , وأحمد (4/233 ,4/336 ,5/293) . 3 سورة آل عمران آية: 31.

آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} 1، إلى قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ورسوله سمعوا وأطاعوا. فتبين أن هذا من لوازم الإيمان والمحبة، لكن كل مسلم لا بد أن يكون محبًّا بقدر ما معه من الإسلام كما أن كل مؤمن لا بد أن يكون مسلمًا، وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمنًا، وإن لم يكن مؤمنًا الإيمان المطلق، لأن ذلك لا يحصل إلا لخواص المؤمنين، فإن الاستسلام لله ومحبته لا تتوقف على هذا الإيمان الخاص. قال شيخ الإسلام: وهذا الفرق يجده الإنسان من نفسه ويعرفه من غيره، فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام، والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، وهم مسلمون، ومعهم إيمان مجمل، لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئًا فشيئًا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين، ولا إلى الجهاد ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفارًا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال. وهؤلاء إن عرفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب، وإلا صاروا مرتابين وانتقلوا إلى نوع من النفاق انتهى. قوله: (أحب) . هو بالنصب خبر كون. قوله: (والناس أجمعين) . هو من عطف العام على الخاص وهو كثير.

_ 1 سورة النور آية: 47. 2 سورة النور آية: 51.

وفي الحديث من الفوائد: إذا كان هذا شأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فما الظن بمحبة الله؟! وفيه أن الأعمال من الإيمان، لأن المحبة عمل، وقد نُفِيَ الإيمان عمن لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما ذكر فدل على ذلك. وفيه أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام. وفيه وجوب محبته صلى الله عليه وسلم على ما ذكر، ذكرهما المصنف. [ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان] . قال: ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"1. وفي رواية: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى ... " 2 إلى آخره. ش: قوله: (ثلاث) . أي: ثلاث خصال. وجاز الابتداء بثلاث، لأن المضاف إليه منوي ولذلك جاء التنوين. قوله: (من كن فيه) . أي: وجدن وحصلن، فهي تامة. قوله: (وجد بهن حلاوة الإيمان) . قال ابن أبي جمرة: إنما عبر بالحلاوة لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} 3. قلت: والشجرة لها ثمرة، والشجرة لها حلاوة، فكذلك شجرة الإيمان لا بد لها من ثمرة ولا بد لتلك الثمرة من حلاوة. لكن قد يجدها المؤمن وقد لا يجدها وإنما يجدها بما ذكر في الحديث. قوله: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) . "أحب" منصوب لأنه خبر يكون. قال البيضاوي: المراد بالحب هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس كالمريض يعاف الدواء بطبعه، فينفر عنه بطبعه ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله. فإذا تأمل المرء أن الشارع

_ 1 البخاري: الإيمان (16) , ومسلم: الإيمان (43) , والترمذي: الإيمان (2624) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4987 ,4988 ,4989) , وابن ماجه: الفتن (4033) , وأحمد (3/103 ,3/113 ,3/172 ,3/174 ,3/230 ,3/248 ,3/288) . 2 البخاري: الأدب (6041) . 3 سورة إبراهيم آية: 24.

لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك تمرن على الائتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعًا له، ويلتذ بذلك التذاذًا عقليًّا إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك. قلت: وكلامه على قواعد الجهمية ونحوهم من نفي محبة المؤمنين لربهم لهم. والحق خلاف ذلك بل المراد في الحديث أن يكون الله ورسوله عند العبد أحب إليه مما سواهما حبًّا قلبيًا كما في بعض الأحاديث: "أحبوا الله بكل قلوبكم". فيميل بكليته إلى الله وحده حتى يكون وحده محبوبه ومعبوده، وإنما يحب من سواه تبعًا لمحبته كما يحب الأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين لما كان يحبهم ربه سبحانه، وذلك موجب لمحبة ما يحبه سبحانه وكراهة ما يكره، وإيثار مرضاته على ما سواه والسعي فيما يرضيه ما استطاع وترك ما يكره. فهذه علامات المحبة الصادقة ولوازمها، وأما مجرد إيثار ما يقضي العقل رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه ... إلى آخر كلامه. فهذا قد يكون في بعض الأمور علامة على الحب ولازمًا له لا أنه هو الحب. وقال شيخ الإسلام: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له فمن أحب شيئًا واشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك. واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى. قال: فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح يتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة وتفريعها ودفع ضدها.

فتكميلها أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فإن محبة الله ورسوله، لا يكتفى فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله، أحب إليه مما سواهما. قلت: ولا يكون كذلك، إلا إذا وافق ربه، فيما يحبه وما يكرهه، قال: وتفريعها أن يحب المرء لا يحبه إلا لله. قلت: فإن من أحب مخلوقًا لله، لا لغرض آخر، كان هذا من تمام حبه لله، فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب، فإذا أحب أنبياء الله، وأولياءه، لأجل قيامهم بمحبوبات الله، لا لشيء آخر، فقد أحبهم لله لا لغيره. قال: ودفع ضدها أن يكره ضد الإيمان، كما يكره أن يقذف في النار. قلت: وإنما كره الضد، لما دخل قلبه من محبة الله، فانكشف له بنور المحبة محاسن الإسلام، ورذائل الجهل، والكفران، وهذا هو الحب الذي يكون مع من أحب، كما في "الصحيحين". عن أنس: "أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة، فقال: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت"، وفي رواية للبخاري "فقلنا: ونحن كذلك، قال، نعم قال أنس: ففرحنا يومئذ، فرحًا شديدًا" 1. وقوله: (مما سواهما) ، فيه جمع ضمير الرب سبحانه، وضمير الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أنكره على الخطيب، لما قال: ومن يعصهما، فقد غوى، وأحسن ما قيل فيه قولان: أحدهما ما قاله البيضاوي وغيره، أنه ثنى الضمير هنا إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة، فإنها وحدها لاغية، وأمر بالإفراد في حديث الخطيب إشعارًا بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام

_ 1 البخاري: الأدب (6171) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2639) , والترمذي: الزهد (2385) , وأحمد (3/104 ,3/110 ,3/167 ,3/172 ,3/173 ,3/178 ,3/198 ,3/202 ,3/207 ,3/208 ,3/221 ,3/226 ,3/227 ,3/228 ,3/255 ,3/276 ,3/288) .

الغواية، إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم. قلت: وهذا جواب بليغ جدًّا. الثاني: حمل حديث الخطيب على الأدب والأولى، وهذا على الجواز. وجواب ثالث، وهو أن هذا ورد على الأصل، وحديث الخطيب ناقل، فيكون أرجح. قوله: (كما يكره أن يقذف في النار) ، أي: يستوي عنده الأمران، الإلقاء في النار، والعود في الكفر. قلت: وفي الحديث من الفوائد: أن الله تعالى يحبه المؤمنون، وهو تعالى يحبهم، كما قال: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 1. وفيه رد ما يظنه بعض الناس من أنه من ولد على الإسلام أفضل ممن كان كافرًا فأسلم، فمن اتصف بهذه الأمور، فهو أفضل ممن لم يتصف بها مطلقًا، ولهذا كان السابقون الأولون أفضل ممن ولد على الإسلام. وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقًا، والصواب أنه إن لم يتب كان نقصًا وإن تاب فلا، ولهذا كان المهاجرون والأنصار أفضل هذه الأمة، وإن كانوا في أول الأمر كفارًا يعبدون الأصنام، بلا المنتقل من الضلال إلى الهدى، ومن السيئات إلى الحسنات يضاعف له الثواب، قاله شيخ الإسلام. وفيه دليل على عداوة المشركين وبغضهم، لأن من أبغض شيئًا أبغض من اتصف به، فإذا كان يكره الكفر كما يكره أن يلقى في النار، فكذلك يكره من اتصف به. قوله: (وفي رواية لا يجد أحد) ، هذه الرواية أخرجها البخاري في "صحيحه" ولفظه: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه

_ 1 سورة المائدة آية: 54.

من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"1. [لا تنال ولاية الله إلا بالحب في الله والبغض في الله] قال: وعن ابن عباس قال: "من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئًا". رواه ابن جرير. ش: هذا الأثر رواه ابن جرير بكماله كما قال المصنف، وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط. قوله: (من أحب في الله) ، أي: أحب المسلمين والمؤمنين في الله. قوله: (وأبغض في الله) ، أي: أبغض الكفار والفاسقين في الله لمخالفتهم لربهم وإن كانوا أقرب الناس إليه، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} 2. قوله: (ووالى في الله) . هذا بيان للازم المحبة في الله وهو الموالاة. فيه إشارة إلى أنه لا يكفي في ذلك مجرد الحب، بل لا بد مع ذلك من الموالاة التي هي لازم الحب، وهي النصرة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين باطنًا وظاهرًا. قوله: (وعادى في الله) ، هذا بيان للازم البغض في الله وهو المعاداة فيه، أي: إظهار العداوة بالفعل، كالجهاد لأعداء الله والبراءة منهم، والبعد عنهم باطنًا وظاهرًا إشارة إلى أنه لا يكفي مجرد بغض القلب، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ

_ 1 البخاري: الأدب (6041) . 2 سورة المجادلة آية: 22.

وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 1 فهذا علامة الصدق في البغض في الله. قوله: (فإنما تنال ولاية الله بذلك) . يجوز فتح الواو وكسرها، أي: لا يكون العبد من أولياء الله ولا تحصل له ولاية الله إلا بما ذكر من الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله، كما روى الإمام أحمد والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله، فإذا أحب لله، وأبغض لله، فقد استحق الولاية لله" 2. وفي حديث آخر "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله عزّ وجل" 3. رواه الطبراني وغيره، وينبغي لمن أحب شخصًا في الله أن يأتيه في بيته فيخبره أنه يحبه في الله كما روى أحمد والضياء عن أبي ذر مرفوعًا: "إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منْزله فليخبره أنه يحبه لله" 4 وفي حديث ابن عمر عند البيهقي في "الشعب" فإنه يجد مثل الذي يجد له. قوله: (ولن يجد عبد طعم الإيمان ... ) إلى آخره أي: لا يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يحب في الله، ويبغض في الله، ويعادي في الله، ويوالي في الله، وهذا منتزع من حديث أنس السابق وفي حديث أبي أمامة مرفوعًا "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" 5 رواه أبو داود. والعجب ممن يدعي محبة الله وهو على خلاف ذلك، وما أحسن ما قال ابن القيم: أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حبًّا له ما ذاك في إمكان قوله: (وقد صارت عامة مؤاخات الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا) ، أي: المؤاخاة على أمر الدنيا لا يجدي على أهله شيئًا، أي: لا ينفعهم أصلاً، بل يضرهم، كما قال تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} 6. فهذا

_ 1 سورة الممتحنة آية: 4. 2 أحمد (3/430) . 3 أبو داود: السنة (4599) . 4 أحمد (5/145) . 5 أبو داود: السنة (4681) . 6 سورة الزخرف آية: 67.

حال كل خلة ومحبة كانت في الدنيا على غير طاعة الله، فإنها تعود عداوة وندامة يوم القيامة بخلاف المحبة والخلة على طاعة الله، فإنها من أعظم القربات كما جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: "ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه" 1. وفي الحديث القدسي الذي رواه مالك وابن حبان في صحيحه: "وجبت محبتي للمتحابين في وللمتجالسين فِيَّ، وللمتزاورين فِيَّ وللمتباذلين فِيَّ" 2. وهذا الكلام قاله ابن عباس رضي الله عنه في أهل زمانه، فكيف لو رأى الناس فيما هم فيه من المؤاخاة على الكفر والبدع والفسوق والعصيان؟! ولكن هذا مصداق قوله عليه السلام: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ" 3. وفيه إشارة إلى أن الأمر قد تغير في زمن ابن عباس بحيث صار الأمر إلى هذا بالنسبة إلى ما كان في زمن الخلفاء الراشدين فضلاً عن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى ابن ماجة عن "ابن عمر قال: لقد رأيتنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم"4. وأبلغ منه قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 5. فهذا كان حالهم في ذلك الوقت الطيب، وهؤلاء هم المتحابون لجلال الله كما في الحديث القدسي يقول الله عزّ وجل: "أين المتحابون لجلالي، اليوم أظلهم في ظلي" 6 فهذه هي المحبة النافعة لا لمحبة الدنيا، وهي التي أوجبت لهم المواساة والإيثار على الأنفس. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 7. قال المصنف: وقال "ابن عباس: في قوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة من الآية: 166] قال: المودة". ش: هذا الأثر رواه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.

_ 1 البخاري: الأذان (660) , ومسلم: الزكاة (1031) , والترمذي: الزهد (2391) , وأحمد (2/439) , ومالك: الجامع (1777) . 2 أحمد (5/233) , ومالك: الجامع (1779) . 3 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) . 4 أحمد (2/84) . 5 سورة الحشر آية: 9. 6 مسلم: البر والصلة والآداب (2566) , وأحمد (2/237 ,2/338 ,2/370 ,2/535) , ومالك: الجامع (1776) , والدارمي: الرقاق (2757) . 7 سورة الحديد آية: 21.

قوله: (قال: المودة) : أي: المحبة التي كانت بينهم في الدنيا وتقطعت بهم وخانتهم أحوج ما كانوا إليها، وتبرأ بعضهم من بعض، كما قال تعالى عن إبراهيم الخليل عليه السلام: أنه قال لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 1. وهذه الآية وإن كانت نزلت في المشركين عباد الأوثان الذين يحبون أندادهم وأوثانهم كحب الله، فإنها عامة، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولهذا "قال قتادة: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة، من الآية: 166] . قال: أسباب الندامة يوم القيامة". والأسباب: المواصلة التي يتواصلون بها ويتحابون بها، فصارت عداوة يوم القيامة، يلعن بعضهم بعضًا. رواه عبد بن حميد وابن جرير فهذا حال من كانت مودته لغير الله فاحذر من ذلك.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 25.

باب قول الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}

[26- باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1] [الخوف على ثلاثة أقسام] . الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها، فلذلك قال المصنف بوجوب إخلاصه بالله تعالى. وقد ذكره الله تعالى في كتابه عن سادات المقربين من الملائكة والأولياء والصالحين قال الله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 2. وقال الله تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 3. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} 4. وقال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ} 5. وأمر بإخلاصه له فقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 6. وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 7. وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} 8 [النحل: 53] وهو على ثلاثة أقسام.

_ 1 سورة آل عمران آية: 175. 2 سورة النحل آية: 50. 3 سورة الأنبياء آية: 28. 4 سورة المؤمنون آية: 57. 5 سورة الأحزاب آية: 39. 6 سورة البقرة آية: 40. 7 سورة المائدة آية: 44. 8 سورة النحل آية: 52.

أحدها: خوف السر وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما يشاء من مرض أو فقر أو قتل ونحو ذلك بقدرته ومشيئته، سواء ادعى أن ذلك كرامة للمخوف بالشفاعة، أو على سبيل الاستقلال، فهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلاً، لأن هذا من لوازم الإلهية، فمن اتخذ مع الله ندًّا يخافه هذا الخوف فهو مشرك. وهذا هو الذي كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم وآلهتهم ولهذا يخوفون بها أولياء الرحمن كما خوفوا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فقال لهم: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. وقال تعالى عن قوم هود إنهم قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} 2. وقال تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} 3. وهذا القسم هو الواقع اليوم من عباد القبور، فإنهم يخافون الصالحين بل الطواغيت، كما يخافون الله بل أشد. ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين بالله أعطاك ما شئت من الأيمان كاذبًا أو صادقًا، فإن كان اليمين بصاحب التربة لم يقدم على اليمين إن كان كاذبًا، وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أخوف عنده من الله. ولا ريب أن هذا ما بلغ إليه شرك الأولين، بل جهد أيمانهم اليمين بالله تعالى، وكذلك لو أصاب أحدًا منهم ظلم لم يطلب كشفه إلا من المدفونين في التراب. وإذا أراد أن يظلم أحدًا فاستعاذ بالله أو ببيته لم يعذه، ولو استعاذ بصاحب التربة أو بتربته لم يقدم عليه أحدًا ولم يتعرض له بالأذى حتى إن بعض الناس أخذ من التجار أموالاً عظيمة أيام موسم الحاج، ثم بعد أيام أظهر الإفلاس، فقام عليه أهل الأموال، فالتجأ إلى قبر في جدة يقال له: المظلوم فما تعرض له

_ 1 سورة آية: 80-81. 2 سورة آية: 54-55. 3 سورة الزمر آية: 36.

أحد بمكروه خوفًا من سر المظلوم وأشباه هذا من الكفر، وهذا الخوف لا يكون العبد مسلمًا إلا بإخلاصه لله تعالى وإفراده بذلك دون من سواه. الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير عذر إلا لخوف من الناس، فهذا محرم، وهو الذي نزلت فيه الآية المترجم لها وهو الذي جاء فيه الحديث: "إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذا رأيت المنكر أن لا تغيره فيقول: يا رب خشيت الناس، فيقول إياي كنت أحق أن تخشى" 1 رواه أحمد. الثالث: خوف وعيد الله الذي توعد به العصاة وهو الذي قال الله فيه: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} 2. وقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} 3. وقال تعالى: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} 4. وقال تعالى: {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 5. وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان، ونسبة الأول إليه كنسبة الإسلام إلى الإحسان وإنما يكون محمودًا إذا لم يوقع في القنوط واليأس من روح الله، ولهذا قال شيخ الإسلام: هذا الخوف ما حجزك عن معاصي الله، فما زاد على ذلك، فهو غير محتاج إليه. بقي قسم رابع وهو الخوف الطبيعي، كالخوف من عدو وسبع وهدم وغرق ونحو ذلك، فهذا لا يذم وهو الذي ذكره الله عن موسى عليه الصلاة والسلام في قوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} 6. إذا تبين هذا فمعنى قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} 7، أي: يخوفكم أولياءه ويوهمكم أنهم ذو بأس وشدة. قال الله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 8. أي: فإذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا على الله فإنه كافيكم وناصركم عليهم كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ

_ 1 ابن ماجه: الفتن (4008 ,4017) , وأحمد (3/47) . 2 سورة إبراهيم آية: 14. 3 سورة الرحمن آية: 46. 4 سورة الطور آية: 26. 5 سورة الإنسان آية: 7. 6 سورة القصص آية: 21. 7 سورة آل عمران آية: 175. 8 سورة آل عمران آية: 175.

مِنْ دُونِهِ ... } 1، إلى قوله: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 2. وقال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} 3. قاله ابن كثير. وقال ابن القيم: ومن كيد عدو الله أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه لئلا يجاهدوهم ولا يأمروهم بمعروف، ولا ينهوهم عن منكر. فأخبر تعالى أن هذا من كيده وتخويفه، ونهانا أن نخافهم، قال: والمعنى عند جميع المفسرين: يخوفكم بأوليائه قال قتادة: يعظمهم في صدوركم، ولهذا قال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4. فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمان العبد قوي خوفه منهم. قلت: فأمر تعالى بإخلاص هذا الخوف له، وأخبر أن ذلك شرط في الإيمان، فمن لم يأت به لم يأت بالإيمان الواجب، ففيه أن إخلاص الخوف لله من الفرائض. قال: وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ... } 5 الآية. لما نفى تبارك وتعالى عمارة المساجد عن المشركين بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ ... } 6 الآية إذ لا تنفعهم عمارتها مع الشرك، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} 7. أثبت تعالى في هذه الآية عمارة المساجد بالعبادة للمؤمنين بالله تعالى واليوم الآخر، المقيمين الصلاة المؤتين الزكاة، الذين لا يخشون إلا الله، ولا يخشون معه إلهًا آخر. كما قال تعالى: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} 8، فهذه هي العمارة النافعة، وهي الخالصة من الشرك، فإنه نار تحرق الأعمال. وقوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} 9. قال ابن عطية: يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره، ويخشى المحاذير الدنيوية، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه.

_ 1 سورة الزمر آية: 36. 2 سورة الزمر آية: 38. 3 سورة النساء آية: 76. 4 سورة آل عمران آية: 175. 5 سورة التوبة آية: 18. 6 سورة التوبة آية: 17. 7 سورة الفرقان آية: 23. 8 سورة الأحزاب آية: 39. 9 سورة التوبة آية: 18.

قلت: ولهذا قال ابن عباس في الآية: لم يعبد إلا الله، فإن الخوف كما قال ابن القيم: عبودية القلب، فلا يصلح إلا لله، كالذل والإنابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب. وقوله: {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 1. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: إن أولئك المهتدون، كقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} 2. وكل "عسى" في القرآن فهي واجبة. وتضمنت الآية أن من عَمَّر المساجد من المسلمين بالعبادة، هو من المؤمنين كما في حديث: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان" قال الله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 3". رواه أحمد والترمذي والحاكم. قال وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ... } 4. قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبرًا عن قوم من الذين يدعون الإيمان بألسنتهم ولم يثبت الإيمان في قلوبهم بأنهم إذا جاءتهم محنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة الله بهم، فارتدوا عن الإسلام". قال ابن عباس: "يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله". وقال ابن القيم:"الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقول ذلك، بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه، والفتنة: الابتلاء والاختبار، ليتبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل: آمنا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه فمن آمن بالرسل وأطاعهم، عاداه أعداؤهم وآذوه، فابتلي بما يؤلمه، ومن لم يؤمن بهم، ولم يطعهم، عوقب في الدنيا والآخرة، وحصل له ما يؤلمه، وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم اتباعهم، فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت، أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة،

_ 1 سورة التوبة آية: 18. 2 سورة الإسراء آية: 79. 3 الترمذي: الإيمان (2617) , وابن ماجه: المساجد والجماعات (802) , وأحمد (3/76) , والدارمي: الصلاة (1223) . 4 سورة العنكبوت آية: 10.

والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء، ثم يصير له الألم الدائم. والإنسان لا بد أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه، وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب، تارة منهم، وتارة من غيرهم، كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة، ولا يتمكنون من فجورهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلم منهم، فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم، فالحزم كل الحزم بما قالت أم المؤمنين لمعاوية: "من أرضى الله بسخط الناس، كفاه الله مؤنة الناس ومن أرضى الناس بسخط الله، لم يغنوا عنه من الله شيئًا". فمن هداه الله، وألهمه رشده، ووقاه شر نفسه، امتنع من الموافقة على فعل المحرم، وصبر على عداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما كانت للرسل وأتباعهم". ثم أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له، وهي أذاهم له، ونيلهم إياه بالمكروه، وهو الألم الذي لا بد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم، جعل ذلك في قراره منه وتركه السبب الذي يناله به كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان. فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قرب، وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله، فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنْزلة ألم عذاب الله، وغبن كل الغبن إذا استجار من الرمضاء بالنار، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق انتهى. قلت: وإنما حمل ضعيف البصيرة على أن {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ

كَعَذَابِ اللَّهِ} ، هو الخوف منهم أن ينالوه بما يكره بسبب الإيمان بالله، وذلك من جملة الخوف من غير الله، وهذا وجه مطابقة الآية للترجمة، وفي الآية رد على المرجئة والكرامية، وفيها الخوف على نفسك، والاستعداد للبلاء إذ لا بد منه مع سؤال الله العافية. [من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله] . قال: عن أبي سعيد مرفوعًا: "إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره". ش: هذا الحديث رواه أبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي، وأعله بمحمد بن مروان السدي، وقال: ضعيف، وفيه أيضًا عطية العوفي، أورده الذهبي في الضعفاء والمتروكين، وقال: ضعفوه وموسى بن بلال، قال الأزدي: ساقط. قلت: إسناده ضعيف، ومعناه صحيح، وتمامه: "وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط". قوله: (إن من ضعف اليقين) ، قال في "المصباح": والضعف بفتح الضاد في لغة تميم وبضمها في لغة قريش: خلاف القوة والصحة. واليقين المراد به: الإيمان كله كما قال ابن مسعود: "اليقين الإيمان كله، والصبر نصف الإيمان"رواه الطبراني بسند صحيح، ورواه أبو نعيم في "الحلية" والبيهقي في "الزهد"

من حديثه مرفوعًا ولا يثبت رفعه. قاله الحافظ: ويدخل في ذلك تحقيق الإيمان بالقدر السابق كما في حديث ابن عباس مرفوعًا: "فإن استطعت أن تعمل بالرضى في اليقين فافعل، وإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا". وفي رواية أخرى في إسنادها ضعف: "قلت: يا رسول الله: كيف أصنع باليقين؟ قال: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك" 1. قوله: (أن ترضي الناس بسخط الله) . أي: تؤثر رضاهم على رضي الله، فتوافقهم على ترك المأمور، أو فعل المحظور استجلابًا لرضاهم فلولا ضعف اليقين لما فعلت ذلك، لأن من قوي يقينه علم أن الله وحده هو النافع الضار، وأنه لا مُعَوَّل إلا على رضاه، وليس لسواه من الأمر شيء كائنًا ما كان فلا يهاب أحدًا، ولا يخشاه لخوف ضرر يلحقه من جهته كما قال تعالى: {وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} 2. قوله: (وأن تحمدهم على رزق الله) ، أي: تحمدهم وتشكرهم على ما وصل إليك على أيديهم من رزق، بأن تضيفه إليهم وتنسى المنعم المتفضل على الحقيقة وهو الله رب العالمين الذي قدر هذا الرزق لك، وأوصله إليك بلطفه ورحمته فإنه لطيف لما يشاء وهو العليم الحكيم فإذا أراد أمرًا قيض له أسبابًا ولا ينافي ذلك حديث: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله". لأن المراد هنا إضافة النعمة إلى السبب ونسيان الخالق، والمراد بشكر الناس عدم كفر إحسانهم ومجازاتهم على ذلك بما استطعت، فإن لم تجد فجازهم بالدعاء. قوله: (وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله) ، أي: إذا طلبتهم شيئًا فمنعوك ذممتهم على ذلك، فلو علمت يقينًا أن المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده، وأن المخلوق مُدَبَّر {لا يَمْلِكُ} لنفسه {ضَرّاً وَلا

_ 1 أبو داود: السنة (4700) . 2 سورة الأحزاب آية: 39.

نَفْعاً} فضلاً عن غيره، وأن الله لو قدر لك رزقًا; أتاك ولو اجتهد الخلق كلهم في دفعه، وإن أرادك بمنع لم يأتك مرادك ولو اجتمع الخلق كلهم في إيصاله إليك; لقطعت العلائق عن الخلائق وتوجهت بقلبك إلى الخالق تبارك وتعالى، ولهذا قرر ذلك بقوله: "إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره". فلا ترض الخلق بما يسخط الله، ولا تحمدهم على رزق الله، ولا تذمهم على ما لم يؤتك الله طلبًا لحصول رزق من جهتهم، {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، [فاطر: 2] . قال شيخ الإسلام: اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنًا لا بوعد الله ولا برزق الله، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مؤنتهم، وإرضاؤهم بما يسخطه إنما يكون خوفًا منهم، ورجاء لهم وذلك من ضعف اليقين، وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما يقدر، كان ذلك من ضعف يقينك فلا تخفهم ولا ترجهم، ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله فهو المذموم، ولما قال بعض وفد بني تميم: "أي محمد أعطني فإن حمدي زين وذمي شين"= قال صلى الله عليه وسلم: "ذاك الله" ت. وفي الحديث أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال داخلة في الإيمان وإلا لم تكن هذه الثلاث من ضعفه وأضدادها من قوته.

[من التمس رضي الناس بسخط الله سخط الله عليه] . قال: وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس" 1. رواه ابن حبان في " صحيحه". ش: هذا الحديث رواه ابن حبان بهذا اللفظ الذي ذكره المصنف، ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة. قال: "كتب معاوية إلى عائشة أن اكتبي لي كتابًا توصيني فيه، ولا تكثري علي، فكتبت عائشة إلى معاوية: سلام عليك أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكَّلَه الله إلى الناس. والسلام عليك" رواه أبو نعيم وغيره. قوله: "من التمس"، أي: طلب قال شيخ الإسلام: "وكتبت عائشة إلى معاوية وروي أنها رفعته من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا", هذا لفظ المرفوع ولفظ الموقوف: "من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذامًّا". هذا اللفظ المأثور عنها، وهذا من أعظم الفقه في الدين والمأثور أحق وأصدق، فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه. وكان عبده الصالح والله يتولى الصالحين وهو كافٍ عبده {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} 2. والله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه فقد يحصل ذلك، لكن يرضون إذا سلموا من الإعراض، وإذا تبين لهم العاقبة، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا، كالظالم الذي يعض على يديه، وأما كون حامده ينقلب ذامًّا، فهذا يقع كفرًا ويحصل في العاقبة، فإن العاقبة للتقوى لا تحصل ابتداء

_ 1 الترمذي: الزهد (2414) . 2 سورة آية الطّلاق: 2-3.

عند أهوائهم. قلت: وإنما يحمل الإنسان على إرضاء الخلق بسخط الخالق هو الخوف منهم، فلو كان خوفه خالصًا لله لما أرضاهم بسخطه، فإن العبيد فقراء عاجزون لا قدرة لهم على نفع ولا ضر البتة، وما بهم من نعمة فمن الله، فكيف يحسن بالموحد المخلص أن يؤثر رضاهم على رضاء رب العالمين الذي له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، ومنه الخير كله، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} ، [هود، من الآية: 123] ، {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، [آل عمران، من الآية: 6] . وقد أخبر تعالى أن ذلك من صفات المنافقين في قوله: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} وما أحسن ما قيل: إذا صح منك الود يا غاية المنى ... فكل الذي فوق التراب تراب قال ابن رجب: فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب، فهو تراب، فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟! أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب؟! {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ، [صّ، من الآية: 5] . وفي الحديث عقوبة من خاف الناس وآثر رضاهم على رضي الله، وأن العقوبة قد تكون في الدين عياذًا بالله من ذلك. فإن المصيبة في الأديان أعظم من المصيبة في الأموال والأبدان. وفيه شدة الخوف على عقوبات الذنوب، لا سيما في الدين، فإن كثيرًا من الناس يفعل المعاصي ويستهين ولا يرى أثرًا لعقوبتها، ولا يدري المسكين بماذا أُصيب فقد تكون عقوبته في قلبه كما قال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} . اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.

باب قول الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}

[27- باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ... } 1 [التوكل قسمان] : قال أبو السعادات: يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان، أي: ألجأته واعتمدت عليه فيه، ووكل فلان فلانًا: إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته، أو عجز عن القيام بأمر نفسه انتهى. ومراد المصنف بهذه الترجمة النص على أن التوكل فريضة يجب إخلاصه لله تعالى لأنه من أفضل العبادات، وأعلى مقامات التوحيد. بل لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين، كما تقدم في صفة السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، ولذلك أمر الله به في غير آية من القرآن أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة، بل جعله شرطًا في الإيمان والإسلام ومفهوم ذلك انتفاء الإيمان والإسلام عند انتفائه كما في الآية المترجم لها وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 2. وقوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 3. وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} 4. وقوله: {أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً} 5. وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} 6. وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 7. وغير ذلك من الآيات. وفي الحديث: "مَنْ سَرَّهُ أن يكون أقوى الناس إيمانًا فليتوكل على الله" رواه ابن أبي الدنيا، وأبو يعلى والحاكم وفي حديث آخر "لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانا". رواه أحمد وابن ماجة. قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب. وقال أبو إسماعيل الأنصاري: التوكل كلة الأمر إلى مالكه والتعويل على وكالته.

_ 1 سورة المائدة آية: 23. 2 سورة يونس آية: 84. 3 سورة هود آية: 123. 4 سورة المزمل آية: 9. 5 سورة الإسراء آية: 2. 6 سورة الفرقان آية: 58. 7 سورة التوبة آية: 129.

إذا تبين ذلك فمعنى الآية المترجم لها أن موسى عليه السلام أمر قومه بدخول الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم، ولا يرتدوا على أدبارهم خوفًا من الجبارين، بل يمضوا قدمًا لا يهابونهم ولا يخشونهم، متوكلين على الله في هزيمتهم، مصدقين بصحة وعده لهم إن كانوا مؤمنين. قال ابن القيم: فجعل التوكل على الله شرطًا في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه. وفي الآية الأخرى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 1. فجعل دليل صحة الإسلام التوكل، وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 2؟ فذكر اسم الإيمان ههنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل، وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفًا، فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد. والله تبارك وتعالى يجمع بين التوكل والعبادة، وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والهداية. فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منْزلته منها كمنْزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقوماته إلا على ساق التوكل. قلت: وفي الآية دليل على أن التوكل على الله عبادة، وعلى أنه فرض، وإذا كان كذلك فصرفه لغير الله شرك. قال شيخ الإسلام: وما رجا أحد مخلوقًا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه، فإنه مشرك: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 3. قلت: لكن التوكل على غير الله قسمان: أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالذين يتوكلون على الأموات

_ 1 سورة يونس آية: 84. 2 سورة آل عمران آية: 122. 3 سورة الحج آية: 31.

والطواغيت في رجاء مطالبهم من النصر والحفظ والرزق والشفاعة، فهذا شرك أكبر فإن هذه الأمور ونحوها لا يقدر عليها إلا الله تبارك وتعالى. الثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة العادية، كمن يتوكل على أمير أو سلطان، فيما جعله الله بيده من الرزق أو دفع الأذى ونحو ذلك. فهذا نوع شرك خفي، والوكالة الجائزة هي توكل الإنسان في فعل مقدور عليه. ولكن ليس له أن يتوكل عليه وإن وكله، بل يتوكل على الله ويعتمد عليه في تيسير ما وكله فيه كما قرره شيخ الإسلام. قال: وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... } 1 الآية. قال ابن عباس في الآية: المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون على الله، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 2. فأدوا فرائضه. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وهذه صفة المؤمن الذي إذا ذكر الله وجل قلبه، أي: خاف من الله ففعل أوامره، وترك زواجره، فإن وجل القلب من الله يستلزم القيام بفعل المأمور، وترك المحظور كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 3. ولهذا قال السدي في قوله: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 4. هو الرجل يريد أن يظلم، أو قال: يهم بمعصية، فيقال له: اتق الله فيجل قلبه. رواه ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم. وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 5. قد استدل الصحابة والتابعون ومن تبعهم بهذه الآية وأمثالها على زيادة الإيمان

_ 1 سورة الأنفال آية: 2. 2 سورة الأنفال آية: 2. 3 سورة النازعات آية: 41-40. 4 سورة الأنفال آية: 2. 5 سورة الأنفال آية: 2.

ونقصانه. قال عمر بن حبيب [الْخُطمي] الصحابي: إن الإيمان يزيد وينقص فقيل له: وما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه. رواه ابن سعد. وقال مجاهد في هذه الآية: الإيمان يزيد وينقص، وهو قول وعمل، رواه ابن أبي حاتم، وحكى الإجماع على ذلك الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم. وقوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 1، أي: يعتمدون عليه بقلوبهم مفوضين إليه أمورهم وحده لا شريك له، فلا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يرغبون إلا إليه، يعلمون أن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له. وفي الآية وصف المؤمنين حقًّا بثلاث مقامات من مقامات الإحسان وهي: الخوف، وزيادة الإيمان، والتوكل على الله وحده. فإن قيل: إذا كان المؤمن حقًّا هو الذي فعل المأمور وترك المحظور فلماذا لم يذكر إلا خمسة أشياء؟.قيل: لأن ما ذكر مستلزم لما ترك، فإنه ذكر وجل قلوبهم إذا ذكر الله، وزيادة إيمانهم إذا تليت عليهم آياته، مع التوكل عليه، وأقام الصلاة على الوجه المأمور به باطنًا وظاهرًا، والإنفاق من المال والمنافع فكان مستلزمًا للباقي. فإن وجل القلب عند ذكر الله يقتضي خشيته والخوف منه، وذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور، وترك المحظور. وكذلك زيادة الإيمان عند تلاوة آيات الله يقتضي زيادته علمًا وعملاً، ثم لا بد من التوكل على الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ومن طاعة الله فيما يقدر عليه. وأصل ذلك الصلاة، والزكاة، فمن قام بهذه الخمس كما أُمِرَ لزم أن يأتي بسائر الواجبات، بل الصلاة نفسها إذا فعلها كما أمر فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر ذكر ذلك شيخ الإسلام. قال: وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية2. قال ابن القيم: أي: الله وحده كافيك وكافي أتباعك، فلا

_ 1 سورة الأنفال آية: 2. 2 سورة الأنفال آية: 64.

تحتاجون معه إلى أحد، وقيل: المعنى حسبك الله وحسبك المؤمنون. قال ابن القيم: وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه، فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة. قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 1. ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب فقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 2. ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب تعالى لهم بذلك فكيف يقول لرسوله: الله وأتباعك حسبك؟! وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب، ولم يشركوا بينه وبين رسوله، فكيف يشرك بينه وبينهم في حسب رسوله صلى الله عليه وسلم؟! هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل. ونظير هذا قوله سبحانه: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 3. فتأمل كيف جعل الإيتاء لله والرسول كما قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} 4. وجعل الحسب له، فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 5. ولم يقل وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحده، كما قال: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 6. فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى انتهى كلامه. وبهذا يتبين مطابقة الآية للترجمة، لأن الله تعالى أخبر أنه حسب رسوله، وحسب أتباعه. أي: كافيهم وناصرهم، {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} ، [الحج: من الآية: 78] ، وفي ضمن ذلك أمر لهم بإفراده تعالى بالحسب، استكفاء بكفايته تبارك وتعالى وذلك هو التوكل.

_ 1 سورة الأنفال آية: 62. 2 سورة آل عمران آية: 173. 3 سورة التوبة آية: 59. 4 سورة الحشر آية: 7. 5 سورة التوبة آية: 59. 6 سورة الشرح آية: 8.

قال: وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 1. قال ابن القيم:"أي: كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه، فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش. وأما أن يضره بما يبلغ به مراده فلا يكون أبدًا، وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء، وهو في الحقيقة إحسان إليه، وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يشتفى به منه. قال بعض السلف: جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته، فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 2. ولم يقل: فله كذا وكذا من الأجر، كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه، وحسبه، وواقيه، فلو توكل العبد على الله حق توكله، وكادته السموات والأرض ومن فيهن، لجعل له مخرجًا، وكفاه، ونصره، انتهى. وفي أثر رواه أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه، قال الله عزّ وجل في بعض كتبه: "بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات ومن فيهن، والأرضون بمن فيهن، فإني أجعل له بذلك مخرجًا، ومن لم يعتصم بي، فإني أقطع يديه من أسباب السماء، وأخسف من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه، كفى بي لعبدي مآلاً، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني، فأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه". وفي الآية دليل على فضل التوكل، وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع، ودفع المضار، لأن الله علق الجملة الأخيرة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط، فيمتنع أن يكون وجود الشرط كعدمه، لأنه تعالى رتب الحكم على الوصف المناسب له، فعلم أن توكله هو سبب كون الله حسبًا له، ذكره شيخ الإسلام. وفيها تنبيه على القيام بالأسباب مع التوكل، لأنه تبارك وتعالى ذكر التقوى، ثم ذكر التوكل، كما قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 3. فجعل التقوى الذي هو قيام

_ 1 سورة الطلاق آية: 3. 2 سورة الطلاق آية: 3. 3 سورة المائدة آية: 11.

بالأسباب المأمور بها، فحينئذ إذا توكل على الله، فهو حسبه، فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض، وإن كان مشوبًا بنوع من التوكل، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزًا، ولا عجزه توكلاً، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها. ذكر معناه ابن القيم. قال عن ابن عباس: قال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 1 قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} 2. رواه البخاري. ش: قوله: {حَسْبُنَا اللَّهُ} أي: كافينا فلا نتوكل إلا عليه، كما قال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 3 أي كافيه. كما قال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 4. قوله: {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي: نعم الموكل إليه المتوكل عليه; كما قال تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 5. فقد تضمنت هذه الكلمة العظيمة التوكل على الله والالتجاء إليه، قال ابن القيم: وهو حسب من توكل عليه، وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمن خوف الخائف، ويجير المستجير وهو نعم المولى، ونعم النصير، فمن تولاه، واستنصر به، وتوكل عليه، وانقطع بكليته إليه، تولاه، وحفظه وحرسه، وصانه، ومن خافه، واتقاه آمنه مما يخاف ويحذر، وجلب إليه كل ما يحتاج إليه من المنافع. قوله: "قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار"، وفي رواية عن " ابن عباس: قال: كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار. {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 6 ". رواه البخاري، وقد ذكر الله القصة في سورة الأنبياء [51-73] عليهم السلام.

_ 1 سورة آل عمران آية: 173. 2 سورة آل عمران آية: 173. 3 سورة الطلاق آية: 3. 4 سورة الزمر آية: 36. 5 سورة الحج آية: 78. 6 سورة آل عمران آية: 173.

قوله: "وقالها محمد صلى الله عليه وسلم ... " إلى آخره، وذلك بعدما كان من أمر أحد ما كان. بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والزبير وسعد وطلحة وعبد الرحمن بن عوف، وحذيفة بن اليمان وعبد الله ابن مسعود، وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين راكبًا حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثلاثة أميال، ثم ألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان، فرجع إلى مكة، ومر به ركب من عبد قيس فقال: أين تريدون؟ فقالوا: نرييد المدينة، قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدًا رسالة أرسلكم بها إليه؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنَّا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه، فقال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 1. والقصة مشهورة في السير والتفاسير. ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة وأنها قول إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام في الشدائد، ولهذا جاء في الحديث: "إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل". رواه ابن مردويه وأن القيام بالأسباب مع التوكل على الله لا يتنافيان، بل يجب على العبد القيام بهما، كما فعل الخليلان عليهما الصلاة والسلام، ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن عوف بن مالك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا علي الرجل. قال: ما قلت؟ قال: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر، فقل: حسبي الله ونعم الوكيل". وفي الآية دليل على أن الإيمان يزيد وينقص. قال مجاهد في قوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} . قال:

_ 1 سورة آل عمران آية: 173.

الإيمان يزيد وينقص، وعلى أن ما يكرهه الإنسان قد يكون خيرًا له، وأن التوكل أعظم الأسباب في حصول الخير، ودفع الشر في الدنيا والآخرة.

باب قول الله تعالى: {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}

[28- باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 1] المراد بهذه الترجمة التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف، ولذلك ذكر بعد هذه الآية قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} 2. هذا هو مقام الأنبياء والصديقين كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 3. فابتغاء الوسيلة إليه هو التقرب بحبه وطاعته، ثم ذكر الرجاء والخوف وهذه أركان الإيمان. وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 4. وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 5. وقال عن شعيب: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} 6. فوكلا الأمر إلى مالكه، وقال تعالى عن الملائكة عليهم السلام: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 7. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية" 8. وكلما قوي إيمان العبد ويقينه قوي خوفه ورجاؤه مطلقًا. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 9. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} 10. وقالت عائشة:

_ 1 سورة الأعراف آية: 99. 2 سورة الحجر آية: 56. 3 سورة الإسراء آية: 57. 4 سورة الأنبياء آية: 90. 5 سورة الأنعام آية: 80. 6 سورة الأعراف آية: 89. 7 سورة النحل آية: 50. 8 البخاري: الإيمان (20 ,43) والصوم (1970) والأدب (6101) , وأبو داود: الصلاة (1368) , وأحمد (6/122) , ومالك: الصيام (641) . 9 سورة فاطر آية: 28. 10 سورة المؤمنون، آيات: 57-60.

يارسول الله هو الرجل يزني ويسرق ويخاف أن يعاقب؟ قال: "لا يا بنت الصديق هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه ". رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه. قال ابن القيم: الخوف من أجلِّ منازل الطريق، وخوف الخاصة أعظم من خوف العامة، وهم إليه أحوج، وهم به أليق وله ألزم، فإن العبد إما أن يكون مستقيمًا أو مائلاً عن الاستقامة. فإن كان مائلاً عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله، ولا يصح الإيمان إلا بهذا الخوف، وهو ينشأ من ثلاثة أمور: أحدها: معرفته بالجناية وقبحها، والثاني: تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها، الثالث: أنه لا يعلم أنه يمنع من التوبة، ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وسبب قوتها وضعفها يكون قوة الخوف، وضعفه هذا قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشد. وبالجملة فمن استقر في قلبه ذكر الدار الآخرة وجزائها، وذكر المعصية والتوعد عليها، وعدم الوقوف بإتيانه بالتوبة النصوح، هاج من قلبه من الخوف ما لا يملكه، ولا يفارق حتى ينجو وأما إن كان مستقيمًا مع الله، فخوفه يكون من جريان الأنفاس لعلمه بأن الله مقلب القلوب. وما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عزّ وجل فإن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت أكثر يمينه: "لا ومقلب القلوب" 1. ويكفي في هذا قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} 2. فأي قرار لمن هذه حاله ومن أحق بالخوف منه، بل خوفه لازم له في كل حال، وإن توارى عنه بغلبة حال أخرى عليه، فالخوف حشو قلبه، ولكن توارى عنه بغلبة غيره، فوجود الشيء غير العلم به، فالخوف الأول ثمرة العلم بالوعد والوعيد، وهذا الخوف ثمرة العلم بقدرة الله عزّ وجل وعزته وجلاله، وأنه الفعال لما

_ 1 البخاري: القدر (6617) , والترمذي: النذور والأيمان (1540) , والنسائي: الأيمان والنذور (3761 ,3762) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3263) , وابن ماجه: الكفارات (2092) , وأحمد (2/25 ,2/68 ,2/127) , والدارمي: النذور والأيمان (2350) . 2 سورة الأنفال آية: 24.

يريد، وأنه المحرك للقلب المصرف له كيف يشاء، لا إله إلا هو العزيز الحكيم انتهى. فهذا الخوف الثاني هو من خوف المكر. إذا علمت هذا، فمعنى الآية المترجم لها أن الله تبارك وتعالى لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل، بين أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن من عذاب الله، وعدم الخوف منه، كما قال: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} 1 ثم بين أن ذلك بسبب الجهل والغرة بالله، فأمنوا مكره فيما ابتلاهم به من السراء والضراء، بأن يكون استدراجًا، فقال: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 2. أي: الهالكون. فدل على وجوب الخوف من مكر الله. قال الحسن: من وسع عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له، ومن قتر عليه، فلم ير أنه ينظر له فلا رأي له. وقال قتادة: بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سلوتهم وغرتهم ونعمتهم. فلا تغتروا بالله إنه لا يغتر به إلا القوم الفاسقون. رواهما ابن أبي حاتم. وفي الحديث: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب; فإنما هو استدراج" 3. رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم. وقال إسماعيل بن رافع: من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة. رواه ابن أبي حاتم. قال: وقوله: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} 4. نبه المصنف رحمه الله بهذه الآية على الجمع بين الرجاء والخوف، فإذا خاف فلا يقنط من رحمة الله، بل يرجوها مع العمل الصالح. كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5. فذكر سبحانه

_ 1 سورة الأعراف آية: 97-98. 2 سورة الأعراف آية: 99. 3 أحمد (4/145) . 4 سورة الحجر آية: 56. 5 سورة البقرة آية: 218.

أنهم يرجون رحمة الله مع الاجتهاد في الأعمال الصالحة فأما الرجاء مع الإصرار على المعاصي، فذاك من غرور الشيطان; إذا تبين ذلك، فقوله تعالى: ومن يقنط حكاية قول إبراهيم عليه السلام لما بشرته الملائكة بولده إسحاق عليه السلام، ف {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} 1. استبعادًا لوقوع هذا في العادة مع كبر السن منه ومن زوجته {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي: الذي لا ريب فيه ولا مثنوية، بل هو أمر الذي {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2. وإن بعد مثله في العادة التي أجراها فإن ذلك عليه يسير، إذا أراده، فلا تكن من القانطين، أي لا تيأس من رحمة الله، قال إبراهيم عليه السلام: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} 3. فأجابهم بأنه ليس بقانط، ولكن يرجو من الله الولد، وإن كان قد كبر، وأسنت امرأته، فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك. قال السدي: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ} 4. قال: من ييأس من رحمة ربه. رواه ابن أبي حاتم {إِلاَّ الضَّالُّونَ} قال بعضهم: إلا المخطئون طريق الصواب، أو الكافرون، كقوله: {لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} 5. وفي حديث مرفوع: "الفاجر الراجي لرحمة الله أقرب منها من العابد القانط" رواه الحكيم الترمذي والحاكم في "تاريخه". قال: عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائرقال: "الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله". ش: هذا الحديث رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان متكئًا، فدخل عليه رجل، فقال: ما الكبائر؟ فقال: الشرك بالله" 6. وذكر الحديث. ورجاله ثقات إلا شبيب بن بشر فقال ابن

_ 1 سورة الحجر آية: 54. 2 سورة يس آية: 82. 3 سورة الحجر آية: 56. 4 سورة الحجر آية: 56. 5 سورة يوسف آية: 87. 6 أحمد (6/304) .

معين: ثقة، ولينه ابن أبي حاتم، ومثل هذا يكون حسنًا. وقال ابن كثير: في إسناده نظر، والأشبه أن يكون موقوفًا. قوله: "الشرك بالله هو أكبر الكبائر"، إذ مضمونه تنقيص رب العالمين وإلههم ومالكهم وخالقهم الذي لا إله إلا هو، وعدل غيره به، كما قال: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1. فهو أظلم الظلم، وأقبح القبيح، ولهذا لا يغفر إن لم يتب منه، بخلاف غيره من الذنوب، ففي مشيئة الله إن شاء غفرها، وإن شاء عذب بها. قوله: "واليأس من روح الله" أي: قطع الرجاء والأمل من الله فيما يرومه ويقصده قال تعالى: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} 2. وذلك إساءة ظن بكرم الله ورحمته وجوده ومغفرته. قوله: "والأمن من مكر الله" أي: من استدراجه للعبد أو سلبه ما أعطاه من الإيمان - نعوذ بالله من غضبه - وذلك جهل بالله وبقدرته، وثقة بالنفس وعجب بها. واعلم أن هذا الحديث لم يرد فيه حصر الكبائر فيما ذكر، بل الكبائر كثيرة، لكن ذكر ما هو أكبرها، أو من أكبرها، ولهذا قال ابن عباس: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع، رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم. وفي رواية هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. قال: وعن ابن مسعود قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله". رواه عبد الرزاق. ش: هذا الأثر رواه ابن جرير بأسانيد صحاح عن ابن مسعود، قال ابن كثير: وهو صحيح إليه بلا شك، ورواه الطبراني أيضًا.

_ 1 سورة الأنعام آية: 1. 2 سورة يوسف آية: 87.

قوله: "أكبر الكبائر الإشراك بالله". أي: في ربوبيته أو عبادته وهذا بالإجماع. قوله: "والقنوط من رحمة الله". قال أبو السعادات: هو أشد اليأس من الشيء. قلت: فعلى هذا يكون الفرق بينه وبين اليأس كالفرق بين الاستغاثة والدعاء، فيكون القنوط من اليأس، وظاهر القرآن أن اليأس أشد لأنه حكم لأهله بالكفر، ولأهل القنوط بالضلال. وفيه: التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف، فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس، وكان السلف يستحبون أن يقوى في الصحة الخوف، وفي المرض الرجاء، هذه طريقة أبي سليمان وغيره، قال: وينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف فإذا كان الغالب عليه الرجاء فسد، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة إنه على كل شيء قدير.

باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله

[29- باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله] لما كان ببديع حكمته، ولطيف رحمته، قضى أن يبتلي النوع الإنساني بالأوامر والنواهي والمصائب التي قدرها عليهم، وأمرهم بالصبر على ذلك، وافترضه عليهم تسلية لهم وتقوية على ذلك، ووعدهم عليه الثواب بغير حساب كما قال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 1. فعلى هذا يكون الصبر ثلاثة أنواع: صبر على المأمور، وصبر عن المحظور، وصبر على المقدور، ويشملها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} 2. وقوله تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 3. ولما كان الصبر لا

_ 1 سورة الزمر آية: 10. 2 سورة الرعد آية: 22. 3 سورة النحل آية: 42.

يحصل إلا بالله كما قال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} 1. أرشد تبارك وتعالى إلى الجمع بينهما. وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} 2. قال الإمام أحمد: ذكر الله الصبر في تسعين موضعًا وقال النبي صلى الله عليه وسلم "والصبر ضياء" 3. رواه أحمد ومسلم. وقال عليه السلام: "ما أُعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر" 4. رواه البخاري ومسلم. وفي حديث آخر "الصبر نصف الإيمان" 5. رواه أبو نعيم والبيهقي في الشعب. وقال عمر: "وجدنا خير عيشنا بالصبر". رواه البخاري [معلّقاً قبل: 6470] . وقال علي بن أبي طالب: "ألا إن الصبر من الإيمان بمنْزلة الرأس من الجسد فإذا قطع الرأس بان الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا لا إيمان لمن لا صبر له". والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة. واشتقاقه من صبر: إذا حبس ومنع، فالصبر حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي والسخط، والجوارح عن لطم الخدود، وشق الجيوب ونحوهما ذكره ابن القيم. قال: وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} 6. ش: أول الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 7. أخبر تعالى أن ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في الأنفس إلا بإذن الله، أي: بقدره وأمره كما قال في الآية الأخرى: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 8. "قال ابن عباس في قوله: إلا بإذن الله: إلا بأمر الله". يعني: من قدره ومشيئته ومن يؤمن بالله يهد قلبه، أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله جازاه الله تعالى بهداية قلبه التي هي أصل كل سعادة وخير في الدنيا والآخرة. وقد يخلف

_ 1 سورة النحل آية: 127. 2 سورة الطور آية: 48. 3 مسلم: الطهارة (223) , والترمذي: الدعوات (3517) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (280) , وأحمد (5/342 ,5/343) , والدارمي: الطهارة (653) . 4 البخاري: الزكاة (1469) , ومسلم: الزكاة (1053) , والترمذي: البر والصلة (2024) , والنسائي: الزكاة (2588) , وأبو داود: الزكاة (1644) , وأحمد (3/12 ,3/47 ,3/93) , ومالك: الجامع (1880) , والدارمي: الزكاة (1646) . 5 الترمذي: الدعوات (3519) , وأحمد (5/363) . 6 سورة التغابن آية: 11. 7 سورة التغابن آية: 11. 8 سورة الحديد آية: 22.

عليه أيضًا في الدنيا ما أخذه منه أو خيرًا منه كما قال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 1. قال ابن عباس: "يهد قلبه باليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه". وفي الحديث الصحيح: "عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له، وإن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن" 2. وقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3 تنبيه على أن ذلك صادر عن علمه المتضمن لحكمته، وذلك يوجب الصبر والرضى. قوله: "قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم". ش: هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علقمة وهو صحيح. وعلقمة هو ابن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسمع من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم، وهو من كبار التابعين وأجلائهم وعلمائهم وثقاتهم مات بعد الستين. قوله: "هو الرجل تصيبه المصيبة ... " إلى آخره. هذا تفسير للإيمان المذكور في الآية لكنه تفسير باللازم وهو صحيح، لأن هذا اللازم للإيمان الراسخ في القلب، وقريب منه تفسير سعيد بن جبير: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} 4. يعني: يسترجع يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. وفي الآية أن الصبر سبب لهداية القلب، وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وأن الأعمال من الإيمان وفيها إثبات القدر.

_ 1 سورة البقرة آية: 155-157. 2 مسلم: الزهد والرقائق (2999) , وأحمد (6/15) , والدارمي: الرقاق (2777) . 3 سورة التغابن آية: 11. 4 سورة التغابن آية: 11.

قال: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت" 1. ش: قوله: "هما". أي الاثنتان. قوله: "بهم كفر". أي: هما بالناس، أي: فيهم كفر. قال شيخ الإسلام: أي: هاتان الخصلتان هما كفر قائم في الناس. فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا في أعمال الكفار، وهما قائمتان بالناس، لكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافرًا الكفر المطلق، حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنًا حتى يقوم به أصل الإيمان، وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله: "ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة" 2. وبين كفر منكّر في الإثبات. قوله: "الطعن في النسب" أي: عيبه، ويدخل فيه أن يقال: هذا ليس ابن فلان مع ثبوت نسبه في ظاهر الشرع ذكره بعضهم. قوله: "والنياحة على الميت" أي: رفع الصوت بالندب بتعديد شمائله لما في ذلك من التسخط على القدر والجزع المنافي للصبر، وذلك كقول النائحة: واعضداه، واناصراه، واكاسياه ونحو ذلك. وفيه دليل على أن الصبر واجب، لأن النياحة منافية له، فإذا حرمت دل على وجوبه وفيه أن من الكفر ما لا ينقل عن الملة. قال: ولهما عن ابن مسعود مرفوعًا: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعى بدعوى الجاهلية" 3. ش: قوله: "ليس منا" هذا من نصوص الوعيد، وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد كراهة تأويلها ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ

_ 1 مسلم: الإيمان (67) , وأحمد (2/377 ,2/431 ,2/441 ,2/496) . 2 مسلم: الإيمان (82) , والنسائي: الصلاة (464) . 3 البخاري: الجنائز (1297) , ومسلم: الإيمان (103) , والترمذي: الجنائز (999) , والنسائي: الجنائز (1860 ,1862 ,1864) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1584) , وأحمد (1/386 ,1/432 ,1/442 ,1/456 ,1/465) .

في الزجر، وقيل أي: ليس من أهل سنتنا وطريقتنا، لأن الفاعل لذلك ارتكب محرمًا، وترك واجبًا. وليس المراد إخراجه من الإسلام بل المراد المبالغة في الردع عن الوقوع في ذلك، كما يقول الرجل لولده عند معاقبته: لست مني ولست منك، فالمراد أن فاعل ذلك ليس من المؤمنين الذين قاموا بواجبات الإيمان. قوله: "من ضرب الخدود". قال الحافظ: خص الخد بذلك لكونه الغالب، وإلا فضرب بقية الوجه مثله، قلت: بل ولو ضرب غير الوجه كالصدر، فكما لو ضرب الخد، فيدخل في معنى ضرب الخد، إذ الكل جزع مناف للصبر فيحرم. قوله: "وشق الجيوب"، جمع جيب وهو الذي يدخل فيه الرأس من الثوب، وكانوا يشقونه حزنًا على الميت. قال الحافظ: والمراد إكمال فتحه إلى آخره. قلت: الظاهر أن فتح بعضه كفتحه كله. قوله: "ودعا بدعوى الجاهلية". قال شيخ الإسلام: هو ندب الميت. وقال غيره: هو الدعاء بالويل والثبور. وقال الحافظ: أي: من النياحة ونحوها. وكذا الندب به كقولهم: واجبلاه، وكذا الدعاء بالويل والثبور. وقال ابن القيم: الدعاء بدعوى الجاهلية، كالدعاء إلى القبائل والعصبية للإنسان، ومثله التعصب للمذاهب والطوائف، والمشايخ وتفضيل بعض على بعض في الهوى والعصبية، وكونه منتسبًا إليه يدعو إلى ذلك، ويوالي عليه، ويعادي ويزن الناس به، فكل هذا من دعوى الجاهلية. قلت: الصحيح أن دعوى الجاهلية يعم ذلك كله، وقد جاء لعن من فعل ما في هذا الحديث عن ابن ماجة، وصححه ابن حبان عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور" 1 وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر، لأنها مشتملة على التسخط على الرب وعدم

_ 1 ابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1585) .

الصبر الواجب، والإضرار بالنفس من لطم الوجه، وإتلاف المال; بشق الثياب وتمزيقها وذكر الميت بما ليس فيه، والدعاء بالويل والثبور والتظلم من الله تعالى، وبدون هذا يثبت التحريم الشديد، فأما الكلمات اليسيرة إذا كانت صدقًا لا على وجه النوح والتسخط فلا تحرم، ولا تنافي الصبر الواجب. نص عليه أحمد لما رواه في مسنده عن [عائشة] "أن أبا بكررضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه" 1. وكذلك صح عن "فاطمة رضي الله عنها أنها ندبت أباها صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبتاه أجاب ربًّا دعاه". الحديث. واعلم أن الحديث المشروح لا يدل على النهي عن البكاء أصلاً، وإنما يدل على النهي عما ذكر فيه فقط. وكذلك يدل على النهي عما في معناه كالبكاء برنة، وحلق الشعر، وخمش الوجوه، ونحو ذلك. أما البكاء على وجه الرحمة والرقة ونحو ذلك فيجوز، بل قال شيخ الإسلام: البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، ولا ينافي الرضى بقضاء الله، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه. قلت: ويدل لذلك قوله عليه السلام لما مات ابنه إبراهيم: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون" 2. وهو في الصحيح وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى أحد بناته ولها صبي في الموت فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها شن ففاضت عيناه فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" 3.

_ 1 أحمد (6/31) . 2 البخاري: الجنائز (1303) , ومسلم: الفضائل (2315) , وأبو داود: الجنائز (3126) , وأحمد (3/194) . 3 البخاري: التوحيد (7377) , ومسلم: الجنائز (923) , والنسائي: الجنائز (1868) , وأبو داود: الجنائز (3125) , وأحمد (5/204 ,5/205 ,5/206) .

قال: وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة" 1. ش: هذا الأثر رواه الترمذي، والحاكم، وحسنه الترمذي وفي إسناده سعد بن سنان. قال الذهبي في موضع: سعد ليس حجة وفي آخر كأنه غير صحيح. وأخرجه الطبراني، والحاكم عن عبد الله بن مغفل، وأخرجه ابن عدي عن أبي هريرة، والطبراني عن عمار بن ياسر وحسنه السيوطي. قوله: "إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا". قال شارح الجامع الصغير: أي: بصب البلاء والمصائب عليه جزاء لما فرط من الذنوب منه، فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافي به يوم القيامة، كما يعلم من مقابله الآتي، ومن فعل ذلك به فقد أعظم اللطف به، لأن من حوسب بعمله عاجلاً في الدنيا خف جزاؤه عليه حتى يكفر بالشوكة يشاكها، حتى بالقلم يسقط من الكاتب، فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه حتى يموت على طهارة من دنسه. قلت: وفي الصحيح: "لا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة" 2. وفي المسند وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله وفي ولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة" 3. قال شيخ الإسلام: المصائب نعمة، لأنها مكفرات للذنوب، ولأنها تدعو إلى الصبر، فيثاب عليها، ولأنها تقتضي الإنابة إلى الله والذل له، والإعراض عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة فنفس البلاء يكفر الله به الخطايا، ومعلوم أن هذا من أعظم النعم، ولو كان رجل من أفجر الناس فإنه لا بد أن يخفف الله عنه عذابه بمصائبه. فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك، فتكون

_ 1 الترمذي: الزهد (2396) . 2 الترمذي: الزهد (2398) , وابن ماجه: الفتن (4023) , وأحمد (1/172) , والدارمي: الرقاق (2783) . 3 الترمذي: الزهد (2399) , وأحمد (2/287 ,2/450) .

شرًّا عليه من جهة ما أصابه في دينه، فإن من الناس من إذا ابتلي بفقر أو مرض أو جوع حصل له من الجزع والسخط والنفاق ومرض القلب، أو الكفر الظاهر، أو ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له ضررًا في دينه بحسب ذلك. فهذا كانت العافية خيرًا له من جهة ما أورثته المصيبة، لا من جهة المصيبة، كما أن من أوجبت له المصيبة صبرًا وطاعة كانت في حقه نعمة دينية، فهي بعينها فعل الرب عزّ وجل رحمة للخلق، والله تبارك وتعالى محمود عليها، فإن اقترن بها طاعة كان ذلك نعمة ثانية على صاحبها، وإن اقترن بها للمؤمن معصية، فهذا مما تتنوع فيه أحوال الناس كما تتنوع أحوالهم في العافية، فمن ابتلي فرزق الصبر كان الصبر عليه نعمة في دينه، وحصل له بعد ما كفر من خطاياه رحمة، وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه حيث قال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 1. فحصل له غفران السيئات، ورفع الدرجات وهذا من أعظم النعم. فالصبر واجب على كل مصاب; فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك. انتهى ملخصًا. قوله: "وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه"، أي: أخر عنه العقوبة بذنبه. قوله: "حتى يوافي به يوم القيامة"، هو بضم الياء وكسر الفاء منصوبًا بحتى مبنيًّا للفاعل. قال العزيزي: "أي: لا يجازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفي الذنوب وافيها فيستوفي ما يستحقه من العقاب". قلت: وهذا مما يزهد العبد في الصحة الدائمة خوفًا أن تكون طيباته عجلت له في الحياة الدنيا، والله تعالى لم يرض الدنيا لعقوبة أعدائه، كما لم يرضها لإثابة أوليائه بل جعل ثوابهم أن أسكنهم في جواره ورضي عنهم. كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} 2. لهذا "لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 سورة البقرة آية: 157. 2 سورة القمر آية: 54-55.

الأسقام قال رجل: يا رسول الله وما الأسقام؟ والله ما مرضت قط قال: قم عنا فلست منا" 1 رواه أبو داود. وهذه الجملة هي آخر الحديث. فأما قوله: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء ... " إلى آخره فهو أول حديث آخر لكن لما رواهما الترمذي بإسناد واحد عن صحابي واحد جعلهما المصنف كالحديث الواحد. وفيه من الفوائد أن البلاء للمؤمن من علامات الخير خلافًا لما يظنه كثير من الناس، وفيه الخوف من الصحة الدائمة أن تكون علامة شر، وفيه تنبيه على رجاء الله وحسن الظن به فيما يقضيه لك مما تكره، وفيه معنى قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآية2. قال المصنف: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط" 3. حسنه الترمذي. ش: هذا الحديث رواه الترمذي ولفظه: حدثنا قتيبة، ثنا الليث عن يزيد ابن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده الخير ... " 4 الحديث الذي قبل هذا ثم قال: وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عظم الجزاء ... " الحديث. ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. ورواه ابن ماجة وصححه السيوطي. وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد مرفوعًا: "إذا أحب الله قومًا ابتلاهم فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع" 5. قال المنذري: رواته ثقات. قوله: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء"، بكسر المهملة وفتح الظاء فيهما، ويجوز ضمها مع سكون الظاء، أي: من كان ابتلاؤه أعظم فجزاؤه أعظم، فعظمة الأجر وكثرة الثواب مع عظم البلاء كيفية وكمية جزاء وفاقًا.

_ 1 أبو داود: الجنائز (3089) . 2 سورة البقرة آية: 216. 3 الترمذي: الزهد (2396) , وابن ماجه: الفتن (4031) . 4 الترمذي: الزهد (2396) . 5 أحمد (5/427) .

قلت: ولما كان الأنبياء عليهم السلام أعظم الناس جزاء كانوا أشد الناس بلاء، كما في حديث سعد: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" 1. رواه الدارمي، وابن ماجة، والترمذي وصححه. وقد يحتج بقوله: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء". من يقول: إن المصائب والأسقام يثاب عليها غير تكفير الخطايا، ورجح ابن القيم وغيره أن ثوابها تكفير الخطايا فقط إلا إن كانت سببًا لعمل صالح كالتوبة، والاستغفار والصبر والرضى، فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها كما في حديث "إذا سبقت للعبد من الله منْزلة لم يبلغها، أو قال: لم ينلها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ولده، أو في ماله، ثم صبره حتى يبلغه المنْزلة التي سبقت له من الله عزّ وجل" 2. رواه أبو داود في رواية ابن داسة والبخاري في تاريخه وأبو يعلى في مسنده وحسنه بعضهم. وعلى هذا فيجاب عن الأول "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء". أي: إذا صبر واحتسب. قوله: "وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم". صريح في حصول الابتلاء لمن أحبه الله، ولما كان الأنبياء عليهم السلام أفضل الأحباب كانوا أشد الناس بلاء، وأصابهم من البلاء في الله ما لم يصب أحدًا لينالوا بذلك الثواب العظيم والرضوان الأكبر وليأتسي بهم من بعدهم، ويعلموا أنهم بشر تصيبهم المحن والبلايا فلا يعبدونهم. فإن قلت: كيف يبتلي الله أحبابه؟! قيل: لما كان أحد لا يخلو من ذنب كان الابتلاء تطهيرًا لهم كما صحت بذلك الأحاديث. وفي أثر إلهي: "أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب" ولأنه زيادة في درجاتهم لما يحصل مع المصيبة للمؤمن من الأعمال الصالحة كما تقدم في

_ 1 الترمذي: الزهد (2398) , وابن ماجه: الفتن (4023) , وأحمد (1/172 ,1/173 ,1/180 ,1/185) , والدارمي: الرقاق (2783) . 2 أبو داود: الجنائز (3090) , وأحمد (5/272) .

حديث "إذا سبقت للعبد من الله منْزلة ... " 1 الحديث. ولأن ذلك يدعو إلى التوبة فإن الله تعالى يبتلي العباد بعذاب الدنيا ليتوبوا من الذنوب كما قال تعالى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2. فمن رزقه الله التوبة بسبب المصيبة كان ذلك من أعظم نعم الله عليه، ولأن ذلك يحصل به دعاء الله والتضرع إليه; ولهذا ذم الله من لا يستكين لربه، ولا يتضرع عند حصول البأساء كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} 3. ودعاء الله والتضرع إليه من أعظم النعم، فهذه النعمة والتي قبلها من أعظم صلاح الدين، فإن صلاح الدين في أن يعبد الله وحده ويتوكل عليه، وأن لا تدعو مع الله إلهًا آخر لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة. فإذا حصلت لك التوبة التي مضمونها أن تعبد الله وحده، وتطيع رسله بفعل المأمور، وترك المحظور، كنت ممن يعبد الله، وإذا حصل لك الدعاء الذي هو سؤال الله حاجاتك، فتسأله ما تنتفع به، وتستعيذ به مما تستضر به، كان هذا من أعظم نعم الله عليك، وهذا كثيرًا ما يحصل بالمصائب. وإذا كانت هذه النعم في المصائب، فأولى الناس بها أحبابه، فعليهم حينئذ أن يشكروا الله. لخصت ذلك من كلام شيخ الإسلام رحمه الله. قوله: "فمن رضي فله الرضى". أي: من رضي بما قضاه الله وقدره عليه من الابتلاء فله الرضى من الله جزاءً وفاقًا. كما قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 4. وهذا دليل على فضيلة الرضى، وهو أن لا يعترض على الحكم ولا يتسخطه ولا يكرهه، وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فقال: "لا تتهم الله في شيء قضاه لك" 5. فإذا نظر المؤمن بالقضاء والقدر في حكمة الله ورحمته، وأنه غير متهم في قضائه، دعاه ذلك إلى الرضى، قال ابن مسعود: إن الله بقسطه وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط. وقال ابن عون: ارْضَ بقضاء الله من عسر

_ 1 أبو داود: الجنائز (3090) , وأحمد (5/272) . 2 سورة الروم آية: 41. 3 سورة المؤمنون آية: 76. 4 سورة البينة آية: 8. 5 أحمد (5/318) .

ويسر فإن ذلك أقل لهمك، وأبلغ فيما تطلب من أمر آخرتك، واعلم أن العبد لن يصيب حقيقة الرضى حتى يكون رضاه عند الفقر والبلاء كرضاه عند الغنى والرخاء كيف تستقضي الله في أمرك، ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفًا لهواك؟ ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك لكان فيه هلاكك، وترضى قضاءه إذا وافق هواك، وذلك لقلة علمك بالغيب، إذا كنت كذلك ما أنصفت من نفسك، ولا أصبت باب الرضى. ذكره ابن رجب قال: وهذا كلام حسن. قوله: "ومن سخط"، هو بكسر الخاء قال أبو السعادات: السخط الكراهية للشيء وعدم الرضى به، أي: من سخط أقدار الله فله السخط أي: من الله وكفى بذلك عقوبة. قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} 1. وفيه دليل أن السخط من أكبر الكبائر وقد يستدل به على إيجاب الرضى كما هو اختيار ابن عقيل. واختار القاضي عدم الوجوب، ورجحه شيخ الإسلام، وابن القيم. قال شيخ الإسلام: ولم يجئ الأمر به كما جاء الأمر بالصبر، وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم. قال وأما ما جاء من الأثر: "من لم يصبر على بلائي، ولم يرض بقضائي فليتخذ ربًّا سواي". فهذا إسرائيلي ليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: قد روى الطبراني في الأوسط معناه عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا: "من لم يرض بقضاء الله ويؤمن بقدر الله، فليلتمس إلهًا غير الله". قال الهيثمي: فيه حزم بن أبي حزم وثقه ابن معين، وضعفه جمع وبقية رجاله ثقات. فإن ثبت هذا دل على وجوبه. قال شيخ الإسلام: وأعلى من ذلك، أي: من الرضى أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله تعالى عليه بها. انتهى. واعلم أنه لا تنافي بين الرضى وبين الإحساس بالألم فكثير ممن له أنين من وجع وشدة مرض قلبه مشحون من الرضى والتسليم لأمر الله. فإن قيل: ما الفرق بين الرضى والصبر؟

_ 1 سورة محمد آية: 28.

فالجواب قال طائفة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز، والفضيل، وأبو سليمان، وابن المبارك، وغيرهم: إن الراضي لا يتمنى غير حاله التي هو عليها بخلاف الصابر، وقال الخواص: "الصبر دون الرضى، الرضى أن يكون الرجل قبل نزول المصيبة راض بأي ذاك كان، والصبر أن يكون بعد نزول المصيبة يصبر". قلت: كلام الخواص هذا عزم على الرضى ليس هو الرضى، فإنه إنما يكون بعد القضاء كما في الحديث: "وأسألك الرضى بعد القضاء" 1. لأن العبد قد يعزم على الرضى بالقضاء قبل وقوعه فإذا وقع انفسخت تلك العزيمة، فمن رضي بعد وقوع القضاء فهو الراضي حقيقة. قاله ابن رجب.

_ 1 النسائي: السهو (1306) .

باب ما جاء في الرياء

[30- باب ما جاء في الرياء] أي: من الوعيد ولما كان خلوص العمل من الشرك والرياء شرطًا في قبوله لمنافاة الشرك والرياء للتوحيد، نبه المصنف على ذلك تحقيقًا للتوحيد. والرياء مصدر راءى يرائي مراءاة ورياء; وهو أن يري الناس أنه يعمل عملاً على صفة وهو يضمر في قلبه صفة أخرى، فلا اعتداد ولا ثواب إلا بما خلصت فيه النية لله تعالى. ذكره القاضي أبو بكر بمعناه، وقال الحافظ: هو مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمد صاحبها انتهى. والفرق بينه وبين السمعة أن الرياء هو العمل لرؤية الناس، والسمعة العمل لأجل سماعهم، فالرياء يتعلق بحاسة البصر، والسمعة بحاسة السمع، ويدخل فيه أن يخفي عمله لله ثم يحدث به الناس. قال: وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1. يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للناس: إنما أنا بشر مثلكم، أي: في البشرية ولكن الله مَنَّ عليّ وفضلني بالرسالة وليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شيء، بل ذلك لله وحده لا شريك له

_ 1 سورة الكهف آية: 110.

كما قال: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1، أي: معبودكم الذي أدعوكم إلى عبادته إله واحد لا شريك له {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} 2، أي: من كان يخاف لقاء الله يوم القيامة. قال شيخ الإسلام: أما اللقاء، فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة والمشاهدة بعد السلوك والسير وقالوا: إن لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى وأطال في ذلك واحتج له. وقال سعيد ابن جبير: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} 3. قال: من كان يخشى البعث في الآخرة رواه ابن أبي حاتم. {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 4، أي: كائنًا ما كان. قال ابن القيم أي: كما أنه إله واحد لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية، فالعمل الصالح هو الخالص من الرياء، المقيد بالسنة انتهى. وهذان ركنا العمل المتقبل لا بد أن يكون صوابًا خالصًا، فالصواب أن يكون على السنة وإليه الإشارة بقوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} 5. والخالص: أن يخلص من الشرك الجلي والخفي وإليه الإشارة بقوله: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 6. روى عبد الرزاق وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص وابن أبي حاتم والحاكم عن طاوس قال: "قال رجل يا نبي الله إني أقف المواقف أبتغي وجه الله وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه شيئًا حتى نزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ، [الكهف، من الآية: 110] ". رواه الحاكم وصححه موصولاً عن طاوس عن ابن عباس. وفي الآية دليل على الشهادتين، وأن الله تعالى فرض على نبينا صلى الله عليه وسلم أن يخبرنا بتوحيد الإلهية، ولا فتوحيد الربوبية لم ينكره الكفار الذين كذبوه وقاتلوه ذكره المصنف. وفيها تسمية الرياء شركًا. وفيها أن من شروط الإيمان بالله واليوم الآخر أن لا يشرك بعبادة ربه أحدًا. ففيه التصريح بأن الشرك الواقع من المشركين إنما هو في العبادة لا في الربوبية. وفيها الرد على من قال: أولئك يتشفعون

_ 1 سورة الكهف آية: 110. 2 سورة الكهف آية: 110. 3 سورة الكهف آية: 110. 4 سورة الكهف آية: 110. 5 سورة الكهف آية: 110. 6 سورة الكهف آية: 110.

بالأصنام ونحن نتشفع بصالح العمل لأنه قال: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 1. فليس بعد هذا بيان، افتتح الآية بذكر براءة النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أقرب الخلق إلى الله وسيلة، أي: براءته من الإلهية وختمها بقوله: أحدًا. واعلم رحمك الله أن هذه الآية لا ينتفع بها إلا من ميز بين توحيد الربوبية وبين توحيد الإلهية تمييزًا تامًّا وعرف ما عليه غالب الناس إما طواغيت ينازعون الله في توحيد الربوبية الذي لم يصل إليه شرك المشركين، وإما مصدق لهم تابع لهم، وإما شاك لا يدري ما أنزل الله على رسوله، ولا يميز بين دين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين دين النصارى، ذكره المصنف. وفيها أن أصل دين النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعث به هو الإخلاص كما في هذه الآية وقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} 2. وذلك هو دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3. وذلك هو الحنيفية الإبراهيمية جعلنا الله من أهلها بمنه وكرمه. قال: عن أبي هريرةرضي الله عنه مرفوعًا قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" 4 رواه مسلم. ش: قوله: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك" لما كان المرائي قاصدًا بعمله الله تعالى وغيره، كان قد جعل الله تعالى شريكًا، فإذا كان كذلك، فالله تعالى هو الغني على الإطلاق، والشركاء بل جميع الخلق فقراء إليه بكل اعتبار، فلا يليق بكرمه وغناه التام أن يقبل العمل الذي جعل له فيه شريك، فإن كماله تبارك وتعالى وكرمه وغناه يوجب أن لا يقبل ذلك ولا يلزم من اسم التفضيل إثبات غنى للشركاء، فقد تقع المفاضلة بين الشيئين وإن كان أحدهما لا فضل فيه كقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} 5. وقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} 6.

_ 1 سورة الكهف آية: 110. 2 سورة هود آية: 1-2. 3 سورة الأنبياء آية: 25. 4 مسلم: الزهد والرقائق (2985) , وابن ماجه: الزهد (4202) , وأحمد (2/301 ,2/435) . 5 سورة النمل آية: 59. 6 سورة الفرقان آية: 24.

قوله: "من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري"، أي: من قصد بذلك العمل الذي يعمله لوجهي غيري من المخلوقين تركته وشركه. وفي رواية عند ابن ماجة وغير: هـ "فأنا منه بريء وهو للذي أشرك" 1. قال الطَّيْبِي: الضمير المنصوب في تركته يجوز أن يرجع إلى العمل والمراد من الشرك الشريك. قال ابن رجب: "واعلم أن العمل لغير الله أقسام فتارة يكون رياء محضًا، فلا يراد به سوى مراءاة المخلوقين لغرض دنيوي، كحال المنافقين في صلاتهم كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ} 2. وكذلك وصف الله الكفار بالرياء في قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} 3. وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة، أو الحج أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة، وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله، فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه، ثم ذكر أحاديث تدل على ذلك، منها الحديث الذي ذكره المصنف، وحديث شداد بن أوس مرفوعًا: "من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، وإن الله عزّ وجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي فمن أشرك بي شيئًا فإن حشده4 وعمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به أنا عنه غني". رواه أحمد. وحديث الضحاك بن قيس مرفوعًا إن الله عزّ وجل يقول: "أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكًا، فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله عزّ وجل فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له ولا

_ 1 مسلم: الزهد والرقائق (2985) , وابن ماجه: الزهد (4202) , وأحمد (2/301 ,2/435) . 2 سورة النساء آية: 142. 3 سورة الأنفال آية: 47. 4 في الطبعة السابقة: جدة.

تقولوا: هذا لله والرحم فإنها للرحم وليس لله منه شيء، ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم، فإنه لوجوهكم وليس لله منه شيء" رواه البزار وابن مردويه والبيهقي بسند قال المنذري: لا بأس به، وحديث أبي أمامة الباهلي: " أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيء له فأعادها عليه ثلاث مرات يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيء له ثم قال: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتغي به وجهه" 1. رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد. ثم قال: فإن خالط نية الجهاد مثلاً نية غير الرياء مثل أخذ أجرة للخدمة، أو أخذ شيء من الغنيمة، أو التجارة، نقص بذلك أجر جهادهم ولم يبطل بالكلية. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو2 عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الغزاة إذا غنموا غنيمة تعجلوا ثلثي أجرهم، فإن لم يغنموا شيئًا تم لهم أجرهم" 3. قلت: هذا لا يدل على أنهم غزوا لأجلها فلا يدل على ثبوت الأجر لمن غزا يلتمس عرضًا. قال: وقد ذكرنا فيما مضى أحاديث تدل على أن من أراد بجهاده عرضًا من الدنيا أنه لا أجر له، وهي محمولة على أنه لم يكن له غرض في الجهاد إلا الدنيا. قلت: ظاهر حديث أبي هريرة: "أن رجلاً قال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد وهو يبتغي عرضًا من عرض الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أجر له. فأعاد عليه ثلاثًا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا أجر له" 4. رواه أبو داود. يدل على أن نية الجهاد إذا خالطها نية أجرة الخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة لم يكن له أجر، ويحتمل أن يكون معنى: يريد الجهاد أي: يريد سفر الجهاد ولم ينو الجهاد، إنما نوى عرض الدنيا. قال ابن رجب، وقال الإمام أحمد: التاجر والمستأجر والمكاري أجرهم على

_ 1 النسائي: الجهاد (3140) . 2 في الطبعة السابقة: عمر دون الواو وهو خطأ. 3 مسلم: الإمارة (1906) , والنسائي: الجهاد (3125) , وأبو داود: الجهاد (2497) , وابن ماجه: الجهاد (2785) , وأحمد (2/169) . 4 أبو داود: الجهاد (2516) , وأحمد (2/366) .

قدر ما يخلص من نيتهم في غزواتهم، ولا يكونون مثل من جاهد بنفسه، وماله لا يخلط به غيره. وقال أيضًا فيمن يأخذ جعلاً على الجهاد: إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس، كأنه خرج لدينه، فإن أعطي شيئًا أخذه وكذا روي عن عبد الله بن عمرو قال: إذا أجمع أحدكم على الغزو، فعوضه الله رزقًا فلا بأس بذلك. وأما إن أحدكم إن أعطي درهمًا غزا، وإن لم يعط درهمًا لم يغز، فلا خير في ذلك. قلت: هذا يدل على الفرق بين ما كانت نية الدنيا مخالطة له من أول مرة، بحيث تكون هي الباعث له على العمل، أو من جملة ما يبعث عليه، كالذي يلتمس الأجر والذكر، فهذا الأجر له وبين ما كانت النية خالصة لله من أول مرة، ثم عرض له أمر من الدنيا لا يبالي به، سواء حصل له أو لم يحصل، كالذي أجمع على الغزو سواء أعطي أو لم يعط. فهذا لا يضره. ونحوه التجارة في الحج كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} 1. وعلى هذا يُنَزل ما روي عن مجاهد أنه قال في حج الجمال وحج الأجير وحج التاجر: هو تام لا ينقص من أجورهم شيء، أي: لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب. قال: وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأ عليه نية الرياء، فإن كان خاطرًا ودفعه، فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه، فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك، ويجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف، حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن البصري وغيره. ويستدل لهذا القول بما أخرجه أبو داود في مراسيله عن عطاء الخراساني: "أن رجلاً قال: يا رسول الله إن بني سلمة كلهم يقاتل، فمنهم من يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نجدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله [فأيّهم الشّهيد؟] ،قال: كلهم إذًا كان أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا". وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو

_ 1 سورة البقرة آية: 198.

في عمل مرتبط آخره بأوله، كالصلاة والصيام والحج، فأما ما لا ارتباط فيه، كالقراءة والذكر، وإنفاق المال ونشر العلم، فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نية. فأما إذا عمل العمل لله خالصًا، ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين، ففرح بفضل الله ورحمته، واستبشر بذلك; لم يضره. وفي هذا المعنى جاء في حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير، يحمده الناس عليه، فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن" 1. رواه مسلم انتهى ملخصًا. إذا تبين هذا; فقد دل الكتاب والسنة على حبوط العمل بالرياء، وجاء الوعيد بالعذاب عليه، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} 2. والآية بعدها. وروى مسلم في صحيحه حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار: المقاتل ليقال جريء، والمتعلم ليقال عالم، والمتصدق ليقال جواد. فأما ما رواه البزار وابن منده والبيهقي عن معاذ بن جبل مرفوعًا: "من عمل رياء لا يكتب لا له، ولا عليه". ذكره السيوطي في الدر ولم أقف على إسناده فما أظنه يثبت، والكتاب والسنة يدلان على خلافه، بل هو موضوع. [الرياء من الشرك الخفي] قال: وعن أبي سعيد مرفوعًا: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى قال: الشرك الخفي; يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل" 3. رواه أحمد. ش: هذا الحديث رواه أحمد كما قال المصنف، ورواه ابن ماجة، وابن أبي حاتم، والبيهقي، وفيه قصة، ولفظ ابن ماجة والبيهقي: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال ألا أخبركم ... " 4. الحديث وفي سنده

_ 1 مسلم: البر والصلة والآداب (2642) , وابن ماجه: الزهد (4225) , وأحمد (5/156 ,5/168) . 2 سورة هود آية: 15. 3 ابن ماجه: الزهد (4204) , وأحمد (3/30) . 4 ابن ماجه: الزهد (4204) , وأحمد (3/30) .

ضعف1. ومعناه صحيح. وروى ابن خزيمة في صحيحه معناه عن محمود بن لبيد2 قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر. قالوا: يا رسول الله وما شرك السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهدًا لما يرى من نظر الرجل إليه فذلك شرك السرائر". قوله: "عن أبي سعيد"، هو الخدري تقدمت ترجمته. قوله: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال؟ " إنما كان الرياء كذلك، لخفائه وقوة الداعي إليه، وعسر التخلص منه لما يزينه الشيطان، والنفس الأمارة في قلب صاحبه. قوله: "قالوا": بلى. فيه الحرص على العلم، وأن من عرض عليك أن يخبرك بما فيك فلا ينبغي لك رده، بل قابله بالقبول والتعلم. قوله: "قال: الشرك الخفي"، سمي الرياء شركًا خفيًا، لأن صاحبه يظهر أن عمله لله، ويخفي في قلبه أنه لغيره، وإنما تزين بإظهاره أنه لله بخلاف الشرك الجلي. وفي حديث محمود بن لبيد الذي تقدم في باب الخوف من الشرك تسميته بالشرك الأصغر. وعن "شداد بن أوس قال: كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر". رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص، وابن جرير في التهذيب والطبراني والحاكم وصححه. فظاهره أنه من الأصغر مطلقًا، وهو ظاهر قول الجمهور. وقال ابن القيم: وأما الشرك الأصغر; فكيسير الرياء والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت،

_ 1 كلا فإن سنده حسن, وحسنه البوصيري في (الزوائد) . 2 في الطبعة السابقة: "لبيدة" وهو خطأ.

وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا شركًا أكبر بحسب حال قائله ومقصده انتهى. ففسر الشرك الأصغر باليسير من الرياء، فدل على أن كثيره أكبر، وضد الشرك الأكبر والأصغر التوحيد والإخلاص، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة باطنًا وظاهرًا كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1. وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 2 وقال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} 3. وقيل: الإخلاص استواء أحوال العبد في الظاهر والباطن، والرياء أن يكون ظاهره خيرًا من باطنه، أي: لملاحظة الخلق، والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره. قوله: "فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل"4. فسر الشرك الخفي بهذا أن يعمل الرجل العمل لله، لكن يزيد فيه صفة كتحسينه وتطويله ونحو ذلك، لما يرى من نظر رجل، فهذا هو الشرك الخفي، وهو الرياء، والحامل له على ذلك هو حب الرياسة، والجاه عند الناس. قال الطّيْبِي: وهو من أضر غوائل النفس، وبواطن مكائدها، يبتلى به العلماء والعباد، والمشمرون عن ساق الجد لسلوك طريق الآخرة، فإنهم مهما قهروا أنفسهم، وفطموها عن الشهوات، وصانوها عن الشبهات، عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة، الواقعة على الجوارح، فطلبت الاستراحة إلى التظاهر بالخير، وإظهار العلم والعمل، فوجدت مخلصًا من مشقة المجاهدة إلى لذة القبول عند الخلق، ولم تقنع باطلاع الخالق تبارك وتعالى، وفرحت بحمد الناس، ولم تقنع بحمد الله وحده، فأحب مدحهم،

_ 1 سورة الزمر آية: 2-3. 2 سورة الزمر آية: 11. 3 سورة الزمر آية: 14. 4 ابن ماجه: الزهد (4204) , وأحمد (3/30) .

وتبركهم بمشاهدته وخدمته وإكرامه وتقديمه في المحافل، فأصابت النفس في ذلك أعظم اللذات، وأعظم الشهوات. وهو يظن أن حياته بالله تعالى وبعبادته، وإنما حياته هذه الشهوة الخفية التي تعمى عن دركها العقول الناقدة1. قد أثبت اسمه عند الله من المنافقين، وهو يظن أنه عند الله من عباده المقربين. وهذه مكيدة للنفس لا يسلم منها إلا الصديقون، ولذلك قيل: آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة. انتهى كلامه. وفي الحديث من الفوائد شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال، والحذر من الرياء ومن الشرك الأكبر، إذ كان صلى الله عليه وسلم يخاف الرياء على أصحابه مع علمهم وفضلهم، فغيرهم أولى بالخوف.

_ 1 في الطبعة السابقة: (الظاهر) و (يقتنع) و (فأجبت) و (النافذة) .

باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

[31- باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا] قد ظن بعض الناس أن هذا الباب داخل في الرياء، وأن هذا مجرد تكرير فأخطأ، بل المراد بهذا أن يعمل الإنسان عملاً صالحًا يريد به الدنيا كالذي يجاهد للقطيفة والخميلة ونحو ذلك، ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدًا لذلك بخلاف المرائي، فإنه إنما يعمل ليراه الناس ويعظموه، والذي يعمل لأجل الدراهم والقطيفة ونحو ذلك أعقل من المرائي، لأن ذلك عمل لدنيا يصيبها. والمرائي عمل لأجل المدح، والجلالة في أعين الناس، وكلاهما خاسر نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه. قال: وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ... } 1. قال ابن عباس: "من كان يريد الحياة الدنيا أي: ثوابها أي: مآلها وزينتها نوف إليهم: نوفر لهم ثواب أعمالهم

_ 1 سورة هود آية: 15.

بالصحة والسرور في الأهل والمال والولد، وهم فيها لا يبخسون لا ينقصون، ثم نسختها و {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} " رواه النحاس في ناسخه. وقوله: "ثم نسختها"، أي: قيدتها أو خصصتها، فإن السلف كانوا يسمون التقييد والتخصيص نسخًا، وإلا فالآية محكمة. وقال الضحاك: من عمل صالحًا من أهل الإيمان من غير تقوى، عجل له ثواب عمله في الدنيا، واختاره الفراء. قال ابن القيم: وهذا القول أرجح. ومعنى الآية على هذا: من كان يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها. وقالت طائفة: هذه الآية في حق الكفار بدليل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} 1 أي: أنهم لم يعملوا إلا للحياة الدنيا وزينتها. {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} 2. قال بعض المفسرين: أي: وحبط في الآخرة ما صنعوه، أو صنيعهم يعني: لم يكن لهم ثواب، لأنهم لم يريدوا به الآخرة، إنما أرادوا به الدنيا، وقد وفى إليهم ما أرادوا {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3 أي: كان عمله في نفسه باطلاً، لأنه لم يعمل لوجه صحيح، والعمل الباطل لا ثواب له. انتهى. فإن قيل: الآية على القول الأول تقتضي تخليد المؤمن من المريد بعمله الدنيا في النار. قيل: إن الله سبحانه ذكر جزاء من يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها، وهو النار، وأخبر بحبوط عمله وبطلانه، فإذا أحبط ما ينجو به وبطل، لم يبق معه ما ينجيه. فإن كان معه إيمان لم يرد به الحياة الدنيا وزينتها، بل أراد به الله والدار الآخرة، لم يدخل هذا الإيمان في العمل الذي حبط وبطل. ونجاة هذا الإيمان من الخلود في النار، وإن دخلها بحبوط عمله الذي به النجاة المطلقة. فالإيمان إيمانان إيمان: يمنع دخول النار، وهو الإيمان الباعث على أن تكون الأعمال لله وحده يبتغي بها وجهه وثوابه، وإيمان يمنع الخلود في النار، فإن

_ 1 سورة هود آية: 16. 2 سورة هود آية: 16. 3 سورة هود آية: 16.

كان مع المرائي شيء منه، وإلا كان من أهل الخلود، فالآية لها حكم نظائرها من آيات الوعيد. ذكره ابن القيم. وقد سئل شيخ الإسلام المصنف عن معنى هذه الآية فأجاب بما ملخصه: ذكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم، ولا يعرفون معناه. فمن ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وإحسان إلى الناس، وترك ظلم، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان، أو يتركه خالصًا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته، أو حفظه أهله وعياله، أو إدامة النعم عليهم، ولا همة له في طلب الجنة، والهرب من النار، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب. وهذا النوع ذكره ابن عباس. النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكر مجاهد في الآية أنها نزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالاً صالحة، ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة. النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالًا مثل أن يحج لمال يأخذه، لا لله، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر أيضًا هذا النوع في تفسير هذه الآية. وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثيرًا، وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم، لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها، والذين قبلهم عملوا من أجل المدح والجلالة في أعين الناس، ولا يحصل لهم طائل، والنوع الأول أعقل من هؤلاء، لأنهم عملوا لله وحده لا شريك له، لكن لم يطلبوا منه الخير الكثير الدائم وهو الجنة، ولم يهربوا من الشر العظيم وهو النار.

النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصًا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفره كفرًا يخرجه عن الإسلام مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية إذا أطاعوا الله طاعة خالصة، يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم. فهذا النوع أيضًا قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره. وكان السلف يخافون منها، قال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت، لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} 1. ثم قال: بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله طالبًا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالاً قاصدًا بها الدنيا مثل أن يحج فرضه لله، ثم يحج بعده لأجل الدنيا، كما هو واقع، فهو لما غلب عليه منهما. وقد قال بعضهم: القرآن كثيرًا ما يذكر أهل الجنة الخلص، وأهل النار الخلص، ويسكت عن صاحب الشائبتين وهو هذا وأمثاله. انتهى. وقد أجاد وأفاد رحمه الله. وفي الآية من الفوائد أن الشرك محبط للأعمال، وأن إرادة الدنيا وزينتها بالعمل كذلك، وأن الله يجازي الكافر بحسناته، وكذلك طالب الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة. الخامسة شدة الوعيد على ذلك. السادسة الفرق بين الحبوط والبطلان. قال في: الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، وتعس عبد الدرهم، وتعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله

_ 1 سورة المائدة آية: 27.

أشعث رأسه، مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفَّع" 1. قوله: "في الصحيح"، أي: صحيح البخاري. قوله: "تعس عبد الدينار"، هو بكسر العين، ويجوز الفتح، أي: سقط والمراد هنا: هلك، قاله الحافظ. وقال في موضع آخر: وهو ضد سعد، أي: شقي. وقيل معنى التعس: الكبة على الوجه. قال أبو السعادات: يقال: تعس يتعس، إذا عثر، وانكب لوجهه، وهو دعاء عليه بالهلاك. قوله: "تعس عبد الخميصة"، قال أبو السعادات: هو ثوب خز أو صوف معلم. وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وكانت من لباس الناس قديمًا، وجمعها الخمائص. والخميلة بفتح الخاء المعجمة، قال أبو السعادات: الخميل والخميلة: القطيفة، وهي ثوب له خمل من أي شيء كان، وقيل: الخميل الأسود من الثياب. قوله: "تعس وانتكس"، قال الحافظ: هو بالمهملة أي: عاوده المرض. وقال أبو السعادات، أي: انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة، لأن من انتكس في أمره فقد خاب وخسر. وقال الطيبي: وفيه الترقي بالدعاء عليه، لأنه إذا تعس انكب على وجهه، فإذا انتكس انقلب على رأسه بعد أن سقط. قوله: "وإذا شيك"، أي: أصابته شوكة فلا انتقش. قال أبو السعادات، أي: إذا شاكته شوكة، فلا يقدر على انتقاشها، وهو إخراجها بالمنقاش. وقال الحافظ: أي: إذا دخلت فيه شوكة لم يجد من يخرجها بالمنقاش، قال: وفي الدعاء عليه بذلك إشارة إلى عكس مقصوده، لأن من عثر فدخلت في رجله الشوكة، فلم يجد من يخرجها يصير عاجزًا عن السعي والحركة في تحصيل مصالح الدنيا.

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (2887) , والترمذي: الزهد (2375) , وابن ماجه: الزهد (4136) .

وقال الطّيْبِي: المعنى أنه إذا وقع في البلاء لا يترحم عليه، فإن من وقع في البلاء إذا ترحم له الناس ربما هان الخطب عليه، ويتسلى بعض التسلي، وهؤلاء بخلافه، بل يزيد غيظهم بفرح الأعداء أو شماتتهم. فإن قيل: لم سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم؟ قيل: لما كان ذلك هو مقصوده ومطلوبه الذي عمل له، وسعى في تحصيله بكل ممكن حتى صارت نيته مقصورة عليه يغضب ويرضى له صار عبدًا له. قال شيخ الإسلام: فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة، وذكر فيه ما هو دعاء وخبر. وهو قوله: "تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش"، وهذه حال من أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال. وقد وصف ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن منع سخط كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} 1. فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقًا برئاسة أو بصورة، أو نحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده، فهو عبده ... إلى أن قال: وهكذا أيضًا طالب المال فإن ذلك يستعبده ويسترقه. وهذه الأمور نوعان: فمنها ما يحتاج إليه العبد كما يحتاج إلى طعامه وشربه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه فيكون المال عنده، يستعمله في حاجته بمنْزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه من غير أن يستعبدوه فيكون

_ 1 سورة التوبة آية: 58.

هلوعًا. ومنها ما لا يحتاج إليه العبد، فهذه ينبغي أن لا يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها، صار مستعبدًا لها وربما صار مستعبدًا معتمدًا على غير الله فيها، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله، وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، وتعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة" 1. وهذا هو عبد لهذه الأمور، ولو طلبها من الله، فإن الله إذا أعطاه إياه رضي، وإن منعه إياها سخط. وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله فهذا الذي استكمل الإيمان. انتهى ملخصًا. قوله: "طوبى لعبد"، قال أبو السعادات: طوبى اسم الجنة، وقيل: هي شجرة فيها. قلت: قد روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن دراجًا حدثه أن أبا الهيثم حدثه عن أبي سعيد في حديث: "فقال رجل: يا رسول الله وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها" 2. رواه حرملة عنه. ورواه أحمد في مسنده من حديث عتبة بن عبد السلمي "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الحوض وذكر الجنة. ثم قال الأعرابي: "وفيها فاكهة؟ قال: نعم. وفيها شجرة تدعى طوبى ... " 3 الحديث. قال الزجاج: في قوله: طوبى لهم. معناه: العيش الطيب. وقال ابن الأنباري: الحال المستطابة لهم، لأنه فعلى من الطيب، وقيل: معناه هنيئًا بطيب العيش لهم وهذه الأقوال ترجع إلى قول واحد. قوله: "أخذ بعنان فرسه في سبيل الله"، أي: في طريق الجهاد. قوله: "أشعث رأسه"، هو بنصب أشعث صفة لعبد لأنه غير مصروف للصفة ووزن الفعل، ورأسه مرفوع على الفاعلية لأشعث، وهو مغبر الرأس. وفيه فضل إصابة الغبار في سبيل الله.

_ 1 البخاري: الرقاق (6435) , وابن ماجه: الزهد (4136) . 2 أحمد (3/71) . 3 أحمد (4/183) .

