تيسير البيان لأحكام القرآن
ابن نور الدين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَيْسِيْرُ البَيَانِ لِأَحْكَامِ القُرْآنِ [1]
جَمِيعُ الحقُوُقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1433 هـ - 2012 م ردمك: 3 - 41 - 459 - 9933 - 978: ISBN دَارُ النَّوادِرِ سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسة دَار النَّوادِرِ م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوادِر الكُوَيْتِيَة ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هَاتِف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هَاتِف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السَّحَاب - ص. ب: 4316 حَولي - الرَّمْز البريدي: 32046 هَاتِف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م نُورُ الدِّيْن طَالِب المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنفِيْذِي
تقديم بقلم فضيلة الدكتور مصطفي سعيد الخن رحمه الله تعالى
تَقْدِيم بِقَلَمِ فَضِيلَةِ الدّكتور مُصْطَفَي سَعِيد الخَن رَحِمَهُ الله تَعَالى بِسْمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيمِ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب الذي نوَّر به القلوب، وأحكمه بأوجز لفظ وأعجز أسلوب {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28]. والصلاة والسلام على محمد عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله جلَّ ذكره قد أودع في القرآن الكريم علمَ كلِّ شيء {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وجعله العصمة من الزلل، والمخرج من الفتن والمحن، لا يضل من اهتدى بهديه، ورشف من مَعينه، ويكفي في وصفه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَق على كثرة الرد ... " (¬1). ¬
فلا عجب بعد ذلك أن نرى المسلمين -بل وغيرهم- على تعدد طبقاتهم، وتنوع ثقافاتهم يهتمون بهذا الكتاب المبين، حفظًا وتدريسًا، وقراءةً وتجويدًا، وكتابة وإتقانًا، وتعلمًا وتعليمًا، منهم من يهتم بلغته وبيان وجوه إعجازه، ومنهم من يقف على أخباره وقصصه، ومنهم من يَلِجُ إلى فهم أسراره واستنباط أحكامه وتفسيره. وقد ظهر في حياة المسلمين منذ فجر الإسلام إلى يوم الناس هذا الكثير الكثير من التفاسير، تعددت أساليبها وكيفياتها، وبذل فيها أصحابها جهدَهم في الوصول إلى مراد الله تعالى من آياته ليحولوها إلى واقع حياتهم عملًا، فيتأدبوا بآداب القرآن، ويتخلقوا بأخلاقه أسوةً بالنبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وقد أشار الإمام الزمخشري -صاحب تفسير "الكشاف"- إلى كثرة التفاسير بقوله: إنَّ التَّفَاسيْرَ في الدُّنْيَا بلا عَدَدٍ ... وَلَيْسَ فيْهَا لَعَمْريْ مثْلَ كَشَّافِيْ إنْ كُنْتَ تَبْغِي الهُدَى فَالْزَمْ قِرَاءَتَهُ ... الجَهْلُ كَالْدَّاءِ وَالكَشَّافُ كَالشَّافِى ولعمري إن هذا الكلام ليصدق أيضًا على هذا الكتاب الذي بين أيدينا (تيسير البيان لأحكام القرآن) للعلامة الموزَعي اليمني، وذلك لِمَا امتاز به هذا الكتاب من مزايا تجعله مقدَّمًا على كتب تفسير آيات الأحكام. ولعل أهم مزايا الكتاب تلك المقدمة الرائعة التي استهلَّ فيها الموزَعي كتابه؛ حيث ذكر فيها القواعد والمسائل الأصولية واللغوية التي يرتكز عليها عملُ المفسِّر لكتاب الله تعالى، وخصوصًا آيات الأحكام الفقهية والفروع العملية. والكتاب اسم على مسمَّى فهو مُيَسَّر بيِّن، وذلك لسلاسة أسلوبه،
وروعة منهجه، ودقة بيانه، حيث نجده يلج مع القارئ مباشرة إلى مضمون الآية، وبيان ما يستنبط منها من أحكام، عارضًا لوجوه الاستنباط، موضحًا لمذاهب الفقهاء في كل مسألة من المسائل وفق ترتيب منطقي، وبعبارة ناصعة مشرقة، تدل على وضوح المعنى، وجلاء الفكرة. ثم لا يقف المؤلف عند عرض الأقوال والآراء، وذِكْر المذاهب والاختلاف، بل نجد عنده وقفات موفَّقة عند الكثير من ذلك مناقشًا ومستدلًا، مصوِّبًا ومصححًا ومختارًا، مما يثري مادة الكتاب العلمية، ويساعد القارئ على تلمُّس وجه الحق في حال الخلاف. هذا، ولقد وفَّق الله عز وجل الأخ الكريم الفاضل عبد المعين الحرش (أبا بكر) للقيام بعبء إخراج هذا الكتاب المانع بهذه الحلة القشيبة، التي تليق بالكتاب ومؤلفه، بعد أن بقي حبيسَ الخزائن والمكتبات دهرًا من الزمن، فجزاه الله عن العلم وطلابه، والتفسيرِ وأهله خيرَ الجزاء، ولقد قام بالتحقيق وفق القواعد الموضوعية، فجاء تحقيقه وتعليقه حسب المطلوب، فجزاه الله خير الجزاء. والله الموفق مصطفي سعيد الخن دمشق 14/ 7/ 2004 م 27/ 5/ 1425 هـ
تقديم بقلم الأستاذ الدكتور وهبة مصطفي الزحيلي
تَقْدِيم بِقَلَمِ الأسْتَاذِ الدّكتور وَهْبَة مُصْطَفَي الزُّحَيلِيِّ بِسْمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيمِ الحمد لله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، أنزل القرآن والمجيد فهو أعظم النعم على الناس قاطبة، والصلاة والسلام على رسولنا النبي الخاتم ومنقذ الأمم، وعلى آله وصحبه ذوي الأقدار العالية والهمم، وبعد: فإن حقل تفسير القرآن الكريم خصب واسع وشامل كل ما تضمنه من عقيدة وإيمان، وشرائع وأحكام، وآداب وقيم تبني كيان الإنسان، وتنهض بالجماعات والإنسانية، ولغة عربية في أعلى درجات الفصاحة وبلاغة اللسان، وإيراد قصص الأنبياء الكرام الذين كانت حياتهم المثل الأعلى للتضحية والوفاء، وبذل الجهود الكبرى من أجل ترسيخ معالم الهدي الإلهي، ليكون ذخيرة وافية بكل متطلبات الحياة، وبناء المجتمعات، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وتُوِّجت رسالات الرسل الكرام بالرسالة الخاتمة وبالقرآن الخالد الذي لم يبق ولن يدوم في الوجود سواه صوت الحق الإلهي، ومَعْلم الوحي الرباني الثابت القطعي، فتعددت آفاق دراسته واستكناه مضامينه، في كل جانب من جوانب المعرفة والثقافة، وأصول الشريعة، ومنها التعرف على أحكام القرآن التي ينبغي عرضها بحيدة وموضوعية، وموازنة، ودقة،
وتبيان لكل ما يؤصل مباني كل موضوع على حدة، وليكتمل نسيج المعرفة، وتتحدد معالم الأحكام بمبانيها وضوابطها ومقاصدها، من أجل سلامة الفهم والتطبيق والالتزام. ومن أفضل وأمتع ما خلَّفه علماؤنا الأماثل: دراسة أحكام القرآن لحنفي، ومالكييَّن، وشافعييَّن، وهي ما يأتي: 1 - "أحكام القرآن" للجصاص الرازي الحنفي (370 هـ) المتميز ببيانه المشرق وطول النَّفَس، في تقرير الحكم الشرعي المقارن بين المذاهب الفقهية الأربعة. 2 - "أحكام القرآن" لعلي بن محمد بن علي المعروف بـ "إِلكيا الهراسي" (504 هـ) لإلقاء الضوء على مشتملات المذهب الشافعي وأصول استنباطها. 3 - "أحكام القرآن" لابن العربي المالكي (543 هـ) الذي فاق غيره ببيان مختلف متعلقات الأحكام الشرعية ودقائق المسائل العلمية. 4 - "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي المالكي (671 هـ) الذي هو موسوعة كبيرة في التفسير مع العناية بالمسائل الفقهية العديدة. 5 - "تيسير البيان لأحكام القرآن" لجمال الدين محمد بن علي المَوْزعي (825 هـ) وهو من بدائع الكتب المقارنة في الفقه المقارن واللغة، والأصول والتفسير والحديث النبوي، وهذا ما يميزه عن الكتب المشابهة، ويجعله في قمة العلم والاعتدال والإنصاف بل والاجتهاد، كما يبدو في ترجيحاته ومناقشاته وميله لرأي قد يخالف مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، وذلك بسبب تمكنه الفقهي وإحاطته بدقائق العلم واللغة والبيان. وقد قيض الله تعالى لهذا الكتاب الأخ الفاضل السيد عبد المعين الحرش من متخرجي كلية الشريعة بجامعة دمشق، فخدم الكتاب خدمة
متميزة من تحقيق علمي، وضبط للكلمات، وبيان لمعاني المفردات اللغوية، وترجمة الأعلام، والتعقيب والتعليق على مختلف المسائل الفقهية التي تحتاج لإلقاء الضوء عليها، بعد إيراد المؤلف العلامة الموزعي لها بنحو موجز، ثم توثيق المعلومات بالمصادر المعتبرة، وتخريج الآيات والأحاديث، حتى صار هذا الإنجاز العلمي متفوقًا إذا قورن بأمثاله من الدراسات العلمية في كتاب الموزعي نفسه، فوفقه الله لكلِّ خير، ومتَّعه بنور العقل والبصيرة، وجزاه الله تعالى عن العلم والعلماء خير الجزاء. أ. د. وهبَة مصطفي الزَّحيلي عميد ورئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق سابقًا
مقدمة التحقيق
بِسْمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيمِ مُقَدِمَة التَّحقِيْق إنَّ الحمد لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه. أما بعد: فإنَّ علم التفسير من أجلِّ علوم الشريعة، وأرفعِها قدرًا، وهو من أشرف العلوم غرضًا، وحاجة إليه؛ لأن موضوعه كلام الله تعالى، الذي هو ينبوع كلِّ حكمة، ومعدِن كلِّ فضيلة. وفي ذلك يقول الإمام البيضاوي في "تفسيره": إن أعظم العلوم مقدارًا، وأرفعها شرفًا ومنارًا: علم التفسير، الذي هو رئيس العلوم الدينية ورأسها، ومبنى قواعد الشرع وأساسها (¬1). ويقول إمام المفسرين الطبري في "تفسيره": اعلموا عباد الله -رحمكم الله- أنَّ أحقَّ ما صُرفت إلى علمه العناية، وبلغت في معرفته الغاية، ما كان لله في العلم به رضَى، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدىً، وأنَّ أجمعَ ذلك لباغيه، كتاب الله الذي لا ريب فيه، وتنزيله الذي لا مِرْية ¬
فيه، الفائز بجزيل الذخر وسنيِّ الأجر تاليه، الذي لا يأتيه الباطِلُ من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ (¬1). ولقد كان الصحابةُ في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفهمون القرآن بسليقتهم العربية، وإن التبسَ عليهم فهمُ آيةٍ رجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبينها لهم، ثم جعل إلى العلماء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استنباطَه، ما نبّه إلى معانيه، وأشار إلى أصوله ليتوصلوا بالاجتهاد فيه إلى علم المراد، فيمتازوا بذلك عن غيرهم، ويختصوا بثواب اجتهادهم، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، فصارَ الكتاب أصلًا، والسنُّةُ له بيانًا، واستنباطُ العلماء له إيضاحًا وتبيانًا (¬2). وكان من البدهي أن تَجِدَّ قضايا لم يسبق لها مثيلٌ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان القرآن للصحابة ملاذًا لهم لاستنباط الأحكام الشرعية للقضايا الجديدة، فيُجمعون على رأي فيها، وقلما يختلفون عند التعارض، كاختلافهم في عدة الحامل المتوفى عنها زوجُها، أهي وضع الحَمْل، أم مُضِيُّ أربعة أشهر وعشر، أم أبعدُ الأجلين منهما؟ حيث قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، وقال تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، فكانت هذه الأحوال على قِلَّتها بدايةَ الخلاف الفقهي في فهم آيات الأحكام. فلما كان عهد الأئمة الأربعة، واتَّخذ كل إمام أصولًا لاستنباط الأحكام في مذهبه، وكثرت الأحداث، وتشعبت المسائل، ازدادت وجوه الاختلاف في فهم بعض الآيات لتفاوت وجوه الدلالة فيها، دون تعصب لمذهب، بل ¬
استمساكًا بما يرى الفقيه أنه الحقُّ، ولا يجد غَضَاضةً إذا عرفَ الحقَّ لدى غيره أن يرجع إليه. وبقي الأمر هكذا حتى جاء عصرُ التقليد المذهبي، فقَصَر أتباع الأئمة جهودهم على توضيح مذهبهم والانتصار له، وأحيانًا حتى لو كان ذلك بحمل الآيات القرآنية على المعاني المرجوحة البعيدة، ونشأ من هذا تفسير فقهيٌّ خاصٌّ لآيات الأحكام في القرآن، يشتد التعصب فيه أحيانًا، ويَخِفُّ أخرى (¬1). وهذا المنهج هو ما يسمى بـ "التفسير الفقهي"، وقد برزت فيه كتب كان لها الأثرُ البارزُ في إثراء مكتبة الفقه الإسلامي، فمن هذه الكتب: 1 - "أحكام القرآن" للجصاص، وهو من المراجع المهمة في آيات الأحكام والمسائل الخلافية، لكنه مليء بميله المُفْرِطِ إلى مذهبه الحنفي، وذلك في الانتصار له، ومحاولته إبطالَ أدلة المخالفين. 2 - "أحكام القرآن" لإلكيا الهَرَّاسِي الشافعي، وهو مرجع هام ومفيد في آيات الأحكام، لكنه اقتصر فيه على إيراد مذهب الشافعي -رحمه الله- دون التعرض لمذاهبِ غيره من الأئمة. 3 - "أحكام القرآن" لابن العربي المالكي: وهو من أحسن الكتب المؤلفة في آيات الأحكام، وعليه اعتمد مَنْ جاء بعده كالقرطبي، لكنه يهجم على المخالف بشدة، ويتحامل على بعض الأئمة المخالفين لمذهبه. 4 - "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي، وهو من أفضل الكتب في التفسير وأكثرها جمعًا لآيات الأحكام، ومسائل الخلاف، دون التعصب والتحيز ¬
لمذهب من المذاهب الفقهية، فجاء الكتاب فريدًا في بابه، عظيمًا في نفعه وفائدته. وقد جاء بعد هؤلاءِ الإمامُ العلامةُ الفقيه المفسر اللغوي محمد بن علي المَوْزعيُّ الشافعيُّ، فألف كتابه "تيسير البيان لأحكام القرآن" مقتفيًا أثرهم في مناقشته للآراء الفقهية، مع الرد على المخالف، وذكر أوجه الاستدلال، والمسائل الفرعية. وقد اكتسب هذا الكتاب أهمية على غيره من كتب أحكام القرآن لأسبابٍ، منها: 1 - أن مؤلفه شافعيَّ المذهب، حيث إن الكتب المشتهرة قبله إما أن تكون لمؤلف حنفي؛ كالإمام الجصاص، أو لمؤلفٍ مالكي؛ كالإمامين ابن العربي والقرطبي. 2 - مناقشات المؤلف وردوده في مسائل كثيرة من كتابه هذا، وعدم جموده على التقليد المحض، وذلك بالنظر في أدلة المذاهب الأخرى، وترجيحه في مواطن كثيرة غير مذهب إمامه الشافعي، مما يجعل لكتابه هذا قبولًا لدى أتباع المذاهب الأخرى. 3 - طريقة عَرْضه للأحكام الفقهية، وحُسْن جمعه واختصاره لكلام الأئمة. لهذه الأسباب -وغيرها مما سيأتي- اتجهت الرغبة لخدمة هذا الكتاب، وتحقيقه، وطبعه لنشره بين الناس؛ علماءَ وطلبةَ علمٍ. وقد تم التقديم بين يدي الكتاب بفصلين -كمدخلٍ له- هما: الفصل الأول: في ترجمة المؤلف. الفصل الثاني: في دراسة الكتاب.
هذا، وأسأل الله تعالى أن يتقبل منا صالح القول والعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين عبد المعين الحرش
الفصل الأول ترجمة المؤلف الإمام الموزعي
الفَصْلُ الأَوَّلُ ترجمة المؤلف الإمام الموزعي * اسمه ونسبه: هو محمدُ بنُ عليِّ بنِ عبد الله بن إبراهيمَ بن أحمدَ بن أبي بكر بن الخطيب، جمال الدين، الشعبيُّ، النَّمريُّ، المَوزَعِيُّ. * لقبه وكنيته: يعرف بابن نور الدين، ويعرف أيضًا بابن الخطيب، نسبةً إلى أحد أجداده عبد الله بن أبي بكر الذي عُرِف بابن الخطيب، وإليه ينسب بنو الخطيب الذين بموزع وغيرهم، ويكنَّى بأبي عبد الله. * ولادته: ولد المؤلف في بلدة موزَع -بفتح الزاي- التابعة لمدينة تعزّ في اليمن، وتقع غربها، وتبعد عنها مسافة (90 كم) كم تقريبًا، ولم تذكر سنة ولادة المؤلف في المصادر التي ترجمت له، والله أعلم. * أسرته: عرف آل الخطيب بالعلم والتقوى والفضل، فلا يكاد يخلو فردٌ من هذه الأسرة إلا وهو على جانب كبير من العلم والورع والصلاح، والمستعرض لتاريخ علماء اليمن يجد الكثير من آل الخطيب قد حازوا قَصَبَ السَّبقْ في العلم والزهد والورع.
أخلاقه وصفاته
فالجد عبد الله الذي ينسبون إليه كان خطيبًا في (أبين) وكان ذا زهد وعبادة. ومن ذريته: الفقيه رضي الدين أبو بكر بن أحمد الذي أجمع أهل بلاده على صلاحه. وله أولاد منهم: محمد بن أبي بكر الذي كان فقيهًا مقربًا من العلماء، ومدرِّسا ومفتيًا. وإسماعيل، وقد اشتهر بالعبادة، وغيرهم. فالمؤلف إذًا من أسرة عريقة، ضاربةٍ جذورها، راسخةٍ معالمُها بشرف العلم والدين، فكان لذلك أثرٌ في طلب المؤلف للعلم منذ نعومة أظفاره، ومساعدٌ له في تكوينه العلمي، حتى أصبح عالمًا بارعًا، بزَّ الأقران، وفاق الكثيرَ من الأعيان. * أخلاقه وصفاته: كان الإمام الموزعي عالمًا زاهدًا، وتقيًا ورعًا، مقبلًا على العلم والتحصيل، فلم يشغل نفسه بشيء من مشاغل الدنيا، وكان محبًا للخير، كريمًا، ينفق كلَّ ما عنده، ولم يدخر شيئًا، ولذا مات فقيرًا مَدِينًا، فقام ابنه من بعده بسداد دينه، وكان من ورعه تورعُه عن أموال الناس، وعن قبض شيء من الوقف المعدِّ لأهل الأسباب، وغير ذلك، وكان مدة قراءته بمدينة زَبيد تصله نفقةٌ من بلده من شيء يعتقد حلَّه، فانقطعت عليه نفقته أيامًا، فأمر الإمام جمال الدين الريمي (¬1) نائبَه أن يصرف له من الطعام في كل يوم شيئًا معينًا، فأعطاه ذلك في ثلاثة أيام، فلما كان في اليوم الرابع جاء إليه النائب بنفقته، فامتنع من قبضها، فلما علم الإمام الريمي بذلك، وسأله عن ¬
مشايخه
السبب لامتناعه عن قبض النفقة، فاعتذر إليه، فلم يقبل عذره، وألحَّ عليه في تبين سبب الامتناع، فقال الإمام نور الدين: إنه أظلمَ قلبي من يوم قبضت النفقة من نائبك، فلا حاجة لي بها. وكان -رحمه الله- ذا صدقةٍ وأفعالٍ للخير، يبدأ بأقاربه وجيرانه، ثم يعمم كلَّ محتاج عَلِمَ به أو وصل إليه، ولا يدخر في بيته إلا ما يَسُدُّ به خلته في وقتهم، وهو الذي ابتدأ بعمارة جامع موزَع، وظهرت له كراماتٌ في حياته وبعد موته، وكان مجابَ الدَّعوةِ. * مشايخه: 1 - جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله بن أبي بكر الحثيثي الصردفي الريمي -نسبة إلى ريمة ناحية باليمن- الإمام العلامة، وأحد كبار الشافعية، اشتغل بالعلم وتقدم في الفقه، فكانت إليه الرحلة في زمانه، وصنف التصانيف النافعة، منها: "شرح التنبيه"، توفي سنة (792 هـ)، وقد قرأ عليه المؤلف الفقهَ والأصول كاللمع للشيرازي، وغيرَ ذلك من العلوم. 2 - تاج الدين الهندي، الدَّلَّي، الشيخ الفقيه، قرأ عليه المؤلف: "منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل" لابن الحاجب. 3 - غياث الدين محمد بن جعفر الهندي الدَّلي، الشيخ العلامة الفقيه. 4 - علي بن قمر، الشيخ الفقيه المذكور في أهل زبيد. 5 - أبو عبد الله موسى الذوالي، شيخ القاضي الريمي، الإمام الفقيه الحافظ، قرأ عليه: "منهاج البيضاوي". 6 - ومن شيوخه عدد من "آل الناشري"، لم تذكر أسماؤهم كما ذكر البُريهي.
تلامذته
* تلامذته: 1 - الحسين بنُ عبدِ الرحمن بن محمد بن علي الحسينيُّ العلويُّ الشافعيُّ المعروف بالأهدل، صاحب "تحفة الزمن"، مفتي الديار اليمنية، وأحد علمائها المتفننين، وهو أشهر تلامذة الموزعي، توفي سنة (855 هـ). 2 - أبو بكر محمد بن رضي الدين أبو بكر بن أحمد الخطيب، وكان عالما زاهدًا مُجْمَعًا على جلالته، درس وأفتى، وقرأ عليه وعلى غيره الفقه والنحو الحديث واللغة والتفسير، وقد تقلد الرئاسة بعد وفاة شيخه جمالِ الدين محمدِ بن علي بن نور الدين الموزعيِّ، وتوفي في المئة التاسعة. 3 - رضي الدين أبو بكر أحمد بن دعسين القرشي -نسبة إلى القرشية قبيلة في اليمن-، كان إمامًا عالمًا، أفتى ودرس، وتولى القضاء بموزع، ثم عزل نفسه، واجتهد في العبادة ونشرِ العلم، توفي (842 هـ). 4 - جمال الدين محمد بنُ عمرَ الحجاري، الفقيه القاضي، كان عالمًا ورعًا، ذا فضل عظيم وعبادة وزَهادة، مما يعجز عنه الكثير، تولى القضاء بموزع، فكان يصدع بالحق ولا يخافُ في الله لومة لائم، وقد قرأ عليه العلوم الشرعية والعربية، وتزوج بابنة الإمام الموزعي خديجة، توفي قريبًا من سنة (820 هـ). 5 - سعيد بن سحر، الفقيه، صاحب الفازة، تزوج بنت الإمام الموزعي، وتفقه عليه. 6 - ولده الطيبُ ابن الإمامِ محمدِ بن علي الموزَعي، قرأ على والده كثيرًا من العلوم وتفقه عليه، كما قرأ على غيره من علماء عصره، ودرَّس وأفتى في عهد والده، واشتُهر بعد وفاته.
مكانته وثناء العلماء عليه
7 - ولده شمس الدين علي، قرأ على والده شيئًا من العلوم، وتفقه عليه، وخلف والده في الإحسان إلى من قصده، وكان ذا مال جزيل، قضى منه دين والده. 8 - ولده إبراهيم، وقد قرأ على أبيه القرآن، ولم يتفقه. * مكانته وثناء العلماء عليه: 1 - قال البريهي في "تاريخه": "الإمام العلامة الصالح الزاهد العابد، كان إمامًا عالمًا، علمه كالعارض الهاطل، المتحلي بتصانيفه، جِيْدُ الزمان العاطل، مُسْتَقَرُّ المحاسن والبيان، ومستودع البيان والإحسان، فخر اليمن، وبهجة الزمن، الصبور، الواصل للرحم، الخَشُوع، له الباع الطويل في لحم الفقه والأصول والنحو والمعاني والبيان واللغة، درَّس وأفتى، واشتهر، ورُزق القبول عند الخاصة والعامة". 2 - وقال السخاوي في "الضوء اللامع": "الإمام الأصولي، جرت له أمور بان فيها فضلُه". 3 - وقال الزركلي في "الأعلام": "مفسر عالم بالأصول". * مؤلفاته: صَنَّفَ الإمام الموزعي مؤلفات عدة في فنون مختلفة، مما يدل على تمكنه في هذه العلوم التي ألف فيها، ومنها: 1 - "تيسير البيان لأحكام القرآن"، وهو كتابنا هذا. 2 - "الاستعداد لرتبة الاجتهاد"، وهو كتاب عظيم النفع في علم أصول الفقه، وقد سبق لي العناية به.
وفاته
3 - "مصابيح المغاني في معاني حروف المعاني" (¬1)، مخطوط، يقع في (181) ورقة كتب في آخره: فرغ من نسخه سنة (848 هـ)، بخط الصديق عمر شماخ. توجد منه نسخة في مكتبة أحمد عبد القادر الأهدل بزبيد، وهي مصورة بمعهد المخطوطات التابع للجامعة العربية بالقاهرة، ومصورة بمكتبة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة برقم (350 - نحو). 4 - "كنوز الخبايا في قواعد الوصايا"، ذكره الأهدل في "تحفته". 5 - "جامع الفقه"، ذكره الأهدل في "تحفته"، وقال: لكنه توفي قبل تمامه، ويقع في ثلاثة مجلدات. 6 - "المطرب للسامعين في حكايات الصالحين"، اختصر فيه "روض الرياحين" لليافعي. 7 - "كشف الظلمة عن هذه الأمة"، ذكره البريهي في "تاريخه"، توجد منه نسخة خطية في المكتبة الغربية لجامع صنعاء (رقم 391). * وفاته: توفي الإمام الموزعي أوائل ربيع الآخر من سنة خمس وعشرين وثمان مئة على ما ذكره الأهدل تلميذه، وهو المعتمد. وذكر البريهي أنه توفي بعد سنة عشر وثمان مئة. وذكر السخاوي في "الضوء اللامع" أنه توفي في حدود العشرين. * مصادر الترجمة: 1 - " طبقات صلحاء اليمن" المعروف بـ "تاريخ البريهي" (ص: 272 - 271). ¬
2 - "الضوء اللامع" للسخاوي (8/ 223). 3 - "شذرات الذهب" لابن العماد (6/ 248). 4 - "هدية العارفين" للبغدادي (2/ 178). 5 - "إيضاح المكنون" للبغدادي (1/ 343). 6 - "الأعلام" للزركلي (6/ 287). 7 - "معجم المؤلفين" لكحالة (3/ 520). 8 - "مصادر الفكر العربي الإسلامي" لعبد الله محمد الحبشي (ص: 196).
الفصل الثاني دراسة الكتاب
الفَصْلُ الثَّاني دِرَاسَة الكِتَاب * أولًا: تحقيق اسم الكتاب، وإثبات نسبته إلى مؤلفه: ذكر المؤلف -رحمه الله- في مقدمة كتابه هذا اسم الكتاب فقال: وسميته: "تيسير البيان لأحكام القرآن". وكذا جاء على طرة النسخة الخطية لمكتبة برنستون والمرموز له بـ "أ"، وكذا سماه كلٌّ من البغدادي في "هدية العارفين" (¬1) و"إيضاح المكنون" (¬2)، والزركلي في "الأعلام" (¬3). وقد جاء اسمه على طرة النسخة الخطية لمكتبة جامعة الملك سعود بالرياض والمرموز لها بـ "ب": "تيسير البيان في أحكام القرآن". وكذا جاء في خاتمة الجزء الأول من النسخة. وكذا سماه البريهي في "تاريخه" (¬4). وقد تم اعتماد تسمية المؤلف التي نصَّ عليها في مقدمته وهي: "تيسير البيان لأحكام القرآن". ¬
ثانيا: منهج المؤلف في الكتاب
هذا، وقد جاء نسبة الكتاب إلى المؤلف -رحمه الله- على طرة النسختين الخطيتين المشار إليهما آنفًا، ففي النسخة "أ" جاء فيها: "تصنيف الشيخ الإمام العالم محمد بن علي بن عبد الله الخطيب المعروف بابن نور الدين اليمني الموزعي". وفي النسخة "ب ": "تأليف الشيخ الإمام العلامة المتقن الفهامة جمال الدين محمد بن علي بن عبد الله بن إبراهيم بن الخطيب، عرف بابن نور الدين الموزعي اليمني. وكذا نسبه إليه كلُّ من ترجم له وذكره. هذا، وقد ذكر كتابه الآخر الموسوم بـ "مصابيح المغاني في حروف المعاني" في أكثر من موضع من كتابه هذا. * ثانيًا: منهج المؤلف في الكتاب: ذكر المؤلف -رحمه الله- في مقدمة كتابه هذا: أنه استخار الله تعالى في تصنيف صغير حجمه، خفيف حمله، كثير نفعه، كبير قدره، يكون تنبيهًا للطالبين، على مناهج العلماء السالفين، في استخراج الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام، ليتعلموا صنيعهم، ويقتفوا أثرهم بسابق فضل الله عليهم ورحمته لهم (¬1). وقد بدأ المؤلف -رحمه الله- كتابه هذا بمقدمة أصولية قيمة، ضمت مباحث نافعة وفوائد ماتعة، شملت معظم أبواب أصول الفقه، وهي مقدمة مختصرة حقيقةٌ بالحفظ والدراسة. ثم شرع في شرح آيات الأحكام حسب التسلسل القرآني للسور والآيات، فيبدأ بشرح غريب الألفاظ منها، ثم يستنبط الأحكام الفقهية، ¬
ويذكر مسائل الخلاف بنسبة كل قول إلى قائله، وذكر المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رضي الله عنهم، وعن التابعين وغيرهم، ثم يرجح ما يراه راجحًا من الأقوال حسب ما يؤديه إليه اجتهاده معتمدًا على المعقول والمنقول في المناقشة والترجيح. وقد سار -رحمه الله- على طريقة الإمام القرطبي في "تفسيره" بتقسيمه الآية إلى جمل وفقرات حسب ما تضمنته من أحكام، إلا أن القرطبي يقول: في هذه الآية كذا من المسائل، والمؤلف يقول: الجملة الأولى، أو يقسم الآية ويتكلم عن الأحكام الموجودة فيها مراعيًا ترتيب الأحكام حسب وجودها وتسلسلها في الآيات، وهو لا محالة تأثر بالقرطبي في هذا. إلا أنه استقل -رحمه الله- في تقرير المسائل، واختار طريقة تدل على قِدمه في هذا الباب لسوقها، وانتهج منهجًا متميزًا في الاستدلال والترجيح. وقد ضمَّ الكتاب معظم أبواب الفقه من أحكام الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد والمعاملات وغيرها، والتي أتى ذكرها في الآيات القرآنية الكريمة، إلا أنه لم يستوعب كل آيات الأحكام التي أوصلها بعضهم إلى خمس مئة آية، بل ترك آياتٍ كثيرةً تتعلق بالأحكام طلبًا للاختصار، وذلك إما لاندراجها في أحكام الناسخ، أو في أحكام المنسوخ، أو لذكر أحكامها في غيرها، أو لغير ذلك (¬1). * وقد عرض المؤلف -رحمه الله- لفقه الأئمة الأربعة ومذاهب الصحابة والتابعين في أكثر المسائل التي تناولها في كتابه هذا، معتمدًا على أمهات كتب التفسير والفقه والناسخ والمنسوخ، مقدمًا فقه إمامه الشافعي ¬
-رحمه الله- في العرض، وتاليه بذكر المذاهب الأخرى، مصوِّبًا ومرجحًا ما يراه، فيجد مطالع الكتاب ترجيحات كثيرة لمذاهب أخرى على مذهب إمامه الشافعي؛ فيرجح القول المخالف للشافعي في كون الإحرام بالحج في أشهره لا يصح، ويرجح قول الإمام مالك في كون الرزق والكسوة للمرضعة لأجل الزوجية لا لأجل الرضاعة، ويرجح قول مالك وأبي حنيفة في كون الرشد يكون بإصلاح المال فقط، ويرد ويتعجب من الشافعية في استحبابهم التكميل بالعمامة في مسألة المسح عليها، ويبطل تفريع الشافعية في مسألة أخرى، وغير ذلك. بل لم تقتصر ترجيحاته ومناقشاته في ذلك فحسب، بل كان له مع الأئمة الآخرين نصيب من المناقشة والاستدلال، فتراه يرد على النحَّاس في مسألة النسخ وإبطاله له، ويرد بنقد لاذع على ابن خُويز مِنْداد المالكي، وعلى أبي الفتوح بن أبي عقامة، ومكي بن أبي طالب، وابن العربي، وابن رشد، والنووي، وغيرهم. وكل هذا يأتي بأسلوب علمي ومنهجي رفيع، يزينه تواضع بلغة عالية، وانظر قوله في مسألة الكلالة: "هذا ما انتهى إليه فهمي وبحثي في الكلالة، والله أعلم، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني، وأستغفر الله الغفور الرحيم". * كما ظهر في هذا التأليف النفيس عناية المؤلف بسوق الروايات الحديثية مشفوعة في الغالب بـ (روينا) التي تدل على اشتغاله بالرواية وعلم الحديث. * وظهر أيضًا كثرة الاستشهادات الشعرية التي يحشدها المؤلف للدلالة على المعنى المراد لديه.
ثالثا: موارد المؤلف في الكتاب
* ثالثًا: موارد المؤلف في الكتاب: لم يذكر المؤلف -رحمه الله- مصادره التي كان ينقل عنها كلامه، ويكاد يكون هذا سِمَةً عامة في هذا الكتاب، وشذَّ عن هذا النزر القليل الذي صرَّح بالنقل عنه، وقد تمَّ الوقوف -بفضل الله تعالى- على أهم مصادره التي نقل عنها بعد طول التفتيش والبحث عن المسائل والأحكام التي كان يسوقها، وهي: * كتب التفسير والناسخ والمنسوخ: 1 - " تفسير الطبري". 2 - "معالم التنزيل" للبغوي. 3 - "التفسير الكبير" للرازي. 4 - "أحكام القرآن" لابن العربي. 5 - "أحكام القرآن" للجصاص. 6 - "الوسيط في التفسير" للواحدي. 7 - "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي. 8 - "الناسخ والمنسوخ" للنحاس. 9 - "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي بن أبي طالب. * كتب الفقه والشروح: 10 - " معرفة السنن والآثار" للبيهقي. 11 - "الأم" للإمام الشافعي. 12 - "الرسالة" للإمام الشافعي. 13 - "اختلاف الحديث" للإمام الشافعي. 14 - "الاستذكار" لابن عبد البر.
رابعا: أهمية الكتاب ومنزلته العلمية
15 - "التمهيد" لابن عبد البر. 16 - "المحلى" لابن حزم. 17 - "الحاوي الكبير" للماوردي. 18 - "الأحكام السلطانية" للماوردي. 19 - "البيان" للعمراني. 20 - "بداية المجتهد" لابن رشد، وقد أكثر في النقل عنه كثيرًا. 21 - "المجموع شرح المهذيب" للنووي. 22 - "شرح مسلم" للنووي. 23 - "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد. * رابعًا: أهمية الكتاب ومنزلته العلمية: يعدُّ هذا الكتاب نسيج وحدِه، وفريد عقده، ضمَّنه بدائع الفوائد، وروائع الفرائد، بأسلوب جزل رصين، واستنباط للأحكام بفهم دقيق متين، دون حشو أو تطويل، مقويًا حججه بالقرآن والسنة والإجماع والقياس، مستعينًا على الترجيح بعقل ثاقب، وذهنٍ صافٍ، بعيدًا عن التعصب والجمود، والتعسف والاشتطاط. وقد استفاد -رحمه الله- من علوم السابقين، وزاد مؤلِّفه على ذلك سلوكه طريقة المجتهدين في الاستنباط والاستدلال، فكان ذلك ميزة مهمة أضْفَتْ على الكتاب أهمية كبرى، خاصة عندما ترى المؤلف يفتخر بتحقيقاته وترجيحاته من غير كِبْر ولا غَمْط للآخرين (¬1). ¬
خامسا: وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق
فحقيق أن يجعل هذا الكتاب في مصافِّ كتاب "أحكام القرآن" لابن العربي، أو "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي، لما اشتمل عليه من صنوف العلم المبسوطة بجمل ميسَّرة يفقهها كلُّ مطالع، ولعلَّ ذلك سرّ تسميته كتابه بـ "تيسير البيان"، وقد قال -رحمه الله- عن أهمية كتابه هذا: "ولا ينكر شرف ما وضعته في كتابي هذا، في زمني هذا، في بلدي هذا، إلا جاهل عاند، أو متحامل حاسد، فنعوذ بالله من شر حاسد إذا حسد" (¬1). * خامسًا: وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق: تم الاعتماد في تحقيق هذا الكتاب الحافل على نسختين خطيتين هما: النسخة الأولى: وهي النسخة الخطية المحفوظة بجامعة برنستون في الولايات المتحدة الأمريكية، برقم (2377)، وتقع في (167) ورقة، في كل ورقة وجهان، وفي الوجه أربعون سطرًا تقريبًا. تبدأ بقوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين، وحسبي الله وكفى ونعم الوكيل، يقول العبد الفقير إلى الله الكريم محمد بن علي بن عبد الله بن إبراهيم بن الخطيب المعروف بابن نور الدين اليمني الشعبي الموزعي: الحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلَّمه القرآن ... ". وتنتهي بقول المؤلف: "وكان الفراغ من تعليقه صبيحة يوم الثلاثاء لخمس بقين من شهر جمادى الأولى سنة ثمان وثمان مئة، وأرجو من فضل الله الكريم وتمام نعمته أن ييسِّر لي وضع الكتاب الذي أهمُّ به في "أحكام القرآن المجيد المتعلقة بأصول الديانات، وصحيح الاعتقادات" بطريقٍ قد دَرَسَت، وآثار قد طُمست، ألا وهي طريق السلف الصالح، والأئمة الناصحين، الخالية من أضاليل الضالين، وزخرفة المبتدعين". ¬
النسخة الثانية
وجاء في آخرها اسم الناسخ وهو القاسم بن الحسين الحجي، وذلك صبح الجمعة، ثالث عشر شهر ذي القعدة سنة (1157 هـ). وهذه النسخة نسخة جيدة تامة، معتمدة في مجملها في الضبط والتوثيق. وتم الرمز لهذه النسخة بالرمز "أ" النسخة الثانية: وهي النسخة المحفوظة بمكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، تحت رقم (1765) وهي مؤلفة من جزأين، وتقع في (201) ورقة، في كل ورقة وجهان، وفي الوجه (30) سطرًا تقريبًا. الجزء الأول منها يبدأ بقوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قال الفقيه الأجل الأوحد العلامة جمال الدين محمد بن علي بن عبد الله بن الخطيب، عرف بابن نور الدين الموزعي اليمني الشعبي: الحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلَّمه القرآن ... ". وينتهي بقوله في آخر آية من تفسير سورة النساء: "وهذا ما انتهى إليه فهمي وبحثي في الكلالة، والله أعلم، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني، وأستغفر الله الغفور الرحيم". وفي نهايته قوله: "انتهى الجزء الأول من كتاب "تيسير البيان في أحكام القرآن" تأليف الشيخ الإمام العلامة المدقق المحقق أبي عبد الله محمد بن علي بن إبراهيم الخطيب رحمه الله تعالى ونفع به". أما الجزء الثاني: فيبدأ بقوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين، قوله جل جلاله: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ... ". وينتهي بقوله: "قال مؤلفه: وكان الفراغ من تعليقه صبيحة يوم الثلاثاء لخمس بقين من شهر جمادى الأولى من سنة ثمان وثمان مئة ... ".
سادسا: بيان منهج التحقيق
وفي آخره: "تم الجزء الثاني من تيسير البيان في أحكام القرآن". ولم يظهر في آخر هذا الجزء اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ. وهذه النسخة سيئة الخط، رديئة التصوير، وقد وقع في آخرها سقطان بمقدار أربع لوحات وتم الرمز لهذه النسخة بالرمز "ب" * سادسًا: بيان منهج التحقيق: 1 - نسخُ المخطوط وكتابته وفق الإملاء الحديث، وتصحيح الأخطاء الإملائية في صلب الكتاب، من غير إشارة إلى الفروق في الهامش. 2 - مقابلة النسختين (أ) و (ب)، وإثبات الأصح منهما في النص، مع الإشارة إلى الفرق في الحاشية. 3 - إدخال علامات الترقيم، وتفصيلُ فِقْرات الكتاب، والعناية التامة ببدء كل مسألة في سطر جديد، مع الإشارة أمامها إلى علامة (*)، فإن كانت الآية تتضمن عدة مسائل تحتها فروعٌ متعددة، وذلك بجعل علامة رأس المسألة الأم (•)، وعلامة المسائل الفرعية (*)، وكذلك الأمر في ذكر الأقوال، فإما الاكتفاء بتسويد رأس القول، أو بوضع علامة (-) قبله، إشارة إلى أنه قول مستقل. 4 - تفصيل الكتاب إلى وحدات موضوعية، بجعل كل جملة من الآيات ذات الموضوع الواحد ضمن وحدة مستقلة، وعنون لها بعنوانٍ دالٍّ عليها، بذكر -مثلًا- تحت عنوان (من أحكام الصلاة) جملة الآيات التي تم بيان أحكامها وتفسيرها، مع الاكتفاء بالإشارة هنا عن الإشارة في كل موضع بأن العنوان زيادةٌ منا للإيضاح.
5 - ترقيم الآيات المفسرة في كامل الكتاب، وذلك بإعطاء الرقم الأول الخالي من التقويس للرقم المتسلسل لآيات الكتاب قاطبة، والرقم الثاني المقوس لرقم الآية في السورة نفسها، مثاله رقم: 86 - (26)، فالرقم: 86 يعني أن هذه الآية السادسة والثمانين المفسرة من أول الكتاب، ورقم: (26) يعني أن هذه الآية هي الآية السادسة والعشرين المفسرة من سورة النساء، فإن كان المُفَسَّر أكثر من آية يتم إعطاء الآيات أرقامًا حسب عددها. 6 - ضبط الكلمات المشكلة والغريبة وشرحها، وردّ ذلك إلى المصادر التي تم اعتمادها من معاجم وغيرِها. 7 - توثيق جميع النصوص التي ذكرها المؤلف -رحمه الله-، بالرجوع إلى مصادرها، سواء ذكر المؤلف مصدره في ذلك أم لا. 8 - عزو الآيات القرآنية إلى أماكنها في المصحف الشريف، بذكر اسم السورة، ورقم الآية في متن الكتاب، وقد تمَّ إتمام جميع الآيات المفسرة تسهيلًا على القارئ، حتى لا يرجع إليها في المصحف الشريف، وقد اضطرنا ذلك لحذف كلمة (الآية) من كلام المؤلف بعد طرف الآية المختصرة، لأن المقصود منها قد تحقق. 9 - تخريج الأحاديث النبوية والآثار الموقوفة والمقطوعة، فإن كان ذلك في "الصحيحين" فإنه يكتفى بالعزو إليهما دون غيرهما، وكذلك إن كان في أحدهما، وإلا فيقتصر على كتب السنة الأربعة، وذلك بذكر رقم الحديث، والكتاب، والباب، فإن لم يكن فيتم تخريجه من بقية كتب الحديث المشهورة المعتمدة، وفي كل ذلك يتم ذكر اسم الصحابي الذي روى الحديث. 10 - تخريج الشواهد الشعرية، بعزو الشاهد إلى ديوان صاحبه، مع ذكر رقم القصيدة، ورقم البيت، والصفحة من الديوان، فإن لم يكن، ففي كتب
الأدب المعتمدة، كخزانة الأدب للبغدادي، والشعر والشعراء لابن قتيبة، وغيرهما. 11 - ترجمة الأعلام الوارد ذكرهم في الكتاب، وذلك بذكر اسم العلم ونسبه ولقبه، وما اشتهر فيه من فقه أو أدب أو أصول أو غيرها من العلوم، وما كان عليه حاله من الدين والورع والزهد وغير ذلك، ثم سنة وفاته، بإحالة ذلك كله إلى المراجع الأساسية في ترجمة كل علم: فإن كان من الصحابة: ذكرت ترجمته من كتب التراجم الخاصة بالصحابة، وإن كان من الحفاظ المحدِّثين ذكرت ترجمته من الكتب المختصة بتراجمهم، وكذلك إن كان من الفقهاء، أو من الشعراء، وجعلت لكل عَلَمٍ ثلاثةَ مراجع أو أربعةً للتوثيق. وذلك كله في (ملحق) تم في آخر هذا الكتاب تحت عنوان: "تراجم الأعيان في تيسير البيان". 12 - تخريج القراءات القرآنية المذكورة في الكتاب، وذلك بالإشارة إلى من قرأ بها، ثم الدلالة على موضع تخريجها في الكتب المعتمدة في التفسير والقراءات. 13 - تذييل الكتاب بفهارس علمية متعددة اشتملت على: 1 - فهارس الموضوعات التفصيلية، وما انطوت عليه السور والآيات من المباحث والمسائل. 2 - ملحق بتراجم الأعيان في تيسير البيان، تمَّ تضمينه بالأعلام الواردة في الكتاب، وقد قارب المئتي علم. 3 - فهرس آيات الأحكام (على ترتيب السور). 4 - فهرس آيات الأحكام (على الأبواب الفقهية).
5 - فهرس الآيات القرآنية الكريمة. 6 - فهرس الأحاديث النبوية الشريفة. 7 - فهرس الآثار والأقوال. 8 - فهرس القراءات. 9 - فهرس أسباب النزول. 10 - فهرس الأشعار والأرجاز. 11 - فهرس ترجيحات المؤلف واختياراته. 12 - فهرس الأعلام. 13 - فهرس موضوعات الكتاب العامة. هذا، وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، والحمد لله رب العالمين. * * *
صُورَ المخْطُوْطَاتَ
صورة غلاف النسخة الخطية لمكتبة برنستون بأمريكا، والمرموز لها بـ "أ"
صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية لمكتبة برنستون بأمريكا، والمرموز لها بـ "أ"
صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية لمكتبة برنستون بأمريكا، والمرموز لها بـ "أ"
صورة غلاف النسخة الخطية لمكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، والمرموز لها بـ "ب"
صورة اللوحة الأولى من الجزء الأول من النسخة الخطية لمكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، والمرموز لها بـ "ب"
صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الأول من النسخة الخطية لمكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، والمرموز لها بـ "ب"
صورة اللوحة الأولى من الجزء الثاني من النسخة الخطية لمكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، والمرموز لها بـ "ب"
صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الثاني من النسخة الخطية لمكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، والمرموز لها بـ "ب"
مقدمة المصنف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعينُ، وحَسْبِيَ اللهُ وكفى، ونِعْمَ الوكيلُ (¬1) يقول العبدُ الفقيرُ إلى اللهِ الكريمِ محمدُ بنُ علىِّ بنِ عبدِ الله بنِ إبراهيمَ ابنِ الخطيبِ، المعروفِ بابْنِ نورِ الدينِ، اليَمَنِيُّ الشَّعْبِيُّ المَوْزَعيُّ (¬2): الحمدُ للهِ الذي خلقَ الإنسان، وعَلَّمَهُ القرآن، وفَهَّمَهَ البَيان، ورَزَقَهُ الفَهْمَ والعِرْفان، أحمدُهُ بجميع محامدِهِ، ما علمْتُ منها وما لم أعلَمْ، وأشكرهُ على ما مَنَحَ وفهَّمَ وعَلَّم (¬3). وأشهدُ أن لا إله إلا الله الَّذي لا إِله إلا هُوَ، الفَرْدُ الصَّمَدُ، الواحِدُ الأحدُ، الذي لم يلِدْ ولم يولَدْ، ولم يكنْ له كُفُوًا أَحَد، وأنه اللهُ الَعِليُّ الكَبير، العليمُ الخَبير، الذي ليسَ كَمِثْلهِ شيءٌ، وهو السميعُ العليمُ البَصير. وأشهدُ أن اللهَ بعثَ عبدَه وصَفِيَّهُ محمدَ بنَ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المُطَّلبِ في العالَمين سِراجًا مُنيرًا، وأرسلَهُ إليهم بَشيرًا ونذيرًا، وأنزلَ عليهِ القُرآن الكريم هدًى للمتَّقين، ورَحْمَةً للعالمين، فلم يزل -صلى الله عليه وآله وسلم- للعالَمين ناصِحًا، ولأَعدائِهِ مُكافِحَاً، حتى أقامَ (¬4) المِلَّةَ الحَنيفيَّةَ ¬
على المَنْهَجِ القَويم، والصِّراطِ المُستقيم، مُبيِّنًا شرائعَ الإسلام، وقواعدَ الأَحكام؛ منَ الواجبِ والحَلالِ والحَرامِ، حَتَّى أَتاهُ اليَقين. وقد أتمَّ الله بهِ الدينَ المُبينَ، فجزاه اللهُ عَنّا أَفْضَلَ الجزَاءِ، وجَمَعَ شَمْلَنا به في دارِ البقاءِ. ثمَّ خَلَفَ من بعدِهِ خُلَفاءُ حَقٍّ، وأُمَنَاءُ صِدْقٍ، فنصحوا لأُمَّتهِ (¬1)، فعلَّموهُمْ من حكمتهِ ما عَلِموهُ، وفَهَّموهم من بيانِهِ ما فَهِموهُ، وأَظْهروا لهمِ ما اجْتَهدوا فيه واستَنْبَطوهُ، فرضيَ اللهُ عنهُمْ وأَرضاهُمْ، وفي أَعْلى الجِنان بَوَأَهُمْ. ثمَّ لم يَزَلْ بفضلِ اللهِ ورَحْمَتِه في هذه الأمَّةِ في جَميعِ أعصارها، واخْتِلافِ أَطوارِها مَنْ ينقُلُ لِخَلَفِها عن سَلِفها مِنْ وِفاقِها وخِلافِها، ويُظهرُ بالبحثِ أنوارَها، بالاستِنْباطِ أسرارَها، حَتَّى جَعَل (¬2) اللهُ سبحانَهُ القائِمَ بذلكَ في عصرِهِ نورًا للأَنامِ، وعَلَمًا للأَعْلام، وإِمامًا للأَئِمَّةِ الكرامِ؛ لقيامِهِ بهَذا الدينِ المتينِ، ونصيحته للهِ رَبِّ العالَمين. ولَمَّا كانَ القيامُ يَفي بهذهِ النَصيحةِ العَظيمةِ، والوَظيفَةِ الكَريمَةِ، بهذا المنصِبِ الأَسْنى، والمَحَل الأَعْلى، إِمّا دِيْنًا لا يَسَعُ تَرْكُهُ، أو فَريضةً لا يدعُها إلا من سَفِه نفسَهُ، استَخَرْتُ اللهَ الكريمَ الحكيمَ (¬3) العليمَ في تصنيفٍ صغيرٍ حجمُه، خفيفٍ حَمْلُه، كثيرٍ نَفْعُهُ، كبير قَدْرُهُ، يكونُ تَنْبيهًا للطالبينَ، على مَناهِجِ العُلماءِ السَّالفينَ؛ في استخراجِ الأَحْكامِ، ومعرفةِ الحَلالِ والحَرامِ، ليتعلموا صَنيعَهُمْ، ويَقتْفوا أَثَرَهُمْ بسابقِ فَضْلِ اللهِ عليهِمْ، ورحمتِهِ لهُمْ. ¬
ولَعَمْري إِنَّها طريقةٌ دَرَسَتْ آثارُها، وأَفَلَتْ أنوارُها، وعُطِّلَتْ أعلامُهَا، وعَدِمَتْ قُوّامُها. ولقد طَلَبْتُها زمنًا طويلًا، فلم أجدْ لها دَليلًا، ولا بها كفيلًا، إلا كما قالَ الأوّل (¬1): [البحر البسيط] فَمَا وَجَدْتُ بِهَا شَيئًا أَلُوذُ بِهِ ... إلاّ الثُّمَامَ وَإلّا مَوقِدَ النَّارِ فحينئذٍ جعلتُ أدعو اللهَ الكريمَ، البَرَّ الرَّحيم، في الاهتداءِ لسبيلِهِمْ، والاقْتِفاءِ لِطريقِهمْ، والاغْتِرافِ منْ بَحْرِهمْ، والاعْتِلالِ منْ نَهرِهِمْ، وابْتَهَلْتُ إليه -سُبْحانه- في مَظانِّ الإِجابَةِ للدَّعَواتِ، وإنْزالِ الرَّغَباتِ، فَرَحِمَني اللهُ الكريمُ بفضلِهِ، فَبيَّنَها لي بعدَ درُوسها، وأَوْضَحَها بعدَ طُموسها، فللَّهِ الحَمْدُ ربِّ العالمين، وأرجو مِنْ فضلِ (¬2) اللهِ الكريمِ ورحمتِهِ أن يُظْهِرَ في الآفاقِ هذهِ الطريقةَ، ويقطعَ منها الاْنْقِطاعَ والتَّعويقَ، وتُدْرَكَ بعدَ فَوتها، وتُحيا بعدَ موتها، أليسَ اللهُ بقادرٍ على أَنْ يُحْيِيَ المَوْتى؟! ولا يُنْكِرُ شَرَفَ ما وضعتُهُ في كتابي هذا، في زَمني هذا، في بلدي هذا، إلا جَاِهلٌ عَانِدٌ، أو مُتَجامِلٌ (¬3) حاسِدٌ، فنعوذُ بالله من شَرِّ حاسدٍ إذا حَسَدَ. وإنِّي في خيرِ حالاتي؛ بل في جَميعِ أوقاتي قَدِ امتلأَ القلبُ والقالَبُ شُغْلًا وهَمًّا، ودَينًا (¬4) وغُرْمًا، وظُلْمًا وهَضْمًا: [البحر الطويل] خَليِليَّ رِفْقًا رَيْثَ أَقْضي لُبانةً ... من العَرَصاتِ المُذْكِراتِ عُهودا (¬5) ¬
أما واللهِ الأَعَزِّ الأَكْرَمِ، اللَّطيفِ الأَرْحَمِ، لولا أَلْطافُهُ الخفِيَّةُ، ومراميه الحَفِيَّة، التي أخرها وسَهَّلَ مَجْراها على يدِ عبدِهِ الذي مَلَّكَهُ في أَرْضِهِ، واستَوْدَعَهُ دينَهُ، واستأْمَنَهُ على خَلْقِهِ، أَلَا وهوَ الإمامُ الأَعْلَمُ، القاِئمُ الأَقْوَمُ، المُسْتَمْسِكُ بحبلِ اللهِ الأَعْصمِ، ذو المَجْدِ الأَشْرَفِ، والمُلْكِ الأَصيلِ الأَعْرفِ: أبَو العَبَّاسِ، ذو النَّجْدَة والبأسِ، صلاحُ الدُّنيا والدِّين، المَلِكُ النّاصِرُ أَحْمَدُ بْنُ المَلِكِ الأَشْرَفِ إِسماعيلَ بْنِ المَلِكِ الأَفْضَلِ هو العَبَّاسُ بنُ المَلِكِ المُجاهِد عَليِّ بْنِ المَلِكِ المُؤَيَّدِ داودَ بْنِ المَلِكِ المُظَفَّرِ يوسُفَ بْنِ المَلِكِ المَنْصورِ عُمَرَ، بَرَّد اللهُ مَضَاجِعَهُم، وآنسَ برحمتِهِ مَهاجِعَهُمْ، ألا وهوَ مَلِكُ اليَمَنِ، رَفيعُ الفَنَنِ، رحَيبُ العَطَنِ (¬1)، عَيْنُ مُلوكِ الزَّمَن، ضاعفَ اللهُ الكريمُ صَلاحَهُ وفلاحَه، وأصلحَ اللهُ لنا بدولتِه الظاهِرَةِ، وصولَتِهِ القاهِرَةِ دِينَنَا ودُنْيانا، وأتمَّ بهِ نِظامَ أُولانا وأُخرانا. ولَمّا أوجبَ اللهُ -سُبْحانه- على الكافَّةِ مِنْ خلقِهِ أَداءَ شُكرِهِ، والقِيامَ بواجبِ حَقِّهِ، رأيْتُ إتحافَ هذا المَلِكِ الجَليلِ السَّيَدِ الأصيلِ بهذهِ التُّحْفَةِ السَّنِيَّةِ، والزُّلْفَةِ الهَنِيَّةِ (¬2)، فَعَلْتُ ذلكَ لِذلِك، ورَغْبَةً فيما هنُالِك، وتَحَبُّبًا ¬
إلى قلبِه، وتأديةً لِحَقِّ ربِّنا وحَقِّه (¬1). وأسألُكَ -اللَّهُمَّ- تيسيرَ ذلكَ وتسهيلَهُ، وتحقيقَهُ وتكميلَهُ، وأَرْغَبُ إليكَ في إخلاصِ العملِ لكَ، وصِدْقِ الإيمانِ بكَ، وما توفيقي إلا باللهِ، عليهِ تَوَكَّلْتُ، وإليهِ أُنيبُ. وها أنا مُقدِّمٌ، في أوَّلِ كتابي هذا الذي قصدتُ به بيانَ أحكامِ القرآنِ، وسمَّيْتُهُ: "تَيْسِيْرُ البيانِ (¬2) لِأحْكَامِ القُرْآنِ" ما رويته في "صحيح مسلم" عن تَميمٍ الدَّارِيِّ -رضي اللهُ عنهُ-: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدينُ النصيحةُ؛ للهِ، ولرسولهِ، ولكتابِهِ، ولأئمةِ المسلمينَ، وعامَّتِهمْ" (¬3). فإذا كانَ ذلكَ كذلكَ (¬4)، فاعلَمُوا أنَّ النصيحةَ للهِ -جَلَّ جَلالُهُ- هيَ توحيدُه وتنزيهُه، وتعظيمُه وشكرُه، والقيامُ بعبوديتِه في مُلْكِهِ ومَلَكوتِهِ، واجتنابُ نَهْيِهِ، وامْتثالُ أَمْرهِ، وقَبولُ إرشادِهِ وتأديبِهِ، ولكنْ لا يقومُ العَبْدُ بطاعتِه إلاّ بعدَ الاهْتِداءِ بكتابهِ العَزيز. قال اللهُ -جَلَّ جَلالُهُ-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. ¬
فصل
وقال تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]. وقال تبارَكَ وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 174 - 175]. واعلموا أنَّهُ لا اهْتِداءَ بِكتابِ الله -تبارَكَ وتعَالى- إلَّا بعدَ عِلْمِهِ، وعِلْمِ سُنَّةِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّمَ-. قال تباركَ وتعَالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 52 - 53]. واعلَموا أنهُ لا معرفةَ لكتاب اللهِ تَعالى، ولا لِسُنَّةِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّم- إلَّا بعدَ معرفةِ اللِّسانِ العربِيَّةِ، والسَّجيَّةِ القُرَشِيَّةِ، ألاَ وهِيَ لُغَةُ رسَولِ اللهِ، صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ. * * * فصل واعلموا -أَرْشَدَكُمُ اللهُ الكريمُ-: أَنَّ الله -جَلَّ جلالُهُ، وتَقَدَّسَتْ أسماؤهُ- اصْطَفى عبدَهُ ورسولَهُ مُحَمداً -صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ- مِنْ أَزْكى العَرَبِ أَصْلاً، وأَعْظَمِهِمْ فَضلاً، وأَشْرَفِهِمْ قَدْراً، وأَفْضَلِهِمْ داراً، ولم تَزَلِ العربُ في سالِفِ الأَزْمانِ تَعْرِفُ ذلكَ لِقُرَيْشٍ، وتُعَظِّمها وتَعُزِّزُها وتُوَقِّرُها، وتَتَحاكمُ إِليها في أمُورها، وتتعلمُ منها مناسِكَها وآدابَها، وتُسَمِّيها آلَ اللهِ.
روينا في الصَّحيحَينِ عن أَبي هريرةَ -رضيَ اللهُ عنهُ-: أَنَّ النبيَّ -صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّم- قال: "النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ في هذا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ، وكِافرُهُمْ تَبَعٌ لِكافِرِهْم" (¬1). وروينا في صحيحِ مسلمٍ عن واثِلَةَ بنِ الأَسْقَعِ -رضيَ اللهُ عنهُ- قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ اللهَ اصْطَفى كَنِانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسماعيلَ، واصْطَفى قُرَيْشاً مِنْ كِنانَةَ، واصْطَفى مِنْ قريشٍ بني هاشِمٍ، واصْطفاني منْ بني هاشِمٍ" (¬2). وأَجْمَعَ أهلُ العلمِ بكلامِ العربِ ولغاتِها، وخُطَبها وأشعارِها وأَيّامِها وأَحْوالِها (¬3) أَنَّ قريشاً أَفْصَحُ العربِ لِساناً، وأحسنُهم بَياناً، وأصفاهُم لغةً، وألطفهم بِنَاءً، وما ذاك إلا لِمَكانَتِهم (¬4) من نبيِّ اللهِ وصَفِيِّهِ مُحَمَّدٍ -صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ- فجعلَهُمْ حَضَنَةَ بيتِهِ، وسُكَّانَ حَرَمِه، حَتَّى وردَتْ عليِهم وفُودُ العَرَبِ وفُصحاؤها، وتَخَيَّروا (¬5) من كلامِها وبيانِها أحسنَ لُغاتِها، وأَصْفى كَلامِها، مع ما طُبعوا عليهِ منْ لسانِهِمُ الفصيحَةِ، وسَجِيَّتِهم البَليغةِ. ¬
ثم (¬1) إِنَّ اللهَ أَنشْأَ مُحَمَّداً -صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّمَ- ورَبَّاه في القَومِ الفُصَحاءِ، والعَرَبِ البلُغاءِ: بَني سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. قال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ-: "أنا أَفْصَحُ العَرَب، بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ، وإِنِّي نَشأْتُ في بنَي سَعْدِ بْنِ بكْرٍ" (¬2). وهؤُلاءِ منَ الذينَ قالَ فيهم أبو عَمْرِو بْنُ العَلاء: أَفْصَحُ العَرَبِ: عُليا هَوازِنَ، وسُفلى تَميمٍ (¬3). ثم أنزلَ اللهُ -جَل جَلالُهُ- عليهِ القُرآنَ المَجيدَ باللَّسانِ العربيِّ المُبينِ. قال اللهُ تباركَ وتعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195]. وأنزلَهُ على سبعة أحرُفِ من قبائلِ العرب المَجْبولين على الفَصاحَة واللَّسَنِ والكَيْس (¬4) والبَلاغَةِ؛ لُطْفاً منُه بهِم؛ لِكَيْ يَفهموهُ، ورِفْقاً بهم ليَتْلوهُ ¬
فصل
ويَقْرؤوهُ، وحُجَّةً عليهِمْ لِئَلاً يَجْحَدوهُ، فبيّنَ لَهُمْ -جَلَّ جَلالهُ- ما فيهِ صَلاحُهُمْ ورُشْدُهم، وفلاحُهم في دِينِهم ودُنْياهُم؛ مِنْ صَلاتِهِمْ وزَكاتِهِم وحَجِّهِم وصِيامِهم، ومُناكَحَتهِم ومعُاملاَتهم، وأَكْلِهم وعاداتهم، ومكارِم أخلاقِهم التي شَرُفوا بها على أمثالهم، وبيّن الله -سبحانه وتعالى- فيهِ منَ المباحِثِ القُدْسِيّاتِ، والبَراهينِ القَطْعِيّاتِ، والأَحْكامِ الَبيِّناتِ، والسِّياساتِ القَيِّمات، وتَهْذيبِ النفسِ من النقائِصِ المُسْتَقْذَراتِ، وتَزْكِيتها بالأخلاقِ الزَّكِيّاتِ، وغيرِ ذلك منَ العلومِ الغَزيراتِ، فعملوا منهُ بما عَلِموا (¬1)، وتَفَهَّموا من رسولِ اللهِ (¬2) -صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّم- ما لم يفهموا، إذْ جعلَ اللهُ -سُبْحانهُ- إليه بيان القرآنِ العَظيم، فَمَنْ قبِلَ عنهُ -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّمَ- فَعَنِ اللهِ قَبِل. قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]. * * * فصل واعلموا أنَّ اللهَ تَعالى أوجبَ على نبيِّه -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّم- بيانَ ما أَنْزَلَ عليهِ، وجَعلَ بيانَ ذلكَ إليهِ، وخَصَّه بهذا المَنْصِبِ الشَّريفِ الأَعْلى، زادَهُ الله الكريمُ شَرَفاً وفَضْلاً، وقالَ -جَلَّ وعلا- {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. ثمَّ اعلَموا أَنَّ بيانَه لأمتهِ مِنْ ثلاثةِ أَوْجُهٍ، فَوَجْهانِ مُتَّفَقٌ عليهما عندَ أهلِ العِلم، وفي الثِالثِ اختلافٌ عندَهُمْ: ¬
فصل
الوجه الأول: ما نصَّ اللهُ -جَلَّ جَلالهُ- عليه، وأَحْكَمَ فَرْضَهُ، وَبَيَّنهُ بأوضَحِ بَيانٍ، ثُمَّ بَيَّنه النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّم- إِمَّا بقَوْلٍ، أَو فِعْلٍ، كَما بَيَّنه اللهُ -جَلَّ جَلالهُ-. الوجه الثاني: ما نصَّ اللهُ تَعالى عليهِ جُمْلَةً، وأَحْكَمَ فَرْضَهُ، وجعلَ إلى نبيِّه -صَلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّم- بيانَ تِلْكَ الجُمْلَةِ، فبيَّنَ مَواقيتَها وأَحْوالَها، وفَرائِضَها، وآدابَها، ومقدَّماتِها، ولَواحِقَها، وبيَّنَ على مَنْ تَجبُ، وعَمَّن تَسْقُطُ، وكيفَ يأتي بها العبدُ، وغيرَ ذلكَ مِنَ الأحوال. الوجه الثالث: ما سَنَّ رسولُ اللهِ مِمَّا لمْ يردْ فيه كتابٌ، وهذا هو المختلَفُ فيه، فمنهُمْ من قال: جعلَ اللهُ لهُ ذلك؛ لِما خَصَّه منْ وجُوبِ طاعَتِه، وتوفيقِه لِما يرضاه، وعصمَتِه لهُ عن الخَطَأ أَنْ يَسُنَّ فيما لمْ يردْ فيه كتابٌ، وإليهِ ميلُ الإمامِ أبي عبدِ الله الشافعي -رضيَ اللهُ عنه (¬1) -، ومنهمْ من قالَ: لم يَسُنَّ سُنَّةً قَطُّ (¬2) إلا ولَها أصلٌ في كتاب الله تعالى. * * * فصل وَلمّا كانَ خِطابُ اللهِ -تبارك وتعالى- وبيانُ رسولِه -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّمَ- معَ العربِ بلسانِهمْ وسُنَّتِهم في كَلامِهِمْ، فلا سبيلَ إلى معرفةِ خِطابِ اللهِ -جَلَّ جلالهُ- وبيانِ رسولهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّم- إلا بعدَ معرفةِ لُغَتِهم، وصنوفِ معَانيهم، وأسرارِ مبَانيهم. فواجبٌ عليكَ أَيُّها الأَخُ تَعَلُّمُ لُغَةِ العَربِ؛ لتعلمَ بها خطابَ الله -جَلّ جَلالُه- وبيانَ رَسولهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ-. ¬
قال أبو عبدِ اللهِ الشافِعُّي -رضي اللهُ عنهُ-: ولا يَعلمُ مِنْ إيضاحِ جُمَلِ عِلْمِ الكتابِ أحدٌ جهلَ سَعَةَ لسانِ العربِ وكثرةَ وجُوهِه، وجِماعَ مَعانيهِ، ومَنْ علمَ ذلكَ انتفتْ عنه الشُّبَهُ التي دخلتْ على من جَهِل لسانَها (¬1). ثم اعلَموا أن أهلَ العلمِ قد قَسَّموا لغةَ العربِ إلى أربعةِ أقسامٍ، وأفردوا كلَّ قسمٍ منها بتصنيفٍ: فالقسمُ (¬2) الأولُ: علمُ الغَريبِ؛ كالعلمِ بالأسماءِ؛ كأسماءِ الأسَدِ والذِّئبِ والإِبِلِ والخَيْل، وأسماءِ السِّلاحِ والفَيافي والقِفارِ (¬3)، وغيرِ ذلكَ، وكالعِلْمِ بالأفعالِ وتصاريفِها، ويكفي أَهْلَ النَّظَرِ والفُتْيا (¬4) منهُ طَرَفٌ يعرفونَ بهِ الألفاظَ الدائرة في الكتاب والسُّنَّةِ، ولا يضرُّهُمْ جَهْلُ ما وراءَ ذلكَ من حُوشِيِّ اللُّغَةِ وغَريبها؛ لسهولةِ ألفاظِ القرآنِ والسُّنَّةِ، وسَماحتِها، وخُلُوِّها عنِ الألفاظ الحُوشِيَّةِ غالِباً. وقد أفردَ أهلُ العلمِ غريبَ القرآنِ والسُّنَّةِ بالتَّصانيفِ الكافيةِ المفيدةِ (¬5). والقسمُ الثاني: علمُ النَّحْوِ، وهو: معرفةُ قوانينَ كُلِّيَّةٍ نتوصَّلُ بها إلى ¬
معاني الكلامِ، [ومعرفة الصوابِ من وُجوه الخِطابِ. وذلكَ كتقسيم الكلامِ] (¬1) إلى: اسمٍ وفِعْلٍ وحَرْفٍ جاءَ لِمَعْنًى. وتقسيمِ الاسمِ إلى: مُعْرَبٍ وَمبْنِيٍّ، ومَقْصورٍ ومَنْقوصٍ، وغيرِ ذلكَ من الأنواعِ. وتقسيم الفعلِ إلى: ماضٍ ومستقبلٍ وأمرٍ، ومُتَعَدٍّ وغَيْرِ مُتَعَدٍّ، وغَيْرِ ذلك من الأَقسام. وتقسيمِ الحُروفِ إلى عَوامِلَ وغيرِ عَواملَ، وإلى رافعةٍ وجارَّةٍ وناصِبَةٍ، وبهذا العلمِ أيضاً تتميز بعضُ المعاني من بَعْضٍ. وقَدْ نصبَ اللهُ الكريمُ أقواماً دَوَّنوا هذا الفنَّ، وحفِظوا بهِ كتابَ اللهِ -تبارك وتعالى- منَ التَّحْريفِ والتَّخْليطِ، وإمامُهم أَبو الحَسَنِ عليُّ بنُ أبي طالِبٍ -رضيَ اللهُ عنه (¬2) -. ويَكفي أهْلَ النظرِ (¬3) والفُتْيا منهُ طَرَفٌ يعرفونَ بهِ وجُوهَ الإعرابِ الدائِرَةَ في الخِطابِ، ويعرفونَ منهُ المعانيَ المتعلقَةَ بالحروفِ، وما أشبَهَها منَ الأسماءِ والظُّروفِ. وقدْ وضعْتُ في مَعاني الحُروفِ "جُزْءاً" (¬4) في نحوِ مِئَةِ وَرَقَةٍ بما فيه مَقْنَعٌ -إنْ شاءَ اللهُ تعالى- ولا يضرُّ المُفْتِيَ جَهْلُ ما وراءَ ذلكَ، وإن كانَ علمُه فضيلَةً، لا يَجْهَلُها إلَّا من ضَلَّ رأيُه، وذهبَ نورُه. ¬
والقسمُ الثالثُ: العلمُ بما يتعلقُ بتركيب الكلامِ وتأليفِه، وتَحْسينِه وتَرْصيفِه، على مُقْتَضى الخَصائِصِ ومَقاماتِ الأحوالِ؛ إذْ مقاماتُ الكلامِ متفاوِتَةٌ. فَمَقامُ التَّنْكيرِ يُباينُ مقامَ التَّعريفِ، ومقامُ الإِطلاقِ يُباينُ مَقَامَ التَّقييدِ، ومقامُ الذِّكْرِ يُباينُ مَقامَ الحَذْفِ، ومقامُ الإيجازِ يُباينُ مقامَ الإِطْنابِ. وهذا يُسَمَّى: عِلْمَ المعَاني والبَيان. وهذا لا يَحتاجُ إليهِ أهلُ النظرِ والفُتْيا، وإنَّما يَحْتاجُ إليهِ الذي يطلبُ الكَشْفَ عن وجهِ إِعْجازِ القرآنِ، وضَروَرةُ الأدباِء والشعراءِ إليهِ شديدةٌ، بلْ هوَ عُدَّتُهم العَتيدَةُ. والقسم الرابع: وإليهِ ضَرورةُ أهلِ النَّظَرِ والفُتْيا والمُفَسِّرينَ وسائرِ العُلماءِ، وهو معرفة رُسُومِ العرَبِ في خِطابِها، وسُنَنِها في كلامِها، واتِّساعِ معانيها، وأسرارِ مَبانيها، ودَقيقِ إشارتها، ولطيفِ عِبارتِها. فمنْ سُنَّةِ العَرَبِ فِي كلامِها أنها تُسَمِّي الشيءَ الواحدَ بالأسماءِ الكثيرةِ، وتسمي بِالاسمِ الواحدِ المَعانِيَ الكَثيرةَ، وتأتي بالكلام بَيِّناً، وتأتي بهِ مُشْكِلاً، وتخاطبُ باللَّفْظِ العامِّ (¬1) وتريدُ بِه العامَّ، وتخاطبُ بالعامِّ وتريدُ بهِ الخاصَّ، وتخاطبُ بالخاصِّ وتريدُ به الخاصَّ، وتخاطبُ بالخاصِّ وتريدُ بهِ العامَّ، وتُطْلِقُ الكلامَ وتقُيِّدُهُ، وتذكرُ الاسمَ مَقْروناً ببعضِ صِفاته، وتريدُ نَفْيَ ما عداهُ، وقدْ لا تريدُ، بلْ هو وغيرُه سَواءٌ، وتأتي بالكلامِ على حقيقتِه، وعلى غيرِ حقيقتِه، فتزيدُ وتَنْقُص، وتُظْهِرُ وتُضْمِرُ، وتقدِّمُ ما يَنبغي تأخيرُه، وتؤخِّرُ ما يَنبغي تقديمُه، وتستعملُ في كلامِهَا الاستعارةَ والتشبيهَ، والمُحاذاة والمُقابَلَةَ كَثيراً، وتأتي بالأمرِ على وَجْهِهِ، وتَأتي بهِ ¬
على غيرِ حقيقَتِهِ، وكذلكَ تفعلُ في النَّهْيِ والخَبَرِ أيضاً، وتأتي بالكلامِ يُعْرَفُ من سِياقِهِ أنهُ أُريدَ بهِ غيرُ ظاهرِهِ، وقَدْ يُعرفُ ذلك في أولِ كلامِها وآخِره ووسطِه، وتبَتدِئُ بالكلامِ ويُنْبِئُ (¬1) أولُ لفظِها فيه عن آخره، وتَبْتدئُ بالكَلام وينبئُ (¬2) آخرُ لفظِها عن أوَّلِهِ، وهو أكثرُ منْ ضِدِّهِ، وقد يكونُ البيانُ مُتَّصِلاً بالكلامِ الأَوَّلِ، وقد يكونُ مُنْفَصِلاً، وتتكلمُ بالشيءِ تعرفهُ بالإيماءِ دونَ الإيضاحِ باللَّفظِ. قال الشافعيُّ: ويكون ذلكَ عندَها من أعلى كلامِها؛ لانفرادِ أهلِ عِلْمِها به (¬3). وجميعُ هذهِ الأقسامَ بَيّنةٌ متقاربةُ الاستواءِ عندَ العربِ، وإن كانَ بعضُها أَشَدَّ بياناً من بَعْضِ، مُتفاوِتَةٌ عندَ مَنْ يَجْهَلُ لِسانَها؛ لأنَ أقلَّ البيانِ عندَ العربِ كافٍ، إنَّما يريدُ بهِ السامعُ فَهْمَ قولِ القَائلِ، فأقلُّ ما يُفْهِمُ بهِ كافٍ عندَهُ. وهذا هو الذي اعتمدَهُ أهلُ النَّظَرِ والفُتْيا في اسْتِنباطِ الأحْكام، ومَعْرِفَةِ الحَلالِ والحَرام، فَسمَّوْهُ (¬4): أصولَ اللُّغَةِ. وأولُ منْ أبرزَ ذلكَ وأظهرَهُ الإمامُ أبو عبدِ الله محمدُ بنُ إدريسَ الشافِعِيُّ -رضيَ اللهُ عنُه- لا منازَعَةَ في ذلكَ؛ ولا مِرْيَة؛ ولأجل مَعْرِفتهِ بلسان العربِ واتِّساعِ معانيها صارَ إِماماً للأئمةِ الهادين والعلماءِ المجتهدين -رضي اللهُ تعالى عنهمْ أجمعين-. وقد سَمَّى بعضُ عُلماءِ اللسانِ -وهو الإمامُ أبو الحسين أحمدُ بنُ فارسٍ- ¬
- هذا النوعَ من اللغةِ: أصولَ اللُّغَةِ، وسَمَّى غيرَهُ: فَروعَ اللغةِ. ولما كانَ لاَ تَتِمُّ معرفةُ خِطابِ اللهِ -جَلَّ جلاَلهُ- إلا ببَيانِ رَسولِ الله -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسَلَّم- كَمَا قَدَّمْتُ، وكان فِي السُّنَّةِ علَلٌ لا تَتَعَلَّقُ باللُّغَةِ= وضعَ أهلُ العلمِ للمعارَضَةِ الصحيحة (¬1) عِلمَ النَّسْخِ، وَبيَّنوا عِلَل السُّنَّةِ، وقَسَّموها أَقْساماً وأنواعاً. ولما كانتِ الألفاظُ لا تَفي بالحوادِثِ، نَصبَ الشارعُ علاماتٍ وأَماراتٍ يَهتدي بها أهلُ العِلم إلى اسْتِنْباطِ الأَحكامِ، فوضعوا لذلك عِلْمَ الِقياسِ، وبينوا قَوِيَّهُ وضَعيِفَهُ، وصَحيحَهُ وفاسِدَهُ، ورِاجحَهُ وأَرْجَحَهُ، وصَحيحَهُ وأَصَحَّهُ، وسَمَّوا جميعَ هذهِ الجُملِ المذكورةِ: أَصولَ الفِقْهِ. وحقيقته حينَئِذٍ أنه: قوانينُ كلِّيَّة يُتَوَصَّلُ بها إلى استخراجِ الأحكامِ الشرعيةِ. * وسأُبيِّنُ ما أَشَرْتُ إليهِ من صنوفِ هذهِ اللُّغَةِ الشريفة بمقدمةٍ ينتفعُ بها طالبُ هذا النحوِ، ويستدلُّ بها على ما وراءها من معاني اللغةِ، فوراءَ ذلكَ ما لا يُحْصَى. قالَ الشافعيُّ: ولا نعلمُ أحداً يُحيطُ بجميعِ علم (¬2) لسانِ العربِ غيرَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم- ولكنَّه لا يذهبُ منه شيءٌ على عامتها، حَتَّى لا يكونَ فيها موجودٌ من لا يعرفها، كما نَقولُ في عِلْمِ السُّنَّةِ (¬3). * * * ¬
مقدمة جامعة في أصول الفقه والتفسير
مقدِّمة جَامِعَة في أصول الفقه والتَّفسِيْر
القول في الأسماء المفردة
القولُ في الأسماءِ المُفْرَدَةِ * اعلموا -رحمكمُ الله تعالى- أنَّ من سُنَّةِ العَرَبِ أن تُسَمِّيَ الأشياءَ المختلفةَ بالأسماءِ المُخْتَلفَةِ؛ كالرَّجُل، والفَرَس، والحِمار، والبُرِّ، والشّعيرِ؛ لاختلافِ مُسَمَّياتها. ويُسمِّي الأُصوليّونَ هذا النوعَ: الأسماءَ المُتبايِنَةَ (¬1). وتُسَمَّى الأشياءُ الكثيرةُ بالاسم الواحِد: 1 - فقْد تكونُ تلكَ الأشياءُ متفقَةً من جميعِ الوُجوه؛ كالإِنسان، والمُشْرك (¬2)، واللونِ، والثَّمَر (¬3)، وغيرِ ذلكَ من أَسْماءِ الأجناسِ، ويسمُّونها: الأسماءَ المتُواطِئَةَ؛ لِتَواطُئِها على معانيها (¬4). وحكمُ هذا النوعِ إذا وَرَدَ في كتابِ اللهِ -تباركَ وتَعالى- أو سُنَّةِ نبيّه -صَلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّم- أن يُحْمَل على ما يقْتضيهِ اللَّفْظُ. ¬
فإنْ كانَ اللَّفْظُ يقتضي العُمومَ، حُمِلَ عليهِ؛ كقولِك: اقْتُلِ المُشْرِكَ، فيُحمل على كلِّ مشركٍ، يَهوديًّا كانَ أو نَصْرانياً أو وَثَنِيًّا. وإن كانَ اللفظُ يَقتضي التَّخصيصَ، حُمِل عليهِ؛ كقولك: اقْتُلِ المُشْرِكَ النَّصْرانِيَّ، أو: اقتلْ مُشْرِكاً نَصْرانِيًّا (¬1). 2 - وقدْ تكونُ تلكَ الأشياءُ مختلفةَ المعاني: كالبيْضَةِ، فإنَّها تقعُ على بَيْضَةِ الدَّجاجِ والنَّعامِ، وبيضَةِ الحَديد. وكالعَيْنِ؛ فإنَّها تقعُ على العَيْن الناظِرَةِ، وعلى عَيْنِ الذَّهَبِ، وعَيْنِ الماءِ، وعَيْنِ المِيزانِ. وكالجَوْن (¬2)، فإنَّهُ يُطلَقُ (¬3) على الأبيضِ والأسودِ، ويُسَمَّى هذا النوعُ: الأسماءَ المُشْتَرَكَةَ (¬4). وأنكرَ قومٌ (¬5) لا يُعْتَدُّ بهم هذا النوعَ منَ الأسماءِ، وقالوا: لا تأتي (¬6) العَرَبُ باسمٍ واحدٍ للشيءِ وضِدِّهِ. والدليلُ على ما قُلناهُ أنَّ الذينَ رَوَوْا عنِ العربِ الأسماءَ المُتباينَةَ ¬
والمُتواطِئَةَ، همُ الذين رَوَوْا عنهمْ تَسمية المُتَضادَّةِ باسمٍ واحد، وهم الواسطةُ بينَنا وبينَ العرب (¬1). وحكمُ هذا النَّوع أن يُحْمَلَ على ما يَقتضيهِ اللفظُ: فإن كانَ اللفظُ يقتضي التَّخْصيص؛ حُمِلَ عليه؛ كما إذا قال: أَعْطِني بَيْضَةَ الحَرْبِ، أو عَيْناً أَشتري بها مَتاعاً، أو الجَوْنَ الأبيضَ. وإن كانَ اللفظُ يقَتضي العُمومَ والإطْلاَق؛ كما لو قالَ لعبدِهِ: أَعْطِني البَيْضَةَ، وأَعْطِني العَيْنَ، وأَعْطِني الجونَ، حُمِل عليهِ عِنْدَ الشافِعيِّ -رحمهُ اللهُ تَعالى- وعِدَّةٍ يسيرة منَ الأُصولِيِّين (¬2)، والجمهورُ على خلافِهِ. فلا يصيرُ العبدُ مُمْتَثِلاً عندَهُ إِلاّ إذا أتى بجميع ما يقعُ عليه اسمُ البَيْضَةِ، وبِجميعِ ما يقعُ عليهِ اسمُ العَيْنِ والجَوْنِ، والدليلُ عليهِ أنَّ الحَمْلَ على الجَميع غيرُ مُسْتَحيلٍ، واللَّفْظُ يصلُح لهُ، فَحُمِلَ عليه بِمُقْتَضى اللُّغَةِ. نَعَمْ إذا دَلَّ العقلُ أو الشرعُ على أنَّ المرادَ بهِ شيءٌ بعَيْنِهِ، ولم نَتَبَيَّنْهُ في اللفظِ؛ كقولِهِ -تعالى-: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وقد دلَّ الدليلُ على أن المرادَ واحدٌ بعينه، إمّا الحَيْضُ، أو الطُّهْرُ، ¬
فهذا يكون مُشكِلاً مُجْمَلاً، لا يُعَرفُ مَعْناه من لفظِهِ، وإنما يعُرفُ المرادُ منهُ بِغيرهِ، إمّا من دليلٍ، أو قرينةٍ، أو شاهدِ حالٍ (¬1). * ومن سُنَّةِ العَرَبِ في كلامِها -أَيْضاً- أَنْ تسميَ الشيءَ الواحدَ بالأسماءِ المختلفةِ؛ نحو: السَّيْفِ والمُهَنَّدِ والصّارِمِ والحُسامِ، وأَكْثَرُ أسماءِ الغَريب على ذلك، ويُسمَّى هذا الصنفُ: الأسماءَ المترادِفَةَ (¬2). فمذهبُ الأُصوليِّين واللُّغَويين أَنَّها أسماءٌ لمعنَى واحِدٍ. وقال ثَعْلَبٌ: إنَّ الاسمَ منها واحدُ، وهو السيفُ مَثَلاً، وما بعدَهُ من الأسماءِ صفاتٌ لهُ باعتباراتٍ زائدةٍ على الاسمِ، وفي كلِّ صفَةٍ منها مَعْنًى غيرُ مَعْنى الصِّفةِ الأُخْرى. واحتجَّ مَنْ خالَفَ ثَعْلَباً بأنهُ لو كانَ الأمرُ كما ذَكَر، لَما أمكَن أن يُعَبَّرَ عن شيءٍ بغيرِ عِبارَتِهِ، ولو كانَ ذلكَ كذلكَ، لم تُفْهَمِ اللغةُ، ولَمَّا رأيناهمْ يعبرونَ بِبَعْضها عن بَعْضٍ، دَلَّ على ما قلناهُ. وأجيبَ بأنَّ هذه الأسماءَ ليستْ مختلِفةً متبايِنةً، فيلزمُ ما قالوه، وإنَّما في كلِّ واحدٍ منها مَعْنًى ليسَ في الآخَرِ، فَمِنْ أَجْلِ ذلكَ جازَ التعبيرُ ببعضِها عن بعضٍ من طريقِ المُشاكَلَةِ والاتفِّاقِ. ¬
واختار أبو الحسَينِ أحمدُ بنُ فارسٍ قولَ ثَعْلَبٍ، وبالَغَ في نُصْرَتِهِ (¬1). * ومن سُنَّتِها -أيضاً- أنها تسميَ الشيءَ باسمٍ إذا كانَ مُتَّصِفاً بصفةٍ، فإنْ فُقِدَتْ تلكَ الصِّفَةُ، فلا يُسَمَّى بذلكَ الاسمِ. فمنْ ذلكَ: المائِدَةُ، لا يُقال لها: مائدةً، حتى يكونَ عليها طَعامٌ، وإلَّا فاسمُها خِوانٌ. وكذلكَ الكأسُ، لا يكونُ كأساً حتى تكونَ فيها شرابٌ، وإلاّ فهوَ قَدَحُ. وكذلك القَلَمُ لا يكونُ قَلَماً إلا وقد بُريَ وأُصْلِحَ، وإلاَ فهُوَ أُنْبوبَةٌ. ويُحكى أنه قيلَ لأَعْرابيٍّ: ما القَلَمُ؟ فقالَ: لا أَدري، فقيلَ: تَوَهَّمْهُ، فقالَ: عودٌ قُلِّم من أحدِ جانبيهِ كَتَقْليمِ الأظفارِ فَسُمِّيَ قَلَماً. * * * ¬
القول في البين والمشكل
القولُ في البَيِّنِ والمُشْكِلِ * واعلموا -رحمكمُ اللهُ الكريمُ- أَنَّ الكلام الَبيِّنَ في لغةِ العربِ: ما استَقَلَّ بنفسهِ في الكشفِ عنِ المرادِ به. وهو اسمٌ جامعٌ لأشياءَ مُتَّفِقَةِ الأصول، مُتَّسِعَةِ (¬1) الفُروع، وبعضُها أَجْلى من بَعْض، وهيَ مُتَقارِبَةُ الاستواءِ عندَ العربِ، وإنْ كانَ بعضُها أَجْلى من بعضٍ؛ لأنَّ أقلَّ البيانِ عندَهم كافٍ، وهي متفاوتة عندَ من يجهلُ لِسانَ العربِ. * والبيانُ واقعٌ في جميعِ أنواعِ الكلامِ منَ الأَمْرِ والنَّهْيِ، والحَقيقَةِ والمَجاز، والعُمومِ والخُصوصِ، والإطْلاقِ والتَّقييدِ، وسائرِ صُنوفِ لُغاتِ العربِ. ولولا خوفُ الإطالَةِ لَمَثَّلْتُ لكمْ جميعَ ذلكَ منَ الكتابِ العَزيز، ولكنِّي أذكرُ لكمْ آيةً واحدةً من الكِتابِ العزيزِ، وما انتهى إليه فَهْمي لِيُستَدلَّ بها على أمثالها إنْ شاءَ اللهُ تَعالى. قال اللهُ -تَبارَكَ وتَعالى-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196]. ¬
فأقول: جمعتْ هذهِ الآيةُ أنواعاً من البَيانِ، وبعضُ هذهِ الأنواعِ أَجْلى من بعضٍ: فأجْلاها: بَيانُ العِدَّةِ التي أوجبَها اللهُ منَ الثَّلاثِ والسَّبْع، وكانَ الأمرُ بَيِّناً مفهوماً أنَّ السَّبْعَ إذا ضُمَّتْ إلى الثلاثِ، كانَتْ عَشْراً، فزادَ اللهُ -سَبُحْانَهُ- في البيانِ تأكيداً ثانياً لدَفْعِ تَوَهُّمِ إيجابِ أحدِ العِدَّتَيْنِ، وأَنَّ الأُخْرى تَطَوُّعٌ، فَقَصَدَ التأكيدَ في البَيانِ، ولم يَقْصِدْ تعليمَ العربِ العَدَّ؛ إذْ لم يزالوا يعرفونَ أنَّ الثلاثَ إذا ضُمَّتْ إلى السَّبْعِ كانتْ عَشْراً. ويليهِ في البَيانِ: ترتيبُ الهَدْي على التَّمَتُّعِ، والصِّيامِ على فقْدانِ الهَدْي؛ فإنَّ ترتيبَ الجَزاءِ على الشرطِ بَيِّنٌ في لسانِ العربِ (¬1)، وإنْ تخلَّف (¬2) في بعضِ الأحوالِ؛ كما في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] وتراجُعُهُما جائزٌ وإنْ ظَنَّا أَلَّا يُقيما حدودَ اللهِ، ولكنَّ الشرطَ خرجَ على غالبِ الوُجودِ؛ فإنَّ المتفارِقَيْنِ لِعِلَّةٍ لا يَجْتمعان معَ وُجودها غالباً. ويليهِ في البيَان: تخصيصُ هذا الحُكْمِ المذكور لغيرِ الحاضري المسجد الحرام؛ فإنه بيِّنٌ في لسانِ العربِ أن الأَلِفَ واللامَ يَقْتَضيان التَّخصيصَ، وبَيِّنٌ عندهم أنَّ ذلك إشارةٌ إلى الحكم المرتَّب على قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] من وجوب الهَدْيِ، والصِّيامِ عندَ العَجْزِ. ويليهِ في البيانِ: التَّعْميمُ في كُلِّ مَنْ تَمَتَّعَ بالعُمْرة؛ فإنهَ بَيِّنٌ في لِسانِ العربِ أَنَّ "مَنْ" تَصْلُحُ للعُمومِ والاسْتِغراقِ، ولولا صَلاحِيَةُ استغراقه، لَما ¬
فصل المشكل
حَسُنَ تخصيصُه بغير الحاضري المَسْجِدِ الحَرامِ، وهذا منَ العامِّ الذي أريدَ بهِ الخاصُّ، ومِنَ الصّنفِ الذي يُبَيِّنُ آخرُه أوَلَهُ. ويليه في البيانِ: تخصيصُ ثلاثةِ أيامٍ بالحجِّ؛ لقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] فهذا بَيِّنٌ ظاهِرٌ في لِسانهم، وإنْ كانَ فيه شيءٌ من لَطيف الاسْتِعارة، وعلى ذلك أكثرُ كلامِ العربِ، وقد قال بهِ الشافعيُّ -رحمهُ اللهُ تَعالى- ولم يُجَوِّزِ الصِّيام إلَّا بعدَ الإِحْرام بالحجِّ، وحَمَلَهُ أبو حَنيفةَ -رحمهُ اللهُ تَعالى- على أشهرِ الحَجِّ، وجوّزَ الصيامَ قبلَ الإحرامِ بالحجِّ، وكذلك في قوله -تعالى-: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]. وقولُ الشافعيِّ -رحمهُ اللهُ تَعالى- أَبْيَنُ وأَقْرَبُ إلى مُقْتَضى حقيقةِ اللُّغة. وقولُ أبي حنيفةَ مُحْتَملٌ، ولكنهُ خِلاف البيِّنِ، وأبعدُ منَ الحقيقةِ؛ لما فيه منَ الحَذْفِ والإضْمَارِ. وفي الآية مباحثُ أُخَرُ، وسأعيدُ الكلام عليها حينَ أتكلمُ على الأحكامِ -إن شاء الله تعالى- وبهِ العَوْنُ والعِصْمَةُ. * * * فصل (المُشْكِلُ) وأما المُشْكِلُ، وهو الذي تسميه الشافعيةُ: "المُجْمَل"، فنوعٌ حَسَنٌ في اللَّسان في بعضِ الأَحْوال، إذْ هوَ من مَقاصِدِ العقلاء، ومُسْتَحْسَناتِ الفُضَلاء. كما رُويَ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والشِّيعَةِ اخْتَصموا في بَغْدادَ في تَفْضيلِ أبي بَكْرٍ وعَلِيٍّ -رضيَ اللهُ تعالى عنهُما- فرضُوا بما قال أبو الفَرَج بنُ الجَوْزِيِّ، فَسُئِلَ عنْ ذلك؛ فَقَالَ: مَنْ كانَتِ ابنتُه تَحْتَه؛ ونزلَ من كُرْسيِّ وَعْظِهِ،
فادَّعى كلُّ فريق أن الجواب له، وعدَّ أهلُ الفضلِ ذلكَ من بَديعِ الأجوبةِ، ومن أحسنِ المَقَاصدِ (¬1). ومثله قولُ الشاعر (¬2) في عَمْرٍو الأعورِ: [من مجزوء الرمل] خَاطَ لِيْ عَمْرٌو قَبَاءْ (¬3) ... لَيْتَ عَيْنَيهِ سَوَاءْ وَحَدُّهُ: الكلامُ الذي لا يَسْتَقِلُّ بنفسِه في الكَشْفِ عن المُرادِ، وإنما يكشفُهُ ويُبَيِّنُهُ غيرُهُ (¬4). وهوَ -أيضاً-: اسمٌ لأشياءَ مجتمعةِ الأُصولِ، مُتَّسِعَةِ الفُروعِ، وذلك على وجوه: أحدها: أن تُحذفَ القِصَّة أو بعضُها، معَ الإشارة إليها، فيتوقفُ فَهْمُ الكلامِ على معرفةِ القِصَّةِ (¬5)، وذلك كثيرٌ في الكتابِ والسنَّةِ، وبيان هذا المُشْكِلِ يكونُ بذكرِ القِصَّةِ واستيفائِها. ثانيها: أن يذكرَ المتكلمُ شيئاً مَجْهولاً عندَ السامع لا يعرفُ كيفيتَهُ ومَعْناه. وذلك كالصلاةِ والزكاةِ عندَ العربِ في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]. ¬