قوله: "مغبرة قدماه"، هو كأشعث في الإعراب والمراد به كثرة الغبار له في سبيل الله لكثرة جهاده ومصابرته. قوله: "إن كان في الحراسة". قال بعضهم: هو بكسر الحاء أي: حماية الجيش ومحافظتهم عن أن يهجم عليهم عدوهم. قوله: "كان في الحراسة"، أي: امتثل غير مقصر فيها بالنوم والغفلة ونحوهما. قوله: "وإن كان في الساقة كان في الساقة"، أي: إن جعل في مؤخرة الجيش صار فيها ولزمها. وقال ابن الجوزي: المعنى: أنه خامل الذكر، لا يقصد السمو، فأي موضع اتفق له كان فيه. وقال الخلخالي: المعنى ائتماره لما أمر، وإقامته حيث أقيم لا يفقد من مكانه، وإنما ذكر الحراسة والساقة، لأنهما أشد مشقة وأكثر آفة. قلت: وفيه فضيلة الحرس في سبيل الله. قوله: "إن استأذن لم يؤذن له"، أي: إن استأذن على الأمراء ونحوهم لم يأذنوا له، لأنه ليس بذي جاه ولا يقصد بعمله الدنيا فيطلبها منهم، ويتردد إليهم لأجلها بل هو مخلص لله. قوله: "وإن شَفَّع" بفتح أوله وثانيه مبني للفاعل، ويشفع بتشديد الفاء، مبني للمفعول، والمراد والله أعلم أنه لا يشفع عند الملوك ونحوهم، لعدم جاهه عندهم وعلى تقدير شفاعته إن شفع لم يشفع بل يردّون شفاعته. قال بعضهم: قيل: إن هذا إشارة إلى عدم التفاته إلى الدنيا وأربابها بحيث لا يبتغي مالاً ولا جاهًا عند الناس، بل يكون عند الله وجيهًا ولم يقبل الناس شفاعته، ويكون عند الله شفيعًا مشفعًا، كما في الحديث الذي رواه أحمد [عن أنس بنحوه] ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" 1. وقال الحافظ: فيه ترك حب الرئاسة والشهرة، وفضل الخمول والتواضع.

_ 1 مسلم: البر والصلة والآداب (2622) .

قلت: وفيه أن هذه الأمور ونحوها لا تكون لهوان المؤمن على الله بل لكرامته، وفيه الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات. قاله المصنف.

باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله

[32- باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله] [لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق] ش: لما كانت الطاعة من أنواع العبادة بل هي العبادة فإنها طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة رسله عليهم السلام ; نبه المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة على وجوب اختصاص الخالق تبارك وتعالى بها، وأنه لا يطاع أحد من الخلق إلا حيث كانت طاعته مندرجة تحت طاعة الله وإلا فلا تجب طاعة أحد من الخلق استقلالاً. والمقصود هنا الطاعة الخاصة في تحريم الحلال أو تحليل الحرام، فمن أطاع مخلوقًا في ذلك غير الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينطق عن الهوى، فهو مشرك كما بينه الله تعالى في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} 1 أي: علماءهم {أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2. وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم بطاعتهم في تحريم الحلال، وتحليل الحرام كما سيأتي في حديث عدي. فإن قيل: قد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} 3. قيل: هم العلماء، وقيل: هم الأمراء وهما روايتان عن أحمد. قال ابن القيم: والتحقيق بأن الآية تعم الطائفتين. قيل: إنما تجب طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله وطاعة رسوله، فكان العلماء مبلغين لأمر الله وأمر رسوله، والأمراء منفذين له، فحينئذ تجب طاعتهم تبعًا لطاعة الله ورسوله كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة في معصية إنما الطاعة في المعروف" 4. وقال: "على المرء المسلم

_ 1 سورة التوبة آية: 31. 2 سورة التوبة آية: 31. 3 سورة النساء آية: 59. 4 البخاري: أخبار الآحاد (7257) , ومسلم: الإمارة (1840) , والنسائي: البيعة (4205) , وأبو داود: الجهاد (2625) , وأحمد (1/82 ,1/94 ,1/124) .

السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" 1. حديثان صحيحان فليس في هذه الآية ما يخالف آية براءة. قال: "وقال ابن عباس: "يوشك أن تنْزل عليكم حجارة من السماء. أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر". ش: قوله: "يوشك"، بضم أوله وكسر الشين المعجمة. قال أبو السعادات أي: يقرب ويدنو ويسرع، وهذا الكلام قاله ابن عباس لمن ناظره في متعة الحج. وكان ابن عباس يأمر بها، فاحتج عليه المناظر بنهي أبي بكر وعمر عنها، أي: هما أعلم منك وأحق بالاتباع. فقال هذا الكلام الصادر عن محض الإيمان وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وإن خالفه من خالفه كائنًا من كان، كما قال الشافعي: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد. فإذا كان هذا كلام ابن عباس لمن عارضه بأبي بكر وعمر وهما [هما] 2 فماذا تظنه يقول لمن يعارض سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بإمامه وصاحب مذهبه الذي ينتسب إليه؟ ويجعل قوله عيارًا على الكتاب والسنة، فما وافقه قبله، وما خالفه رده، أو تأوله فالله المستعان. وما أحسن ما قال بعض المتأخرين: فإن جاءهم فيه الدليل موافقًا ... لما كان للآبا إليه ذهاب. رضوه وإلا قيل: هذا مؤول ... ويركب للتأويل فيه صعاب. ولا ريب أن هذا داخل في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ} 3. [التحذير من مخالفة الرسول] قال المصنف، وقال أحمد بن حنبل: عجبت لقوم عرفوا الإسناد

_ 1 البخاري: الأحكام (7144) , ومسلم: الإمارة (1839) , والترمذي: الجهاد (1707) , وأبو داود: الجهاد (2626) , وابن ماجه: الجهاد (2864) , وأحمد (2/17 ,2/142) . 2 سقطت من الطبعة السابقة. 3 سورة التوبة آية: 31.

وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} 1. أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. ش: هذا الكلام عن أحمد رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب. قال الفضل عن أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاثة وثلاثين موضعًا، ثم جعل يتلو: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} 2 الآية وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة إلا الشرك لعله إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه، فيهلكه وجعل يتلو هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 3. وقال أبو طالب عن أحمد وقيل له: إن قومًا يدعون الحديث، ويذهبون إلى رأي سفيان؟ فقال: أعجب4. لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره. قال الله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 5. وتدري ما الفتنة؟ الكفر قال الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} 6. فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي. ذكر ذلك شيخ الإسلام. قلت: وكلام أحمد في ذمه التقليد وإنكار تأليف كتب الرأي كثير مشهور. قوله: "عرفوا الإسناد"، أي: إسناد الحديث وصحته، أي: صحة الإسناد وصحته دليل على صحة الحديث. قوله: "يذهبون إلى رأي سفيان"، أي: الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه، وكان له أصحاب ومذهب مشهور فانقطع.

_ 1 سورة النور آية: 63. 2 سورة النور آية: 63. 3 سورة النساء آية: 65. 4 في الطبعة السابقة: أعجبت. 5 سورة النور آية: 63. 6 سورة البقرة آية: 217.

ومراد أحمد الإنكار على من يعرف إسناد الحديث وصحته، ثم بعد ذلك يقلد سفيان أو غيره، ويعتذر بالأعذار الباطلة إما بأن الأخذ بالحديث اجتهاد والاجتهاد انقطع منذ زمان، وإما بأن هذا الإمام الذي قلدته أعلم مني، فهو لا يقول إلا بعلم، ولا يترك هذا الحديث مثلاً إلا عن علم، وإما بأن ذلك اجتهاد، ويشترط في المجتهد أن يكون عالمًا بكتاب الله عالمًا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وناسخ ذلك ومنسوخه، وصحيح السنة وسقيمها، عالمًا بوجوه الدلالات، عالمًا بالعربية والنحو والأصول، ونحو ذلك من الشروط التي لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كما قاله المصنف، فيقال له: هذا إن صح، فمرادهم بذلك المجتهد المطلق، أما أن يكون ذلك شرطًا في جواز العمل بالكتاب والسنة، فكذب على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أئمة العلماء، بل الفرض والحتم على المؤمن إذا بلغه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلم معنى ذلك في أي شيء كان أن يعمل به ولو خالفه من خالفه، فبذلك أمرنا ربنا تبارك وتعالى ونبينا صلى الله عليه وسلم وأجمع على ذلك العلماء قاطبة إلا جهال المقلدين وجفاتهم، ومثل هؤلاء ليسوا من أهل العلم1 كما حكى الإجماع على أنهم ليسوا من أهل العلم أبو عمر بن عبد البر وغيره قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 2. وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 3. فشهد تعالى لمن أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بالهداية، وعند جفاة المقلدين أن من أطاعه صلى الله عليه وسلم ليس بمهتد إنما المهتدي من عصاه، وعدل عن أقواله، ورغب عن سنته إلى مذهب أو شيخ ونحو ذلك، وقد وقع في هذا التقليد المحرم خلق كثير ممن يدعي العلم والمعرفة بالعلوم، ويصنف التصانيف في

_ 1 في الطبعة السابقة: زيادة كلمة "منهم". 2 سورة الأعراف آية: 3. 3 سورة النور آية: 54.

الحديث والسنن، ثم بعد ذلك تجده جامدًا على أحد هذه المذاهب، ويرى الخروج عنها من العظائم. وفي كلام أحمد إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم، إنما المذموم المنكر الحرام الإقامة على ذلك بعد بلوغ الحجة، نعم وينكر الإعراض عن كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإقبال على تعلم الكتب المصنفة في الفقه استغناء بها عن الكتاب والسنة، بل إن قرؤوا شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنما يقرءون تبركًا لا تعلمًا وتفقهًا، أو لكون بعض الموقفين وقف على من قرأ البخاري مثلاً، فيقرؤونه لتحصيل الوظيفة لا لتحصيل الشريعة، فهؤلاء من أحق الناس بدخولهم في قول الله تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} 1. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ... } 2 إلى قوله: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} 3. فإن قلت: فماذا يجوز للإنسان من قراءة هذه الكتب المصنفة في المذاهب؟ قيل: يجوز من ذلك قراءتها على سبيل الاستعانة بها على فهم الكتاب والسنة، وتصوير المسائل، فتكون من نوع الكتب الآلية، أما أن تكون هي المقدمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحاكمة بين الناس فيما اختلفوا فيه، المدعو إلى التحاكم إليها دون التحاكم إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم فلا ريب أن ذلك مناف للإيمان مضاد له كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 4. فإذا كان التحاكم عند المشاجرة إليها دون الله ورسوله، ثم إذا5 قضى الله ورسوله أمرًا وجدت الحرج في نفسك، وإن قضى أهل الكتاب بأمر لم تجد حرجًا، ثم إذا قضى الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر لم تسلم له، وإذا

_ 1 سورة طه آية: 99-101. 2 سورة طه آية: 124. 3 سورة طه آية: 127. 4 سورة النساء آية: 65. 5 في الطبعة السابقة: "إنما" بدل "إذا".

قضوا بأمر سلمت له، فقد أقسم الله تعالى سبحانه وهو أصدق القائلين بأجل مقسم به، وهو نفسه تبارك وتعالى أنك لست بمؤمن والحالة هذه وبعد ذلك، فقد قال الله تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ، [سورة القيامة، الآيتان: 1415-] . على أن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم، قد نهوا عن تقليدهم مع ظهور السنة. كلام أحمد الذي ذكره المصنف كاف عن تكثير النقل عنه. وقال أبو حنيفة: "إذا جاء الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين، فنحن رجال وهم رجال". وفي روضة العلماء سئل أبو حنيفة إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لكتاب الله، قيل: إذا كان قول الرسول يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لقول الصحابة، فلم يقل: هذا الإمام ما يدعيه جفاة المقلدين له أنه لا يقول قولاً يخالف كتاب الله، حتى أنزلوه بمنْزلة المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى. وروى البيهقي في السنن عن الشافعي أنه قال: "إذا قلت قولاً وكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي فما يصح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى فلا تقلدوني". وقال الربيع: "سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت". وتواتر عنه أنه قال: "إذا صح الحديث أي: بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط".

وقال مالك: "كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم". وكلام الأئمة مثل هذا كثير. فخالف المقلدون ذلك، وجمدوا على ما وجدوه في الكتب المذهبية، سواء كان صوابًا أم خطأ مع أن كثيرًا من هذه الأقوال المنسوبة إلى الأئمة ليست أقوالاً لهم منصوصًا عليها، وإنما هي تفريعات ووجوه واحتمالات وقياس على أقوالهم، ولسنا نقول: إن الأئمة على خطأ، بل هم إن شاء الله على هدى من ربهم، وقد قاموا بما أوجب الله عليهم من الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته، ولكن العصمة منتفية عن غير الرسول، فهو الذي {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ، [سورة النّجم، الآيتان: 3-4] . فما العذر في اتباعهم وترك اتباع الذي لا ينطق عن الهوى؟! قوله: "لعله"، أي: لعل الإنسان الذي تصح عنده سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "إذا رد بعض قوله"، أي: قول النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك". هذا تنبيه على أن رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لزيغ القلب الذي هو سبب الهلاك في الدنيا والآخرة، فإذا كانت إساءة الأدب معه في الخطاب سببًا لحبوط الأعمال كما قال تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} 1. فما ظنك برد أحكامه وسنته لقول أحد من الناس كائنًا من كان؟. قال شيخ الإسلام: فإذا كان المخالف عن أمره قد حذر من الكفر والشرك، أو من العذاب الأليم، دل على أنه قد يكون مفضيًا إلى الكفر والعذاب الأليم، ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب هو مجرد فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما يقترن به من استخفاف بحق الآمر، كما فعل إبليس لعنه الله. فإذا علمت أن المخالفة عن أمره صلى الله عليه وسلم سبب للفتنة، التي هي

_ 1 سورة الحجرات آية: 2.

الشرك والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، علمت أن من رد قوله وخالف أمره لقول أبي حنيفة، أو مالك أو غيرهما، لهم النصيب الكامل، والحظ الوافر من هذه الآية، وهذا الوعيد على مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم وقد استدل بهذه الآية كثير من العلماء على أن أصل الأمر للوجوب حتى يقوم دليل على استحبابه. قال: عن "عدي بن حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، [التّوبة، من الآية: 31] ، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت بلى قال: فتلك عبادتهم" 1. رواه أحمد2 والترمذي وحسنه. ش: هذا الحديث قد روي من طرق3. فرواه ابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن جرير وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في السنن وفيه قصة اختصرها المصنف. قوله: "عن عدي بن حاتم"، أي: الطائي المشهور وهو ابن عبد الله ابن سعد بن الحشرج بفتح المهملة وسكون المعجمة وآخره

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن (3095) . 2 عزو الحديث لأحمد عند الإطلاق يراد به المسند وهذا الحديث ليس في مسنده, والسيوطي في "الدر المنثور" 3/ 230 لم يعزه إليه مع أنه عزاه إلى من هو دون أحمد كما نقل عنه الشارح. 3 للحديث طريق واحد فقط أخرجه الترمذي (3094) وابن جرير (16631) و (16632) و (16633) عن غطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم, وغطيف ضعيف, وقال الترمذي; هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب وغطيف بن أعين ليس بالمعروف في الحديث, أقول: لكن له شاهد موقوف من حديث حذيفة عند ابن جرير (16634) بنحوه ربما يتقوى به. [وقد جزم الشّيخ الألباني رحمه الله بحسنه] .

جيم، مات مشركًا وعدي يكنى أبا طريف بفتح المهملة صحابي شهير، حسن الإسلام، مات سنة ثمان وستين وله مائة وعشرون سنة. قوله: "فقلت: إنا لسنا نعبدهم"، عن ظن عدي أن العبادة المراد بها التقرب إليهم بأنواع العبادة، من السجود والذبح والنذر ونحو ذلك فقال: إنا لسنا نعبدهم. قوله: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ... " إلى آخره. صرح صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأن عبادة الأحبار والرهبان هي طاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام، وهو طاعتهم في خلاف حكم الله ورسوله. قال شيخ الإسلام: وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وعكسه يكونون على وجهين. أحدهما: أنهم يعلمون أنهم بدلوا دين الله، فيتبعونهم على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله اتباعًا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركًا وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون. الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال، وتحليل الحرام ثابتًا، لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الطاعة في المعروف" 1. ثم نقول: اتباع هذا المحلل للحرام والمحرم للحلال إن كان مجتهدًا قصده اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه. ولكن من علم أن هذا الخطأ

_ 1 صحيح البخاري: كتاب الأحكام (7145) وكتاب أخبار الآحاد (7257) , وصحيح مسلم: كتاب الإمارة (1840) , وسنن النسائي: كتاب البيعة (4205) , وسنن أبي داود: كتاب الجهاد (2625) , ومسند أحمد (1/82 ,1/94 ,1/124) .

فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم فله نصيب من الشرك الذي ذمه الله، لا سيما إن اتبعه في ذلك لهواه ونصره باللسان واليد مع علمه بأنه مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه، ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز تقليد أحد في خلافه، وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزًا عن معرفة الحق على التفصيل، وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد، فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة. وأما إن قلد شخصًا دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن الحق معه، فهذا من أهل الجاهلية، فإن كان متبوعه مصيبًا لم يكن عمله صالحًا، وإن كان متبوعه مخطئًا، كان آثمًا كمن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ، فليتبوأ مقعده من النار. انتهى ملخصًا. قال المصنف: وفيه تغير الأحوال إلى هذه الغاية [حتّى] صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ويسمونها الولاية. وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين. قوله: "صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال". يشير إلى ما يعتقده كثير من الناس فيمن ينتسب إلى الولاية من الضر والنفع، والعطاء والمنع، ويسمون ذلك الولاية والسر ونحو ذلك وهو الشرك. قوله: "وعبادة الأحبار هي العلم والفقه"، أي: هي التي تسمى اليوم العلم والفقه المؤلف على مذاهب الأئمة ونحوهم، فيطيعونهم في كل ما يطيعونك سواء وافق حكم الله أم خالفه، بل لا يعبؤون بما خالف ذلك من كتاب وسنة، بل يريدون كلام الله وكلام رسوله لأقوال من قلدوه، ويصرحون بأنه لا يحل العمل بكتاب ولا سنة، وأنه لا يجوز تلقي العلم والهدى منهما، وإنما الفقه والهدى عندهم

هو ما وجدوه في هذه الكتب. بل أعظم من ذلك وأطم رمي كثير منهم كلام الله وكلام رسوله بأنه لا يفيد العلم ولا اليقين في باب معرفة أسماء الله وصفاته وتوحيده، ويسمونها ظواهر لفظية، ويسمون ما وضعه الفلاسفة المشركون القواطع العقلية، ثم يقدِّمونها في باب الأسماء والصفات والتوحيد على ما جاء من عند الله، ثم يرمون من خرج عن عبادة الأحبار والرهبان إلى طاعة رب العالمين، وطاعة رسوله وتحكيم ما أنزل الله في موارد النّزاع بالبدعة أو الكفر. قوله: "ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من ليس من الصالحين"، وذلك كاعتقادهم في كثير ممن ينتسب إلى الولاية من الفساق والمجاذيب. وقوله: "وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين"، وذلك كاعتقادهم العلم في أناس من جهلة المقلدين فيحسنون لهم البدع والشرك فيطيعونهم، ويظنون أنهم علماء مصلحون {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} 1.

_ 1 سورة البقرة آية: 12.

باب قول الله تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يض

[33- باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ... } 1] . ش: لما كان التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله مشتملاً على الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم مستلزمًا له، وذلك هو الشهادتان، ولهذا جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم ركنًا واحدًا في قوله: "بني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا

_ 1 سورة النساء آية: 60.

رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا" 1. نبه في هذا الباب على ما تضمنه التوحيد، واستلزمه من تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النّزاع، إذ هذا هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، ولازمها الذي لا بد منه لكل مؤمن، فإن من عرف أن لا إله إلا الله، فلا بد من الانقياد لحكم الله والتسليم لأمره الذي جاء من عنده على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. فمن شهد أن لا إله إلا الله، ثم عدل إلى تحكيم غير الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النّزاع، فقد كذب في شهادته. وإن شئت قلت: لما كان التوحيد مبنيًا على الشهادتين، إذ لا تنفك إحداهما عن الأخرى لتلازمهما، وكان ما تقدم من هذا الكتاب في معنى شهادة أن لا إله إلا الله التي تتضمن حق الله على عباده، نبه في هذا الباب على معنى شهادة أن محمدًا رسول الله، التي تتضمن حق الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها تتضمن أنه عبد لا يعبد، ورسول صادق لا يكذب، بل يطاع ويتبع، لأنه المبلغ عن الله تعالى. فله عليه الصلاة والسلام منصب الرسالة، والتبليغ عن الله، والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، إذ هو لا يحكم إلا بحكم الله ومحبته على النفس، والأهل والمال والوطن، وليس له من الإلهية شيء، بل هو عبد الله ورسوله كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} 2 وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" 3. ومن لوازم ذلك متابعته وتحكيمه في موارد النّزاع، وترك التحاكم إلى غيره، كالمنافقين الذين يدعون الإيمان به، ويتحاكمون إلى غيره، وبهذا يتحقق العبد بكمال التوحيد وكمال المتابعة، وذلك هو كمال سعادته، وهو معنى الشهادتين. إذا تبين هذا فمعنى الآية المترجم لها: أن الله تبارك وتعالى أنكر على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله، وعلى الأنبياء

_ 1 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/26 ,2/92 ,2/120 ,2/143) . 2 سورة الجن آية: 19. 3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47) .

قبله، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر المصنف في سبب نزولها. قال ابن القيم: والطاغوت: كل من تعدى به حده من الطغيان وهو مجاوزة الحد، فكل ما تحاكم إليه متنازعان غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو طاغوت إذ قد تعدى به حده. ومن هذا كل من عبد شيئًا دون الله فإنما عبد الطاغوت، وجاوز بمعبوده حده فأعطاه العبادة التي لا تنبغي له، كما أن من دعا إلى تحكيم غير الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد دعا إلى تحكيم الطاغوت. وتعلل تصديره سبحانه الآية منكرًا لهذا التحكيم على من زعم أنه قد آمن بما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى من قبله ثم هو مع ذلك يدعو إلى تحكيم غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويتحاكم إليه عند النّزاع وفي ضمن قوله: يزعمون نفي لما زعموه من الإيمان، ولهذا لم يقل: ألم تر إلى الذين آمنوا، فإنهم لو كانوا من أهل الإيمان حقيقة لم يريدوا أن يتحاكموا إلى غير الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولم يقل فيهم يزعمون فإن هذا إنما يقال غالبًا لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب، أو منَزل منْزلة الكاذب، لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها. قال ابن كثير: والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت ههنا. وقوله تعالى: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} 1. أي بالطاغوت وهو دليل على أن التحاكم إلى الطاغوت مناف للإيمان مضاد له، فلا يصح الإيمان إلا بالكفر به، وترك التحاكم إليه فمن لم يكفر بالطاغوت لم يؤمن بالله. وقوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} 2. أي: لأن إرادة التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من طاعة الشيطان، وهو إنما يدعو أحزابه ليكونوا من أصحاب السعير. وفي الآية دليل على أن ترك التحاكم إلى الطاغوت، الذي هو ما سوى

_ 1 سورة النساء آية: 60. 2 سورة النساء آية: 60.

الكتاب والسنة من الفرائض وأن التحاكم إليه غير مؤمن بل ولا مسلم. وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} 1. أي: إذا دُعوا إلى التحاكم إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أعرضوا إعراضًا مستكبرين كما قال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} 2 قال ابن القيم: هذا دليل على أن من دعي إلى تحكيم الكتاب والسنة، فلم يقبل، وأبى ذلك أنه من المنافقين. ويصدون هنا لازم لا متعد، وهو بمعنى يعرضون، لا بمعنى يمنعون غيرهم، ولهذا أتى مصدره على صدوداً، ومصدر المتعدي صدًّا. فإذا كان المعرض عن ذلك قد حكم الله سبحانه بنفاقهم، فكيف بمن ازداد إلى إعراضه منع الناس من تحكيم الكتاب والسنة، والتحاكم إليهما بقوله وعمله وتصانيفه؟! ثم يزعم مع ذلك أنه إنما أراد الإحسان والتوفيق؛ الإحسان في فعله ذلك، والتوفيق بين الطاغوت الذي حكمه، وبين الكتاب والسنة. قلت: وهذا حال كثير ممن يدعي العلم والإيمان في هذه الأزمان، إذا قيل لهم: تعالوا نتحاكم إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيتهم يصدون وهم مستكبرون، ويعتذرون أنهم لا يعرفون ذلك، ولا يعقلون، بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون. وقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} 3.قال ابن كثير: أي: فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في المصائب بسبب ذنوبهم، واحتاجوا إليك في ذلك. وقال ابن القيم قيل: المصيبة فضيحتهم إذا أنزل القرآن بحالهم،

_ 1 سورة النساء آية: 61. 2 سورة النور آية: 48. 3 سورة النساء آية: 62.

ولا ريب أن هذا أعظم المصيبة والإضرار فالمصائب التي تصيبهم بما قدمت أيديهم في أبدانهم وقلوبهم وأديانهم بسبب مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام، أعظمها مصائب القلب والدين، فيرى المعروف منكرًا، والهدى ضلالاً، والرشاد غيًّا، والحق باطلاً، والصلاح فسادًا، وهذا من المصيبة التي أصيب بها في قلبه، وهو الطبع الذي أوجبه مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحكيم غيره، قال سفيان الثوري في قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} 1. قال: هي أن تطبع على قلوبهم. وقوله تعالى: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} 2. قال ابن كثير: أي: يعتذرون ويحلفون إن أردنا بذهابنا إلى غيرك إلا الإحسان والتوفيق، أي: المداراة والمصانعة. وقال غيره: إلا إحسانًا، أي: لا إساءة، وتوفيقًا، أي: بين الخصمين، ولم نرد مخالفة لك، ولا تسخطًا لحكمك. قلت: فإذا كان هذا حال المنافقين يعتذرون عن أمرهم، ويلبسونه لئلا يظن أنهم قصدوا المخالفة لحكم النبي صلى الله عليه وسلم أو التسخط، فكيف بمن يصرح بما كان المنافقون يضمرونه حتى يزعم أنه من حكم الكتاب والسنة في موارد النّزاع، فهو إما كافر وإما مبتدع ضال!؟ وفعل المنافقين الذي ذكره الله عنهم في هذه الآية هو بعينه الذي يفعله المحرفون للكلم عن مواضعه الذين يقولون: إنما قصدنا التوفيق بين القواطع العقلية بزعمهم التي هي الفلسفة والكلام، وبين الأدلة النقلية، ثم يجعلون الفلسفة التي هي سفاهة وضلالة الأصل، ويردون بها ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والحكمة، زعموا أن ذلك يخالف الفلسفة التي يسمونها القواطع، فتطلبوا له وجوه التأويلات البعيدة، وحملوه على شواذ اللغة التي لا تكاد تعرف. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} 3.

_ 1 سورة النور آية: 63. 2 سورة النساء آية: 62. 3 سورة النساء آية: 63.

قال ابن كثير: أي: هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله أعلم بما في قلوبهم، وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتف به يا محمد فيهم، فإنه عالم ببواطنهم وظواهرهم. وقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} 1. قال ابن القيم: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم فيهم بثلاثة أشياء: أحدها: الإعراض عنهم إهانة لهم، وتحقيرًا لشأنهم، وتصغيرًا لأمرهم لا إعراض متاركة وإهمال، وبهذا يعلم أنها غير منسوخة. الثاني: قوله: وعظهم وهو تخويفهم عقوبة الله وبأسه ونقمته إن أصروا على التحاكم إلى غير رسوله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه. الثالث: قوله: وقل لهم في أنفسهم قولًا بليغًا، أي: يبلغ تأثيره إلى قلوبهم ليس قولاً لينًا لا يتأثر به المقول له، وهذه المادة تدل على بلوغ المراد بالقول، فهو قول يبلغ به مراد قائله من الزجر والتخويف ويبلغ تأثيره إلى نفس المقول له، ليس هو كالقول الذي يمر على الأذن صفحًا. وهذا القول البليغ يتضمن ثلاثة أمور: أحدها: عظم معناه، وتأثر النفوس به. الثاني: فخامة ألفاظه وجزالتها. الثالث: كيفية القائل في إلقائه إلى المخاطب فإن القول كالسهم، والقلب كالقوس الذي يدفعه وكالسيف، والقلب كالساعد الذي يضرب به. وفي متعلق قوله: {فِي أَنْفُسِهِمْ} قولان: أحدهما: بقوله {بَلِيغاً} أي: قولاً بليغًا في أنفسهم، وهذا حسن من جهة المعنى، ضعيف من جهة الإعراب، لأن صفة الموصوف لا تعمل فيما قبلها. والقول الثاني: أنه متعلق بقل وفي المعنى على هذا قولان: أحدهما: قل لهم في أنفسهم خاليًا بهم ليس معهم غيرهم بل

_ 1 سورة النساء آية: 63.

مسرًّا لهم النصيحة. والثاني: أن معناه قل لهم في معنى أنفسهم، كما يقال: قل لفلان في كيت وكيت، أي: في ذلك المعنى. قلت: وهذا القول أحسن. ثم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1. قال ابن كثير: أي: إنما فرضت طاعته على من أرسله إليهم. وقال ابن القيم: هذا تنبيه على جلالة منصب الرسالة، وعظم شأنها، وأنه سبحانه لم يرسل رسله عليهم الصلاة والسلام إلا ليطاعوا بإذنه، فتكون الطاعة لهم لا لغيرهم، لأن طاعتهم طاعة مرسلهم، وفي ضمنه أن من كذب رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم فقد كذب الرسل. والمعنى أنك واحد منهم تجب طاعتك، وتتعين عليهم كما وجبت طاعة من قبلك من المرسلين، فإن كانوا قد أطاعوهم كما زعموا وآمنوا بهم، فما لهم لا يطيعونك، ويؤمنون بك؟! والإذن ههنا هو الإذن الأمري لا الكوني، إذ لو كان إذنًا كونيًا قدريًا لما تخلفت طاعتهم، وفي ذكره نكتة وهي أنه بنفس إرساله تتعين طاعته، وإرساله نفسه إذن في طاعته، فلا تتوقف على نص آخر سوى الإرسال بأمر فيه بالطاعة، بل متى تحققت رسالته، وجبت طاعته. فرسالته نفسها متضمنة للإذن في الطاعة. ويصح أن يكون الإذن ههنا إذنًا كونيًا قدريًا، ويكون المعنى: ليطاع بتوفيق الله وهدايته، فتضمن الآية الأمرين الشرع والقدر، ويكون فيها دليل على أن أحدًا لا يطيع رسله إلا بتوفيقه وإرشاده وهدايته، وهذا حسن جدًّا. والمقصود أن الغاية من الرسل هي طاعتهم ومتابعتهم، فإذا كانت الطاعة والمتابعة لغيرهم، لم تحصل الفائدة المقصودة من إرسالهم. وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} 2. قال ابن القيم: لما علم سبحانه أن المرسل إليهم لا بد لهم من ظلم لأنفسهم، واتباع لأهوائهم، أرشدهم إلى ما يدفع عنهم شر ذلك

_ 1 سورة النساء آية: 64. 2 سورة النساء آية: 64.

الظلم وموجبه، وهو شيئان: أحدهما: منهم، وهو استغفارهم ربهم عزّ وجل. والثاني: من غيرهم وهو استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم إذا جاءوه، وانقادوا له، واعترفوا بظلمهم، فمتى فعلوا ذلك وجدوا الله توابًا رحيمًا يتوب عليهم فيمحو أثر سيئاتهم ويقيهم شرها، ويزيدهم مع ذلك رحمته وبره وإحسانه. فإن قلت: فما حظ من ظلم نفسه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية؟ وهل كلام بعض الناس في دعوى المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم والاستغفار عنده، والاستشفاع به، والاستدلال بهذه الآية على ذلك صحيح أم لا؟ . قيل: أما حظ من ظلم نفسه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية فالاستغفار، وأن يتوب إلى الله توبة نصوحًا في كل زمان ومكان، ولا يشترط في صحة التوبة المجيء إلى قبره، والاستغفار عنده بالإجماع. وأما المجيء إلى قبره، والاستغفار عنده، والاستشفاع به، والاستدلال بالآية على ذلك، فهو استدلال على ما لا تدل الآية عليه بوجه من وجوه الدلالات، لأنه ليس في الآية إلا المجيء إليه صلى الله عليه وسلم لا المجيء إلى قبره، واستغفاره لهم، لاستشفاعهم به بعد موته، فعلم أن ذلك باطل، يوضح ذلك أن الصحابة الذين هم أعلم الناس بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما فهموا هذا من الآية، فعلم أن ذلك بدعة. وأكثر ما استدل به من أجاز ذلك رواية العتبي عن أعرابي مجهول على أن القصة لا نعلم لها إسنادًا. ومثل هذا لو كان حديثًا، أو أثرًا عن صحابي لم يجز الاحتجاج به، ولم يلزمنا حكمه لعدم صحته، فكيف يجوز الاحتجاج في هذا بقصة لا تصح عن بدوي لا يعرف؟!. ثم قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 1. قال ابن القيم: أقسم سبحانه بأجل مقسم به، وهو نفسه عزّ وجل

_ 1 سورة النساء آية: 65.

على أنه لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله حتى يحكم لرسوله صلى الله عليه وسلم في جميع موارد النّزاع، وفي جميع أبواب الدين فإن لفظة "ما" من صيغ العموم، ولم يقتصر على هذا حتى ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه، بحيث لا يجدون في أنفسهم حرجًا، وهو الضيق والحصر من حكمه، بل يقبلون حكمه بالانشراح، ويقابلونه بالقبول، لا يأخذونه على إغماض، و] لا] 1 يشربونه على قَذَى، فإن هذا مناف للإيمان، بل لا بد أن يكون أخذه بقبول ورضى، وانشراح صدر. ومتى أراد العبد شاهدًا فلينظر في حاله، ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها {بَلِ الأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} 2، فسبحان الله! كم من حزازة في نفوس كثير من النصوص، وبودهم أن لو لم ترد، وكم من حرارة في أكبادهم منها، وكم من شجى في حلوقهم من موردها، ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3 فذكر الفعل مؤكدًا له بالمصدر القائم مقام ذكره مرتين، وهو الخضوع والانقياد لما حكم به طوعًا ورضى وتسليما، لا قهرًا أو مصابرة، كما يسلم المقهور لمن قهره كرهًا، بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليماته. انتهى. وقد ورد في "الصحيح" أن سبب نزولها قصة الزبير لما اختصم هو والأنصاري في شراج الحرة، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا كان سبب نزولها مخاصمة في مسيل ماء قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضاء، فلم يرضه الأنصاري،

_ 1 سقطت لا من الطبعة السابقة. 2 سورة القيامة آية: 14-15. 3 سورة النساء آية: 65.

فنفى تعالى عنه الإيمان بذلك، فما ظنك بمن لم يرض بقضائه صلى الله عليه وسلم وأحكامه في أصول الدين وفروعه؟! بل إذا دعوا إلى ذلك تولوا وهم معرضون، ولم يكفهم ذلك حتى صدوا الناس عنه، ولم يكفهم ذلك حتى كفروا، أو بدعوا من اتبعه صلى الله عليه وسلم وحكَّمه في أصول الدين وفروعه، ورضي بحكمه في ذلك، ولم يبغ عنه حولاً. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} 1.المعنى والله أعلم أي: لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل {مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} 2. وهذا توبيخ لمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد الشجار، أي: نحن لم نكتب عليهم ذلك، بل إنما أوجبنا عليهم ما في وسعهم، فما لهم لا يحكمونك، ولا يرضون بحكمك؟! . ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} 3. قال ابن القيم: "أخبر تعالى أنهم لو فعلوا ما يعظهم به، وهو أمره ونهيه المقرون بوعده ووعيده لكان فعل أمره، وترك نهيه خيرًا لهم في دينهم ودنياهم، وأشد تثبيتًا لهم على الحق، وتحقيقًا لإيمانهم، وقوة لعزائمهم وإراداتهم، وثباتًا لقلوبهم عند جيوش الباطل، وعند واردات الشبهات المضلة، والشهوات المردية. فطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هي سبب ثبات القلب، وقوته قوة عزائمه وإراداته، ونفاذ بصيرته، وهذا دليل على أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تثمر الهداية، وثبات القلب عليها، ومخالفته تثمر زيغ القلب، واضطرابه، وعدم ثباته". ثم قال تعالى: {وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ

_ 1 سورة النساء آية: 66. 2 سورة النساء آية: 66. 3 سورة النساء آية: 66-68.

صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} 1، فهذه أربعة أنواع من الجزاء المرتب على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم: أحدها: حصول الخير المطلق بها. الثاني: التثبت والقوة المتضمن للنصر والغلبة. والثالث: حصول الأجر العظيم لهم في الآخرة. والرابع: هدايتهم الصراط المستقيم. وهذه الهداية هي هداية ثانية أوجبتها طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فطاعته صلى الله عليه وسلم ثمرة الهداية السابقة عليها فهي محفوفة بهدايتين: هداية قبلها وهي سبب الطاعة، وهداية بعدها هي ثمرة لها، وهذا يدل على انتفاء هذه الأمور الأربعة عند انتفاء طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 2. قال ابن القيم: "فأخبر سبحانه أن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم توجب مرافقة المنعم عليهم، وهم أهل السعادة الكاملة، وهم أربعة أصناف: النبيون وهم أفضلهم ثم الصديقون وهم بعدهم في الدرجة، ثم الشهداء، ثم الصالحون فهؤلاء المنعم عليهم النعمة التامة وهم السعداء الفائزون، ولا فلاح لأحد إلا بموافقتهم، والكون معهم، ولا سبيل إلى مرافقتهم إلا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا سبيل إليها إلا بمعرفة سنته وما جاء به فدل على أن من عدم العلم بسنته وما جاء به، فليس له إلى مرافقة هؤلاء سبيل، بل هو ممن يعض على يديه يوم القيامة، ويقول: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} ، [الفرقان، من الآية: 27] ". قلت: ما لمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النّزاع إلى مرافقة هؤلاء المنعم عليهم سبيل، وكيف يكون له سبيل إلى ذلك، وعنده أن من حكّم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النّزاع، فهو إما زنديق أو مبتدع، وأنى له بطاعة الله ورسوله، وهذا أصل اعتقاده الذي بنى عليه دينه، ومع ذلك َ {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} إذا حكّموا غير الرسول صلى الله عليه وسلم ونبذوا حكمه {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .

_ 1 سورة النساء آية: 67-68. 2 سورة النساء آية: 69.

قال المصنف وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} 1. قال أبو بكر بن عياش في الآية: "إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأرض، وهم في فساد فأصلحهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين في الأرض". وقال ابن القيم: "قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل، وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله، فإن عبادة غير الله، والدعوة إلى غيره، والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به، ومخالفة أمره. فالشرك والدعوة إلى غير الله، وإقامة معبود غيره، ومطاع متبع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظم الفساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا. وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته، فلا سمع له ولا طاعة، ومن تدبر أحوال العالم، وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته، وطاعة رسوله، وكل شر في العالم، وفتنة وبلاء، وقحط وتسليط عدو وغير ذلك، فسببه مخالفة رسوله، والدعوة إلى غير الله ورسوله". انتهى. وبهذا يتبين وجه مطابقة الآية للترجمة، لأن من يدعو إلى التحاكم إلى غير ما أنزل الله وإلى الرسول، فقد أتى بأعظم الفساد. قال وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} 2. قال أبو العالية في الآية "يعني: لا تعصوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية لله، لأن من عصى الله في الأرض، أو أمر بمعصية الله، فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء

_ 1 سورة الأعراف آية: 56. 2 سورة البقرة آية: 11.

بالطاعة. قلت: ومطابقة الآية للترجمة ظاهر، لأن من دعا إلى التحاكم إلى غير ما أنزل الله، فقد أتى بأعظم الفساد. وفي الآية دليل على وجوب إطراح الرأي مع السنة، وإن ادعى صاحبه أنه مصلح، وأن دعوى الإصلاح ليس بعذر في ترك ما أنزل الله، والحذر من العجب بالرأي. قال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ... } 1. قال ابن كثير: "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير وعدل، الناهي عن كل شر إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكزخان الذي وضع لهم كتابًا مجموعًا من أحكام اقتبسها من شرائع شتى من الملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره، فصار في بنيه شرعًا يقدمونه على الحكم بالكتاب والسنة، ومن فعل ذلك، فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} 2 أي: يريدون. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 3 أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن وأيقن، وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها فإنه تعالى العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء. قلت وفي الآية إشارة إلى أن من ابتغى غير حكم الله ورسوله، فقد ابتغى حكم الجاهلية كائنًا ما كان. [لا يؤمن العبد حتى يكون هواه تبعًا لما جاء به الرسول] قال: عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به". قال النووي: حديث صحيح رويناه في كتاب "الحجة" بإسناد صحيح.

_ 1 سورة المائدة آية: 50. 2 سورة المائدة آية: 50. 3 سورة المائدة آية: 50.

ش: هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في كتاب "الحجة على تارك المحجة" بإسناد صحيح كما قال المصنف عن النووي، وهو كتاب يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة. ورواه الطبراني وأبو بكر بن [أبي] عاصم، والحافظ أبو نعيم في "الأربعين" التي شرط في أولها أن تكون من صحاح الأخبار. وقال ابن رجب: "تصحيح هذا الحديث بعيدًا جدًّا من وجوه ... " ذكرها، وتعقبه بعضهم. قلت: ومعناه صحيح قطعًا وإن لم يصح إسناده. وأصله في القرآن كثير كقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 1. وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 2. وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} 3. وغير ذلك من الآيات، فلا يضر عدم صحة إسناده. قوله: "لا يؤمن أحدكم"، أي: لا يحصل له الإيمان الواجب ولا يكون من أهله. قوله: "حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به". قال بعضهم: هواه بالقصر، أي: ما يهواه، أي: تحبه نفسه وتميل إليه، ثم المعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق أنه الميل إلى خلاف الحق ومنه {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 4. وقد يطلق على الميل والمحبة ليشمل الميل للحق وغيره، وربما استعمل في محبة الحق خاصة، والانقياد إليه، كما في حديث صفوان بن عسال أنه سئل هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الهوى. الحديث. قال ابن رجب: "أما معنى الحديث، فهو أن الإنسان لا يكون

_ 1 سورة النساء آية: 65. 2 سورة الأحزاب آية: 36. 3 سورة القصص آية: 50. 4 سورة ص آية: 26.

مؤمنًا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أمر به ويكره ما نهى عنه. وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع، وذم سبحانه من كره ما أحبه الله تعالى، أو أحب ما كره الله كما قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} 1. وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} 2. فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما وجب عليه منه، فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب إليه منه كان ذلك فضلاً. وأن يكره ما كرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه، فازدادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيهًا كان ذلك فضلاً. فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه، أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله ويكره ما يكرهه الله ورسوله. ويرضى بما يرضى به الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض. فإن عمل بجوارحه شيئًا يخالف ذلك، بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله، أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه، دل ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة. فجميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} 3، وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه الله وكذلك حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. فيجب على المؤمن محبة ما يحبه الله من

_ 1 سورة محمد آية: 9. 2 سورة محمد آية: 28. 3 سورة القصص آية: 50.

الملائكة والرسل والصديقين، والأنبياء والشهداء والصالحين عمومًا. ولهذا كان علامة وجود حلاوة الإيمان "أن يحب المرء لا يحبه إلا لله" 1. وتحرم موالاة أعداء الله ومن يكرهه الله عمومًا، وبهذا يكون الدين كله لله. و "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان". ومن كان حبه، وبغضه، وعطاؤه، ومنعه لهوى نفسه، كان ذلك نقصًا في إيمانه الواجب، فتجب عليه التوبة من ذلك، والرجوع إلى اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من تقديم محبة الله ورسوله، وما فيه رضا الله ورسوله على هوى النفس ومرادها. انتهى ملخصًا. ومطابقة الحديث للباب ظاهرة من جهة أن الرجل لا يؤمن حتى يكون هواه تبعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في الحكم وغيره. فإذا حكم بحكم أو قضى بقضاء، فهو الحق الذي لا محيد للمؤمن عنه، ولا اختيار له بعده. قال المصنف: وقال الشعبي: "كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد، عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود، لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا على أن يأتيا كاهنًا في جهينة فيتحاكما إليه فنَزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ ... } 2. ش: هذا الأثر رواه ابن جرير، وابن المنذر بنحوه. قوله: "كان بين رجل من المنافقين، ورجل من اليهود خصومة"، لم أقف على تسمية هذين الرجلين، وقد روى ابن إسحاق وابن المنذر، وابن أبي حاتم قال: كان الجلاس بن الصامت قبل توبته، ومعتب بن قشير، ورافع بن زيد وبشير، كانوا يدعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية فأنزل الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ ... } 3 الآية. فيحتمل أن يكون المنافق

_ 1 أحمد (5/375) . 2 سورة النساء آية: 60. 3 سورة النساء آية: 60.

المذكور في قصة الشعبي أحد هؤلاء، بل روى الثعلبي عن ابن عباس أن المنافق اسمه بشير. قوله: "عرف أنه لا يأخذ الرشوة"، هي بتثليث الراء قال أبو السعادات: وهو الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، وأصله من الرِّشاء الذي يتوصل به إلى الماء، والراشي: من يعطي الذي يعينه على الباطل، والمرتشي: الآخذ. قلت: فعلى هذا رشوة الحاكم هي ما يعطاه ليحكم بالباطل، سواء طلبها أم لا. وفيه دليل على شهادة أن محمدًا رسول الله، لأن أعداءه يعلمون عدله في الأحكام، ونزاهته عن قذر الرشوة صلى الله عليه وسلم بخلاف حكام الباطل. قوله: "فاتفقا على أن يأتيا كاهنًا في جهينة". لم أقف على تسمية هذا الكاهن، وفي قصة رواها ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في سبب نزول الآية قال: فتفاخرت النضير وقريظة، فقالت النضير: نحن أكرم من قريظة، وقالت قريظة: نحن أكرم منكم، فدخلوا المدينة إلى أبي بردة الأسلمي وذكر القصة. قال المصنف: وقيل: ونزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر فذكر له أحدهما القصة. فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله. ش: هذه القصة قد رويت من طرق متعددة من أقربها لسياق المصنف ما رواه الثعلبي وذكره البغوي عن ابن عباس في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا ... } 1. قال: نزلت في رجل من المنافقين يقال له: بشير خاصم يهوديًّا فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم إنهما احتكما للنبي صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق، وقال:

_ 1 سورة النساء آية: 60.

تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب فقال اليهودي لعمر: قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه. فقال للمنافق: أكذلك؟ قال نعم، فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل عمر فاشتمل على سيفه، ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد، ثم قال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله، فنَزلت. وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، هذه القصة عن مكحول وقال في آخرها: فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عمر قد قتل الرجل، وفرق الله بين الحق والباطل على لسان عمر، فسمي الفاروق. ورواه أبو إسحاق بن دحيم في تفسيره على ما ذكره شيخ الإسلام، وابن كثير، ورواه ابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود، وذكر القصة، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن" فأنزل الله {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ... } الآية،1 فهدر دم ذلك الرجل وبرئ عمر من قتله، فكره الله أن يسن ذلك بعد، فقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ.. .} 2 إلى قوله: {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} 3. وبالجملة فهذه القصة مشهورة متداولة بين السلف والخلف تداولاً يغني عن الإسناد، ولها طرق كثيرة، ولا يضرها ضعف إسنادها. وكعب بن الأشرف المذكور هنا هو طاغوت من رؤساء اليهود وعلمائهم، ذكر ابن إسحاق وغيره أنه كان موادعًا للنبي صلى الله عليه وسلم في جملة من وادعه من يهود المدينة، وكان عربيًا من بني طيئ وكانت أمه من بني النضير قالوا: فلما قتل أهل بدر، شق ذلك عليه، وذهب إلى مكة ورثاهم لقريش، وفضل دين الجاهلية على دين الإسلام حتى أنزل الله فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 4. ثم لما رجع إلى المدينة أخذ ينشد الأشعار يهجو بها

_ 1 سورة النساء آية: 65. 2 سورة النساء آية: 66. 3 سورة النساء آية: 66. 4 سورة النساء آية: 51.

رسول الله صلى الله عليه وسلم وشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله" 1 وذكر قصة قتله، وقتله محمد بن مسلمة، وأبو نائلة وأبو عبس بن جبير، وعباد بن بشر رضي الله عنهم. وفي القصة من الفوائد: أن الدعاء إلى تحكيم غير الله ورسوله من صفات المنافقين، ولو كان الدعاء إلى تحكيم إمام فاضل، ومعرفة أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان عليه من العلم والعدل في الأحكام. وفيها الغضب لله تعالى، والشدة في أمر الله كما فعل عمررضي الله عنه. وفيها أن من طعن في أحكام النبي صلى الله عليه وسلم أو في شيء من دينه قتل كهذا المنافق بل أولى. وفيها جواز تغيير المنكر باليد، وإن لم يأذن فيه الإمام، وكذلك تعزير من فعل شيئًا من المنكرات التي يستحق عليها التعزير. لكن إذا كان الإمام لا يرضى بذلك، وربما أدى إلى وقوع فرقة أو فتنة فيشترط إذنه في التعزير فقط. وفيها أن معرفة الحق لا تكفي عن العمل والانقياد، فإن اليهود يعلمون أن محمدًا رسول الله ويتحاكمون إليه في كثير من الأمور.

_ 1 النسائي: الجهاد (3132) .

باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات

[34- باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات] أي: من أسماء الله وصفاته، والمراد ما حكمه هل هو ناج أو هالك؟ ولما كان تحقيق التوحيد بل التوحيد لا يحصل إلا بالإيمان بالله والإيمان بأسمائه وصفاته، نبه المصنف على وجوب الإيمان بذلك وأيضًا فالتوحيد ثلاثة أنواع: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة. والأولان وسيلة إلى الثالث، فهو الغاية والحكمة المقصود بالخلق والأمر. وكلها متلازمة فناسب التنبيه على الإيمان بتوحيد الصفات. قال: وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ... } 1. أي: يجحدون هذا الاسم، لا أنهم يجحدون الله، فإنهم يقرون

_ 1 سورة الرعد آية: 30.

به كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1. والمراد بهذا كفار قريش أو طائفة منهم، فإنهم جحدوا هذا الاسم عنادًا أو جهلًا، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي يوم الحديبية: "اكتب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، وفي بعض الروايات لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة" 2. يعنون مسيلمة الكذاب، فإنه قبحه الله كان قد تسمى بهذا الاسم. وأما كثير من أهل الجاهلية فيقرون بهذا الاسم كما قال بعضهم: وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق قال ابن كثير: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 3، أي: لا يقرون به، لأنهم يأبون من وصف الله بالرحمن الرحيم. ومطابقة الآية للترجمة ظاهرة، لأن الله تعالى سمى جحود اسم من أسمائه كفرًا، فدل على أن جحود شيء من أسماء الله وصفاته كفر، فمن جحد شيئًا من أسماء الله وصفاته من الفلاسفة، والجهمية والمعتزلة ونحوهم، فله نصيب من الكفر بقدر ما جحد من الاسم أو الصفة، فإن الجهمية والمعتزلة ونحوهم، وإن كانوا يقرون بجنس الأسماء والصفات فعند التحقيق لا يقرون بشيء، لأن الأسماء عندهم أعلام محضة، لا تدل على صفات قائمة بالرب تبارك وتعالى وهذا نصف كفر الذين جحدوا اسم الرحمن. وقوله: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 4. أي: قل يا محمد رادًّا عليهم في كفرهم بالرحمن تبارك وتعالى هو أي: الرحمن عزّ وجل {رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} 5، أي: لا معبود سواه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 6، أي: إليه مرجعي وأوبتي، وهو مصدر من قول القائل: تبت متابًا وتوبة، قاله ابن جرير. وفي الآية دليل على أن التوكل عبادة، وعلى أن التوبة عبادة،

_ 1 سورة الزخرف آية: 87. 2 صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير (1784) , ومسند أحمد (3/268 ,4/86 ,4/328) . 3 سورة الرعد آية: 30. 4 سورة الرعد آية: 30. 5 سورة الرعد آية: 30. 6 سورة الرعد آية: 30.