فإنها كانت تَجْهل كيفيةَ الصلاةِ ومعناها في الشرع، فهذا مِمَّا أحكمَ اللهُ -تعالى- فرضَه، وجعلَ بيانَه إلى نبيِّهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّم-، فلا يُعْرَفُ بيانُه إلَّا من جِهَتِهِ -صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم (¬1). ثالثها: أن يعلَّقَ الحُكْمُ على الأسماءِ، التي لا تُعْرَفُ حقيقةُ معناها إلا بضربٍ من الاحتمالِ والتَّقريبِ؛ كالحِينْ، والزَّمانِ، والدَّهْر، والغِنى، والفَقْر، والمَسْكَنَةِ. فإنه لا يُعرف الحدُّ الذي ينبغي أن يُسَمَّى به فقيراً أو مسكيناً معرفةً حقيقية، وإنما يُعرف بضربٍ من التقريب، ولهذا بيَّن النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ- لأصحابه، وهمْ أفصحُ العربِ وأعرفُهم بلسانِها، فقالَ: "ليس المسكينُ بهذا الطَّوَّافِ الذي يَطُوفُ على الناس، فتردُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمتانِ، والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتانِ"، فقالوا: وما المسكين؟ قال: "الَّذي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنيهِ، ولا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عليهِ، ولا يَسْألُ النَّاسَ شَيْئاً" (¬2). ولأجل هذا اختلف الفقهاء في حقيقةِ الفقيرِ والمسكين، ولو كان لَهُ حَدٌّ في اللغةِ، لَرَجَعوا إليه، ولم يَخْتَلفوا. وبيان هذا الصِّنفِ يُؤْخَذُ من بيانِ الصِّنْفِ الذي يليه. رابعها: أن يَذْكُرَ المتكلمُ شيئاً معلوماً، ولكنْ أجزاؤه مُتَفاوِتَةٌ، ويُعلِّقَ ¬
عليه حُكْماً، ولا يُدْرَى هل المُرادُ بالحكم أدنى دَرَجاتِه أو أَقْصاها. وذلكَ كقولِ اللهِ تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]، والرجوعُ (¬1) شيءٌ معلومٌ، ولهُ بِدايةٌ ونِهاية، ولم يُعْقَل من اللفظ أن المرادَ بالرجوعِ ابتداؤه أو انتهاؤه. ومثل ما قد عُلِمَ الفَرْقُ بين قليله وكثيرِهِ، وعُلِّقَ الحكمُ بأحدِهما، ولكن لا يعلم ما حدُّ ذلكَ القليلِ والكثيرِ. وبيانُ هذا النوعِ والنوعِ الذي قبلَه أن يُصارَ فيه إلى حدِّ شيءٍ من أنواع الدّلالة: 1 - إمَّا بأن يوجَدَ فيه قولٌ أو فعل من النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّم-. 2 - أو قولٌ أو فعلٌ من الصَّحابة -رضيَ اللهُ عنهمْ-، أو قولُ واحدٍ لا يُعلَمُ له مخالفٌ، ولو قلْنا: إنه ليسَ بحجَّةٍ على القولِ الجديدِ للشافعيِّ رضيَ اللهُ تَعالى عنه. 3 - أو اعتبارِه ببعضِ الأُصول التي قد ثبتَتْ فيها التقديراتُ والحدودُ إذا لم يوجَدْ شيءٌ يُردّ إليه أدلّ منه، وإن خرجَ ذلكَ عنْ تحقيقِ القياسِ؛ لأن التقريبَ والإعمالَ خيرٌ من التَّعْطيِل والإهمال. 4 - وإن لم يوجد في الأصول ما يُرْجَعُ إليه، رُجِع في بيانه إلى النظر فيما قُصِدَ له ذلك الشيءُ، فما أدَّى إلى إسقاطِ المعنى المقصودِ تُرك، وما لمْ يُسْقِطْه، اعتُبر. 5 - وإن لم يوجدْ بيانُه فيما قصد له من ذلك القصد، رُجِع (¬2) في بيانِه إلى ضَرْبٍ من التقريبِ مِمَّا يُعْقَل ويُعْرَف. ¬
وسأبين ذلك كلَّه هاهنا بأمثلةٍ؛ لتعتبرَ بها أيُّها الأخ فيما يَرِدُ عليك إن شاء الله تعالى: 1 - فمثالُ ما وُجد فيه القولُ عن النبيِّ -صَلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّم- بيانُ حَدّ الرُّجوع: روى مسلم في صحيحه: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- قال للمتمتِّعين: "مَنْ كانَ معهُ هَدْيٌ فَلْيُهْدِ، ومَنْ لم يَجِدْ فَصِيامُ ثلاَثةِ أيامٍ في الحَجِّ، وسَبْعَةٍ إذا رَجَعَ إلى أَهْلِهِ" (¬1). ووجِدَ أيضاً بيانُ حدِّ المِسكينِ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسَلَّم- وهو قوله: "الذي لاَ يِجدُ غنًى يُغْنِيْهِ" (¬2). 2 - ومثالُ الذي وُجِدَ فيه حَدٌّ من الصَّحابيِّ: قول الله -تبارك تعالى-: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] فرجعَ الشافعيُّ في بيانِه إلى قولِ ابن عُمَرَ وابنِ عَبّاس -رضيَ الله عنهم-: القَصْرُ في أَرْبَعَةِ بُرُدٍ (¬3). ¬
3 - ومثالُ الذي وُجِدَ فيه الاعتبارُ ببعض الأصولِ والنظائِرِ: قولُ اللهِ- عزَّ وجلَّ-: {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]، وحاضرو المسجد الحرام مَن قَرُبَ منه. ولَمّا كانَ حَدُّ الحُضورِ والقُرْبِ غيرَ مذكورٍ، ولا معلوم، رُجِعَ في بيانِه إلى أَقَل ما وُجِدَ في الشرعِ من المَسافاتِ القريبةِ التي تَتَعَلَّق بها الأحْكامُ، فلم يوجد أقلُّ من مَسافَةِ القَصْرِ. ومثالُه أيضاً قولُ اللهِ -تبارك وتعالى-: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] فألْزَمَ اللهُ -تبارك وتعالى- كُلَّ أَحَدٍ على قَدْرِ حالِه، وذلكَ غيرُ مَحْدودٍ، فرُجِعَ في نفقةِ المُعْسِرِ إلى أقلِّ ما وُجِدَ منْ وُجوهِ الإطْعامِ، وهو مُدٌّ (¬1)، وذلك في كَفَّارَةِ ¬
المُفْطِرِ في رَمَضانَ، وفي الشَّيخِ الكبيرِ الذي لا يُطيقُ الصَّومَ. ورُجِعَ في نَفَقَةِ المُوسِرِ إلى أَكْثَرِ ما وُجِدَ في ذلك، وهو مُدَّان في فِدْية الأَذى. ويُرْجَعُ في نفقةِ المتوسِّط إلى مُدٍّ ونصْفٍ؛ ليكون ما زاد على المدِّ مقسوماً بين الحالين، لارْتِفاعِهِ عن درجةِ المُعْسِرِ، ونُزولِهِ عن درجةِ المُوسِرِ. ولَمَّا كانَ لخادِمِ الزوجةِ نفقةٌ، جُعِلَتْ نفقةُ الخادِمِ على المُعْسِرِ مُدًّا؛ كنفقةِ الزوجةِ نَفْسِها؛ لأَنَّ ذلكَ أَقَلُّ الكِفاية، ولا بدَّ منهُ، ولم يُقَدَّرْ في الشرعِ مِقدارٌ أَقَلُّ منهُ، ولم يُلْتَفَتْ إلى كَمالِ الزَّوْجَةِ ونُقْصانِ الخادِمِ في حال الضِّيقِ؛ اعتِباراً بتسويةِ الله -تعالى- بينَ الأبِ الذي له ثُلُثا المالِ، وبينَ الأُمِّ التي لَها ثُلُثُ المالِ، في حالِ الضِّيقِ (¬1) حينَ تساويا في السُّدُسِ. وإنْ كانَ الزوجُ مُوسِراً، احْتِيجَ إلى الزِّيادَةِ كما احْتيجَ إلى ذلك في نفقةِ الزوجة، ولم يُمْكِنِ التَّسْوِيَةُ بينَهما في الزيادةِ؛ لكمال الزوجةِ، ونُقصانِ الخادِم، فاعتبر ذلك بدور التَّفْضيلِ من أَصْحابِ الكمالِ وغيرِهم إذا اجْتَمعوا، فوُجِدَ للابْنِ الثُّلُثانِ، وللبنْتِ الثُّلُثُ إذا اجتمعا؛ لكمال الابن، ونقصانِ البنتِ، وكذلك وُجد الأبُ والأمُّ، للأبِ الثُّلُثان، وللأُمِّ الثُّلُثُ إذا ¬
اجْتَمَعا، فَفُضِّلَ الأَبُ والابْنُ بِثُلُثَيِ الميراثِ لِكمالِهِمْ، فَكَذلكَ فُضِّلَتِ الزوجةُ على الخادِمِ. ومن هذا النوع تقديرُ الشافعيِّ -رحمهُ اللهُ تعالى- في حَلْقِ الشَّعْرَةِ الواحِدَةِ مُدًّا، وفي الشَّعرتين مُدَّيْنِ، وفي الثَّلاثِ فصاعِداً دَمٌ، كأنَّه رَأى أنَّ الثَّلاثَ جماعُ الشَّعْرِ، فهو حدُّ الكَثْرَةِ، ففيها ما في أَكْثَرِ الكَثيرِ، ورأَى أن الشعرةَ الواحدةَ لا يُمْكِنُ إبْطالُ حُكْمِها؛ إذْ إتلافُها في الإحرامِ محظورٌ كإتلافِ الشَّعرِ الكثيرِ، ولا يمكنُ تسويتُها بالكثير، فاحْتيجَ إلى ما يُفرِّقُ بينَ القليلِ والكثيرِ، فرَجَعَ في القليلِ إلى أقلِّ ما وُجِدَ مُقَدَّراً، وذلك مُدٌّ، وعلى هذا تَرْكُ حَصاةٍ ومبيتِ ليلة من ليالي منى ورمي الجمار. 4 - ومثالُ ما لم يوجَدْ له أصلٌ في التقدير يُرَدُّ إليه، وأُخِذَ بيانهُ من الأمرِ الذي قُصِدَ لهُ: قولُ اللهِ -تبارَكَ وتَعالى- {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]. فذهبَ الجُمهورُ إلى أن المَعيبَ (¬1) لا يُجْزئ، فقيَّدوا إطلاقَ الآيةِ، واتفقوا على الفرقِ بينَ العيب الكثيرِ، فيضُرُّ، واليسير، فلا يَضُرُّ، وإنِ اختَلَفوا في تعيينهِ، وليسَ لذلكَ نظير في المُقَدَّراتِ فيرجعُ إليهِ، فأُخِذَ بيانهُ من مَعْناه، فنُظِرَ (¬2) إلى العتقِ، فوُجد معناهُ أنه يملكُ العبدُ منافعَ نفسِه، فدلَّهم ذلكَ على أنَّ كلَّ عَيْبٍ يَضُرُّ بالمنافِعِ إضراراً بَيِّناً، فإنه لا يُجْزِئُ؛ لأنه يُسْقِط فائِدَةَ العِتْقِ، وما لاَ يَضُرُّ بالعَمل إِضراراً بيِّناً، فإنه يُجزئُ؛ لوجود معنى العتقِ. ولنا أن نقولَ: بل لهُ نَظَيرٌ يعتبرُ بهِ، وهو الهَدايا والضَّحايا. ¬
5 - ومثالُ ما لم يُوجَدْ له أصلٌ يُرَدُّ إليهِ، ولا يُؤْخَذُ بيانُه من مَعْناه، وإنُّما يُرْجَعُ إليهِ بِضَرْبٍ منَ التَّقْريبِ لِعُرْفِ الناسِ وعادتِهِم: العَفْوُ عن دَمِ البراغيثِ، واليَسيرِ من سائِرِ الدِّماء، عُفي عن قليلِها لمشقَّةِ الاحْترازِ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ولم يُعْفَ عن الكثيرِ؛ إذ لا مَشَقَّةَ في اجْتِنابِهِ، فرُجِعَ في بيانِ القليلِ إلى عُرْفِ الناسِ وعادتِهم. ولهذا نظائر (¬1) كثيرةٌ. وعلى هذا فاعملْ في جميعِ ما يَرِدُ عليكَ من هذا البابِ، وَقدِّمْ من الأدلَّةِ أَقواها، فإن لم تجدْ، فارجع إلى الأصول والاعتبار. وهذا فصل نفيس، فاحتفظْ به تستفدْ منه علماً كثيراً، وتطلعْ على سِرِّ الفقه ولطائفه، وعلى هذا السبيلِ جميعُ الفقهاءِ وإنَّما يختلفونَ في تفاصيلِ المسائل. خامس الوجوهِ (¬2): الاشتراكُ في المَعْنى، وهو على وجوه: أحدها: أن يُعَلَّقَ الحُكْمُ على اسمٍ مشترَكٍ، ويَدُلَّ الدليلُ على أن المرادَ به أحدُ معانيه، لا بِعَيْنِهِ (¬3). كقول الله -تبَارَك وتَعالى-: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فقد اتفقوا على أن المرادَ بهِ الطُّهْرُ، أوِ الحَيْضُ (¬4)، وإنَّما اختلفوا في تعيينه، فهذا يُؤْخَذُ بيانُه من الأَدِلَّةِ. ¬
وإن لم يدلَّ الدليلُ على أن المرادَ به أحدُهما، لا بِعَيْنْهِ، ففيه مذهبان: أحدُهما، وهو مذهبُ الشافعيِّ وأكثرِ أصحابِه: أَنَّهُ بَيِّنٌ ظاهرٌ، فيُحمل على الجميع لغة وخطاباً، وقال القاضي أبو بكر: يحمل على الجميع احتياطاً. والثاني (¬1): -وبه قالَ أبو حنيفةَ وأكثرُ الأصوليِّينَ- إنه مُشْكِلٌ، فلا يُحْمَل على شيءٍ منها إلا بِدليلٍ. والكلامُ في تقرير المَذْهَبَيْنِ مذكور في كتبِ الأصول. ثانيها: أن يُنقلَ فِعْلٌ، وذلك الفعلُ يحتمل حالينِ؛ فإنه مُشْكِلٌ لا يُعْقَلُ المُرادُ منهُ (¬2). كما رويَ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جمعَ بينَ الصَّلاتَيْنِ فِي السَّفر (¬3)، والفِعْلُ لا يقع إلا في حالٍ واحدٍ من الحالَيْنِ، إمَّا أن يكونَ السَّفرُ طويلاً، أو قَصيراً، فهذا يُرجع في بيانِه إلى الأدِلَّةِ السمعيةِ. ثالثها: أن يُنقل أَنَّه قَضى في واقعةٍ بحُكْمِ، والواقعةُ تحتملُ حالَيْنِ، فهو ¬
مُشْكِلٌ لا يستقلُّ بنفسِهِ في الكشفِ عن المُرادِ؛ لأنَّ القضاءَ واحدٌ، والواقعةُ تحتملُ أحوالاً (¬1). وذلك كما رُوِيَ: أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشُّفْعَةِ (¬2) للجارِ (¬3)، فالقَضِيَّةُ واحِدَةٌ، والجارُ الذي قَضى له يُحتمل أن يكونَ جُنُباً أو مُلاصِقاً أو مشايعاً، فهذا يُرْجَعُ في بيانِه إلى الأدلَّةِ، فإنْ لم يوجَدْ دليلٌ، فيؤخذُ بأقلِّ ما قيلَ (¬4)، فيُحملُ على الجارِ المُشَايعِ؛ كما فعل الشافعيُّ رحمه الله تعالى. ¬
وأما المركبات، فيأتي على وجوه -أيضا-
وهذا الاشتراك في المفردات. وأَمَّا المركَّباتُ، فيأتي على وُجوهٍ -أيضاً-: منها: الاشتراكُ بين الأمرِ والخَبَر: كقول الله -جل جلاله-: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} [طه: 37 - 39]، فإنه يَحْتَمِل أن يكون أخبرها إلهاماً منه -سبحانه- أن اليمَّ يُلقيهِ، ويَحْتَملُ أن يكون أخبرها أنه أمرَ البحرَ بإلقائه. ومنها: الاشتراك بين السؤال والتَّنْبيهِ: كقولك: أرأيتَ إنْ صَلَّى الإمامُ قَاعداً، كيفَ يُصلِّي مَنْ خلفه؟ فإنَّه يَحْتَمِل أن (¬1) يكون سؤالاً منكَ، ويَحْتَمِل أن يكونَ تنبيهاً على المنع من الصلاةِ خلفَهُ. ومنها: الاشتراك بينَ السؤالِ والدُّعاء (¬2): كقولِ اللهِ -جَلَّ جَلالُهُ-: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9]، وحملَهُ على الدُّعاء أبو زكريا الفَرَّاء، وعلى السؤالِ غيرُه. ومنها: الاشتراك في المَفْعولِ إذا تنازعَه فِعلان يَقْتضيانِ مُقْتَضًى واحداً: كقولِ الله -تعالى-: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]، فإنه يحتمل أن يكون {قِطْرًا} مفعولَ {آتُونِي}، ويحتمل أن يكونَ مفعولَ {أُفْرِغْ}. ومنها: الاشتراك في الإبهام: كقول الله -تبارك وتعالى-: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] على أحدِ الأقوالِ في الآيةِ. ¬
واختلف علماؤنا في مسائل
واختلفَ علماؤنا في مسائلَ: الأولى: الأسماءُ الإسلاميةُ؛ كالصَّلاة والزكاةِ والصَّوْمِ والحَجِّ، والمُؤْمِنِ والفاسِقِ. فقالَ بعضُهُمْ: هيَ بَيّنَةٌ، وقال بَعْضُهُمْ: هي مُشْكِلَةٌ؛ لأنَّهُمْ لم يكونوا يَعْرِفونها (¬1). والحَقُّ أَنَّها مُشْكِلَةٌ عندَ مصادَمَةِ الخِطابِ الأَوَّلِ لأهلِ الزَّمَنِ الأَوَّلِ، بَيِّنَةٌ في الزمنِ الأخيرِ عندَ استقرارِ بَيانِ الشرعِ. ثانيها: قوله -تعالى-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، والربا في لسانِهم هو الزيادَةُ (¬2). وقالَ بعضُ أهلِ العلمِ: الآية بَيِّنَةٌ، وليستْ مُشْكِلَةً؛ لأن البيعَ مَعقولٌ في اللغةِ، فيُحْمَلُ على كلِّ ما يصلُحُ لهُ، ولا يُتْرَكُ بعضُه إلَّا بدليلٍ يدلُّ على أَنُّه رِبًا، أو مَنْهِيٌّ عنه. وقالَ بعضُهم: هي مُجْمَلَةٌ؛ لأن اللهَ -تَعالى- أحلَّ البيعَ وحَرَّمَ الرِّبا، والرِّبا هو الزيادَةُ، وما من بيعٍ إلا وفيه زِيادَةٌ، فافتقَر إلى بيانِ ما يَحِلُّ منها مِمّا يَحْرُمُ (¬3). والذي أراه الصوابَ -إن شاءَ الله تعالى- أَنَّ لفظَ البيعِ غيرُ مُشْكِلٍ؛ فإنه ¬
معلومٌ عندَ العربِ، وعليه جرتْ عادتُهم، وقامتْ به دُنياهمِ، وأما لفظُ الرِّبا فَمُشْكِلٌ؛ لاشتباهِهِ عليهم، وإن كانت حقيقةُ وَضْعِهِ مَعْروفَةً عندهم؛ لأنهم عَلِموا أنَّ اللهَ لا يأمرهم بترك جميعِ البيُوعاتِ والزياداتِ؛ لأن الله -تبارك وتعالى- لا (¬1) يأمرهُمْ بما فيه هلاكُهم وتركُ معاشِهِم (¬2) وهَدْمُ دُنياهم، فعلموا حِلَّ كُلِّ بَيْع ومُبادلة، وعلموا حقيقةَ المنهيِّ عنهُ أنه الزيادةُ، وعلموا أن المرادَ بعضُ الزيادةِ دونَ بعضٍ، ولم يعرفوا على أيِّ صفةٍ يكون تحريمُها، ولا مبلغُ حدِّها، ولهذا بَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أعيانَ الرِّبا، وبَيَّنَ صِفَتَهُ وشرائِطَهُ في مَقامٍ واحدٍ، ولفظٍ واحدٍ مُتَّصِلاً به في أَثَرهِ، ولو كانَ بيِّناً، لَما احتاجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى بيانِهِ لهم، وأَمَّا البيعُ، فلم يُبَيِّنْهُ كذلكَ، وإنَّما بَيَّنَ مَضارَّهُ ومُفْسِداتِهِ مُنْفَصِلاً، وذلك إمَّا تخصيصٌ لعمومِهِ، أو تقييدٌ لمُطْلَقِهِ، أو تَبيينٌ لِشَرْطِهِ (¬3). ثالثها: الأعيانُ التي عُلِّقَ التَّحْليلُ أو التحريمُ عليها؛ كقول الله -جل جلاله-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]. فقال بعضهم: هي مُجْمَلَةٌ؛ لأن الأعيانَ لا تُوصَفُ بالتحليلِ والتحريِم، وإنما تُوصفُ بذلك أفعالُنا، وأفعالُنا غيرُ مذكورة، وهيَ متنوعَةٌ، وليسَ على ما يَحْرُمُ منها ولا ما يَحِلُّ دليلٌ يخصُّه ويُبَيِّنُهُ. ومنهم من قالَ: إنها ليستْ بِمُجْمَلَةٍ، بَلْ هي بَيِّنَةٌ (¬4)، وهو الصَّوابُ ¬
عندي إنْ شاءَ اللهُ تعالى؛ فإنه بَيِّنٌ في لسانِ العربِ أنهم إذا قالوا مثلَ ذلكَ في الأعيانِ، فما الممنوعُ المحرَّم إلا الأمرُ المَقْصودُ المُنْتَفَعُ بِه من تلكَ العَيْنِ، فلو قالَ: حَرَّمْتُ عليكمُ هذهِ الفَرَسَ، عُقِل منهُ أن المرادَ تحريمُ الرُّكوبِ واللَّحْمِ، لا تحريمُ البيعِ. وكذلكَ إذا قال: حَرَّمْتُ عليكُمُ المَيْتَةَ، عُقِل منهُ أن المرادَ (¬1) تحريمُ أكلِها الَّذي هو مقصودٌ منها، ولم يُعْقَلْ منهُ غيرُ ذلكَ. ونقولُ لهذا القائِل: هل تَرى العربَ لمّا خاطبهُم اللهُ تعالى بهذهِ الآيةِ، لَمْ يعرفوا مُرادَ اللهِ تبارَكَ وتعَالى، فاحْتاجوا إلى سؤالِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن بَيانِ ذلك الشيءِ المُحَرَّمِ؟ كَلاّ، بل عَقَلوا عن اللهِ تَعالى مُرادَهُ، وعلموا أَنَّه أرادَ تَحريمَ نِكاح أُمَّهاتِهم وبَناتِهم. فمن قالَ: إنهم لم يَعْقِلوا مرادَ الله -تَعالى- في هذا الخِطاب، فقدْ جَهَّلَ العربَ بِلُغتهم، وإنما هذا من أوضح البيان عندَهُم إن شاء الله تعالى. رابعها: الخطابُ الذي يَتَضَمَّنُ نفياً وإثباتاً في الأَعْيان؛ كقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الأَعْمالُ بالنِّيَّاتِ" (¬2)، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نِكاحَ إلا بوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وشاهِدَيْ عَدْلِ" (¬3). ¬
فقال بعضهم: هي مُجْمَلَةٌ مُشْكِلَةٌ؛ لأن الذي نفاهُ هو العملُ والنِّكاحُ، وذلك موجودٌ مشاهَدٌ، والشرعُ لا ينفي المُشاهَداتِ، فدلَّ على أن النفيَ صفةٌ غيرُ مذكورةٍ، ولم تُبَيَّنْ تلكَ الصفةُ، وكانَ مُشْكِلاً. وقال بعضُهم: هي بَيِّنَةٌ غيرُ مُشْكِلَةٍ (¬1)، وهوَ الصَّوابُ عِنْدي إنْ شاءَ اللهُ تعالى؛ فإن المتكلمَ إذا قصدَ بالنفي شيئاً متنوِّعاً، حُمِلَ لفظُه على ما يليقُ بقَصْدِهِ، فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليسَ قَصْدُهُ إلَّا التشريعَ والبيانَ، فإذا نَفَى شيئاً، حُمِل على ما قَصَدَه (¬2)، وهُوَ التشريعُ، فكأنه قالَ: لا عملَ في الشَّرْعِ إلا بالنِّيَّةِ، ولا نكاحَ في الشرعِ (¬3) إلا بِوَليٍّ مُرْشِدٍ وشاهِدَيْ عَدْلٍ، ويكونُ نفيُه على عُمومِه، فإذا وجدناه اعتبرَ ذلكَ الأمرَ المَنْفِيَّ معَ عدَمِ الصِّفةِ المَذْكورَةِ، كما إذا اعتبرَ عَمَلاً بغير نِيَّةٍ، واعتدَّ بهِ، جَعَلْناه تَخْصيصاً لِعُموم نَفْيِه. خامسها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسيانُ وما اسْتُكْرِهوا عليهِ" (¬4). فمنهم مَنْ قالَ: هو مُشْكِلٌ؛ للإضْمارِ الذي فيه؛ إذْ لم يعيَّنْ ما هو المَعْنِيُّ من الأشياءِ المُرادةِ بالرَّفْعِ. ¬
ومنهُمْ من قالَ: إنَّه بَيِّنٌ (¬1)، وعَزاه إلى نَصِّ الشِّافعيِّ (¬2) رضي اللهُ تَعالى عنهُ، وهو الصوابُ عندي -إن شاءَ اللهُ تَعالى-؛ لأنه معقولٌ في لسانِ العرب، أي (¬3): رَفْعُ المُؤَاخَذَةِ، ألا تَرى أن العربيَّ إذا قالَ لعبدِهِ: رفعْتُ عنكَ خَطَأَكَ، فُهِمَ منهُ تَرْكُ المُؤاخَذَةِ بالخَطَأ؟ سادسها: قول اللهِ -تَبَارك وتَعالى-: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. نُقِلَ عن الشافعيِّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه- في كتابِ "الأُمِّ" (¬4) أَنَّ في الآيةِ إِضمْاراً، والمَقْصود منها بيِّنٌ غيرُ مُجْمَل، فكأنه قال: فمنْ كانَ منكمْ مريضاً، أو به أذًى من رأسِه، فحَلَقَ، أو دَهَنَ، أو لَبِسَ، أو تطيَّبَ، فَفِدْيةٌ، وذلك ظاهر من قصدِهِ في رَفْعِ تَحريمِ المُحَرَّماتِ عنهُ، وتعليقِ الكفارةِ بهِ، هذا معنى قوله، رحمهُ اللهُ تعالى. ونُقِلَ عنهُ أنه قالَ في كتابِ "الإملاء": إِنَّ ذلكَ المُضْمَرَ غَيْرُ بَيِّنٍ. والصَّحيحُ عندي هوَ الأَوَّلُ. فإنْ قيلَ: فهل بَيْن هذه المسألةِ وبين (¬5) المسائلِ المتقدمةِ فَرْقٌ أو لا؟ ففي الكُلِّ إضماراتٌ؟ ¬
فالجوابُ: أَنَّ بينهما فَرْقاً لطيفاً، وهو أن الآياتِ المتقدِّماتِ فارغةٌ مِنَ الإضماراتِ والحذفِ. فأما الآيةُ الأولى، وهي قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، فإنه بيِّنٌ عندهم أنَّ الله -تعالى- إنما قصدَ تحريمَ نِكاحِهِنَّ لا غَيْر. واللَّمْسُ لِشَهْوَةٍ والتقبيلُ من توابعِهِ ولوازِمِهِ، فَمَنِ ادَّعى أنه أُضْمِرَ شيءٌ آخَرُ، فقدْ أَخْطَأ. وأَمّا التي تتضمَّنُ النفيَ والإثبات في الأعيان، فقد قُلْتُ (¬1): إنَّ الشارعَ إنما يَنْفي ويُثْبتُ الشَّرْعِيّاتِ، فكأنه قالَ: لا عملَ عندي إلا بالنيّةِ، فيكون عامًّا ظاهِراً فيَ النَّفْي، فلا إضمارَ فيه. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيانُ وما اسْتُكْرِهوا عليهِ (¬2) " (¬3)، فقد ثبتَ أنَّه معقولٌ في لِسانِ العربِ أَنَّهُ إنَّما قصدَ رَفْعَ عُقوبةِ الخَطَأ، وذلكَ مُطْلَقٌ في كُلِّ عُقوبةٍ، فإن تخلفتْ عقوبةٌ عن هذا الإطلاقِ، وأُخِذَ بها المخطِئُ أو النَّاسي، كَغَرامَةِ المُتْلَفاتِ، فذلكَ كالتَّقييدِ لهذا المُطْلَقِ، ولا إضمارَ فيها، وإنّما فيه إقامةُ المُضاف إليهِ مقامَ المُضافِ، على حدِّ قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. وأَمّا هذهِ المسألةُ، وهي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] ففيها إضماراتٌ كثيرةٌ، لكنَّه قال في "الأم": تلكَ الإضْماراتُ ظاهرةٌ معقولةٌ من فَحْوى قصدِ المُتكلِّم، فكأنها مذكورَةٌ. وقال في "الإملاء" بخلافه، وقول "الأُمِّ" أقربُ وأصوبُ إن شاء الله تعالى. ¬
وظَنِّي أَنَّ أصحابَ الشافعيِّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم- إِنَّما أخذوا الخِلاف في المسائل المتقدِّمَةِ من قولِه هاهنا في "الإِملاء"، فافهم هذه النُّكْتَةَ، فإنَّها في نهايةٍ من التحقيق إن شاء الله تعالى. * * *
القول في العام والخاص
القَولُ في العَامِّ والخَاصِّ العمومُ في اللُّغَةِ: الإحاطَةُ والشُّمول، ومن ذلكَ (¬1) قولُهم: العامَّةُ. والخُصوص: التمييزُ والانفِرادُ، ومن ذلك قولُهم: الخاصَّةُ، لتميُّزهِمْ عنِ العامَّةِ بأشياءَ. والعامُّ والخاصُّ من أوسعِ لغةِ العربِ مَجالاً، وأكثرِها استعمالاً، والكلامُ فيه يَسْتَدْعي أربعةَ فُصول: الفصل الأول: في بيان ألفاظه. والثاني: في كيفية استعمال العرب للعامِّ، وتصرُّفِها فيه. والثالث: في التخصيص. والرابع: في ترتيب العامِّ على الخاصِّ. * * * الفصل الأول في الألفاظ الأول وهو على وجوه: الجَمْعُ المعَرَّفُ بالأَلِفِ واللَّامِ؛ كالمُسلمين والمُشركين، والأَبْرار، والفُجَّار. ¬
وأما المُنَكَّرُ منُه كقولك (¬1): مُسلمون، وأبرارٌ، فواضحٌ في لسان العربِ عمومُه على سبيل الإطْلاقِ، وأمّا على سبيلِ الاسْتِغراق والشُّمولِ، فَلا، فمن (¬2) قال بعمومه بهذه الطريقِ، فقدْ أَخْطَأَ. وقد أوضحتُ هذهِ المسألةَ في كتابي "مصابيح المَغاني في مَعاني حروفِ المَعاني". الثاني: الأسماءُ المُبْهَمَةُ، وهيَ "مَن" فيَمْن يعلَمُ، و"ما" فيما لا يعلَمُ في الاستِفْهام والجَزاءِ و "أَيّ" فيمن يعلَمُ وفيما لا يَعْلَمُ في حالِ الاسْتفِهامِ والجَزاء، و"أَيْنَ" في الاستِفْهام عنِ المكان، و "أَيْنَما" في الجَزاء دون الاسْتِفهام، و "أَيَّانَ" و"مَتى" في الزَّمان، في الجَزاءِ والاستفِهام، و"حَيْثُ" في المَكانِ، هكذا ذكرهُ عُلماؤنا، وهذه عامةٌ مستغرقةٌ كالذي قَبْلَها، ولكنها تفُارِقُها في أنها تقعُ على الفردِ الواحدِ حقيقةً، بخلافه. الثالث: النَّفْيُ في النكرة بدون "مِنْ" عامٌّ ظاهِرٌ في العموم، كقولك: ما عندي شيء، ولا رجلٌ في الدار، وأما مَعَ "مِنْ" فإنه يكون نَصًّا في العموم (¬3)؛ كقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91]، وقوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65] فلا يدخله التخصيص، بخلاف العامِّ الظاهرِ؛ فإنه يدخُلُه التخصيصُ. ¬
الرابع: ضمائرُ الجُموع، كقولِ اللهِ -تبَاركَ وتَعالى-: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وما أشبَهَ ذلك. الخامس: لفظة "كُلّ" و"أَجْمَع" و"عامَّة" وكذا "سائر" عندَ الجَوْهَرِيِّ. ووراء هذه مسائلُ شرعيةٌ اختلف فيها علماؤنا: المسألة الأولى: الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - يدخلُ في خِطابِ الأمَّةِ على الصَّحيحِ عندَ أصحابِ الشافعيِّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم- وإنْ صَحِبتهُ كَلِمَةُ: {قُلْ}، خلافاً للحُليمي، فإنَّه قالَ: إن صَحِبَتْهُ كلمةُ {قُلْ} لم يدخل (¬1)، نحو: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ} (¬2) [الأعراف: 158]. الثانية: إذا خُوطِبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بخِطابٍ خاصٍّ، مثل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1]، لم يدخلْ معهُ غيرُهُ إلَّا بدليلٍ؛ خلافاً لَأبي حَنيفةَ وأحمدَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهُما-؛ لأنَّ الخطاب مقصورٌ عليه، غيرُ صالِحٍ لغيرِه (¬3). قالوا: جرتْ عادةُ العربِ أنهم يخاطِبونَ الخَاصَّ (¬4)، ويُريدون بهِ العامَّ، فيخاطِبونَ الرئيسَ، ومقصودُهم بهِ (¬5) أتباعُه، كقول الله تعالى: ¬
{عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} [يونس: 83] أي: على خَوْفٍ من آلِ فِرْعون، وكقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94]، وكقولهم: دخلَ الأميرُ البلدَ قَهْراً، ويريدونَه مَعَ جُنْدِه. الثالثة: المتكلمُ هلْ يدخلُ في كلامِهِ؛ كالرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فيهِ مذهبانِ للشافعيَّةِ (¬1). الرابعة: الكفارُ هل يَدْخُلون في الخِطاب بِفُروعِ الشَّرْعِ؟ فيه مذاهب، يُفَرَّقُ في الثالثِ بينَ المَنْهِيّات، فيدخلونَ فيها، وبينَ المأموراتِ، فلاَ يَدْخُلون فيها، والظاهرُ دُخولُهم؛ لظاهِرِ الآياتِ الواردَةِ في القرآن، ولِصَلاحِيَةِ اللفظِ لهم (¬2). ¬
الخامسة: العبيدُ يَدْخلون في الخِطاب للأحرار؛ كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 153] {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] بِوَضْعِ اللُّغَةِ؛ لصلاحِ اللَّفْظِ لهمْ. وهل يَدْخلون بعُرْفِ الشرع؟ اختلفَ أهلُ العِلمِ في ذلك (¬1): فقال قوم: يَدْخلون، وصحّحَ في "جَمْعِ الجَوامِعِ" (¬2) دخُولَهُمْ في مَحَلِّ الإطلاقِ، ولا يَخْرُجون إلا بدليل. وقال قَومٌ: لا يدخلونَ إلا بِدليل (¬3). وقال أبو بكرٍ الرَّازِيُّ منَ الحَنَفِيَّةِ: إنَ كانَ الخطابُ لحقِّ الله تعالى، دخلوا، وإن كانَ لحقِّ العِباد، فلا يَدْخُلون (¬4). والصَّحيحُ هو الأَوَّلُ، والدَّليُل عليه بعدَ اللغةِ استقراءُ آياتِ القرآنِ الكريمِ، فكلُّ حكمٍ أَطْلَقَ الكِتابُ الخِطَابَ، دَخَلوا فيه، ولم يُفْرَدوا فيه بالذِّكْرِ. ¬
كقولِ اللهِ تبَارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]. وكقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]. وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]. وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]، وغيرِ ذلكَ من الآياتِ الكريماتِ. وأَيُّ موطِنٍ لا يَدْخلونَ فيه، فإنَّهُ لا بُدَّ من بيانِ تَخْصيصِهم بالحُكمِ، إما في (¬1) الكِتاب، أو السنة؛ كقولِ الله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، وكبيانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عدَمَ وجوبِ الجُمُعَةِ على العَبْد (¬2)، وغيرِ ذلك. وكلام الشافعي في "الأم" (¬3) يدل على ما قلته. السادسة: النِّساءُ لا يَدْخُلْن في جَمْع الرّجالِ؛ لأنَّ لهنَّ لَفْظاً مَخْصوصاً، كَما أَن للرّجالِ لَفْظاً مَخْصوصاً. وقال الحنفيةُ وابنُ داودَ: يَدْخُلْنَ؛ لكثرةِ استعمالِ ذلكَ (¬4)، ورجَّحَهُ بعضُ أهلِ اللُّغة (¬5). ¬
السابعة: ذهبَ أكثرُ أهل اللُّغَةِ إلى أَنَّ النِّساءَ لاَ يدْخلْنَ في لَفْظِ "القَوْمِ" حقيقةً (¬1)، ولا يُطْلَقُ على النِّسَاء إلاّ إذا كانَ فيهنَّ رجُلٌ، واختص الرِّجال بهذا اللفظ (¬2)؛ لأنهم يقومون في الأمور عند الشدائد (¬3)، قال زهير: [البحر الوافر] وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ (¬4) ¬
الفصل الثاني في كيفية استعمال العرب للعام واتساعها فيه
وكذلك "النَّفَرُ"؛ لأنهم ينفرون إذا استُنْفروا، بخلاف النساء (¬1). * * * الفصل الثاني في كيفيةِ استعمالِ العرب للعامِّ واتِّساعها فيه فمِنْ ذلك: 1 - أَنّها قدْ تأتي باللَّفْظِ عامًّا ظاهِراً، وتريدُ بهِ العامَّ الظاهِرَ، ولا خصوصَ فيه. 2 - وعاماً ظاهراً يُعْرَفُ منه العمومُ، ويدخُلُه التَّخْصيصُ. 3 - وعاماً ظاهراً يُعْرَفُ منهُ أنه يُرادُ بهِ الخاصُّ. وقد تأتي بكلامَيْنِ مُتَّصِلَينِ، ويكونُ أحدُهما خاصًّا، والآخرُ عامًّا. 4 - فقدْ يكونُ العامُّ في أَوَّلِ الكَلامِ، والخاصُّ في آخِرِهِ. 5 - وقد يكونُ الخاصُّ في أَوَّلِ الكَلامِ، والعامُّ في آخِرِه، وبجميع ذلك قد (¬2) جاءَ التنزيلُ، وسأبينُ ذلكَ بأمثلةٍ يُستدَلُّ بها على ما وراءَها: 1 - فمثالُ العامِّ الظاهِرِ الذي يُرادُ بهِ العامُّ الظاهِرُ، ويمتنعُ تَخْصيصه: قولُ اللهِ -جَل جلالُهُ-: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وقولُ اللهِ -تبارَكَ وتَعالى-: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6]. 2 - ومثالُ العامِّ المَخْصوص: قولُ اللهِ -جل جلاله-: {وَالسَّارِقُ ¬
{وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فيعرَفُ من لفظِه أنه عامٌّ في كل سارق، ولكنه خُصَّ منه سارقُ الشيءِ التّافِهِ، والسارقُ من غيرِ حِرْزٍ (¬1)، ومَنْ سَرَقَ ما لَهُ فيه شُبْهَةٌ، وغيرُ ذلك. ومثلُه أيضاً قولُ الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، وخُصَّ منه القريبُ المُخالِفُ في الدِّينِ بالقُرْآن، والقاتِلُ بالسُّنَّةِ (¬2) وأولادُ الأنبياءِ -عليهم السلامُ-، والمَمْلوكُ بالإجْماع، وهذا النوعُ كثيرٌ في القرآنِ. 3 - ومثال الذي يَرِدُ عامًّا، ويُرادُ به الخاصُّ: قولُ الله -تبارك وتعالى-: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] الآية، وقد عُلِمَ ضرورةً: أنه إنما قالَ ذلكَ فريقٌ منَ الناسِ لفريقٍ منَ الناسِ تَخْويفاً بفريقٍ منَ الناس، ولكنه لمَّا كانَ اسمُ "الناس" يقعُ على ثلاثَةِ نَفَرٍ، وعلى جَميعِ الناسِ، وعلى مَن بَيْنَ جَميعِهِم؛ ومَنْ بينَ ثلاثَةٍ منهم، كانَ صحيحاً في لِسانِ العربِ أن يُقالَ: الذينَ قالَ لهُمُ الناسُ، وإن كانوا أربعةً، وما أشبهَ ذلكَ من هذا النوع، وهو أكثرُ منْ أن يُحْصى في كلامِهم. 4 - ومثالُ ما ورد (¬3) أَوَّلُهُ عاماً ظاِهراً يُراد بهِ العُموم، وآخِرُهُ خاصًّا يرادُ بهِ الخُصوصُ (¬4): قَوْلُ اللهِ -تبَارَكَ وتَعالى-: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ ¬
{تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] فكانَ (¬1) مَعْلوماً أَنَّ فَرْضَ النِّصْفِ لِكُل مُطَلَّقَةٍ، ومعلوماً أن العفوَ إنَّما يصحُّ من بعضِ المُطَلَّقات، وهُنَّ البالِغاتُ الرشيداتُ (¬2). ومثلُه (¬3) قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] فأولُها عامٌّ في كُلِّ مُطَلَّقَةٍ مَدْخولٍ بها طَلاقاً بائِناً أو رَجْعِياً، والرَّجْعَةُ (¬4) خاصَّةٌ بالمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ. ¬
ومثلُه (¬1) أيضًا قولُه تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] , وذلك عامٌّ في المؤمِنَيْن والكافِرينَ، ثم قال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت: 8] وذلك خاص بالكافِرينِ. 5 - ومثالُ ما وردَ أولُه خاصًّا، وآخرُه عامًّا (¬2): قولُ اللهِ -جل جلالُهُ-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 38، 39] فأولُ الكَلامٍ في صِنْفٍ منَ الظالِمينَ، وهُمُ السُّرّاقُ، وآخرُها لِجَميعِ الظالِمين بالسَّرِقَةِ وغيْرِها. ومثلُه قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فهذا خاصٌّ بالمطلَّقاتِ، ثم قال: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] , وهذا عامٌّ في المُطَلَّقاتِ، والمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ، والمُسْتَوْلَداتِ من الإِماء. فكلُّ جملةٍ من الجمل في هذا القسم والذي قبلَهْ تُحْمَلُ على مُقْتَضاها من عُمومٍ وخُصوصٍ، تَقَدَّمَتْ أو تأخَّرَتْ، ولا (¬3) يُخَصُّ بها الجُمْلَةُ الأخرى؛ خلافًا لبعضِ مُحَقِّقي الأُصوليينَ (¬4)؛ لأنَّ ذلكَ مُقتضى صيغةِ ¬
الفصل الثالث في الخاص
الخِطاب واللُّغَةِ (¬1)، ولأنَّ الآيةَ من القرآنِ قد تنزِلُ مَتفَرِّقَةً في أوقاتٍ متفرقةٍ (¬2)، خلافًا لما توهمه الإمامُ أبو عبدِ اللهِ الشافعي -رضيَ اللهُ تَعالى عنُه- فقد ثبتَ ذلكَ في الأحاديثِ الصَّحيحةِ، وبينتُ وهمَهُ في الكلام على آية الصّيامِ، وستراهُ إن شاءَ الله تعالى. * * * الفصلُ الثالِثُ في الخَاصِّ وهو تمييزُ بعضِ الجُمْلَةِ بحُكْمٍ (¬3)، وهو على ضربين (¬4): ¬
أحدُهُما: خاصٌّ لا عامَّ فيه؛ كقولهِ تَعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] , وكقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]. والثاني: خاصٌّ بالإضافةِ إلى غيره، وأما حقيقةُ لفظِهِ، فَعامٌّ، وذلك مثلُ قولهِ تعالى: {وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]؛ فإنه خِطابٌ خاصّ مع أهلِ العقولِ خاصَّةً، وإنْ كانَ اللفظُ عامّا في ذاتِهِ وحقيقَتِه. ومثلُه {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] كما تقدم (¬1). والخاصُّ (¬2) قد يكون نُطْقاً، وقد يكون مَفْهومَ نُطْقٍ، وقد يكون مَعْنى نُطْقٍ (¬3). ¬
والذي يجوز تخصيصُه نطقُ الكتابِ والسُّنَةِ، والذي يجوزُ التَّخصيصُ بهِ الكتابُ والسُّنَةُ والإِجماع، وقد مضى في الفَصْل الذي قبل هذا أمثلةُ التَّخصيصِ بالكتاب والسُّنَةِ والإجْماعِ (¬1). وأما التَّخصْيصُ بالقِياسِ، ففيِه خِلافٌ بين الأُصوليينَ، والصحيحُ جَوازُ التَّخصيصِ بهِ؛ لأنه دليلٌ، فَجازَ التخصيصُ بهِ كسائر الأدِلَّةِ (¬2)، ومثالُه قولُ اللهِ تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] , وقوله تعالى في الإماءِ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فهذا تخصيصٌ للأَمَةِ يُخْرِجُها منْ عُموم آيةِ الجَلْدِ، ثمَ قِيسَ العَبْدُ على الأَمَةِ، فَجُعِلَ حده خَمسينَ كَحَدها، فالآية مخصوصَةٌ بالأمَةِ باللَّفظ، ومخصوصَةٌ بالعبدِ بالقِياس على الأَمَةِ (¬3). ¬
الفصل الرابع في ترتيب العام على الخاص
الفصلُ الرابُع في ترتيبِ العامِّ على الخاص (¬1) وذلك على ضربين: أحدُهما: أن يكونَ حُكْمُ الخاص دافِعاً الحكمَ العامَّ، فالعامّ مرتَّبٌ على الخاصِّ؛ لأن العامَّ لا يمكنُ استعمالُه في جميع أفرادِهِ إلا بإبطال الخاصِّ، وذلك لا يجوز، ومثاله آية السرقة، والميراث، وغير ذلكَ ممَّا قَدَّمْتُهُ (¬2). الثاني: أن يكون الخاصّ لاَ يَدْفَعُ حُكْمَ العامِّ، وإنما خُصَّ بعضُ أفرادِه بالذِّكْر، فهذا لا يُخَصّ بهِ العامّ؛ لأن استعمالَهما مُمْكِنٌ، وليس بينهما تنافٍ، ولا اختلافٌ، وكأنَّ المخصوصَ وردَ فيه خَبَرانِ: خبرٌ يشتملُ عليهِ مع غيرِه، وخبرٌ ينفرِدُ بذكرِه (¬3). مثالُ ذلكَ: قولُ الله -تبَارك وتَعالى-: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] وقولهُ تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وقولُه تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ ¬
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا} [البقرة: 236]. فذهبَ بعضُ أهلِ العلمِ إلى أنَّ لكلِّ مطلقة مُتْعَةً، وتمسَّك بعمومِ قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}، قال: وليسَ في تركِ ذِكْرِ التَّمَتعُّ في المُطَلَّقَةِ المَفْروضِ لَها قبلَ الدُّخولِ بها دليلٌ على أنه لا مُتْعَةَ لَها، بل لها نِصْف الفَرْضِ بهذهِ الآيةِ، ولَها المُتْعَةُ بالأخْرى، وتخصيصُها بالذكر في نصفِ الفرضِ لا يُخْرجها منْ عُمومِ الآية الأخرى. قال: وليسَ في الأمرِ بتمتيع المُطَلَّقَة قيلَ المَسيس -إذا كانَتْ غَيْرَ مَفروض لَها- دليل على أنَّ المُرادَ بالعُموم هؤلاءِ المطلقاتُ دونَ غَيْرِهِن. وذهبَ بعضُهم إلى أنه لا مُتْعَةَ إلا للتي لم يُفْرَضْ لها إذا طُلِّقَتْ قبلَ المَسيسِ، وجَعلوا الآيةَ فيها مفسِّرةَ للآيةِ العامة. وذهبَ بعضُهم إلى أن لِكُلّ مطلقةِ متعةً، إلا المفروضَ لها إذا طُلقَتْ قبلَ الدُّخول؛ لأن (¬1) الله -جَلَّ جَلالُهُ- لم يجعلْ لها إلا نِصْفَ المَهرِ، واستدَلُّوا (¬2) على سقوطِ المُتعةِ بالسكوتِ عن ذِكْر ما تَسْتَحِقُّهُ بالطَّلاقِ، وكأنه قيلَ: لا متعةَ لهَا، وخَصُّوا بها آيةَ المَتاعِ للمُطَلّقات (¬3). والأصلُ الصحيحُ أن جميعَ ذلكَ ليسَ بدليلٍ، بل يُنظَرُ في غيرِ ذلكَ من الأدِلَّةِ، فَيُقْضى بهِ لأحَدِ هذه الأقاويل، وأما السكوتُ عن ذكرهِ (¬4)، فليسَ بدليلٍ، وسنزيدُ ذلك وضوحاً إن شاء اللهُ تَعالى. * * * ¬
القول في المطلق والمقيد
القولُ في المُطْلَقِ والمُقَيَّدِ المطلق (¬1): أن يَذْكُرَ اللَّفْظ مُجَرَّداً، ولا يَقْرِنَ به صِفَة، ولا شَرْطاً، ولا زَماناً، ولا عَدَداً، ولا ما أشبهَ ذلكَ من الصِّفات. وهو نوعٌ من أنواعِ العُموم على سبيلِ البَدَلِ، لا على سبيل الاستِغْراق. والمقيد: أن يَذْكُرَ اللَّفْظَ مَقْروناً بشيء من ذلكَ (¬2). وهو نوعٌ من الخُصوص. والإطلاقُ والتقييدُ عندَ العربِ من أحسنِ لِسانها، وأَعْلى كلامها. مثالُ الإطلاقِ: قولُ امْرِئِ القيس: [البحر الطويل] مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفاضَةٍ ... تَرَائِبُهَا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ (¬3) فَشَبَّه ترائِبَهَا بالِمرْآةِ مطلقًا. ¬
وقال آخر (¬1): [من الطويل] وَوَجْهٌ كمرآةِ الغَريبة أَسجح فَقَيَّدَ المِرْآة بالغريبةِ؛ لأن مِرْآتها أصفى وأنقى من غيرها؛ لضرورتها إليها حتى تُرِيَها ما تحتاجُ إليه؛ إِذْ ليسَ للغريبةِ منْ يتفقدُ مساوِئَهَا (¬2). وحكمه: أنه متى وردَ اللفظُ في كتابِ الله مُقَيداً، فهو على تقييده إلَّا أن يَدُلَّ دليلٌ على التسوية بينهُ وبين ما قُيدَ منهُ، وإذا وردَ مُطْلَقاً، فإنْ وُجِدَ دليل يقيدُه، وجبَ تقييدُه، وإلَّا فهو على إِطْلاقِهِ، وما جازَ أن يُخَصَّ بِه العامُّ، جازَ أن يُقَيَّدَ بهِ المُطْلَقُ (¬3). لكنْ بقيَ هنا نوعٌ آخَرُ من التَّخْصيص، ويعبَّرُ عنهُ عندَ الأُصوليين (¬4) بـ "حَمْل المُطْلَقِ على المُقَيَّدِ"، وهو في الحقيقَةِ غيرُ القِياس. وحكمُهُ: أنه إذا وردَ أحدُ اللَّفْظَيْنِ مُطْلَقاً؛ والآخرُ مُقَيَّداً، نُظِرَ فيهِ: فإنْ كانَ الحُكْمُ مُختلِفًا، لم يُحْمَلْ أحدُهما على الآخَرِ، مثلُ إيجابِ اللهِ -تعالى- غَسْلَ الأعضاءِ (¬5) الأربعةِ في الوُضوءِ، وتركِهِ لذكرِ الرأسِ والرِّجْلَيْنِ في التَّيَمُمِ، فلا يُحْمَلُ أحدُهما على الآخَرِ (¬6). ¬
فإنْ كانَ ذلكَ في حكمٍ واحدٍ، وسببٍ واحدٍ، حُمِلَ المطلَقُ على المقيَّدِ بالاتفاق (¬1)، وذلكَ كتقييدِ اللهِ تعالى العدالةَ في شُهودِ الطَّلاقِ (¬2) والوَصية (¬3)، وإطلاقِها في البيع (¬4)، فالعدالةُ شرطٌ في الجميع (¬5). وإنْ كانا في حكمٍ واحدٍ وسببينِ مختلفَيْنِ، نُظِرَ في المقيدِ: فإن عارضَهُ مقيَّدٌ آخَرُ في ذلكَ الحُكْمِ، لم يُحْمَلِ المُطْلَقُ على المقيَّدِ في واحدٍ منهما؛ إذْ ليسَ أحدُهما أولى منَ الآخَرِ، وذلك مثلُ الصَّومِ في الظِّهارِ، قيده بالتَّتَابُعِ (¬6)، وفي المُتَمَتِّع (¬7) قَيَّدَهُ بالتفريقِ (¬8)، وأطلقَهُ في كَفّارة اليَمين (¬9)، فلا يُحملُ المطلَقُ في اليمينِ على واحدة منهما. وكذلكَ إذا تجاذبَ المُطْلَقَ ثلاثُ تقييداتٍ؛ كما ورد في نجاسَةِ الكلب، قيدهُ في رواية: بالأُولى، فقال: "أُولاهُنَّ بالتُّرابٍ" (¬10)، وفي ¬
رواية: بالأخرى، فقال: "أخْراهُنَّ بالتُّرابِ" (¬1)، وفي روايِة: "أولاهُنَّ أَوْ أخْراهُنَّ" (¬2)، وأطلق في روايةٍ فقالَ: "إحْداهُنَّ" (¬3)، عُمِلَ بهذا المُطْلَقِ، ولم يُحْمَلْ على واحدٍ من المقيداتِ (¬4)، ولا التفاتَ إلى ما توهَّمه الأسنوي (¬5) واعتقده في هذه المسألة (¬6). ¬
وإن لم يعارض المقيَّدَ مقيَّد آخرُ؛ كالرَّقَبَةِ في كَفّارة القَتْل (¬1)، والرَّقَبةِ في كَفّارةِ الظِّهار (¬2)، قُيِّدَتْ بالإيمانِ في القَتْلِ، وأُطْلِقَتْ في الظِّهار، حُمِلَ المُطْلَقُ على المُقيَّدِ عندَ الشافعيَّةِ، ولا يُحْمَلُ عليهِ عندَ الحَنَفِيَّةِ (¬3). وقد (¬4) أعرضتُ عن ذكرِ الحُجَجِ والأدلَّةِ هُنا، وفي غيرهِ من المواضِعِ إلا قليلاً؛ لأنَّ قصدي بيانُ تصَرُّف العربِ في لُغَتِها واتِّساع معانيها. وهذا الكلامُ في الإطلاقِ والتقييد في الحكم المتعلق بخطابَيْنِ. * وأما الحكمُ المُعَلَّقُ بخطابٍ مقيَّدٍ بصفةٍ من الصفات، أو بشرطٍ من الشروطِ، ففيهِ أيضًا خِلافٌ عندَهُم (¬5). - أمّا الحكمُ المعلَّق على الشرطِ، فإنه يدلُّ على أنَّ ما عَداهُ بخلافِهِ عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ بشرائطِ الاستدلالِ (¬6). ¬
- وأما المعلق على الصفَةِ، فإنه يدلُّ على أن ما عَدا الموصوفَ بخلافِهِ عندَ الشافعي وجماهيرِ أصحابه وغيرِهم، ولا يدلُّ عندَ كثيرٍ من أهلِ العلمِ (¬1). والتحقيقِ ما ذكرهُ بعضُ محققي الشافعيَّةِ (¬2)، وهو أنَّ الواجبَ على الناظرِ أن يتأملَ مخرجَ الخطابِ وسياقَهُ، وما تقدّمَهُ من القرائنِ والكلام: فإنْ وجدَ دليلاً يستدلُّ به على الجمعِ بين المسكوتِ عنهُ والمذكورِ، صارَ إليه. وإنْ لم يجدْ دليلاً، أمضى (¬3) الحُكْمَ في المذكور على مُقْتَضى الخطابِ، ثم نَظر في حكمِ المسكوتِ عنه على سبيل ما يَنْظُر في الحوادثِ التي تُعْدَمُ (¬4) فيها النصوص: فإن وجدَ دليلاً يَجْمَعُ بينَ المذكورِ والمسكوتِ عنه، جمعَ بينَهما في الحكم. وإنْ وجدَ دليلاً يدلُّ على الفَرْقِ بينهما، فَرَّقَ بينهما (¬5). فمثالُ ما دل عليه الدليلُ في مخالفةِ المسكوتِ عنه للمذكور: قولُه: ¬
"في سائِمَةِ الغَنَمِ زكاةٌ" (¬1)، فهذا نظرَ فيه الناظرُ، ونظرَ في سائرِ الأموالِ الزَّكاتِيَّةِ، وجدَ الزكاةَ قد عُفي عنها فيما اتُّخذَ للبَذْلَةِ وللعَمَلِ، ولم يكنْ للتَّنْمِيَةِ، عَلِمَ بذلكَ أن ذكرَ السوم شرطٌ؛ لأنَّ المعلوفَةَ يُحْبِطُ علفُها نماءَها. ومثله أيضًا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما رَجُلٍ باعَ نَخْلا قَدْ أبّرَتْ، فَثَمَرَتُها للبائِعِ، إلا أنْ يَشْتَرِطَ المُبْتاعُ" (¬2)، فإذا نَظَرَ الناظِرُ، وَوَجَدَ الَّذي لم يُؤَبَّرْ مُسْتكنًّا غيرَ ظاهرٍ، فهو كالجَنينِ في بَطْنِ الجاريةِ، والَّذي أُبِّر غيرُ مُسْتكنٍّ، فهو كظهورِ الجنينِ بالوِلادة، فعلمَ أن الإبّارَ حَدٌّ (¬3)، وأن الذي لم يُؤَبَّرْ يدخلُ في المبيع (¬4). ¬
ومثالُ (¬1) ما دلَّ الدليلُ على إلحاقِ المسكوتِ عنهِ بالمذكورِ: قولُه تَعالى في الصَّيْدِ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] فإذا نظرَ فيهِ الناظرُ، وجدَ القتلَ إِتْلافاً، ووجدَ (¬2) الإتلافَ يَسْتَوي فيهِ العَمْدُ والخَطَأُ، استدلَّ بهِ على أن العَمْدَ ليسَ بشَرْطٍ، وإِنَّما هو تعريفٌ لا تقييدٌ. ومثلُه أيضًا إذا اختلف البَيِّعانِ، والسلْعةُ قائِمَةٌ، تَحالفا وتَرادّا، فإذا نظرَ النَّاظِرُ، وجَدَ البُيوعَ مَتى فُسِخَتْ عُقودُها، رَجَعَ كُلٌّ من المُتبايِعَيْنِ إلى أصلِ مالِهِ، فأخذهُ منْ صاحِبه إنْ كانَ قائِمًا، وإلاّ رجعَ بقيمَتِه إن كانَ فائِتاً، علمَ بذلكَ أَن ذكرَ قيامِ السلْعَةِ ليس بشرط في التحالُفِ والتَّرَادِّ. وإنما بيَّنا هذا وبسَطَنْاه لتعلَموا أَنَّ المُعْتَمَدَ في هذا الباب هو الاسْتِدْلال والنَّظَرُ. ويزيدُهُ تأكيدًا ووُضوحاً أَنَّ الحُكْمَ المُعَلَّقَ على إحْدى صِفَتي الشَّيء يكونُ في مَسْكوتهِ ما يساوي منطوقَهُ، وفيهِ ما يُخالِفُهُ. مثالُ ذلكَ: قولُ اللهِ -تبارك وتعالى-: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23] فاشتراطُ الأَصْلاب يَنْفي تَحريم حلائِلِ أبناء التبنِّي، وأما بَنو البَنينَ، فلم تُفَرِّقِ الأصولُ بينَهم في إرثٍ ولا وِلاَيةٍ، فكانوا في معناهُمْ. وكذلكَ من وَطِئَها الابنُ بملكِ اليمين لم يأتِ ذكرُ الحَلائِلِ لنَفْيِهم. وكذلك قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55] الآية, وقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور: 31] الآية، فيه وقوعُ الحَرَجِ في إبداءِ الزينة لِمَنْ عدا المذكورين منَ الأجانِب، ¬
ولم يكنْ فيه نفيٌ لرفع الجُناح في إبدائِها لِقَرابَةِ الرَّضاعِ. فهذا كُله دليلٌ على هذا الأصلِ الذي أصَّلناه؛ لتعلموه، ولتعتبروا به. وقد يختلف الفقهاءُ في الأدلَّةِ المؤدّيةِ إلى المُرادِ معَ اتِّفاقِهِمْ على العملِ بالنظر والاجتهاد. * واعلموا أن العربَ قد تَخُصُّ بالذكرِ شيئًا لأسبابٍ ومَقاصِدَ، وهو وغيرهُ سواءٌ، ووردَ في القرآنِ والسُّنَّةِ من ذلك أنواعٌ (¬1): أحدُها: أن يكونَ الشيءُ جواباً لسؤالِ سائلٍ سألَ بكلامٍ مَخْصوصٍ بإحْدى صِفَتَيِ الاسمِ، فيحصلُ الجوابُ على وَفْقِ سؤالِهِ، وعلى هذا تحملُ الشافعيةُ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ والرَّضْعَتانِ" (¬2). الثاني: أن يَخُصَّهُ بالذِّكْرِ لأجلِ التَّفْضيلِ والتَّعْظيم، ومنهُ قولُ اللهِ - تَبارَك وتَعالى-: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] ومنهُ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "والزِّنا بِحَليلَةِ الجار" (¬3)، ومنه: ¬
{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (¬1) [البقرة: 197]. الثالث: أن يُخَصَّ بالذكْرِ لكونهِ الغالبَ عليه؛ كقولِ الله -تبَارَك وتَعالى -: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]؛ إذِ الغالبُ على الربيبَةِ (¬2) كونُها في حِجْر زَوْجِ أُمِّها. ومثلهُ (¬3) قولهُ -تَعالى-: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95]؛ إذِ الغالبُ أن القتلَ إنما يكون عن عَمد. الرابع: أن يُخَصَّ بالذكرِ لكونهِ مَحَلًّا صالحًا للمذكور، كقوله تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70] فخُصَّ الحَيُّ لِصَلاحيتِهِ لِقَبولِ النِّذارَةِ. ومثلُه قولُه تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]. * * * ¬
القول في الحقيقة والمجاز
القول في الحقيقة والمجاز والحقيقةُ: هي: الكلامُ الباقي على وَضْعِه الذي وُضِعَ له، ولم يُعْدَلْ بهِ عنه. وهي مأخوذةٌ من الحَقِّ، وهو الشيءُ الثابتُ الواجب، وهو أكثرُ القرآنِ العظيمِ (¬1)؛ يقول الله الكريم تبَارَك وتَعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2 - 4]. والمَجازُ: مأخوذ من الجَواز، وهو العُبورُ، فتأويل قولنا: مجازٌ، أَي: إن الكلامَ الحقيقيَّ يمضي لسبيلهِ، ولا يعترضُ عليه، وقد يكون غيرهُ يجوزُ جوازَهُ لقربهِ منه، وهو من أوسَعِ لِسانِ العربِ مجالاً، وأحسنِها اسْتِعْمالاً، فلا يوجد لهمْ شعرٌ ولا نثرٌ إلا وفيهِ المجازُ، ولا يَحْسُنُ الكلامُ في استعمالهم إلَّا به (¬2). ¬
ولكن الحقيقةَ أكثرُ استعمالاً منه (¬1)، خلافًا لابن رَشيقٍ وابْنِ جِنِّي (¬2)، وقد وردَ القرآنُ العظيمُ (¬3) بالمَجاز (¬4) ليكونَ حُجةً على العربِ؛ إذ خاطبهُمْ بجَميع أنواعِ كلامِهم، ثم تحداهم بسورَةٍ من مثلِه (¬5)، وعجَزوا عنِ الإتيانِ بمثلِها، معَ قيام دواعيهم وتوفُرها على المُعارَضَةِ له؛ لِكَيْلا يقولوا: إنَّما عَجَزنا عن الإتيانِ بمثلِه لكونهِ بغير سُنَتِنا وخلافَ عادَتِنا؛ إذْ لمْ يجمعْ صنوفَ كلامِنا. ولا نَظَرَ إلى خلافِ ابن داودَ؛ حَيثُ أنكرَ المَجاز في القُرآن، فالقرآنُ مَشْحونٌ بذلكَ (¬6)، وإنِ (¬7) اعترفَ بهِ وادَعى تأويلَه، كانَ الخلافُ في التسمية والعبارة. ¬
الأول: الاستعارة
* والمجازُ على أنواعٍ كثيرةٍ (¬1)، ولْنَذْكُر منها هاهنا -أيضًا- تسعةَ أنواعٍ؛ لكثرةِ دورها ودلالتِها على غيرها: النوع الأول: الاستعارةُ: وهو أن يضعَ الكلمةَ للشيء يستعيرُها له من مَواضِعَ أُخَرَ لِمُشابَهَةٍ بينَهُما؛ كقولِه تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] وقوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29] وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] , وقوله تعالى: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131] , وكقولهم: انشقَّتْ عَصا القوم؛ إذا تفرقوا، وذلك غير منحصر في كلامهم. الثاني: التّشبيهُ: كقوله تَعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22] وكقولِ الشاعِر (¬2): [البحر الطويل] دُفِعْتُ إلى شَيْخٍ بِجَنْبِ فَتَاتِهِ ... هو العَيْرُ (¬3) إلا أنّه يَتكلَّمُ الثالثُ: الزيادَةُ: قالَ بعضُ أهلِ اللِّسانِ: إن العربَ تَزيد في كلامِها أسماءً وأَفْعالا وحُروفاً: - أمّا الأسماءُ، فثلاثة: الاسمُ والوَجْهُ والمِثْلُ. فالاسمُ، في قولِ القائلِ: باسمِ الله، إنما أراد: بالله، ولكنّه لما أشبهَ القسمَ، زِيدَ فيه الاسْمُ. ¬
والوجهُ، كقولِ القائِل: وَجْهي إليه، وفي كتابِ الله -عَزَّ وَجلَّ-: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] , قال الشاعر: [البحر البسيط] أستغفرُ الله ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ العِبادِ إليهِ الوَجْهُ والعَمَلُ (¬1) والمِثْل، في كتابِ الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] , وقولُه تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] , قال الشاعر: [البحر السريع] يا عاذِلي دَعْنِيَ مِنْ عَذْلِكا ... إذْ مِثْلِي لا تقْبَلُ مِنْ مِثْلِكا - وأما الأفعالُ، فقولُهم: كادَ، قال الله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] , قال الشاعر (¬2): [البحر البسيط] حتى تبادل كلباً في دِيارِهِمُ ... وكادَ يَسمو إلى الجُرْفَيْنِ فارْتَفَعا أراد: وَسَما، ألا ترى أنه قال: فارتفعا. - وأما الحروفُ، فزيادَتُها مشهورةٌ، وربما قيل باختصاصِ الزيادِة بها، فمنها حروف المعَاني، وزيادتُها كثيرةٌ منتشرةٌ؛ كقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25] , وكقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. ¬
الرابع: النقصان
الرابع: النّقصان: وهو أن تنقصَ منَ الكلامِ اسما أو فِعْلاً أو حَرْفًا، فَتُضْمِرُهُ وتخفيهِ. - فأما الاسمُ، فمثلُ قراءة الكِسَائي: (ألا يا اسجدوا) (¬1)، ومعناه: ألا يا هؤلاء اسجدوا، ومثل قول الشاعر (¬2): [البحر الطويل] ألا يا اسْلَمي يا دَارَ مَيَّ على البِلَى ... ولا زَالَ مُنْهَلًّا بَجَرْعائِكِ القَطْرُ ويُضمِرونَ "مَنْ" فيْقولون: ما في حَيّنا إلَّا لَهُ إِبلٌ، أَيْ: مَنْ لَهُ إِبلٌ. وفي كتاب الله: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)} [الصافات: 164] , {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159]. ويضمرون "هذا"، قال الشاعر: [البحر الطويل] أأنتَ الهِلاَليُّ الذي كنت مَرَّةً ... سَمِعْنا بِهِ والأَرْحَبيُّ المُعَلَّفُ أيْ: وهذا الأَرْحبِيُّ المُعَلَّفُ (¬3). - وأما الأفعال، فنحو قولهم: أَهْلًا وسَهْلاً، ورعْيا وسَقْيًا، وقولهم: ¬
أثَعْلَبًا وَبَقَرًا، أَيْ: صادَفْتَ أَهْلا و [نزلت] سَهْلاً، وسَقاكَ اللهُ سَقْياً، ورَعاك الله (¬1) رَعْيًا، وأَترى ثَعْلَبًا وَتقَرَأ، ونحوُ قولِ الله -تبَارَكَ وتعالى-: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} [البقرة: 60] وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] أي: فَضَرَبَ فانفجَرَتْ. فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ. - وأما الحروفُ، فنحوُ قولهم: واللهِ لَكَانَ كَذا، أي: لقد كان كذا، وفي كتاب الله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1 - 2] قيل: معناها لقد غُلبت الرومُ (¬2)، فلما أُضْمِرَتْ "قَدْ" أُضْمِرَتِ اللامُ، وقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155] , أي: مِنْ قَوْمِهِ. وقوله تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء: 72] أي: يسمعونَ لَكُمْ. وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] أي: فعليهِ ما استيسرَ منَ الهَدْي. وقوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] أي: عَنْ أَنْ تنكِحوهُنَّ، عِنْدَ قومٍ، وقومٌ يُضمرونَ "في"، ويقولون: في أن. وقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} [الشورى: 7] أي: بِيَومِ الجَمْع. وقد ينقصونَ الكلمةَ، ويكتفونَ ببعضِها، يقول الشاعر (¬3): [بحر الرجز] قَلتُ لها قِفي قَالتَ: قَاف ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ¬
أي: قد وقفتُ (¬1). وفي كتاب الله من هذا النوع: فواتحُ السور، على قولٍ مشهورٍ مرويٍّ عنِ ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في قوله: {الم} [البقرة: 1]؛ أي: أنا الله أعلم (¬2)، وكذا بقية الفواتح، وفيها أقوال كثيرة عن العلماء (¬3) -رضيَ اللهُ تعالى عنهم-. وأوضحُ من هذا النوعِ حذف المُضافِ وإقامةُ المُضافِ إليه مقامَهُ، وهو الذي يُسمِّيه الأصوليونَ: لَحْنَ الخِطاب (¬4)؛ يقول الله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف: 163] وقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬5) [يوسف: 82] , وقوله (¬6): {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وقولهم: بنو فلان يَطَؤُهُمُ الطريق. وهذا النوعُ واسع في اللغةِ، لا يُحصى لكثرته، وهوَ من الكلامِ الذي يبينُ آخرُهُ أَوَّلَهُ. ومن الكَلام الذي أُريدَ بهِ غَيْرُ ظاهره؛ كقولهِم: قاتلَهَ اللهُ ما أَفْصَحَهُ! وتَرِبَتْ يَمينُكَ! وما أشبه ذلك. ¬
الخامس: التقديم والتأخير
الخامس: التقديمُ والتأخيرُ: وذلك مشهورٌ في لسانِ العرب. قال ذو الرُّمَّةِ: [البحر البسيط] ما بالُ عَيْنِكَ مِنْها الماءُ يَنْسَكِبُ (¬1) أي: ما بال عينك يَنْسَكِبُ منها الماءُ. ويرد به القرآنُ العزيزُ، قال اللهُ -جَل جَلالُه-: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا} [سبأ: 51]؛ لأنَّ الفوت يكون بعد الأَخْذِ، وقال تعالى: {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ} [النمل: 28] , وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف: 1] وغير ذلك من الآيات. السادس: المحاذاةُ والمُقابَلَةُ للشيءِ بمثلِ لَفْظِهِ معَ اختِلاف المعنى: وهو مشهور في لسان العرب، قال عَمْرُو بنُ كُلْثوم: [البحر الوافر] أَلا لا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فنجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجاهِلينا (¬2) ومنه في كتاب الله تعالى: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14، 15] وقولُه تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] وقولُه تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]. ومن اتساعِ العربِ في هذا النوع استعمالُهم المُحاذاة في الألفاظِ ¬
السابع: أن يسمى الشيء باسم ما يؤول إليه
والصِّيَغِ، فقالوا: إني لآتيه بالغَدايا والعَشايا، وهنَّأني ومَرَّأَني (¬1)، جَعَلوا إحدى الكلمتينِ كلفظِ الأُخْرى، معَ اختلافِهِما في صورةِ الجَمْعِ والوَضْع، فجمعُ غُدْوَةٍ: غُدُواتٍ، وصيغةُ الفعل: أَمْرَأَني. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحَديث الصحيحِ المشهور: "فيقولُ: لا دَرَيْتَ ولا تليتَ" (¬2) وأصلُه: تَلَوْتَ. ومنهُ قولُهم: عندي ما سَاءَه ونَاءَهُ، أي أَنَاءَهُ، ومعناه: أثقَلَهُ. وقولهم في الدعاء: لا ذَرَيْتَ ولا تَلَيْتَ، وأصلُه: أَتليْتَ، ومعناهُ: لا نما له بالذُّرِّيَّةِ، ولا عاش حتى تتلوَ البناتُ الأُمهات. وذكر بعض أهل العلم أن الصحابة -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- استعملوا المُحاذاة في رَسْمِ المُصْحَف، فكتبوا: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 2] بالياء، وهو من ذَواتِ الواوِ، وقُرِنَ بغيرِهِ من ذَواتِ الياء، ومنْ هذا النوعِ قوله تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] فاللَّامان لاما قسَمٍ، ثم قال: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21] وليسَ هوَ قَسَماً، بلْ هُوَ عُذرٌ للهُدْهُدِ، لكنهُ لَمّا أتى به على أَثَرِ ما يجوزُ فيه القَسَمُ، أجراه مُجْراهُ. وقولُه تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} [النساء: 90]. السابعُ: أن يُسمَّى الشيءُ باسمِ (¬3) ما يَؤُولُ إليهِ: كقولِ اللهِ: {إِنَّ الَّذِينَ ¬
الثامن: أن يسمى الشيء بما كان عليه
يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] وقوله تَعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]. الثامنُ: أَنْ يُسَمَّى الشيءُ بما كانَ عليهِ: كقولِه - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ دَمُ امْرئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثلاث: كُفْرٌ بعدَ إيمانٍ" (¬1)، وقد سَمَّاهُ: مُسْلِماً. التاسع: تسميتُهم الشيءَ بما يَستحيلُ وُجودُه: كقولهم للأعمى: بصيرٌ، وللأحدب: غُصْنٌ، وللطويل: نَخْلَةٌ، وللأَبْلَهِ: كَيِّس، وللَّديغِ: سليمٌ، وللخبت (¬2) الواسعِ: مفازةٌ. وللتمييز بين الحقيقةِ والمَجاز -عندَ الاشتباهِ- طُرُقٌ ذكرهَا النُّظَّارُ، وليسَ ذكرُها من غرضي. * * * ¬
القول في الأمر والنهي
القول في الأمر والنهي الأمرُ في لسانِ العَرَبِ: ما أَوْجَبَ طاعَةَ الآمِرِ، وإذا لم يَفْعَلْهُ المَأْمورُ كان عاصياً، كَما عُقِل ذلكَ من عادتِهم إذا أمَرَ السيدُ عبدَه. ومعناهُ عندهم: الاستدعاءُ والطَّلَبُ، وسواءٌ كان بصيغة افْعَلْ، أو لِيَفْعلْ، أو غيرِهِما، وما ليسَ معناهُ الطلبَ فليسَ بأمرٍ حقيقةً، وإنْ كانَ بصيغةِ افْعَل. والكلامُ فيه يتمُّ في فَصْلَينِ: أحدُهما: في مُقْتَضى الأمرِ عندَ أهلِ العِلْمِ. والثاني: في كيفيةِ تَصَرُّفِ العربِ في استعمالِه. * * * الفصلُ الأولُ وفيه أربعُ مسائلَ: * الأولى: الأمر هَلْ يقْتَضي الوُجوبَ؟ فيه خلافٌ كثيرٌ بينَ أَهْلِ العِلْمِ (¬1). ¬
الثانية: إذا ورد لفظ الأمر، وفي الصيغة ما يدل على التكرار
والصحيحُ عندَ الجُمهورِ أنهُ على الوجوبِ. والدليلُ عليهِ قولُ اللْهِ - عَز وجَل-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] , وقولُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْلا أَنْ أَشُق عَلَى أمتي لأَمَرتُهُمْ بالسّواكِ عِنْدَ كُلّ صلاةٍ" (¬1)، وما أشبَهَهُ من الأخبار. والواجبُ على الناظر إذا ورد الأمرُ أن يَنْظُرَ، فإنْ وجدَ معَهُ شيئًا يَدُلُّ على الحَتْمِ، حَمَلهُ عليهِ، وإن وجد ما يَدُلُّ على النَّدْبِ أو غيرهِ، حَمَلَهُ عليه، وإلا حَمَلَهُ على الوُجوب. وكُلُّ ما جاز أن يُسْتَدَلَّ بهِ على تَخْصيصِ العامِّ، جازَ أن يُسْتَدَلَّ بهِ على أنَّ الأمرَ ليسَ على الوُجوب. * الثانية: إذا وردَ لفظُ الأمرِ، وفي الصيغةِ ما يدلُّ على التكْرارِ، حُمِلَ على التّكْرار، وإنْ كانَ مُجَرَّداً، ففيهِ خلاف بينَهُمْ: فَمِنْهُمْ مَنْ قالَ: يجبُ التكرارُ على حَسَبِ الطاقةِ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَمَرْتكمْ بأَمْرٍ فَأتوا مِنْهُ ما استَطَعْتُمْ" (¬2)، وهذا داخِل في الاستِطاعَة. ¬
الثالثة: الأمر هل تقتضي الفعل على الفور، أو لا
ومنهمْ من قال: لا يَجِبُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّة واحِدَة؛ لأنهُ مُقْتَضى لَفْظِ الأَمْر (¬1). * الثالثةُ: الأَمْرُ هَلْ تقتَضي الفِعْلَ على الفَوْرِ، أوْ لا؟ إنْ قُلْنا: إنَّ الأمرَ يَقْتَضي وجوبَ (¬2) التكرارَ على حَسَبِ الاستِطاعَةِ، وجَبَ الفِعْلُ على الفَوْرِ؛ لأنَّ الحالة الأُولى داخلةٌ في الاستِطاعة، فلا يجوزُ إِخْلاؤها من الفِعْلِ (¬3). وإنْ قُلْنا: إن الفعلَ يَقْتَضي مَرَّةً واحِدَة، فَهَلْ يَقْتضي الفَوْرَ؟ فيهِ مذهبان (¬4). ¬
الرابعة: إذا ورد الأمر بعد الحظر والمنع، فهل يقتضي الوجوب؟ فيه مذهبان
* الرابعةُ: إذا وَرَدَ الأمْرُ بعدَ الحَظْرِ والمنعِ، فهل يقْتَضي الوُجوبَ؟ فيه مذهبان: أحدهما: يقتضي الوُجوبَ، بدليلِ قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: 5] الآية، ولأن كل لفظ اقتضى الوجوبَ إذا لم يتقدمْهُ حَظْرٌ، اقْتَضى الوجوبَ وإنْ تقدَّمَهُ حَظْرٌ؛ كقولكَ: أوجبْتُ، أو فَرَضْتُ. والثاني: لا يَقْتَضي الوُجوبَ (¬1)، ويكون الحَظْرُ قرينة صارفَةً لهُ عن الوجوبِ؛ كقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] , وبهذا قال مالِكٌ وكَثْرَةٌ من أصحابِ الشافعيِّ -رضي الله تعالى عنهم-. والذي أراهُ سديداً - إن شاءَ اللهُ- أنَّ الأمرَ والطلَب يرفعُ ذلكَ الحَظْرَ والمَنع، وينسَخُهُ، ويعودُ الأمرُ إلى ما كانَ قبلَ الحَظْرِ، فإن كانَ واجبًا، وجبَ المأمورُ به، وإن كانَ مُباحًا، كانَ المأمورُ به مُباحًا؛ كقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: 5] الآية، كانَ قتلُ المشركينَ واجبًا قبلَ الأشهُرِ الحُرُمِ، فَرَجَعَ واجبًا بالأمْرِ الثاني وتقويةِ الأمْرِ الأولِ له، كقوله ¬
تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] , وكقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وكانَ الإتيانُ والاصطيادُ مُباحَيْنِ قبلَ الحَيْضِ والإحْرامِ بالخِطاب المتقدم، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كُنْتُ نَهَيْتكُمْ عَنْ زِيارَةِ القُبورِ، فَزوروها" (¬1). فإن قيلَ: كانَ حَلْقُ الرأسِ مُباحًا قبلَ الإحرامِ، وكان النَّظَرُ إلى الأجنبيةِ حَراما قبلَ الخِطْبَةِ، ثُمَ أُمِرَ بذلكَ، فاستُحِبَّ هذا، ووَجَبَ ذلكَ. قلنا: إنما وَجَبَ ذلكَ للقرينةِ الدّالَّةِ الزَّائِدَةِ على صيغةِ الأمر، وكلامُنا في الأَمْرِ المُجَرَّدِ عن الأدِلَّةِ والقرائِنِ، ألا تَرى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رَحِمَ اللهُ المُحَلِّقينَ" قالوا: والمُقَصِّرينَ، قالَ: "رَحِمَ اللهُ المُحَلِّقينَ" (¬2) الحديث. ويزيده وضوحًا وإيجابًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ على النِّساءِ حَلْقٌ، إنَّما على النِّساء التَّقْصيرُ" (¬3)، وعلى الإيجابِ، ثمَّ الدلاَلةِ على استِحْبابِ (¬4) نَظَرِ الأجنبيةِ ما رُوِيَ عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "فإنَّه أَحْرى أَنْ يُؤدَمَ بَيْنَكُما" (¬5). ¬
الفصل الثاني في تصرف العرب بصيغة الأمر
وحاصِلُ هذا البَحْثِ راجِعٌ إلى أنَّ تَقَدُّمَ الحَظْرِ (¬1) قرينة صارفة للأمرِ عنِ الوجوبِ والندبِ، ولم أَرَ أحدًا بينَ هذا المُشْكِلَ حتى وَجَدْتُ الإمَام أبا بكرٍ الشاشِيِّ الكبيرَ قدْ سَبَقَ إلى هذا (¬2)، وهو من أكبرِ الشافعيَّةِ، ومن شارِحي رسالةِ الإمامِ الشافعي، رضيَ اللهُ تَعالى عنهم. * * * الفصل الثاني في تَصَرُّفِ العَرَبِ بِصيغَةِ الأمرِ (¬3) ولذلكَ وجوهٌ كَثيرةٌ، وكلُّها تُعْرَفُ بِمخرَجِ الكلامِ وسِياقه، وبالدّلاَلةِ القائِمَةِ من قرائنِ الأحوالِ ومُناسباتِ المقام. الوَجْهُ الأولُ: أن يكون أمرًا ومعناهُ الوجوبُ، وهو الأصلُ والحَقيقَةُ ¬
الثاني: أمر ومعناه الاستحباب
كَقَولِ اللهِ تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وقوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 47]. الثاني: أمرٌ ومعناه الاسْتِحْبابُ، وهو يشاركُ الأمرَ الحقيقيَّ في الطلبِ والصِّيغَةِ؛ كقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "صُمْ وأَفْطِرْ، ونَمْ وقُمْ" (¬1). الثالث: أمرٌ ومعناه الإرشاد؛ كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وكقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وكقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. الرابع: أمرٌ ومعناهُ التأديبُ؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم - للصبيِّ: "كُلْ مِمّا يَليكَ" (¬2)؛ بدليلِ كونِ الصبيِّ مَحَلاًّ للتأديبِ، لا للوُجوبِ، ولا للاستِحْبابِ. الخامس: أمرٌ ومعناهُ التخييرُ؛ كقولِ اللهِ تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] أَي: إِنْ شِئْتُمْ، وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] , وكلُّ ما وردَ من الأمرِ في حُقوقِ الآدميينَ؛ كالمُعامَلاتِ والمُعاوَضاتِ التي لبعضٍ على بعض، فإنَّها إِمَّا على التخييرِ، أو الإرشاد؛ لقيامِ الدليلِ على أنه لا يجبُ على العبادِ أخْذُها واستيفاؤها؛ لقوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} [الشورى: 43] ولقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] , وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] وغير ذلك. ¬
السادس: أمر ومعناه الإباحة
ولكن الفرقَ بينَ التخييرِ والإرشادِ أن الإرشادَ فيه تنبيهٌ على طريقِ الجَزْمِ والتَّوثُّقِ، بخِلاف التَّخْييرِ. السادس: أمر ومعناهُ الإباحَةُ؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] وهو كالتخيير، لكنهُ يفارقُ التخييرَ في أنه لا يكونُ إلا بعدَ مَنع وحَظْرٍ. السابع: أمرٌ ومعناهُ التَّسخيرُ، وبعضُهم يقولُ: التَّحْقيرُ؛ كقولِه تَعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: 50، 51] , المَعْنى: فإنَّ القضاءَ والقُدْرَةَ جارِيَةٌ عليكمْ، وأنتم مُسَخَّرونَ لها. الثامنُ: أمر ومعناهُ التَّحْقيرُ؛ كقوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64]. التاسع: أمر ومعناهُ التَّعْجيزُ؛ كقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]. العاشرُ: أمرٌ ومعناهُ التَّكوينُ؛ ولا يكونُ ذلكَ إلا مِنَ اللهِ (¬1) -عزَّ وجلَّ- كَقوله تعَالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] , فلما كانَ الحالُ حالَ عَدَمٍ، عَلِمْنا أنهُ للتكوينِ. الحادي عَشَرَ: أمر ومعناهُ الوَعيدُ والتَّهديدُ؛ كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]. الثاني عَشَرَ: أمر ومعناهُ التَّفَكرُ والاعْتِبارُ؛ كقوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]. ¬
الثالث عشر: أمر ومعناه الصيرورة
الثالثَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الصَّيْرورَةُ؛ كقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [المعارج: 42] , وكقوله تَعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 17] , أي: وانظُرْ إلى ماذا يصيرون إليه. الرابعَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الدُّعاء؛ كقوله تعالى: {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286]. الخامسَ عَشَرَ: أمر ومعناه التَّفْويضُ والتَّسليمُ؛ كقوله تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72]. السادِسَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناه التعجُّبُ؛ كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38]. السابعَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ الإِنْعامُ؛ كقوله تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه: 54] وقولهِ تَعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57]. الثامِنَ عَشَرَ: أمرٌ ومعناهُ التَّمَنِّي، ولا يكونُ من الله؛ يقول الشاعر (¬1): [البحر الطويل] ألا أيُّها اللَّيلُ الطَّويلُ ألا انجلي التاسِعَ عَشَرَ: أمر ومعناه التَّلَهُّفُ؛ كقوله تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119]. العِشرونَ: أمرٌ ومعناهُ الخَبَرُ؛ كقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82] ولهُ من الوجوهِ غيرُ ذلكَ مِمَّا لا (¬2) يَحْضُرني الآنَ. وفيما ذكرتُه من تَعْريفِ موارِدِ الخِطاب كِفايَةٌ. ¬
فصل
وقد يردُ الخطابُ بأمرَينِ على مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؛ كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فالإيتاءُ واجِبٌ، والأَكْلُ مُباحٌ، وكقولهِ تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49] , وهوَ في الحُكْمِ كالآيةِ الواحدةِ التي يَرِدُ بعضُها على العُموم، وبعضُها على الخصوص (¬1). فصل * ويتِمُّ بيانُ النَّهي في مَسْألتينِ: إحداهُما: النَّهْيُ يقْتَضي التَّحْريم (¬2)، وليسَ له إلا وَجْهٌ واحِدٌ عندَ الإمامِ أبي عبدِ الله الشافعي -رضيَ اللهُ تَعالى عنه -، والمَنْهِي عنهُ ضَرْبانِ: أحدُهما: أن يكونَ أصلُ الذي وقعَ فيه النَّهْيُ التَّحْريمَ والمَنْعَ، ثُمَ أَحَلّه الشرعُ بِشُروطٍ، ونُهِيَ الإنسانُ أنْ يَفْعَلَهُ على وَجْهٍ مِنْ وجوه النهي، فإذا فَعَلَهُ على الوَجْهِ المَنْهِيِّ عنهُ، فهو عاصٍ، وفعلُه فاسدٌ مَنْقوضٌ، وذلكَ كالنَّهْي عن بَيع الغَرَر، وبَيْعٍ وشَرْطٍ، وما أَشْبَهَ ذلكَ، وكالنكاحِ المَنْهِيِّ عنه؛ كَنِكاح المُتْعَةِ، ونكاح الشغارِ (¬3)، فهوَ عاصٍ بفِعْلِهِ، وفعلُهُ فاسِدٌ. ¬
والضربُ الثاني: أن يكونَ أصلُ الذي وقعَ فيهِ النَّهْيُ الحِلَّ والإباحَةَ، فهو على التَّحْريمِ أيضًا عندَ الشافعيِّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه - وذلكَ (¬1) كالأكلِ واللُّبْس، أصلُهما الحِلُّ والإباحَةُ، ونَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن اشْتِمالِ الصَّمّاءِ (¬2)، ونَهى أنْ يَحْتَبِيَ الرجلُ بثوبٍ ليس على فَرْجهِ منهُ شيءٌ (¬3)، ونهى أن يأكلَ الإنسانُ ممّا لا يليهِ (¬4)، ومنْ وَسَط الطعامِ (¬5). قال الشافعيُّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهُ- في كتابِ "الرِّسالَةِ": فإذا عَلِمَ بالنَّهْي، وفَعَلَهُ على الوَجْهِ المَنْهِيِّ عنهُ، فهو عاصٍ بِفِعْله ما نُهِيَ عنه، فَلْيَسْتغفِرِ الله، ولا يَعُدْ. قال: ولا فرقَ بينهُ وبينَ القِسْمِ الأولِ في المعصيةِ، بل أُحِلَّ لهُ ما أُحِلَّ لَهُ، وحُرِّمَ عليهِ ما حُرِّمَ عليهِ، وما حُرِّمَ عليهِ غيرُ ما أُحِلّ لهُ، وما أُحِلّ لهُ ¬