وإذا كان كذلك فالتوبة إلى غيره شرك. ولما "قال سارق وقد قطعت يده للنبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد قال النبي صلى الله عليه وسلم عرف الحق لأهله" 1. رواه أحمد. قال: وفي "صحيح البخاري" "قال علي: حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ " ش: هذا الأثر رواه البخاري مسندًا لا معلقًا لكنه في بعض الروايات علقه أولاً ثم ذكر إسناده، وفي بعضها ساق إسناده أولاً فرواه عن عبيد الله بن موسى عن معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي به ولفظه: "أتحبون أن يكذب الله ورسوله". قوله: "بما يعرفون". أي: بما يفهمون. قال الحافظ: وزاد آدم ابن أبي إياس في كتاب "العلم" له عن عبد الله بن داود عن معروف في آخره: ودعوا ما ينكرون. أي: ما يشتبه عليهم فهمه. قال: وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة. ومثله قول ابن مسعود: " ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة". رواه مسلم قال: وممن رأى التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في "الغرائب" ومن قَبْلِهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة. وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين، لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى

_ 1 أحمد (3/435) .

عليه الأخذ بظاهره مطلوب انتهى. وما ذكره عن مالك في أحاديث الصفات ما أظنه يثبت عن مالك، وهل في أحاديث الصفات أكثر من آيات الصفات التي في القرآن؟ فهل يقول مالك أو غيره من علماء الإسلام: إن آيات الصفات لا تتلى على العوام، وما زال العلماء قديمًا وحديثًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم يقرؤون آيات الصفات، وأحاديثها بحضرة عوام المؤمنين وخواصهم، بل شرط الإيمان هو الإيمان بالله، وصفات كماله التي وصف بها نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فكيف يكتم ذلك عن عوام المؤمنين؟! بل نقول: من لم يؤمن بذلك فليس من المؤمنين، ومن وجد في قلبه حرجًا من ذلك، فهو من المنافقين. ولكن هذا من بدع الجهمية وأتباعهم الذين ينفون صفات الرب تبارك وتعالى، فلما رووا أحاديث الصفات مبطلة لمذاهبهم، قامعة لبدعهم تواصوا بكتمانها عن عوام المؤمنين، لئلا يعلموا ضلالهم، وفساد اعتقادهم فاعلم ذلك. وفي الأثر دليل على أنه إذا خشي ضرر من تحديث الناس ببعض ما يعرفون فلا ينبغي تحديثهم به، وليس ذلك على إطلاق، وإن كثيرًا من الدين والسنن يجهله الناس، فإذا حدثوا به كذبوا بذلك وأعظموه، فلا يترك العالم تحديثهم، بل يعلمهم برفق ويدعوهم بالتي هي أحسن.

قال: وروى عبد الرزاق عن معمر عن [ابن] طاوس عن أبيه "عن ابن عباس أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارًا لذلك فقال: ما فرق هؤلاء يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه". انتهى. ش: قوله: "روى عبد الرزاق هو ابن همام الصنعاني"، الإمام الحافظ صاحب التصانيف ك: "المصنف" وغيره. روى عنه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وخلق لا يحصون مات سنة إحدى عشرة ومائتين. ومعمر هو ابن راشد الأزدي أبو عروة البصري، نزل اليمن، ثقة ثبت، مات سنة أربع وخمسين ومائة، وله ثمان وخمسون سنة. وابن طاوس هو عبد الله بن طاوس اليماني، ثقة فاضل عابد، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وأبوه طاوس بن كيسان اليماني ثقة فقيه فاضل من جلة أصحاب ابن عباس وعلمائهم، مات سنة ست ومائة. قوله: "إنه رأى رجلاً". لم يسم هذا الرجل. قوله: "انتفض"، أي: ارتعد لما سمع حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم فاستنكره، إما لأن عقله لا يحتمله، أو لكونه اعتقد عدم صحته فأنكره. قوله: "فقال"، أي: ابن عباس وهو عبد اللهرضي الله عنه. قوله: "ما فرق هؤلاء". يحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون "ما" استفهامية إنكارية. وفرق بفتح الفاء والراء وهو الخوف والفزع، أي: ما فزع هذا وأضرابه من أحاديث الصفات واستنكارهم لها؟ والمراد الإنكار عليهم، فإن الواجب على

العبد التسليم والإذعان والإيمان بما صح عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وإن لم يحط به علمًا. ولهذا قال الشافعي: "آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله، وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله". والثاني: أن يكون بفتح الفاء وتشديد الراء، ويجوز تخفيفها. و "ما" نافية أي: ما فرق هذا وأضرابه بين الحق والباطل، ولا عرفوا ذلك، فلهذا قال: يجدون رقة وهي ضد القسوة، أي: لينًا وقبولاً للمحكم، ويهلكون عند متشابهه، أي: ما يشتبه عليهم فهمه، لأن آيات الصفات هي المتشابه كما تقوله الجهمية ونحوهم، ولأن في القرآن متشابهًا لا يعرف معناه كالألفاظ الأعجمية، فإن لفظ التشابه والمتشابه يدلان على بطلان ذلك، وإنما المراد بالمتشابه، أي: ما يشتبه فهمه على بعض الناس دون بعض، فالمتشابه أمر نسبي إضافي، فقد يكون مشتبهًا بالنسبة إلى قوم بينًا جليًا بالنسبة إلى آخرين. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج على قوم يتراجعون في القرآن فغضب وقال: "بهذا ضلت الأمم قبلكم; باختلافهم على أنبيائهم، وضرب الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينْزل ليكذب بعضه بعضا، ولكن نزل لأن يصدق بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه عليكم فآمنوا به" 1. رواه ابن سعد، وابن الضريس وابن مردويه. وأما قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 2. فقال ابن كثير: يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات، أي: بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم. فمن رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عكس انعكس، ولهذا قال: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} 3، أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 4، أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد

_ 1 أحمد (2/181) . 2 سورة آل عمران آية: 7. 3 سورة آل عمران آية: 7. 4 سورة آل عمران آية: 7.

تحتمل أشياء أخرى من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد، ولهذا قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} 1، أي: ضلال، وخروج عن الحق إلى الباطل {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ، أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينَزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه. فأما الحكم، فلا نصيب لهم فيه، لأنه دافع لهم، وحجة عليهم، ولهذا قال: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} 2، أي: الإضلال لأتباعهم، إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم. انتهى. وقال ابن عباس: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} 3، يعني أهل الشك، فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويلبسون، فلبس الله عليهم {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} 4. قال: تأويله يوم القيامة لا يعلمه إلا الله. رواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} 5. تقدم كلام ابن عباس. وقال مقاتل والسدي: يبتغون أن يعلموا ما يكون، وما عواقب الأشياء من القرآن. قلت: فهذا التأويل الذي انفرد الله بعلمه هو العلم بحقائق الأشياء وما تؤول إليه وعواقبها، كالإخبار بما يكون، وما في الجنة من النعيم، وما في النار من العذاب; فإن هذه الأمور وإن علمناها لكن العلم بحقائقها مما لا يعلمه إلا الله. ولهذا قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. فعلى هذا يكون الوقف على الجلالة كما روي عن جماعة من السلف، وقيل: الوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} 6، أي: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. فأما أهل الزيغ فلا يعلمون تأويله، وعلى هذا فالمراد بتأويله هو تفسيره وفهم معناه، وهذا هو المروي عن ابن عباس وجماعة من السلف. قال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن "ابن عباس: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله". وقال مجاهد: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} 7، يعرفون تأويله. ويقولون: آمنا به، وكذا قال الربيع بن أنس وغيره.

_ 1 سورة آل عمران آية: 7. 2 سورة آل عمران آية: 7. 3 سورة آل عمران آية: 7. 4 سورة آل عمران آية: 7. 5 سورة آل عمران آية: 7. 6 سورة آل عمران آية: 7. 7 سورة آل عمران آية: 7.

فقد تبين ولله الحمد أنه ليس في الآية حجة للمبطلين في جعلهم ما أخبر الله به من صفات كماله هو المتشابه، ويحتجون على باطلهم بهذه الآية، فيقال: وأين في الآية ما يدل على مطلوبكم؟ وهل جاء نص عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جعل ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله متشابهًا؟! ولكن أصل ذلك أنهم ظنوا أن التأويل المراد في الآية هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى ما يحتمله اللفظ لدليل يقترن بذلك، وهذا هو اصطلاح كثير من المتأخرين، وهو اصطلاح حادث، فأرادوا حمل كلام الله على هذا الاصطلاح فضلوا ضلالاً بعيدًا، وظنوا أن لنصوص الصفات تأويلاً يخالف ما دلت عليه، لا يعلمه إلا الله كما يقوله أهل التجهيل، أو يعلمه المتأولون كما يقوله أهل التأويل. وفي الأثر المشروح دليل على ذكر آيات الصفات، وأحاديثها بحضرة عوام المؤمنين وخواصهم، وأن من رد شيئًا منها أو استنكره بعد صحته، فهو ممن لم يفرق بين الحق والباطل، بل هو من الهالكين وأنه ينكر عليه استنكاره. قال: ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 1. ش: هكذا ذكر المصنف هذا الأثر بالمعنى، وقد روى ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج [عن مجاهد] في الآية، قال: هذا "لما كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا في الحديبية، كتب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . فقالوا: لا نكتب الرحمن، ولا ندري ما الرحمن، ولا نكتب إلا باسمك اللهم، فأنزل الله {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} ". وفيه دليل على أن من أنكر شيئًا من الصفات، فهو من الهالكين، لأن الواجب على العبد الإيمان بذلك، سواء فهمه أم لم يفهمه، وسواء قبله عقله أو أنكره. فهذا هو الواجب على العبد في كل ما صح عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو الذي ذكر الله تعالى عن الراسخين في العلم أنهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 2.

_ 1 سورة الرعد آية: 30. 2 سورة آل عمران آية: 7.

باب قول الله تعالى: {يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها ... }

[35- باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ... } 1] ش: المراد بهذه الترجمة التأدب مع جناب الربوبية عن الألفاظ الشركية الخفية، كنسبة النعم إلى غير الله، فإن ذلك باب من أبواب الشرك الخفي، وضده باب من أبواب الشكر كما في الحديث الذي رواه ابن حبان في "صحيحه" عن جابر مرفوعًا: "من أولي معروفًا فلم يجد له جزاء إلا الثناء فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره" 2. وفي رواية جيدة لأبي داود "من أبلي فذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره" 3. قال المنذري "من أبلي" أي: من أنعم عليه، الإبلاء الإنعام. فإذا كان ذكر المعروف الذي يقدره الله على يدي إنسان من شكره، فذكر معروف رب العالمين، وآلائه وإحسانه ونسبة ذلك إليه أولى بأن يكون شكرًا. قال المصنف: قال مجاهد ما معناه: هو "قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي". ش: هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، ولفظه كما في "الدر" قال: المساكن والأنعام وسرابيل الثياب، والحديد يعرفه كفار قريش ثم ينكرونه بأن يقولوا: هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم. قال ابن القيم "ما معناه: لما أضافوا النعمة إلى غير الله فقد أنكروا نعمة الله بنسبتها إلى غيره، فإن الذي يقول هذا جاحد لنعمة الله عليه غير معترف بها، وهو كالأبرص والأقرع اللذين ذكرهما الملك بنعم الله عليهما فأنكراها وقالا: إنما ورثنا هذا كابرًا عن كابر، وكونها موروثة عن الآباء أبلغ في إنعام الله عليهم إذ أنعم بها على آبائهم ثم ورثهم إياها فتمتعوا هم وآباؤهم بنعمه". وقال عون بن عبد الله: "يقولون: لولا فلان لم يكن كذا".

_ 1 سورة النحل آية: 83. 2 أبو داود: الأدب (4813) . 3 أبو داود: الأدب (4813) .

ش: هذا الأثر رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ولفظه كما في "الدر" "لولا فلان ما أصابني كذا وكذا، ولولا فلان لم أصب كذا وكذا". وعون هذا هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله الكوفي ثقة عابد مات قبل سنة عشرين ومائة. قوله: "لولا فلان ... "، إلى آخره. قال ابن القيم ما معناه: هذا يتضمن قطع إضافة النعمة عن من لولاه لم تكن، وإضافتها إلى من لم يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا فضلاً عن غيره، وغايته أن يكون جزءًا من أجزاء السبب أجرى الله نعمته على يده، والسبب لا يستقل بالإيجاد وجعله سببًا هو من نعم الله عليه. فهو المنعم بتلك النعمة، وهو المنعم بما جعله من أسبابها، فالسبب والمسبب من إنعامه، وهو تعالى كما أنه قد ينعم بذلك السبب، فقد ينعم بدونه ولا يكون له أثر، وقد يسلبه سببيته، وقد يجعل لها معارضًا يقاومها، وقد يرتب على السبب ضد مقتضاه، فهو وحده المنعم على الحقيقة. قال: وقال ابن قتيبة: "يقولون هذا بشفاعة آلهتنا". ش: ابن قتيبة هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الحافظ، صاحب التفسير والمعارف وغيرها. وثقه الخطيب وغيره، مات سنة سبع وستين ومائتين. أو قبلها. قوله: "يقولون هذا بشفاعة آلهتنا"، قال ابن القيم: هذا يتضمن الشرك مع إضافة النعمة إلى غير وليها، فالآلهة التي تعبد من دون الله أحقر وأذل من أن تشفع عند الله، وهي محضرة في الهوان والعذاب مع عابديها وأقرب الخلق إلى الله، وأحبهم إليه لا يشفع عنده إلا من بعد إذنه لمن ارتضاه;

فالشفاعة بإذنه من نعمه، فهو المنعم بالشفاعة، وهو المنعم بقبولها، وهو المنع بتأهيل المشفع له، إذ ليس كل أحد أهلاً أن يشفع له. فمن المنعم على الحقيقة سواه؟ قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 1. فالعبد لا خروج له عن نعمة الله وفضله ومنته وإحسانه طرفة عين، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا ذم سبحانه وتعالى من آتاه شيئًا من نعمه ف {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} 2. قال المصنف: وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه أن الله تعالى قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ... " 3 الحديث. وقد تقدم وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به. قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقًا، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير. ش: قوله: "وقال أبو العباس"، هو: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. قوله: "قال بعض السلف"، لم أقف على تسمية هذا البعض. قوله: "كانت الريح طيبة، والملاح حاذقًا"، الملاح: هو سائس السفينة. والمعنى أن السفن إذا جرين بريح طيبة بأمر الله جريًا حسنًا نسبوا ذلك إلى طيب الريح، وحذق الملاح في سياسة السفينة، ونسوا ربهم الذي أجرى لهم الفلك في البحر رحمة بهم كما قال تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} 4. فيكون نسبة ذلك إلى طيب الريح وحذق الملاح من جنس نسبة المطر إلى الأنواء. وإن كان المتكلم بذلك لم يقصد أن الريح والملاح هو الفاعل لذلك من دون خلق الله وأمره وإنما أراد أنه سبب. لكن لا ينبغي أن يضيف ذلك إلا إلى الله وحده; لأن غاية الأمر في ذلك أن يكون الريح والملاح سببًا، أو جزء سبب. ولو شاء الرب تبارك وتعالى لسلبه سببيته، فلم يكن سببًا

_ 1 سورة النحل آية: 53. 2 سورة القصص آية: 78. 3 البخاري: الجمعة (1038) , ومسلم: الإيمان (71) , والنسائي: الاستسقاء (1525) , وأبو داود: الطب (3906) , وأحمد (4/117) , ومالك: النداء للصلاة (451) . 4 سورة الإسراء آية: 66.

أصلاً. فلا يليق بالمنعم عليه المطلوب منه الشكر أن ينسى من بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير، ويضيف النعم إلى غيره، بل يذكرها مضافة منسوبة إلى مولاها والمنعم بها، وهو المنعم على الإطلاق كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 1. فهو المنعم بجميع النعم في الدنيا والآخرة وحده لا شريك له. فإن ذلك من شكرها، وضده من إنكارها. ولا ينافي ذلك الدعاء والإحسان إلى من كان سببًا أو جزء سبب في بعض ما يصل إليك من النعم من الخلق. قال المصنف: وفيه اجتماع الضدين في القلب.

_ 1 سورة النحل آية: 53.

باب قول الله: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون}

[36- باب قول الله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1] اعلم أن من تحقيق التوحيد الاحتراز من الشرك بالله في الألفاظ، وإن لم يقصد المتكلم بها معنى لا يجوز، بل ربما تجري على لسانه من غير قصد، كمن يجري على لسانه ألفاظ من أنواع الشرك الأصغر لا يقصدها. فإن قيل: الآية نزلت في الأكبر. قيل: السلف يحتجون بما أنزل في الأكبر على الأصغر، كما فسرها ابن عباس، وغيره فيما ذكره المصنف عنه بأنواع من الشرك الأصغر، وفسرها أيضًا بالشرك الأكبر، وفسرها غيره بشرك الطاعة، وذلك لأن الكل شرك. ومعنى الآية: أن الله تبارك وتعالى نهى الناس أن يجعلوا له أندادًا، أي: أمثالاً في العبادة والطاعة، وهم يعلمون أن الذي فعل تلك الأفعال، فهو ربهم وخالقهم، وخالق من قبلهم، وجاعل على الأرض فراشًا، والسماء بناء، والذي أنزل من السماء ماء فأخرج به من أنواع الثمرات رزقًا لهم. فإذا كنتم تعلمون ذلك فلا تجعلوا له أندادًا. قال ابن القيم: فتأمل

_ 1 سورة البقرة آية: 22.

هذه، وشدة لزومها لتلك المقدمات قبلها، وظفر العقل بها بأول وهلة، وخلوصها من كل شبهة وريب وقادح إذا كان الله وحده هو الذي فعل هذه الأفعال، فكيف تجعلون له أندادًا وقد علمتم أنه لا ند له يشاركه في فعله؟!. [صور من الشرك الأصغر] قال المصنف: قال ابن عباس في الآية: "الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلانة، وحياتي. وتقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلان هذا كله به شرك" رواه ابن أبي حاتم. ش: هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم، كما قال المصنف وسنده جيد. قوله: "هو الشرك أخفى من دبيب النمل ... " إلى آخره أي: إن هذه الأمور من الشرك خفية في الناس، لا يكاد يتفطن لها ولا يعرفها إلا القليل، وضرب المثل لخفائها بما هو أخفى شيء وهو أثر النمل، فإنه خفي، فكيف إذا كان على صفاة؟ فكيف إذا كانت سوداء، فكيف إذا كانت في ظلمة الليل؟ وهذا يدل على شدة خفائه على من يدعي الإسلام، وعسر التخلص منه، ولهذا جاء في حديث أبي موسى قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل، فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه" 1. رواه أحمد والطبراني. قوله: "وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلانة وحياتي"، أي: إن من الحلف بغير الله، الحلف بحياة المخلوق وسيأتي الكلام عليه. قوله: "وتقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص"، أي: السراق.

_ 1 أحمد (4/403) .

والمعنى أن من الشرك نسبة عدم السرقة إلى الكلبة التي إذا رأت السراق نبحتهم، فاستيقظ أهلها وهرب السراق. وربما امتنعوا من إتيان المحل الذي هي فيه خوفًا من نباحها، فيعلم بهم أهلها كما روى ابن أبي الدنيا في "الصمت" عن ابن عباس قال: "إن أحدكم ليشرك حتى يشرك بكلبه يقول: لولاه لسرقنا الليلة". قوله: "ولولا البط في الدار لأتى اللصوص". البط بفتح الموحدة: طائر معروف يتخذ في البيوت، وإذا دخلها غريب صاح1 واستنكره، وهو الإوز بكسر الهمزة وفتح الواو ومعناها كالذي قبله. والواجب نسبة ذلك إلى الله تعالى، فهو الذي يحفظ عباده ويكلؤهم بالليل والنهار كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} 2. قوله: "وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت"، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله. قوله: "وقول الرجل: لولا الله وفلان لا تجعل فيها فلان"، هكذا ثبت بخط المصنف بلا تنوين، والمعنى: لا تجعل فيها أي: في هذه الكلمة فلانًا فتقول: لولا الله وفلان، بل قل: لولا الله وحده، ولا تقل: لولا الله وفلان فهو نهي عن ذلك. قوله: "هذا كله به". أي: بالله شرك، وأعاد الضمير على الله، لأنه قد تقدم ذكر اسمه عزّ وجل فتبين أن هذه الأمور ونحوها من الألفاظ الشركية الخفية كما نص عليه ابن عباس رضي الله عنه. قال: وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" 3. رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم.

_ 1 في الطبعة السابقة: صلح. 2 سورة الأنبياء آية: 42. 3 سنن الترمذي: كتاب النذور والأيمان (1535) , وسنن أبي داود: كتاب الأيمان والنذور (3251) , ومسند أحمد (2/69 ,2/86 ,2/125) .

ش: قوله: "عن عمر بن الخطاب". هكذا وقع في الكتاب، وصوابه عن ابن عمر كذلك أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم. وصححه ابن حبان. وقال الزين العراقي في "أماليه": إسناده ثقات. قوله: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" 1. قال بعضهم ما معناه: رواه الترمذي بأو التي للشك، وفي ابن حبان والحاكم عدمها. وفي رواية للحاكم: "كل يمين يحلف بها دون الله شرك" وفي "الصحيحين "من حديث ابن عمر مرفوعًا: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" 2. وعن بريدة مرفوعًا: "من حلف بالأمانة فليس منا" 3. رواه أبو داود. والأحاديث في ذلك كثيرة، وقد تقدم كلام ابن عباس في عده ذلك من الأنداد، وقال كعب: "إنكم تشركون في قول الرجل: كلا وأبيك، كلا والكعبة، كلا وحياتك، وأشباه هذا، احلف بالله صادقًا أو كاذبًا، ولا تحلف بغيره". رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت". وأجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله، أو بصفاته، وأجمعوا على المنع من الحلف بغيره. قال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع. انتهى ولا اعتبار بمن قال من المتأخرين: إن ذلك على سبيل كراهة التنْزيه، فإن هذا قول باطل. وكيف يقال ذلك لما أطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كفر أو شرك، بل ذلك محرم. ولهذا اختار ابن مسعودرضي الله عنه أن يحلف بالله كاذبًا، ولا يحلف بغيره صادقًا. فهذا يدل على أن الحلف بغير الله أكبر من الكذب. مع أن الكذب من المحرمات في جميع الملل فدل ذلك أن الحلف بغير الله من أكبر المحرمات. فإن قيل: إن الله تعالى أقسم بالمخلوقات في القرآن. قيل: ذلك يختص بالله تبارك وتعالى، فهو يقسم بما شاء من خلقه; لما في ذلك من الدلالة على قدرة الرب ووحدانيته، وإلهيته

_ 1 سنن الترمذي: كتاب النذور والأيمان (1535) , وسنن أبي داود: كتاب الأيمان والنذور (3251) , ومسند أحمد (2/69 ,2/86 ,2/125) . 2 أبو داود: الجهاد (2612) , وأحمد (5/352) . 3 الترمذي: الدعوات (3383) , وابن ماجه: الأدب (3800) .

وعلمه وحكمته وغير ذلك من صفات كماله. وأما المخلوق فلا يقسم إلا بالخالق تعالى، فالله تعالى يقسم بما يشاء من خلقه. وقد نهانا عن الحلف بغيره فيجب على العبد التسليم والإذعان لما جاء من عند الله. قال الشعبي: الخالق يقسم بما شاء من خلقه والمخلوق لا يقسم إلا بالخالق، قال: ولأن أقسم بالله فأحنث أحب إلي من أن أقسم بغيره فأبر. وقال مطرف بن عبد الله: "إنما أقسم الله بهذه الأشياء ليعجب بها المخلوقين، ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم، ولدلالتها على خالقها" ذكرهما ابن جرير. فإن قيل: قد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي سأله عن أمور الإسلام فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفلح وأبيه إن صدق" رواه البخاري، وقال للذي سأله: "أي الصدقة أفضل أما وأبيك لَتُنَبِأَنَّه" 1. رواه مسلم ونحو ذلك من الأحاديث. قيل: ذكر العلماء عن ذلك أجوبة. أحدها: ما قاله ابن عبد البر في قوله: "أفلح وأبيه إن صدق" هذه اللفظة غير محفوظة، وقد جاءت عن راويها إسماعيل بن جعفر "أفلح والله إن صدق" 2. قال: وهذا أولى من رواية من روى عنه بلفظ: "أفلح وأبيه" لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح، ولم تقع في رواية مالك أصلاً، وزعم بعضهم أن بعض الرواة عنه صحف قوله: "وأبيه" من قوله: "والله" انتهى. وهذا جواب عن هذا الحديث الواحد فقط ولا يمكن أن يجاب به عن غيره. الثاني: أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير قصد للقسم به، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف ذكره

_ 1 البخاري: الزكاة (1452) , ومسلم: الإمارة (1865) , والنسائي: البيعة (4164) , وأبو داود: الجهاد (2477) . 2 البخاري: الإيمان (46) , ومسلم: الإيمان (11) , والنسائي: الصلاة (458) والصيام (2090) والإيمان وشرائعه (5028) , وأبو داود: الصلاة (391) والأيمان والنذور (3252) , وأحمد (1/162) , ومالك: النداء للصلاة (425) , والدارمي: الصلاة (1578) .

البيهقي وقال النووي: إنه المرضي. قلت: هذا جواب فاسد، بل أحاديث النهي عامة مطلقة ليس فيها تفريق بين من قصد القسم وبين من لم يقصد، ويؤيد ذلك أن سعد بن أبي وقاصرضي الله عنه حلف مرة باللات والعزى، ويبعد أن يكون أراد حقيقة الحلف بهما، ولكنه جرى على لسانه من غير قصد على ما كانوا يعتادونه قبل ذلك، ومع هذا نهاه النبي صلى الله عليه وسلم. غاية ما يقال: أن من جرى ذلك على لسانه من غير قصد معفو عنه، أما أن يكون ذلك أمرًا جائزًا للمسلم أن يعتاده فكلا. وأيضًا فهذا يحتاج إلى نقل أنّ ذلك كان يجري على ألسنتهم من غير قصد للقسم، وأن النهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف وأنى يوجد ذلك؟ الثالث: أن مثل ذلك يقصد به التأكيد لا التعظيم، وإنما وقع النهي عما يقصد به التعظيم. قلت: وهذا أفسد من الذي قبله، وكأن من قال ذلك لم يتصور ما قال، فهل يراد بالحلف إلا تأكيد المحلوف عليه بذكر من يعظمه الحالف والمحلوف له؟ فتأكيد المحلوف عليه بذكر المحلوف به مستلزم لتعظيمه. وأيضًا فالأحاديث مطلقة ليس فيها تفريق، وأيضًا فهذا يحتاج إلى نقل أن ذلك جائز للتأكيد دون التعظيم وذلك معدوم. الرابع: أن هذا كان في أول الأمر ثم نسخ، فما جاء من الأحاديث فيه ذكر شيء من الحلف بغير الله فهو قبل النسخ، ثم نسخ ذلك ونهي عن الحلف بغير الله. وهذا الجواب ذكره الماوردي. قال السهيلي: أكثر الشراح عليه، حتى قال ابن العربي: روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهي عن ذلك قال السهيلي: ولا يصح ذلك، وكذلك قال غيرهم. وهذا الجواب هو الحق، يؤيده أن ذلك كان مستعملاً شائعًا. حتى ورد النهي عن ذلك كما في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" 1.

_ 1 البخاري: الزكاة (1452) , ومسلم: الإمارة (1865) , والنسائي: البيعة (4164) , وأبو داود: الجهاد (2477) .

رواه البخاري، ومسلم. وعنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله" 1. وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: "ولا تحلفوا بآبائكم" 2. رواه مسلم. وعن سعد بن أبي وقاصرضي الله عنه قال: حلفت مرة باللات والعزى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم انفث عن يسارك ثلاثًا وتعوذ ولا تعد" 3. رواه النسائي، وابن ماجة، وهذا لفظه. وفي هذا المعنى أحاديث، فما ورد فيه ذكر الحلف بغير الله، فهو جار على العادة قبل النهي، لأن ذلك هو الأصل حتى ورد النهي عن ذلك. وقوله: "فقد كفر أو أشرك"، أخذ به طائفة من العلماء فقالوا: يكفر من حلف بغير الله كفر شرك، قالوا: ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه بقول: لا إله إلا الله. فلولا أنه كفر ينقل عن الملة لم يؤمر بذلك. وقال الجمهور: لا يكفر كفرًا ينقله عن الملة، لكنه من الشرك الأصغر كما نص على ذلك ابن عباس وغيره، وأما كونه أمر من حلف باللات والعزى أن يقول: لا إله إلا الله، فلأن هذا كفارة له مع استغفاره كما قال في الحديث الصحيح: "ومن حلف فقال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله" 4. وفي رواية: "فليستغفر"، فهذا كفارة له في كونه تعاطى صورة تعظيم الصنم، حيث حلف به لا أنه لتجديد إسلامه، ولو قدر ذلك فهو تجديد لإسلامه لنقصه بذلك لا لكفره لكن الذي يفعله عباد القبور إذا طلبت من أحدهم اليمين بالله، أعطاك ما شئت من الأيمان صادقًا أو كاذبًا. فإذا طلبت منه اليمين بالشيخ أو تربته أو حياته، ونحو ذلك، لم يقدم على اليمين به إن كان كاذبًا. فهذا شرك أكبر بلا ريب، لأن المحلوف به عنده أخوف وأجل وأعظم من الله. وهذا ما بلغ إليه شرك عباد الأصنام، لأن جهد اليمين عندهم هو الحلف بالله كما قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ

_ 1 أحمد (3/361) . 2 البخاري: المناقب (3836) , ومسلم: الأيمان (1646) , والترمذي: النذور والأيمان (1533 ,1534) , والنسائي: الأيمان والنذور (3766 ,3767 ,3768) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3249) , وابن ماجه: الكفارات (2094) , وأحمد (2/7 ,2/8 ,2/11 ,2/17 ,2/20 ,2/76 ,2/98 ,2/142) , ومالك: النذور والأيمان (1037) , والدارمي: النذور والأيمان (2341) . 3 أحمد (4/55) . 4 النسائي: الزينة (5103) .

يَمُوتُ} 1 فمن كان جهد يمينه الحلف بالشيخ أو بحياته، أو تربته فهو أكبر شركًا منهم، فهذا هو تفصيل القول في هذه المسألة. والحديث دليل على أنه لا تجب الكفارة بالحلف بغير الله مطلقًا، لأنه لم يذكر فيه كفارة للحلف بغير الله ولا في غيره من الأحاديث، فليس فيه كفارة إلا النطق بكلمة التوحيد، والاستغفار. وقال بعض المتأخرين: تجب الكفارة بالحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وهذا قول باطل ما أنزل الله به من سلطان، فلا يلتفت إليه وجوابه المنع. قال المصنف: وقال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا". ش: هكذا ذكر المصنف هذا الأثر عن ابن مسعود ولم يعزه. وقد ذكره ابن جرير بغير سند أيضًا. قال: وقد جاء عن ابن عباس وابن عمر نحوه، ورواه الطبراني بإسناد موقوفًا هكذا. قال المنذري: ورواته رواة الصحيح. قوله: "لأن أحلف بالله ... " إلى آخره. "أن" هي المصدرية، والفعل بعدها منصوب في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء. و "أحب" خبره، ومعناه ظاهر. وإنما رجح ابن مسعودرضي الله عنه الحلف بالله كاذبًا على الحلف بغيره صادقًا، لأن الحلف بالله توحيد، والحلف بغيره شرك، وإن قدر الصدق في الحلف بغير الله فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك. ذكره شيخ الإسلام. وفيه دليل على أن الحلف بغير الله صادقًا أعظم من اليمين الغموس، وفيه دليل على أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر. وفيه شاهد للقاعدة المشهورة وهي: ارتكاب أقل الشرين ضررًا إذا كان لا بد من أحدهما. قال: وعن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا ما شاء الله

_ 1 سورة النحل آية: 38.

وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان" 1. رواه أبو داود بسند صحيح. ش: هذا الحديث رواه أبو داود، كما قال المصنف، ورواه أحمد وابن أبي شيبة، والنسائي، وابن ماجة، والبيهقي وله علة وله شواهد، وهو صحيح المعنى بلا ريب. وسيأتي الكلام على معناه في باب ما شاء الله وشئت إن شاء الله. قال: وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان. هذا الأثر رواه المصنف غير معزو، وقد رواه عبد الرزاق، وابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت" عن مغيرة قال: كان إبراهيم يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك، ويرخص أن يقول: أعوذ بالله ثم بك، ويكره أن يقول: لولا الله وفلان، ويرخص أن يقول: لولا الله ثم فلان، لفظ ابن أبي الدّنيا، وذلك والله أعلم؛ لأن الواو تقتضي مطلق الجمع; فمنع منها للجمع، لئلا توهم الجمع بين الله وبين غيره، كما منع من جمع اسم الله، واسم رسوله في ضمير واحد. و"ثم" إنما تقتضي الترتيب فقط، فجاز ذلك لعدم المانع. ومطابقة الحديثين والأثرين للترجمة ظاهرة على ما فسر به ابن عباس رضي الله عنهما الآية.

_ 1 أبو داود: الأدب (4980) , وأحمد (5/384 ,5/393 ,5/398) .

باب ما جاء في من لم يقنع بالحلف بالله

باب ما جاء في من لم يقنع بالحلف بالله ... [37- باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله] أي: من الوعيد; لأن ذلك يدل على قلة تعظيمه لجناب الربوبية، إذ القلب الممتلئ بمعرفة عظمة الله وجلاله وعزته وكبريائه لا يفعل ذلك.

قال: عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحلفوا بآبائكم، من حَلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله" 1. رواه ابن ماجة بسند حسن. ش: هذا الحديث رواه ابن ماجة في "سننه" وترجم عليه "من حُلف له بالله فليرض" 2. حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة، ثنا أسباط بن محمد عن محمد بن عجلان، عن نافع عن ابن عمر قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يحلف بأبيه فقال: "لا تحلفوا بآبائكم" 3 الحديث. وهذا إسناد جيد على شرط مسلم عند الحاكم وغيره، فإنه متصل ورواته ثقات، بل قد روى مسلم عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكبًا وماشيًا" 4. وأصل هذا الحديث في "الصحيحين" عن ابن عمر بلفظ: "لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" 5. وليس فيه هذه الزيادة. قوله: "لا تحلفوا بآبائكم" 6. تقدم ما يتعلق به في الباب قبله. قوله: "من حلف بالله فليصدق" 7، أي: وجوبًا; لأن الصدق واجب، ولو لم يحلف بالله فكيف إذا حلف به؟ وأيضًا فالكذب حرام لو لم يؤكد الخبر باسم الله فكيف إذا أكده باسم الله؟ . قوله: "ومن حُلف له بالله فليرض" 8 أي: وجوبًا كما يدل عليه قوله: "ومن لم يرض فليس من اللَّه" 9. ولفظ ابن ماجة: "ومن لم يرض بالله فليس من الله" 10. وهذا وعيد كقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} 11. قال ابن كثير: أي: فقد برئ من الله، وهذا عام في الدعاوي وغيرها، ما لم يفض إلى إلغاء حكم شرعي كمن تشهد عليه البينة الشرعية، فيحلف على تكذيبها فلا يقبل حلفه, ولهذا لما "رأى عيسى عليه السلام رجلاً يسرق فقال له: سرقت قال:

_ 1 ابن ماجه: الكفارات (2101) . 2 ابن ماجه: الكفارات (2101) . 3 ابن ماجه: الكفارات (2101) . 4 البخاري: الجمعة (1194) , ومسلم: الحج (1399) , والنسائي: المساجد (698) , وأبو داود: المناسك (2040) , وأحمد (2/4 ,2/57 ,2/58 ,2/65 ,2/72 ,2/80 ,2/101 ,2/107 ,2/155) , ومالك: النداء للصلاة (402) . 5 البخاري: الأيمان والنذور (6646) , ومسلم: الأيمان (1646) , والترمذي: النذور والأيمان (1534) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3249) , وأحمد (2/7 ,2/11 ,2/17 ,2/20 ,2/76 ,2/98 ,2/142) , ومالك: النذور والأيمان (1037) , والدارمي: النذور والأيمان (2341) . 6 ابن ماجه: الكفارات (2101) . 7 ابن ماجه: الكفارات (2101) . 8 ابن ماجه: الكفارات (2101) . 9 ابن ماجه: الكفارات (2101) . 10 ابن ماجه: الكفارات (2101) . 11 سورة آل عمران آية: 28.

كلا والله الذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت عيني" 1. رواه البخاري وفيه وجهان. أحدهما: قال القرطبي: "ظاهر قول عيسى عليه السلام للرجل سرقت أنه خبر جازم، لكونه أخذ مالاً من حرز في خفية، وقول الرجل: كلا نفي لذلك، ثم أكده باليمين. وقول عيسى: آمنت بالله وكذبت عيني أي: صدقت من حلف بالله، وكذبت ما ظهر لي من كون الأخذ سرقة، فإنه يحتمل أن يكون الرجل أخذ ما له فيه حق، أو ما أذن له صاحبه في أخذه، أو أخذه ليقلبه، وينظر فيه ولم يقصد الغصب والاستيلاء". قلت: وهذا فيه نظر وصدر الحديث يرده وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم "رأى عيسى رجلاً يسرق"، فأثبت صلى الله عليه وسلم سرقته. الثاني: ما قاله ابن القيم: "إن الله تعالى كان في قلبه أجل من أن يحلف به أحد كاذبًا. فدار الأمر بين تهمة الحالف، وتهمة بصره، فرد التهمة إلى بصره، كما ظن آدم عليه السلام صدق إبليس لما حلف له أنه ناصح [كما في الأعراف 21] ". قلت: هذا القول أحسن من الأول وهو الصواب إن شاء الله تعالى. وحدثت عن المصنف أنه حمل حديث الباب على اليمين في الدعاوي، كمن يتحاكم عند الحاكم فيحكم على خصمه باليمين، فيحلف فيجب عليه أن يرضى.

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3444) , ومسلم: الفضائل (2368) , والنسائي: آداب القضاة (5427) , وابن ماجه: الكفارات (2102) , وأحمد (2/314 ,2/383) .

باب قول: ما شاء الله وشئت

[38- باب قول: ما شاء الله وشئت] أي ما حكم التكلم بذلك، هل يجوز أم لا؟ وإذا قلنا: لا يجوز فهل هو من الشرك أم لا؟ . قال: عن قتيلة "أن يهوديًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت" 1. رواه النسائي وصححه. ش: هذا الحديث رواه النسائي في "السنن" و "اليوم

_ 1 النسائي: الأيمان والنذور (3773) , وأحمد (6/371) .

والليلة". وهذا لفظه في "اليوم والليلة" أخبرنا يوسف بن عيسى قال: ثنا الفضل بن موسى قال: أنا مسعر عن معبد بن خالد، عن عبد الله بن يسار، عن قتيلة امرأة من جهينة "أن يهوديًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تنددون و [إنّكم] تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي عليه السلام إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: "ورب الكعبة، ويقول أحدكم: ما شاء الله ثم شئت". ورواه عن أحمد بن حفص حدثني أبي، حدثني إبراهيم بن طهمان، عن مغيرة عن معبد بن خالد عن قتيلة امرأة من جهينة قالت: دخلت يهودية على عائشة فقالت: إنكم تشركون وساق الحديث، ولم يذكر عبد الله بن يسار، والمشهور ذكره، وقد رواه ابن سعد، والطبراني، وابن منده، وأشار ابن سعد إلى أنها ليس لها غيره. قوله: "عن قتيلة"، هو بضم القاف وفتح التاء بعدها مثناة تحتية مصغرًا بنت صيفي الجهنية، أو الأنصارية صحابية. قوله: "إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت". هذا نص في أن هذا اللفظ من الشرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر اليهودي على تسمية هذا اللفظ تنديدًا أو شركًا. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأرشد إلى استعمال اللفظ البعيد من الشرك. وقول: "ما شاء الله ثم شئت"، وإن كان الأولى قول: ما شاء الله وحده، كما يدل عليه حديث ابن عباس وغيره، وعلى النهي عن قول: ما شاء الله وشئت جمهور العلماء، إلا أنه حكي عن أبي جعفر الداودي ما يقتضي جواز ذلك احتجاجا بقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} 1. وقوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} 2. ونحو ذلك. والصواب القول الأول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك وقال لمن قال له ذلك: أجعلتني لله ندًّا. وأقر اليهودي على تسميته تنديدًا وشركا، ومن المحال أن يكون هذا أمرًا جائزًا. وأما ما احتج من القرآن، فقد ذكروا عن ذلك جوابين:

_ 1 سورة التوبة آية: 74. 2 سورة الأحزاب آية: 37.

أحدهما: أن ذلك لله وحده، لا شريك له، كما أنه تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته فكذلك هذا. الثاني: أن قوله: "ما شاء الله وشئت"، تشريك في مشيئة الله، وأما الآية فإنما أخبر بها عن فعلين متغايرين، فأخبر تعالى أنه أغناهم وأن رسوله أغناهم. وهو من الله حقيقة، لأنه الذي قدر ذلك، ومن الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة باعتبار تعاطي الفعل، وكذا الإنعام أنعم الله على زيد بالإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم أنعم عليه بالعتق، وهذا بخلاف المشاركة في الفعل الواحد، فالكلام إنما هو فيه، والمنع إنما هو منه. فإن قلت: قد ذكر النحاة أن "ثم" تقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم كالواو فلم جاز ذلك بثم؟ ومنع منه الواو. وغاية ما يقال: إن "ثم" تقتضي الترتيب بخلاف الواو، فإنها تقتضي مطلق الجمع، وهذا لا يغير صورة الاشتراك قبل النهي عن ذلك، إنما هو إذا أتى بصورة التشريك جميعًا، وهذا لا يحصل إلا بالواو بخلاف ثم، فإنها لا تقتضي الجمع، إنما تقتضي الترتيب، فإذا أتى بها زالت صورة التشريك والجمع في اللفظ. وأما المعنى، فلله تعالى ما يختص به من المشيئة، وللمخلوق ما يختص به، فلو أتى بثم وأراد أنه شريك لله تعالى في المشيئة كلولا الله ثم فلان، مثلاً لم يوجد ذلك فالنهي باق بحاله، بل يكون في هذه الصورة أشد ممن أتى بالواو مع عدم هذا الاعتقاد. ويشبه ذلك الجمع بين اسم الله واسم غيره في ضمير واحد، ولهذا "أنكره النبي صلى الله عليه وسلم على الخطيب قال: ومن يعصهما فقد غوى، فقال له: بئس الخطيب أنت" 1. قوله: "فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة"، تقدم ما يتعلق بالحلف بغير الله قريبًا. وفي الحديث من الفوائد: معرفة اليهود بالشرك الأصغر، وكثير ممن يدعي الإسلام لا يعرف الشرك الأكبر، بل يصرف خالص العبادات من الدعاء والذبح، والنذر لغير الله ويظن أن ذلك

_ 1 مسلم: الجمعة (870) , والنسائي: النكاح (3279) , وأبو داود: الصلاة (1099) والأدب (4981) , وأحمد (4/256 ,4/379) .

من دين الإسلام، فعلمتَ أن اليهود في ذلك الوقت أحسن حالاً ومعرفة منهم. وفيه فهم الإنسان إذا كان له هوى كما نبه عليه المصنف، وأن المعرفة بالحق لا تستلزم الإيمان ولا العمل، وقبول الحق ممن جاء به، وإن كان عدوًّا مخالفًا في الدين، وإن الحلف بغير الله من الشرك الأصغر لا يمرق به الإنسان من الإسلام. قال: وله أيضًا عن ابن عباس "أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء اللَّه وشئت. قال: "أجعلتني لله ندًّا ما شاء الله وحده" 1. ش: هذا الحديث رواه النسائي، كما قال المصنف لكن في "اليوم والليلة" وهذا لفظه: أخبرنا علي بن خشرم عن عيسى، عن الأجلح عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس "أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في بعض الأمر فقال: ما شاء اللَّه وشئت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجعلتني لله عدلاً؟ قل: ما شاء الله وحده" 2. ورواه ابن ماجة في الكفارات من "السنن" عن هشام بن عمار، عن عيسى نحوه. ولفظه: "إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت ... " 3 الحديث. وقد تابع عيسى على هذا الحديث سفيان الثوري، وعبد الرحمن وجعفر بن عون عن الأجلح وكلهم ثقات. وخالفهم القاسم بن مالك وهو ثقة فرواه عن الأجلح، عن أبي الزبير عن جابر، والأول أرجح. ويحتمل أن يكون عن الأجلح عنهما جميعًا. قوله: "أجعلتني لله ندًّا"، هذه رواية ابن مردويه، والرواية عند النسائي وابن ماجة "أجعلتني لله عدلاً" والمعنى واحد. قال ابن القيم: ومن ذلك أي: من الشرك بالله في الألفاظ قول القائل للمخلوق: ما شاء الله وشئت، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت، وذكر الحديث المشروح. ثم قال: هذا مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة - كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} 4.

_ 1 أحمد (1/224) . 2 أحمد (1/214) . 3 ابن ماجه: الكفارات (2117) . 4 سورة التكوير آية: 28.

فكيف بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما لي إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من يركات الله وبركاتك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض. والله وحياة فلان أو يقول: نذرًا لله ولفلان، وأنا تائب لله ولفلان، وأرجو الله وفلانًا. فوازن بين هذه الألفاظ، وبين قول القائل: ما شاء الله وشئت، ثم انظر أيهما أفحش. يتبين لك أن قائلها أولى بجواب النبي صلى الله عليه وسلم لقائل تلك الكلمة، وأنه إذا كان قد جعله ندًّا بها، فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء، بل لعله أن يكون من أعدائه ندًّا لرب العالمين. فالسجود، والعبادة، والتوكل، والإنابة، والتقوى، والخشية، والتوبة، والنذر، والحلف، والتسبيح، والتكبير، والتهليل، والتحميد، والاستغفار، وحلق الرأس خضوعًا وتعبدًا، والطواف بالبيت والدعاء، كل ذلك محض حق لله الذي لا يصلح ولا ينبغي لسواه، من ملك مقرب ولا نبي مرسل. وفي "مسند" الإمام أحمد: "أن رجلاً أتى به النبي صلى الله عليه وسلم قد أذنب فلما وقف بين يديه قال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال: عرف الحق لأهله" 1. قلت: إذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم لمن قال له: ما شاء الله وشئت فكيف بمن يقول فيه [البوصيري في البردة] ؟!: 154-فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم. ويقول في همزيته: 427-هذه علتي وأنت طبيبي ... ليس يخفى عليك في القلب داء. وأشباه هذا من الكفر الصريح. قال: ولابن ماجة عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: "رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عُزَيْر بن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله، وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم

_ 1 أحمد (3/435) .

تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال: "هل أخبرت بها أحدًا؟ قلت: نعم قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم: كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا: ما شاء الله وحده". ش: هذا الحديث لم يروه ابن ماجة بهذا اللفظ عن الطفيل، إنما رواه عن حذيفة ولفظه: حدثنا هشام بن عمار ثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة بن اليمان "أن رجلاً من المسلمين رأى في النوم أنه لقي رجلاً من أهل الكتاب فقال: نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أما والله إن كنت لأعرفها لكم قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد" 1. ورواه أحمد والنسائي بنحوه. وفي رواية للنسائي أن الراوي لذلك هو حذيفة نفسه. هذه رواية ابن عيينة، ثم ذكر ابن ماجة حديث الطفيل هذا فساق إسناده ولم يذكر اللفظ. فقال: حدثنا ابن أبي الشوارب، ثنا ابن عوانة عن عبد الملك، عن ربعي بن حراش، عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، هذا لفظ ابن ماجة. وهكذا رواه حماد بن سلمة وشعبة وابن إدريس عن عبد الملك، فقالوا: عن الطفيل وهو الذي رجحه الحفاظ، وقالوا: ابن عيينة وهم في قوله: عن حذيفة فقد تبين أن هذا الحديث المذكور لم يروه ابن ماجة بهذا اللفظ، لكن رواه أحمد والطبراني بنحو مما ذكره المصنف.

_ 1 ابن ماجه: الكفارات (2118) , وأحمد (5/72) , والدارمي: الاستئذان (2699) .

قوله: "عن الطفيل" هو ابن سخبرة وفي حديثه هذا أنه أخو عائشة لأمها، وكذا قال الحربي. وقال: الذي عندي أن الحارث بن سخبرة قدم مكة، فحالف1 أبا بكر فمات، فخلف أبو بكر على أم رومان فولدت له عبد الرحمن وعائشة، وكان لها من الحارث الطفيل بن الحارث، فهو أخو عائشة لأمها. وقيل غير ذلك. وهو صحابي ليس له إلا هذا الحديث قال البغوي: لا أعلم له غيره. قوله: "رأيت فيما يرى النائم". كما روى أحمد، والطبراني. قوله: "على نفر من اليهود" وفي رواية أحمد، والطبراني: "كأني مررت برهط من اليهود فقلت: من أنتم فقالوا: نحن اليهود. والنفر رهط الإنسان وعشيرته"، وهو اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة، ما بين الثلاثة إلى العشرة، ولا واحد له من لفظه. قاله أبو السعادات. قوله: "فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله"، أي: نعم القوم أنتم لولا ما أنتم عليه من الشرك، والمسبة لله بنسبة الولد إليه وهذا لفظ الطبراني، ولفظ أحمد قال: أنتم القوم. قوله: "قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد". عارضوه بذكر شيء مما في المسلمين من الشرك الأصغر فقالوا له: هذا الكلام، أي: نعم القوم أنتم لولا ما فيكم من الشرك. وكذلك جرى له مع النصارى. قوله: "فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت". وفي رواية أحمد: "فلما أصبح أخبر بها من أخبر"، وفي رواية الطبراني: "فلما أصبحت أخبرت بها أناسًا".

_ 1 في الطبعة السابقة: فخالف وهو تصحيف.