المسألة الثانية: النهي هل تقتضي الفساد؟ فيه أقوال
غيرُ ما حُرِّمَ عليهِ، ومَثَلُهُ الزوجةُ والجاريةُ إذا كانتا حائِضَتينِ، فَوَطْؤُهما حرامٌ في حالِ الحَيْض، وليسا بِحَرام على مالِكِهِما في غيرِ تلكَ الحالِ، بِخِلافِ القِسْمِ الأَوَّلِ (¬1). هكذا ذكرهُ في "الرِّسالة"، وبَسَطَ القَوْلَ فيهِ، ومعنى كلامِهِ ومراده: أنَّ النَّهْيَ يُحْمَلُ على التَّحريمِ مُطْلَقا، سواءٌ صادَفَ النَّهْيُ مَحَلا حَرامًا أو حَلالاً، فقدْ يكونُ الشيءُ حَلالاً من وجهٍ، وحَراماً من وجهٍ، فلا تكونُ حلالِيةُ المَحَلِّ قرينةً صارفَةً للنَّهْي عن التَّحْريمِ إلى الكَراهَةِ، ولا يُنْكِرُ الشافعيُّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه - أَنَّ النَّهْيَ قد ينزلُ عنْ دَرَجَةِ التَّحْريمِ إلى الكَراهَةِ، وإلى دونها، إذا دَلَّ عليهِ الدَّليل، وقدْ صَرَّحَ بذلكَ في غيرِ مَوْضِعِ من رسالتِهِ، فمنْ ظَنَّ بهِ غيرَ ذلكَ، فقد غَلِطَ عليه، وربَّما قَدْ ظَن من ضعُفتْ بصيرَته منَ المُتَأَخريَن عن إدْراكِ مُراده لَمّا أَنْ وَقَفَ على هذه المقالةِ في كِتابِ "الرسالة" أَنْ يَقولَ بتحريمِ اشْتِمالِ الصَّمّاءِ والأكلِ من وسَطِ الإناءِ، وما أشبهَ ذلكَ؛ وليس الأمرُ على ما ظَنَّ، فَلْيُنْتبَهْ لِذلكَ. المسألة الثانية: النَّهْيُ هل تقْتَضي الفَساد؟ فيه أقوالٌ: أحدُها: يقتضي. والثاني: إنْ أخلَّ بشرطِ المَنْهِي عنهُ، اقْتَضى الفساد، وإلَّا لم يَقْتَضِ. والثالثُ: إنْ كانَ النهيُ يَخْتَصُّ الفِعْلَ المَنْهِيَّ عنه؛ كالصلاةِ في المكانِ النَّجِسِ، اقْتَضى الفَسادَ، وإن لمْ يَخْتَصَّ المنهيَّ عنهُ؛ كالصَّلاةِ في الدَّارِ المَغْصوبة، لم يَقْتَضِ الفَساد (¬2). ¬
ولم يَظْهَرْ مَيْلُ الشافِعيِّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهُ- إليه في كتابِ "الرِّسالةِ". * * * ¬
القول في الخبر
القول في الخبر الخَبَرُ في لسانِ العربِ: هو الإعْلامُ. وعندَ النظارِ: ما احتَمَل التصْديقَ والتكذيبَ (¬1)، وهوَ: إفادَةُ المُخاطَب مَعْنًى في زَمَنٍ ماضٍ أو مُسْتَقْبَلِ أو دائِمٍ، نحو: قامَ زيدٌ، وزيدٌ يقومُ، وزيَدٌ قائِمٌ. فمنهُ ما يُقْطَعُ بِصِدْقِه؛ كالخَبَرِ المُوافِقِ لما أَوْجَبَهُ الحِسُّ. ومنه ما يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ كالذي يُخالِف الحِسَ والعَقْلَ. ومنهُ الجائِزُ المُحْتَمل، وهو ما عَدا ذلك (¬2). والوجوهُ التي يَرِدُ بِها لفظُ الخَبَرِ كثيرةٌ: فمنها: التعجُّبُ، نحو: ما أحسن زيدًا! ¬
والتَّمَنِّي، نحو: وَدِدْتُكَ عندَنا. والإنكارُ، نحو: مالَكَ عندي شيءٌ. والنَّفْيُ، نحو: لا بأسَ عليكَ. والنهْيُ، نحو {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة: 79]. والتعظيمُ: سُبَحانَ الله. والدُّعاءُ، نحو: عفا اللهُ عنكَ. والوعيدُ، نحو: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]. والتبكيتُ، نحو قولهِ عَزَّ وجَلّ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49]. والشرطُ والجزاءُ، نحو قوله تَعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] فظاهرُهُ خَبَرٌ، والمعنى: إنَّا إنْ نَكْشِفِ العَذابَ عَنْكُمْ، تَعودوا لمثلِهِ. والأمر؛ كقوله تَعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]. * * *
القول في القرائن
القول في القرائن اعلموا -أَرْشَدَكُمُ اللهُ الكَريمُ وإيَّايَ- أَن القرائِنَ المُحْتَفةَ بالكَلام- منْ قَضايا الأحوالِ وموارِدِ الخِطاب ومقاصِدِ الأقوالِ - تَصرِف الألفاظَ عن حَقائقِها المَوضوعَةِ لها. ويكونُ بَيِّنا عندَ مَنْ وقفَ على القَرائِنِ، مُشْكِلًا عندَ مَنْ جَهِلَها. ولو نُقِلَتِ القَرائِنُ بأجْمَعِها, لَتوارَدَتِ الأَفْهامُ على كثيرِ من مَعاني خِطابِ الله تعالى، وخطابِ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لكنْ بينَها ما لم يُمْكِنْ نقلُه عندَ نَقْلِ الخبر، ومنها ما يَتْرُكُه الرَّاوي اخْتِصارًا، ومنْها ما لم يسمعْه؛ بأنْ يأتيَ في حالِ سَماعِ الحَديثِ، ولمْ يعلمْ سبَبَ الحَديث، وغيرُ ذلكَ منَ الأمور. وقَصْدُ المُتكلمِ من أقوى القرائنِ التي يَقِلُّ نَقْلُها، وَيْكثُرُ خَفاؤها، معَ كثرةِ لُزومها للخطابِ الذي لم يردْ على سبَبٍ، وسأذكرُ من ذلكَ جملةً نافعةً لتعلموها، وتنتفعوا بها إن شاء الله تعالى. قال اللهُ -تبارك وتعالى-: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145]. فهذا حَصْرٌ بالنَّفْيِ والإثباتِ، فقالَ -من لمْ يعلمْ بالقرينةِ، ولم يطلِعْ على القَصْدِ-: بتَحْليل ما عَدا المذكورَ المَحْصورَ، واعتقدَ أن الآية سيقت للحَصْرِ في المُحَرَّمات، وليسَ كذلكَ، بلْ قصدُ اللهِ -سُبْحانه وتَعالى- بهذهِ
الآيةِ الرَّدُّ على المُشركين، وذلكَ أَنَّهم كانوا يُحِلُّون المَيْتةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزيرِ وما أُهِلَّ بهِ لغيرِ اللهِ، ويتحرَّجونَ عنْ أشياءَ كثيرةٍ منْ مُباحاتِ الشرعِ، ويرونَها حَراما، فقصدَ الرَّدَّ عليهم بالخطابِ المُتَضَمّنِ للنَّفْي والإثباتِ لِيكونَ أَبْلَغَ في الرَّدِّ، فكأنهُ قال: قُلْ لا أجِدُ حَرامًا إلا ما حَلَّلْتُموه، ولا أجِدُ حَلالاً إلَّا ما حَرَّمْتُموه، وأَكَّدَهُ بالنَّفْي والإثباتِ، ولم يَقْصِدْ حقيقةَ النفيِ والإثباتِ مُطْلَقاً، ولو قصدَ ذلكَ، لوجبَ أَنْ يُحِلَّ كُلَّ ذي نابٍ من السِّباع، وكلَّ ذي مِخْلَب من الطَّيْرِ، وغيرَ ذلك من الخبائِثِ، وقَدْ نهى عنهُ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ومثلُهُ قولُ اللهِ -تبارك وتعالى-: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]. القَصْدُ من هذهِ الآيةِ الذَّمُّ للكافِرينَ والتهديدُ لهم، لا بيانُ حُكْمِ الإنْفاقِ، فلو تَمَسَّكَ مُتَمَسِّكٌ بوُجوبِ الزكاةِ فيما دون النِّصابِ، واحتجَّ بهذهِ الآيةِ، وقال: هي عامَّةٌ في القليلِ والكثيرِ؛ لأَنَّ لفظَها عامٌّ، لَمْ يَجُزْ؛ لأنَّ ذلكَ لمْ يُقْصَدْ بالآية؛ خِلافاً لبعض أصحابِ الشافعيِّ في هذهِ الآيةِ؛ وفي نظائِرِها من الآياتِ اللاتي يَقْتَضين المَدْحَ والذَّمَّ؛ كقوله تَعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5]. ومثلُهُ قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سَقَتِ السَّماءُ العُشْرُ" (¬2)، القَصْدُ بِه بيانُ مِقدارِ ¬
الزكاة، لا بيانُ ما تَجِبُ فيهِ الزكاة، فلو تمسكَ بهِ متمسكٌ في وجوبِ الزكاةِ في القليلِ، لم يَصِحَ. ومثلهُ قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إن صَلاتَنا هذهِ لا يَصْلُحُ فيها شَيء مِنْ كَلامِ الآدَمِيِّينَ، إنَّما هِيَ التسبيحُ والتهْليلُ" (¬1)، القَصْدُ بذلكَ تعليمُهُ أنَّ الخطابَ بالكَلام في الصَّلاةِ لا يَصْلُحُ، فلو تمسّكَ به متمسك بانَّ الدعاءَ بأمورِ الدُّنيا في الصَّلاةِ يُبْطِلُها؛ كقولِ السائِل: اللَّهُمَ ارْزُقْني زَوْجَة حَسَنَة، أو دارًا واسعة؛ لأنَّ هذا يُشْبِهُ كَلامَ الآدميينَ، لَمْ يصحَّ. فلو قالَ أيضًا: هُنا حَصْرٌ، وهو قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما هيَ التَّسبيحُ والتَّهْليلُ" لم يَصِحَّ؛ لِمَا ذكرتُ من أنه قصدَ تعليمَه تحريمَ خِطاب الآدميينَ بَعْضِهم مَعَ بعضٍ في الصَّلاةِ، كَما هو السَّبَبُ الذي وردَ عليهِ الخِطابُ. وهذا كثيرٌ في القرآنِ والسُّنَة لا ينتبه لهُ إلا منْ هداهُ اللهُ الكريمُ، ورسخَتْ قدمُهُ في العِلْم، فنسألُ الله الكريمَ الهِداية والرحمةَ بفضلِه، إنه ذو الفَضْلِ العظيمِ. * ثم اعلموا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أنِّي لا أقولُ بقَصْر الأَلفاظِ على أسبابها، وإن كانَ قدْ ذهبَ إليهِ جَماعَةٌ منْ أهلِ العلمِ؛ فإنَّ أكثرَ أَحكامِ الشرعِ وردَتْ ¬
على قَضايا وأسبابٍ، ولم تُخَصَّ بها أَسْبابُها, ولم تقصرْها عليها، وذلكَ كآيةِ القَذْفِ (¬1) واللِّعانِ (¬2) والظّهار (¬3)، وغيرِ ذلك، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الوَلدُ للفِراشِ، ولِلعاهِرِ الحَجَرُ" (¬4)، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - في بئر بُضَاعَة: "الماءُ طَهورٌ لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ؛ إلَّا ما غَيَّرَ طَعْمَهُ أو ريحَهُ" (¬5)، وغيرِ ذلك. ولكنْ ينبغي للناظِرِ أن ينظرَ في قرائنِ الألْفاظ، وشواهِدِ الأحْوالِ، فإنْ لم يجدْ ما يدلُّ على تَعْدِيَةِ الحُكْمِ، أو قَصْرِهِ، نظرَ في الأدِلَّةِ الخارجَةِ، فإنْ لم يجدْ أُمْضِيَتِ الأَلْفاظُ على حَقائِقِها وأَوْضاعِها؛ كما هوَ مذهبُ الإمامِ أبي عبدِ اللهِ الشافعيِّ رحمهُ اللهُ تعالى (¬6). * * * ¬
القول في معرفة المتشابه والمتعارض
القولُ في مَعرفة المُتشابه والمُتعارض أما المُتشَابه (¬1)، فإنَّه ورَد على معنيينِ مختلفينِ في آيتينِ من كتاب اللهِ جَلَّ جلالُه: إحداهما: قولُه -جل جَلالُهُ-: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} [آل عمران: 7] فهذه الآية قد كَثُر فيها كلامُ أهلِ العِلْمِ من الخَلَفِ والسَّلَفِ؛ لعِظَمِ شأنِها، فاختلفوا في حقيقةِ المُتَشابهِ، وفي موضِع الوَقْفِ منها عندَ التّلاَوةِ. أما المحكم، فقالَ ابنُ عَبّاسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-: المُحْكَماتُ ¬
اللَّواتي هُنَّ أُمُّ الكِتاب مثلُ قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام: 151] إلى آخِرِ الثلاثِ الآياتِ، وهُنَّ أُمُّ كل كتاب نزلَ (¬1). والمُتشابِهاتُ: ما اشْتبَهَ على اليَهودِ حينَ سَمِعوا {آلم} فقالوا: هذا بالجُمَّلِ أَحَدٌ وسبعونَ، وهذا غايةُ أَجَلِ هذهِ الأُمَّة، فلما سمعوا {آلر} وغيرَها، اشْتبَهَتْ عليهم (¬2). وقال جابرٌ -رضيَ اللهُ عنه -: المُتشابهُ ما لا يُعلم تعيينُ تأويلِه؛ كقيامِ الساعةِ، وخُروجِ دابّهِ الأرضِ، ويأجوجَ ومَأجوجَ. وقال عبد الملك بن جُريج: هو ما لا سبيلَ إلى مَعْرِفَتِهِ، والمَرْءُ مُبتلًى باعتقادِ حَقيقَتِهِ لا غَيْر، كَصِفَةِ اليَدِ والوَجْهِ والاسْتِواءِ؛ لأنَّه تَخَالَفَ فِيهِ السَّمْعُ والعَقْلُ (¬3)؛ لاشْتِباهِ لَفْظِهِ بما لا يَليقُ بمعناهُ، والحِكْمَةُ فيهِ اعترافُ العبدِ بعَجْزِهِ، فَيَذِلُّ لمَولاه، فالحكيمِ إذا صَنَّفَ كِتاباً؛ ربَّما أَبْهَمَ فيما أَفْهَمَ؛ ليرجِعَ الطالبُ في ذلكَ إليهِ، فيأخَذ مِمَّا لَدَيهِ، ويعترفَ بِعَجْزِهِ وافْتِقارهِ إليه. وقال بَعْضُهُمْ: المُتَشابِهُ: هو القصصُ والأَمْثالُ، والمُحْكَمُ: هوَ الحلالُ والحَرامُ (¬4). وهذا ضعيف جدًا (¬5). ¬
وأَمَّا الوَقْفُ على المَوضِعِ الذي تَمَّ بهِ المَعْنى (¬1)، فهوَ على قوله سبحانَه: {إِلَّا اللَّهَ} على قولِ منْ زَعَم أنَّ الراسخينَ لم يعلموا تأويلَهُ، وهمْ أكثرُ أهلِ العلمِ منَ المُفَسِّرينَ وغَيْرِهم، ويكونُ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مُبْتَدَأَّ بَعدَ وَقْفٍ، ويشهدُ له قراءةُ عبدِ اللهِ: (إنْ تأويلُه إلَّا عندَ اللهِ) (¬2)، وقراءَةُ أُبَيٍّ وابنِ عباس -رضيَ اللهُ عنهُما-، (ويقولُ الرَّاسخونَ) (¬3) الآية. الثانية: قوله -جَل جلالُه-: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ¬
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23] فقيلَ: متشابِهاً في العَدْلِ والإِعجاز، وقيل غيرُ ذلك مِمّا هو في معناهُ (¬1). و {مَثَانِيَ} قال ابنُ عَبّاسٍ -رضيَ اللهُ عنهُ-: يُحْمَلُ بعضُها على بعضٍ (¬2). وهذانِ النوعانِ -أعني نَوعَي المُتَشابِهِ- مِمّا اخْتَصَّ بهما القرآنُ، وكذا السُّنَّةُ المُحَمَّدِيَّةُ -على صاحبِها أفَضلُ الصلاة والسلام-. وهذا النوعُ الثاني من المتشابِهِ على قسمين: أحدهما: الاقْتِصاصُ (¬3)، وهو الاتِّباعُ، مأخوذٌ من قولِهِم: اقْتَصَّ الأَثَرَ إذا اتّبَعَهُ (¬4)، وهو أن يكونَ كلامٌ في سورةٍ مَقْرونا بلامِ الذكْرِ، فيقتصُّ العالِمُ ذلكَ من كلامٍ آخَرَ، إمّا في تلكَ السورةِ، وإمّا في سورةٍ أخرى؛ كقولِ اللهِ -جَلَّ جَلالُه-: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27] والآخرةُ دارُ ثوابٍ وجَزاءٍ لا عَمَلَ فيها، فهذا مُقْتَصٌّ من قوله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 75]. ومثلُه قولُ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ-: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)} [الصافات: 57] , والمُحْضَرُ مأخوذٌ من قولهِ تعالى: {فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ ¬
مُحْضَرُونَ} [الروم: 16] , ومن قوله تَعالى: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم: 68]. ومن الاقتصاصِ قولُهُ تَعالى: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] فيقال: إنها مقتصَّة من أربعِ آياتٍ: إحداهن: قولُه تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] , فهم في هذه الآيةِ الملائكةُ -عليهمُ الصلاةُ والسلامُ-. الثانية: قولُه تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] , فهم في هذه الآيةِ الأنبياءُ -عليهمُ الصَّلاة والسلامُ-. الثالثة: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] فهم في هذهِ الآيةِ أمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. الرابعة: قولُه تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24] فهم في هذه الآيةِ الأعضاءُ. ومنَ الاقتصاصِ قولُه تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر: 32] , قُرِئَ بتخفيفِ الدالِ، وقُرِئ بتشديدها في غيرِ السَّبعْ (¬1)، فَمَنْ شَدَّدَ، فهو ¬
مِنْ: نَدَّ إذا انْفَرَدَ، وهذا المعنى مُقْتَصٌّ من قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34 - 36] ومَنْ خَفَّفَ فهو من تَفاعَلَ منَ النِّداءِ، وهذا المعنى مُقْتَصّ من قوله تَعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44]، وقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 50]، وقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ} [الأعراف: 48]، وما أشبه هذا من الآيات التي فيها ذكر النداء. ومنهُ قولُه تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64]، فالبشرى: الجَنَّةُ، مُقَتصَّة من قوله تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]. وقد يكونُ الاقتصاصُ مُتَّصِلاً؛ كقولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16]، فبيانُ الرسول مُقْتَصٌّ منَ الآيةِ الأولى المُتَّصِلَةِ بهذه، وهي قولُه تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمل: 15]. القسمُ الثَّاني: التَّفسيرُ والبيانُ (¬1)، ويسميهِ بعضُ أهلِ العلم بالقُرْآنِ: الجَوابَ، وهو شديدُ الشَّبَهِ بالنوعِ الأولِ، وهو متصلٌ ومنفصلٌ كالقِسْم الأولِ. فالمتصل: كقولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1]، فبيان هذا قولُه تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]، ومثْلُه قولُ اللهِ ¬
تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187]. وأمَّا المُنْفَصِلُ، فقد يكونُ في تلكَ السُّورَةِ، وقد يكونُ في سورةٍ أخرى؛ يقول اللهِ جَل جَلالُه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60]، فبيانه: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4]. ومنه قولُه تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل: 45]، فتفسيرُ هذا الاخْتِصامِ ما قالَ سُبْحانَهُ في سورَة أخرى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأعراف: 75] الآيات. ومنه قولُه تعالى: {قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال: 31]، فقيل لهم في الجَواب والردِّ عليهم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. ومنه قوله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6]، فقيل لهم في الجواب: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [فصلت: 24]. ومنه قولُه تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} [الطور: 33]، فردَّ عليهم مُتَّصلاً بقوله تعالى: {بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الطور: 33]، وردَّ علهيم منفصلاً بقوله عَزَّ وجَلَّ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 44 - 45]. ومنه قولُه عزَّ وجَلَّ: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]، فردَّ عليهم بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20]. وهذا البابُ واسعٌ منتشرٌ، وقد أفردَ ذلكَ بتصنيفٍ بعضُ أهلِ العلمِ بالقرآنِ.
فصل وأمَّا المُتَعارِضُ، فمعرفتُه مُهِمَّةٌ عندَ أهلِ العِلْم، وبسببها تتفاوتُ العُلماء في دَرَجاتِهم، وسأذكرُ من ذلكَ جُمْلَةً نفيسةً إنْ شاءَ اللهُ تعَالى. فأقول: التعارُضُ (¬1) على ثلاثةِ أقسامٍ: الأول: تعارضُ العامِّ والخاصِّ، والمُطْلَقِ والمُقَيَّدِ، والمُجْمَلِ والمُبَيَّنِ (¬2). فهذا يُقضى فيه بالخاصِّ على العامِّ، والمُقَيَّدِ على المُطْلَقِ، والمُبَيَّن على المُجْمَل، ويُعْمَلُ بالدليلَينِ كما قَدَّمْتُ أمثلةَ ذلك، وفي الحقيقةِ ليسَ بِمُتعارضٍ، ولا بِمُخْتَلِفٍ (¬3). ¬
الثَّاني: تعارضُ العامِّ والعامِّ. فإنْ كانا عامَّينِ من كُل الوجوه؛ فهو كَتَعارُضِ النَّصَّينِ، وسيأتي بَيانُ حُكْمِهِ. وإنْ أمكنَ أن يُخَصَّ عُمومُ كُلِّ واحدٍ منهما بالآخَر، فهذا لا يُقْضَى بأحدِهما على الآخر، إلَّا بدليل يَدُل على المَخْصوصِ منهُما، أو ترجيع لأحدِهما على الآخَرِ، وهذا كثيرٌ موجودٌ في الكِتاب والسُّنَّة، لكنْ دون الأَوَّلِ (¬1). ومثالُهُ من الكِتابِ (¬2): قولُه -عَزَّ وجَل-: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]، وهذا عامٌّ في النكاحِ وفي مُلْكِ اليَمينِ، معَ قولهِ تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، وهذا عام في الأَجْنَبياتِ والقَريباتِ، فَيَحْتَمِلُ تحريمَ الجَمْع بين الأختين بملكِ اليمين؛ بدليل قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]، ويَحْتَمِلُ تحليلَهُما؛ بدليل قوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، والتحريمُ أَحْوَطُ، فكانَ أَرْجَحَ، ولهذا قالَ عثمانُ وعلى -رضيَ اللهُ عنهُما-: أحلَّتْهُما آيةٌ، وحَرَّمَتْهُما آية، والتحريمُ أولى (¬3). ونحو هذا من الكِتابِ العزيز. ¬
ومثْلُه منَ السنَّةِ (¬1) ما رُوِي عنهُ - صلى الله عليه وسلم - من النَّهْي عنِ الصلاةِ في الأوقاتِ المكروهةِ (¬2)، مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نامَ عَنْ صَلاةٍ أَو نَسِيَها، فَلْيصَلِّها إذا ذَكَرَها" (¬3). فإنَّه يَحْتَمِلُ أنهُ أرادَ بالنَّهْيِ عنِ الصَّلاةِ في الأوقاتِ المذكورةِ الصَّلاةَ التي لا سَبَبَ لَها؛ بدليل هذا الحديثِ. ويَحْتَمِلُ أنهُ أرادَ بالصَّلاة عندَ الذِّكْرِ إذا ذَكَرَها في غيرِ وقْتِ الكَراهَة؛ بدليل نَهْيِهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقضى الشافعيّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهُ- بِجَوازِ ما لها سَبَبٌ (¬4)؛ بدليل ما رُوِيَ أَنَّ النبيَّ -صَلَّى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي بعدَ الصُّبْحِ رَكْعَتينِ، فسألَهُ فقالَ: هما رَكْعَتا الفَجْرِ، فأقرَّهُ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك (¬5). ¬
هذا في تقديم أَحَدِ المُتَعارِضَيْنِ على الآخَرِ (¬1). وقد يُقضى لِكُلِّ واحدٍ من المُتعارِضَينِ على معارضه من الطَّرَفَينِ جَميعاً؛ لقيامِ الدليلِ (¬2)، وذلكَ كما رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم -: "خَيرُ الشُّهودِ مَنْ شِهَد قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ" (¬3)، مع ما رُويَ عنهُ: "شَرُّ الشُّهودِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ" (¬4)، فقال أصحابُه: ¬
الأولُ: محمولٌ إذا شهدَ وصاحِبُ الحَقِّ لا يعلَمُ أنَّ لهُ شاهدًا، فإن الأَولى أن يشهدَ، وإن لم يُسْتشهَدْ؛ لِيَصِلَ المَشْهودُ له إلى حَقِّهِ. والثاني: مَحْمولٌ عليهِ إذا عَلِمَ مَنْ لَهُ الحَقُّ أَنَّ له شاهِداً، فلا يجوزُ للشاهدِ أن يبدأَ بالشهادةِ قبلَ أن يستشهدَ؛ لما فيهِ منَ الحِرْصِ (¬1). الثالثُ (¬2): تَعارُضُ النَّصَّين: ومن ضرورةِ تعارُضِهِما ولوازمِه أنهُ لا يقعُ إلَّا في وَقْتَينِ؛ أحدُهما بعدَ الآخَر، وحُكْم ذلكَ أن يُنْسَخَ الأولُ بالثاني (¬3). والنَّسْخُ واقعٌ في السُّنَّةِ (¬4)، وفي القرآنِ المَجيدِ؛ خلافًا لأبي مُسْلِمٍ الأَصْفَهانِيِّ، ولا الْتِفاتَ إلى مقالتهِ، فلا يُشْتَغَلُ بالرَّدِّ عليهِ مع وُرودِ النَّصِّ بذلكَ في الكتاب العزيز، قال اللهُ تَعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]. * * * ¬
القول في الناسخ والمنسوخ
(القول في الناسخ والمنسوخ) ثم اعلموا أَنَّ عِلْمَ النَّسخِ جليلٌ، وقدرَهُ عظيمٌ لا يَسْتغني عنهُ حامِلُ القرآنِ العزيزِ، ولا يجوزُ لأحدٍ من أهلِ الِعْلمِ والفَتْوى الخَوضُ في الأحكامِ قبلَ معرفتهِ؛ كما ورد ذلكَ عنِ الصَّحابةِ رضيَ اللهُ تَعالى عنهم. ولهذا أفردَهُ أهلُ العِلم بالذِّكْرِ والتَّصنيفِ، وها أنا أذكرُ في كتابي هذا قواعِدَهُ التي يُبْتَنى عليها، وأُصولَهُ التي يَسْتَنِدُ إليها؛ ليكْمُلَ نَفْعُهُ، وتظهرَ بركتُه -إنْ شاءَ اللهُ تعالى-، وأشرحُه في خمسةِ فصولٍ مع الإيجازِ والاختصارِ، وأبينهُ بياناً شافياً، إنْ شاءَ اللهُ تعالى. * * * الفصل الأول في معنى النسخ وحقيقته اعلموا أن النسخَ في لسانِ العربِ اسمٌ مُشْتَرَكٌ بينَ معنيينِ (¬1). ¬
أحدُهما: النَّقْلُ؛ كقولكَ: نسختُ الكتابَ، إذا نقلتَ ما فيهِ، قالَ اللهُ -عزَّ وجَلَّ-: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]. قال ابنُ عباسٍ وغيرُه -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم-: إنَّ أعمالَ العِباد تكتبُها الحَفَظَةُ منَ اللَّوحِ المَحْفوظِ قبلَ عَمَلِهِمْ لَها، ثم يقابَلُ بذلكَ ما يَحْدُثُ منْ عملِهم وحركاتِهم في الدُّنيا، فيجدونَ الأمرَ على ما اسْتَنْسَخوا من اللَّوحِ المحفوظِ (¬1). والنسخُ الذي نريدُ بيانَه ليسَ منْ هذا المَعْنى؛ خلافًا للنَّحّاسِ؛ حيثُ تَوَهَّمَهُ (¬2)، وقدْ غَلَّطوهُ فيه. المعنى الثَّاني: الإزالَةُ؛ كقولهِم: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، ونَسَخَتِ الرِّياحُ الآثارَ، وهذا المعنى هو المُرادُ بالنَّسْخِ (¬3). وأَمّا حقيقَتُه، فاعلموا -رَحِمَكُم اللهُ الكَريم وإيَّايَ-: أَنَّ القرآنَ المجيدَ كلامُ اللهِ -جَلَّ جلالُه-، وصِفَةٌ من صفاتِهِ القديمةِ، غيرُ مُحْدَثٍ ولا مَخْلوقٍ، وأَنَّ اللهَ -جَلَّ جلالُهُ- حكيمٌ يحكم لا مُعَقِّبَ لحُكْمِهِ، عليمٌ يعلمُ جميعَ الكائِناتِ قبلَ أنْ تكونَ على ما تكونُ بعدَ أنْ تكونَ، ويعلمُ مُبْتَدَأَها ومُنْتَهاها، وصفَتَها على ما قَدَّرَها بحِكْمَتِهِ، أحاطَ بكُلِّ شَيءِ عِلْماً، وأَحْصى كُلَّ شيءٍ عَدَداً، فهو عالِمٌ بخلقِهِ قبلَ إيجادِهم، وعالمٌ بما يتعبَّدُهُم به، وما يَنْهاهُمْ عنهُ، وما يُقِرُّهم عليهِ من التعبُّدات، وما ينقُلُهم عنه، ويعلمُ مُدَّةَ تعبُّدِهم، وابتداءَ نَقْلِهِم. ¬
فأمر اللهُ -جَل جَلالُه- عبادَه بفرائضَ في وَقْتٍ، ثم نَقَلَهُمْ عنْها في وقتٍ آخَرَ، وقدْ عَلِم ذلكَ -جَل جَلالُهُ- في الأَزَلِ، لا أَؤلِيَّةَ لعلمِه، ولا مُعَقّب لحُكْمِه، فعَل ذلك بهم بحكمةٍ عَلِمَها، ولقدرة ابتدَعَها (¬1)، ولُطْفاً بعباده، إمَّا لتخفيفِ المَشَقَّةِ عليهم، أو لتَضْعيف الحَسَناتِ لهم، سبحانَ اللهِ جَلَّ جَلالُهُ، وتقدَّسَتْ أَسْماؤُه، وتَعالى عَمَّا يقولُ الظَّالِمون عُلُوًّا كبيرًا. ولَمَّا طبعَ اللهُ الحكيمُ (¬2) على قلوبِ قومٍ بقدرتهِ ولطيفِ حكمتهِ، أَذْهَبَ أَنْوارَها، وأعمى أبصارَها عَنْ جَلِيِّ قدرتهِ وبديع حكمتهِ وعظيمِ علمهِ، فاعتقدَ قومٌ أنَّ النسخَ بَداءٌ (¬3)؛ لِتَقَلُّبهِ وتنَقُّلِهِ، وأَطْلقَوا ذلكَ على اللهِ تعالى، وإنْ كانوا أرادوا بالبَداءِ هو أن يَظْهَرَ لهُ ما كانَ خَفِيًّا عليهِ؛ كما هُوَ حَقيقَةً في اللّسانِ، فذلكَ كُفْرٌ، تَعالَى اللهُ عَمَّا يَقولونَ (¬4) عُلُوًّا كَبيراً، وإنْ كانوا أَرادوا تأويلاً آخَرَ، فهوَ ضَلالٌ مُبينٌ، نَسْألُ اللهَ الكَريمَ السَّلامَةَ مِنَ الزَّيغِ والضَّلالِ، والهدايةَ إلى الصِّراطِ المُستقيمِ بفَضْلِه ورَحْمَتِه. ودَخَلَتِ الشُّبْهَةُ على قومٍ آخَرينَ، فاعتقدوا أنَّ القرآنَ مَخْلوقٌ، فنسألُ اللهَ الكريمَ الهدايةَ إلى الصِّراطِ المُستقيمِ بفضلِه ورحمتِه، إنهُ ذو الفَضْل العظيمِ. * * * ¬
الفصل الثاني في أقسام النسخ والناسخ والمنسوخ
الفصل الثَّاني في أقسام النسخ والناسخ والمنسوخ أمَّا النَّسْخُ فإنَّه على ضَرْبَينِ: أحدُهما: أن تنُسخ الآيةُ وتُرفَعَ، ولا يُعْرَفَ لها ناسِخٌ منَ الكِتابِ، وذلكَ لا يُعْرَفُ إلَّا من طَريقِ الأخبارِ؛ كما رُوِيَ أنَّه كانتْ سورةُ الأحزابِ تعدلُ سورةَ (البقرةِ) (¬1)، وأنهُ نزلَتْ سورةٌ نَحْوٌ من (براءة) (¬2)، ثم رُفِعَ ذلكَ، ونُسِخَ حِفْظُهُ منَ الصدورِ، وهذا النسخُ يدخُلُ الأحكامَ والأخبارَ والقَصَصَ والصِّفاتِ والأسماءَ، فللهِ سبحانَه أن ينسخَ ذلكَ كُلَّهُ بإزالَةِ حِفْظِه، ويفعلَ ما يشاءُ (¬3). الثَّاني: أن تُنْسَخَ الآيةُ، ويُعْرَفَ ناسِخُها. * وأمَّا الناسخ: فعلى ضَرْبين: أحدُهما: أن ينسخَ حُكْماً إلى حُكْمٍ؛ كنسخِ العَفْوِ والصَّفْحِ عن المشركينَ إلى وجوبِ قِتالهم (¬4)، وكنسخِ المُصابَرَةِ من العَشَرَةِ إلى الاثنينِ (¬5). ¬
والثاني: أنْ يَنْسَخَ حُكْمًا إلى غيرِ حُكْمٍ؛ تَخْفيفاً ورِفْقاً بالعباد، وذلكَ كنسخِ قِيامِ الليلِ (¬1). * وأمَّا المنسوخُ: فعلى أربعةِ أقسامٍ (¬2): الأول: ما نُسِخَ حكمُه وبقيَ رسمُه؛ كآية العِدَّةِ (¬3) حَولاً كامِلاً (¬4)، وآيةِ الصَّفْحِ والإعراضِ، وآيةِ المُصابَرَة للعَشَرَةِ إلى الاثنينِ (¬5)؛ خلافًا لشذوذٍ منَ النَّاس (¬6)، وهذا أكثرُ المنسوخِ (¬7). والثاني: ما نُسخَ (¬8) رسمُه، فلا (¬9) يُتلى على أنَّه قرآنٌ، لكنْ بقيَ حُكْمُه ¬
في الدِّين، وحِفْظُهُ في الصُّدورِ؛ كآيةِ الرَّجْمِ، (والشيخُ والشيخةُ إذا زَنَيا فارْجُموهما البتَّةَ نكالاً منَ اللهِ واللهُ عزيزٌ حَكيمٌ)؛ خلافًا لشُذوذٍ من النَّاسِ أيضاً. الثالث: ما نُسِخَ رَسْمُه وحُكْمُه مَعاً (¬1)، ولكن بقيَ حفظُه في الصّدور. وهذا والذي قبلَهُ طريقُهما الأخبارُ، مثائه ما نُقِلَ عن عائِشَةَ -رضيَ اللهُ عنها-: أَنَّها قالَتْ: "كانَ فيما نَزَلَ مِنَ القُرآنِ: (عَشْرُ رَضَعاتٍ مَعْلوماتٍ) يُحَرِّمْنَ" (¬2). قالتْ عائشةُ -رضيَ اللهُ عَنْها- "فَنَسَخَهُنَّ: (خَمْسُ رَضَعاتٍ مَعْلوماتٍ يُحَرِّمْنَ)، فتوفِّيَ رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عليه وسلم -، وهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ في القُرْآنِ" (¬3). الرابعُ: ما نُسِخَ رَسْمُه وحُكْمُه، وزالَ حِفْظُه منَ الصُّدور، وذلكَ كما يُروى من سورة الأحزاب، وهذا أيضاً طريقه الأخبار (¬4). ¬
الفصل الثالث فيما يجوز نسخه وما لا يجوز
* وينقسمُ المنسوخُ أَيضاً إلى ثلاثةِ أقسامٍ بتقسيمٍ آخرَ: أحدُها: أن يُنْسَخَ الحُكْمُ إلى غيرِ حُكْمٍ؛ تَخْفيفاً ورِفقاً بالعبادِ، وذلكَ كنسخِ قيامِ الليلِ. ثانيها: أن يَنْسَخَ حُكْماً إلى حكمٍ، ونحن مُخيَّرون في فعلِ المنسوخ وتركِه، وذلكَ كآيةِ المُصابَرَةِ للعشرةِ إلى الاثنينِ (¬1). ثالثها: أن يَنْسَخَ حكمًا إلى حُكْمٍ، ولا يَجوزُ فِعْلُ المَنْسوخِ، كالصَّفْح والإعراضِ (¬2). * * * الفصلُ الثالث فيما يَجوزُ نسخُه وما لا يجوزُ (¬3) فالذي يجوزُ نسخُهُ: الأمرُ والنهيُ، وما يجوزُ وقوعُه على وَجْهَين (¬4)؛ كسائرِ الأحكام. والذي لا يجوزُ نسخُه: الأخبارُ، وكل ما أخبرَ اللهُ -تعالى- أنهُ كانَ أو ¬
الفصل الرابع فيما يجوز أن يكون ناسخا، وما لا يجوز
سيكونُ؛ كأخبارِ الجَنَّةِ والنارِ، والبَعْثِ، وتخليدِ الكافرينَ في النَّارِ، وتخليدِ المؤمنينَ في الجنةِ، وكلُّ ما لا يجوزُ أن يقعَ إلَّا على وجهٍ واحدٍ؛ كإخبارِ اللهِ -تَعالى- عن صِفاتِه، من العلمِ والحكمةِ والقدرةِ، وغيرِ ذلك (¬1). وكذلكَ الإجماعُ لا يجوزُ أن يُنسَخَ؛ لأنَّه لا يكونُ إلَّا بعدَ موتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، فإذا وجدنا الإجماعَ على خلافِ النصّ، علمنا أن ثَمَّةَ دليلاً نَاسخاً، وهو الناسخُ، لا الإجماعُ، وإنَّما يكونُ الإجماعُ دليلاً على الناسخ (¬3). * * * الفصلُ الرابعُ فيما يجوزُ أن يكونَ ناسخاً، وما لا يجوز وله سبعة أقسام: الأولُ: نسخُ القرآنِ بالقرآنِ: وذلك جائزٌ بالإجماعِ (¬4). ¬
الثاني: نسخ السنة بالسنة
الثَّاني: نسخ السُّنَّةِ بالسُّنَّةِ: وذلكَ جائزٌ بالإجماع (¬1). وهو كثيرٌ في الحديثِ يميزهُ أهلُ العلمِ بالحديثِ بأوقاته، وأهلُ العلمِ بالفقهِ وأصولهِ. وربَّ حديثين تَعارضا، يجوزُ أنْ يكونَ كل واحدٍ منهما ناسِخاً للآخَرِ يميزُ الناسخَ منهما بالتأحُّر أهلُ العلمِ بالحديث. وربَّ حديثين تعارَضا يُظَنُ أحدُهما ناسخاً للآخر، وهما في الحقيقة متَّفقان غيرُ متعارضَينِ؛ لإمْكانِ تنزيلِهما على حالينِ، أو يكونُ (¬2) أحدُهما مُبيِّناً للآخَرِ، يبيِّن ذلكَ وينزلُه منازلَهُ أهلُ العلم والفَتْوى (¬3). وقد غَلِطَ فيهِ مِنَ العلماءِ منْ أدخلهُ في الناسِخِ والمَنْسوخِ؛ لِظَنِّهِم ¬
الثالث: نسخ القرآن بالسنة
اختلافَهُ، وليس عندَ أهلِ العلمِ بمختَلِفٍ؛ وفي هذا يتفاوتُ نظرُ العُلماء -رضيَ اللهُ تَعالى عنهمْ- ولهذا قالَ الإمامُ أبو عبد اللهِ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ - رضي اللهُ تَعالى عنهُ-: ما عَرَفْنا ناسِخَ الحَديثِ ومنسوخَهُ حتَّى صَحِبْنا محمدَ بنَ إدريس- رضي الله تعالى عنه (¬1) -. الثالث: نسخُ القرآنِ بالسُّنَّةِ: وفيهِ اختلافٌ بينَ أهلِ العلم (¬2): فقالَ أهلُ الظَّاهرِ: يجوزُ مُطْلَقاً (¬3)؛ بدليل ما رُوي أنَّ أهلَ قُباءٍ تركوا استقبالَ بيتِ المقدسِ لَمَّا أخبرَهُمْ رجل أنَّ القبلةَ قد حُوِّلَتْ إلى الكعبةِ (¬4)، ¬
الرابع: نسخ القرآن بالإجماع
وهوَ من أخبارِ الآحادِ، وهذا لا يستقيمُ إلَّا على قولِ من يقولُ: إن استقبالَ بيتِ المقدسِ كان بِقُرآنٍ. وقال قوم: يجوزُ بالسُّنَّةِ المُتواتِرَةِ، دونَ الآحادِ، وهو قولُ الحنفيَّةِ والمالكيَّةِ؛ لأنَّ القرآنَ دليل قاطِعٌ، والمتواتِرُ كذلكَ، فاستَوَيا، وتعادَلا؛ بخِلافِ الآحاد. وقالتِ الشافعيَّةُ: لا يجوزُ مُطْلقاً؛ لقول الله -تبَارك وتعالى-: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، والسُّنَّةُ ليستْ مثلَ القرآنِ؛ لأنَّ القرآنَ مُعْجزٌ، والسنةُ غيرُ معجزةٍ، والقرآنُ قديمٌ، والسنةُ حديثةٌ، ولقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]. الرابع: نسخُ القرآنِ بالإجماعِ: وهو غيرُ جائزٍ (¬1)؛ خلافًا لشذوذٍ من النَّاس (¬2). الخامس: نسخُ السُّنَّةِ بالقُرآنِ (¬3): جوَّزَهُ الجُمْهورُ، ومنعَهُ الشافعيُّ ¬
-رضيَ اللهُ عنه-؛ لأنَّ السُّنَّةَ مبينةٌ للقرآنِ؛ لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، ولا يجوز أن يكون المبيَّن ناسخاً للمبيِّنِ. وأُجيبَ عن ذلكَ: بأنَّ المنسوخَ من السُّنَّةِ بالكتابِ ليسَ هو المُبيِّنَ للكتابِ والمُفَسِّرَ له، إنَّما المنسوخُ الأمرُ والنَّهْيُ الواردُ في السُّنَّةِ. هكذا نُقِلَ المنعُ عنِ الشافعيِّ، وأطلقه جماعةٌ، وليسَ الأمرُ على الإطلاقِ؛ فالشافعيُّ -رضيَ اللهُ عنهُ- لا يقولُ: إِنَّ السُّنَّةَ لا تُنْسَخُ بالقُرْآنِ مُطْلَقاً، بل يجوزُ أن تنُسخَ بالقرآنِ؛ بشرطٍ، وهو أن يكونَ معَ القرآنِ سُنَّةٌ أخرى تخالِف السُّنَّةَ المنسوخةَ، وتوافقُ الآيةَ الناسِخَةَ (¬1)؛ ليتمَّ بيانُه -صَلَّى الله عليه وسلم - وموافقتُه أمرَ الله -جَلَّ جَلالُهُ-، ولا يوجدُ ناسِخٌ من القُرآنِ (¬2) إلَّا ومعهُ سُنَّةٌ منَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مقارِنةٌ لهُ، إمَّا قولٌ، أو فِعْلٌ، أو إِقرارٌ. ومثالُ ذلكَ معاهَدَةُ النبيِّ -صَلَّى الله عليه وسلم - المُشْركينَ عامَ الحُدَيْبيَةِ أن يَرُدَّ إليهمْ مَنْ جاءهُ منهمْ، فأنزل اللهُ -عَزَّ وجَلَّ- مَنع رَدِّ النساءِ، فقَالَ: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ ¬
مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، فامتنعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من رَدِّ النساءِ إليهم (¬1). فالجُمهور يقولونَ: نَسَخَ القرآنُ ما فَعَلَهُ مَعَهُمْ منَ العَهْدِ، واستقلَّ القرآنُ ببيانِ النَّسْخ. والشافعيُّ يقولُ: نَسَخَهُ القُرْآنُ، ولم يستقلَّ وَحْدَهُ ببيانِ النسخِ، بل استقلَّ بانضمامِ السُّنَةِ إليه، وهو مَنْعُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للنِّساءِ منَ الرُّجوعِ. فافهموا مذهبَ الشَّافعي -رضيَ اللهُ عنُه- المذهبَ المَرْضِيَّ الذي أَرْتَضيهِ وأختارُه مذهباً؛ فإنَّه لو جازَ أن يَنْسَخَ القُرْآنُ السُّنَّةَ من غيرِ أن تصحَبَهُ سُنَّةٌ أُخرى، لم يعرف بيانُ السُّنَّةِ للكِتاب أصلًا، ولا موقعُها منه، ولَجاز أن يُرَدَّ كثيرٌ من السُّنَن (¬2). فإذا قلنا: لا تقطَعُ يدُ السارق في الشيءِ التّافِهِ؛ للسُّنَّة؛ قالَ القائلُ: السُّنَّةُ منسوخةٌ بقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. ولجاز أن يقولَ: إنّما رجمَ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عليه وسلم - الزانيَ الثَّيِّبَ قبلَ نزولِ آيةِ الجَلْدِ (¬3)، وإنَّما مَسَحَ على الخُفِّ قبلَ نزولِ آيةِ الوُضوءِ (¬4)، وغيرَ ذلكَ من ¬
السادس والسابع: نسخ الإجماع بالقرآن، ونسخ الإجماع بالسنة: مستحيل وغير جائز اتفاقا.