قوله: "ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته". فيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وعدم احتجابه عن الناس كالملوك بحيث إذا أراد أحد الوصول إليه أمكنه ذلك بلا كلفة ولا مشقة، بل يصلون إليه ويقضي حاجتهم ويخبرونه بما يحتاجون إليه من أمر دينهم ودنياهم، ويقصون عليه ما يرونه في المنام، بل كان صلى الله عليه وسلم يعتني بالرؤيا لأنها من أقسام الوحي، وكان إذا صلى الصبح كثيرًا ما يقول: "هل رأى أحد منكم رؤيا؟ " 1. قوله: "فحمد الله وأثنى عليه". وفي رواية أحمد: "فلما أصبحوا خطبهم فحمد الله وأثنى عليه". وفي رواية الطبراني: "فلما صلى الظهر قام خطيبًا". ففيه مشروعية حمد الله والثناء عليه في الخطب، وفيه الخطبة في الأمور المهمة. وأما معنى الحمد، فقد تقدم في باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً} 2. وأما الثناء فقال ابن القيم: هو تكرار المحامد. قوله: "ثم قال: أما بعد". في رواية أحمد، والطبراني: "ثم قال: إن طفيلاً رأى رؤيا"، ولم يذكر أما بعد. وفي رواية للطبراني: فقام نبي الله على المنبر فقال: "إن أخاكم رأى رؤيا قد حدثكم بما رأى". فيه مشروعية "أما بعد" في الخطب في هذا الحديث، وإلا فلا يضر فإنها ثابتة في خطبه عليه السلام، وفي غيره. قوله: "وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها" وفي رواية أحمد، والطبراني "وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها" 3. وهذا الحياء منهم ليس على سبيل الحياء من الإنكار عليهم، بل كان صلى الله عليه وسلم يكرهها ويستحيي أن يذكرها، لأنه لم يأمر بإنكارها، فلما جاء الأمر الإلهي بالرؤيا الصالحة أنكرها، ولم يستحي في ذلك. وفيه دليل على أنها من الشرك الأصغر، إذ لو كانت من الأكبر لأنكرها من أول مرة قالوها. وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحياء وأنه من الأخلاق المحمودة.

_ 1 البخاري: الجنائز (1386) , ومسلم: الرؤيا (2275) , والترمذي: الرؤيا (2294) , وأحمد (5/8 ,5/10 ,5/14) . 2 سورة الأعراف آية: 191. 3 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , وأبو داود: الصلاة (767) , وأحمد (6/156) .

قوله: "فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده" 1. هذا على سبيل الاستحباب وإلا فيجوز أن يقول: ما شاء الله ثم شاء فلان كما تقدم. وفيه أن الرؤيا قد تكون سببًا لشرع بعض الأحكام كما في هذا الحديث، وحديث الأذان، وحديث الذكر بعد الصلوات.

_ 1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , وأبو داود: الصلاة (767) , وأحمد (6/156) .

باب من سب الدهر فقد آذى الله

[39- باب من سب الدهر فقد آذى الله] ش: مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، لأن سب الدهر يتضمن الشرك كما سيأتي بيانه. ولفظ الأذى في اللغة هو لما خف أمره، وضعف أثره من الشرك والمكروه. ذكره الخطابي. قال شيخ الإسلام: وهو كما قال. وهذا بخلاف الضرر، فقد أخبر سبحانه أن العباد لا يضرونه كما قال تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} 1. فبين سبحانه أن الخلق لا يضرونه، لكن يؤذونه إذا سبوا مقلب الأمور. وقال وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ ... } 2. ش: قال ابن كثير: يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} 3. قال ابن جرير: أي: ما حياة إلا حياتنا التي نحن فيها، ولا حياة سواها تكذيبًا منهم بالبعث بعد الموت {نَمُوتُ وَنَحْيَا} 4. قال ابن كثير: أي: يموت قوم ويعيش آخرون، وما ثم معاد ولا قيامة. وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البدأة والرجعة، وتقوله الفلاسفة الدورية المنكرون للصانع، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه. فزعموا أن هذا قد تكرر

_ 1 سورة آل عمران آية: 176. 2 سورة الجاثية آية: 24. 3 سورة الجاثية آية: 24. 4 سورة الجاثية آية: 24.

مرات لا تتناهى، فكابروا العقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} 1. قال ابن جرير: أي: وما يهلكنا فيفنينا إلا مر الليالي والأيام، وطول العمر إنكارًا منهم أن يكون لهم رب يفنيهم ويهلكهم. ثم روى بإسناد على شرط "الصحيحين" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا". فقال الله في كتابه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} 2. قال فيسبون الدهر فقال الله تبارك وتعالى: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار" 3. قوله: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} 4. قال ابن جرير: يعني: من يقين علم {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} 5. قال ابن كثير: يتوهمون ويتخيلون. فإن قلت: فأين مطابقة الآية للترجمة إذا كانت خبرًا عن الدهرية المشركين؟ قيل: المطابقة ظاهرة، لأن من سب الدهر فقد شاركهم في سبه، وإن لم يشاركهم في الاعتقاد. [النهي عن سب الدهر] قال في "الصحيح" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار" 6. وفي رواية: "لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله" 7. ش: قوله: في "الصحيح"، أي: "صحيح البخاري". ورواه أحمد بهذا اللفظ، وأخرجه مسلم بلفظ آخر. قوله: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر"، فيه أن سب الدهر يؤذي الله تبارك وتعالى. قال الشافعي في تأويله والله أعلم: إن العرب كان من شأنها أن تذم الدهر، وتسبه عند المصائب التي تنْزل بهم، من موت، أو هرم، أو تلف، أو غير ذلك، فيقولون: إنما يهلكنا

_ 1 سورة الجاثية آية: 24. 2 سورة الجاثية آية: 24. 3 مسلم: الإيمان (121) , وأحمد (4/204) . 4 سورة الجاثية آية: 24. 5 سورة الجاثية آية: 24. 6 البخاري: تفسير القرآن (4826) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/238 ,2/275 ,2/318 ,2/394 ,2/395 ,2/491 ,2/499) , ومالك: الجامع (1846) . 7 البخاري: تفسير القرآن (4826) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأبو داود: الأدب (5274) , وأحمد (2/238 ,2/259 ,2/272 ,2/275 ,2/318 ,2/394 ,2/395 ,2/491 ,2/496 ,2/499) , ومالك: الجامع (1846) .

الدهر وهو الليل والنهار، ويقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر. فيجعلون الليل والنهار يفعلان الأشياء، فيذمون الدهر بأنه الذي يفنيهم، ويفعل بهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدهر" 1. على أنه الذي يفنيكم والذي يفعل بكم هذه الأشياء، فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء، فإنما تسبون الله تبارك وتعالى، فإنه فاعل هذه الأشياء. انتهى. قلت: والظاهر أن المشركين نوعان. أحدهما: من يعتقد أن الدهر هو الفاعل، فيسبه لذلك. فهؤلاء هم الدهرية. الثاني: من يعتقد أن المدبر للأمور هو الله وحده لا شريك له، ولكن يسبون الدهر لما يجري عليهم فيه من المصائب والحوادث، فيضيفون ذلك إليه من إضافة الشيء إلى محله، لا لأنه عندهم فاعل لذلك. والحديث صريح في النهي عن سب الدهر مطلقًا، سواء اعتقد أنه فاعل أو لم يعتقد ذلك، كما يقع كثيرًا ممن يعتقد الإسلام. كقول ابن المعتز: يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدًا ... وأنت والد سوء تأكل الولدا. وقول أبي الطيب: قبحا لوجهك يا زمان كأنه ... وجه له من كل قبح برقع. وقول الطرفي: إن تبتلى بلئام الناس يرفعهم ... عليك دهر لأهل الفضل قد خانا. وقول الحريري: ولا تأمن الدهر الخئون ومكره ... فكم خامل أخنى عليه ونابه. ونحو ذلك كثير. وكل هذا داخل في الحديث. قال ابن القيم: وفي هذا ثلاث مفاسد عظيمة: أحدها: سبه من ليس أهلاً للسب، فإن الدهر خلق مسخر من

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4826) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأبو داود: الأدب (5274) , وأحمد (2/238 ,2/259 ,2/272 ,2/275 ,2/318 ,2/394 ,2/395 ,2/491 ,2/496 ,2/499) , ومالك: الجامع (1846) .

خلق الله مقاد لأمره، متذلل لتسخيره، فسابه أولى بالذم والسب منه. والثانية: أن سبه متضمن للشرك، فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع وأنه مع ذلك ظالم قد ضر من لا يستحق العطاء، ورفع من لا يستحق الرفعة، وحرم من لا يستحق الحرمان. وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة وأشعار هؤلاء الظلمة الخونة في سبه كثيرة جدًّا. وكثير من الجهال يصرح بلعنه وتقبيحه. الثالثة: أن السب منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال التي لو اتبع الحق فيها أهواءهم لفسدت السموات والأرض، وإذا وافقت أهواءهم حمدوا الدهر وأثنوا عليه، وفي حقيقة الأمر، فرب الدهر هو المعطي المانع الخافض الرافع المعز المذل، والدهر ليس له من الأمر شيء، فمسبتهم الدهر مسبة لله عزّ وجل ولهذا كانت مؤذية للرب تعالى، فساب الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما: إما مسبة الله أو الشرك به، فإنه إن اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك، وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك، وهو يسب من فعله فهو يسب الله تعالى. انتهى. وأشار ابن أبي جمرة1 إلى أن النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى على الأدنى، وأن فيه إشارة إلى ترك سب كل شيء مطلق، إلا ما أذن الشرع فيه، لأن العلة واحدة. قوله: "وأنا الدهر"، قال الخطابي: معناه: أنا صاحب الدهر، ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر، فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها، وإنما الدهر زمان جعل ظرفًا لمواقع الأمور. قلت: ولهذا قال في الحديث: "وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب

_ 1 في الطبعة السابقة: حمزة وهو تصحيف.

الليل والنهار" 1. وفي رواية لأحمد: "بيدي الليل والنهار أجده وأبليه وأذهب بالملوك" 2. وفي رواية: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر، الأيام والليالي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك". قال الحافظ: وسنده صحيح. فقد تبين بهذا خطأ ابن حزم في عده الدهر من أسماء الله الحسنى، وهذا غلط فاحش، ولو كان كذلك لكان الذين قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} 3 مصيبين. قوله: "وفي رواية". هذه الرواية رواها مسلم وغيره. قال المصنف: وفيه أنه قد يكون سبًّا ولو لم يقصده بقلبه.

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4826) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأبو داود: الأدب (5274) , وأحمد (2/238 ,2/318 ,2/394 ,2/395 ,2/491 ,2/496 ,2/499) . 2 أحمد (2/496) . 3 سورة الجاثية آية: 24.

باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه

[40- باب التسمي بقاضي القضاة] ونحوه كأقضى القضاة، وحاكم الحكام، أو سيد الناس ونحو ذلك. أي: ما حكم التسمي بذلك هل يجوز أم لا؟ قال في "الصحيح" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخنع اسم عند الله رجل يسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله" 1. قال سفيان: "مثل شاهان شاه وفي رواية: "أغيظ رجل على الله وأخبثه" 2. قوله: "أخنع"، يعني أوضع. ش: قوله: "في الصحيح" أي: "الصحيحين". قوله: "إن أخنع" ذكر المصنف أن معناه: أوضع. وهذا التفسير رواه مسلم عن الإمام أحمد، عن أبي عمرو الشيباني، قال عياض: معناه: إنه أشد الأسماء صغارًا، وبنحو ذلك فسره أبو عبيد. والخانع: الذليل، وخنع الرجل: ذل. قال ابن بطال: وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلاًّ. وقد فسر الخليل أخنع. أفجر، فقال: الخنع: الفجور. وفي رواية: "أخنى الأسماء"، من الخنا بفتح المعجمة وتخفيف النون مقصور،

_ 1 البخاري: الأدب (6205 ,6206) , ومسلم: الآداب (2143) , والترمذي: الأدب (2837) , وأبو داود: الأدب (4961) , وأحمد (2/244 ,2/315) . 2 مسلم: الآداب (2143) , والترمذي: الأدب (2837) , وأبو داود: الأدب (4961) , وأحمد (2/244 ,2/315) .

وهو الفحش في القول. وفي رواية "اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك" رواه الطبراني. قوله: "رجل يسمى". بصيغة المجهول من التسمية، أي: يدعى بذلك ويرضى به. وفي بعض الروايات: تسمى بفتح الفوقانية وتشديد الميم ماضٍ معلوم من التسمي، أي: سمى نفسه. قوله: "ملك الأملاك" هو بكسر اللام من ملك. والأملاك جمع ملك، ثم أكد النبي صلى الله عليه وسلم التشديد في تحريم التسمي بذلك بقوله: "لا مالك إلا الله"، فالذي تسمى بهذا الاسم قد كذب وفجر وارتقى إلى ما ليس له بأهل، بل هو حقيق برب العالمين، فإنه الملك في الحقيقة، فلهذا كان أذل الناس عند الله يوم القيامة. والفرق بين الملك والمالك أن المالك هو المتصرف بفعله وأمره، ذكره ابن القيم. فالذي تسمى بملك الأملاك، أو ملك الملوك قد بلغ الغاية في الكفر والكذب. ولقد كان بعض السلاطين المساكين يفتخر بهذا الاسم فأذله الله. قوله: "قال سفيان": هو ابن عيينة تقدمت ترجمته. قوله: "مثل شاهان شاه" - هو بكسر النون والهاء في آخره، وقد تنون وليست هاء تأنيث فلا يقال بالمثناة أصلاً، وإنما مثَّل سفيان بشاهان شاه لأنه قد كثرت التسمية به في ذلك العصر، فنبه سفيان بأن الاسم الذي ورد الخبر بذمه لا ينحصر في ملك الأملاك، بل كل ما أدى معناه بأي لسان كان، فهو مراد بالذم، ذكره الحافظ. والحديث صريح في تحريم التسمي بملك الأملاك ونحوه، كملك الملوك وسلطان السلاطين. قال ابن القيم: "لما كان الملك لله وحده لا ملك على الحقيقة سواه، كان أخنع اسم وأوضعه عنده، وأبغضه له اسم شاهان شاه،

أي: ملك الملوك، وسلطان السلاطين، فإن ذلك ليس لأحد غير الله. فتسمية غيره بهذا من أبطل الباطل، والله لا يحب الباطل وقد ألحق أهل العلم بهذا قاضي القضاة وقالوا: ليس قاضي القضاة إلا من يقضي الحق وهو خير الفاصلين الذي إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون. ويلي هذا الاسم في القبح والكراهة والكذب سيد الناس وسيد الكل، وليس ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة كما قال: "أنا سيد ولد آدم"، فلا يجوز لأحد قط أن يقول عن غيره: هو سيد الناس. كما لا يجوز له أن يقول: أنا سيد ولد آدم عليه السلام". وقال ابن أبي جمرة: "يلتحق بملك الأملاك قاضي القضاة، وإن كان قد اشتهر في بلاد الشرق من قديم الزمان إطلاق ذلك على كبير القضاة. وقد سلم أهل المغرب من هذا، فاسم كبير القضاة عندهم قاضي الجماعة. وقد زعم بعض المتأخرين [هو ابن المنيّر] أن التسمي بقاضي القضاة ونحوها جائز، واستدل له بحديث: "أقضاكم علي". قال: فيستفاد منه أن لا حرج على من أطلق على قاض أن يكون أعدل القضاة، وأعلمهم في زمانه أقضى القضاة، أو يريد إقليمه، أو بلده". وتعقبه العالم العراقي، فصوب المنع، ورد ما احتج به بأن التفضيل في ذلك وقع في حق من خوطب به، ومن يلتحق بهم، فليس مساويًا لإطلاق التفضيل بالألف واللام. قال: ولا يخفى ما في ذلك من الجرأة وسوء الأدب. ولا عبرة بقول من ولي القضاة، فنعت بذلك، فلذ في سمعه واحتال في الجواز، فإن الحق أحق أن يتبع".

قلت: وقد تبين بهذا مطابقة الحديث للترجمة. قوله: وفي رواية: "أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه" 1 هذه الرواية رواها مسلم في "صحيحه". قال ابن أبي جمرة: وفي الحديث مشروعية الأدب في كل شيء، لأن الزجر عن ملك الأملاك، والوعيد عليه يقتضي المنع منه مطلقًا سواء أراد من تسمى بذلك أنه ملك على ملوك الأرض، أم على بعضها. وسواء كان محقًّا في ذلك أم مبطلاً، مع أنه لا يخفى الفرق بين من قصد ذلك وكان فيه صادقًا، ومن قصده وكان فيه كاذبًا. قلت: يعني أن الثاني أشد إثمًا من الأول.

_ 1 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/180 ,6/256) .

باب احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك

باب احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك ... [41- باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك] ش: أي: لأجل احترامها وهو تعظيمها. وذلك من تحقيق التوحيد. ويستفاد منه المنع من التسمي بهذا ابتداء من باب الأولى، لكن في الأسماء المختصة بالله تعالى. قال: عن أبي شريح أنه كان يسمى أبا الحكم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو الحكم، وإليه الحكم. فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين. فقال: ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟ فقلت: شريح، ومسلم، وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: أنت أبو شريح" 1. رواه أبو داود وغيره. ش: هذا الحديث رواه أبو داود كما قال المصنف، ورواه النسائي ولفظ أبي داود من طريق يزيد بن المقدام بن شريح عن أبيه عن جده عن أبيه هانئ، وهو أبو شريح أنه "لما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله هو الحكم، وإليه الحكم فلم

_ 1 سنن النسائي: كتاب آداب القضاة (5387) , وسنن أبي داود: كتاب الأدب (4955) .

تكنى أبا الحكم؟ فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء" 1 الحديث. قال ابن مفلح: وإسناده جيد، ورواه الحاكم وزاد: "فدعا له ولولده". قوله: "عن أبي شريح". هو بضم المعجمة وفتح الراء وآخره مهملة مصغر، واسمه هانئ بن يزيد الكندي، قال الحافظ: وقيل: الحارثي الضبابي قاله المزي. وقيل: المذحجي وقيل: غير ذلك: صحابي نزل الكوفة، ولا عبرة بقول من قال: إنه الخزاعي، ولا من ظن أنه النخعي والد شريح القاضي، فإن ذلك خطأ فاحش. قوله: "إنه كان يكنى أبا الحكم". قال بعضهم: الكنية قد تكون بالأوصاف كأبي الفضائل، وأبي المعالي، وأبي الخير، وأبي الحكم. وقد تكون بالنسبة إلى الأولاد كأبي سلمة، وأبي شريح وإلى ما يلابسه كأبي هريرة فإنه عليه السلام رآه ومعه هرة فكناه بأبي هريرة، وقد تكون للعلمية الصرفة كأبي بكر. قوله: "إن الله هو الحكم وإليه الحكم"، أما الحكم فهو من أسماء الله تبارك وتعالى كما في هذا الحديث، وقد ورد عده في الأسماء الحسنى مقرونًا بالعدل، فسبحان الله ما أحسن اقتران هذين الاسمين! قال في "شرح السنة" الحكم: هو الحاكم الذي إذا حكم لا يرد حكمه، وهذه الصفة لا تليق بغير الله تعالى كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} 2 وقال بعضهم: عرف الخبر في الجملة الأولى، وأتى بضمير الفصل فدل على الحصر. وإن هذا الوصف مختص به لا يتجاوز إلى غيره. وأما قوله: "وإليه الحكم"، أي: إليه الفصل بين العباد في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3. وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} 4 وفيه الدليل على المنع من التسمي بأسماء الله المختصة به، والمنع مما يوهم عدم الاحترام لها كالتكني بأبي الحكم ونحوه.

_ 1 النسائي: آداب القضاة (5387) , وأبو داود: الأدب (4955) . 2 سورة الرعد آية: 41. 3 سورة القصص آية: 88. 4 سورة الأنعام آية: 57.

قوله: "إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم". أي: أنا لم أُكَنّ نفسي بهذه الكنية، وإنما كنت أحكم بين قومي فكنوني بها. وفيه جواز التحاكم إلى من يصلح للقضاء، وإن لم يكن قاضيًا، وأنه يلزم حكمه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أحسن هذا". قال الخلخالي: للتعجب، أي: الحكم بين الناس حسن، ولكن هذه الكنية غير حسنة. وقال غيره: أي: الذي ذكرته من الحكم بالعدل. وقيل: ما أحسن هذا! أي: ما ذكرت من وجه الكنية. قال بعضهم: وهو الأولى. قلت: فعلى هذا يكون حكمه لقومه قبل إسلامه، إذ يبعد أن يكون قاضيًا لهم قبل أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعلم منه; لأن هذه القصة كانت بعد إسلامه بقليل، لأنه كان مع وفد قومه حين أسلموا، وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحَسِّنُ أمر حكام الجاهلية. قوله: "قال: شريح ومسلم وعبد الله". صريح في أن الواو لا تقتضي الترتيب وإنما تقتضي مطلق الجمع، فلذا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأكبر، إذ لو كانت دالة على الترتيب لم يحتج إلى سؤال عن أكبرهم. قوله: "فأنت أبو شريح"، أي رعاية للأكبر منا في التكريم والإجلال، فإن الكبير أولى بذلك. قال في "شرح السنة": فيه أن يكنى الرجل بأكبر بنيه، فإن لم يكن له ابن، فبأكبر بناته. وكذلك المرأة تكنى بأكبر بنيها فإن لم يكن لها ابن فبأكبر بناتها. انتهى. وفيه تقديم الأكبر، وفيه أن استعمال اللفظ الشريف الحسن مكروه في حق من ليس كذلك، ومنه أن يقول المملوك لسيده وغيره: "ربي" نبه عليه ابن القيم.

باب من هزل بشيء فيه: ذكر الله، أو القرآن، أو الرسول

[42- باب من هزل بشيء فيه ذكر الله، أو القرآن أو الرسول] ش: أي: إنه يكفر بذلك لاستخفافه بجناب الربوبية والرسالة، وذلك مناف للتوحيد. ولهذا أجمع العلماء على كفر من فعل شيئًا من

ذلك فمن استهزأ بالله، أو بكتابه أو برسوله، أو بدينه، كفر ولو هازلاً لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعًا. قال: وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ... } 1. ش: يقول تعالى مخاطبًا لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} ، أي: سألت المنافقين الذين تكلموا بكلمة الكفر استهزاء {لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} 2، أي: يعتذرون بأنهم لم يقصدوا الاستهزاء والتكذيب، إنما قصدوا الخوض في الحديث واللعب: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 3، لم يعبأ باعتذارهم إما لأنهم كانوا كاذبين فيه، وإما لأن الاستهزاء على وجه الخوض واللعب لا يكون صاحبه معذورًا، وعلى التقديرين فهذا عذر باطل، فإنهم أخطئوا موقع الاستهزاء. وهل يجتمع الإيمان بالله، وكتابه، ورسوله، والاستهزاء بذلك في قلب؟! بل ذلك عين الكفر فلذلك كان الجواب مع ما قبله {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 4. قال شيخ الإسلام: فقد أمره أن يقول: كفرتم بعد إيمانكم. وقول من يقول: إنهم قد كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم لا يصح، لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر. فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانكم فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد: إنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا ذلك إلا لخوضهم، وهم مع خوضهم ما زالوا هكذا، بل لما نافقوا وحذروا {أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} ، [التّوبة، من الآية: 64] ، تبين ما في قلوبهم من النفاق وتكلموا بالاستهزاء، أي: صاروا كافرين بعد إيمانهم. ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين إلى أن قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} 5، فاعترفوا ولهذا قيل: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} 6، فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرًا، بل ظنوا أن ذلك ليس

_ 1 سورة التوبة آية: 65. 2 سورة التوبة آية: 65. 3 سورة التوبة آية: 65. 4 سورة التوبة آية: 66. 5 سورة التوبة آية: 65. 6 سورة التوبة آية: 66.

بكفر. فتبين أن الاستهزاء بآيات الله ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم. ولكن لم يظنوه كفرًا وكان كفرًا كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه. وقوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} 1. قال ابن كثير: أي: لا يعفى عن جميعكم، ولا بد من عذاب بعضكم بأنهم كانوا مجرمين بهذه المقالة الفاجرة. قيل: إن الطائفة مخشي بن حُمَير عفا الله عنه وتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدًا لا يعلم مقتله، فقتل يوم اليمامة، ولم يعلم مقتله، ولا من قتله، ولا يدرى له عين ولا أثر. وقيل: إن الطائفة زيد بن وديعة. والأول أشهر، ويحتمل أن الله عفا عنهما جميعًا. وفي الآية دليل على أن الرجل إذا فعل الكفر ولم يعلم أنه كفر لا يعذر بذلك، بل يكفر، وعلى أن الشاك2 كافر بطريق الأولى نبه عليه شيخ الإسلام. [النهي عن الخوض بآيات الله والاستهزاء بها] قال: عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض أنه "قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء. يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء. فقال له عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقًا بنسعة3ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ما يلتفت إليه وما يزيد عليه".

_ 1 سورة التوبة آية: 66. 2 في الطبعة السابقة: الساب. 3 بكسر فسكون: سير مضفور يجعل زماما للبعير.

ش: هذا الأثر ذكره المصنف مجموعًا من رواية ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة، وقد ذكره قبله كذلك شيخ الإسلام. فأما أثر ابن عمر فرواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما بنحو مما ذكره المصنف. وأما أثر محمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة فهي معروفة لكن بغير هذا اللفظ. قوله: "عن ابن عمر". هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. ومحمد بن كعب هو محمد بن كعب بن سليم أبو حمزة القرظي المدني. قال البخاري: إن أباه كان ممن لم ينبت من بني قريظة، وهو ثقة عالم مات سنة عشرين ومئة. وزيد بن أسلم هو مولى عمر بن الخطاب، والد عبد الرحمن وإخوته، يكنى أبا عبد الله، ثقة مشهور مات سنة ست وثلاثين ومئة. وقتادة هو ابن دعامة وتقدم. قوله: "دخل حديث بعضهم في بعض"، أي: إن الحديث مجموع من رواياتهم، فلذلك دخل بعضه في بعض. قوله: "إنه قال رجل في غزوة تبوك"، لم أقف على تسمية القائل لذلك أبهم اسمه في جميع الروايات التي وقفت عليها. ولكن قد ورد تسمية جماعة ممن نزلت فيهم الآية مع اختلاف الرواية فيما قالوه من الكلام. ففي بعض الروايات أنهم قالوا ما ذكره المصنف. وعن مجاهد في الآية: "قال رجل من المنافقين يحدثنا محمد أن ناقة فلان بواد كذا وكذا في يوم كذا وكذا وما يدريه بالغيب؟! ". رواه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وعن قتادة قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته إلى تبوك، وبين يديه أناس من المنافقين، فقالوا: يرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟! هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم احبسوا علي الركب. فأتاهم فقال: "قلتم كذا، وقلتم كذا. قالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب" فأنزل الله فيهم ما تسمعون. رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم. وفي رواية جابر بن عبد الله عند ابن

مردويه: " كان فيمن تخلف من المنافقين بالمدينة وداعه بن ثابت أحد بني عمرو بن عوف، فقيل له: ما خلفك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الخوض واللعب، فأنزل الله فيه وفي أصحابه {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ... } ". وسمى ابن عباس في رواية عند ابن مردويه منهم: وديعة بن ثابت ومخشي بن حمير، وأنهم قالوا: أتحسبون أن قتال بني الأصفر كقتال غيرهم، والله لكأنكم غدًا تفرون في الجبال. القصة بكمالها. فيحتمل أنهم قالوا ذلك كله، فإن المنافقين إذا خلوا إلى شياطينهم أخذوا في الاستهزاء بالله وآياته ورسوله والمؤمنين، فلا يبعد أنهم قالوا ذلك. فكل ذكر بعض كلامهم، والآية تعم ذلك. وفي هذه الروايات ذكر أسماء القائلين لبعضهم ذلك، منهم: وديعة بن ثابت وقيل وداعة، وزيد ابن وديعة، ومخشي بن حمير الذي تاب الله عليه، لكنه لم يقل ذلك إنما حضره. وفي بعض الروايات أن عبد الله بن أُبَيّ هو الذي قال ذلك، لكن ردّه ابن القيم1 بأن ابن أبي تخلف عن غزوة تبوك. وذكر ابن إسحاق أسماء الذين هموا بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فعد جماعة، فيحتمل أنهم من المستهزئين، ويحتمل أنهم غيرهم. ولهذا قال تعالى في المستهزئين: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2 وفي الآخرين: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} 3. قوله: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء". القراء جمع قارئ وهم عند السلف الذين يقرؤون القرآن ويعرفون معانيه، أما قراءته من غير فهم لمعناه، فلا يوجد في ذلك العصر، وإنما حدث بعد ذلك من جملة البدع. قوله: "أرغب بطونًا"، أي: أوسع بطونًا. الرغب والرغيب: الواسع يقال: جوف رغيب وواد رغيب يصفونهم بسعة البطون، وكثرة الأكل، كما روى أبو نعيم عن شريح بن عبيد "أن رجلاً قال لأبي الدرداء: ما بالكم أجبن منا وأبخل إذا سئلتم، وأعظم لقمًا إذا

_ 1 كان هنا في الأصل سقط استدركناه من "فتح المجيد" للشيخ عبد الرحمن ابن حسن آل الشيخ رحمهم الله تعالى. 2 سورة التوبة آية: 66. 3 سورة التوبة آية: 74.

أكلتم، فأعرض عنه أبو الدرداء ولم يرد عليه شيئًا، وأخبر بذلك عمر بن الخطاب، فانطلق عمر إلى الرجل الذي قال ذلك، فأخذه بثوبه وخنقه، وقاده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: إنما كنا نخوض ونلعب". قوله: "فقال له عوف بن مالك": كذبت ولكنك منافق. فيه المبادرة في الإنكار والشدة على المنافقين، وجواز وصف الرجل بالنفاق إذا قال أو فعل ما يدل عليه. قوله: "لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم". فيه أن هذا وما أشبهه لا يكون غيبة ولا نميمة، بل هو من النصح لله ورسوله، فينبغي الفرق بين الغيبة والنميمة، وبين النصيحة لله ورسوله، فذكر أفعال المنافقين والفساق لولاة الأمور; ليزجروهم، ويقيموا عليهم أحكام الشريعة ليس من الغيبة والنميمة. انتهى. قوله: "فوجد القرآن قد سبقه"، أي: جاءه الوحي من الله بما قالوه في هذه الآية {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} 1، وفيه دلالة على علم الله سبحانه، وعلى قدرته وإلهيته، وعلى أن محمدًا رسول الله. قوله: "فجاء ذلك الرجل"، قد تقدم أنه ابن أبي كما رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عمر، لكن ردّه ابن القيم2 [بأن ابن أُبَيّ تخلف عن غزوة تبوك] . وفي هذا الحديث من الفوائد: أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به، وأشدها خطرًا إرادات القلوب فهي كالبحر الذي لا ساحل له. ويفيد الخوف من النفاق الأكبر، فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء

_ 1 سورة التوبة آية: 65. 2 كان هنا في الأصل سقط استدركناه من "فتح المجيد" للشيخ عبد الرحمن ابن حسن آل الشيخ رحمهم الله تعالى.

إيمانًا قبل أن يقولوا ما قالوه، كما قال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه" نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة.

باب قول الله تعالى: {ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي ... }

[43- باب قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي ... } 1] ذكر المصنف رحمه الله تعالى عن ابن عباس وغيره من المفسرين في معنى هذه الآية وما بعدها ما يكفي في المعنى ويشفي. قوله: قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوق به. وقال ابن عباس: يريد من عندي. وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} 2, قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل، وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف. قوله: باب: قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} الآية 3. وليس فيما ذكروه اختلاف، وإنما هي أفراد المعنى. قال ابن كثير رحمه الله في معنى قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} 4، يخبر أن الإنسان في حال الضر يضرع إلى الله تعالى وينيب إليه ويدعوه، ثم إذا خوله نعمة منا طغى وبغى وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} 5، أي لما يعلم من استحقاقي له، ولولا أني عند الله حظيظ لما خولني هذا. قال تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} 6، أي ليس الأمر كما زعمتم، بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة، لنختبره فيما أنعمنا عليه، أيطيع أم يعصي؟ مع علمنا المتقدم بذلك. {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} 7، أي اختبار {وَلَكِنَّ

_ 1 سورة فصلت آية: 50. 2 سورة القصص آية: 78. 3 سورة فصلت آية: 50. 4 سورة الزمر آية: 49. 5 سورة الزمر آية: 49. 6 سورة الزمر آية: 49. 7 سورة الزمر آية: 49.

أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1، فلهذا يقولون ما يقولون ويدعون ما يدعون {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 2، أي قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأمم {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 3، أي: فما صح قولهم، ولا نفعهم جمعهم وما كانوا يكسبون، كما قال تعالى مخبرًا عن قارون: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} 4. وقال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} 5. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكًا فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به. قال: فمسحه فذهب عنه قذره، فأعطي لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر، شك إسحاق، فأعطي ناقة عشراء. وقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به، فمسحه فذهب عنه وأعطي شعرًا حسنًا. فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر أو الإبل. فأعطي بقرة حاملاً. قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره. قال فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم. فأعطي شاة والدًا، فأنتج هذان، وولَّد هذا، فكان لهذا واد من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من

_ 1 سورة الزمر آية: 49. 2 سورة الزمر آية: 50. 3 سورة الزمر آية: 50. 4 سورة القصص آية: 78-76. 5 سورة سبأ آية: 35.

الغنم. قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيأته فقال: رجل مسكين [وابن سبيل] قد انقطعت به الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن والمال بعيرًا أتبلغ به في سفري. فقال: الحقوق كثيرة فقال: كأني أعرفك؟ ألم تكن أبرص يقذرك الناس؟ فقيرا فأعطاك الله عزّ وجل المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر. فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت به، وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا. فقال: إن كنت كاذبًا فصيَّرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي ردّ عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري. فقال: قد كنت أعمى فردّ الله إِلَيَّ بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك". أخرجاه. قوله:"أخرجاه". أي: البخاري ومسلم. والناقة العشراء: بضم العين وفتح الشين وبالمد: هي الحامل. قوله:"أنتج". وفي رواية: فنتج; معناه: تولى نتاجها، والناتج للناقة كالقابلة للمرأة. قوله:"ولَّد هذا". هو بتشديد اللام. أي: تولى ولادتها، وهو بمعنى: أنتج في الناقة، فالمولد والناتج والقابلة بمعنى واحد، لكن هذا للحيوان، وذلك لغيره. قوله:"انقطعت بي الحبال": هو بالحاء المهملة والباء الموحدة: هي الأسباب.

قوله:"لا أجهدك". معناه: لا أشق عليك في رد شيء تأخذه، أو تطلبه من مالي. ذكره النووي. وهذا حديث عظيم، وفيه معتبر، فإن الأولين جحدا نعمة الله، فما أقرا لله بنعمته، ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها، ولا أدّيا حق الله، فحل عليهما السخط. وأما الأعمى فاعترف بنعمة الله، ونسبها إلى من أنعم عليه بها، وأدّى حق الله فيها، فاستحق الرضى من الله بقيامه بشكر النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها، وهي: الإقرار بالنعمة، ونسبتها إلى المنعم، وبذلها فيما يحب. قال العلامة ابن القيم رحمه الله:"أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له، والذل، والمحبة، فمن لم يعرف النعمة، بل كان جاهلاً بها، لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها، لم يشكرها أيضًا، ومن عرف النعمة والمنعم، لكن جحدها كما يجحدها المنكر لنعمة المنعم عليه بها، فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم بها وأقر بها ولم يجحدها، ولكن لم يخضع له ولم يحبه ولم يرض به وعنه، لم يشكره أيضًا، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في محابه وطاعته، فهذا هو الشاكر لها. فلا بد في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له". قوله:"قذرني الناس"، بكراهة رؤيته وقربه منهم.

باب قول الله تعالى: {فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون}

باب قول الله تعالى: {فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون} ... [44- بابقول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1] . قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله، كعبد عمرو، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب. وعن ابن عباس في الآية قال: لما تغشى آدم حملت، فأتاهما إبليس، فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتطيعني أو

_ 1 سورة الأعراف آية: 190.

لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقه ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما، سمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتًا، ثم حملت فأتاهما فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتًا ثم حملت فأتاهما فذكر لهما فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث فذلك قوله: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} 1 رواه ابن أبي حاتم. وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته. وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} 2.قال: أشفقا أن لا يكون إنسانًا، وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما. قوله: باب قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3. قال الإمام أحمد رحمه الله في معنى هذه الآية: حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن إبراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لما ولدت حواء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش، فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره" 4. رواه أحمد، والترمذي وحسنه، وابن جرير، والحاكم وصححه5. ولهذا ذكر الضمير في آخرها بصيغة الجمع استطرادًا من ذكر الشخص إلى الجنس. ومعنى الآية: أنه تعالى يخبر عن مبدأ الجنس الإنساني، وما فيه لله من عجائب القدرة، فأوجد هذا الجنس على كثرته واختلاف أنواعه {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، وهو آدم عليه السلام، {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} أي: وطئها و {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً} ، وذلك

_ 1 سورة الأعراف آية: 190. 2 سورة الأعراف آية: 189. 3 سورة الأعراف آية: 190. 4 الترمذي: تفسير القرآن (3077) , وأحمد (5/11) . 5 انظر طعن الحافظ ابن كثير في تفسيره 3/ 612 في هذا الحديث وإعلاله من ثلاثة وجوه.

الحمل لا تجد المرأة له ألمًا، إنما هي النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة. وقوله: {فَمَرَّتْ بِهِ} ، قال مجاهد: استمرت عليه، وقال مهران: استخفته، وقال ابن جرير: استمرت بالماء وقامت به وقعدت {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} ، أي: صارت ذات ثقل بحملها. قال السدي: كبر في بطنها {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} 1، أي: أن آدم وحواء عليهما السلام، {دَعَوَا اللَّهَ ... لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} 2. بشرًا سويًّا. قال ابن عباس: أشفقا أن يكون بهيمة {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 3، أي: لنشكرك على ذلك. انتهى ملخصًا من ابن كثير وفيه زيادة. وقوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ} 4، أي: لله شركاء فيما آتاهما أي: لم يقوما بشكر ذلك على الوجه المرضي كما وعدا بذلك، بل جعلا لي فيه شركاء فيما أعطيتهما من الولد الصالح، والبشر السوي، بأن سمياه عبد الحارث، فإن من تمام الشكر أن لا يعبد الاسم إلا لله، وإذا تأملت سياق الكلام من أوله إلى آخره مع ما فسره به السلف تبين قطعًا أن ذلك في آدم وحواء عليهما السلام، فإن فيه غير موضع يدل على ذلك5. والعجب ممن يكذب بهذه القصة، وينسى ما جرى أول مرة ويكابر بالتفاسير المبتدعة، ويترك تفاسير السلف وأقوالهم. وليس المحذور في هذه القصة بأعظم من المحذور في المرة الأولى. وقوله تعالى: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} هذا والله أعلم عائد إلى المشركين من القدرية، فاستطرد من ذكر الشخص إلى الجنس وله نظائر في القرآن. قوله:"قال ابن حزم": هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري المشهور صاحب كتاب"الإجماع"و"الإيصال"و"المحلى"وغيرها من المصنفات.

_ 1 سورة الأعراف آية: 189. 2 سورة الأعراف آية: 189. 3 سورة الأعراف آية: 189. 4 سورة الأعراف آية: 190. 5 قال ابن كثير 3/ 614: وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء, وإنما المراد المشركون من ذريته, ولهذا قال تعالى: فتعالى الله عما يشركون.

قوله:"اتفقوا": الظاهر أن المراد أجمعوا، فمقصوده حكاية الإجماع لا حكاية الاتفاق على طريقة المتأخرين. قوله: "حاشا عبد المطلب". قال ابن القيم: "لا تحل التسمية بعبد علي، وعبد الحسين، ولا عبد الكعبة، وقد روى ابن أبي شيبة عن هانئ [ابن يزيد أبي] شريح قال: "وفد على النبي صلى الله عليه وسلم قوم فسمعهم يسمون رجلاً عبد الحجر فقال له ما اسمك قال: عبد الحجر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما أنت عبد الله". فقيل: كيف يتفقون على تحريم الاسم المعبد لغير الله؟ وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم"تعس عبد الدينار" 1 الحديث. وصح عنه أنه قال: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" 2. فالجواب: أما قوله:"تعس عبد الدينار". فلم يرد الاسم، وإنما أراد به الوصف والدعاء على من يعبد قلبه الدينار والدرهم، فرضي بعبوديتهما عن عبودية الله تبارك وتعالى. وأما قوله:"أنا ابن عبد المطلب". فهذا ليس من باب إنشاء التسمية بذلك، وإنما هو من باب الإخبار بالاسم الذي عرف به المسمى دون غيره، والإخبار بمثل ذلك على وجه تعريف المسمى لا يحرم. ولا وجه لتخصيص أبي محمد [ابن حزم] ذلك بعبد المطلب خاصة، فقد كان أصحابه يسمون بعبد شمس، وبني عبد الدار بأسمائهم، ولا ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. فباب الإخبار أوسع من الإنشاء فيجوز فيه ما لا يجوز في الإنشاء. انتهى ملخصًا، وهو حسن. ولكن بقي إشكال وهو أن في الصحابة من اسمه المطلب بن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب. فالجواب: أما من اسمه عبد شمس، فغيره النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله كما ذكروا ذلك في تراجمهم، وأما المطلب بن ربيعة فذكر ابن عبد البر أن اسمه عبد المطلب وقال: كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم [ولم] يغير اسمه فيما علمت. وقال الحافظ: وفيما قاله نظر، فإن الزبير أعلم من

_ 1 ابن ماجه: الجهاد (2775) . 2 البخاري: الحدود (6830) , وأحمد (1/47 ,1/55) .

غيره بنسب قريش، ولم يذكر أن اسمه إلا المطلب، وقد ذكر العسكري أن أهل النسب إنما يسمونه المطلب. وأما أهل الحديث فمنهم من يقول: المطلب، ومنهم من يقول: عبد المطلب. وأما عبد يزيد أبو ركانة فذكره الذهبي في"التجريد"وقال أبو ركانة: طلق امرأته وهذا لا يصح، والمعروف أن صاحب القصة ركانة، وروى حديثه أبو داود في"السنن"عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة وذكر الحديث، ثم قال: وحديث نافع بن عجير، وعبد الله علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أن ركانة طلق امرأته البتة، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة، أصح، لأنهم ولد الرجل وأهله، وهم أعلم به. فقد تبين أنه ليس من الصحابة من أولاء] من] تصح له صحبته. فعلى هذا لا تجوز التسمية بعبد المطلب ولا غيره مما عبد لغير الله، وكيف تجوز التسمية وقد أجمع العلماء على تحريم التسمية بـ: عبد النبي، وعبد الرسول، وعبد المسيح، وعبد علي، وعبد الحسين، وعبد الكعبة؟! وكل هذه أولى بالجواز من عبد المطلب لو جازت التسمية به. وأيضًا فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن التسمية بعبد الحارث من وحي الشيطان، وأمره بعبد المطلب كعبد الحارث، لا فرق بينهما، إلا أن أصدق الأسماء الحارث وهمام، فلعله أولى بالجواز. لا يقال: إن الحارث اسم للشيطان، لأنه وإن كان اسمًا له، فلا فرق في ذلك بين جميع من اسمه الحارث. فلا يجوز التسمية به وإن نوى عبد الحارث بن هشام أو غيره. فإن قلت: إذا كان ابن حزم قد حكى الإجماع على جواز التسمية بعبد المطلب، فكيف يجوز خلافه؟ قلت: كلام ابن حزم ليس صريحًا في حكاية الإجماع على جواز ذلك بعبد المطلب، فإن لفظه: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله، كعبد العزى، وعبد هبل، وعبد عمرو، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك حاشا عبد المطلب. واتفقوا على إباحة كل اسم بعد ما ذكرنا ما لم يكن

اسم نبي، أو اسم ملك إلى آخر كلامه. فيحتمل أن مراده حكاية الخلاف فيه، ويكون التقدير: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله حاشا عبد المطلب، أي: فإنهم لم يتفقوا على تحريمه، بل اختلفوا، ويؤيده أنه قال بعده: واتفقوا على إباحة كل اسم بعد ما ذكرنا إلى آخره. ويكون المراد حاشا عبد المطلب، فلا أحفظ ما قالوا فيه، ويكون سكوتًا منه عن حكاية إجماعًا، أو خلاف فيه، وعلى تقدير أن مراده حكاية الإجماع من جواز ذلك، فليس كل من حكى إجماعًا يسلم له، ولا كل إجماع يكون حجة أيضًا، فكيف والخلاف موجود، والسنة فاصلة بين المتنازعين؟ وغاية حجة من أجازه قوله عليه السلام: "أنا ابن عبد المطلب" ونحوه، أو أن بعض الصحابة اسمه عبد المطلب. وقد تقدم الجواب عن ذلك، وأيضًا فلو كان قوله: "أنا ابن عبد المطلب" حجة على جواز التسمية به لكان قوله: "إنما بنو هاشم، وبنو عبد مناف شيء واحد" حجة على جواز التسمية بعبد مناف، ولكن فرق بين إنشاء التسمية وبين الإخبار بذلك عمن هو اسمه. وقوله:"في الآية"، أي: المترجم لها قوله:"تغشاها"، أي: حواء، أي.: وطئها، عليهما السلام. قوله:"أو لأجعلن له"، أي: لولدكما. قوله:"قرني أيل". هو بالتثنية أو الإضافة، وأيل بفتح الهمزة وكسر المثناة التحتية المشددة: ذكر الأوعال، والمعنى: أنه يخوفهما بكونه يجعل للولد قرني وعل، فيخرج من بطنها فيشقه كما قال: فيخرج من بطنك فيشقه. قوله:"ولأفعلن ولأفعلن" يخوفهما بغير ما ذكر، ويزعم أنه يفعل بهما غير ذلك. قوله:"سمياه عبد الحارث"، قال سعيد ين جبير: كان اسمه في

الملائكة الحارث، وكان مراده أن سمياه بذلك، ليكون قد وجد له صورة الإشراك به، فإن هذا من باب كيد إبليس إذا عجز عن الآدمي أن يوقعه في المعصية الكبيرة، قنع منه بالصغيرة، وأيضًا فإنه يحصل له منهما طاعته كما أطاعا أول مرة، كما روى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خدعهما مرتين" قال: زيد خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض. قوله:"فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتًا". إلخ. هذا والله أعلم من الامتحان فإن الإنسان لا عزم له، وإن عاين ماذا عساه أن يعلن من الآيات إلا بتوفيق الله تعالى. فإن الطبيعة البشرية تغلب عليه كما غلبت على الأبوين مرتين، مع ما وقع لهما قبل من التحذير والإنذار عن كيد إبليس وعداوته لهما، ومع ذلك أدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث، وكان ذلك شركًا في التسمية وإن لم يقصدا العبادة للشيطان، بل قصدا به فيما ظنا، إما دفع شره عن حواء، وإما الخوف على الولد من الموت. كما روى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي بن كعب قال:"لما حملت حواء، أتاها الشيطان فقال: أتطيعينني ويسلم ولدك؟ سميه عبد الحارث فلم تفعل فولدت فمات، ثم حملت فقال لها مثل ذلك فلم تفعل. ثم حملت الثالثة فقال: أتطيعينني يسلم لك ولدك وإلا فإنه يكون بهيمة فهيبها فأطاعاه". رواه ابن أبي حاتم. قلت: وإسناده صحيح. ورواه سعيد ابن منصور وابن المنذر. وعن ابن عباس قال:"كانت حواء تلد لآدم أولادًا فتعبدهم لله، وتسميه عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك فيصيبهم الموت، فأتاها إبليس وآدم فقال: إنكما لو تسميانه بغير ما تسميانه لعاش، فولدت له رجلاً فسمياه عبد الحارث ففيه أنزل {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ... } إلى آخر الآية". رواه ابن مردويه. قوله: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته، أي: لكونهما أطاعاه في التسمية بعبد الحارث، لا أنهما عبداه فهو دليل على

الفرق بين شرك الطاعة وبين شرك العبادة. قال بعضهم: تفسير قتادة في هذه الآية بالطاعة، لأن المراد بها على كلام كثير من المفسرين آدم وحواء عليهما السلام، فناسب تفسيرها بالطاعة، لأنهما أطاعا الشيطان في تسمية الولد بعبد الحارث. وقد استشكله بعض المعاصرين بما حاصله أنهم قد فسروا العبادة بالطاعة، فيلزم على قول قتادة أن يكون الشرك في العبادة. والجواب: أن تفسير العبادة بالطاعة من التفسير اللازم، فإنه لازم العبادة أن يكون العابد مطيعًا لمن عبده بها، فلذا فسرت بالطاعة. أو يقال: هو من التفسير بالملزوم وإرادة اللازم، أي: لما كانت الطاعة ملزومًا للعبادة، والعبادة لازمة لها، فلا تحصل إلا بالطاعة، جاز تفسيرها بذلك وهو أصح. وبالجملة فلا إشكال في ذلك بحمد الله. فإن قلت: قد سمى النبي صلى الله عليه وسلم طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله عبادة. قلت: راجع الكلام على حديث عدي يتضح الجواب. قوله:"أشفقا"، أي: خافا أي: آدم وحواء أن لا يكون إنسانًا. قال أبو صالح: أشفقا أن يكون بهيمة فقال: لئن آتيتنا بشرًا سويًّا. رواه ابن أبي حاتم. وفي هذا أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم ذكره المصنف، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعلها غير سوية، وأن يجعلها من غير الجنس. فلا ينبغي للرجل أن يسخط مما وهبه الله له كما يفعل أهل الجاهلية، بل يحمد الله الذي جعلها بشرية سوية. ولهذا كانت عائشة رضي الله عنها إذا بشرت بمولود لم تسأل إلا عن صورته لا عن ذكوريته وأنوثيته. قوله:"وذكر". أي: ذكر ابن أبي حاتم فإنه روى ذلك عمن ذكر المصنف معناه عن الحسن، وهو البصري. قوله:"وسعيد"، أي ابن جبير وغيره كالسدي. وغيره.

باب قول الله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه}

[45- باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} 1] يخبر تعالى أن له أسماء وصفها بكونها حسنى أي: حسان. وقد بلغت الغاية في الحسن فلا أحسن منها، كما يدل عليه من صفات الكمال، ونعوت الجلال، فأسماؤه الدالة على صفاته هي أحسن الأسماء وأكملها، فليس في الأسماء أحسن منها، ولا يقوم غيرها مقامها. وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرًا بمراد محض، بل هو على سبيل التقريب والتفهيم، فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى وأبعده، وأنزهه عن شائبة نقص، فله من صفة الإدراكات العليم الخبير دون العالم الفقيه، والسميع البصير دون السامع والباصر، ومن صفات الإحسان البر الرحيم الودود، دون الرفيق والشفيق والمشوق. وكذلك العلي العظيم، دون الرفيع الشريف، وكذلك الكريم، دون السخي. والخالق البارئ المصور، دون الصانع الفاعل المشكل، والعفو الغفور، دون الصفوح الساتر. وكذلك سائر أسماء الله تعالى يجري على نفسه أكملها وأحسنها، ولا يقوم غيره مقامه فأسماؤه أحسن الأسماء، كما أن صفاته أكمل الصفات، فلا نعدل عما سمى به نفسه إلى غيره، كما لا يتجاوز ما وصف به نفسه،

_ 1 سورة الأعراف آية: 180.

ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما وصفه به المبطلون. ومن هنا يتبين لك خطأ من أطلق عليه اسم الصانع والفاعل والمربي ونحوها; لأن اللفظ الذي أطلقه سبحانه على نفسه، وأخبر به عنها أتم من هذا، وأكمل وأجل شأنًا، فإنه يوصف من كل صفة كمال بأكملها وأجلها وأعلاها. فيوصف من الإرادة بأكملها، وهو الحكمة وحصول كل ما يريد بإرادته. كما قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، [البروج: 16] ، وبإرادة اليسر لا العسر. كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 1 وبإرادة الإحسان وتمام النعمة على عباده كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} 2. فإرادة التوبة له وإرادة الميل لمبتغي الشهوات. وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} 3. وكذلك العليم الخبير أكمل من الفقيه العارف، والكريم الجواد أكمل من السخي، والرحيم أكمل من الشفيق، والخالق البارئ المصور أكمل من الفاعل الصانع; ولهذا لم تجئ هذه في أسمائه الحسنى، فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات، والوقوف معها وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه، ما لم يكن مطابقًا لمعنى أسمائه وصفاته. وحينئذ فيطلق المعنى لمطابقته لها دون اللفظ، ولا سيما إذا كان مجملًا، أو منقسما، أو ما يمدح به وغيره، فإنه لا يجوز إطلاقه إلا مقيدًا، وهذا كلفظ الفاعل والصانع، فإنه لا يطلق عليه في أسمائه الحسنى إلا إطلاقًا مقيدًا كما أطلقه على نفسه كقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ،4, وقوله: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 5. وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فإن اسم الفاعل والصانع منقسم المعنى إلى ما يمدح عليه ويذم، فلهذا المعنى - والله أعلم - لم يجئ في الأسماء الحسنى المريد، كما جاء فيها السميع

_ 1 سورة البقرة آية: 185. 2 سورة النساء آية: 27. 3 سورة المائدة آية: 6. 4 سورة إبراهيم آية: 27. 5 سورة النمل آية: 88.

البصير، ولا المتكلم الآمر الناهي، لانقسام مسمى هذه الأسماء، بل وصف نفسه بكمالاتها، وشرف أنواعها. ومن هنا يعلم غلط بعض المتأخرين، وزلقه الفاحش في اشتقاقه له سبحانه من كل فعل أخبر به عن نفسه اسمًا مطلقًا، وأدخله في أسمائه الحسنى، فاشتق منها اسم الماكر، والمخادع، والفاتن، والمضل، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. انتهى ملخصًا من كلام الإمام ابن القيم. وقيل: فصل الخطاب في أسماء الله الحسنى، هل هي توقيفية أم لا؟ وحاصله أن ما يطلق عليه من باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق من باب الإخبار لا يجب أن يكون توقيفيًّا، كالقديم والشيء الموجود، والقائم بنفسه، والصانع، ونحو ذلك. فادعوه بها، أي: اسألوه، وتوسلوا إليه بها كما تقول: اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. فإن ذلك من أقرب الوسائل وأحبها إليه، كما في"المسند"والترمذي "ألظوا بياذا الجلال والإكرام" 1. والحديث الآخر سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو وهو يقول: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، فقال:"والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى" 2. رواه الترمذي وغيره. وقوله عليه السلام: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" 3. حديث صحيح رواه مسلم، وغيره. ومنه: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام" 4. رواه الترمذي بنحوه، واللفظ لغيره.

_ 1 الترمذي: الدعوات (3524) . 2 الترمذي: الدعوات (3475) , وابن ماجه: الدعاء (3857) . 3 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) والاستعاذة (5534) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497) . 4 الترمذي: الدعوات (3544) , والنسائي: السهو (1300) , وأبو داود: الصلاة (1495) , وابن ماجه: الدعاء (3858) , وأحمد (3/120 ,3/158 ,3/245 ,3/265) .

قال ابن القيم: "فهذا سؤال له، وتوسل إليه بحمده وأنه لا إله إلا هو المنان. فهو توسل إليه بأسمائه، وصفاته، وما أحق ذلك بالإجابة، وأعظمه موقعًا عند السؤال! وأعلم أن الدعاء بها أحد مراتب إحصائها الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة" 1 رواه البخاري، وغيره. وهي ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها، وأسمائها، وعددها. المرتبة الثانية: فهم معانيها، ومدلولها. المرتبة الثالثة: دعاؤه بها كما في الآية، وهو نوعان: دعاء ثناء وعبادة، ودعاء طلب ومسألة، فلا يثني عليه إلا بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وكذا لا يسأل إلا بها. فلا يقال: يا موجود ويا شيء ويا ذات اغفر لي، بل يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيًا لذلك المطلوب. فيكون السائل متوسلاً إليه بذلك الاسم. ومن تأمل أدعية الرسل، لا سيما خاتمهم عليه وعليهم السلام، وجدها مطابقة لهذا كما تقول: رب اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. ولا يحسن: إنك أنت السميع العليم البصير، ولكن أسماؤه تعالى منها ما يطلق عليه مفردًا، وهو غالب الأسماء كالقدير، والسميع، والبصير، والحكيم. فهذا يسوغ أن يدعى به مفردًا، ومقترنًا بغيره. فتقول: يا عزيز، يا حكيم، يا قدير، يا سميع، يا بصير، وإن انفرد كل اسم. وكذلك في الثناء عليه، والخبر عنه. وبه يسوغ لك الإفراد والجمع. ومنها ما لا يطلق عليه مفردًا، بل مقرونًا بمقابله. كالمانع، والضار، والمنتقم، والمذل، فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله، فإنه مقرون بالمعطي، والنافع، والعفو، والعزيز والمعز. فهو المعطي المانع، الضار النافع، المنتقم العفو، المعز المذل; لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذا بمقابله، لأنه يراد به أنه

_ 1 البخاري: الشروط (2736) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي: الدعوات (3508) , وابن ماجه: الدعاء (3860 ,3861) , وأحمد (2/258 ,2/267 ,2/427 ,2/499 ,2/503 ,2/516) .

المتفرد بالربوبية، وتدبير الخلق، والتصرف فيهم إعطاء ومنعًا، ونفعًا وضرًا، وانتقامًا وعفواً، وإعزازًا وإذلالاً. فأما الثناء عليه بمجرد المنع والانتقام والإضرار، فلا يسوغ، فهذه الأسماء الممزوجة يجري الاسمان منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه من بعض. ولذلك لم تجئ مفردة، ولم تطلق عليه إلا مقترنة. فلو قلت: يا ضار، يا مانع، يا مذل، لم تكن مثنيًا عليه، ولا حامدًا له حتى تذكر مقابلتها". انتهى ملخصًا من كلام ابن القيم. وفيه بعض زيادة، وبه يظهر الجواب عما قد يرد على ما سبق. ذكر الأسماء الحسنى التي ورد عدها في الحديث: لما كان إحصاء الأسماء الحسنى والعمل بها أصلا للعمل بكل معلوم، وكانت سعادة الدنيا والآخرة مرتبة عليها فما حصل من آثارها للعباد، هو الذي أوجب لهم دخول الجنة، ولهذا جاء الحديث الصحيح المتفق عليه أن "من أحصاها دخل الجنة" 1. وذكرنا مراتب الإحصاء، لأن العبد محتاج، بل مضطر إلى معرفتها فوق كل ضرورة. وقد قيل: إن الله ذكرها كلها في القرآن. ولا ريب أن الله تعالى ذكر أكثرها بلفظها، و [ما] لم يذكره بلفظه، ففي القرآن ما يدل عليه. قال الترمذي: حدثنا إبراهيم بن يعقوب، أخبرنا صفوان بن صالح، أخبرنا الوليد بن مسلم أخبرنا شعيب بن أبي حمزة: عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو. الرحمن. الرحيم. الملك القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارئ. المصور. الغفار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع.

_ 1 البخاري: الشروط (2736) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي: الدعوات (3506 ,3507 ,3508) , وابن ماجه: الدعاء (3860 ,3861) , وأحمد (2/258 ,2/267 ,2/290 ,2/314 ,2/427 ,2/499 ,2/503 ,2/516) .

البصير. الحكم. العدل. اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلي. الكبير. الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوي. المتين. الولي. الحميد. المحصي. المبدئ. المعيد. المحيي. المميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الواحد. الأحد. الصمد. القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوالي. المتعال. البر. التواب. المنعم. المنتقم. العفو. الرؤوف. مالك الملك. ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغني. المغني. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور" 1. قال الترمذي: هذا حديث غريب جدًّا حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح، ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح، وهو ثقة عند أهل الحديث. وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء الحسنى إلا2 في هذا الحديث، وقد روى آدم بن3 أبي إياس هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه الأسماء، وليس له إسناد صحيح. قلت: يشير إلى عدد الأسماء سردًا، وإلا فصدر الحديث متفق عليه. وقد خرجه بالعدد المذكور ابن المنذر، وابن خزيمة في"صحيحه"وابن حبان والطبراني، والحاكم في"المستدرك"وغيرهم به، ولم يذكروا فيه"المعطي"، وإسناده صحيح، ولكن المستغرب منه ذكر العدد. ورواه ابن ماجة من طريق

_ 1 البخاري: الشروط (2736) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي: الدعوات (3508) , وابن ماجه: الدعاء (3860 ,3861) , وأحمد (2/258 ,2/267 ,2/427 ,2/499 ,2/503 ,2/516) . 2 سقطت من الطبعة السابقة: "إلا ". 3 في الطبعة السابقة "عن "وهو خطأ.

عبد الملك بن الصنعاني عن زهير بن محمد التميمي عن موسى بن عقبة عن الأعرج، وساق الأسماء، وخالف سياق الترمذي في الترتيب والزيادة والنقص. فأما الزيادة فهي البارئ الراشد البرهان الشديد الواقي القائم الحافظ الناظر السامع المعطي الأبد المنير التام القديم الوتر".وعبد الملك لين الحديث، وزهير مختلف فيه، وحديث الوليد أصح إسنادًا وأحسن سياقًا، وأجدر أن يكون مرفوعًا ولهذا قال النووي: هو حديث حسن. قال بعضهم: والعلة في كونهما لم يخرجاه بذكر الأسامي تفرد الوليد بن مسلم عالم الشاميين الثقة. وقد قيل: إن العدد المذكور مدرج. قال في"الإرشاد"ما معناه: ذكر جماعة من الحفاظ المحققين المتقنين أن سرد الأسماء في حديث أبي هريرة مدرج فيه، وأن جماعة من أهل العلم جمعوها من القرآن، كما روي ذلك عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة، وأبي زيد اللغوي. وقال البيهقي: يحتمل أن يكون التفسير للأسماء وقع من بعض الرواة، ولهذا الاحتمال ترك الشيخان إخراج حديث الوليد في"الصحيح". قال في"البدر": والدليل على ذلك وجهان: أحدهما: أن أصحاب الحديث لم يذكروها. والثاني: أن فيها تغييرًا بزيادة ونقصان، وذلك لا يليق بالمرتبة العليا النبوية، كذا قال، وفيه نظر، فإن الزيادة والنقصان قد تكون من الرواة، وإن كان الحديث صحيحًا كما في غير ذلك من الأحاديث. وقد رواه الطبراني في"الدعاء"، والحاكم وغيرهما، فزادوا "الرب الإله الحنان المنان البارئ"وفي لفظ:"القائم الفرد". وفي لفظ:"القادر"بدل: الفرد و"المغيث الدائم الحميد". وفي لفظ:"الجميل الصادق المولى النصير القديم الوتر الفاطر العلام المليك الأكرم المدبر المالك الشاكر الرفيع ذو الطول، ذو المعارج ذو الفضل الخلاق"، ولا أظنه يثبت، وإن كان بعض العدد صحيحًا. وعد جعفر بن محمد منها:

"المنعم المتفضل السريع". وقال ابن حزم: جاءت في إحصائها أحاديث مضطربة، لا يصح منها شيء أصلاً، ونقل عنه أنه قال: صح عندي قريبًا من ثمانين اسما، اشتمل عليها الكتاب، والصحاح من الأخبار، فليطلب الباقي بطريق الاجتهاد. وقال القرطبي في"شرح الأسماء الحسنى": العجب من ابن حزم ذكر من الأسماء الحسنى نيفًا وثمانين فقط، والله يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1. ثم ساق ما ذكره ابن حزم. وفيه من الزيادة على ما تقدم "الرب الإله الأعلى الأكبر الأعز السيد السبوح الوتر المحسن الجميل الرفيق الدهر". وقد عدها الحافظ فزاد "الخفي السريع الغالب العالم الحافظ المستعان". وفي هذا نظر يفهم مما تقدم، وإن كان قد ذكر بعضها فيما لا يثبت من الحديث، فهذه خمسة وستون ومائة اسم، أقربها من جهة الإسناد سياق الترمذي، وما عدا ذلك ففيه أسماء صحيحة ثابتة، وفي بعضها توقف، وبعضها خطأ محض، كالأبد والناظر والسامع والقائم والسريع، فهذه وإن ورد عدادها في بعض الأحاديث، فلا يصح ذلك أصلا. وكذلك الدهر والفعال والفالق والمخرج والعالم، مع أن هذه لم ترد في شيء من الأحاديث إلا حديث "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" 2. وقد مضى معناه، وبينا خطأ ابن حزم في عده من الأسماء الحسنى هناك. واعلم أن الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر، ولا تحد بعدد فإن لله تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده، ولا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، كما في الحديث الصحيح: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك" 3. رواه أحمد وابن حبان في"صحيحه"وغيرهما. وقال ابن القيم: "فجعل أسماءه ثلاثة أقسام: قسم سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزل به كتابه، وقسم أنزل به كتابه، وتعرف به

_ 1 سورة الأنعام آية: 38. 2 البخاري: تفسير القرآن (4826) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأبو داود: الأدب (5274) , وأحمد (2/238 ,2/259 ,2/272 ,2/275 ,2/318 ,2/394 ,2/395 ,2/491 ,2/496 ,2/499 ,2/506) , ومالك: الجامع (1846) . 3 أحمد (1/452) .

إلى عباده، وقسم استأثر به في علم غيبه، فلم يطلع عليه أحدًا من خلقه، ولهذا قال:"استأثرت به"، أي: انفردت بعلمه، وليس المراد انفراده بالمسمى به، لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أنزل بها كتابه. ومن هذا قوله عليه السلام في حديث الشفاعة: "فيفتح علي من محامده بما لا أحسنه الآن" 1. وتلك المحامد هي بأسمائه وصفاته. ومنه قوله: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" 2. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة" 3. فالكلام جملة واحدة. وقوله: "من أحصاها دخل الجنة" 4. صفة لا خبر مستقبل، والمعنى: له أسماء متعددة من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة، وهذا كقولك: لفلان ألف شاة أعدها للأضياف فلا يدل على أنه لا يملك غيرها. وهذا لا خلاف بين العلماء فيه. وقوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} 5، أي: اتركوهم، وأعرضوا عن مجادلتهم، قال ابن القيم: والإلحاد في أسمائه: هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها، وهو مأخوذ من الميل، كما يدل عليه مادة اللحد، ومنه اللحد وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط، ومنه اللمحد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل. إذا عرف هذا فالإلحاد في أسمائه: أحدها: أن يسمي الأصنام بها، كتسميتهم اللات من الإله، والعزى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلهًا، وهذا إلحاد حقيقة، فهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة. الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله، كتسمية النصارى له أبًا وتسمية الفلاسفة له موجبًا بذاته، أو علة فاعلة بالطبع، ونحو ذلك. وثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول أخبث اليهود: إنه فقير،

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4712) , ومسلم: الإيمان (194) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2434) وصفة الجنة (2557) . 2 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497) . 3 البخاري: الشروط (2736) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي: الدعوات (3508) , وابن ماجه: الدعاء (3860 ,3861) , وأحمد (2/258 ,2/267 ,2/427 ,2/499 ,2/503 ,2/516) . 4 البخاري: الشروط (2736) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي: الدعوات (3506 ,3507 ,3508) , وابن ماجه: الدعاء (3860 ,3861) , وأحمد (2/258 ,2/267 ,2/290 ,2/314 ,2/427 ,2/499 ,2/503 ,2/516) . 5 سورة الأعراف آية: 180.

وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه، وقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ، [المائدة، من الآية: 64] ، وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته. ورابعها: تعطيل الأسماء الحسنى عن معانيها، وجحد حقائقها، كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة، لا تتضمن صفات، ولا معاني، فيطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم، ويقولون: لا حياة له ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا إرادة تقوم به، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً وشرعًا ولغة وفطرة، وهو يقابل إلحاد المشركين، فإن أولئك أعطوا من أسمائه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوا كماله، وجحدوها وعطلوها، وكلاهما ألحد في أسمائه، ثم الجهمية وفروخهم متفاوتون في هذا الإلحاد، فمنهم الغالي والمتوسط والمتلوث، وكل من جحد شيئًا مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ألحد في ذلك فليقل أو ليستكثر. وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه، تعالى الله عما يقول المشبهون علوًّا كبيرًا، فهذا الإلحاد في مقابله إلحاد المعطلة، فإن أولئك نفوا صفات كماله وجحدوها، وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه، فجمعهم الإلحاد، وتفرقت بهم طرقه، وبرأ الله أتباع رسوله، وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله، فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظًا ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات فكان إثباتهم بريئًا من التشبيه، وتنْزيههم خاليًا من التعطيل، لا كمن شبه كأنه يعبد صنمًا، أو عطل حتى كأنه لا يعبد إلا عدمًا، وأهل السنة وسط في النحل، كما أن أهل الإسلام وسط في الملل توقد مصابيح معارفهم: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} ، [النّور، من الآية: 35] . {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، [الأعراف، من الآية: 180] وعيد وتهديد.

قوله: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} ، [الأعراف، من الآية: 180] يشركون، أي يشركون غيره في أسمائه كتسميتهم الصنم إلهًا، ويحتمل أن المراد الشرك في العبادة، لأن أسماءه تعالى تدل على التوحيد، فالإشراك بغيره إلحاد في معاني أسمائه سبحانه وتعالى لا سيما مع الإقرار بها، كما كانوا يقرون بالله ويعبدون غيره، فهذا الاسم وحده أعظم الأدلة على التوحيد، فمن عبد غيره; فقد ألحد في هذا الاسم، وعلى هذا بقية الأسماء، وهذا الأثر لم يروه ابن أبي حاتم عن ابن عباس إنما رواه عن قتادة فاعلم ذلك. قوله:"وعنه: سمو اللات من الإله، والعزى من العزيز". هذا الأثر معطوف على سابقه، أي: رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وكذلك الأثر الثاني عن الأعمش معطوف على سابقه أي: رواه ابن أبي حاتم عنه. والأعمش اسمه سليمان بن مهران أبو محمد الكوفي الفقيه ثقة حافظ ورع مات سنة 147 وكان مولده أول سنة 61. قوله:"يدخلون فيها ما ليس منها"، أي: كتسمية النصارى له أبًا ونحوه كما سبق.

باب لا يقال: السلام على الله

[46- باب لا يقال: السلام على الله] لما كان حقيقة لفظ الإسلام السلامة والبراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب، فإذا قال المسلم: السلام عليكم فهو دعاء للمسلم عليه، وطلب له أن يسلم من الشر كله، والله هو المطلوب منه لا المطلوب له، وهو المدعو لا المدعو له، وهو الغني له ما في السموات وما في الأرض، استحال أن يسلم عليه سبحانه وتعالى، بل هو المسلم على عباده كما قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} 1 وقال: {وَسَلامٌ عَلَى

_ 1 سورة النمل آية: 59.

الْمُرْسَلِينَ} 1 وقال: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 2 فهو السلام ومنه السلام لا إله غيره ولا رب سواه. في"الصحيح"عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام" 3. ش: قوله:"في"الصحيح"" أي"الصحيحين". قوله:"قلنا: السلام على الله"، أي: يقولون ذلك في التشهد الأخير كما هو مصرح به في بعض ألفاظ الحديث: "كنا نقول قبل أن يفرض التشهد: السلام على الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله هو السلام، ولكن قولوا التحيات لله" 4. قوله:"فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا السلام على الله"، أي: - والله أعلم - لما تقدم، ولأن السلام اسمه، كما يرشد إليه آخر الحديث. قوله:"فإن الله هو السلام". أنكر عليه السلام التسليم على الله، وأخبر أن ذلك عكس ما يجب له سبحانه، فإن كل سلام ورحمة له ومنه فهو مالكها ومعطيها، وهو السلام. قال ابن الأنباري: أمرهم أن يعرفوه إلى الخلق لحاجتهم إلى السلامة، وقال غيره: وهذا كله حماية منه صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد حتى يعرف لله تعالى ما يستحقه من الأسماء والصفات وأنواع العبادات. قوله: "السلام على فلان وفلان". اختلف العلماء في معنى السلام المطلوب عند التحية على قولين: أحدهما: أن المعنى اسم السلام عليكم، والسلام هنا هو الله عزّ وجل. ومعنى الكلام: نزلت بركة اسم السلام عليكم، وحملت عليكم فاختير في هذا المعنى من أسمائه اسم السلام دون غيره، ويدل عليه قوله في آخر الحديث. قوله:"فإن الله هو السلام". فهذا صريح في كون السلام اسمًا من أسمائه، فإذا قال المسلم: السلام عليكم;

_ 1 سورة الصافات آية: 181. 2 سورة الأحزاب آية: 44. 3 البخاري: الأذان (835) , ومسلم: الصلاة (402) , والنسائي: التطبيق (1168 ,1169) والسهو (1298) , وأبو داود: الصلاة (968) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (899) , وأحمد (1/382 ,1/413 ,1/427 ,1/431 ,1/464) , والدارمي: الصلاة (1340) . 4 البخاري: التوحيد (7381) , ومسلم: الصلاة (402) , والنسائي: التطبيق (1168 ,1169) والسهو (1298) , وأبو داود: الصلاة (968) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (899) , وأحمد (1/382 ,1/413 ,1/427 ,1/431) , والدارمي: الصلاة (1340) .

كان معناه: اسم السلام عليكم، يدل عليه ما رواه أبو داود، عن ابن عمر أن رجلاً سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه حتى استقبل الجدار، ثم تيمم ورد عليه وقال: "إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" 1. ففي هذا بيان أن السلام ذكر لله وإنما يكون ذكرًا إذا تضمنت اسمًا من أسمائه. الثاني: أن السلام مصدر بمعنى السلامة، وهو المطلوب المدعو به عند التحية، لأنه ينكر بلا ألف ولام، فيجوز أن يقول المسلم: سلام عليكم، ولو كان اسمًا من أسمائه تعالى لم يستعمل كذلك، بل كان يطلق عليه معرفًا كما يطلق على سائر أسمائه الحسنى. فيقال: السلام، المؤمن، المهيمن، فإن التنكير لا يصرف اللفظ إلى معين، فضلاً عن أن يصرفه إلى الله وحده، بخلاف المعرف فإنه ينصرف إليه تعيينًا إذا ذكرت أسماؤه الحسنى. ويدل على ذلك عطف الرحمة والبركة عليه في قوله: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ولأنه لو كان اسمًا من أسمائه تعالى لم يستقم الكلام بالإضمار، وذلك خلاف الأصل ولا دليل عليه، ولأنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى، وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبرًا ودعاء. قال ابن القيم: "والصواب في مجموعهما أي: القولين، وذلك أن من دعا الله بأسمائه الحسنى يسأل في كل مطلوب ويتوسل إليه بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله، حتى كأن الداعي مستشفع إليه، متوسل به. فإذا قال: رب اغفر لي، وتب علي إنك أنت التواب الرحيم الغفور، فقد سأله أمرين، وتوسل إليه باسمين من أسمائه، مقتضيين لحصول مطلوبه وهذا كثير جدًّا وإذا ثبت هذا فالمقام لما كان مقام2 طلب السلامة التي هي أهم ما عند الرجل أتى في طلبها بصيغة اسم من أسمائه تعالى، وهو السلام الذي تطلب منه السلامة.

_ 1 النسائي: الطهارة (38) , وأبو داود: الطهارة (17) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (350) , وأحمد (4/345) , والدارمي: الاستئذان (2641) . 2 في الطبعة السابقة: هذا المقام لما كان طلب.

فتضمن لفظ السلام معنيين. أحدهما: ذكر الله تعالى كما في حديث ابن عمر. والثاني: طلب السلامة وهو مقصود المسلم. فقد تضمن"سلام عليكم"اسمًا من أسماء الله، وطلب السلامة منه. انتهى ملخصًا.

باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت

[47- باب قول اللهم اغفر لي إن شئت] ش: لما كان العبد لا غناء له عن رحمة الله ومغفرته طرفة عين، بل فقير بالذات إلى الغني بالذات كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 1. نهي عن قول ذلك، لما فيه من إيهام الاستغناء عن مغفرة الله ورحمته كما سيأتي، وذلك مضاد للتوحيد. في"الصحيح"عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له" 2. ولمسلم. "وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه" 3. ش: قوله:"في"الصحيح""، أي:"الصحيحين". قوله:"اللهم اغفر لي إن شئت". قال القرطبي: إنما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا القول، لأنه يدل على فتور الرغبة، وقلة الاهتمام بالمطلوب. وكأن هذا القول يتضمن أن هذا المطلوب إن حصل وإلا استغنى عنه، ومن كان هذا حاله لم يتحقق من حاله الافتقار والاضطرار الذي هو روح عبادة الدعاء، وكان ذلك دليلاً على قلة معرفته بذنوبه، وبرحمة ربه. وأيضًا فإنه لا يكون موقنًا بالإجابة. وقد قال عليه السلام: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافلٍ لاهٍ" 4. قوله:"ليعزم المسألة". قال القرطبي أي: ليجزم في طلبته،

_ 1 سورة فاطر آية: 15. 2 البخاري: الدعوات (6339) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679) , والترمذي: الدعوات (3497) , وأبو داود: الصلاة (1483) , وأحمد (2/243 ,2/318 ,2/463 ,2/486 ,2/500 ,2/530) , ومالك: النداء للصلاة (494) . 3 البخاري: الدعوات (6339) والتوحيد (7477) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679) , والترمذي: الدعوات (3497) , وأبو داود: الصلاة (1483) , وابن ماجه: الدعاء (3854) , وأحمد (2/243 ,2/318 ,2/457 ,2/463 ,2/486 ,2/500 ,2/530) , ومالك: النداء للصلاة (494) . 4 الترمذي: الدعوات (3479) .

ويحقق رغبته، ويتيقن الإجابة، فإنه إذا فعل ذلك دل على علمه بعظيم ما يطلب من المغفرة والرحمة، وعلى أنه مفتقر إلى ما يطلب مضطر إليه، وقد وعد الله المضطر بالإجابة بقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} 1. قوله:"فإنه لا مكره له". أي: فإن الله لا مكره له. هذا لفظ البخاري في الدعوات، ولفظ مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة في الدعاء، فإن الله صانع ما شاء، لا مكره له" 2. قال القرطبي: هذا إظهار لعدم فائدة تقبل الاستغفار والرحمة بالمشيئة. كأن الله تعالى لا يضطره إلى فعل شيء دعاء ولا غيره، بل يفعل ما يريد ويحكم ما يشاء. ولذلك قيد الله تعالى الإجابة بالمسألة في قوله: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} 3. فلا معنى لاشتراط المشيئة بقيله. قوله:"ولمسلم" أي: من وجه آخر. قوله:"وليعظم الرغبة" هو بالتشديد، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه يقال: تعاظم زيد هذا الأمر، أي: كبر عليه وعسر. قال: والرغبة يعني الطلبة والحاجة التي يريد. وقيل: السؤال والطلب بتكرار الدعاء والإلحاح فيه، والأول أظهر، أي: لسعة جوده وكرمه، لا يعظم عليه إعطاء شيء، بل جميع الموجودات في أمره يسير، وهو أكبر من ذلك، وهذا هو غاية المطالب، فالاقتصار على الداني في المسألة إساءة ظن بجوده وكرمه.

_ 1 سورة النمل آية: 62. 2 البخاري: الدعوات (6339) والتوحيد (7477) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679) , والترمذي: الدعوات (3497) , وأبو داود: الصلاة (1483) , وابن ماجه: الدعاء (3854) , وأحمد (2/243 ,2/318 ,2/457 ,2/463 ,2/486 ,2/500 ,2/530) , ومالك: النداء للصلاة (494) . 3 سورة الأنعام آية: 41.

باب لا يقول: عبدي وأمتي

[48- باب لا يقول: عبدى وأمتي] ش: أي: لما في ذلك من الإيهام من المشاركة في الربوبية، فنهي عن ذلك أدبًا مع جناب الربوبية، وحماية لجناب التوحيد.

قال في"الصحيح"عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضيء ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي" 1. ش: قوله:"في الصحيح"، أي:"الصحيحين". قوله:"لا يقل أحدكم"، هو بالجزم على النهي، والمراد أن يقول ذلك لمملوكه أو مملوك غيره، فالكل منهي عنه. قوله:"أطعم ربك"، بفتح الهمزة من الإطعام. قوله:"وضيء ربك"، أمر من الوضوء وفيهما في هذا الحديث زيادة: "اسق ربك"، وكأن المؤلف اختصرها. قال الخطابي: وسبب المنع أن الإنسان مربوب معبد بإخلاص التوحيد لله تعالى، وترك الإشراك به، فترك المضاهاة بالاسم لئلا يدخل في معنى الشرك، ولا فرق في ذلك بين الحر والعبد. وأما من لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجمادات، فلا يكره أن يطلق ذلك عليه عند الإضافة كقوله: رب الدار والثوب. قال ابن مفلح في"الفروع": وظاهر النهي التحريم، وقد يحتمل أنه للكراهية، وجزم به غير واحد من العلماء. فإن قلت: قد قال الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} 2.وقال النبي صلى الله عليه وسلم في اشتراط الساعة: "أن تلد الأمة ربتها" 3 فهذا يدل على الجواز. قيل: فأما الآية ففيها جوابان. أحدهما وهو الأظهر: أن هذا جائز في شرع من قبلنا، وقد ورد شرعنا بخلافه. والثاني: أنه ورد لبيان الجواز، والنهي للأدب والتنْزيه دون التحريم. وأما الحديث فليس من هذا الباب للتأنيث، والنهي عنه أن يقول ذلك للذكر لما فيه من إيهام المشاركة، وهو معدوم في الأنثى. أو يقال: بحمله على الكراهة في الأنثى أيضًا لورود الحديث بذلك دون الذكر، لأنه لم يرد فيه إلا النهي، ويقال وهو أظهر: إن هذا ليس فيه إلا

_ 1 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأبو داود: الأدب (4975) , وأحمد (2/316) . 2 سورة يوسف آية: 42. 3 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/51 ,1/52) .

وصفها بذلك لا دعاؤها به، وتسميتها به، وفرق بين الدعاء والتسمية، وبين الوصف، كما تقول: زيد فاضل، فتصفه بذلك ولا تسميه به ولا تدعوه به. قوله:"وليقل سيدي"، قيل: إن الفرق بين الرب والسيد، أن الرب من أسماء الله تعالى اتفاقًا، واختلف في السيد هل هو من أسماء الله تعالى؟ ولم يأت في القرآن أنه من أسماء الله. لكن في حديث عبد الله بن الشخير: "السيد الله" 1. وسيأتي. فإن قلنا: ليس من أسماء الله فالفرق واضح، إذ لا التباس، وإن قلنا: إنه من أسماء الله فليس في الشهرة والاستعمال، كلفظ الرب فيحصل الفرق. وأما من حيث اللغة فالسيد من السؤدد وهو التقدم، يقال: ساد قومه إذا تقدمهم، ولا شكر في تقديم السيد على غلامه، فلما حصل الافتراق جاز الإطلاق. قلت: وحديث ابن الشخير لا ينفي إطلاق لفظ السيد على غير الله، بل المراد أن الله هو الأحق بهذا الاسم بأنواع العبارات، كما أن غيره لا يسمى به. "ومولاي". قال النووي: المولى يطلق على ستة عشر معنى، منها الناظر والمولى والمالك، وحينئذ فلا بأس أن يقول: مولاي. قال في"الفروع"ولا يقل: عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله، وإماء الله. ولا يقل العبد لسيده: ربي. وفي مسلم أيضا: "ولا مولاي فمولاكم الله". وظاهر النهي للتحريم. وقد يحتمل أنه

_ 1 أبو داود: الأدب (4806) , وأحمد (4/25) .

للكراهة، وجزم به غير واحد من العلماء كما في"شرح مسلم"انتهى كلامه. قلت: فظاهر رواية مسلم معارضة لحديث الباب، وأجيب بأن مسلمًا قد بين الاختلاف فيه عن الأعمش، وأن منهم من ذكر هذه الزيادة، ومنهم من حذفها. قال عياض: وحذفها أصح. فظهر أن اللفظ الأول أرجح، وإنما صرنا للترجيح للتعارض بينهما والجمع متعذر، والعلم بالتاريخ مفقود، فلم يبق إلا الترجيح. قلت: الجمع ممكن بحمل النهي على الكراهة، أو على خلاف الأولى. قوله:"ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي"، لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها الله تعالى، ولأن فيها تعظيمًا لا يليق بالمخلوق، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم العلة في ذلك. كما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، ولا يقولن المملوك: ربي وربتي، وليقل المالك: فتاي وفتاتي، وليقل المملوك: سيدي وسيدتي، فإنكم المملوكون، والرب الله عزّ وجل" 1. ورواه أيضًا بإسناد صحيح موقوفًا، فهذه علة له. وفي رواية لمسلم: "لا يقولن أحدكم: عبدي فإن كلكم عبيد الله" 2. قال في"مصابيح الجامع"النهي إنما جاء متوجهًا إلى السيد إذ هو في مظنه الاستطالة، وأما قول الغير: هذا عبد زيد، وهذه أمة خالد فجائز، لأنه يقول إخبارًا أو تعريفًا، وليس في مظنة الاستطالة. قلت: وهو حسن، وقد رويت أحاديث تدل على ذلك، وقال أبو جعفر النحاس: لا نعلم بين العلماء خلافًا أنه لا ينبغي لأحد أن يقول لأحد من المخلوقين: مولاي، ولا يقول: عبدك وعبدي، وإن كان مملوكًا، وقد حظر رسول الله صلى الله عليه وسلم على المملوكين، فكيف للأحرار؟. قوله:"وليقل: فتاي وفتاتي، وغلامي"، أي: لأنها ليست دالة

_ 1 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأبو داود: الأدب (4975) , وأحمد (2/316 ,2/423 ,2/444 ,2/484 ,2/491 ,2/496 ,2/508) . 2 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأحمد (2/463 ,2/484 ,2/496) .

على الملك كدلالة عبدي وأمتي، فأرشد عليه السلام إلى ما يؤدي المعنى من السلامة من الإيهام والتعاظم مع أنها تطلق على الحر والمملوك، لكن إضافته تدل على الإخلاص.

باب لا يرد من سئل بالله

[49- باب لا يرد من سئل بالله] ش: أي: إعظامًا وإجلالاً لله تعالى أن يسأل به في شيء، ولا يجاب السائل إلى سؤاله ومطلوبه، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإبرار القسم وتنازعوا هل هو أمر استحباب، أو إيجاب؟ وظاهر كلام شيخ الإسلام التفريق بين أن يقصد إلزامه بالقسم فتجب إجابته، أو يقصد إكرامه فلا تجب عليه. ولهذا أوجب على المقسم في الأولى الكفارة، إذا لم يفعل المحلوف عليه، دون الثانية، لأنه كالأمر، ولا يجب إذا كان للإكرام لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بوقوفه في الصف ولم يقف، ولأن أبا بكر أقسم على النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنه بالصواب والخطأ لما فسر الرؤيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقسم". كما في"الصحيحين"قال: لأنه علم أنه لم يقصد الإقسام عليه مع المصلحة المقتضية للكتم. قال: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفًا فكافؤوه، فإن لم تجدوا ما تكافؤوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه" 1. رواه أبو داود، والنسائي بسند صحيح. ش: قوله:"من استعاذ بالله فأعيذوه"، أي: من سألكم أن تدفعوا عنه شركم أو شر غيركم بالله، كقوله: بالله عليك أن تدفع عني شر فلان أو شرك، أعوذ بالله من شرك أو شر فلان ونحو ذلك، فأعيذوه، أي: امنعوه مما استعاذ منه وكفوه عنه لتعظيم اسم الله تعالى، ولهذا لما قالت الجونية للنبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بالله منك

_ 1 النسائي: الزكاة (2567) , وأبو داود: الزكاة (1672) , وأحمد (2/99 ,2/127) .

قال: "لقد عذت بمعاذ، ألحقي بأهلك" 1. ولفظ أبي داود: "من استعاذكم بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه" 2. قوله:"ومن سأل بالله فأعطوه". وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود: "ومن سألكم بوجه الله فأعطوه". ومعناه ظاهر، وهو أن يقول: أسألك بالله أو بوجه الله ونحو ذلك، أن تفعل أو تعطيني كذا، ويدخل في ذلك القسم عليه بالله أن يفعل كذا، وظاهر الحديث، وجوب إعطائه ما سأل ما لم يسأل إثمًا، أو قطيعة رحم. وقد جاء الوعيد على ذلك في عدة أحاديث، منها: حديث أبي موسى مرفوعًا: "ملعون من سئل بوجه الله، وملعون من يسأل بوجهه ثم منع سائله ما لم يسأل هجرًا". رواه الطبراني. قال في"تنبيه الغافلين": ورجال إسناده رجال الصحيح، إلا شيخه يحيى بن عثمان بن صالح، والأكثر على توثيقه، فإن بلغ هذا الإسناد أو إسناد غيره مبلغًا يحتج به كان ذلك من الكبائر. وعن أبي عبيد مولى رفاعة بن رافع مرفوعًا "ملعون من سأل بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله فمنع سائله". رواه الطبراني أيضًا. وعن ابن عباس مرفوعًا: "ألا أخبركم بشر الناس: رجل يُسأل بالله ولا يعطي" 3. رواه الترمذي وحسنه، وابن حبان في"صحيحه". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أخبركم بشر البرية؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: الذي يُسأل بالله ولا يعطي" 4. رواه أحمد. إذا تبين هذا فهذه الأحاديث دالة على إجابة من سئل بالله أو أقسم به، ولكن قال شيخ الإسلام: إنما تجب على معين، فلا تجب على سائل يقسم على الناس، وظاهر كلام الفقهاء أن ذلك مستحب كإبرار القسم، والأول أصح. قوله:"ومن دعاكم فأجيبوه". أي: من دعاكم إلى طعام فأجيبوه فإن كانت وليمة عرس وتوفرت الشروط المبينة في كتب الفقه وجبت الإجابة، وإن كان لغيرها استحب إجابتها، وتجب

_ 1 البخاري: الطلاق (5254) , والنسائي: الطلاق (3417) , وابن ماجه: الطلاق (2050) . 2 النسائي: الزكاة (2567) , وأبو داود: الأدب (5109) , وأحمد (2/68) . 3 الترمذي: فضائل الجهاد (1652) , والنسائي: الزكاة (2569) , ومالك: الجهاد (976) , والدارمي: الجهاد (2395) . 4 أحمد (2/396) .

مطلقًا وهو الصحيح لظاهر الأحاديث، وهي لم تفرق بين وليمة العرس وغيرها، وإن كانت وليمة العرس آكد وأوجب. قوله:"ومن صنع إليكم معروفًا فكافؤوه". المعروف: اسم جامع لمخير. وقوله:"فكافؤوه"، أي: على إحسانه بمثله أو خير منه، وقد أشار شيخ الإسلام إلى مشروعية المكافأة، لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، فهو إذا أحسن إليه ولم يكافئه يبقى في قلبه نوع تأله لمن أحسن إليه، فشرع قطع ذلك بالمكافأة، فهذا معنى كلامه. وقال غيره: إنما أمر بالمكافأة ليخلص القلب من إحسان الخلق ويتعلق بالحق. ولفظ أبي داود: "من أتى إليكم معروفًا ... " 1. قوله:"فإن لم تجدوا ما تكافئوه". هكذا ثبت بحذف النون في خط المصنف، وهكذا هو في غيره من أصول الحديث. قال الطيبي: سقطت من غير ناصب ولا جازم، إما تخفيفًا أو سهوًا من الناسخ. قوله:"فادعوا له ... " إلى إلخ يعني من أحسن إليكم أيَّ إحسان فكافئوه بمثله، فإن لم تقدروا فبالغوا في الدعاء له جهدكم حتى تحصل المسألة، ووجه المبالغة أنه رأى في نفسه تقصيرًا في المجازاة لعدم القدرة عليها، فأحالها إلى الله، ونعم المجازي هو، وهذا الحديث رواه أيضًا أحمد بإسناد صحيح، وابن حبان، والحاكم، وصححه النووي. وقد روى الترمذي وصححه النسائي وابن حبان عن أسامة بن زيد مرفوعًا: "من صنع إليكم معروفًا فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا فقد أبلغ في الثناء" 2.

_ 1 النسائي: الزكاة (2567) , وأبو داود: الزكاة (1672) والأدب (5109) , وأحمد (2/68) . 2 الترمذي: البر والصلة (2035) .

باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

[50- باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة] أي إعظامًا وإجلالاً وإكرامًا لوجه الله أن يسأل به إلا غاية المطالب، وهذا من معاني قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} 1.

_ 1 سورة الرحمن آية: 27.

قال: عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة" 1. رواه أبو داود أيضًا. ش: قوله:"عن جابر". هو جابر بن عبد الله. قوله: "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة" 2 روي بالنفي والنهي، وروي بالبناء للمجهول، وهو الذي في الأصل، وروي بالخطاب للمفرد، وفيه إثبات الوجه خلافًا للجهمية ونحوهم، فإنهم أَوَّلُوا الوجه بالذات، وهو باطل، إذ لا يسمى ذات الشيء وحقيقته وجهًا، فلا يسمى الإنسان وجها، ولا تسمى يده وجهًا، ولا تسمى رجله وجهًا. والقول في الوجه عند أهل السنة كالقول في بقية الصفات، فيثبتونه لله على ما يليق بجلاله وكبريائه من غير كيف ولا تحديد، إثبات بلا تمثيل، وتنْزيه بلا تعطيل. قوله:"إلا الجنة"، كأن يقول:"اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن تدخلني الجنة". وقيل: المراد لا تسألوا من الناس شيئًا بوجه الله"كأن يقول: أعطني شيئًا بوجه الله، فإن الله أعظم من أن يسأل به شيء من الحطام. قلت: والظاهر أن كلا المعنيين صحيح، قال الحافظ العراقي: "وذكر الجنة إنما هو للتنبيه به على الأمور العظام لا للتخصيص، فلا يسأل بوجهه في الأمور الدنيئة، بخلاف الأمور العظام تحصيلاً أو دفعًا، كما يشير إليه استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم به". قلت: والظاهر أن المراد لا يسأل بوجه الله إلا الجنة، أو ما هو وسيلة إليها، كالاستعاذة بوجه الله من غضبه ومن النار ونحو ذلك مما هو وارد في أدعيته صلى الله عليه وسلم وتعوذاته،"ولما نزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} 3. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أعوذ بوجهك". {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} 4 قال: "أعوذ بوجهك" رواه البخاري. وهذا الحديث رواه في"المختارة"أيضًا ولكن في

_ 1 أبو داود: الزكاة (1671) . 2 أبو داود: الزكاة (1671) . 3 سورة الأنعام آية: 65. 4 سورة الأنعام آية: 65.

إسناده سليمان بن معاذ. قال ابن معين: ليس بشيء، وضعفه عبد الحق وابن القطان.

باب ماجاء في "لو"

باب ماجاء في "لو" ... [51- باب ما جاء في ال "لو"] اعلم أن من كمال التوحيد الاستسلام للقضاء والقدر رضا بالله ربًا فإن هذا من جنس المصائب، والعبد مأمور عند المصائب بالصبر والإرجاع والتوبة. وقول "لو" لا يجدي عليه إلا الحزن والتحسر مع ما يخاف توحيده من نوع المعاندة للقدر الذي لا يكاد يسلم منها من وقع منه هذا إلا ما شاء الله، فهذا وجه إيراده هذا الباب في التوحيد. قال وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 1. ش: قال ابن كثير: فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 2 أي: يسرون هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال الزبير: لقد رأيتُنِي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا: أرسل الله علينا النوم، فما منا رجل إلا ذقنه في صدره فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} . فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله عزّ وجل: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 3. لقول معتب. رواه ابن أبي حاتم. قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} 4. أي: هذا قدر مقدر من الله عزّ وجل وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه.

_ 1 سورة آل عمران آية: 154. 2 سورة آل عمران آية: 154. 3 سورة آل عمران آية: 154. 4 سورة آل عمران آية: 154.

قلت: فتبين وجه إيراد المصنف الآية على الترجمة، لأن قول"لو"في الأمور المقدرة من كلام المنافقين، ولهذا رد الله عليهم ذلك بأن هذا قدر، فمن كتب عليه شيء فلا بد أن يناله، فماذا يغني عنكم قول"لو"و"ليت"إلا الحسرة والندامة؟! فالواجب عليكم في هذه الحالة الإيمان بالله والتعزي بقدره مع ما ترجون من حسن ثوابه، وفي ذلك عين الفلاح لكم في الدنيا والآخرة، بل يصل الأمر إلى أن تنقلب المخاوف أمانًا والأحزان سرورًا وفرحًا كما قال عمر بن عبد العزيز: أصبحت وما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر. قال: وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ... } 1. ش: روى ابن جرير عن السدي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في ألف رجل، وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما خرجوا رجع عبد الله ابن أبي في ثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالاً ولئن أطعتنا لترجعن معنا فنَزل: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ... } 2. وعن ابن جريج في الآية. قال: هو عبد الله بن أبي {الَّذِينَ ... وَقَعَدُوا} 3. الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم. فعلى هذا إخوانهم هم المسلمون المجاهدون، وسموا إخوانهم لموافقتهم في الظاهر. وقيل: إخوانهم في النسب لا في الدين. {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} 4. قال ابن كثير: لو سمعوا مشورتنا عليهم في القعود، وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل قال الله تعالى: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 5. أي: إن كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت فينبغي أنكم لا تموتون، والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في بروج مشيدة. فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد: عن جابر بن

_ 1 سورة آل عمران آية: 168. 2 سورة آل عمران آية: 168. 3 سورة آل عمران آية: 168. 4 سورة آل عمران آية: 168. 5 سورة آل عمران آية: 168.

عبد الله نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي. قلت: وكان أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بعدم الخروج، فلما قدر الله الأمر قال ذلك تصويبًا لرأيه، ورفعًا لشأنه فردّ الله عليه وعلى أمثاله {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1. فلا تعذرون عن ذلك. فعلم أن ذلك بقضاء الله وقدره. أي: يستوي الذي في وسط الصفوف والذي في البروج المشيدة في القتل والموت. بل {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} 2، فلا ينجي حذر من قدر. وفي ضمن ذلك قول"لو"ونحوه في مثل هذا المقام; لأن ذلك لا يجدي شيئًا؛ إذ المقدر قد وقع فلا سبيل إلى دفعه أبدًا. {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} 3. قال في"الصحيح"عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل; فإن لو تفتح عمل الشيطان" 4. ش: قوله:"في"الصحيح"" أي:"صحيح مسلم". قوله:"احرص على ما ينفعك ... " إلخ. هذا الحديث اختصره المصنف رحمه الله ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وفي كل خير، احرص على ما ينفعك" 5 إلى آخره. فقوله عليه السّلام: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" 6. فيه أن الله سبحانه موصوف بالمحبة، وأنه يحب على الحقيقة كما قال: {ُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 7. وفيه أنه سبحانه يحب مقتضى أسمائه وصفاته، وما يوافقها فهو القوي، ويحب المؤمن القوي،،هو وتر يحب الوتر، وجميل يحب الجمال، وعليم يحب العلماء، ومحسن

_ 1 سورة آل عمران آية: 168. 2 سورة آل عمران آية: 154. 3 سورة الطور آية: 48. 4 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370) . 5 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370) . 6 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370) . 7 سورة المائدة آية: 54.

يحب المحسنين، وصبور يحب الصابرين، وشكور يحب الشاكرين. قلت: الظاهر أن المراد القوة في أمر الله وتنفيذه، والمسابقة بالخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ما يصيب في ذات الله ونحو ذلك، لا قوة البدن. ولهذا مدح الله الأنبياء بذلك في قوله: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} 1. فالأيدي: القوة، والعزائم في تنفيذ أمر الله. وقوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} 2. وقوله:"وفي كل خير"، أي: كل من المؤمن القوي والمؤمن الضعيف على خير وعافية، لاشتراكهما في الإيمان والعمل الصالح. ولكن القوي في إيمانه ودينه أحب إلى الله. وفيه أن محبة المؤمنين تتفاضل فيحب بعضهم أكثر من بعض. وقوله:"احرص على ما ينفعك"، هو بفتح الراء وكسرها قال ابن القيم: سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده. والحرص: هو بذل الجهد واستفراغ الوسع. فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودًا، وكماله كله في مجموع هذين الأمرين أن يكون حريصًا، وأن يكون حرصه على ما ينتفع به. فإن حرص على ما لا ينفعه أو فعل ما ينفعه بغير حرص، فإنه من الكمال بحسب ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع. قوله:"واستعن بالله". قال ابن القيم: "لما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله، ومشيئته، وتوفيقه، أمره أن يستعين به ليجتمع له مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، [الفاتحة: 5] ، فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله، ولا تتم إلا بمعونته. فأمره بأن يعبده ويستعين به. وقال غيره:"استعن بالله"، أي: اطلب الإعانة في جميع أمورك من الله لا من غيره. كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، [الفاتحة: 5] ، فإن العبد عاجز لا يقدر على شيء إن لم يعنه

_ 1 سورة ص آية: 45. 2 سورة ص آية: 17.