الآياتِ، وإلا فَبيِّنوا الدليلَ على أنَّ السُّنَّةَ بعدَ ذلك (¬1). ولأجلَ هذا قالَ أبو عبد الله الشافعيُّ -رضيَ اللهُ عنهُ- هذهِ المقالَةَ. السادس والسابع: نسخُ الإجماع بالقرآنِ، ونسخُ الإجماعِ بالسُّنَّةِ: مستحيلٌ وغيرُ جائزٍ اتّفاقاً (¬2). * * * الفصل الخامس في الطَّريق إلى معرفة الناسخ والمنسوخ ويعلمُ ذلكَ في كتابِ اللهِ -جَلَّ جلالُهُ- من وجُوهٍ: أحدها: الإجماعُ على خِلافِ النَّصِّ (¬3)؛ لقيامِ الدليلِ القاطعِ على عِصْمَةِ الأُمَّة. الثَّاني: يُعْلَم بصريحِ النُّطق؛ كقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66]. الثالث: يُعْلَمُ ببيانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ كقوله تَعالى في الزَّواني: {فَأَمْسِكُوهُنَّ ¬
فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] فقال النَّبي -صَلَّى الله عليه وسلم -: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبيلاً" (¬1)، الحديث، عندَ مَنْ جَعل آيةَ الإمساك مَنْسوخَةً بالحُدودِ، وسيأتيَ بيانُ ذلكَ وتحقيقُهُ عندَ الكَلامِ على الأَحْكام- إن شاءَ اللهُ تعالى-. الرابعُ: يُعْلَمُ بتأخُّرِ أحدِ اللَّفْظَينِ عنِ الآخَرِ، فالآيةُ المَدَنِيَّةُ تنسَخُ المَكِّيَّةَ، وهو كثيرٌ في القرآنِ، والمدنيةُ المتأخّرَةُ تنسخُ المدنيةَ المتقدِّمَةَ، وهو أكثر منسوخِ القرآن، والمكية المتأخرة تنسخ المكية المتقدمة، وقلَّ أنْ يوجَدَ هذا النوعُ ظاهِراً مُتَّفقاً عليهِ عندَ أهلِ العلمِ؛ لأنَّ نُزولَ ذلك قبلَ تشريعِ الأَحْكامِ. ويجبُ على طالبِ علمِ القرآنِ أن يعلمَ (¬2) المَكِّيَّ من المدني. وقد مَيَّزَ أهلُ العلمِ ذلكَ، وبيَّنوه بَياناً خاصًّا، وذكروا لهُ أيضاً علاماتٍ ودَلائِلَ. قالوا: كُلُّ سورَة فيها: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} وليس فيها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، فهي مكية، وفي "الحَجِّ" اخْتلافٌ. وكلُّ سورة فيها: {كلا} فهي مكية؛ لأنه ردٌّ ورَدْع. وكلُّ سورةٍ في أولها حروف المُعْجَمِ مثل {الر}، و {حم} وشِبْهُهُ، فهي مكية، سوى "سورة البقرةِ" و "آلِ عِمرانَ"، وفي "الرعدِ" اختلافٌ. ¬
وكلُّ سورةٍ فيها قصةُ آدمَ - عليه الصَّلاة والسلام- وإبليسَ -عليه لعنةُ اللهِ- فهي مكية، سوى "سورةِ البقرةِ". وكلُّ سورةٍ فيها {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، فهي مدنية. وكلُّ سورةٍ فيها ذِكْرُ المنافقينَ، فهي مدنية، سوى "سورة العنكبوت". قال هشامُ بنُ عروةَ، عن أبيهِ: ما كانَ من السُّوَرِ فيه حَدٌّ أو فريضَةٌ، فهي مدنيةٌ، وما كان فيها ذِكْرُ الأُمَمِ الخاليةِ والقُرونِ الماضيةِ، فهي مكيةٌ (¬1). * ويعرف التأخُّرُ بينَ المَدَنِيِّ بإخبارِ الصَّحابي أَنَّ هذا نَزَلَ بعدَ هذا. أما إذا قالَ الصحابيُّ: هذهِ الآيةُ منسوخة، لم يُقبَلْ قولُه حتَّى يُبيِّنَ الناسخَ، فينظر فيه (¬2). ومنَ النَّاسِ من قالَ: ينسخُ بخبرهِ، ويقلَّدُ فيه. ومنهم مَنْ قالَ: إذا ذكرَ الناسِخَ، لم يُقَلَّدْ فيهِ، بلْ يُنْظَرُ فيه، فإن لمْ يذكُرِ الناسِخَ، قُبِل، وقُلِّدَ فيه؛ لأنَّه لا يُهْمَلُ ذكرُ الناسِخِ إلَّا عندَ حُصولِ القَطْعِ لهُ بأنه ناسخٌ، وأن الآية المعارِضَةَ له منسوخةٌ. وأمَّا إذا ظَنَّ النَّسْخَ، ولم يَقْطَعْ، ذكرَ الناسِخَ لينظرَ فيه غيرُه. والصحيحُ هو الأولُ، والدليلُ عليه أنَّه يجوزُ أن يكونَ قد اعتقدَ النَّسخَ بطريقٍ لا توجبُ النسخَ، فلا يجوزُ أن يُتْرَكَ الحكمُ الثابتُ من غيرِ نظرٍ واستدلالٍ. * ويُعرفُ الناسخُ من المنسوخِ في الحديث بهذه الطَّريق المذكورة (¬3). ¬
فيُعلمُ بالإجماعِ (¬1)؛ كما أجمعوا على جَلْدِ شاربِ الخَمْرِ، وإنْ عادَ مِراراً كثيرة. ويُعلمُ بصريحِ النُّطق؛ كقولِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "كُنْتُ نَهَيتكمْ عنْ زِيارَة القُبورِ، فَزوروها" (¬2). ويُعلمُ بإخبارِ الصَّحابيِّ أنَّ هذا وردَ بعدَ هذا؛ كما رُوِيَ أنَّهُ كانَ آخِرُ الأمرينِ من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرْكَ الوُضوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ (¬3). وأمَّا إذا أسلمَ راوي أَحَد الخَبَرَينِ بعدَ موتِ راوي الخبرِ الآخَرِ، أو بعدَ قِصَّتِه التي رواها، ففيه احتمالان عندَ الشيخِ أبي إسحاقَ الشيرازِيِّ رحمهُ اللهُ تَعالى (¬4). ومثالُه ما روى طَلْقُ بنُ عَلِي -رضيَ اللهُ عنهُ-: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ ¬
مَسِّ الذَّكَرِ، وهو يَبني مسجدَ المدينةِ، فلم يوجِبْ منهُ الوضوءَ (¬1). مع ما رَوى أبو هُريرةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- منْ إيجابِ الوُضوءِ بِمَسِّهِ (¬2)، وأبو هريرةَ أسلمَ عامَ خَيْبَر بعدَ بناءِ المسجدِ، فَيُحْتَملُ أن يُنْسَخَ حديثُه بحديثِ أبي هُريرةَ؛ لأنَّ الظاهرَ أنَّه لم يسمعْ ما رواه إلَّا بعدَ هذهِ القِصَّةِ فيه، ويُحْتَمَلُ ألاّ يُنْسَخَ؛ لجوازِ أن يكونَ سمعَه قبلَ أن يُسْلِمَ، أو أرسلَهُ عَمَّن قَدُم إسلامُه. ولا خِلافَ في أَنَّ خبرَ أبي هُريرة (¬3) أرجحُ في مَتْنهِ وسندِه من حديث طَلْقٍ بوُجوهٍ: أحدُها: تأخُّرُ إسلامِ راويهِ. ¬
ثانيها: الاحتياطُ، فخبر أبي هريرة أَحْوَطُ. ثالثها: النَّقْلُ، فخبرُ أبي هريرة ناقل من العادَةِ إلى العِبادَةِ. رابعُها: الإثباتُ، فخبرُ أبي هريرة مُثْبِتٌ للوضوءِ، وخبرُ طَلْقٍ نافٍ له. وللترجيحِ وُجوهٌ أُخَرُ ذكرَها أهلُ العلمِ بالفقهِ وأصولِه، وسأذكرُ منها جملة نافعة عندَ الكَلامِ على السُّنَّةِ إن شاء الله تعالى. * * *
القول في السنة وأنواعها وترتيبها وتقديم بعضها على بعض
القول في السُّنَّة وأنواعها وترتيبها وتقديم بعضها على بعض وفي ذلك أربعةُ فُصولٍ الفصلُ الأولُ في السُّنَّة والسُّنَّة: هي الطريقةُ (¬1)، وحَدُّها: ما رُسِم ليُحْتَذى به (¬2). وسُنَّتُهُ -صَلَّى الله عليه وسلم- متشعِّبةُ الأطراف، مُتَّسِعَةُ العُلوم، وهي ما شَرَعَهُ النبيُّ -صَلَّى الله عليه وسلم - وَبيَّنَهُ ونَصَحَ بهِ لأمَّتِهِ منَ الأحكامِ والآدابِ، وتصفيةِ الباطنِ، ومكارمِ الأخلاقِ، والإرشادِ إلى صحيحِ التدبيرِ والسياساتِ، والتنبيهِ على حكمِها، والإخبارِ عَمَّا كانَ وما يكونُ، وغيرِ ذلك مِمَّا نُقِلَ إلينا من أقوالِهِ وأفعالِهِ وإقرارِه ومعجزاتِه وجميعِ أحوالِه، فكلُّها حَقٌّ مِنْ عندِ اللهِ جَلَّ جَلالُهُ. قال اللهُ -سُبْحانَهُ-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ ¬
فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقال -جَلَّ جَلالُهُ-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وقالَ -جَلَّ جَلالُهُ-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]. وغَرَضي في كتابي هذا بيانُ أحكامِ السُّنَّةِ المُتَعَلِّقَةِ بالأحكامِ، وهي تنقسمُ إلى أفعالٍ وأقوالٍ وإقرارٍ منهُ - صلى الله عليه وسلم -. فأمَّا أقوالُه، فإنها تنقسمُ إلى جميعِ الأقسامِ الواردَةِ في كتابِ اللهِ -جَلَّ جَلالُهُ- من العُمومِ والخُصوصِ، والحَقيقَةِ والمَجازِ، وغيرِ ذلك؛ لاتِّحادِ طريقِ بيانِهما الذي هو الخِطاب. ثُمَّ منها ما يكونُ بَياناً للكتابِ؛ مِنْ تخصيصِ عُمومِه، وتقييدِ مُطْلَقِهِ، وتبيينِ مُجْمَلِهِ، وتَكْميلِ سُنَّتِهِ وآدابِه، وغيرِ ذلك من الوجوه. ومنها ما يكونُ اتِّباعاً لنصِّ الكتابِ من غيرِ زيادَةٍ. ومنها ما يكونُ ابتداءً مِمّا لم يكنْ لهُ أصلٌ في الكِتاب (¬1)، ومنْ أهلِ العلمِ من خالفَ في هذا (¬2). ¬
وجميعُ الأقسامِ حَقٌّ مِنَ اللهِ -سُبْحانَهُ- منسوبٌ علمُها إلى الكتابِ (¬1) العزيز. قال الشافعيُّ -رضيَ اللهُ عنه-: وليستْ تنزِلُ بأحدِ من أهلِ دينِ اللهِ نازِلَةٌ إلَّا وفي كتاب اللهِ الدَّليلُ على سَبيلِ الهُدى فيها، قالَ اللهُ -سبحانه وتَعالى -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وذكرَ جملةَ من الآياتِ البَيِّناتِ (¬2). والشافعيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعالى- أخذَ هذا مِمَّا رَوى عَلْقَمَةُ، عنْ عبدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- أنَّه قالَ: لَعَنَ اللهُ الواشِماتِ والمُسْتَوشِماتِ والمُتَفَلِّجات للحُسْنِ المُغَيِّراتِ لِخَلْقِ اللهِ، فبلغَ ذلك امرأةً من بني أَسَدِ يُقال لَها: أُمُّ يَعْقوبَ، فجاءَتْ فقالتَ: إنَّهُ قدْ بَلَغَني أنَّكَ لعنتَ كَيْتَ وكَيْتَ، فقال: وما لي لا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ومَنْ هُو في كِتابِ اللهِ؟! فقالتْ: لقدْ قرأتُ ما بينَ اللَّوحَيْنِ، فما وَجَدْتُ فيهِ ما تقولُ، فقالَ: لَئِنْ كنتِ قَرَأْتِهِ، لَقَدْ وَجَدْتِهِ، أَمَا قَرَأْتِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، قالت: بلى، فإنَّهُ قدْ نهى عنه (¬3). وأَمّا أفعالُه - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّها يقعُ بها جميعُ أَنواع البيانِ؛ منَ المُجْمَلِ، وتَخْصيصِ العُمومِ، وتقييدِ المُطْلَق، وتأويلِ الظّاهر، والنَّسْخِ، وغير ذلك (¬4). ¬
وهي على ضربين (¬1): فِعلٌ لا قُرْبَةَ فيهِ، بلْ فَعَلَهُ بطريقِ العادةِ؛ كالأكلِ والشربِ، والنوم والقيامِ، والقعودِ والركوب، فهذا يدلُّ على إباحَتِهِ، وينتفي عنهُ التحريمُ؛ لِعِصْمَتِهِ -صَلَّى الله عليه وسلم -، ولكونه لا يُقَرُّ على الخَطَأ، وينتفي عنه الكراهَةُ؛ لندورِ فِعْلِ المَكروهِ منهُ، وإنْ كانَ قدْ يفعلُهُ لتبيينِ الجَوازِ، أو (¬2) لغيرِ ذلكَ منَ الوجوهِ. فهذا عندي، وإنْ كانَ مُباحاً، فَيُستحبُّ لأمَّتهِ متابعَتُه -صَلَّى الله عليه وسلم - فيه؛ لكون عادتِه أَحْسَنَ العاداتِ، ومقرونةً بأَزْكى البركاتِ. وقد تابعَهُ في ذلكَ كثيرُ من الصَّحابة -رضيَ اللهُ عنهم- وقل مَنْ رأيتُه من المُصنِّفينَ ذَكَرَ اسْتِحْبابَ ذلكَ (¬3)، ولكنَّ نَظَرَهُمْ في ذاتِ الفِعْلِ، لا في نفسِ المُتَابَعَةِ. والضربُ الثَّاني: فعلٌ يظهر فيه قَصْدُ القُرْبَة. وقَدْ قَدَّمنا أَنَّ مأخَذَ السُّنَّةِ من ثلاثةِ أوجهٍ: وجهانِ مُتَّفَقٌ عليهِما عندَ أهلِ العلمِ، فيعرف وجوبُ فعله وندبُه من ¬
الوجْهَين، إن كانَ بياناً لنصٍّ في واجبٍ، كان واجبًا، وإن كان بَياناً لنصٍّ في مُسْتَحَبٍّ، كانَ مُسْتَحباً، وإن كانَ بياناً لمُجْمَلٍ مأمورٍ بهِ حَتْماً، كان واجِباً، وإن كانَ المأمورُ بهِ نَدْباً، كانَ مُسْتَحباً (¬1). وأمَّا الوجهُ الثالثُ الذي قالَ بهِ أكثرُ أهلِ العلمِ، وهوَ أن يَفْعَلَ الشيءَ ابتداءً من غيرِ سَبَبٍ (¬2)، فاختَلفَ أهلُ العلمِ فيهِ أيضاً على أربعة مذاهبَ (¬3): فمذهبُ مالِكٍ وأكثرِ أهلِ العراقِ وأبي سعيد الإصْطَخْريّ وأبي العباس ابن سُرَيْجٍ: أنَّه يُحْمَلُ على الوُجوب. وقالَ قومٌ: يُحْمَلُ على النَّدْب، وهو قولُ الشَّافِعِيِّ. وقال قومٌ: يُحْمَلُ على الإباحَةِ، ويُروى عن مالكٍ. وقالَ قومٌ بالوقفِ، فلا يُحْمَلُ على الوجوبِ ولا على النَّدْبِ إلَّا بِدليلٍ، وهو قَوْلُ الصَّيْرَفيِّ، واختيارُ أبي إِسْحاقَ الشِّيرازِيِّ -رحمهُ اللهُ تعالى- (¬4). ¬
وأمَّا إقراره - صلى الله عليه وسلم - فإنَّه على ضربين (¬1): ¬
الفصل الثاني في بيان أنواع السنة
أحدُهما: أن يقولَ أحدٌ قولًا، أو يفعلَ فِعْلاً بِحَضْرَتِهِ، ولا يُنْكِرُهُ عليهِ، فهذا يَدُلُّ على جوازِ ذلكَ الشيءِ. والثاني: أن يَفْعلَ فِعلاً بغيرِ حَضْرَتِهِ، لكنَّ مثلَ ذلكَ لا يَجوزُ أن يَخْفى عليهِ في العادَةِ، ولم يُنْقَلْ أنَّه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- أنكرَهُ، فهذا أيضاً يُسْتَدَلّ بهِ على جوازِ ذلكَ الشيءِ، ولكنهُ أضعفُ دَلالةً مِنَ الأولِ. * * * الفصل الثَّاني في بيانِ أنواعِ السُّنَّةِ وهي تنقسم إلى مُتَّصِلٍ وغيرِ مُتَّصِلٍ. والمُتَّصِلُ ينقسِمُ إلى مُتواتِرٍ وآحادٍ، وبعضهم يقسمُهُ إلى مُتَواتِرٍ ومُسْتَفيضٍ وآحادٍ (¬1). ¬
فالمتواتر: ما استوى طرفاهُ ووسَطُهُ في الروايةِ عَنْ جَمْع لا يُمْكِنُ تَواطُؤُهُمْ على الكذبِ، وأن يكونَ مُسْتَنَدُهُ غيرَ النَّظَرِ والاسْتِدلالِ (¬1). وهذا يفيدُ العلمَ الضَّرورِيَّ (¬2)؛ خِلافاً للبَلْخِيِّ منَ المُعْتَزِلَةِ، والدَّقَّاقِ منَ الأَشْعَرِيَّةِ. وهو قليلٌ جِدًّا (¬3). والمستفيض: ما كانَ من أخبارِ الآحادِ، ولكنْ تلَقَّتْهُ الأمَّةُ بالقَبول، فَعَمِلوا بهِ كُلُّهُمْ، أو عَمِلَ بهِ البَعْضُ، وتَأَوَّلَهُ الباقونَ (¬4)، وذلكَ كقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: ¬
"إنَّما الأَعْمالُ بالنّيَّاتِ" (¬1)، وما أشْبَهَهُ. والآحاد: ما عدا ذلكَ (¬2). وهو يُوِجِبُ العَمَلَ مُطْلَقاً (¬3)، خالفَتِ القِياسَ مُطْلَقاً، أو قياسَ الأُصولِ، عَمَّتِ البَلْوى بالحادثة، أو لمْ تَعمَّ. ولا عِبْرَةَ بخِلاف ابنِ داودَ وشُذوذٍ منَ النَّاسِ؛ حيثُ مَنَعوا العَمَلَ بِها (¬4). ومنعَ مالكٌ العَمَلَ بِها إذا خالفَتِ القياسَ (¬5). ¬
ومنعَ أبو حنيفةَ (¬1) إذا خالَفَتْ قِياسَ الأُصولِ (¬2)، أو كانَتْ فيما تعُمُّ به البَلْوى (¬3). ¬
وهي لا توجبُ القَطْعَ واليقينَ؛ خلافًا لبعضِ أصحابِ الحديثِ. فإنَّ منهم من قال: ما تَجَلّى إسنادُه، أوجبَ العِلْمَ؛ كَمالِكٍ، عن نافعٍ، عنِ ابن عُمَرَ- رضي اللهُ عنهم-. ومنهم منْ قالَ: ما حواه صحيحاً البُخاريِّ ومُسْلِمٍ يفيدُ العِلْمَ. قال الشيخُ أبو عَمْرِو بنُ الصَّلاحِ وغيرُه: يُفيدُ العِلْمَ النَّظَرِيَّ لا الضَّرورِيَّ؛ لأنَّ الأمةَ أجمعتْ على أن ما فيهما ثابتٌ عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والأُمَّةُ مَعْصومَةٌ مِنَ الخَطَأ (¬1). وأكثرُ المحقِّقينَ منَ الأصوليين وغيرهم على أن ذلكَ لا يفيد العلم (¬2). وإحدى المُقَدّمتينِ في الاستدلالِ غيرُ مُسَلَّمَةٍ، فكأنهم يقولونَ: أجمعَتِ الأمَّةُ على وُجوبِ العَمَلِ بالظَّنِّ، وقد غلب على ظَنِّهِمْ أنَّ ما فيهما صحيحٌ، ¬
فنتيجةُ هذا أَنَّ ما فيهما يَجِبُ العَمَلُ به. ولمُخالِفِهم أن يقولَ: قَدْ ظَنَّتِ الأُمَّةُ بثبوتِ جميعِ ما فيهما عَنْ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والأُمَّةُ معصومة عن الخَطأ في ظَنِّها، فينتجُ ذلكَ أنَّ ما فيهما ثابِتٌ قَطْعاً ويَقيناً، فالظنُّ في طريقِ إفادَتِهما العِلْمَ، لا في إفادَتِهما العمل. وهُوَ عندي مَذْهَبٌ قَوِيٌّ، ولكنَّه لا يَخْتَصُّ بالصَّحيحينِ، بلْ كلُّ حديثٍ غلبَ على ظنِّ عامَّةِ أهلِ العلمِ بالحديثِ ثبوتُه وصِحَّتُهُ، فهو كَذلكَ، واللهُ أعلمُ. ثم المُتَّصِلُ ينقسم إلى: صَحيحٍ، وحَسَنٍ، وضعيفٍ. فالأَوَّلانِ حُجة على ما قاما عليه، وإن تفاوتا في الصِّحَّةِ والحُسْن. وأمَّا الضَّعيفُ، وإن تنوعتْ أنواعُه، فلا يجوزُ إقامةُ الحجةِ به (¬1). ¬
وأمَّا غيرُ المتصل، فإنَّه يقعُ على المُرسَل، والمُعْضَل، والمُنْقَطع، والموقوف (¬1). فالمُرْسَل: قولُ التابعيِّ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. والمُعْضَلُ والمُنْقَطعُ في معناهُ (¬2) عندَ قومٍ، ومنهم مَنْ فرَّقَ بينهما بأحوالٍ مخصوصةٍ، وقد ذكرها أهلُ العلمِ بالحديث (¬3) في كتبهم (¬4)، وقد أَوَّلوها في اصطلاحاتِهم. ¬
وكلُّها (¬1) لا تقومُ بها حُجَّةٌ، ولا يثبتُ لها حكمٌ عندَ جماهيرِ أهلِ العلم. وذهب مالكٌ وأبو حَنيفةَ في آخرين إلى صِحَّةِ الاحتجاجِ بالمرسَلِ. وأمَّا الشافعيُّ -رضيَ اللهُ تعالى عنُه- فقالَ في كتابهِ الجديدِ: المنقطعُ مختلِفٌ، فمن شاهدَ أصحابَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من التّابعين، فحدَّثَ حديثاً منقطِعا عنِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، اعتُبِرَ عليهِ بأمور. منها: أن يُنْظَرَ إلى ما أرسلَ من الحديثِ، فإن شاركه فيه الحُفَّاظُ المأمونونَ، وأَسْنَدوه إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بمِثْلِ معنى ما رَوى، كانتْ هذهِ دلالةً على صحَّةِ حفظِه. وإن انفردَ بإرسالِ حديثٍ لم يشاركْهُ فيه غيرُه، قُبِل ما ينفردُ به، ويُعْتبَرُ عليه بأن يُنْظَرَ هلْ يوافِقُه مرسَلُ غيره ممَّن قُبِلَ عنهُ العلمُ في غيرِ رجالِه الذين قُبِلَ عنهم، فانْ وُجِدَ ذلك، كانتْ دلالةً تقوِّي مُرْسَلَهُ، وهي أضعفُ منَ الأُولى. وإن لم يُوجَدْ ذلكَ، نُظِر إلى بعضِ ما رُوِيَ عن بعضِ أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قولًا لَهُ، فإن وُجِدَ موافقاً ما رُوِيَ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، كانتْ في هذهِ دلالةٌ على أنَّه لم يأخذْ مُرْسَلَه إلَّا من أَصْلٍ يَصِحُّ، إنْ شاءَ اللهُ تعالى. وكذلكَ إن وُجِدَ عَوامٌ من (¬2) أهلِ العِلْمِ يُفتون بمثلِ معنى ما رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم يعتبرُ عليهِ بأنْ يكونَ إذا سَقَى مَنْ روى عنهُ، لم يكنْ مجهولاً، ولا مَدْفوعاً من الروايةِ عنه، فَلْيُستدلَّ بذلك على صِحَّة ما رواهُ، أو يكونَ إذا شاركَ أحدًا من الحفَّاظ في حديثٍ لم يخالِفْهُ، وإنْ خالفهُ، ¬
وُجِدَ حديثُه أنقصَ، ففي هذهِ دلائلُ على صِحَّةِ مخرجِ حديثهِ. ومتى خالفَ ما وَصَفْتُ، أضرَّ بحديثه حتَّى لا يسع أحداً قَبولُ مُرْسَلِهِ. ثم قالَ بعدَ كلامٍ: فأمَّا مَنْ بعدَ كِبارِ التَّابعينَ الذين كَثُرَتْ مشاهدتُهم لبعضِ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلا أعلمُ منهمْ واحدًا يُقْبَلُ مُرْسَلُهُ لأمورٍ: أحدُها: أنَّه أشدُّ تجوُّزاً فيما يروون عنه. والآخَرُ: أنَّه يُؤخَذُ عليهم الدلائلُ فيما أرسلوه بضَعْفِ مخرجهِ بكثرةِ الإحالةِ في الأخبارِ، وإذا كَثُرَتِ الإحالةُ، كانَ أمكنَ للوَهْم وضعفِ مَنْ يُقبلُ عنهُ. ثم قال أيضاً بعد كلامٍ آخَرَ: ومن نَظَر في العلم بِخِبرَةٍ وقلةِ غفلةٍ، استوحشَ من مُرْسَلِ كلِّ مَنْ دونَ كبار التَّابعينَ بدلائِلَ ظاهرةٍ فيها، فإن قالَ قائِلٌ: فَلِمَ فَرَّقْتَ بينِ التَّابعينَ المتقدِّمينَ الذين شاهدوا أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وبينَ مَنْ شاهدَ بعضهَم دون بعض؟ قلتُ له: لِبعدِ إحالَةِ مَنْ لم يشاهدْ أكثرَهُم (¬1). ¬
وأمَّا الموقوفُ على بعضِ الصحابةِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهمْ- مثلَ أَنْ يقولَ بعضُهم قولًا؛ أو يفعلَ فِعْلاً، فإنِ انتشرَ قولُه أو فعلُه في علماءِ الصحابةِ، وسكتوا عن مخالفتهِ والإنكارِ عليه، فهو حُجة يجبُ العملُ بها؛ خِلافاً لداودَ؛ لأنَّ العادَةَ في أهلِ الاجتهاد إذا سمعوا جَواباً في حادثةٍ حَدَثَتْ، اجتهدوا، وأَظْهروا ما عندَهُم، فإذا لم يُظهروا الخِلافَ، دَلَّ على أنهم قد رَضُوا بذلك. واختلفوا فيه: هلْ يكونُ إجماعاً؟ فقالَ فريقٌ من الشافِعِيَّةِ: يكونُ إجماعاً. ويروى عن أبي حنيفةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالى. وقال فريقٌ منهمْ: لا يكونُ إجماعًا، ونُسِبَ إلى الشافعيِّ -رحمهُ اللهُ تَعالى- في قوله الجديدِ (¬1). ¬
وأمَّا إذا لم ينتشرْ، ولم يُعْرَفْ له مُخالِفٌ: فَذَهَبَ الشافعيُّ في قولهِ الجديد إلى أنَّه ليسَ بِحُجَّةٍ. وقالَ قومٌ من الفُقهاء: هو حُجَّةٌ، وإليه ذهبَ الشافعيُّ في القديم. وقالتِ الحنفيةُ: إذا خالفَ القِياسَ، كان توقيفاً عنْ رسول الله -صَلَّى الله عليه وسلم -، ويُقَدَّمُ على القِياس؛ لأنَّ فَتْوى الصَّحابيِّ بما يخالِف القياسَ دليلٌ على أنَّه إنَّما قالَ بذلكَ عن توقيفٍ عن رسولِ الله -صَلَّى الله عليه وسلم - (¬1). ¬
الفصل الثالث في ترتيب بعضها على بعض
الفصلُ الثالثُ في ترتيبِ بعضِها على بعضٍ والسُّنَّةُ تنقسمُ إلى جميعِ الأقسامِ الواردةِ في الكِتاب؛ مِنَ الحقيقةِ والمَجاز، والعامِّ والخاصِّ، والمُجْمَلِ والمُبيَّنِ، والمُقَيَّدِ والمُطْلَقِ، والنّاسِخِ والمَنْسوخ. فالمَجازُ مرتَّبٌ على الحقيقةِ، والعامُّ مرتَّبٌ على الخاصِّ، والمُجْمَلُ مرتَّبٌ على المُفَسَّرِ، والمُطْلَقُ مرتَّبٌ على المُقَيَّدِ، والمنسوخُ مرتَّبٌ على الناسخِ. ولولا طَلَبي للاختصارِ وخَوفُ الإطالةِ، لَبيَّنْتُ جميعَ هذهِ الأقسامِ وغيرِها، ولكنْ فيما مضى من هذه المقدِّمَةِ كفايةٌ لذوي الاعْتبار والاسْتِبْصار. * * * الفصلُ الرابعُ تقديمُ بعضِها على بعضٍ وذلك لا يكون إلَّا بعد تعذُّر الجَمْع بينها والعَمَلِ بجميعها (¬1)، وترتيبِ بعضِها على بعض، وذلكَ بأنْ يكونَ لفظُ الشَّيئينِ المتعارِضَيْنِ نَصًّا: بيِّناً، ولم يُعْلَمِ الناسخُ منهما، فحينئذِ يصيرُ المجتهِدُ إلى تقديمِ بعضِها على بعضٍ بوجه من وجوهِ الترجيح، وقد ذكرها أهلُ العلمِ بالنَّظَر والفَتْوى. ¬
فمنها وجوهٌ مرجِّحَةٌ من قِبَلِ الإسناد، ووجوه مُرَجِّحَةٌ من قبلِ المتنِ. فالذي من قبلِ الإسنادِ (¬1): مثل أنْ يكونَ أحدُ الراويَينِ صغيراً، والآخرُ كبيرًا، فتقدَّمُ (¬2) روايةُ الكبيرِ؛ لأنَّه أضبطُ، أو يكون أحدُ الراويينِ أفقَهَ أو أقربَ إلى رسول الله -صَلَّى الله عليه وسلم -، أو يكونَ مباشِراً للقصةِ، أو تتعَلَّقُ (¬3) القصةُ به، أو يكونَ أكثرَ صحبةً، أو يكونَ أحسنَ سياقاً للحديثِ، أو يكونَ متقدِّمَ (¬4) الإسلام، أو يكون أورعَ وأشدَّ احتياطًا، أو يكونَ من أهل المدينةِ، أو لم يضطربْ لفظُه، و (¬5) لم تختلفِ الروايةُ عنه، مع كونِ مقابِلِهِ ليس من أهلِ المدينة، و (¬6) اضطربَ لفظُه، أو اختلفتِ الروايةُ عنه. والأصحُّ: أن كثرةَ الرواةِ موجِبٌ للترجيح، بخلافِ الشهادةِ، خلافًا لبعض الشَّافعية (¬7). ¬
والذي من قبلِ المتينِ مثل (¬1): أن يكونَ أحدُهُما نُطْقاً، والآخرُ دليلَ النطقِ (¬2)، فالنطق أولى، أو أن (¬3) يكونَ أحدُهما يجمعُ النطقَ والدليلَ، والآخرُ يختصُّ بأحدهما، فالجامعُ أولى؛ لأنَّه أَبْيَنُ، أو يكونَ أحدُهما موافقاً لدليلٍ من كتابٌ أو سنةٍ أو قياس، ويكونَ أحدهُما عملَ بِه الأئمةُ الأربعةُ وأهلُ الحرمينِ، ويكون أحدُهُما قولاً وفعلاً، والآخر أحدهما، فهو أولى، أو يكون قُصِد بأحدِهما الحكمُ، والآخرُ لم يقصدْ به، أو يكونَ أحدُهما وردَ على غيرِ سبب، فهو أولى ممَّا وردَ على سبب؛ لأنَّه مختلَفٌ في عمومِه، أو يكون أحدُهما (¬4) مُثْبتاً أو ناقلاً من العادة إلى العبادة، أو يكونَ فيه احتياط، فيقدَّم على مقابلِهِ، والأصحُّ: أن الذي يقتضي الحَظْرَ مقدمٌ على الذي يقتضي الإباحة؛ لأنَّه أَحْوَطُ (¬5). ¬
وقد مضى الكلامُ على وجوهِ الأدلةِ وشرائطِ الاستدلال في الخطاب، وبقي الكلامُ في معناها الذي هو القياسُ. وها أنا أذكر فيه جملةً نافعةً ليتمَّ نفع كتابي هذا (¬1) إن شاء الله تعالى. * * * ¬
القول في القياس
(القول في القياس) فصل: اعلموا (¬1) -رحمكمُ اللهُ الكريم وإياي-: أن اللهَ سبحانه أنعمَ على عِباده، ومَنَّ عليهم، فركَّبَ فيهم عقولاً دلَّهم بها على الفرقِ بين المُخْتَلِفِ، والجَمْعِ بين المُؤْتَلِفِ، ونصبَ لهم إلى دَرْكِ الصوابِ علاماتٍ يأتمُّون بها، بدلالاتٍ (¬2) يهتدون بها، فقال جل جلاله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] ليبتليهم (¬3)، فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجز واحدٌ، فما أعظمها (¬4) من نعمةٍ يثابُ العبد مع (¬5) الخطأ فيها! فلله الحمدُ والشكرُ عليها. وقد كثرت أقوالُ العلماءِ في حدِّ القياس. فقال الشافعيُّ: هو الاجتهادُ (¬6). وقال غيره (¬7): هو فعلُ القياس (¬8)، وقيلَ غيرُ ذلك. ¬
وفي الحقيقة: ردُّ الحادثةِ إلى حكمٍ بمعنًى فيه هو فيها، أو إلى أشبهِ الأمورِ بها (¬1). * ثم اعلموا -رحمكمُ اللهُ- أن الألفاظ كما هي متفاوتةٌ في البيان، كذلك القياسُ متفاوتٌ أيضاً. فأَبْيَنُهُ وأوضحُهُ أن يُحرّم الله سبحانَه، أو رسولُه -صَلَّى الله عليه وسلم - القليلَ من الشيء، فيُعْلَمَ أن كثيرَهُ مثلُ قليلِه في التحريمِ، وأولى منه؛ لفضلِ الكَثْرَةِ. وكذا إذا حَمِد على اليسيرِ من الطاعةِ، أو ذمَّ على القليلِ من المَعْصِيَةِ. وذلك كما حرّم اللهُ سبحانه التأفيفَ للوالدَيْنِ، فالضربُ مثلُه، أو أولى منه. وقد يمتنعُ (¬2) بعضُ أهل العلم من تسميةِ هذا قياساً (¬3)، ويقول: هذا ¬
معنى ما أحلَّ الله وما حَرَّمَ، وما حَمِدَ وما ذَمَّ؛ لأنَّه داخل معه (¬1) في جملته، فهو هو بعينِه، لا قياسَ عليه. ويليه في ذلك (¬2) الوضوح ما صُرِّحَ بهِ بلفظِ التعليلِ؛ كقوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، وكقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} [المائدة: 32] الآية، وكقوله -صَلَّى الله عليه وسلم -: "إنَّما نهيتكم من أجل الدافَّةِ" (¬3). ويليهِ في الوضوحِ ما كان ذكرُه لا يفيدُ غيرَ التعليلِ؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] الآية، وهذا المعنى المذكورُ موجودٌ في النبيذ، فيكونُ حراماً. ويليه في الوضوحِ كونُ الفرعِ مساويًا للأصلِ في المعنى، وذلك كإيجاب نفقةِ الوالدِ عندَ العجزِ عن الاستقلالِ؛ قياساً على نفقةِ الولدِ عندَ العجزِ عن استقلاله بنفسه. ويليهِ في الوُضوح ألَّا يكونَ فيه شبَهٌ (¬4) منهُ، وإنَّما فيه خَصيصةٌ من خصائِصِه، وذلك كسجودِ التلاوةِ يجوزُ فعلُهُ على الراحِلَةِ، وذلكَ من ¬
خَصائِصِ النَّوافلِ، فيكونُ غيرَ واجبٍ مثلَها. ويليهِ في الوضوح كونُ الفرع فيه شَبَهٌ منْ معنَيينِ، وهو في أحدِهما (¬1) أكثُر شبهًا، فيردُّ إليه (¬2)، وذلك كالعبدِ يشبهُ الحرَّ في أنَّ عليهِ صومًا وصلاةً وحدًّا، ولهُ نكاحٌ وطلاقٌ، وقتلُهُ حَرامٌ، وفيهِ الكفارةُ، ويشبهُ البهيمةَ في أنُه مالٌ مُتَقَوَّمٌ، فجعلَ الحكم في قيمته عنَد قتلِهِ خطأً على عاقِلَةِ الجاني؛ قياسًا على الحُرِّ، وجعل جراحَهُ من قيمتِهِ كجراحِ الحُرِّ من دِيَتِه. ويليه في الوضوح أن يُعَلَّقَ الحُكْمُ على اسمٍ مشتَقٍّ من صِفَةٍ، فيغلبُ على (¬3) الظَّنِّ أَنه عِلَّةُ الحُكْم، فيقاسُ علَيه، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَبيعوا الطعامَ بالطعامِ إلا مِثْلًا بمِثْلٍ" (¬4)، وكقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ ¬
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. * وللقياس أمورٌ تفسدهُ، وأمورٌ أخرى تعارِضُه، كما في الألفاظِ، وقد ذكرها أهلُ العلمِ بِصَنْعَةِ القياسِ. وعلى الجملة، فهو ميزانُ العقولِ، ومَيْدانُ الفُحولِ. قال أبو عبدِ الله الشافعيُّ: ولا يقيسُ إلَّا من جمعَ الآلةَ التي لهُ القياسُ بها، وهي العلمُ بأحكامِ كتابِ الله تعالى: فرضِه، وآدابِه، وناسخِه، ومنسوخِه، وعامِّه، وخاصِّه، وإرشادِه. ويستدلُّ على ما احتملَ التأويلَ منه بسننِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن (¬1) لم يجدْ سنَّةً، فبإجماعِ المسلمينَ، فإن لم يمكنْ إجماع، فبالقياسِ. ولا يكونُ لأحدٍ أن يقيسَ حتى يكونَ عالِمًا بما مضى قبلَهُ من السُّنَنِ، وأقاويلِ السَّلَفِ، وإجماعِ الناسِ واختلافِهم، ولسانِ العرب. ولا يكونُ له أن يقيسَ حتى يكونَ صحيحَ العقلِ، وحتى يفرِّق بينَ المُشْتَبهِ، ولا يَعْجَل بالقولِ به دونَ التثبُّتِ، ولا يمتنعَ من الاستماعِ ممَّن خالفَه؛ لأنه قد يلقنه بالاستماع لترك الغفلةِ، ويزدادَ به (¬2) تثَبُّتًا فيما اعتقدَ منَ الصواب. وعليهِ في ذلك بلوغُ جهدهِ، والإنصافُ من نفسِه حتى يعرفَ مِنْ أينَ قالَ ما يقول، وتركَ ما يترك. ولا يكونَ بما قالَ أعنى منه بما خالفَهُ حتى يعرفَ فضلَ ما يصيرُ إليه على ما يُتركُ إنْ شاءَ الله تعالى. قال: فأمَّا مَنْ تَمَّ عقلُهُ، ولم يكنْ عالِمًا بما وَصَفْنا، فلا يَحِلُّ له أن يقولَ ¬
بقياسٍ، وذلك أنه لا يعرفُ ما يقيسُ عليه، كما لا يحلُّ لفقيهٍ عاقلٍ أن يقولَ في ثمنِ درهم ولا خبرةَ لهُ بسوقهِ. ومنْ كانَ عالِمًا بما وصَفْنا بالحفظِ، لا بحقيقةِ المعرفةِ، فليس لهُ أن يقولَ أيضًا بقياسٍ؛ لأنه قد يذهبُ عليه عَقْلُ المَعاني. وكذلك لو كان حافظٌ مقصرَ العقل، أو مقصرًا عن (¬1) لسانِ العربِ، لم يكنْ له أن يقيسَ؛ من قِبَلِ نقصِ عقله عن الآلةِ التي يجوزُ بها القياس، ولا نقول: يسع هذا، -والله أعلم- أن يقول أبدًا إلا اتّبَاعًا لا قياسًا (¬2). فإنْ قلتُمْ: فبيّنْ لنا كيفَ صِفَةُ القياسِ، ولقد كَبُرَ علينا أَمْرُهُ وعَظُمَ لدينا خَطْبُهُ. قلتُ: هو كما ذكرتُمْ، وهو سَهْلٌ على من أعطاه اللهُ عقلاً وفَهْمًا، فكل عِلْم عَطاءٌ من الله الكريمِ، فنسأله عطاءً مؤدِّيًا لحقِّه، موجبًا لمزيدِه. وها أنا أذكُر لكم صفَتَه، وأبينُ لكم طريقَهُ بأسهلِ بيانٍ وأوضَحِهِ إنْ شاءَ الله تعالى. فاعلموا -رحمكمُ اللهُ تعالى- أَنَّ الله -سبحانَه وتعالى-، وكذا رسولُه - صلى الله عليه وسلم - إذا خاطَبَ الِعبادَ بحُكْمٍ، فالغالبُ أن يكونَ هناك مَعْنىً وعلاَمةٌ للحُكْمِ تدلُّ على أنَّ ما لم يذكر، و (¬3) فيه ذلكَ المَعْنى أنه في مَعْناهُ، وقد لا يكون للحُكْمِ المَذْكورِ مَعْنًى، وذلك في القليل النادرِ، فتعرّفوا أولًا معنى الحكمِ وعلَّتَهُ، ثم قيسوا عليه الحوادث التي لم تذكر إذا وجدتُم ذلكَ المعنى فيها، فإنْ بيَّن الله سبحانَهُ، ورسولهُ - صلى الله عليه وسلم - علَّةَ الحُكْمِ ومعناهُ في ذلك ¬
الخِطابِ، أو في خطاب آخَرَ، أو وُجدَ إجماعٌ من عامَّةِ أهلِ العلمِ على أنَّ عِلَّةَ الحُكْمِ كَذا، أَلْحَقْتُمْ بذلكَ الحُكمِ الحادثةَ التي لم يُنَصَّ على حُكْمِها، وإن لم تجدوا شيئاً من ذلك، فاستدلُوا على إدراكِ المعنى الذي حكمَ الله سُبحانَه ورسولُهُ - صلى الله عليه وسلم - لأجله. والدلالةُ عليهِ من وجوهٍ: منها: أن يذكرَ اللهُ سبحَانهُ عندَ ذكر الحُكْمٍ صفةً لا يفيدُ ذكرُها غيرَ التعليلِ؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91]، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - في الهرة: "إنَّها من الطَوّافين عليكم (¬1) والطَّوّافات" (¬2). ومنها: أن يكونَ الحكمُ في عَيْنٍ، ويذكرَ من صفتِها ما يميزُها عن سائر صِفاتها، فيغلبُ على الظن أن تلكَ الصفةَ علَّةُ الحُكْم ومعناه. فقدْ تكونُ نفسُ الصفةِ علَّةَ الحكمِ، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]. وقد تكونُ الصفةُ (¬3) مشتملةً على العِلَّةِ؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من باعَ نَخْلاً بعدَ أَنْ يُؤَبَّرَ فثمرتُها للبائعِ، إلَّا أنْ يشترطَها المُبْتاع" (¬4)، فالتأبيرُ الذي هو يشتمل ¬
على الظهور علَّةُ الدخول والخروج، فيلحقُ بهِ ما في معناه، كما إذا بيعتِ الدابَّةُ، فإنْ ظَهَرَ ولدُها، فهو للبائع، إلا أن يشترطَ المُبتاعُ. وكذا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَقْضي القاضي وهُوَ غَضْبانُ" (¬1)، فالغضبُ مشتملٌ على معنى شغلِ القلبِ وتَشَوُّشِهِ، وفي معناهُ الجوعُ والعطشُ والخوفُ، وما أشبهه. ومنها: أن يكونَ في العينِ التي يُحْكَم فيها مَعْنًى يقارِنُ الحكمَ، لا يُوجَدُ الحكم إلا وجد (¬2) معه، ولا يزولُ الحكمُ إلا يزولُ معه (¬3)، وذلك كالشِّدَّةِ ¬
المُطْرِبَةِ في الخَمْر، فيلحقُ بها سائرُ الأَنْبِذَةِ. ومنها: أن تكونَ العينُ التي وقع الحكم فيها تحتملُ معانيَ، فيدلُّ الدليلُ على بُطْلانِ تلكَ المعاني، إلا واحدًا (¬1)، فيغلبُ على الظَّنِّ أنه عِلَّةُ الحُكْم، وذلكَ كما يقولُ الشافعيُّ للحنفيِّ: الخُبْزُ يحرم فيه الربا، فلا يخلو إما أن يكون للكيل أو للوزنِ أو للطُّعْمِ، وباطلٌ أن يكونَ للكيلِ؛ لأنه غيرُ مَكيلٍ، وباطلٌ أن يكونَ للوزنِ؛ لأنه لو كان للوزن لما جاز إسلام الدراهمِ في الموزونات (¬2)، فعلمنا أنه للطُّعم. ¬