الله عليه، فلا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عزّ وجل. فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته ويعلم أصحابه أن يقولوا: "الحمد لله نستعينه ونستهديه" 1. ومن دعاء القنوت: "اللهم إنا نستعينك" وأمر معاذ بن جبل أن لا يدع في دبر كل صلاة أن يقول: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" 2. وكان ذلك من دعائه صلى الله عليه وسلم. ومنه أيضًا: "اللهم أعني ولا تعن علي" 3. وإذا حقق العبد مقام الاستعانة وعمل به، كان مستعينًا بالله عزّ وجل متوكلاً عليه، راغبًا وراهبًا إليه; فيستحق له مقام التوحيد إن شاء الله تعالى. قوله:"ولا تعجز"، وهو بكسر الجيم وفتحها. استعمل الحرص والاجتهاد في تحصيل ما ينفعك من أمر دينك ودنياك التي تستعين بها على صيانة دينك، وصيانة عيالك، ومكارم أخلاقك. ولا تفرط في طلب ذلك، ولا تتعاجز عنه متكلاً على القدر، أو متهاونًا بالأمر. فتنسب للتقصير وتلام على التفريط شرعًا وعقلًا مع إنهاء الاجتهاد نهايته، وبلاغ الحرص غايته. فلا بد من الاستعانة بالله والتوكل عليه والالتجاء في كل الأمور إليه، فمن ملك هذين الطريقين حصل على خير الدارين. وقال ابن القيم: "العجز ينافي حرصه على ما ينفعه، وينافي استعانته بالله، فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله ضد العاجز، فهذا إرشاد له قبل رجوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله، وهو الحريص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده، ومصدرها منه، ومردها إليه". قوله:"وإن أصابك شيء…"، إلى آخره. العبد إذا فاته ما لم يقدر له فله حالتان: حالة عجز وهي مفتاح عمل الشيطان فيلقيه

_ 1 الترمذي: النكاح (1105) , والنسائي: الجمعة (1404) , وأبو داود: النكاح (2118) , وابن ماجه: النكاح (1892) , وأحمد (1/392 ,1/432) , والدارمي: النكاح (2202) . 2 مسلم: العلم (2670) , وأبو داود: السنة (4608) , وأحمد (1/386) . 3 الترمذي: الدعوات (3551) , وأبو داود: الصلاة (1510) , وابن ماجه: الدعاء (3830) , وأحمد (1/226) .

العجز إلى"لو"ولا فائدة في"لو"ههنا، بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان، فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا المفتاح، وأمره بالحالة الثانية، وهي النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قدر له لم يفته، ولم يغلبه عليه أحد فلم يبق له ههنا أنفع من شهود القدر، ومشيئة الرب النافذة، التي توجب وجود المقدور وإذا انتفت امتنع وجوده، فلهذا قال: "وإن أصابك شيء"، أي: غلبك الأمر ولم يحصل المقصود بعد بذل جهده والاستعانة بالله فلا تقل:"لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل". فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين. حالة حصول مطلوبه، وحالة فواته. فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدًا، بل هو أشد شيء إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب، والاختيار، والقيام بالعبودية باطنًا وظاهرًا في حالتي حصول المطلوب وعدمه، هذا معنى كلام ابن القيم. وقال القاضي: قال بعض العلماء: هذا النهي إنما هو لمن قاله معتقدًا ذلك حتما، وأنه لو فعل ذلك لم يصبه قطعًا. فأما من رد ذلك إلى مشيئة الله تعالى، وأنه لن يصيبه إلا ما شاء الله، فليس من هذا، واستدل بقول أبي بكر الصديق في الغار: لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا. قال القاضي: وهذا ما لا حجة فيه، لأنه أخبر عن مستقبل، وليس فيه دعوى لرد القدر بعد وقوعه. قال: وكذا جميع ما ذكره البخاري فيما يجوز من"اللو"كحديث: "لولا حدثان قومك بالكفر، لأتممت البيت على قواعد إبراهيم" 1. و: "لو كنت راجمًا بغير بينة لرجمت هذه" 2. و "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك" 3. وشبه ذلك، وكله مستقبل لا اعتراض فيه على قدر ولا كراهة فيه، لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته، فأما ما ذهب فليس في قدرته. فإن قيل: ما تصنعون بقوله صلى الله عليه وسلم: "لو

_ 1 الترمذي: العلم (2663) , وأبو داود: السنة (4605) , وابن ماجه: المقدمة (13) . 2 أحمد (3/428) . 3 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125) .

استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة؟ " 1. قيل: هذا كقوله: "لولا حدثان قومك بالكفر" 2. ونحوه مما هو خبر عن مستقبل لا اعتراض فيه على قدر، بل هو إخبار لهم أنه لو استقبل الإحرام بالحج; ما ساق الهدي ولا أحرم بالعمرة، بقوله لهم لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة حثًا لهم وتطييبًا لقلوبهم لما رآهم توقفوا في أمره، فليس من المنهي عنه، بل هو إخبار لهم عما كان يفعل في المستقبل لو حصل، ولا خلاف في جواز ذلك، وإنما ينهى عن ذلك في معارضة القدر مع اعتقاد أن ذلك المانع لو يقع لوقع خلاف المقدور. قوله:"فإن لو تفتح عمل الشيطان"، أي: من الجزع والعجز واللوم والسخط من القضاء والقدر ونحو ذلك، ولهذا من قالها على وجه النهي عنه، فإن سلم من التكذيب بالقضاء والقدر لم يسلم من المعاندة له، واعتقاد أنه لو فعل ما زعم لم يقع المقدور ونحو ذلك، وهذا من عمل الشيطان. فإن قيل: ليس في هذا رد للقدر ولا تكذيب به، إذ تلك الأسباب التي تمناها من القدر، فهو يقول: لو أني وقفت لهذا القدر لاندفع به عني ذلك القدر، فإن القدر يدفع بعضه ببعض. قيل: هذا حق، ولكن ينفع قبل وقوع القدر المكروه، فأما إذا ما وقع فلا سبيل إلى دفعه، وإن كان له سبب إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر، فهو أولى به من قول: لو كنت فعلت، بل وحقيقته في هذه الحال أن يستقبل فعله الذي يدفع به المكروه، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه، فإنه عجز محض والله يلوم على العجز، ويحب الكيس ويأمر به، والكيس مباشرة الأسباب التي ربط الله بها بمسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده. انتهى ملخصًا من كلام ابن القيم.

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (2856) واللباس (5967) والاستئذان (6267) والرقاق (6500) والتوحيد (7373) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (5/228 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242) . 2 الترمذي: العلم (2663) , وأبو داود: السنة (4605) , وابن ماجه: المقدمة (13) .

باب النهي عن سب الريح

[52- باب النهي عن سب الريح] ش: أي لأنها مأمورة ولا تأثير لها في شيء إلا بأمر الله فسبها كسب الدهر، وقد تقدم النهي عنه، فكذلك الريح. قال: عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون، فقولوا: اللهم إنا نسألك خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به" 1. صححه الترمذي. ش: قوله:"عن أبي بن كعب"، أي: ابن قيس بن عبيد بن زيد ابن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو المنذر. صحابي بدري جليل وكان من قراء الصحابة وقضاتهم وعلمائهم وله مناقب مشهورة اختلف في سنة موته، فقال الهيثم بن عدي: مات سنة تسعة عشر. وقال خليفة بن خياط: سنة اثنين وثلاثين، يقال فيها مات أبي بن كعب، ويقال: بل مات في خلافة عمر. قلت: وقيل غير ذلك. قوله:"لا تسبوا الريح"، أي: لا تشتموها ولا تلعنوها للحوق ضرر فيها فإنها مأمورة مقهورة، فلا يجوز سبها، بل تجب التوبة عند التضرر بها وهو تأديب من الله تعالى لعباده، وتأديبه رحمة للعباد، فلهذا جاء في حديث أبي هريرة مرفوعًا: "الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب، فلا تسبوها ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها" 2. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وكونها قد تأتي بالعذاب لا ينافي كونها من رحمة الله وعن ابن عباس أن رجلاً لعن الريح عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تلعنوا الريح، فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئًا ليس له بأهل رجعت اللعنة إليه". رواه الترمذي، وقال: غريب. قال الشافعي: "لا ينبغي شتم الريح فإنها خلق مطيع لله، وجند من جنوده، يجعلها الله رحمة إذا شاء، ونقمة إذا شاء. ثم روي

_ 1 الترمذي: الفتن (2252) , وأحمد (5/123) . 2 أبو داود: الأدب (5097) , وابن ماجه: الأدب (3727) , وأحمد (2/267) .

بإسناده حديث منقطع أن رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر، فقال له: "لعلك تسب الريح". وقال مطرف: "لو حبست الريح عن الناس لأنتن ما بين السماء والأرض". قوله:"فإذا رأيتم ما تكرهون"، أي: من الريح إما شدة حرها، أو بردها، أو قوتها. قوله: فقولوا:"اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح"، أمر صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى خالقها وآمرها الذي أزمة الأمور كلها بيده، ومصدرها عن قضائه، فما استجلبت نعمة بمثل طاعته وشكره، ولا استدفعت نقمة بمثل الالتجاء إليه والتعوذ به، والاضطرار إليه والاستكانة له ودعائه، والتوبة إليه والاستغفار من الذنوب. قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به" 1. وإذا تخيلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل وأدبر وأقبل، فإذا مطرت سري ذلك عنه، فعرفت عائشة ذلك فسألته، فقال:"لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} 2". رواه البخاري ومسلم، فهذا ما أمر به صلى الله عليه وسلم وفعله عند الريح وغيرها من الشدائد المكروهات، فأين هذا ممن يستغيث بغير الله من الطواغيت والأموات، فيقولون: يا فلان الزمها أو أزلها. فالله المستعان.

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4829) , ومسلم: صلاة الاستسقاء (899) , وأبو داود: الأدب (5098) , وابن ماجه: الدعاء (3891) , وأحمد (6/66 ,6/240) . 2 سورة الأحقاف آية: 24.

باب قول الله تعالى: {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله ... }

[53- باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ... } 1] ش: أراد المصنف بهذه الترجمة التنبيه على وجوب حسن الظن بالله، لأن ذلك من واجبات التوحيد، ولذلك ذم الله من أساء الظن

_ 1 سورة آل عمران آية: 154.

من حسن الظن ما يناسب كل اسم وصفة، لأن كل صفة لها عبودية خاصة، وحسن ظن خاص. وقد جاء الحديث القدسي، قال الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني" 1. رواه البخاري ومسلم. وعن جابر رضي الله عنه: "أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عزّ وجل" 2. رواه مسلم وأبو داود. وفي حديث عند أبي داود وابن حبان: "حسن الظن من حسن العبادة" 3. رواه الحاكم، ولفظهما: "حسن الظن بالله من حسن العبادة" 4. قوله: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} 5. قال ابن القيم: ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل وهو قولهم: {هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} 6. وقولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 7. فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر ورد الأمر كله لله، ولو كان مقصودهم لما ذموا عليه، ولما حسن الرد عليهم بقوله: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} 8. ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية، ولهذا قال غير واحد من المفسرين: إن ظنهم الباطل ههنا هو التكذيب بالقدر، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبعًا لهم يسمعون منهم، لما أصابهم القتل، ولكان التصرف والظفر لهم، فكذبهم الله عزّ وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل الذين يزعمون بعد نفاذ القضاء والقدر الذي لم يكن بد من نفاذه: أنهم كانوا قارين على دفعه وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ

_ 1 البخاري: التوحيد (7405) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2675) , والترمذي: الزهد (2388) والدعوات (3603) , وابن ماجه: الأدب (3822) , وأحمد (2/251 ,2/354 ,2/391 ,2/413 ,2/445 ,2/480 ,2/482 ,2/515 ,2/517 ,2/524 ,2/534) . 2 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2877) , وأبو داود: الجنائز (3113) , وابن ماجه: الزهد (4167) , وأحمد (3/293 ,3/315 ,3/325 ,3/330 ,3/334 ,3/390) . 3 أبو داود: الأدب (4993) , وأحمد (2/407) . 4 الترمذي: الدعوات (3970) , وأبو داود: الأدب (4993) , وأحمد (2/297 ,2/304 ,2/359 ,2/407) . 5 سورة آل عمران آية: 154. 6 سورة آل عمران آية: 154. 7 سورة آل عمران آية: 154. 8 سورة آل عمران آية: 154.

القضاء، فأكذبهم الله بقوله: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} 1. فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدره، وجرى به قلمه وكتابه السابق، وما شاء الله كان ولا بد، شاء الناس أم أبوا، وما لم يشأ لم يكن، شاءه الناس أو لم يشاؤوه، وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى دفعه، سواء كان لكم من الأمر شيء أو لم يكن، فإنكم لو كنتم في بيوتكم وقد كتب القتل على بعضكم; لخرج من كتب عليه القتل من بيته إلى مضجعه ولا بد، سواء كان له من الأمر شيء أو لم يكن. وهذا من أظهر الأشياء إبطالاً لقول القدرية النفاة، الذين يجوزون أن يقع ما لا يشاء الله وأن يشاء ما لا يقع. وقوله: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} 2، أي: يختبر ما فيها من الإيمان والنفاق. فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، والمنافق ومن في قلبه مرض لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه. قوله: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} 3، هذه حكمة أخرى، وهي تمحيص ما في قلوب المؤمنين وهو تخليصه وتنقيته وتهذيبه، فإن القلوب يخالطها تغليب الطباع وميل النفوس، وحكم العادة، وتزيين الشيطان، واستيلاء الغفلة مما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى فلو تركت في عافية دائمة مستمرة، لم تتخلص من هذه المخاطر ولم تتمحص منه، فاقتضت حكمة العزيز الرحيم أن قيض لها من المحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيب بإزالته وتنقيته ممن هو في جسده، وإلا خيف عليه من الفساد والهلاك، فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكثرة والهزيمة، وقتل من قتل منهم تعادل4 نعمته عليهم بنصره،

_ 1 سورة آل عمران آية: 154. 2 سورة آل عمران آية: 154. 3 سورة آل عمران آية: 154. 4 في الطبعة السابقة: "تعاد ".

وتأييدهم وظفرهم بقدرتهم، فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا. قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} 1. يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله عزّ وجل سينصر رسوله، وينجز له مأموله، ولهذا قال: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} 2، يعني: لا يغشاهم النعاس من القلق: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} 3، كما قال في الآية الأخرى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} 4. وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفاصلة وأن الإسلام قد باء وأهله. قال ابن القيم: ظن الجاهلية: هو المنسوب إلى أهل الجهل وظن غير الحق، لأنه غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العلا وذاته المبرأة من من كل عيب وسوء، أو خلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه. وقد ذكر المؤلف تفسير ابن القيم لهذه الآية، وهو أحسن ما قيل فيها وسيأتي ما يتعلق به إن شاء الله تعالى. قوله: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} 5. هذا أيضًا من حكاية مقال المنافقين. والظاهر أن المعنى: إنا أخرجنا كرهًا، ولو كان الأمر إلينا ما خرجنا، كما أشار إليه ابن أبي بذلك، ولفظه استفهام، ومعناه النفي، أي: ما إن شيء من الأمر، أي: أمر الخروج، وقيل غير ذلك فرد الله عليهم بقوله: {إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} 6، أي: ليس لكم من الأمر شيء ولا لغيركم، بل الأمر كله لله، فهو الذي إذا شاء فلا مرد له. وقوله: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 7، تقدم الكلام عليها في باب ما جاء في ال "لو". وقوله: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} 8، أي: قدر الله هذه الهزيمة

_ 1 سورة آل عمران آية: 154. 2 سورة آل عمران آية: 154. 3 سورة آل عمران آية: 154. 4 سورة الفتح آية: 12. 5 سورة آل عمران آية: 154. 6 سورة آل عمران آية: 154. 7 سورة آل عمران آية: 154. 8 سورة آل عمران آية: 154.

والقتل، ليختبر الله ما في صدوركم بأعمالكم، لأنه قد علمه غيبًا فيعلمه شهادة لأن المجازاة إنما تقع على من يعلم مشاهدة، لا على ما هو معلوم منهم غير مغمور {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} 1 أي: يطهرها من الشدة والمرض بما يريكم من عجائب آياته وباهر قدرته، وهذا خاص بالمؤمنين دون المنافقين {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 2 قيل معناه: إن الله لا يبتليكم ليعلم ما في صدوركم فإنه عليم بذلك وإنما ابتلاكم ليظهر أسراركم. والله أعلم. قال وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} 3. ش: قال ابن كثير: يتهمون الله تعالى في حكمه، ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية، ولهذا قال: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} 4 أي: أبعدهم من رحمته {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 5. [بعض أنواع ظن السوء برب العالمين] قال ابن القيم في الآية الأولى: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء، لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق، فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة; فـ {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 6. وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، فقَلَّ من

_ 1 سورة آل عمران آية: 154. 2 سورة آل عمران آية: 154. 3 سورة الفتح آية: 6. 4 سورة الفتح آية: 6. 5 سورة الفتح آية: 6. 6 سورة ص آية: 27.

يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وهو موجب حكمته وحمده، فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله تعالى ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتًا على القدر، وملامة له، يقول: إنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم؟ فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيًا. ش: قوله:"فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله". إلى آخره. هذا تفسير غير واحد من المفسرين وهو مأخوذ من تفسير قتادة والسدي، وذكر ذلك عنهما ابن جرير وغيره بالمعنى. وقوله:"وإن أمره سيضمحل". أي: سيذهب جملة حتى لا يبقى له أثر. والاضمحلال: ذهاب الشيء جملة. قوله:"وفسر أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته". قال القرطبي: وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} 1 يعني التكذيب بالقدر وذلك أنهم تكلموا فيه، فقال الله: قل إن الأمر كله لله، يعني: القدر خيره وشره من الله. وأما تفسيره بإنكار الحكمة، فلم أقف عليه عن السلف، فهو تفسير صحيح فمن أنكر أن ذلك لم يكن لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد والشكر، فقد ظن بالله ظن السوء، وقد أشار تعالى إلى بعض الحكم والغايات المحمودة في ذلك، في سورة"آل عمران"فذكر شيئًا كثيرًا منها في الآية المفسرة: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 2. فهذا بعض الحكمة في ذلك. فمن أنكره، فقد ظن ظن السوء بالله وحكمته وعلمه ورحمته لكمال علمه وقدرته ورحمته، ولأن من أسمائه الحق، وذلك هو موجب لهيبته وربوبيته. قوله:"لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه". أي: لأن الذي يليق به

_ 1 سورة آل عمران آية: 154. 2 سورة آل عمران آية: 154.

سبحانه أنه يظهر الحق على الباطل وينصره، فلا يجوز في عقل ولا شرع أن يظهر الباطل على الحق. قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} 1. وقال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} 2. قوله:"ولا يليق بحكمته وحمده"، أي: إن الذي يليق بحكمته وحمده أن لا يكون في السموات ولا في الأرض حركة ولا سكون إلا وله في ذلك الحكمة البالغة والحمد الكامل التام عليها، فكيف بمثل هذا الأمر العظيم الذي وقع على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى سادات الأولياء، رضي الله عنهم، فله سبحانه وتعالى في ذلك الحكمة، وله عليه الحمد، بل والشكر. ومن تأمل ما في سورة"آل عمران: [121-179] " في سياق القصة; رأى من ذلك العجب، فمن ظن بالله تعالى أنه لا يفعل ذلك بقدرة وحكمة يستحق عليها الحمد والشكر، فقد ظن به ظن السوء. قوله:"فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق"، فهذا ظن السوء، لأنه نسبه - أي سبحانه - إلى ما لا يليق بجلاله وكماله ونعوته وصفاته، فإن حمده وحكمته وعزته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين المعاندين له، فمن ظن به ذلك، فما عرفه ولا عرف أسماءه وصفاته وكماله. قوله:"أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره"، أي: فذلك ظن السوء، لأنه نسبة له إلى ما لا يليق بربوبيته وملكه وعظمته. قوله:"أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد"، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 3. قال ابن القيم: وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك

_ 1 سورة الأنبياء آية: 18. 2 سورة الإسراء آية: 81. 3 سورة ص آية: 27.

وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق عليها الحمد، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فواتها1. وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لانضمامها إلى ما يحب، وإن كانت مكروهة له، فما قدرها سدى ولا شاءها عبثًا، ولا خلقها باطلاً {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 2. قوله:"ووعده الصادق"؛ لأن الله تعالى وعد رسوله صلى الله عليه وسلم أن يظهر أمره ودينه على الدين كله {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التّوبة، من الآية: 33، والصّفّ من الآية: 9] ، فمن ظن به تعالى أن دين نبيه سيضمحل ويبطل، ولا يظهر على الدين كله، فقد ظن به ظن السوء، لأنه ظن أنه يخلف الميعاد والله تعالى لا يخلف الميعاد. قوله:"وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء"، فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم. قال ابن القيم: فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء، ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوي بينهم وبين أعدائه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي، ولا يرسل إليهم رسله، ولا ينْزل إليهم كتبه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه لن يجمعهم بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه، وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكافرين، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصًا لوجهه على امتثال أمره، ويبطله عليه بلا سبب من العبد، أو أنه يعاقبه [بما لا صنع له فيه، ولا اختيار له، ولا قدرة ولا إرادة له في

_ 1 في الطبعة السابقة: قوتها. 2 سورة ص آية: 27.

حصوله، بل يعاقبه] على فعله سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله، [ويُجْريها على أيديهم ليُضلّوا بها عباده] ، وأنه يحسن منه كل شيء حتى يعذب من أفنى عمره في طاعته، أي: كمحمد صلى الله عليه وسلم فيخلده في الجحيم، أو في أسفل سافلين، وينعم من استنفد عمره في عداوته، وعداوة رسله ودينه، كأبي جهل فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده، ولا يعرف امتناع أحدهما، ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما، وحسن الآخر، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل، وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به، وإنما رمز إليه1 رموزًا بعيدة، وصرح دائمًا بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله، وإعانتهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل; فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أن يكون له في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه لا سمع له، ولا بصر، ولا علم، ولا إرادة، ولا كلام يقوم به، وأنه لم يكلم أحدًا من الخلق، ولا يتكلم أبدًا، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائنًا من خلقه، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين، وأنه أسفل كما أنه أعلى، وأن من قال: سبحان ربي الأسفل كمن قال: سبحان ربي الأعلى، فقد ظن به أقبح الظن، ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان

_ 1 في الطبعة السابقة: إليهم.

والفساد، ولا يحب الإيمان والبر والطاعة والصلاح، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه لا يحب، ولا يرضى، ولا يغضب، ولا يوالي، ولا يعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه، ولا يقرب عنده أحد، وأن ذوات الشياطين في القرب منه، كذوات الملائكة المقربين، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يسوي بين المتضادين، أو يفرق بين المتساويين في كل وجه، أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها، فيخلده في الجحيم لتلك الكبيرة، كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عين، واستنفد عمره في مساخطه، ومعاداة رسله ودينه; فقد ظن به ظن السوء. وبالجملة فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أن له ولدًا أو شريكًا، أو أن أحدًا يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه، يتقربون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم فيدعونهم، ويخافونهم، ويرجونهم; فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه، ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته، كما ينال بطاعته، والتقرب إليه، فهو من ظن السوء، ومن ظن أنه إذا ترك لأجله شيئًا لم يعوضه خيرًا منه، أو من فعل شيئًا لأجله، لم يعطه أفضل منه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يغضب على عبده، ويعاقبه بغير جرم، ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة; فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه إذا صدق في الرغبة والرهبة، وتضرع إليه وسأل واستعان به، وتوكل عليه أنه يخيبه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه، كما يثيبه إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه، فقد ظن به خلاف ما هو أهله، وما لا يفعله، ومن ظن أنه إذا أغضبه وأسخطه، ووقع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه أولياء، ودعا من دونه ملكًا، أو بشرًا حيًا أو ميتًا يرجو بذلك

أن ينفعه عند ربه، ويخلصه من عذابه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أعداءه تسليطًا مستقرًا دائمًا في حياته ومماته، وابتلاه بهم لا يفارقونه، فلما مات استبدوا بالأمر دون وصيه، وأهل بيته، وسلبوهم حقهم، وأذلوهم من غير جرم، ولا ذنب لأوليائه، وأهل الحق، وهو يرى ذلك، ويقدر على نصرة أوليائه وحزبه، ولا ينصرهم، ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه صلى الله عليه وسلم في حفرته تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت، كما تظنه الرافضة; فقد ظن به أقبح الظن. انتهى اختصارًا. وهو ينبهك على إحسان الظن بالله في كل شيء. فليعتن اللبيب. اللب: العقل، واللبيب العاقل. قوله:"ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتًا على القدر"، وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا. قلت: بل يبوحون بذلك، ويصرحون به جهارًا في أشعارهم وكلامهم. قال ابن عقيل في"الفنون": الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلدة بالذهب والفضة، ودارًا مشيدة مملوءة بالخدم والزينة، قال: انظر إلى إعطائهم مع سوء أفعالهم، ولا يزال يلعنهم، ويذم معطيهم حتى يقول: فلان يصلي الجماعات والجمع، ولا يؤذي الذر، ولا يأخذ ما ليس له، ويؤدي الزكاة إذا كان له مال، ويحج ويجاهد، ولا ينال خلة بقلبه، ويظهر الإعجاب كأنه ينطق إنه لو كانت الشرائع حقًّا لكان الأمر بخلاف ما ترى، وكان الصالح غنيًّا، والفاسق فقيرًا. قال أبو الفرج ابن الجوزي: وهذه حالة قد شملت خلقًا كثيرًا من العلماء والجهال، أولهم إبليس فإنه نظر بعقله، فقال: كيف يفضل الطين على جوهر النار؟! وفي ضمن اعتراضه: إن حكمتك قاصرة وأنا أجود. واتبع إبليس في تفضيله واعتراضه خلق كثير، مثل الراوندي والمعري، ومن قوله:

إذا كان لا يحظى برزقك عاقل ... وترزق مجنونًا وترزق أحمقا ولا ذنب يا رب السماء على امرئ ... رأى منك ما لا ينتهي فتزندقا [وأمثال ذلك كثير في أولئك الذين ابتعدوا عن كتاب الله وسنة رسوله، وانطلقوا إلى أهوائهم، واعتمدوا على عقولهم القاصرة التي جعلتهم يعترضون على الله جل وعلا] . وكان أبو طالب المكي يقول: ليس على المخلوق أضر من الخالق. قال ابن الجوزي: ودخلت على صدقة بن الحسين الحداد، وكان فقيهًا غير أنه كان كثير الاعتراض، وكان عليه جرب، فقال: هذا ينبغي أن يكون على حمد لا علي. وكان يتفقد بعض الأكابر أكولاً، فيقول: بعث لي هذا على الكبر وقت لا أقدر على أكله. وكان رجل يصحبني قد قارب ثمانين سنة، كثير الصلاة والصوم، فمرض واشتد به المرض، فقال: إن كان يريد أن أموت فيميتني، وأما هذا التعذيب، فما له معنى، والله لو أعطاني الفردوس كان مكفورًا. ورأيت آخر تزيا بالعلم إذا ضاق عليه رزقه يقول: أيشٍ هذا التدبير؟ وعلى هذا كثير من العوام إذا ضاقت أرزاقهم اعترضوا، وربما قالوا: ما يريد يصلي. وإذا رأوا رجلاً صالحًا مؤذيًا قالوا ما يستحق قدحًا في القدر، وكان قد جرى في زماننا تسلط من الظلمة، وقال بعض من تزيا بالدين: هذا حكم بارد. وما فهم ذلك الأحمق، فإن لله على الظالم] أن يسلط عليه أظلم منه] ، وفي الحمقى من يقول: أي فائدة في خلق الحيات والعقارب، وما علم أن ذلك نموذج لعقوبة المخالف، وهذا أمر قد شاع، ولهذا مددت النفس فيه. واعلم أن المعترض قد ارتفع أن يكون شريكًا وعلا الخالق بالحكم عليه، وهؤلاء كلهم كفرة، لأنهم رأوا حكمة الخالق قاصرة، وإذا كان قد توقف القلب عن الرضى بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج عن الإيمان. قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 1. فكيف يصح الإيمان مع الاعتراض على الله؟ وكان في زمن ابن عقيل رجل رأى بهيمة على غاية من السقم، فقال:

_ 1 سورة النساء آية: 65.

وارحمتي1 لك، واقلة حيلتي في إقامة التأويل لمعذبك. فقال له ابن عقيل: إن لم تقلد على حمل هذا الأمر لأجل رقبتك الحيوانية ومناسبتك الجنسية، فعندك عقل تعرف به حكم الصانع وحكمته يوجب عليك التأويل، فإن لم تجد استطرحت الفاطر العقل، حيث خانك العقل عن معرفة الحكمة في ذلك. انتهى. قوله:"وفتش نفسك هل أنت سالم؟ ". قال ابن القيم: أكثر الخلق إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق، وظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي، ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره، ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه، وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامنًا كمون النار في الزناد، فاقرع زناد من شئت ينبئك شرارها عما في زناده، فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله ويستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء وصنيع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهو أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام، والحكمة التامة، المنَزَّه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى. فلا تظنن بربك ظن سوء ... فإن الله أولى بالجميل. ولا تظنن بنفسك قط خيرًا ... فكيف بظالم جان جهول وظن بنفسك السوأى تجدها ... كذاك وخيرها كالمستحيل وما بك من تقى فيها وخير ... فتلك مواهب الرب الجليل

_ 1 في الطبعة السابقة: وراحمتي.

وليس لها ولا منها ولكن ... من الرحمن فاشكر للدليل. قوله:"فإن تنج منها". أي: من هذه الخصلة العظيمة. قوله:"من ذي عظيمة". أي: تنج من شر عظيم. قوله:"وإني لا إخا لك". هو بكسر الهمزة. أي: أظنك والله أعلم.

باب ما جاء في منكري القدر

[54- باب ما جاء في منكري القدر] ش: أي من الوعيد. والقدر بالفتح والسكون: ما يقدره الله من القضاء. ولما كان توحيد الربوبية لا يتم إلا بإثبات القدر. ـ قال القرطبي: القدر: مصدر قدرت الشيء بتخفيف الدال أقدره وأقدره قدرًا وقدرًا إذا حصلت بمقداره، ويقال فيه: قدرت أقدر تقديرًا مشدد الدال ـ، فإذا قلنا: إن الله تعالى قدر الأشياء، فمعناه: إنه تعالى علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا محدث في العالم العلوي والسفلي إلا هو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من دين السلف الماضين الذي دلت عليه البراهين; ذكر المصنف ما جاء في الوعيد فيمن أنكره تنبيهًا على وجوب الإيمان، ولهذا عده النبي صلى الله عليه وسلم من أركان الإيمان كما ثبت في حديث جبريل عليه السلام لما سئل عن الإيمان، فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال: صدقت" 1. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وكان عرشه على الماء" 2. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" 3. رواهما مسلم في"صحيحه"وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن

_ 1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/28 ,1/51 ,1/52 ,2/107) . 2 مسلم: القدر (2653) , والترمذي: القدر (2156) , وأحمد (2/169) . 3 مسلم: القدر (2655) , وأحمد (2/110) , ومالك: الجامع (1663) .

بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، والبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر" 1. رواه الترمذي، وابن ماجة، والحاكم في"مستدركه". والأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا، قد أفردها العلماء بالتصنيف. قال البغوي في"شرح السنة": الإيمان بالقدر فرض لازم، وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد خيرها وشرها كتبها عليهم في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 2. فالإيمان والكفر، [والطاعة والمعصية كلها بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته غير أنه يرضى الإيمان والطاعة] 3. ووعد عليهما الثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية وأوعد عليهما بالعقاب. قال الله تعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 4.قال: والقدر سر من أسرار الله تعالى لم يطلع عليه ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلاً، ولا يجوز الخوض فيه والبحث عنه بطريق العقل، بل يعتقد أن الله تعالى خلق الخلق، فجعلهم فريقين: أهل يمين خلقهم للنعيم فضلاً، وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلاً. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} 5. وقد"سأل رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر. قال: طريق مظلم، فلا تسلكه، فأعاد السؤال فقال: بحر عميق لا تلجه، فأعاد السؤال فقال: سر الله خفي عليك فلا تفشه". وقال شيخ الإسلام: "مذهب أهل السنة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال

_ 1 الترمذي: القدر (2145) , وابن ماجه: المقدمة (81) . 2 سورة الصافات آية: 96. 3 ما بين المعقفين استدركناه من شرح السنة. 4 سورة إبراهيم آية: 27. 5 سورة الأعراف آية: 179.

العباد، وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو قادر على كل شيء، ولا يشاء شيئًا إلا وهو قادر عليه، وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وكتب ذلك وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون. وغلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم وكتابته السابقة، ويزعمون أنه أمر ونهي، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، بل الأمر أنف، أي: مستأنف. وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين أمية في آخر عصر عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وغيرهما من الصحابة، وكان أول من ظهر ذلك عنه بالبصرة معبد الجهني، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرءوا منهم وأنكروا مقالتهم، ثم لما كثر خوض الناس في القدر صار جمهورهم يقر بالعلم المتقدم والكتاب السابق، ولكن ينكرون عموم مشيئة الله وعموم خلقه وقدرته، ويظنون أنه لا معنى لمشيئته إلا أمره، فما شاء فقد أمر به، وما لم يشأ لم يأمر به; فلزمهم أنه قد يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء. وأنكروا أن يكون الله خالقًا لأفعال العباد، أو قادرًا عليها، أو أن يخص بعض عباده من النعم مما يقتضي إيمانهم به وطاعتهم له. وزعموا أن نعمته التي بها يمكن الإيمان والعمل الصالح على الكفار كأبي جهل وأبي لهب مثل نعمته بذلك على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، بمنْزلة رجل دفع إلى والديه بمال قسمه بينهم بالسوية، ولكن هؤلاء أحدثوا أعمالهم الصالحة، وهؤلاء أحدثوا أعمالهم

الفاسدة من غير نعمة خص الله بها المؤمنين، وهذا قول باطل، وقد قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1. وقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 2. وقال ابن القيم ما معناه: مراتب القضاء والقدر أربع مراتب: الأولى: علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها. الثانية: كتابة ذلك عنده في الأزل قبل خلق السموات والأرض. الثالثة: مشيئته المتناولة لكل موجود فلا خروج لكائن كما لا خروج له عن علمه. الرابعة: خلقه لها وإيجاده وتكوينه، فالله خالق كل شيء، وما سواه مخلوق. [الإيمان بالقدر خيره وشره] قال: وقال ابن عمر: "والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبًا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" 3 رواه مسلم. ش: قوله:"وقال ابن عمر": هو عبد الله بن عمر بن الخطاب. قوله:"لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبًا، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه ... " إلخ. هذا قول ابن عمر لغلاة القدرية الذين أنكروا أن يكون الله تعالى عالمًا بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها منهم كما تقدم عنهم. قال القرطبي: ولا شك في تكفير من يذهب إلى ذلك، فإنه جحد معلوم من الشرع بالضرورة،

_ 1 سورة الحجرات آية: 17. 2 سورة الحجرات آية: 8-7. 3 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/28 ,1/51 ,1/52 ,2/107) .

ولذلك تبرأ منهم ابن عمر، وأفتى بأنهم لا تقبل منهم أعمالهم ولا نفقاتهم، وأنهم كمن قال الله فيهم: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} 1. وهذا المذهب قد ترك اليوم، فلا يعرف من ينسب إليه من المتأخرين من أهل البدع المشهورين. فقال شيخ الإسلام لما ذكر كلام ابن عمر هذا: وكذلك كلام ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير، حتى قال فيهم الأئمة، كمالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل وغيرهم: "إن المنكرين لعلم الله المتقدم ينكرون القدر"2. وقوله:"ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم "الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" 3. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كأنه لما سئل عن الإسلام، ذكر أركان الإسلام الخمسة لأنها أصل الإسلام، ولما سئل عن الإيمان أجاب بقوله:"أن تؤمن بالله ... " إلى آخره. فيكون المراد حينئذ بالإيمان جنس تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل، والقرآن والسنة مملوءان بإطلاق الإيمان على الأعمال، كما هما مملوءان بإطلاق الإسلام على الإيمان الباطن، مع ظهور دلالتهما أيضًا على الفرق بينهما، ولكن حيث أفرد أحد الاسمين دخل فيه الآخر، وإنما يفرق بينهما حيث فرق بين الاسمين، ومن أراد تحقيق ما أشرنا إليه فليراجع كتاب"الإيمان"الكبير لشيخ الإسلام. إذا تبين هذا، فوجه استدلال ابن عمر بالحديث من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم عد الإيمان بالقدر من أركان الإيمان، فمن أنكره لم يكن مؤمنًا، إذ الكافر

_ 1 سورة التوبة آية: 54. 2 كلمة القدر لم تكن في الأصل, ولكن يقتضيها سياق الكلام. 3 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/28 ,1/51 ,1/52 ,2/107) .

بالبعض كافر بالكل، فلا يكون مؤمنًا متقيًا، والله لا يقبل إلا من المتقين. وهذا قطعة من حديث جبريل عليه السلام، وقد أخرجه مسلم بطوله أول كتاب الإيمان في"صحيحه"من حديث يحيى بن يعمر عن ابن عمر، ولفظه: "عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرؤون القرآن ويتقفرون1 العلم، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف. قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، فقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام.... وذكر الحديث. وقوله:"خيره وشره"، أي: خير القدر وشره، أي: أنه تعالى قدر الخير والشر قبل خلق الخلق، وأن جميع الكائنات بقضائه وقدره وإرادته، لقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 2. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 3. {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 4

_ 1 أي يطلبونه ويتتبعونه. 2 سورة الفرقان آية: 2. 3 سورة الصافات آية: 96. 4 سورة القمر آية: 49.

وغير ذلك. فإن قلت: كيف قال:"وتؤمن بالقدر خيره وشره"وقد قال في الحديث: "والشر ليس إليك" 1. قيل: إثبات الشر في القضاء والقدر إنما هو بالإضافة إلى العبد، والمفعول إن كان مقدرًا عليه، فهو بسبب جهله وظلمه وذنوبه، لا إلى الخالق، فله في ذلك من الحكم ما تقصر عنه أفهام البشر، لأن الشر إنما هو بالذنوب وعقوباتها في الدنيا والآخرة، فهو شر بالإضافة إلى العبد، أما بالإضافة إلى الرب سبحانه وتعالى، فكله خير وحكمة، فإنه صادر عن حكمه وعلمه، وما كان كذلك فهو خير محض بالنسبة إلى الرب سبحانه وتعالى، إذ هو موجب أسمائه وصفاته، ولهذا قال:"والشر ليس إليك"، أي: تمتنع إضافته إليك بوجه من الوجوه، فلا يضاف الشر إلى ذاته وصفاته، ولا أسمائه ولا أفعاله، فإن ذاته منْزهة عن كل شر، وصفاته كذلك، إذ كلها صفات كمال، ونعوت جلال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب، وأفعاله حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل، لا تخرج عن ذلك البتة، وهو المحمود على ذلك كله، فتستحيل إضافة الشر إليه، فإنه ليس شر في الوجود إلا الذنوب وعقوبتها، وكونها ذنوبًا تأتي من نفس العبد، فإن سبب الذنب الظلم والجهل، وهما في نفس العبد. فإنه ذات مستلزمة للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه، وهو أمر خارج عن نفسه، فمن أراد الله به خيرًا أعطاه الفضل فصدر منه الإحسان والبر والطاعة، ومن أراد به شرًّا أمسكه عنه وخلاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها، فصدر عنه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح، وليس منعه من ذلك شرًّا، ولله في ذلك الحكمة التامة، والحجة البالغة، فهذا عدله، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وهو العلي الحكيم. هذا معنى كلام ابن القيم، وهو الحق.

_ 1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (771) , والترمذي: الدعوات (3421 ,3422 ,3423) , والنسائي: الافتتاح (897) , وأبو داود: الصلاة (760) , وأحمد (1/102) .

وحاصله أن الشر راجع إلى مفعولاته، لا إلى ذاته وصفاته، ويتبين ذلك بمثال ولله المثل الأعلى. لو أن ملكًا من ملوك العدل كان معروفًا بقمع المخالفين وأهل الفساد، مقيمًا للحدود والتعزيرات الشرعية على أرباب أصحابها، لعدوا ذلك خيرًا يحمده عليه الملوك، ويمدحه الناس ويشكرونه على ذلك، فهو خير بالنسبة إلى الملوك، يمدح ويثنى به ويشكر عليه وإن كان شرًّا بالنسبة إلى من أقيم عليه، فرب العالمين أولى بذلك، لأن له الكمال المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات. وأيضًا فلولا الشر هل كان يعرف الخير؟ فإن الضد لا يعرف إلا بضده، فإن لم تحط به خبرًا فاذكر كلام ابن عقيل في الباب الذي قبل هذا، وأسلم تسلم، والله أعلم. [ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك] . قال:"وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول ما خلق الله القلم، فقال: [له] اكتب. قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"، يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مني" 1. ش قوله:"يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان ... " إلى آخره. ابنه هذا هو الوليد بن عبادة كما صرح به الترمذي في روايته، وفيه أن للإيمان طعمًا، وهو كذلك، فإن له حلاوة وطعمًا، من ذاقه تسلى به عن الدنيا وما عليها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ... " 2. الحديث وإنما يكون العبد كذلك إذا كان مؤمنًا بالقدر، إذ يمتنع أن توجد الثلاث فيه وهو لا يؤمن بالقدر بل يكذب به ويرد على الله كلامه وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقالته، فإن المحبة التامة تقتضي المتابعة التامة، فمن لم يؤمن بالقدر، لم

_ 1 أبو داود: السنة (4700) . 2 البخاري: الإيمان (16) , ومسلم: الإيمان (43) , والترمذي: الإيمان (2624) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4987 ,4988 ,4989) , وابن ماجه: الفتن (4033) , وأحمد (3/103 ,3/113 ,3/172 ,3/174 ,3/230 ,3/248 ,3/288) .

يكن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فلا يجد حلاوة الإيمان ولا طعمه، بل إن كان منكرًا للعلم القديم، فهو كافر كما تقدم، ولهذا روي عن بعض الأئمة القدرية الكبار بإسناد صحيح أنه قال لما ذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "حدثني الصادق المصدوق ... ". الحديث: لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا لأجبته، ولو سمعت عبد الله بن مسعود يقول هذا ما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، وذكر كلمة بعدها. فهذا كفر صريح نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه. وقد بين في الحديت كيفية الإيمان بالقدر: أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره حتى إن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه" 1. رواه الترمذي. والمعنى: أن العبد لا يؤمن حتى يعلم أن ما يصيبه إنما أصابه في القدر، أي: ما قدر عليه من الخير والشر، لم يكن ليخطئه، أي: يجاوزه فلا يصيبه، وإنما أخطأه من الخير والشر في القدر، أي: لم يقدر عليه، لم يكن ليصيبه، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 2. وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 3. قوله:"إن أول ما خلق الله القلم"، قال شيخ الإسلام: قد ذكرنا أن للسلف في العرش والقلم أيهما خلق قبل الآخر قولين، كما ذكر ذلك الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره. أحدهما: أن القلم خلق أولاً، كما أطلق ذلك غير واحد، وهذا هو الذي يفهم من ظاهر كتب المصنفين في"الأوائل"للحافظ أبو

_ 1 الترمذي: القدر (2144) . 2 سورة الحديد آية: 22. 3 سورة التوبة آية: 51.

عروبة الحراني ولد القاسم الطبراني، للحديث الذي رواه أبو داود في"سننه"عن عبادة ابن الصامت، وذكر الحديث المشروح. والثاني: أن العرش خلق أولاً. قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في تصنيفه في"الرد على الجهمية1": حدثنا محمد بن كثير العبدي، أنبأنا سفيان الثوري، ثنا أبو هاشم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئًا، فكان أول ما خلق الله القلم، فأمره أن يكتب ما هو كائن، وأن ما يجري على الناس على أمر قد فرغ منه" وكذلك ذكر الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب"الأسماء والصفات"لما ذكر بدء الخلق، ثم ذكر حديث الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير،"عن ابن عباس أنه سئل عن قول الله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} 2. على أي شيء [كان الماء] ؟ قال: على متن الريح". وروى حديث القاسم بن [أبي بزة] ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أول شيء خلقه الله القلم، وأمره فكتب كل شيء يكون" قال البيهقي: "وإنما أراد - والله أعلم - أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش، وذلك في حديث عمران بن حصين الذي أشار إليه، وهو ما رواه البخاري من غير وجه مرفوعًا عنه: "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء" 3. ورواه البيهقي كما رواه محمد بن هارون الروياني في"مسنده"وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما، من حديث الثقات المتفق على ثقتهم، عن أبي إسحاق، عن الأعمش، عن جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز،

_ 1 وهو من مطبوعات المكتب الإسلامي. 2 سورة هود آية: 7. 3 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2941) , وأبو داود: الملاحم (4310) , وابن ماجه: الفتن (4069) , وأحمد (2/201) .

عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، ثم كتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات". وذكر أحاديث وآثارًا، ثم قال ما معناه: فثبت في النصوص الصحيحة أن العرش خلق أولاً. وقال ابن كثير: "قال قائلون: خلق القلم أولاً، وهذا اختيار ابن جرير وابن الجوزي وغيرهما". قال ابن جرير: "وبعد القلم السحاب الرقيق، وبعده العرش، واحتجوا بحديث عبادة". والذي عليه الجمهور أن العرش مخلوق قبل ذلك، كما دل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في"صحيحه"يعني حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي تقدم. قالوا: وهذا التقدير هو كتابته بالقلم المقادير، وقد دل الحديث أن ذلك بعد خلق العرش، فثبت تقديم العرش على القلم الذي كتب به المقادير كما ذهب إلى ذلك الجماهير. ويحمل حديث القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم. انتهى بمعناه. قوله:"اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة". قال شيخ الإسلام: وكذلك في حديث ابن عباس وغيره، وهذا يبين أنه إنما أمره حينئذ أن يكتب مقدار هذا الخلق إلى قيام الساعة، لم يكن حينئذ ما يكون بعد ذلك. قوله:"من مات على غير هذا لم يكن مني". أي: لأنه إذا كان جاحدًا للعلم القديم فهو كافر، كما قال كثير من أئمة السلف: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوا كفروا. يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد، وأن الله قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد، وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ، فقد كذب القرآن، فيكفر بذلك، كما نص عليه الشافعي وأحمد وغيرهما، وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد، وشاءها وأرادها بينهم إرادة كونية قدرية، فقد خصموا، لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه. وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور، وبالجملة فهم

أهل بدعة شنيعة، والرسول صلى الله عليه وسلم بريء منهم، كما هو بريء من الأولين. وقد بيض المصنف آخر هذا الحديث ليعزوه، وقد رواه أبو داود وهذا لفظه، ورواه أحمد والترمذي وغيرهما. [من لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه اللَّه بالنار] قال: وفي رواية لابن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه اللَّه بالنار". ش: قوله:"وفي رواية لابن وهب". هو الإمام الحافظ عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم المصري الفقيه، ثقة إمام مشهور عابد، له مصنفات، منها"الجامع"وغيره، مات سنة سبع وتسعين ومائة وله اثنان وسبعون سنة. قوله:"أحرقه الله بالنار"، أي: لكفره أو بدعته إن كان ممن يقر بالعلم السابق وينكر خلق أفعال العباد، فإن صاحب البدعة متعرض للوعيد كأصحاب الكبائر، بل أعظم. قال: وفي"المسند"و"السنن""عن أبن الديلمي قال: أتيت أُبَيَّ بن كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي. فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار. قال: فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، كلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم". حديث صحيح رواه الحاكم في"صحيحه". ش: قوله: وفي"المسند"، أي"مسند الإمام أحمد"، و"السنن" أي"سنن أبي داود"وابن ماجة فقط، بمعنى ما ذكر المصنف، وفيه زيادة اختصرها المصنف، ولفظ ابن ماجة: حدثنا علي بن محمد، حدثنا إسحاق بن سليمان، قال: سمعت أبا سنان عن وهب بن خالد الحمصي"عن ابن الديلمي قال: وقع في

نفسي شيء من هذا القدر خشيت أن يفسد علي ديني وأمري، فأتيت أُبَيَّ بن كعب، فقلت: يا أبا المنذر إنه قد وقع في قلبي شيء من هذا القدر، فخشيت على ديني وأمري، فحدثني من ذلك بشيء لعل الله أن ينفعني. فقال: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو كان لك مثل أحد ذهبًا أو مثل جبل أحد تنفقه في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإنك إن مت على غير هذا دخلت النار، ولا عليك أن تأتي يا أخي عبد الله بن مسعود فتسأل، فأتيت عبد الله فسألته، فذكر مثل ما قال أبي، وقال لي: لا عليك أن تأتي حذيفة، فأتيت حذيفة فسألته، فقال مثل ما قال: ائت زيد بن ثابت فاسأله، فأتيت زيد بن ثابت فسألته فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو كان مثل أحد أو مثل جبل أحد ذهبًا تنفقه في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر كله، فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإنك إن مت على غير هذا دخلت النار". هذا حديث ابن ماجة. ولفظ أبي داود كما ذكره المصنف إلا أنه قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك. قوله:"عن ابن الديلمي". هو عبد الله بن فيروز الديلمي. وفيروز قاتل الأسود العنسي الكذاب. وعبد الله هذا ثقة من كبار التابعين، بل ذكره بعضهم في الصحابة. والديلمي نسبة إلى جبل الديلم، وهو من أبناء الفرس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن. قوله:"وقع في نفسي شيء من القدر". أي: شك أو اضطراب يؤدي إلى شك فيه، أو جحد له.

قوله:"لو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منك". هذا تمثيل على سبيل الفرض لا تحديد، إذ لو فرض إنفاق ملء السموات والأرض كان ذلك. قوله:"حتى تؤمن بالقدر". أي: بأن جميع الأمور الكائنة خيرها وشرها، وحلوها ومرها، ونفعها وضرها، وقليلها وكثيرها، وكبيرها وصغيرها بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته وأمره، كما ذكر عن علي رضي الله عنه 1.

_ 1 إلى هنا قام المؤلف رحمه الله بشرح هذا الكتاب ولم يتيسر له إتمامه, وقد التمسنا من الأستاذ العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم بارك الله فيه أن يتمم شرحه, ولكن الوقت لم يسعفه, فلم نر بدا من إتمام هذا النقص بنقل ما تبقى من أبواب الكتاب مع الشرح من كتاب "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد "للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى وبالله التوفيق.

باب ما جاء في المصورين

[55- باب ما جاء في المصورين] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" 1. أخرجاه. ولهما عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهؤون بخلق الله" 2. ولهما عن ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم" 3. ولهما عنه مرفوعًا "من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" 4. ولمسلم عن"أبي الهياج قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته" 5. فيه مسائل: الأولى: التغليظ الشديد في المصورين. الثانية: التنبيه على العلة، وهو ترك الأدب مع الله، لقوله:"ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي". الثالثة: التنبيه على قدرته، وعجزهم، لقوله:"فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة". الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذابًا. الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسًا يعذب بها المصور في جهنم. السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح. السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت. ش: قوله: باب ما جاء في المصورين. أي: من عظيم عقوبة الله لهم وعذابه. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلة، وهي المضاهاة بخلق الله، لأن الله تعالى له الخلق والأمر، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة، كما قال الله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} 6. فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة صار مضاهيًا لخلق الله، فصار ما صور عذابًا له يوم القيامة، وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ. فكان أشد الناس عذابًا، لأن ذنبه من أكبر الذنوب.

_ 1 البخاري: التوحيد (7559) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232 ,2/259 ,2/391 ,2/451 ,2/527) . 2 البخاري: اللباس (5954) . 3 مسلم: اللباس والزينة (2110) . 4 البخاري: البيوع (2225) والتعبير (7042) , ومسلم: اللباس والزينة (2110) , والترمذي: اللباس (1751) , والنسائي: الزينة (5358 ,5359) , وأبو داود: الأدب (5024) , وأحمد (1/216 ,1/241 ,1/246 ,1/308 ,1/350 ,1/359 ,1/360) . 5 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96) . 6 سورة السجدة آية: 7- 9.

فإذا كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله تعالى من الحيوان، فكيف بحال من سوى المخلوق برب العالمين، وشبهه بخلقه، وصرف له شيئا من العبادة التي ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه وحده بما لا يستحقه غيره من كل عمل يحبه الله من العبد ويرضاه؟! فتسوية المخلوق بالخالق بصرف حقه لمن لا يستحقه من خلقه، وجعله شريكًا له فيما اختص به تعالى وتقدس، هو أعظم ذنب عصي الله تعالى به. ولهذا أرسل رسله، وأنزل كتبه، لبيان هذا الشرك والنهي عنه، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى. فنجى الله تعالى رسله ومن أطاعهم، وأهلك من جحد التوحيد، واستمر على الشرك والتنديد، فما أعظمه من ذنب! {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1 {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 2. قال المصنف رحمه الله تعالى: ولمسلم (969) عن أبي الهياج، قال: قال لي عليّ: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "ألاّ تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته". قوله:"ولمسلم عن أبي الهياج الأسدي" - حيان بن حصين -. قال: قال لي علي رضي الله عنه. هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قوله:"ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته". فيه تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليًّا لذلك. أما الصور: فلمضاهاتها لخلق الله، وأما تسوية القبور، فلما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها، وهو من ذرائع الشرك ووسائله، فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته. ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور، وعظمت

_ 1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة الحج آية: 31.

الفتنة بأرباب القبور، وصارت محطًا لرحال العابدين المعظمين لها، فصرفوا لها جل العبادة من الدعاء والاستعانة والاستغاثة، والتضرع لها، والذبح لها، والنذور، وغير ذلك من كل شرك محرّم محظور. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به، وما نهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادًا للآخر، مناقضًا له بحيث لا يجتمعان أبدًا. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى عن أن تتخذ عيدًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا، ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر. وأمر بتسويتها، كما روى مسلم في"صحيحه"عن أبي الهياج الأسدي ... - فذكر حديث الباب - وحديث ثمامة بن شفي، وهو عند مسلم أيضًا قال:"كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها" 1. وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، يرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما روى مسلم في"صحيحه"عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه ونهى عن الكتابة عليها" 2. كما روى أبو داود في"سننه"عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها" 3. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير

_ 1 مسلم: الجنائز (968) , والنسائي: الجنائز (2030) , وأبو داود: الجنائز (3219) , وأحمد (6/18 ,6/21) . 2 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2027 ,2028 ,2029) , وأبو داود: الجنائز (3225) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1562) , وأحمد (3/295 ,3/332 ,3/339 ,3/399) . 3 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2028 ,2029) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1562 ,1563) , وأحمد (3/295 ,3/332 ,3/339) .

ترابها؛ كما روى أبو داود عن جابر أيضًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه" 1. وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والأحجار. قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجر على قبورهم. والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور، المتخذينها أعيادًا، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها وهو من الكبائر، وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه. قال أبو محمد المقدسي: "ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله، ولأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام". قال: "ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا" 2. متفق عليه. ولأن تجصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها". انتهى. وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجًا، ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابًا سماه"مناسك حج المشاهد"، مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه. ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز عن حصره. فمنها: تعظيم الموقع في الافتتان بها. ومنها: اتخاذها أعيادًا. ومنها: السفر

_ 1 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2027) , وأبو داود: الجنائز (3225) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1562 ,1563) , وأحمد (3/295 ,3/332 ,3/339) . 2 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) .

إليها. ومنها: مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها، وسندانتها وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيمها ليلة يطفأ القنديل المعلق عليها. ومنها: النذر لها ولسدنتها. ومنها: اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء، وينصر على الأعداء، ويستنْزل غيث السماء، وتفرج الكروب، وتقضى الحوائج، وينصر المظلوم، ويجار الخائف إلى غير ذلك. ومنها: الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها. ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها. ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهية، كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى عند قبره، وكذلك غيره من الأنبياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرؤون منهم، كما قال تغالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} 1. وقال الله تعالى للمشركين: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} 2. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ... } 3.وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 4. ومنها: إماتة السنن وإحياء البدع. ومنها: تفضيلها على خير

_ 1 سورة الفرقان آية: 17-18. 2 سورة الفرقان آية: 19. 3 سورة المائدة آية: 116. 4 سورة سبأ آية: 40-41.

البقاع وأحبها إلى الله، فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام، والخشوع ورقة القلب، والعكوف بالهمة على الموتى ما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريبًا منه. ومنها: أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت، فقلب هؤلاء المشركون الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنْزال البركة منه، ونصره لهم على الأعداء، ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدًّا للذريعة. فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هجرًا، ومن أعظم الهجر: الشرك عندها قولاً وفعلاً. وفي"صحيح مسلم"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"زوروا القبور، فإنها تذكركم الموت" 1. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه. فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر" 2. رواه أحمد والترمذي وحسنه. فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وعلمهم إياها. هل تجد فيها شيئًا مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها". ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، أعرضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.

_ 1 مسلم: الجنائز (976) , والنسائي: الجنائز (2034) , وأبو داود: الجنائز (3234) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1569 ,1572) , وأحمد (2/441) . 2 الترمذي: الجنائز (1053) .

ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثم دعا. ونص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء، حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة، وفي الترمذي وغيره مرفوعاً: "الدعاء هو العبادة" 1. فجرد السلف العبادة لله، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء لأصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم. وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" 2. وإسناده جيد، ورواته ثقات مشاهير. وقوله: "ولا تجعلوا بيوتكم قبورًا" 3. أي: لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنْزلة القبور، فأمر بتحري النافلة في البيوت، ونهى عن تحري النافلة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم. ثم إن في تعظيم القبور، واتخاذها أعيادًا، من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك، ولكن ما لجرح بميت إيلام. فمن المفاسد: اتخاذها أعيادًا والصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون، وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدًا، وقد نزلوا عن الأكوار

_ 1 الترمذي: تفسير القرآن (2969 ,3247) والدعوات (3372) , وأبو داود: الصلاة (1479) , وابن ماجه: الدعاء (3828) , وأحمد (4/267) . 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 3 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/284 ,2/337 ,2/367 ,2/378 ,2/388) .

والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدئ ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ما لم يحرزه من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعًا سجدًا، يبتغون فضلاً من الميت ورضوانًا، وقد ملؤوا أكفهم خيبة وخسرانًا. فلغير الله - بل للشيطان - ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة ذوي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيهًا له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركًا وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام. أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود. ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقد قربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضًا ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرًا وافرًا وحظًّا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام. فيقول: لا ولا بحجك كل عام!! هذا، ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم، إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال، وهذا مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم. وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحظور، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما

يؤول إليه، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته. انتهى كلامه رحمه الله.

باب ما جاء في كثرة الحلف

[56 باب ما جاء في كثرة الحلف] وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب" 2. أخرجاه. وعن سلمان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، ولا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه" 3. رواه الطبراني بسند صحيح. وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. - قال عمران: فلا أدري: أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا؟ - ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن" 4. وفيه عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته" 5. وقال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار. فيه مسائل: الأولى: الوصية بحفظ الأيمان. الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة. الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه. الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي. الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون. السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة، وذكر ما يحدث. السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون. الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد. قوله: "باب ما جاء في كثرة الحلف". أي: من النهي عنه والوعيد. وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 6. قال ابن جرير: "لا تتركوها بغير تكفير". وذكر غيره من المفسرين عن ابن عباس يريد: لا تحلفوا. وقال آخرون: احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا. والمصنف أراد من الآية المعنى الذي ذكره ابن عباس; فإن القولين متلازمان، فيلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث مع ما يدل عليه من الاستخفاف وعدم التعظيم لله، وغير ذلك مما ينافي كمال التوحيد الواجب أو عدمه. قوله:"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة" 7. أخرجاه. أي: البخاري ومسلم. وأخرجه أبو داود والنسائي. والمعنى: أنه إذا حلف على سلعة أنه أعطي فيها كذا وكذا، أو أنه اشتراها بكذا وكذا، وقد يظنه المشتري صادقًا فيما حلف عليه، فيأخذها بزيادة على قيمتها، والبائع كذاب، وحلف طمعًا في الزيادة، فيكون قد عصى الله تعالى، فيعاقب بمحق البركة، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسبب حلفه، وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأسًا، وما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وإن تزخرفت الدنيا للعاصي، فعاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب.

_ 1 سورة المائدة آية: 89. 2 البخاري: البيوع (2087) , ومسلم: المساقاة (1606) , والنسائي: البيوع (4461) , وأبو داود: البيوع (3335) , وأحمد (2/235 ,2/242 ,2/413) . 3 البخاري: المساقاة (2369) , ومسلم: الإيمان (108) , والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253 ,2/480) . 4 البخاري: المناقب (3650) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221 ,2222) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود: السنة (4657) , وأحمد (4/426 ,4/427 ,4/436 ,4/440) . 5 البخاري: المناقب (3651) , ومسلم: فضائل الصحابة (2533) , والترمذي: المناقب (3859) , وابن ماجه: الأحكام (2362) , وأحمد (1/378 ,1/417 ,1/434 ,1/438 ,1/442 ,4/267 ,4/276 ,4/277) . 6 سورة المائدة آية: 89. 7 البخاري: البيوع (2087) , ومسلم: المساقاة (1606) , والنسائي: البيوع (4461) , وأبو داود: البيوع (3335) , وأحمد (2/235 ,2/242 ,2/413) .

قوله:"وعن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه" 1. رواه الطبراني بسند صحيح. و"سلمان"لعله سلمان الفارسي، أبو عبد الله، أسلم مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وشهد الخندق، روى عنه أبو عثمان النهدي، وشرحبيل بن السمط وغيرهما. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت، إن الله يحب من أصحابي أربعة: عليًّا، وأبا ذر، وسلمان، والمقداد" 2. أخرجه الترمذي وابن ماجة. قال الحسن: كان سلمان أميرًا على ثلاثين ألفًا يخطب بهم في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها. توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه. قال أبو عبيدة سنة ست وثلاثين عن ثلاثمائة وخمسين سنة. ويحتمل أنه سلمان بن عامر بن أوس الضبي. قوله: "ثلاثة لا يكلمهم الله" 3. نفي كلام الرب تعالى وتقدس عن هؤلاء العصاة دليل على أنه يكلم من أطاعه، وأن

_ 1 البخاري: المساقاة (2369) , ومسلم: الإيمان (108) , والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253 ,2/480) . 2 الترمذي: المناقب (3718) , وابن ماجه: المقدمة (149) , وأحمد (5/351) . 3 البخاري: المساقاة (2369) , ومسلم: الإيمان (108) , والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253 ,2/480) .

الكلام صفة من صفات كماله، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة من المحققين قيام الأفعال بالله سبحانه، وأن الفعل يقع بمشيئته تعالى وقدرته شيئًا فشيئًا ولم يزل متصفًا به، فهو حادث الآحاد قديم النوع، كما يقول ذلك أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1. فأتى بالحروف الدّالة على الاستقلال، والأفعال الدالة على الحال والاستقبال أيضًا، وذلك في القرآن كثير. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإذا قالوا لنا - يعني النفاة -: فهذا يلزمه أن تكون الحوادث قائمة به؟ ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟! ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به الأعراض والنقائص، والله تعالى منَزه عن ذلك - ولكن يقوم به ما يشاء من كلامه وأفعاله ونحو ذلك، مما دل عليه الكتاب والسنة. والقول الصحيح: هو قول أهل العلم والحديث الذين يقولون: لم يزل الله متكلما إذا شاء، كما قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة. اهـ. قلت: ومعنى قيام الحوادث به تعالى، قدرته عليها، وإيجاده لها بمشيئته وأمره. والله أعلم. قوله: "ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" 2. لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم، فعوقبوا بهذه الثلاث التي هي أعظم العقوبات. قوله:"أشيمط زان"، صغره تحقيرًا له وذلك لأن داعي المعصية ضعف في حقه، فدل على أن الحامل له على الزنا محبة المعصية والفجور، وعدم خوفه من الله، وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه، بخلاف الشاب; فإن قوة داعي الشهوة منه قد تغلبه مع خوفه من الله، وقد يرجع على نفسه بالندم، ولومها على المعصية، فينتهي ويراجع. وكذا العائل المستكبر ليس

_ 1 سورة يس آية: 82. 2 البخاري: المساقاة (2358) , ومسلم: الإيمان (108) , والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253 ,2/480) .

له ما يدعوه إلى الكبر، لأن الداعي إلى الكبر في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة. و"العائل"الفقير لا داعي له إلى أن يستكبر، فاستكباره مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيعة له، كامن في قلبه، فعظمت عقوبته، لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم الذي هو من أكبر المعاصي. قوله:"ورجل جعل الله بضاعته" بنصب الاسم الشريف، أي: الحلف به، جعله بضاعته، لملازمته له وغلبته عليه. وهذه أعمال تدل على أن صاحبها إن كان موحدًا فتوحيده ضعيف، وأعماله ضعيفة بحسب ما قام بقلبه وظهر على لسانه وعمله من تلك المعاصي العظيمة على قلة الداعي إليها. نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من كل عمل لا يحبه ربنا ولا يرضاه. قوله:"وفي"الصحيح"، أي:"صحيح مسلم". وأخرجه أبو داود والترمذي. ورواه البخاري بلفظ: "خيركم". قوله: وفي الصّحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - قال عمران: فلا أدري: أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا؟ - ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن" 1. ش: قوله:"وفي الصّحيح"، أي: صحيح مسلم. قوله: "خير أمتي قرني" 2 لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان، والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون، ويتفاضل فيها العاملون، فغلب الخير فيها وكثر أهله، وقلَّ الشر فيها وأهله، واعتز فيها الإسلام والإيمان، وكثر فيها العلم والعلماء. "ثم الذين يلونهم"، فضلوا على من بعدهم لظهور الإسلام

_ 1 البخاري: المناقب (3650) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221 ,2222) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود: السنة (4657) , وأحمد (4/426 ,4/427 ,4/436 ,4/440) . 2 البخاري: المناقب (3650) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221 ,2222) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود: السنة (4657) , وأحمد (4/426 ,4/427 ,4/436 ,4/440) .

فيهم، وكثرة الداعي إليه، والراغب فيه والقائم به، وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأزيل، كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت، فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل فيمن عاند منهم ولم يتب. قوله:"فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا؟ ". هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي الله عنه. والمشهور في الروايات: أن القرون المفضلة ثلاثة، الثالث دون الأولين في الفضل، لكثرة ظهور البدع فيه، لكن العلماء متوافرون، والإسلام فيه ظاهر، والجهاد فيه قائم، ثم ذكر ما وقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين وكثرة الأهواء. فقال:"ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون" لاستخفافهم بأمر الشهادة، وعدم تحريهم للصدق، وذلك لقلة دينهم، وضعف إسلامهم. قوله:"ويخونون ولا يؤتمنون"، يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم أو أكثرهم. قوله:"وينذرون ولا يوفون"، أي لا يؤدون ما وجب عليهم، فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم، وعدم إيمانهم. قوله:"ويظهر فيهم السمن"، لرغبتهم في الدنيا، ونيل شهواتهم والتنعم بها، وغفلتهم عن الدار الآخرة والعمل لها. وفي حديث أنس: "لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم". قال أنس: سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم" 1. فما زال الشر يزيد في الأمة، حتى ظهر الشرك والبدع في كثير منهم، حتى فيمن ينتسب إلى العلم، ويتصدر للتعليم والتصنيف. قلت: بل قد دعوا إلى الشرك والضلال والبدع، وصنفوا في ذلك نظمًا ونثرًا، فنعوذ بالله من موجبات غضبه.

_ 1 البخاري: الفتن (7068) , والترمذي: الفتن (2206) , وأحمد (3/132 ,3/177 ,3/179) .

قوله: وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته" 1. قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشّهادة والعهد، ونحن صغار. قلت: وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا، ونسي المعاد، فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملاً وأداء، لقلة خوفه من الله وعدم مبالاته بذلك. وهذا هو الغالب على الأكثر، والله المستعان. فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكبر بأضعاف، فكن من الناس على حذر. قوله:"قال إبراهيم" - هو النخعي -: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار. وذلك لكثرة علم التابعين وقوة إيمانهم ومعرفتهم بربهم، وقيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر; لأنه من أفضل الجهاد، ولا يقوم الدين إلا به. وفي هذا الرغبة في تمرين الصغار على طاعة ربهم، ونهيهم عما يضرهم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

_ 1 البخاري: المناقب (3651) , ومسلم: فضائل الصحابة (2533) , والترمذي: المناقب (3859) , وابن ماجه: الأحكام (2362) , وأحمد (1/378 ,1/417 ,1/434 ,1/438 ,1/442 ,4/267 ,4/276 ,4/277) .

باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله

قال الْمصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ: [57- باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه] وقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 1. وعن بريدة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، فقال: اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا. وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهما ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنْزلهم على حكم الله، فلا تنْزلهم، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري: أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟ " 2. رواه مسلم. فيه مسائل: الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين. الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرًا. الثالثة: قوله:"اغزوا باسم الله في سبيل الله". الرابعة: قوله:"قاتلوا من كفر بالله". الخامسة: قوله:"استعن بالله وقاتلهم". السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء. السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة، بحكم لا يدري: أيوافق حكم الله أم لا؟. قوله:"باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله". وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 3. قال العماد ابن كثير: "وهذا مما يأمر الله تعالى به، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة. ولهذا

_ 1 سورة النحل آية: 91. 2 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: الديات (1408) والسير (1617) , وأبو داود: الجهاد (2613) , وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352 ,5/358) , والدارمي: السير (2439) . 3 سورة النحل آية: 91.

قال: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} 1. ولا تعارض بين هذا وقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} 2. وبين قوله {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 3، أي: لا تتركوها بلا تكفير. وبين قوله صلى الله عليه وسلم في"الصحيحين": "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها - وفي رواية - وكفرت عن يميني" 4. لا تعارض بين هذا كله وبين الآية المذكورة هنا وهي: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} 5؛ لأن هذه الأيمان المراد بها: الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان الواردة على حث أو منع، ولهذا قال مجاهد في الآية: يعني: الحلف أي: حلف الجاهلية. ويؤيده ما رواه الإمام احمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" 6. وكذا رواه مسلم، ومعناه: أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام حماية كفاية عما كانوا فيه. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 7، تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها.

_ 1 سورة النحل آية: 91. 2 سورة البقرة آية: 224. 3 سورة المائدة آية: 89. 4 البخاري: الأيمان والنذور (6680) , ومسلم: الأيمان (1649) , وابن ماجه: الكفارات (2107) , وأحمد (4/401 ,4/404 ,4/418) . 5 سورة النحل آية: 91. 6 مسلم: فضائل الصحابة (2530) , وأبو داود: الفرائض (2925) , وأحمد (4/83) . 7 سورة النحل آية: 91.

قوله:"عن بريدة"، هو ابن الحصيب الأسلمي. وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه. قاله في"المفهم". قوله:"قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى"، فيه من الفقه: تأمير الأمراء، ووصيتهم. قال الحربي: السرية: الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها. والجيش: ما كان أكثر من ذلك. وتقوى الله: التحرز بطاعته من عقوبته. قلت: وذلك بالعمل بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه. قوله:"ومن معه من المسلمين خيرًا"، أي: ووصاه بمن منهم أن يفعل معهم خيرًا; من الرفق بهم، والإحسان إليهم، وخفض الجناح لهم، وترك التعاظم عليهم. وقوله:"اغزوا باسم الله"، أي: اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له. قلت: فتكون الباء في"باسم الله" هنا للاستعانة، والتوكل على الله. قوله:"قاتلوا من كفر بالله"، هذا العموم يشمل جميع أهل

الكفر المحاربين وغيرهم، وقد خصص منهم من له عهد، والرهبان والنسوان، ومن لم يبلغ الحلم، وقد قال متصلاً به "ولا تقتلوا وليدًا"، وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان، لأنه لا يكون منها قتال غالبًا، وإن كان منهم قتال أو تدبير قتلوا. قلت: وكذلك الذراري والأولاد. قوله:"ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا"، الغلول: الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها. والغدر: نقض العهد. والتمثيل هنا: التشويه بالقتيل، كقطع أنفه وأذنه والعبث به. ولا خلاف في تحريم الغلول والغدر، وفي كراهية المثلة. قوله:"وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال - أو خصال"، الرواية بأل للشك وهو من بعض الرواة، ومعنى الخلال والخصال واحد. قوله:"فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم"، قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب"أيتهن"على أن يعمل فيها"أجابوك"لا على إسقاط حرف الجر. و"ما"زائدة. ويكون تقدير الكلام: فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم، كما تقول: جئتك إلى كذا وفي كذا، فيعدى إلى الثاني بحرف الجر. قلت: فيكون في ناصب"أيتهن"وجهان: ذكرهما الشارح. الأول: منصوب على الاشتغال. والثاني: على نزع الخافض. قوله:"ثم ادعهم إلى الإسلام"، كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم"ثم ادعهم"بزيادة"ثم"والصواب إسقاطها. كما روي في غير كتاب مسلم. كمصنف أبي داود، وكتاب الأموال لأبي عبيد; لأن ذلك هو ابتداء تفسير الثلاث الخصال. وقوله:"ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين"، يعني المدينة. وكان في أول الأمر وجوب الهجرة إلى المدينة

على كل من دخل في الإسلام، وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرهم. قوله:"فإن أبوا أن يتحولوا"، يعني: أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يعطى من الخمس ولا من الفيء شيئًا. وقد أخذ الشافعي رحمه الله بالحديث في الأعراب، فلم ير لهم من الفيء شيئًا، وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم، كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده، ومصرف كل مال في أهله. وسوى مالك رحمه الله وأبو حنيفة رحمهما الله بين المالين، وجوزا صرفهما للضعيف. قوله:"فإن هم أبوا فاسألهم الجزية"، فيه حجة لمالك وأصحابه، والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر، عربيًا كان أو غيره، كتابيًا كان أو غيره. وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع، إلا من مشركي العرب ومجوسهم. وقال الشافعي: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب، عربًا كانوا أو عجمًا، وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، وتؤخذ من المجوس. قلت: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم، وقال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية، فقال مالك: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهمًا على أهل الورِق، وهل ينقص منها الضعيف أو لا؟ قولان. وقال الشافعي: فيه دينار على الغني والفقير، وقال أبو حنيفة رحمه الله، والكوفيون: على الغني ثمانية وأربعون درهمًا، والوسط أربعة وعشرون درهمًا، والفقير اثنا عشر درهمًا وهو قول أحمد بن حنبل رحمه الله. قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله: وقاتل يهودًا والنصارى وعصبة ال ... مجوس فإن هم سلموا الجزية اصدد. على الأدون اثني عشر درهمًا افرضن ... وأربعة منبعد عشر ينزيّد. لأوسطهم حالاً، ومن كان موسرًا ... ثمانية مع أربعين لتنقد

وتسقط عن صبيانهم ونسائهم ... وشيخ لهم فانٍ وأعمى ومقعد وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم ... ومن وجبت منهم عليه فيهتدي وعند مالك وكافة العلماء على الرجال الأحرار البالغين العقلاء دون غيرهم، وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين، لا ممن نأى بداره ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو حربهم. وقوله:"وإذا حاصرت أهل حصن"، الكلام إلى آخره فيه حجة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول: إن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد، وهو المعروف من مذهب مالك وغيره، ووجه الاستدلال به: أنه صلى الله عليه وسلم قد نص على أن الله تعالى قد حكم حكمًا معينًا في المجتهدات، فمن وافقه فهو المصيب، ومن لم يوافقه فهو المخطئ. قوله:"وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ... "، الحديث. الذمة: العهد، وتخفر: تنقض. يقال: أخفرت الرجل: إذا نقضت عهده، وخفرته: أجرته، ومعناه: أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء للعهد، كجملة الأعراب، فكأنه يقول: إن وقع نقض من متعد معتد، كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى. والله أعلم. قوله:"وقول نافع وقد سئل عن الدعوة قبل القتال"، ذكر فيه: أن مذهب مالك يجمع فيه بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال. قال: وهو أن مالكًا قال: لا يقاتل الكفار قبل أن يدعوا، ولا تلتمس غرتهم إلا أن يكونوا قد بلغتهم الدعوة، فيجوز أن تلتمس غرتهم. وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح، لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية، وإنما يقاتلون للدين، فإذا علموا بذلك أمكن أن يكون ذلك سببًا مميلاً لهم إلى الانقياد إلى الحق، بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين، فقد

يظنون أنهم يقاتلون للملك وللدنيا فيزيدون عتوًّا وبغضًا. والله أعلم.

باب ما جاء في الإقسام على الله

[58- باب ما جاء في الإقسام على الله] عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عزّ وجل: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له، وأحبطت عملك" 1. رواه مسلم. وفي حديث أبي هريرة: أن القائل رجل عابد. قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته. فيه مسائل: الأولى: التحذير من التألي على الله. الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله. الثالثة: أن الجنة مثل ذلك. الرابعة: فيه شاهد لقوله:"إن الرجل ليتكلم بالكلمة"إلخ. الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه. ش: قوله:"باب ما جاء في الإقسام على الله". ذكر المصنف فيه حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان. قال الله عزّ وجل: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، إني قد غفرت له وأحبطت عملك" 2. رواه مسلم. قوله:"يتألى"، أي: يحلف، والألية بالتشديد الحلف. وصح من حديث أبي هريرة. قال البغوي في"شرح السنة"- وساق بالسند إلى"عكرمة بن عمار [نا ضمضم بن حوس]- قال: دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ قال: يا يمامي، تعال، وما أعرفه، قال: لا تقولن لرجل: والله لا يغفر لك أبدًا ولا يدخلك الجنة. قلت: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أبو هريرة، قال: فقلت: إن هذه كلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب، أو لزوجته أو لخادمه، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين، أحدهما مجتهد في العبادة، والآخر كأنه يقول: مذنب،

_ 1 مسلم: البر والصلة والآداب (2621) . 2 مسلم: البر والصلة والآداب (2621) .

فجعل يقول: أقصر عما أنت فيه. قال فيقول: خلني وربي، قال: فوجده يومًا على ذنب استعظمه. فقال: أقصر، فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبًا، فقال: والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة أبدًا. قال: فبعث الله إليهما ملكًا، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ قال: لا يا رب. قال اذهبوا به إلى النار". قال أبو هريرة: "والذي نفسي بيده، تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته". رواه أبو داود في"سننه"وهذا لفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: "كان رجلان في بني إسرائيل متآخيين فكان أحدهما يذنب، والآخر يجتهد في العبادة. فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يومًا على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبًا؟ قال: والله لا يغفر الله لك، ولا يدخلك الجنة. فقبضت أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالمًا، أو كنت على ما في يدي قادرًا؟ فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار" 1. قوله:"وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد" يشير إلى قوله في هذا الحديث "أحدهما مجتهد في العبادة"، وفي هذه الأحاديث: بيان خطر اللسان، وذلك يفيد التحرز من الكلام، كما في حديث معاذ قلت: "يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم؟ " 2. والله أعلم.

_ 1 أبو داود: الأدب (4901) , وأحمد (2/323 ,2/362) . 2 الترمذي: الإيمان (2616) , وابن ماجه: الفتن (3973) , وأحمد (5/231 ,5/237) .

باب لا يستشفع بالله على خلقه

قال الْمصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ: [59- باب لا يستشفع بالله على خلقه] عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله! سبحان الله! فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك إنه لا يستشفع بالله على أحد" وذكر الحديث. رواه أبو داود. فيه مسائل: الأولى: إنكاره على من قال"نستشفع بالله عليك". الثانية: تغيره تغيرًا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة. الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله"نستشفع بك على الله". الرابعة: التنبيه على تفسير سبحان الله. الخامسة: أن المسلمين يسألونه صلى الله عليه وسلم الاستسقاء. ش: قوله:"باب لا يستشفع بالله على خلقه". وذكر الحديث وسياق أبي داود في"سننه"أتم مما ذكره المصنف رحمه الله ولفظه: عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك، أتدري ما الله؟ إن عرشه على سمواته لهكذا - وقال بأصابعه مثل القبة عليه - وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب" 1. قال ابن بشار في حديثه: "إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سمواته" 2. قال الحافظ الذهبي [في العلو] : رواه أبو داود بإسناد حسن عنده في"الرد على الجهمية"من حديث محمد بن إسحاق بن يسار. قوله:"ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه"، فإنه تعالى رب كل شيء ومليكه، والخير كله بيده، لا مانع لما أعطى،

_ 1 أبو داود: السنة (4726) . 2 أبو داود: السنة (4726) .

ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} ، [فاطر، من الآية: 44] . {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، [يّس: 82] . والخلق وما في أيديهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، وهو الذي يشفع الشافع إليه، ولهذا أنكر على الأعرابي. قوله:"وسبح الله كثيرًا وعظمه"؛ لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده، وإن شأن الله أعظم من ذلك. وفي هذا الحديث: إثبات علو الله على خلقه، وأن عرشه فوق سمواته. وفيه: تفسير الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة، خلافًا للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم، كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء الله وصفاته، وصرفها عن المعنى الذي وضعت له ودلت عليه، من إثبات صفات الله تعالى التي دلت على كماله جل وعلا، كما عليه السلف الصالح والأئمة ومن تبعهم ممن تمسك بالسنة، فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله، على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتًا بلا تمثيل، وتنْزيهًا بلا تعطيل. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في"مفتاح دار السعادة"- بعد كلام سبق فيما يعرف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته - قال بعد ذلك: "والثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة، فتفتح له أبواب السماء، فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته ويرى السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد، والتقديس والتكبير، والأمر ينَزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينْزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قوم

وإذلال آخرين، وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل وقضاء الحاجات على اختلافها وتبيانها وكثرتها; من جبر كسير، وإغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضر، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل ورد آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، ومدد لضعيف، وإغاثة لملهوف، وإعانة لعاجز، وانتقام من ظالم، وكف لعدوان، فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل والحكمة والرحمة، تنفذ في أقطار العوالم، لا يشغله سمع شيء منها من سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتباينها واتحاد وقتها، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا تنقص ذرة من خزائنه، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، [آل عمران، من الآية: 6، و18] . فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقًا لهيبته، خاشعًا لعظمته، عاليًا لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد، فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه، وهذا من أعظم آيات الله، وعجائب صنعه، فيا له من سفرٍ ما أبركَه وأروحه! وأعظم ثمرته وربحه! وأجل منفعته وأحسن عاقبته! سفر هو حياة الأرواح، ومفتاح السعادة، وغنيمة العقول والألباب لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب" اهـ كلامه رحمه الله. وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، فالمراد به استجلاب دعائه وليس خاصًا به صلى الله عليه وسلم بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له، فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة أو العامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة: "لا تنسنا يا أخيّ من صالح دعائك" 1. وأما الميت، فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته وعلى قبره وفي غير ذلك. وهذا هو الذي يشرع في حق الميت. وأما دعاؤه، فلم يشرع، بل قد دل الكتاب والسنة على النهي عنه والوعيد عليه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ

_ 1 الترمذي: الدعوات (3562) , وأبو داود: الصلاة (1498) , وابن ماجه: المناسك (2894) .

قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 1. فبين الله تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة، أي: ينكره ويعادي من فعله، كما في آية الأحقاف {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 2. فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر. والصحابة رضي الله عنهم، لا سيما أهل السوابق منهم كالخلفاء الراشدين، لم ينقل عن أحد منهم ولا عن غيرهم أنهم أنزلوا حاجاتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، حتى في أوقات الجدب. كما وقع لعمر رضي الله عنه لما خرج ليستسقي بالناس خرج بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يستسقي لأنه حي حاضر يدعو ربه، فلو جاز أن يستسقى بأحد بعد وفاته لاستسقى عمر رضي الله عنه والسابقون الأولون بالنبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا يظهر الفرق بين الحي والميت، لأن المقصود من الحي دعاؤه إذا كان حاضرًا، فإنهم في الحقيقة إنما توجهوا إلى الله بطلب دعاء من يدعوه ويتضرع إليه، وهم كذلك يدعون ربهم، فمن تعدى المشروع إلى ما لا يشرع ضل وأضل. ولو كان دعاء الميت خيرًا لكان الصحابة إليه أسبق وعليه أحرص، وبهم أليق، وبحقه أعلم وأقوم. فمن تمسك بكتاب الله نجا، ومن تركه واعتمد على عقله، هلك. وبالله التوفيق.

_ 1 سورة فاطر آية: 13-14. 2 سورة الأحقاف آية: 6.

باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك

قال الْمصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ: [60- باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك] عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: "انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا فقال: السيد الله تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً، فقال: قولوا بقولكم، أو بعض

قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان" 1. رواه أبو داود بسند جيد. وعن أنس رضي الله عنه أن أناسًا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا، وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. فقال: "يا أيها الناس، قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منْزلتي التي أنزلني الله عزّ وجل" 2. رواه النسائي بسند جيد. فيه مسائل: الأولى: تحذير الناس من الغلو. الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: أنت سيدنا الثالثة: قوله:"لا يستجرينكم الشيطان"مع أنهم لم يقولوا إلا الحق. الرابعة: قوله"ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي". قوله: باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك. حمايته صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص، وهذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم كقوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" 3. وتقدم قوله: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل"، ونحو ذلك. ونهى عن التمادح وشدد القول فيه، كقوله لمن مدح إنسانًا: "ويلك قطعت عنق صاحبك ... " الحديث. أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رجلاً أثنى على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "قطعت عنق صاحبك ثلاثًا". وقال: "إذا لقيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب" 4. أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة عن المقداد ابن الأسود. وفي هذا الحديث نهى عن أن يقولوا: أنت سيدنا، وقال: "السيد الله تبارك وتعالى". ونهاهم أن يقولوا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً. وقال: "لا يستجرينكم الشيطان". وكذلك قوله في حديث أنس أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا وسيّدنا وابن سيّدنا. فقال:"يا أيّها النّاس، قولوا: بقولكم، ولا يستهوينكم الشّيطان ... " إلخ. كره صلى الله عليه وسلم أن يواجهوه بالمدح فيفضي بهم إلى الغلو، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن مواجهة المادح للممدوح بمدحه - ولو بما هو فيه - من عمل الشيطان، لما تقضي محبة المدح إليه من تعاظم الممدوح في نفسه، وذلك ينافي كمال التوحيد.

_ 1 أبو داود: الأدب (4806) , وأحمد (4/25) . 2 أحمد (3/249) . 3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23) . 4 مسلم: الزهد والرقائق (3002) , والترمذي: الزهد (2393) , وأبو داود: الأدب (4804) , وابن ماجه: الأدب (3742) , وأحمد (6/5) .

فإن العبادة لا تقوم إلا بقطب رحاها الذي لا تدور إلا عليه، وذلك غاية الذل في غاية المحبة، وكمال الذل يقتضي الخضوع والخشية والاستكانة لله تعالى، وأنه لا يرى نفسه إلا في مقام الذم لها، والمعاتبة لها في حق ربه، وكذلك الحب لا تحصل غايته إلا إذا كان يحب ما يحبه الله، ويكره ما يكرهه الله من الأقوال والأعمال والإرادات، ومحبة المدح من العبد لنفسه تخالف ما يحبه الله منه، والمادح يغره من نفسه فيكون آثمًا، فمقام العبودية يقتضي كراهة المدح رأسًا، والنهي عنه صيانة لهذا المقام، فمتى أخلص العبد الذل لله والمحبة له، خلصت أعماله وصحت، ومتى أدخل عليها ما يشوبها من هذه الشوائب، دخل على مقام العبودية بالنقص أو الفساد، وإذا أداه المدح إلى التعاظم في نفسه والإعجاب بها، وقع في أمر عظيم ينافي العبودية الخاصة، كما في الحديث: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني شيئًا منهما عذبته" 1. وفي الحديث: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" 2. وهذه الآفات قد تكون محبة المدح سببًا لها وسلمًا إليها، والعجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وأما المادح فقد يفضي به المدح إلى أن ينْزل الممدوح منْزلة لا يستحقها، كما يوجد كثيرًا من أشعارهم من الغلو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وحذر أمته أن يقع منهم، فقد وقع الكثير منه حتى صرحوا فيه بالشرك في الربوبية والإلهية والملك، كما تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك. والنبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح صيانة لهذا المقام، وأرشد الأمة إلى ترك ذلك نصحًا لهم، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده أو يضعفه، من الشرك ووسائله {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} 3. ورأوا أن فعل ما نهاهم صلى الله عليه وسلم عن فعله قربة من أفضل القربات، وحسنة من أعظم الحسنات.

_ 1 مسلم: البر والصلة والآداب (2620) , وأبو داود: اللباس (4090) , وابن ماجه: الزهد (4174) , وأحمد (2/442) . 2 مسلم: الإيمان (91) , والترمذي: البر والصلة (1998 ,1999) , وأبو داود: اللباس (4091) , وابن ماجه: المقدمة (59) والزهد (4173) , وأحمد (1/399 ,1/412 ,1/416 ,1/451) . 3 سورة البقرة آية: 59.

وأما تسمية العبد بالسيد، فاختلف العلماء في ذلك. قال العلامة ابن القيم في"بدائع الفوائد": "اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر، فمنعه قوم، ونقل عن مالك، واحتجوا بقول"النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: يا سيدنا قال"السيد الله تبارك وتعالى"1. وجوزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار "قوموا إلى سيدكم" 2. وهذا أصح من الحديث الأول. قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه، فلا يقال للتميمي: سيد كندة، ولا يقال: الملك سيد البشر. قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم وفي هذا نظر، فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى، فهو في منْزلة المالك، والمولى، والرب، لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق. انتهى. قلت: فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى قول الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} 3، أي: إلهًا وسيدًا، وقال في قول الله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} 4، إنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السّؤدد. وقال أبو وائل: هو السّيد الذي انتهى سؤدده. وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار "قوموا إلى سيدكم" 5، فالظاهر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواجه سعدًا به، فيكون في هذا المقام تفصيل. والله أعلم.

_ 1 أبو داود: الأدب (4806) , وأحمد (4/25) . 2 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71) . 3 سورة الأنعام آية: 164. 4 سورة الإخلاص آية: 2. 5 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71) .

باب ما جاء في قول الله تعالى: {_25d9_2588_25d9_2585_25d8_25a7 _25d9_2582_25d8_25af_25d8_25b1_25d9_2588_25d8_25a7 _25d8_25a7_25d9_042940fdc7

باب ما جاء في قول الله تعالى: {_25d9_2588_25d9_2585_25d8_25a7 _25d9_2582_25d8_25af_25d8_25b1_25d9_2588_25d8_25a7 _25d8_25a7_25d9_042940fdc7 ... قال الْمصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ: [الخاتمة] [61- باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... } 1] عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع. فيقول: أنا الملك.

_ 1 سورة الزمر آية: 67.

فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقًا لقول الحبر. ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... } الآية. متّفق عليه. وفي رواية لمسلم: "والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن، فيقول: أنا الملك، أنا الله" 1. وفي رواية للبخاري: "يجعل السموات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع" 2. أخرجاه. ولمسلم عن ابن عمر مرفوعًا: "يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ " 3. وروي عن ابن عباس قال: "ما السموات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم". وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس". قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض". وعن ابن مسعود قال: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء. والله فوق العرش; لا يخفى عليه شيء من أعمالكم". أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم بن زر عن عبد الله. ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله. قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى قال: وله طرق. وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة. وبين السماء السابعة والعرش بحر، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم". أخرجه أبو داود وغيره. فيه مسائل: الأولى: تفسير قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 4 الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها. الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك. الرابعة: وقوع الضحك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم. الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السموات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى. السادسة: التصريح بتسميتها الشمال. السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك. الثامنة: قوله: كخردلة في كف أحدكم. التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء. العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي. الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء. الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء. الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي. الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء. الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء. السادسة عشرة: أن الله فوق العرش. السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض. الثامنة عشرة: كثف كل سماء مائة سنة. التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السموات أسفله وأعلاه خمسمائة سنة والله أعلم. قوله: باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5. أي: من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة. قال العماد بن كثير رحمه الله تعالى: "يقول تعالى: ما قدر المشركون الله حق قدره، حتى عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته". قال مجاهد: "نزلت في قريش"، وقال السدي: "ما عظموه حق تعظيمه"، وقال محمد بن كعب: "لو قدروه حق قدره ما كذبوه"، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره". وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية، الطريق فيها وفي أمثالها من مذهب السلف وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف. وذكر حديث ابن مسعود كما ذكره المصنف رحمه الله في هذا الباب، قال: ورواه البخاري في صحيحه في غير موضع ومسلم، والإمام أحمد والترمذي والنسائي كلهم من حديث سليمان بن مهران وهو الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود بنحوه. قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم،

_ 1 البخاري: تفسير القرآن (4811) والتوحيد (7414 ,7415 ,7451 ,7513) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي: تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/378 ,1/429 ,1/457) . 2 البخاري: تفسير القرآن (4811) والتوحيد (7414 ,7415 ,7451 ,7513) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي: تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/378 ,1/429 ,1/457) . 3 البخاري: التوحيد (7413) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2788) , وابن ماجه: المقدمة (198) والزهد (4275) , وأحمد (2/87) . 4 سورة الزمر آية: 67. 5 سورة الزمر آية: 67.

عن علقمة عن عبد الله قال: "جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم، أبلغك أن الله تعالى يجعل الخلائق على إصبع، السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، قال: وأنزل الله عزّ وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... } " الآية. وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به. وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسين بن حسن الأشقر، حدثنا أبو كدينة عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: "مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السموات على ذه - وأشار بالسبابة - والأرض على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلائق على ذه؟ كل ذلك يشير بإصبعه، فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ". وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به، وقال: حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. ثم قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ " تفرد به من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا مقدم بن محمد حدثنا عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع، وتكون السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك". تفرد به أيضًا من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر.

وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول فقال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر، يمجد الرب تعالى نفسه:"أنا الجبار المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخرن1 به" اه.

_ 1 في الطبعة السابقة: ليخزن وهو تصحيف.

قوله:"ولمسلم عن ابن عمر – الحديث"، كذا في رواية مسلم. قال الحميدي: وهي أتم، وهي عند مسلم من حديث سالم عن أبيه. وأخرجه البخاري من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماء بيمينه" 1. وأخرجه مسلم من حديث عبيد الله بن مقسم. قلت: وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله، وعظيم قدرته وعظم مخلوقاته، وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته، وعجائب مخلوقاته، وكلها تعرف تدل على كماله، وأنه هو المعبود وحده، لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته إثباتًا بلا تمثيل وتنْزيهًا بلا تعطيل، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان.

_ 1 البخاري: المزارعة (2324) , ومسلم: فضائل الصحابة (2388) , والترمذي: المناقب (3695) , وأحمد (2/245 ,2/382) .

وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ربه بذكر صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته، وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء منها: إن ظاهرها غير مراد، أو أنها تدل على تشبيه صفات الله بصفات خلقه، فلو كان هذا حقًّا بلغه أمينه أمته، فإن الله أكمل به الدين، وأتم به النعمة فبلغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين. وتلقى الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ما وصف به ربه من صفات كماله ونعوت جلاله، فآمنوا به، وآمنوا بكتاب الله وما تضمنه من صفات ربهم جل وعلا، كما قال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 1. وكذلك التابعون لهم بإحسان وتابعوهم، والأئمة من المحدثين والفقهاء كلهم وصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يجحدوا شيئًا من الصفات، ولا قال أحد منهم: إن ظاهرها غير مراد، ولا إنه يلزم من إثباتها التشبيه، بل أنكروا على من قال ذلك غاية الإنكار، فصنفوا في رد هذه الشبهات المصنفات الكبار المعروفة الموجودة بأيدي أهل السنة والجماعة. قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة والتابعين، وكلام سائر الأئمة مملوءة كلها بما هو نص أو ظاهر أن الله تعالى فوق كل شيء، وأنه فوق العرش فوق السموات مستو على عرشه مثل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 2 وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 3 وقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 4 وقوله تعالى: {ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 5 وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ

_ 1 سورة آل عمران آية: 7. 2 سورة فاطر آية: 10. 3 سورة آل عمران آية: 55. 4 سورة النساء آية: 158. 5 سورة المعارج آية: 4-3.

السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 1 وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 2 وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} 3 وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4 وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 5. فذكر التوحيدين في هذه الآية. وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 6 وقوله تعالى: {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 7 وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 8 وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} 9 وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 10 فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته، وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُور ُأَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} 11 وقوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 12 وقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 13 وقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي

_ 1 سورة السجدة آية: 5. 2 سورة النحل آية: 50. 3 سورة البقرة آية: 29. 4 سورة الأعراف آية: 54. 5 سورة يونس آية: 3. 6 سورة الرعد آية: 2. 7 سورة طه آية: 5-4. 8 سورة آية: 59-58. 9 سورة آية: 5-4. 10 سورة الحديد آية: 4. 11 سورة الملك آية: 17-16. 12 سورة فصلت آية: 42. 13 سورة الزمر آية: 1.

صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} 1. انتهى كلامه رحمه الله. قلت: وقد ذكر الأئمة رحمهم الله تعالى فيما صنفوه في الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين. فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب"العلو". وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2. قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر. رواه ابن المنذر واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح [مختصر العلوّ 111] . قال: وثبت عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى أنه قال:"لما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن: كيف الاستواء؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق". وقال ابن وهب:"كنا عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فأطرق مالك رحمه الله وأخذته الرحضاء. وقال: الرحمن على العرش استوى، كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف؟ و"كيف"عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة. أخرجوه. رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب، ورواه عن يحيى بن يحيى أيضًا. ولفظه قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. قال الذهبي: فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله، وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفسير، ونفوا عنه الكيفية. قال البخاري في"صحيحه": قال مجاهد: استوى: علا على العرش. وقال إسحاق ابن راهويه: سمعت غير واحد من المفسرين يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: ارتفع. وقال محمد بن جرير الطبري في

_ 1 سورة آية: 37-36. 2 سورة طه آية: 5.

قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: علا وارتفع. وشواهده في أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم. فمن ذلك قول عبد الله ابن رواحة رضي الله عنه: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا وروى الدارمي والحاكم والبيهقي بأصح إسناد إلى علي بن الحسين بن شقيق قال:"سمعت عبد الله بن المبارك يقول: نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية". قال الدارمي: حدثنا حسن بن الصباح البزار، حدثنا علي بن الحسين ابن شقيق"عن ابن المبارك: قيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه". وقد تقدم قول الأوزاعي: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله تعالى ذكره بائن من خلقه، ونؤمن بما وردت به السنة. وقال أبو عمر الطلمنكي في كتاب"الأصول": أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته. وقال في هذا الكتاب أيضًا: أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز، ثم ساق بسنده عن مالك قوله: الله في السماء وعلمه في كل مكان، ثم قال في هذا الكتاب: أجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 1، ونحو ذلك من القرآن: أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء، وهذا لفظه في كتابه. وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه على لسان رسوله على الحقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين، ولم يمثلوا، ولم

_ 1 سورة الحديد آية: 4.

يكيفوا كما ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب. وقال الحافظ الذهبي: "وأول وقت سمعت مقالة مَن أنكر أن الله فوق عرشه: هو الجعد بن درهم، وكذلك أنكر جميع الصفات، وقتله خالد بن عبد الله القسري وقصته مشهورة، فأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان إمام الجهمية، فأظهرها واحتج لها بالشبهات، وكان ذلك في آخر عصر التابعين، فأنكر مقالته أئمة ذلك العصر مثل الأوزاعي، وأبي حنيفة ومالك، والليث بن سعد، والثوري، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وابن المبارك، ومن بعدهم من أئمة الهدى، فقال الأوزاعي إمام أهل الشام على رأس الخمسين ومائة عند ظهور هذه المقالة ما أخبرنا عبد الواسع الأبهري بسنده إلى أبي بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني محمد بن علي الجوهري - ببغداد - حدثنا إبراهيم بن الهيثم، حدثنا محمد بن كثير المصيصي"سمعت الأوزاعي يقول: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته" أخرجه البيهقي في"الصفات"ورواته أئمة ثقات". وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "لله أسماء وصفات لا يسع أحدًا ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه، كما نفى عنه نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1 اه من فتح الباري. قوله:"وعن العباس بن عبد المطلب ساقه المصنف رحمه الله مختصرًا". والذي في"سنن أبي داود": عن"العباس بن عبد المطلب قال: "كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت بهم سحابة، فنظر إليها، فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب، قال: والمزن قالوا: والمزن. قال: والعنان. قالوا: والعنان - قال أبو داود: لم أتقن العنان جيدًا - قال: هل تدرون ما بعد بين السماء

_ 1 سورة الشورى آية: 11.

والأرض؟ قالوا: لا ندري، قال: إن بعد ما بينهما إما واحدة، أو اثنتان، أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء التي فوقها كذلك، حتى عدد سبع سماوات، ثم فوق السابعة بحر بين أسفله، وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ثم على ظهورهم العرش، وبين أسفله وأعلاه، كما بين سماء إلى سماء، ثم الله تبارك تعالى فوق ذلك". وأخرجه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن غريب1. وقال الحافظ الذهبي: رواه أبو داود بإسناد حسن، وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وفيه "بعد ما بين سماء إلى سماء خمسمائة عام". ولا منافاة بينهما، لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلا، ونيف وسبعون سنة على سير البريد، لأنه يصح أن يقال: بيننا وبين مصر عشرون يوما باعتبار سير العادة، وثلاثة أيام باعتبار سير البريد، وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك فوقفه، هذا آخر كلامه. قلت: فيه التصريح بأن الله فوق عرشه كما تقدم في الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم. وهذا الحديث له شواهد في"الصحيحين"وغيرهما، ولا عبرة بقول من ضعفه، لكثرة شواهده التي يستحيل دفعها، وصرفها عن ظواهرها. وهذا الحديث كأمثاله يدل على عظمة الله وكماله، وعظم مخلوقاته، وأنه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كمال قدرته، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له، دون كل ما سواه. وبالله التوفيق. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين

_ 1 هو حديث ضعيف في سنده عبد الله بن عميرة. قال الذهبي: فيه جهالة.

§1/1