فإن لم تجدوا شيئاً من المعاني، فردُّوا الحادثةَ إلى أشبهِ الأَحْكامِ فيها (¬1)، وذلكَ قد يكون بالشبهِ لبعضِ الأصولِ، وقد يكونُ بوجودِ خصيصة من خصائصِ بعضِ الأصولِ كما قَدَّمْتُ، واللهُ أعلم. وبهذهِ الطرقِ استنبطَ الفقهاءُ الأحكامَ، وإنَّما اختلفوا في تعيينِ المعاني التي قاسُوا، فرحِمَهُمُ الله، ورضيَ عنهم. ¬
خاتمة المقدمة
(خاتمة المقدِّمة) ولما انتهى بنا القولُ إلى فراغِ هذه المُقَدَّمَةِ الكريمةِ التي ذكرنا فيها أصولَ الفقهِ وقواعدَه، وشرحْنا فيها صفةَ لِسانِ العرب، واتِّساعَ معانيها. من أنها تأتي بالكلامِ عامًّا تريدُ به العامَّ، وتأتي به عامًّا تريدُ به الخاصَّ، وتريدُ بالكلامِ ظاهرَه دونَ باطنِه، وتريدُ بهِ باطنَه دونَ ظاهرِه، وتريدُ بالأمرِ الوجوبَ والإلزامَ، وتريدُ به النَّدْبَ والاختيارَ، وتريدُ بهِ الإرشادَ، وغيرَ ذلكَ من صُنوفِ كلامِها. فإنَّ الله -عزَّ وجَل- أنزلَ على نبيِّه محمَدٍ - صلى الله عليه وسلم - كتابَهُ العزيزَ باللِّسانِ العربيِّ المُبين، وجعلَ إليه بيانَ جميعِ ذلك، فقالَ جلَّ جَلالهُ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، فلا نعلمُ أنَّ خِطابًا عامًّا في كتابِ الله -جَلَّ جلالهُ- يُرادُ به العُمومُ، أو يرادُ به الخُصوصُ، أو يرادُ به ظاهرُه دونَ باطنِه، أو باطنُه دونَ ظاهرِه إلَّا من بيانِه - صلى الله عليه وسلم -، وقد وصفَهُ -اللهُ جَلَّ جَلالُه- بأنه يَهْدي إلى صِراطٍ مستقيمِ، فقالَ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52 - 53]، وأوجب على الكافَّةِ من خَلْقِهِ طاعَتهُ، وجعلَ طاعتَه سبحانَه في طاعَتِه - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] فبيَّنَ عنِ اللهِ -جَلَّ
جَلالُهُ- كما ذكره، وهدى إلى صِراطٍ مستقيمٍ كما وصف. فلا تجدُ في القرآن فرضًا ولا حكمًا إلَّا وقد بينه - صلى الله عليه وسلم -، فإنْ كان نصًّا، بيَّنَهُ كما نصَّه الله تعالى له، فإن كانَ أحكمَ اللهُ فرضَهُ، وجعل إليهِ بيانَه، فقد بينه، وبيَّن صفتَه، وكيفيته، وبين لنا سننًا وآدابًا تُكَمِّلُهُ، كفرض الصلاةٍ، والزكاةِ، والحجِّ، والنكّاحِ، والعدَّةِ، والرَّضاعِ. وبَيَّنَ عنِ الله تعالى فرضهُ ونَدْبَهُ وإرشادَهُ، وبيّنَ ناسخَ الكتابِ من منسوخِه، وغير ذلك. ولما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في البيانِ عن الله، بهذا المَنْصِبِ الأعلى، ذهب أبو عبد الله الشافعيُّ -رضيَ اللهُ عنهُ- مذهبًا حسنا اخترناهُ لأنفسنا، وارتضَيناه لغيرنا، وهو أنه لا يوجد له سُنَّةٌ منسوخَةٌ بالكتِابِ العزيزِ إلا ومع الكتابِ سُنَّةٌ أخرى تبينُ أن سنَّته الأولى منسوخةٌ (¬1)؛ لما فرضَ عليه من البيانِ والاتّباع، فقال جَلَّ جلالهُ: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب: 2]، ولئلَّا تدخُلَ الشُّبْهَةُ على أحدٍ من الناسِ إذا تعارضَتْ عندهُ السنةُ والكتابُ؛ كما أمرَ اللهُ سبحانَه بَغْسل الرِّجلينِ في الوضوء، ومسحِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على الخُفَّيْنِ (¬2)، فنقولُ: لعلَّ مسحَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على الخفينِ كان قبلَ الأمرِ بَغْسلِ الرجلين، فتكونُ السُّنَّةُ (¬3) منسوخةً بالكِتاب، فأقدِّمُ المقطوعَ بهِ على المَظْنون؛ فنقولُ: لو كانتِ السُّنَّةُ في ذلك منسوخةً بالكتاب، لبيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ¬
ذلك عن الله تعالى بالقولِ كما أمَرهُ بالبيان، فلا يتخلفُ - صلى الله عليه وسلم - عنْ أمر ربه سبحانه. فإن قيل: فقد بين بالفعل، فغسلَ قدميهِ. قلت: الفعلُ لا يكون بيانًا لرفع الفِعْلِ الأولِ في مقامِ النسخِ. فإن قيلَ: فإذا كان الكتابُ العزيزُ لا يبينُه إلاّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، والسُّنَّةُ كالقرآن في اتِّساعِ المعاني المذكورةِ في اللسانِ العربيةِ، فمن يُبينُ لنا عمومها أنه على عُمومِه، أو على غير عُمومِه؟ وأن ألفاظَ السنَّةِ على ظواهرِها، أو على غيرِ ظواهرِها؟ قلنا: إمَّا أن تبُينها سنةٌ أخرى مثلُها، أو قولُ عامَّةٍ من أهلِ العلمِ، أو الراوي الذي حملَ الحديثَ سماعًا منه - صلى الله عليه وسلم -، وإلا فُتتركُ على عُمومها، ولا يعدلُ بها عن ظواهرها إلا بدليلٍ ممَّا ذكرنا، هكذا ذكر الإمام أبو عبد الله الشافعيُّ رضي الله تعالى عنه (¬1). وها أنا أبينُ -إن شاء الله تعالى- في مقاصد كتابي هذا فرائضَ القرآنِ وأحكامَهُ، وحلاَلَهُ وحرامَهُ، على مَبْلَغِ عِلْمي، ومُنْتَهى فَهْمي، وأوثرُ فيهِ الاختصارَ على التطويلِ والإكثارِ؛ لكونه عِلْمًا لا تُدْرَك غايتُه، ولا تُنال نهايتُه، وقد يُنالُ بقليل القول ما لا يُدْرَكُ بكثيرهِ. وأسألُ الله الكريمَ المَنَّانَ الهِدايَة والرِّعَايةَ والعِصْمةَ والوقايةَ، بفضلهِ ورحمتهِ، آمين. ¬
سورة البقرة
سُوْرَةُ البَقَرَةِ
من أحكام الصلاة
(من أحكام الصَّلاة) (القبلة) 1 - (¬1) قوله عزَّ وجلَّ: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]. أقول: اختلفَ أهلُ العلمِ في هذه الآيةِ اختلافًا كثيرًا، فمنهم من أَوَّلَها، ومنهم منْ خَصّصَها، ومنهم من جَعَلَها ناسِخَةً، ومنهم من جعلها منسوخةً: - فقال مالك وأصحابه: هي منسوخةً بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]. ورويَ القولُ بهذا عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما-، رواه الترمذي، وأنه كان يجوزُ للرجلِ أن يصليَ حيثُ (¬2) شاءَ (¬3). ¬
وأما المُؤَوِّلونَ،- فاختلفوا أيضًا: فقال مجاهد والحسنُ: لما نزلت: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، قالوا: أينَ ندعوهُ؟ فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (¬1) [البقرة: 115]، هكذا نقل البَغَوِيُّ (¬2). وقال بعضهم (¬3): {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} معناه: فأيَّ مكانٍ تصلون فيه، فثمَّ وجهُ الله، فقد جُعِلَتْ لكمُ الأرضُ مسجدًا. وقال بعضُ أصحابِ المعاني (¬4): هيَ مخصوصةٌ بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حين صَلَّى على النجاشِي، واستقبلَ جهتَهُ (¬5). وأما المخصصون بالمصلين، فقال ابنُ عباسٍ - رضي الله تعالى ¬
عنهما-: خرجَ نفرٌ من أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَر قَبْلَ تحويلِ القِبْلَةِ إلى الكعبةِ، فأصابَ الناسَ ضبابٌ، وحضرتِ الصلاةُ، فتحرَّوا القبلةَ وصلَّوا، فلما ذهبَ الضبابُ، استبانَ لهم أنهم لم يُصيبوا، فلما قَدِموا، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فنزلت هذه الآية (¬1). ورُوي نحوُه عن عامرِ بنِ ربيعةَ، ولكنَّه لم يقل: قَبْلَ تحويلِ الِقْبَلةِ، وذكر أن فيهم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ويُروى هذا القولُ عن النَّخَعِيِّ (¬3)، لكنْ قالَ الترمذيُّ في حديث عامرِ بنِ ربيعةَ: ليس إسنادهُ بذلك القويِّ (¬4)، لا نعرفهُ إلا من حديثِ أَشْعَثَ السَّمَّانِ، وأشعثُ بنُ سعيدٍ أبو الربيعِ يُضَعَّفُ في الحديث (¬5). وثبتَ في "صحيح مسلمٍ" عن ابنِ عمر -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-: أنها نزلتْ في المسافِرِ يُصلي التطوُّعَ حيثما توجهتْ به راحلتُه (¬6). قالَ البيهقيُّ: هذا أصحُّ ما رُويَ في نزول هذه الآية (¬7). ¬
* فعلى قولِ ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- في الآيةِ دليلٌ على أنْ المصليَ إذا صلَّى بالاجتهادِ، ثم تبينَ لهُ الخطأ، لا إعادةَ عليه. وبهذا قال جمهورُ أهلِ العلم. وقال قومٌ (¬1): عليهِ الإعادةُ قياسًا على من أخطأ في الوقت، وصلَّى قبلَهُ؛ إذْ عليهِ الإعادةُ اتِّفاقًا. وللشافعيِّ قولٌ -مع هذا- أَنَّهُ إذا تيقَّنَ الخطأَ، وتيقَّنَ الصَّوابَ، فعليه الإعادةُ (¬2). * وعلى قولِ ابنِ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- في الآيةِ دليل على جوازِ صلاةِ التطوُّعِ إلى غيرِ جِهَةِ الِقبْلَةِ للمسافِرِ، وقد ثبَتَ ذلكَ من فِعْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وأما من قالَ: إنها ناسخةٌ (¬4)، قال: هي ناسخةٌ للصَّلاةِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ؛ لأن اليهودَ أنكروا رُجوعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الكَعْبَةِ، وتركَه بيتَ المقدسِ، وقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]، ¬
فأنزلَ اللهُ تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142]، وأنزلَ (¬1): {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]. وفي هذا ضَعْفٌ؛ لأن الناسخَ للصّلاة إلى بَيْتِ المقدسِ إنما هو قولُه عزَّ وجَلَّ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، فإذا جاء بعده نصٌّ أو ظاهرٌ على وفقه، لا يكونُ ناسِخًا، وإنما يكون مبيِّنًا ومؤكِّدًا. وجملة هذه الأقاويل سبعةٌ (¬2)، وما ثبت أنه السببُ في نزولها، تعيَّن حَمْلُها عليه، ولا حاجةَ إلى التأويلِ مع وجودِه، ولا يجوزُ القول بالنَّسْخِ حينئذ مع ثبوت السببِ المخصِّصِ للآية لبعض الأحوال، والله أعلم. 2 - (2) قوله- عزَّ وجلَّ-: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ¬
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144]. أقولُ: أمرَ اللهُ -جلَّ جلالُهُ- نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -، وجميعَ المؤمنينَ بالتوجُّه إلى شطرِ المَسْجِدِ الحرامِ. * والمسجدُ الحرامُ يقعُ على البيت (¬1)، ويقعُ على مَكَّةَ. قال اللهُ سبحانَهُ وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]، وكان مَسْراهُ من بيتهِ (¬2)، كَما ورد في رواية أبي ذَرٍّ رضيَ اللهُ عنه (¬3). ويقع على جميعِ الحَرَمِ، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]. والمرادُ بالمسجدِ الحرام هنا (¬4) الكعبةُ باتِّفاقِ المسلمين؛ لِما روى ابنُ عبّاسٍ -رضي الله عنهما-: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما دخلَ البيتَ (¬5)، دعا في نواحيه كُلِّها، ولمْ يُصَلِّ فيهِ حتى خرجَ، فلما خرجَ ركعَ ركعتينِ في قبلِ الكعبةِ، ثم قال: "هذهِ القِبْلَةُ" (¬6). ¬
والشَّطْرُ يقعُ في لسانِ العرب على النِّصْفِ (¬1)، ويقعُ على الجِهَةِ، والنَّحْوِ (¬2)، قال خُفافُ بْنُ نُدْبَةَ: [البحر الوافر] أَلا مَنْ مُبْلِغٌ عَمْرًا رسولا ... وما تُغْني الرسالَةُ شَطْرَ عمرِو (¬3) وقال ساعِدَةُ بن جُؤَيَّةَ: [البحر الوافر] أقولُ لأُمِّ زِنباعٍ أقيمي ... صدورَ العِيْسِ شَطْرَ بني تميمِ (¬4) وقال لقيطٌ الإياديُّ: [البحر البسيط] وقَدْ أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمُ ... هَوْلٌ لهُ ظُلَمٌ تَغْشاكُمُ قِطَعَا (¬5) وقال قيسُ بنُ العيزارة يصفُ لقْحَتَهُ (¬6): [البحر البسيط] إنَّ النُّفوسَ بها داءٌ يُخامِرُهَا ... فَشَطْرُها بَصَرُ (¬7) العَينينِ مَحْسُورُ (¬8) ¬
قال الشافعي: يريدُ تلقاءها: بَصَرُ (¬1) العينين (¬2). وهذا المعنى هو المرادُ باتِّفاقِ المسلمين، فعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضيَ اللهُ عنه-: أنهُ قالَ: شَطْرُهُ: قِبَلُهُ (¬3). وعن ابنِ عباسِ ومجاهد: شطرُه: نَحْوُهُ (¬4). وفي حرف ابن مسعودٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: تلقاءَ المسجدِ الحرامِ (¬5). وهذا كلُّه مع غيرِه من أشعارِ العربِ وأصحابِ الأدِلَّة يبينُ أن توليةَ (¬6) شطرِ الشيءِ قصدُ عينِ الشَّيءِ، قال الشافعيُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- إذا قلت: اقصد شطر كذا، كأنك قلت: اقصدْ معروفَ قصدِ عينِ كذا (¬7). ¬
* - وقد اتفقَ المسلمون على أن الواجبَ على من كان معاينًا للكعبةِ إصابةُ عينِها. * واختلفوا فيمن كانَ غائبًا عنها. فقال قومٌ (¬1): الواجب إصابة عينها في ظَنِّ المصلي. وقال قومٌ (¬2): الواجب استقبالُ الجهةِ التي فيها المسجدُ، وجعلوا التولِّيَ المأمورَ بهِ مشترَكًا بين اليقينِ والتخمين. والقولُ الأولُ أصحُّ قَولَي الشافعيِّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-، وأنا (¬3) أختارُه؛ لظاهرِ الخِطابِ المفسّر بتفسيرِ الصَّحابَةِ -رضيَ اللهُ عنهم-، ويحملُ اللفظُ على حقيقتهِ وسلامَتهِ من الاشتراكِ والحذفِ والإضْمار، وعدمُهما خيرٌ منهما (¬4)، ولقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَمَرْتُكُمْ بأَمْرٍ فَأْتوا منُه ما اسْتَطَعْتُم" (¬5)، وإصابةُ عيِنها في ظَنِّ المُصَلّي داخلٌ في الاستطاعَةِ منْ غيرِ مشقةٍ ولا حَرَج. وما روي عنهُ - صلى الله عليه وسلم -: "البَيْتُ قِبْلَةٌ لأهْلِ المَسْجِدِ، والمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لأَهْلِ الحَرَمِ، ¬
والحَرَمُ قبلةٌ لأَهْلِ الأَرْضِ" (¬1)، فَضعيفٌ لا يُحْتَجُّ به. * فإن قلتُمْ: فَبَيِّنْ لنا صفةَ الاستقبالِ للمسجدِ الحرام، فإنّ المصلِّيَ لا يخلو إمّا: أن يستقبلَ بجميعِ بدنِهِ جميع (¬2) ساحَةَ البيتِ التي هي قِبَلَ وَجْهِهِ. أو يستقبلَ بجميعِ بدنهِ بَعْضَ ساحةِ البيتِ، كما إذا صَلَّى داخلَ البيتِ. أو يستقبلَ ببعضِ بدنِه جميعَ ساحةِ البيتِ التي تُحاذيه. قلنا: أما الصورةُ الأولى، فمتفَقٌ عليها؛ لوقوعِ اسمِ الاستقبالِ على مُسَمَّى البيتِ. وأما الصورةُ الثانيةُ، فمختلَفٌ فيها بينَ أهلِ العلمِ: فمنهم مَنْ منعَ الصَّلاةَ داخلَ البيتِ (¬3)، واستقبالَ بعضِ ساحتِه؛ لظهورِ الأمرِ باستقبالِ جميعِه، واحتجَّ بحديثِ ابنِ عباسٍ - رضي اللهُ تعالى عنهما- قال: لما دخلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - البيتَ، دعا في نواحيهِ كُلِّها، ولم يُصَلِّ حتى خرجَ، فلما خرجَ ركعَ ركعتين قِبَلَ الكعبةِ، قال: "هذهِ القِبْلَةُ" (¬4). ومنهم من جَوَّزَ الصلاةَ مُطْلَقًا (¬5)، واحتجَّ بحديثِ ابنِ عمرَ -رضيَ اللهُ ¬
عنهما-: أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دخَلَ الكعبةَ، فأقبلَ والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ خرجَ، قالَ: فسألتُ بِلالًا، قلتُ: أصلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الكعبةِ؟ قالَ: نعم، رَكْعتينِ بين الساريتينِ اللتينِ على يساركَ إذا دخلْتَ، ثم خرجَ فصلَّى في وجهِ الكعبةِ ركعتينِ (¬1). وحملَ هؤلاءِ الاستقبالَ على غيرِ الأَظْهَرِ منَ المعنيين (¬2)؛ لبيانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقدَّموه على حديثِ ابنِ عباس؛ لكونه مُثْبِتًا، والمُثْبِتُ أولى من النَّافي. ومنهم منْ فَرَّقَ، فجوَّزَ النفلَ، ومنعَ الفَرْضَ (¬3)، فحملَ حديثَ ابنِ عَبّاسٍ على الفرضِ، وحديثَ ابنِ عُمَرَ على النَّفْل. وفي هذا المذهبِ ضَعْفٌ؛ فإنَّ الصلاةَ التي رواها ابنُ عَبّاسٍ نَفْلٌ أيضًا. وهو وإنْ (¬4) كانَ الجمعُ بينهما يمكنُ بهذهِ الطريقِ؛ فإنه إذا جازَ النفلُ ¬
خارجَ (¬1) البيتِ (¬2)، جاز الفرض أيضًا بالإجماع، وأما داخل البيت، فلم يصلِّ فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلا النَّفْلَ. لكنْ يُضَعِّفُه (¬3) شهادةُ الأصولِ بالتسويةِ بينَ الفرضِ والنَّفْلِ في جميعِ الشرائِطِ والأَحْكام؛ من الطهارةِ والسِّتارةِ والاستقبالِ، وإيجابِ الفرضِ من القراءةِ والركوعِ والسجودِ، إلا ما أخرجَهُ الشارعُ - صلى الله عليه وسلم - المشقة، كتركِ الاستقبالِ في حالةِ السفرِ خاصَّةً، وتركِ القيامِ في صلاتها. والذي أراه أنهُ لا تعارُضَ؛ لاحتمالِ كونِ ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - في وقتينِ (¬4)، وإن ثبتَ أنَّ مَحَلَّ الروايتينِ في وقتٍ واحدٍ، فليس في حديثِ ابنِ عباس أكثرُ من نفي الصلاة في البيتِ، ونفيُ الصلاةِ لا يمنعُ جوازَها. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هذه القبلة" بيان للقبلةِ لجملتها، لا لصفةِ استقبالِها. وأما الصورةُ الثالثةُ، فهي فرع للصورةِ الثانية، فمن منعَ الصلاةَ داخلَ البيت، منعَ هذه الصورة، ومن أجازَ تلكَ، أجازَ هذه. وربَّما خالفَ بعضُهم في جوازِ هذهِ الصورةِ مع إجازتِه لتلكَ (¬5). إذا تمَّ هذا، فقد فرضَ اللهُ سبحانَه على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - وعلى أُمَّتِه التوجُّهَ إلى ¬
البيت حيثما كانوا، فَرْضًا عامًّا مؤكَّدًا، وكَرَّرَهُ مِرارًا، وذلك تعظيمٌ لشأنِه، وتأكيدٌ لنسخ القبلةِ التي كانوا عليها؛ إكرامًا له - صلى الله عليه وسلم - حينَ رأى تقلُّبَ وجههِ في السّماءِ، وحكمةٌ منه جَلَّ جلالهُ، لا معقِّبَ لحُكْمِهِ. * وفي هذا التعميمِ والتأكيدِ دليل على أن المصليَ لا بُدَّ أن يستقبلَ المسجدَ الحرام على أيِّ حالٍ كانَ منْ خوفٍ أو سَفَرٍ أو مَرضٍ. وقد أجمعَ على هذا المسلمون، إلا في حالين: - صلاةِ شدةِ الخوفِ، وسيأتي بيانُها -إنْ شاءَ الله تعالى- عندَ قولهِ تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]. - وصلاةِ النافلةِ في السفر؛ لقولِ ابنِ عمرَ -رضيَ اللهُ عنه-: كانَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يصلِّي، وهو مقبل من مَكَّةَ إلى المدينةِ على راحلتهِ (¬1). وعلى هذا أجمعَ أهلُ العلمِ، لكنهمُ اختلفوا في تقييدِ حديثِ ابنِ عمرَ رضيَ اللهُ تَعالى عنهما: فذهبَ مالكٌ إلى العَمَلِ بإطلاقه (¬2). وذهب الشافعيُّ (¬3)، وأحمدُ (¬4)، وأبو ثورٍ إلى تقييدِه بما رواهُ أنسُ بنُ ¬
مالك -رضيَ الله تَعالى عنهُ- قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كانَ في سَفَرٍ، فأراد أن يصلِّيَ على راحلتِه، استقبلَ القِبْلَةَ، وكَبَّرَ، ثمَّ صلَّى حيث تَوَجَّهَتْ به (¬1). * واختلفَ أهلُ العلمِ في القبلةِ التي كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصلي إليها، وهي بيتُ المَقْدِسِ، هل كانَ تَوَجُّهُهُ إليها بقرآنٍ؟ أو بغيرِ قرآن؟ وبعضُ المصنفين يقولُ: بوحيٍ من الله، أو باجتهادٍ منه؟ فقال قوم (¬2): كان ذلكَ بقرآنٍ، ولهم من الأدلَّةِ قولُ الله عَزَّ وجَلَّ: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] قيل: نزلت لما هاجر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وقال: "لا ندري أينَ نتوجَّهُ"، فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (¬3) [البقرة: 115]. قال عطاءٌ عن ابن عباس -رضيَ اللهُ عنهما- قال: أولُ ما نُسِخَ منَ القُرآنِ فيما ذكروا- واللهُ أعلمُ- شأنُ القِبْلَةِ، قالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ¬
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (¬1) [البقرة: 115]، استقبلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فصلى نحوَ بيت المَقْدِسِ (¬2)، وتركَ البيتَ العتيقَ، فقال: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] يعنون (¬3): بيتَ المَقْدِسِ، فنسخَها، وصرفَهُ إلى البيتِ العتيق، فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬4) [البقرة: 150]. ولهمْ (¬5): قولُه تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وكان ذلك قِبلةَ الأنبياءِ- صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم-. ولهم: (¬6) قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]. وقالَ قومٌ (¬7): صَلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدسِ؛ ليتأَلَّفَ بذلك اليهودَ، ¬
وذلك أنهُ (¬1) هاجرَ إلى المدينةِ، فكانَ أَكْثَرُ أهلِها ومَنْ حَوْلَها اليهودَ، فَطَعنوا في ذلكَ، وتكلموا فيه بما يَشُقُّ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهِ، فأمرهُ اللهُ تَعالى بالصلاةِ نحوَ الكَعْبَةِ (¬2). والحَق -إن شاءَ الله تعالى- أن استقبالَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بيتَ المقدسِ ليسَ باجتهادٍ منهُ، بلْ بوحي من اللهِ سُبْحانه، ولو قلنا بالمذهبِ الصَّحيحِ أَنَّهُ يجوزُ لهُ الاجتهادُ؛ لقولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144]، فلو كان توجُّهُهُ إليها باجتهادِه، لتحوَّلَ عنها باجتهاده، كما استقبلَ باجتهِاده (¬3)، فلمّا سألَ ربَّهُ التحويلَ إلى قبلةِ أبيهِ إبراهيمَ -عليهِ الصلاةُ والسلامُ- وانتظر إذْنَ ربِّهِ سبحانَه، علمْنا أنه لم يتوجَّهْ إلى بيتِ المقدسِ إلَّا بأمرِ اللهِ سبحانَهُ. وأما كونُ ذلكَ الأمرِ قرآنًا، فليسَ عليه دليلٌ. أما قولهُ تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، فإنها نزلتْ في قومٍ مخصوصين كما سبقَ بيانُه (¬4). وأما قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فالظاهر أن المراد به التوحيد والإيمان. وأما قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143]، فليس ¬
فيهِ دَلالةٌ على أنه سبحانه حمله عليها (¬1) بقرآنٍ، بل الظَّنُّ أنه (¬2) بوحيٍ من اللهِ سبحانَهُ، فإنه إذا أوحى إليه بها، فقد جعله عليها. وهذا الجواب أحسنُ من جوابِ من أجابَ: بأنَّ (كان) زائدة، وجعلَ القبلةَ هي الكعبةَ، والتقديرُ عنده: وما جعلنا القبلةَ التي أنتَ عليها (¬3)، فاحتاجَ إلى القولِ بالمجاز، وتقديرِ الزيادة، ومخالفةِ الظاهرِ، وغيرُه خيرٌ منه. وعلى هذا يكون هذا من نسخ السنّةِ بالقرآن (¬4)، قالَ أهلُ العلمِ بالقرآن: وهذا أولُ ناسخٍ ومنسوخٍ بعدَ نسخِ الصلاةِ (¬5). ¬
من أحكام الحج
(من أحكام الحج) 3 - (3) قوله عَزَّ وجلَّ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]. * اختلفَ أهلُ العلم في السَّعْيِ بينَ الصَّفا والمَرْوَةِ. - فقالَ قومٌ: هو تطوُّعٌ وليس بواجبٍ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ وابنِ الزبيرِ وأنسِ بنِ مالك ومجاهدٍ وابنِ سيرينَ، وإليه ذهبَ سفيانُ الثوريُّ (¬1)، وأخذوا بظاهر الآية، وبقراءة ابن مسعود: (فلا جُناحَ عليه ألاَّ يَطَوَّفَ بهما) (¬2). - وقالَ أبو حنيفةَ: هو واجبٌ، وليس برُكْنٍ، فأوجبَ في تركِهِ الدَّمَ. وهو روايةٌ عن مالِكٍ (¬3). ¬
- وذهب ابنُ عمر وجابرٌ وعائشةُ إلى وجوبه (¬1)، وبه قالَ الحسنُ ومالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ (¬2)، وبه أقول. والدليل له ما روته بنتُ أبي تَجْراةَ إحدى نساءِ بني عبدِ الدارِ، قالت: دخلتُ مع نسوةٍ من قريشٍ دارَ أبي حسينٍ ننظرُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسعى بينَ الصفا والمروةِ، فرأيتُه (¬3) يَسْعى، وإن مِئْزَرهُ ليدورُ من شدةِ السَّعْي، حتى إِني لأقولُ: إني لأَرَى رُكْبتيهِ، وسمعتُه يقولُ: "اسْعَوا، فإنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ" (¬4). والدليل -أيضًا- ما ثبت في "الصحيح" (¬5): أنَّ عروةَ بنَ الزُّبير (¬6) قال لعائشةَ- رضي اللهُ عنها: أرأيتِ قولَ اللهِ تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] فما أرى على أحد بأسًا ألاَّ يطَّوفَ بهما، قالتْ: إنما نزلَتْ هذه في ¬
الأنصارِ، كانوا يُهِلُّونَ لِمَناةَ، وكانَتْ مَناةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ، وكانوا يتحرَّجون بأن يطوفوا بينَ الصفا والمروةِ، فلما جاءَ الإسلامُ، سألوا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأنزل اللهُ -عز وجل-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (¬1) [البقرة: 158]. ولأنَّ الأصلَ في أفعالِه - صلى الله عليه وسلم - في هذه العبادة الوجوبُ، إلا ما أخرجَهُ الدليلُ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خُذُوا عَنِّي مَناسِكَكُمْ" (¬2). وأما قِراءة ابنِ مسعودٍ، فيُجاب عنها: بأنها قراءة شاذة مخالفة للمُصحفِ، ولا يقومُ بمثلها حُجَّةٌ (¬3)، وسيأتي الكلام على مثلهِا في "سورةِ النِّساءِ" إن شاءَ اللهُ تعالى. ويجاب أيضًا بأن (لا) زائدة كما (¬4) في قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، وكقول أبي النجم: [من بحر الرجز] وما ألوم البيضَ ألاَّ تَسْخَرا (¬5) ¬
وكقول الآخر: [البحر الطويل] وتَلْحينَنِي (¬1) في اللهو ألاّ أحِبَّهُ ... وللهوِ دَاعٍ دَائِب غيرُ غَافِلِ وأما ظاهر الآية، فقد أجابت عنهُ عائشةُ -رضيَ اللهُ عنها- عروةَ حينَ سألها، لما علم أن رفعَ الجُناح مستعمَلٌ في رَفْع الحَرَجِ، فلا يكونُ الرفعُ سببًا للوجوبِ، وإنما يومئ إلى عَدَمِ الوُجوبِ، فقالتْ -رضيَ الله تعالى عنها-: لو كان كما تقولُ، كانَتْ فلا جُناحَ عليهِ ألاَّ يَطَّوَّفَ بهما، ثم بَيَّنَتْ لهُ وجهَ العُدول من (¬2) الظاهر، وأنه هو القصدُ إلى إباحة هذا الطوافِ لمنْ كانَ يتحرَّجُ منه في الجاهليةِ (¬3). * واتفقَ العلماءُ على أن البدايةَ (¬4) بالصَّفا واجبةٌ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نبدأُ بما بدأ اللهُ بهِ" (¬5)، إلا ما يروى عن عطاءٍ أنه إذا بدأ بالمَرْوَةِ جاهلًا أَجْزَأهُ ذلك، واعتدّ بذلك الشوطِ (¬6). ¬
* وفي الآية دلالةٌ ظاهرةٌ على أن السعيَ لا يفعلُه إلَّا من حَجَّ البيتَ أو اعتمرَ، وأنه لا يفعله الرجلُ ابتداءً، وعلى هذا اتفق العلماء. واتفقوا أيضًا على أنه لا يفعله الحاجُّ والمعتمرُ إلا بعدَ أن يفعلَ الطوافَ (¬1). ¬
من أحكام الأطعمة
(من أحكام الأطعمة) 4 - (4) قوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]. * أقولُ: ذكَر اللهُ -جَلَّ جلاله- في هذه الآية (¬1) أعيانًا من المُحَرَّمات، وخاطب العربَ بتحريمِها على ما يتعارفونَ من عادتِهم في استعمالِ هذهِ الأعيانِ، وسيأتي تفصيلُهُ وبيانُه في "سورةِ النَّحْل" -إن شاء الله تعالى- وخُصّ لحمُ الخِنزير بالذِّكْرِ، وإنْ كانَ شحمُه وعظمُه وشعرُه محرمًا كلحمِه؛ لأنه المقصودُ منه غالبًا (¬2). * وأطلقَ اللهُ تحريمَ الدَّمِ هنا، وقيَّدَهُ في "سورةِ الأنعامِ". فقال: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]. - فمنهم من خَصَّصَ هذا العُمومَ بمفهومِ التقييد (¬3). ¬
- ومنهم من أبقاهُ على إطلاقه وعمومه، ورأى أن مفهوم الخطاب لا يقاوِمُ العمومَ (1)، وسيأتي الكلامُ على هذا في "سورة المائدة" إن شاء الله تعالى. * ثم بينَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن اللهَ لم يُرِدْ جميعَ الميتةِ، فقال: "أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتانِ ودَمانِ، المَيْتَتانِ: الحوتُ والجَرادُ، والدَّمانِ: الكَبِدُ والطِّحالُ" (¬2) وقال -وقد سُئلَ عن ماءِ البحرِ فقال-: "هو الطهورُ ماؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ" (¬3). وإلى التخصيصِ ذهبَ عامةُ أهلِ العلمِ، وإن (¬4) اختلفوا في تفصيله: وذهبَ أبو حنيفةَ إلى تحريم الميتةِ مطلقًا (¬5)، عملًا بالقياس المقصود ¬
بالعموم، واستثنى ما لا نفس له سائلةً (¬1)، وسيأتي الكلام على هذا في "سورة المائدة" إن شاءَ اللهُ تعالى. * وبَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن غيرَ هذه المحرمات في معناها، فبينها عن اللهِ -سبحانه-، كما أمره الله تعالى، فحرَّمَ الحُمُرَ الأهليَّةَ، وكلَّ ذي نابٍ من السِّباعِ، وكلَّ ذي مِخْلَبٍ من الطَّيْر (¬2). فإن (¬3) قال القائل: فقد نصَّ اللهُ -سبحانه- على تحريم هذه الأعيان بلفظ يوجبُ الحَصْرَ هنا، وذكرها في "سورة الأنعام" بلفظٍ أوضحَ من هذا الحَصْرِ والتنصيص، وهو النفي بـ (لا)، والإثبات بـ (إِلا) (¬4)، والمذهبُ الصحيحُ عند محقًّقي الأصوليين أنُه لا يجوزُ نسخُ الكتابِ بالسّنَّةِ. قلنا: - ذهبَ قومٌ من أهلِ العلم إلى التعارضِ بينَ الآيةِ والآثارِ الواردَةِ، ثم اختلف هؤلاء، فمنهم من نسخ الآية بها (¬5)، ومنهم مَنْ أحكَمَها وعَمِلَ ¬
بخصوصِها (¬1)، وسيأتي الكلام معهم في "سورة الأنعام" إن شاء الله تعالى. وذهبَ قومٌ إلى الجمعِ بين الآية والآثار (¬2). فإن قيلَ: فما وجهُ الجَمْعِ؟ قلنا: له وجوهٌ: أحدها: قال الشافعيُّ -رحمه اللهُ تعالى- وأهلُ التفسيرِ، أو مَنْ سمعتُ منهم يقول في قول الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] يعني: مما كنتم تأكلون؛ فإن العرب قد كانت تحرم أشياءَ على أنها من الخبائِثِ، وتُحِلُّ أشياءَ على أنها من الطيباتِ عندهم (¬3)، إلا ما استثني، وحُرِّمتْ عليهمُ الخبائثُ عندهم. قال اللهُ -عزَّ وجلَّ-: {وَيُحِلُّ لَهُمُ ¬
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬1) [الأعراف: 157]. ثانيها: يجوز لقائل أن يقولَ: إن الله -سبحانه- لم يُرِدِ الحصرَ في كتابه العزيز، وإنما قصدَ التعظيمَ والتفخيمَ لتحريمِ هذه الأعيانِ، والمبالغة في الزَّجْرِ عنها، وهذا معروف في لسان العرب؛ كما نقول: إن الجواد حاتمٌ، ولا سيف إلا ذو الفقار، وأنتَ لا تريدُ نفيَ ذلك عن غيرهما، وإنما تريد تفخيمَ أمرِهما، وتعظيمَ شأنهما. ثالثها: أن يُقالَ: إنما قصدَ اللهُ -سبحانه- الردَّ على المشركين، وذلك أنهم كانوا يحللون هذه الأشياء، ويحرمون غيرها؛ مثل البَحيرةِ (¬2) والسائبةِ (¬3) وغيرِهما، فرد عليهم فقالَ: قُلْ يا محمد (¬4): لا أجدُ فيما أُوحيَ إلىَّ مُحَرَّمًا إلَّا كذا أو كذا (¬5)، فلا حرامَ فيما أوحي إليَّ إلا ¬
ما حَلَّلْتموهُ، ولا حلالَ إلا ما حَرَّمْتُموه (¬1). وهذا أرجحُ المعاني وأقربُها. ويدلُّ عليهِ أنَّ الله -جلَّ جلالُه- ذكرَ هذهِ الأعيانَ المذكورةَ في مواضِعَ أُخَرَ من كتابه بِمِثْل ما ذكره هنا، فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115]. ثم قال عقبه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116]، الآية. ويدلُّ عليه -أيضًا- أن الآيةَ من "سورةِ الأنعام"، وهي مكيةٌ نزلت قبل تشريع الأحكام (¬2). فإن قلتَ: قد عرفتُ وجهَ الجمع، فهل تجدُ دليلًا في الكتابِ على ما ادَّعَيتَ من عدمِ الحصرِ؟ قلتُ: نعم، ذكر الله -تعالى- هذهِ الأعيانَ في "سورةِ المائدةِ"، وزاد عليها: المنخنقةَ، والموقوذةَ (¬3)، والمتردِّيَةَ، والنطيحةَ، وما أكلَ السَّبُعُ (¬4)، فلو كانتْ آيةُ البقرةِ للحصرِ، لعارضَتها هذه، ووجبَ نسخُ ¬
إحداهُما بالأخرى، ولا قائلَ بذلكَ من أهلِ العلمِ بالقرآنِ. فإن قال: هذهِ الأعيانُ المذكورةُ في سورةِ المائدةِ هي أفراد المَيْتَةِ، فذكر اللهُ -سبحانه- المَيْتَةَ في إحدى المواضِع مُجْمَلَةً، وفي الأخرى مفصلةً، بدليل أن إنهارَ الدمِ علَّةٌ للتحليل، توجدُ بوجوده، وتعدم بعدمه، وخصت هذه الأعيان بالذكر دفعًا لتوهم متوهِّمٍ أنَّ علَّةَ تحريمِ لحمِ الميتةِ فسادُ لحمها وتغيُّرهُ عندَ الموت، وهذه (¬1) لا تغيُّرَ في لحمِها ولا فساد، والذي أَكَلَهُ السَّبُعُ هُريقَ دمُهُ بالسِّنِّ، وما ذُكِّيَ بالسِّنِّ، فقد ألحقه الشارعُ بالميتةِ في التحريم (¬2). قلتُ: قد حَرَّم اللهُ -سبحانه- الخَمْرَ بعد أن كانَ حلالًا عندَ نُزولِ قولِه تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145]، وقد اتفق أهلُ العلم بالقرآن والنظر والاستدلال على (¬3) أنه لا تَعارُضَ بين هاتين الآيتينِ، وإذا جاز أن يضاف إليها تحريمُ عينٍ غيرِها، ثبتَ أنها ليستْ للحصر والتعيين، وعلمنا أن الله -سبحانَه- ذكر المُحَرَّماتِ بعضَها في كتابهِ نَصًّا، ووَكَلَ بيانَ بعضِها إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فمن قَبِلَ عنه - صلى الله عليه وسلم -، فعنِ الله قَبِلَ؛ لِما فرضَ اللهُ تعالى من طاعته، وقَبولِ ما جاء به - صلى الله عليه وسلم -، وسيأتي الكلام في "سورة المائدة" على ما أهِلَّ به لغيرِ اللهِ إن شاءَ الله تعالى. * قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}. أي: غير خارج على السلطان، ولا عادٍ، أي: مُتَعَدٍّ عاصٍ بسفره؛ بأن يخرج لقطع الطريقِ، أو لفسادٍ في الأرض. ¬
وقيل: فيه تأويلاتٌ أُخَرُ (¬1)، وكلُّها راجعةٌ إلى مَعْنًى واحدٍ، وهو مَعْنى قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة: 3]. * وقد أجمعت الأمةُ على جوازِ أكل المَيْتَةِ للمضطرِّ، وربما اختلفوا في وجوبِ أَكْلِها، والأصَحُّ عندَ الشافعيَّة الوجوبُ؛ لما فيه من حفظِ النفسِ (¬2) المَعْصومة عن الهلاكِ والتلفِ (¬3). * وفي الآية دليلٌ على أن العاصيَ بسفرِهِ لا يَتَرَخَّصُ بأكل الميتة، وبه قال مالك والشافعي (¬4). وقالَ أبو حنيفةَ: لهُ أَنْ يأكلَ، وهو المشهورُ والصحيح عند المالكية (¬5). ¬
وربَّما استدلُوا بقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. فإن إتلافَهُ لنفسه أعظمُ عصيانًا من ارتكابِ أكل الميتة (¬1)، ولا حجّة لهم؛ فإنهُ مكلَّفٌ باجتناب ما نهى الله -سبحانه-، ويُمْكِنهُ حفظ نَفْسِه بأنْ يتوبَ ويأكلَ، وإذا لم يتبْ، فلا يمتنع أن يكونَ مكلفًا بالأمرينِ جميعًا. وغير {غَيْرِ} تحتمل (¬2) أن يكون معناها الاستثناء، فتكونُ دلالتُها نصًّا، ويحتمل أن يكونَ معناها الحالَ والصفةَ، فتكون دلالتها ظاهرة بطريق المعهود (¬3). وإذا تمَّ هذا، فجائر أن يقاسَ عليهِ جميعُ رُخَصِ السفرِ وفاقًا وخلافًا؛ لوجود المَعْنى. * واختلف العلماء في مقدارِ ما يَحِلُّ للمضطرِّ أَكلْهُ من الميتةِ. - فقالَ بعضُهم: مقدار ما يسدُّ رَمَقَهُ، وبهِ قالَ أبو حنيفةَ والشافعيُّ في أحدِ قوليه (¬4). - وقال بعضهم: مقدار الشِّبَع، وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ في القول الآخر (¬5). ¬
والأول أقرب إلى المعنى؛ لأنَّ الله -سبحانه- عَلَّقَهُ على الضَّرورةِ، ومتى زالت الضرورةُ زالتِ الإباحة، فهو (¬1) كتعليقِ المَعْلولِ بعلَّتِهِ. وحينئذٍ فالخلافُ آيِلٌ إلى أن الميتة هل تصيرُ في حال الضرورةِ مباحةً، ويرتفعُ التحريمُ حتى يحلَّ الشبعُ (¬2)، أو أنها مُحَرَّمَةٌ والتحريمُ باقٍ، وإنما المرتفعُ الإثمُ، فلا يحلُّ الشبع؟ وإلى هذا يرشدُ قوله تعالى: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}. * واختلفوا -أيضًا- هل يقاسُ على ضرورة التغذِّي ضرورةُ التداوي؟ - فمنهم من جَوَّزَهُ؛ للقياسِ (¬3)، ولأن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أباح لعبدِ الرحمنِ بن عَوْفٍ لُبْسَ الحرير للحكَّة (¬4). - ومنهم من منعه (¬5)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللهَ لم يَجْعَلْ شِفاءَ أُمَّتي فيما حرّمَ عليها" (¬6). ¬
من أحكام القصاص
(من أحكام القصاص) 6 - (6) قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178]. أقولُ: أنزل الله -سبحانَه- في القصاص آيتينِ: هذهِ الآيةَ، وآيةَ المائدةِ (¬1)، وإحداهما أخصُّ من الأخرى، وقد اختلفَ أهلُ العلمِ في العمل بهما. فالشافعيُّ ومالكٌ وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ والحسنُ وعطاءٌ وعكرمةُ والليثُ بنُ سعدٍ وأبو ثَوْرٍ عملوا بخصوصِ آيةِ البقرةِ، فَخَصُّوا بمفهومِها عُمومَ آيةِ المائدةِ، فلم يقتُلوا الحرَّ بالعبدِ، واستدلوا بما يأتي ذكرهُ إن شاء الله تعالى. ¬
وعَمِلَ بآيةِ المائدةِ سعيدُ بنُ المسيِّبِ والشعبيُّ والنَّخَعِيُّ وقَتادةُ والثَّوْريُّ وأبو حنيفةَ وأصحابُه، فأوجبوا قتلَ الحُرِّ بالعبدِ (¬1)، واستدلوا أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمونَ تَتكافَأُ دِماؤُهُمْ" (¬2). وقد اختلفوا في هذه الآية: هل هي محكمةٌ أو منسوخةٌ أو مَخْصوصة ببعض الأحوالِ، على خمسةِ أقوالٍ: الأول: قالهُ الشعبيُّ والكلبيُّ وقَتادةُ، فقالوا (¬3): أنزلتْ في قومٍ تقاتلوا، فَقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ، وذلك قبيل الإسلام (¬4). وقال مقاتلُ بن حيان: كان بين قريظة والنضير. وقال سعيدُ بن جُبير: كان بينَ الأوسِ والخزرج، وكانت إحدى الطائفتين أعزَّ من الأخرى، فقالتِ العزيزة: لا نقتلُ بالعبدِ مِنَّا إلا الحُرَّ ¬
منكم، ولا بالأنثى منّا إلا الذَّكَرَ منكم، فنزلتْ هذه الآيةُ، فهي محكمةٌ لمن أراد أن يفعل مثلهم (¬1). والثاني: قالهُ السُّدِّيُّ، قال: هي مخصوصةٌ في فرقتينِ تَقاتَلتَا على (¬2) عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقعَ بينهما قتلى، وأمر (¬3) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُفادى (¬4) بينهم دياتُ النِّساءِ بدِياتِ النِّساء، ودياتُ الرجالِ بدياتِ الرجالِ، فهي في شيءٍ بعيِنهِ (¬5). الثالث: قاله الحسنُ البَصْرِيُّ، قال: نزلت في نَسْخِ التراجُعِ الذي كانوا يفعلونه، وذلك أنهم كان يَحْكُمون فيما بينهم أنَّ الرجلَ إذا قتلَ امرأةً، كان أولياءُ المرأة بالخِيار، إن شاؤوا قتلوا الرجلَ، وأَدَّوا نصفَ الدِّيةِ، وإن شاؤوا أخذوا نصفَ ديةِ رجلٍ. وإذا قتلت المرأةُ رجلًا، كان أولياءُ الرجل مخيَّرين، إن شاؤوا قتلوا المرأة، وأخذوا نصفَ دية رجلٍ، وإن شاؤوا أخذوا الدية الكاملة، ولم تقتل المرأة، فنُسخ ذلك من فعلهم. وقد روي هذا القولُ عن عليٍّ -رضي الله تعالى عنه (¬6). ¬
الرابع: ورُويَ (¬1) عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أن آية البقرة منسوخة بآية المائدة (¬2)، فيجب قتلُ الرجلِ بالمرأةِ، والمرأةِ بالرجل، والحرِّ بالعبدِ، والعبدِ بالحرِّ (¬3). وفي هذا نظر؛ فإنه لا شَكَّ في أن نطق الآية غير منسوخ، وإنما الذي ادُّعي نسخه هو المفهومُ (¬4)، وفي نسخ المفهومِ خلافٌ بينَ أهلِ العلم بالنظر. فإذا قلنا: يصح، استقامَ القولُ بنسخه إذا قلنا: إن المفهومَ لا يَخُصُّ العُمومَ. والصحيحُ عندَ أهلِ العلم بالنظر والاستدلال أنَّهُ يخص العموم -أيضًا-. ثم اعترضَ على هذا القولِ بعضُ العلماء، وقال: هذا لا يجوز عند جماعة من العلماء؛ لأن ما فرض الله -تعالى- لنا لا ينسخُه ما حكى الله تعالى لنا من شريعةِ غيرنا، واللهُ -سبحانه- أخبرَنا بما في سورةِ المائدةِ، أنها شرعةٌ لغيرِنا، ولم يفرضْها علينا (¬5). وهذا الاعتراضُ غير مستقيمٍ؛ لأن الله تعالى قدْ بيَّنَ أَنَّ ذلك شُرِعُ لنا ¬
-أيضًا- بطريق الإشارةِ، فقالَ في آخرِ الآية: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] يعني: القصاصَ، وشريعةُ بني إسرائيل لا تصدُّقَ فيها بالدم، ولا عفوَ، بل القصاصُ عليهم متحتِّمٌ (¬1)، ثبت ذلكَ في "الصحيحِ" عن ابنِ عباس -رضي اللهُ تعَالى عنهما- في تفسيرِ قوله تعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (¬2) [البقرة: 178]، وعلى الجملةِ، فبعيدٌ أن يصحَّ القولُ بالنسخِ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. الخامس: قالهُ أبو عُبَيْدٍ، قال: آية المائدة مُفَسِّرة لآية البقرة؛ لأن أَنْفُسَ الأحرار متساويةٌ فيما بينهم، يُقْتَلُ الحُرُّ بالحُرِّ والأنثى بالأنثى بآيةِ البقرةِ وآيةِ المائدةِ، ويقتلُ الرجلُ بالمرأةِ والمرأةُ بالرَّجلِ بآيةِ (¬3) المائدة (¬4). وفي هذا نَقْضٌ -أيضًا-؛ فإنَّ قتل المرأة بالرجل ثابتٌ بآية البقرة -أيضًا- بطريق الفحوى (¬5). وهذا القولُ لا يستقيم، إلَّا عندَ مَنْ لا يرى مفهومَ الخطابِ حُجَّةً، وأما من يراهُ حُجَّةً كالشافعيِّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- فإنه يجعلُ آية البقرة مفسِّرةً ومبيِّنةً لآيةِ المائدة؛ لعموم آية المائدة، وخصوصِ آية البقرة، ثم يخص آيةَ البقرةِ ويُبَيِّنُها بالسنَّةِ. ¬
* فإن قال قائل (¬1): فبيِّنْ لنا كيفَ نجمعُ بين هاتين الآيتين؟ وكيف نَجعلُ آيةَ البقرةِ مبيَّنَةً لآيةِ المائدة بهذه الصيغة العزيزة؟ قلت: قال اللهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، فكتب الله تعالى القِصاصَ على المؤمنينَ في القتلى، ثم بيَّنَ ذلك القصاصَ والمساواةَ، فقال: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178]، فدلَّ الخِطاب بفحواه على أن العبدَ يُقْتَلُ بالحرِّ، و (¬2) أن الأنثى تُقتلُ بالذَّكَرِ؛ لأنه إذا قُتل الحرُّ بالحُرِّ، فأولى أن يقتل به العبدُ، وإذا قُتِلتِ الأنثى بالأنثى، فأولى أن تُقْتَل بالذَّكَرِ، و (¬3) لكن تخصيص هذه الأفرادَ الثلاثةَ، وهي الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، يدلُّ بطريقِ المَفْهوم على أنَّ الحُرِّ لا يُقتلُ بالعبد، و (¬4) أن الذَّكَرَ لا يُقتل بالأنثى، ولكنَّ عمومَ آيَة المائدةِ تقتضي أن يقتلا بهما، فهل نَقْضي بالمَفْهومِ على العمومِ؟ أو نقضي بالعمومِ ويُتْرَكَ المفهومُ؟ هذا محلُّ نظرِ المجتهدِ، فحينئذ يَفْزَع المجتهدُ إلى دلائلِ السنَّةِ والقياسِ والأصولِ والتَّرْجيحاتِ عند التعارض. فنقول: أما الحرُّ فلا يُقتلُ بالعبد؛ لما رَوَى عمرُو بنُ شعيبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّهِ: أن أبَا بَكْرٍ وعُمَرَ -رضي الله تعالى عنهما- كانا لا يقتلان الحرَّ بقتل العبد (¬5)، ¬
ولما رُوِيَ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنه-: أنه قال: من السُّنَّةِ ألاَّ يُقْتَلَ حُرٌّ بعبدٍ (¬1). وإلى هذا ذهبَ عَطاءٌ والحسنُ والزُّهْريُّ وعمرُ بنُ عبدِ العزيز، وبهِ قالَ الشافعيُّ وجمهورُ أهلِ العلم رضي الله تعالى عنهم (¬2). وذهب أبو حَنيفةَ والثَّوْرِيُّ وابنُ أبي لَيْلَى وداودُ وسعيدُ بنُ المُسَيِّبِ وإبراهيمُ النَّخَعِيُّ إلى أنَّ الحرَّ يقتل به، وروي -أيضاً- عن عليٍّ وابنِ مسعودٍ -رضي الله عنهم - (¬3)، حتى ذهبَ قومٌ إلى أن الحرَّ يُقتلُ بعبدِه (¬4). ولهم (¬5) من الدليلِ عمومُ آيةِ المائدة. وما خرَّجه أبو داودَ عن الحَسَنِ، عن سَمُرَة: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتلَ عبدَه قتلناهُ، ومَنْ جَدَعَهُ ¬
جَدَعْناهُ، ومن أَخْصاه أَخْصيناه" (¬1). وبه أخذ البخاريُّ، قال البخاريُّ عن عليِّ بنِ المدينيِّ: سماعُ الحَسَنِ (¬2) عن سَمُرَةَ صَحيحٌ (¬3). وقيل: إنَّ الحَسَنَ لم يسمعْ من سَمُرَة إلَّا حديثَ العقيقَةِ (¬4). واستدلَّ منْ قالَ بخلافِه بما رَوَى عمرُو بنُ شُعَيْبٍ، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ: أَنَّ رجلاً قتلَ عبدَهُ متعمِّداً، فجلده النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ونفاه سنةً، ومحا سهمَه من المسلمين، ولم يُقِدْهُ منه (¬5). * وأما الذكر فُيقتل بالأنثى عندَ عامةِ أهلِ العلم؛ لعمومِ آيةِ المائدةِ، ¬
ولما رَوى أبو بكرِ بن (¬1) محمدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمنِ: "يُقْتَلُ الرجلُ بالمرأةِ" (¬2). وروي أنَّ عمرَ قتلَ ثلاثةَ نفرٍ بامرأةٍ قادهم بها (¬3). ولأنهما شخصان يُحَدُّ كل واحد منهما بقذف الآخر، فجرى القصاص بينهما كالرجلينِ والمرأتين. قال الشافعيُّ: ولستُ أعلمُ ممَّنْ لقيتُ من أهلِ العِلْمِ مُخالفاً في أن الدَّمَيْنِ متكافئان في الحرية والإسلام، فإذا قَتَلَ الرجلُ المرأةَ، قُتل بِها، وإذا قتلته، قُتلتْ به، ولم يؤخذ شيء (¬4). وكذا ادَّعى ابنُ المنذرِ الإجماع على قتل الرجل بها، وأنه لا شيء لأولياء المقتول قصاصاً. وحُكي عن الحسن أنه لا يُقتلُ الذكرُ بالأنثى (¬5)، وهو شاذ. وأما ما يُروى عن عليٍّ والحَسَنِ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما- من أنه إذا قَتلتِ المرأةُ الرجلَ، كانَ على أوليِاء المرأةِ نصفُ الدِّيةِ (¬6)، فمنقطع، وقد رُوي عنهما خِلافُ ذلك. ¬
* ولما واجهَ اللهُ -جَلَّ جَلالُه- بالخطاب المؤمنين، وقالَ: يا أيهُّا الذين آمنوا! ولم يقلْ: يا أيها الناس! يا بني آدم! استدلَلْنا به على اخْتِصاصِ القِصاصِ بالمُؤْمنين، وأنه لا يُقْتَلُ مؤمنٌ بكافرٍ، وتأيد الاستدلالُ عندنا بقولِه تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] ولا أُخُوَّةَ بينَ المؤمنينَ والكافرينَ. ثم وجدْنا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بيَّن ذلكَ عن اللهِ سبحانه؛ كما أشار إليه. روينا في "صحيح البخاري" عن أبي جُحَيْفَةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه- قالَ: سألتُ علياً -رضي الله تعالى عنه-: هل عندَكُم من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - شيء سوى القرآن؟ قالَ: لا، والذي فلقَ الحَبَّةَ وبَرَأ النَّسَمَةَ إلَّا أَنْ يؤتيَ اللهُ عبداً فَهْماً في القرآن، وما في الصَّحيفةِ. فقلت: وما في الصحيفة؟، قالَ: العقلُ، وفِكاكُ الأسيرِ، ولا يقتلُ مؤمنٌ بكافر (¬1). وذهبَ قومٌ من الكوفيين إلى أن المسلمَ يُقتل بالذِّمِّيِّ، واحتجوا بأحاديثَ ضعيفةٍ منقطعةٍ لا تثبتُ بمثلها حُجَّةٌ في سفكِ دم رجلٍ مؤمنٍ، ولولا طلبي للاختصار، لذكرتها وبينت عن الحفاظ ضَعْفَها (¬2). * ثم بيَّنَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن اللهَ -سبحانَهُ- أرادَ قتلَ الحُرِّ بالحُرِّ ما لم يكنِ القاتلُ والداً للمقتول، فثبت عن عمرَ بنِ الخطابِ -رضي الله تعالى عنه- أنهُ ¬
قالَ: لولا أني سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "لا يُقادُ الأَبُ مِنِ ابنِه"، لقتلتُه، هَلُمَّ ديتَةُ، فأتاه بها، فدفعها إلى ورثته، وترك أباه (¬1). وروي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تقامُ الحدودُ في المساجدِ، ولا يقادُ بالولدِ الوالِدُ" (¬2). ولأنَّ الأبَ سببٌ لوجودِ الابنِ، فلا يكونُ الابنُ سبباً لعدمه. وإلى هذا ذهب أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ (¬3)، وهو المختارُ عندي. وذهب مالكٌ إلى أنَّ الأبَ يُقادُ بابنه إذا قتلَهُ متعمِّداً لا شُبْهَة له في دعوى الخطأ؛ كما إذا أضجعه وذبحه، وأما إذا رماه بالسلاح أدباً أو غيظاً، فماتَ، فلا يُقتل، ويكونُ شبهةً للأب (¬4)، بخلافِ الأجنبيِّ؛ فإنه يقتل بمثل ¬
هذا، واختاره ابنُ المنذرِ (¬1)؛ لعمومِ الكتاب العزيز، ولقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "المُسلمون (¬2) تتكافأُ دِماؤهم" (¬3). وأجابوا: بأن الحديثَ باطلٌ غيرُ معروفٍ، وبأن عمر تَأَوَّلَ لأجلِ الشُّبهةِ، وأفسدوا القياس بما إذا زَنى الأبُ بابنته؛ فإته يُرْجَمُ، وتكونُ سَبَباً لعدمه. والجوابُ ضعيفٌ؛ أما العُمومُ فَمَخْصوصٌ. وأما دعوى التأويل من عمر، فخلاف الظاهر. وأما الاعتراض بالزنى بابنته، فإنه فعلٌ يوجبُ القتلَ، ولا يَسْقُطُ في هذا المَحَلِّ بحالٍ، بخلاف قتلِ الوالدِ، ولأنَّ عقوبةَ الزنى حَقٌّ لله -سبحانه-، وعقوبةَ القتل حقٌّ للمقتول، وكان الأب أَولى به، ولكن انتقل عنه لعدوانِه. * وفي الآيةِ دلالةٌ بَيِّنَةٌ على أن العبيدَ يَجْري بينهمُ القِصاصُ، وهو كذلكَ عندَ الشافعيِّ ومالكٌ، وروي عن عمرَ بنِ الخَطَّابِ رضيَ اللهُ تعالى عنهم (¬4). وقال قوم: لا يجري بينهم القصاص؛ لأنهم أموال كالبهائِم، وهو قولُ الحسنِ وابنِ شُبْرُمَةَ (¬5). ¬
وفرَّق أبو حنمفةَ والثوريُّ بين النَّفْس وما دُونَها، فيُقاد في النَّفْس، ولا يُقاد فيما دونها، وروي (¬1) عن ابن مسعودٍ رضيَ الله عنهُ (¬2). * ولمَّا ذكرَ اللهُ -سبحانَهُ- القِصاصَ في القَتْلى، بَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صِفَتَهُ، فرضَخَ رأسَ يهوديٍّ بينَ حَجَرَيْنِ، كما رضخَ رأسَ جاريةٍ بحَجَرٍ (¬3). وبهذا أخذ مالكٌ والشافعيُّ (¬4)، خلافاً لقوم؛ حيث اعتبروا السيف مطلَقاً (¬5). * ثمَّ إن اللهَ سبحانَهُ رَحِمَنا -أيتها الأمَّةُ الكريمةُ- فجوَّز لنا العَفْوَ، ولم يُحَتِّمْ علينا القَتْلَ، فقالَ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أي: فليكن اتباع بالمعروف من وليِّ الدمِ، فلا يُعَنِّفْ، ولا يطلبْ أكثرَ من حَقِّهِ. وكذلك من الجاني، فلا يُحْوِجْهُ إلى العنفِ وسوءِ المطالَبَة. واختلفَ أهلُ العلم في هذه الآية، منْ هُو المعفوُّ لَهُ؟ ¬
هل هو الجاني عُفي له عن جنايته، والعافي وليُّ الدَّمِ؟ وهو قولُ ابنِ عَبّاسٍ ومُجاهدٍ وجُمهورِ أهلِ العلمِ. - أو المعفوُّ لهُ هو الوَلِيُّ عفي له بِديَةٍ أُعْطِيَها، والعافي هو الجاني؟ وهو تأويل مالكٍ وأبي حنيفةَ، وهذا ثمرةُ اختلافهم في أن القاتل هل يُفْتَقَرُ إلى رِضاهُ في العَفْوِ عن الدية؟ أو لا يفتقر إلى رِضاهُ؟. فمن قالَ: لا يُفتقر إلى رضاهُ، كان العافي وليَّ الدَّمِ. ومن قال: يُفتقر إلى رِضاهُ، جعل العافيَ هو الجاني إذا رَضِيَ ولِيُّ الدَّمِ بقبول الدِّيةِ. وقدْ ذهبَ أكثرُ العلماءِ من الصحابةِ والتابعين إلى أنه لا يُفتقر إلى رضاه. وبه قال مالكٌ والشافعيُّ (¬1). وقال قوم: يُفتقر إلى رضاهُ، وهو قولُ الحسنِ والنَّخَعِيِّ، وبه قالَ أبو حنيفةَ (¬2)، ومالكٌ في أضعفِ الروايتين عنه (¬3). والأولُ أقوى؛ لكثرةِ الاستعمالِ في لسانِ العرب؛ فإن أكثرَ استعمالِهم ¬
للعفو إنما هو عن الجنايِة، وذلكَ -أيضاً- شائعٌ مستفيضٌ في ألفاظِ الكتابِ والسنَّةِ. فإن قلتَ: فهلْ تجدُ في الكتابِ والسُّنَّةِ دليلاً على ترجيحِ المعنى الأولِ غيرَ الاستعمالِ؟ قلتُ: نعم، قالَ اللهُ تعالى في مثلِ حكمِ هذه الآيةِ في سورةِ المائدةِ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]. والمتصدِّقُ هو المجروحُ، أو وليُّ الدمِ، لا الجاني، بل الجاني متصدَّق عليه، فهوَ معفوٌّ له، بدليل قراءة أُبيٍّ (¬1) -رضي اللهُ عنهُ:- (فهو كفارته له) (¬2). وبما روي عنه - صلى الله عليه وسلم -: "من تَصَدَّقَ من جَسَدِه بشيءٍ، كَفَّرَ اللهُ عنهُ بقَدْرِهِ من ذنوبه" (¬3). وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثمَّ أنتمْ يا خُزاعَةُ قد قتلتمْ هذا القتيلَ من هُذَيْلٍ واللهِ عاقِلُهُ، مَنْ قتلَ بعدَهُ قتيلاً، فأهلُهُ بين خِيْرَتَيْنِ: إن أحبُّوا أخذوا العَقْلَ، وإنْ أَحَبُّوا قَتَلوا" (¬4). ¬
* وفي (¬1) الآية دليلٌ على (¬2) أنه إذا عُفي عن بعضِ الدَّم، سقطَ القِصاص، وقد فعلَ ذلك عمرُ وابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ تعالى عنهما (¬3). * ثم توعّدَ اللهُ سبحانه مَنِ اعْتَدى فَقَتَل القاتِلَ بعدَ العَفْوِ وقَبولِ الديةِ بعذابٍ أليمٍ، وهو أن يُقْتَلَ قِصاصاً. قالَ قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ والسُّدِّيُّ: يتحتَّمُ قتلُه حتى لا يُقْبَلَ العَفْوُ (¬4)؛ لِما رَوَى أبو داودَ عن جابرٍ -رضيَ اللهُ عنه- عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا أعافي أَحَداً قَتَلَ بعدَ أَخْذِ الدِّيَةِ" (¬5). وقال عمرُ بنُ عبد العزيز: أمرُهُ إلى الإمامِ، يفعلُ فيه ما رَأى (¬6). * وبيَّنَ -سبحانَه- وَجْهَ الحِكْمَةِ في القِصاصِ، وأنهُ حياةٌ للناسِ، وحقنُ ¬
دمائهم فقالَ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]، وقد اسْتَنْبَطْنا من هذا أنَّ الجماعةَ يُقتلون بالواحِد؛ كما فعلَ عمرُ -رضيَ اللهُ تعالى عنه (¬1) - فإنَّهُمْ لو لم يُقتلوا به، لم يحصل لنا حياة، وكان التعاون والاشتراك ذريعةً إلى سقوط القِصاص، ووقوعِ الفَسادِ في الأرض (¬2). والعَجَبُ من الإمامِ أحمَدَ حيث تعلَّقَ بشبهةِ المساواةِ في القِصاص، وغَفَلَ عن وَجْهِ الحكمةِ (¬3)، معَ فعلِ عمرَ بمحضرٍ من الصحابة -رضيَ اللهُ تعالى عنهم-، ولم يخالفهُ منهمْ أحدٌ علمناهُ. * * * ¬
أحكام الوصايا
(أحكام الوصايا) 6 - (6) قوله جل ثناؤه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]. أقول: اختلفَ أهلُ العلمِ في تأويلِ هذه الآية اختلافاً كثيراً، فاختلفوا في نسخها، وفي الناسخ لها، وفي المَنْسوخِ منها (¬1). * فذهبَ فريقٌ من الناسِ إلى عَدَمِ نَسْخهِا، ثم اختلفتْ بهمُ الطرقُ: فقال بعضُهم (¬2): يجمع للوارثِ بين الوصيَّةِ والإرثِ بهذه الآية، وبآيةِ المواريث. وهذا القولُ بعيد جداً، مخالف للإجماع. وتأوَّلَ بعضُهم فقال: معنى الآية: كتبَ عليكمْ ما أوصى من توريثِ الوالدينِ والأقربينَ من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ} الآية [النساء: 11]. وكتب على المُحْتَضَر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ¬
ما أوصى الله -تعالى- لهم، ولا ينقص من أَنْصِبائهم، بالمعروفِ: بالعدلِ. وهذا -أيضاً- بعيدٌ جداً (¬1). وحكي عن الشعبيِّ والنخعيِّ أنَّ الوصيةَ للوالدينِ والأقربينَ في هذه الآية على الندب لا على الفرض، فنسخت السنَّةُ جوازَ الوصيةِ للوالدين، وبقيتِ الوصيةُ للأقربينَ على الندبِ (¬2). وهو بعيد جداً (¬3)؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} [البقرة: 178]. ولقوله تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]، إلا أن يريدَ أنها صارَتْ على الندبِ بعدَ أَنْ نُسِخَ وُجوبها، ثُمَّ نسخت السنةُ جوازَ الوصية، فهذا معنى قولِ أكثرِ العلماء الذي سأحكيهِ، إن شاء الله تعالى. وإنما حكيت هذه الأقوال مع ضعفها؛ لئلاً يُغْتَرَّ بها. - وقال أكثرُ أهلِ العلمِ أو عامَّتُهم: هي منسوخةٌ، وهو الحق (¬4). ¬
* ثم اختلفوا في الناسخِ لها. فقال أكثرُهم: كانت الوصيةُ واجبةً في صدر الإسلام، ثم نسختها آية المواريث. روي ذلكَ عن ابنِ عباسٍ وابنِ عمرَ رضي الله تعالى عنهم (¬1). واستشكل هذا قومٌ فقالوا: الفرضُ في آيةِ المواريثِ مطلَقٌ، لم يقل اللهُ سبحانه: لا شيءَ لوالديه إلا كذا أو كذا فرضاً من بعدِ وصيَّةٍ، فقدْ كانَ يجوزُ أن يثبت لهمُ الفرضُ المذكور من بعدِ ما يوصى لهُم بنصِّ القرآن المتصل بفريضة الميراث. ولأجل هذا الإشكال، قال قومٌ (¬2): هي منسوخة بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حجَّةِ الوداع: "إن اللهَ قَدْ أَعْطَى كلَّ ذي حَقٍّ حَقَّهُ، فلا وَصِيَّةَ لِوارِثٍ" (¬3). وقالوا: هذه سنَّةٌ تلقَّتْها الأمةُ بالقبول، فجاز نسخُ القرآن بها، وهؤلاء هم القائلونَ بجوازِ نسخِ السُّنَّةِ للقرآن. وهذا الاستشكالُ باطلٌ، والنظرُ إليه غَفْلَةٌ. فقدِ اتفقَ المُفَسِّرونَ وغيرُهم ¬
من أهل العلمِ -واللهُ أعلم- على أن آية (¬1) الوصية نزلت قبل آية المواريث، وثبت أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال "إنَّ اللهَ قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فلا وَصِيَّةَ لوارثٍ" (¬2)، فالسنَّةُ مبيِّنَةٌ أن آيةَ المواريث ناسخة لآية الوصية، لا أن السنَّةَ هي الناسخة لها (¬3). * وأما المنسوخُ منها؛ فذهبَ طاوس، وقليلٌ من أهلِ العلمِ إلى أنها منسوخة في حَقِّ الأقارب الذين يرثون، وبقي وجوبُها في الأقارب الذين لا يرثون؛ كالأبوين الكافرين، والعبدين. ويحكى هذا القولُ عن الحسنِ وقَتادةَ والضَّحّاك وابنِ راهويه، ويروى عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهما (¬4). قال طاوس: إن الوصية كانتْ قبلَ الميراثِ، فلما نزل الميراثُ، نُسِخَ من يرثُ، وبقيتِ الوصيةُ لمن لا يرثُ، فهي ثابتة، فمن أوصى لغير ذي قرابة، لم تجز وصيته (¬5). ¬
وقال الحَسَنُ: إذا أوصى الرجلُ لغير ذي قرابة بثلثه، فلهم ثلثُ الثلث، والباقي لقرابته (¬1). وقال أكثرُ أهلِ العلمِ: نُسخ وجوبُ الوصيةِ في جميع الأقربين، ثم مُنِعَ من الوصيةِ للوارِثين، واستُحِبَّتْ لغيرِ الوارِثين، وهو قولُ ابنِ عمرَ ومجُاهدٍ والشعبيِّ والنَّخَعِيِّ والسُّدِّيِّ ومالكٍ والشافعيِّ (¬2). وفي البخاري عن ابن عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهما- قال: كانَ المالُ للولدِ، وكانت الوصيةُ للوالدينِ، فنسخَ اللهُ من ذلكَ ما أحبَّ، فجعلَ للذَّكَرِ مثلَ حَظِّ الأُنْثَيين، وجعل للأبوينِ لكلِّ واحدٍ منهما السُّدُسُ، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع (¬3). فإن قال قائل (¬4): فالآية محتملة لما قالَ طاوس، فهل تجدُ دليلاً على موافقته أو مخالفته، وأنَّ الأقربينَ غيرُ الوارثينَ لا تجبُ لهمُ الوصيةُ؟ قلت: الدلالة على خلافِ قولهِ مِن وَجْهين: أحدهما: ما رواه عِمرانُ بنُ الحُصَيْنِ -رضيَ الله عنه-: أنَّ رجلاً أعتقَ ستةَ عبيدٍ في مرضِهِ عندَ موته، لا مالَ له غيرُهم، فأقرعَ رسولُ اللهِ بينهم، فأعتق اثنين، وأرَقَّ أربعة (¬5). ¬
ومعلومٌ أنَّ العبيدَ ليسوا بذي قَرابةٍ؛ لأن المعتِقَ عربيٌّ، وإنما يملكُ مَنْ لا قرابةَ بينَهُ وبينَهُ من العَجَمِ، والعتقُ: وصيةٌ للعبيدِ بالعتقِ، أو كالوَصِيَّةَ. والثاني من الوجهين: أنَّ اللهَ -سبحانه- لم يَضَعِ الفَرائِضَ إلا في الأقربين، فجعلها في الأُصول والفُروع، وأولِ فصلٍ منْ كلِّ أصل، وهو -سبحانه- لم يجعلِ الوصيَّةَ المنسوخَة -أيضاً- إلَّا للأقربين دون القريبين، إلَّا أن يدَّعِيَ مُدَّع أنهُ كانَ واجباً في صدرِ الإسلام أَنْ يوصيَ الرجلُ لجميعِ عشيرتِهِ وقَرابتِه وأرحامِهِ، فحينئذٍ يجبُ عليه إثباتُه حتى يُنْظَرَ فيه، واللهُ أعلم. * وأمرَ اللهُ -سبحانه- المُوصيَ أنْ يوصِيَ بالمَعْروف، وجعل هذا الذي هو المعروفُ إلى اجتهاده. ويدلُّ عليه قولهُ تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 181 - 182]. ولما نسخ اللهُ -سبحانَه- وجوبَ هذهِ الوصية، وأعطى الوالدينِ والأقربين حقوقَهم، وندب إلى الوصيةِ، جعلَ بيانَ المعروفِ إلى نبيِّهِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، فقال لِسَعْد لمّا أرادَ أن يوصيَ بنصفِ مالِهِ: "الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كثيرٌ" (¬2) حتى جعلَهُ الحَسَنُ حدًّا لا تجوزُ الزيادةُ عليه (¬3). ¬
من أحكام الصيام
(من أحكام الصِّيام) 7 - 8 (7 - 8) قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 183 - 184]. أقول: أما الأولى فبيِّنة في مكتوبية الصيام مُجْمَلةٌ، في أصل الصِّيام ووَضْعِه، ولكنه قد اتفقَ أهلُ العِلْمِ بالقرآنِ -واللهُ أعلمُ- على أن الآيتين نزلتا في فريضة صوم رمضان. * واختلفوا في المَعْنيِّ بالذين مِنْ قبلِنا. - فقال قوم (¬1): الإشارةُ إلى الأمم الخاليةِ، وذلكَ أَنَّ الله- سبحانه - ¬
ما أرسلَ نبياً إلا افترضَ عليهِ وعلى أُمَّتهِ صِيامَ شهرِ رَمضانَ، فكَفَرت بهِ الأممُ كُلُّها، وآمَنَتْ بهِ أُمَّةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. - وقال قوم: المعنيُّ بالذين مِن قبلنا: هُمُ النَّصارى، ويروى عن الشعبيِّ والحَسَنِ ومجاهدٍ أَنَّهُمْ قالوا: إنَّ اللهَ -جَلَّ جَلالُهُ- كانَ قدِ افترضَ على مَنْ كانَ قبلَنا مِنَ النَّصارى في صومِ رمضانَ، فحوَّلوه عن وقتِه، ثُمَّ زادَ كلُّ قرنٍ يوماً في أولهِ للاستبراء والاحتياطِ، ويوماً في آخره، حتى صار إلى الخمسين يوماً، ففرض الله علينا صومَهُ خاصَّةً، كما كان فرضاً عليهم بقولِه تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬1) [البقرة: 183]. * ثم قال آخرونَ (¬2): والمعنيُّ بقوله: "كما كتب": صفةُ الصوم، وذلك أن النصارى كانوا إذا أفطروا، أكلوا وشربوا وجامعوا النساء ما لم يناموا، وكانَ المسلمونَ كذلكَ في التحريم ما لم يناموا، أو يصلُّوا العِشاءَ الآخرةَ. ثم نزلَ قولُه عَزَّ وجَلَّ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية [البقرة: 187]. * فهذه الآيةُ منسوخةٌ على هذا القول (¬3). ¬
روينا في "صحيح البخاري" عن أبي إسحاق قال: سمعتُ البراءَ يقولُ: لما نزلَ صومُ رمضانَ، كانوا لا يقربون النساءَ رمضانَ كُلَّه، فكانَ رجالٌ يخونونَ أنفسَهُم، أنزل اللهُ عزَّ وجَلَّ: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} (¬1) الآية [البقرة: 187]، وهي -أيضاً- مع ذلك ناسخة. واختلفوا في المنسوخ بها. فقيلَ: صومُ يومِ عاشوراء، روي في "صحيحِ البخاري"، عن عائشةَ -رضيَ اللهُ عنها- قالت: كانَ يومُ عاشوارءَ تصومُهُ قريشٌ في الجاهِلِيَّةِ، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصومُهُ، فلما قدمَ المدينةَ صامَهُ، وأمرَ بصيامِهِ، فلما نزلَ رمضانُ، كان رمضانُ الفريضَةَ، وترك عاشوراء، فمنْ شاءَ صامَ، ومن شاءَ لم يَصُمْهُ (¬2). وروينا نحوَهُ عنِ ابنِ عُمَرَ وابنِ مسعودٍ، رضيَ اللهُ تعَالى عنهم (¬3). - وقيل: المنسوخُ بها صومُ ثلاثةِ أيامٍ منْ كلِّ شهرٍ، كانَ أمرَ بهِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أولِ قدومِهِ المدينةَ (¬4)، ورويَ عنِ ابنِ عباسٍ ومُعاذٍ، رضيَ اللهُ تعالى عنهم (¬5). ¬
روينا في "سُنَنِ البَيْهَقِيِّ" عن عمرِو بنِ مُرَّةَ يقولُ: سمعت ابنَ أبي ليلى يقول: أُحيلَتِ الصلاةُ ثلاثةَ أحوالٍ، والصَّوْمُ ثلاثةَ أحوال، فحدَّثَنَا أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: لمّا قدمَ عليهم أَمَرَهُمْ ليصوموا ثلاثةَ أيام من كل شهر تطوعاً غيرَ فريضةٍ، ثم نزل صيامُ رمضانَ، وكانوا قوماً لم يتعوَّدوا الصِّيامَ، فكان يشتدّ عليهم الصيامُ، فكان مَنْ لم يصمْ، أطعم مسكيناً، ثم نزلت: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، فكانت الرخصةُ للمريضِ والمسافرِ، قال: وكان الرجلُ إذا أفطرَ، فنامت امرأتهُ، لم يأتِها، فإذا نام ولم يَطْعَمْ، لم يَطْعَمْ إلى مثلِها من القابِلَةِ، حتى جاءَ عمرُ بنُ الخَطَّابِ -رضيَ اللهُ عنهُ- يريدُ امرأتَهُ، فقالت: إني قد نمتُ، فقال: إنَّما تَعْتَلِّين، فوقع بها، وجاء رجلٌ من الأنصار فأراد أن يَطْعَمَ، فقالوا: حتى نُسَخِّنَ لك شيئاً، فنام، فنزلت هذه الآية (¬1). * وأما الآيةُ الثانيةُ، فأولُها مُحْكَمٌ، وباقيها (¬2) منسوخٌ على المشهورِ عندَ أهلِ العلم (¬3). ¬
* فأباحَ اللهُ -سبحانَهُ- بقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] الفطرَ للمريضِ والمسافِر، وأكَدَ حُكْمَهُ بالذكر، فأعاده في الآية التي تلي هذهِ الآيةَ، وأوجبَ عليهما العِدَّةَ منْ أيامٍ أُخَرَ، ولم يوجبْ عليهما فِدْيَةً. وبين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الحائِضَ في معناهُما، قالت عائشةُ -رضيَ الله تعالى عنها-: كنا نُؤْمَرُ بقَضاءِ الصَّوْمِ، ولا نُؤْمَرُ بقَضاءِ الصلاة (¬1). وقِسْنا النُّفَساءَ على الحائِضِ؛ لكونها في معناها؛ لأن النّفاسَ حَيْضٌ مجتمعٌ. * فإنْ قلتُم: فهل فِطرُ المسافر على سبيل الرُّخْصَةِ أو على سبيل العزيمةِ؛ فإنَّ (¬2) اللفظ يحتملُ ألاَّ يجعلَ لهم صومَ رمضانَ، ويجعلَ عليهم عدداً آخر، ويحتملُ أن يكونَ أَمَرَهُمْ بالفطر في هاتين الحالتين على الرخصة، إن شاؤوا؛ لئلاّ يحرجوا إن فعلوا، واللَّفْظُ في العَزْمِ أظْهَرُ؛ لترتُّبِ المَشْروطِ على الشَّرْطِ؟ قلتُ: الذي عليه أكثرُ أهلِ العلمِ أَنَّهُ بطريقِ الرُّخْصَةِ، واحتجُّوا بقولهِ تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وبما روى أبو سعيدٍ الخدريُّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- قال: كنا نسافرُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فمنّا الصائِمُ، ومِنَّا المُفْطِرُ، فلا يَعيبُ الصائِمُ على المُفْطِرِ، ولا المفطرُ على الصائِمِ (¬3). ¬
ورويَ عنِ ابنِ عباسٍ وأبي هُريرةَ وعُروةَ بن الزُّبيرِ وعلي بنِ الحُسَينِ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم- أنهم قالوا: لا يجوزُ الصومُ في السَّفَرِ، ومنْ صامَ فعليهِ القضاءُ، وجعلوهُ كالعاصي بصومِه، وبه قال داودُ وأهلُ الظَّاهِرِ. ولهم من الحجَّةِ: ظاهِرُ الآيةِ، وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ مِنَ البرِّ الصِّيامُ في السَّفَرِ" (¬1). وما روى جابرُ بنُ عبدِ اللهِ -رضيَ اللهُ عنهُ-: أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خرجَ إلى مكَّةَ عامَ الفتحِ في رَمَضانَ، فصامَ حتى بلغِ كُراعَ الغَميمِ (¬2)، فصامَ الناسُ، فقيلَ له: يا رسولَ الله! إنَّ الناسَ قَدْ شقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيامُ، فدَعا بقَدَحٍ من ماءٍ بعدَ العَصْرِ، فشربَ، والناسُ ينظرون، فأفطرَ بعضُ الناس، وصامَ بعضُهم، فبلغه أنَّ ناساً صاموا، فقال: "أولئكَ العُصاةُ" (¬3)، وما روى ابنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهما-: أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خرجَ عامَ الفتح في رَمضانَ، فصامَ حتى بلغَ الكَديدَ (¬4)، ثم أفطر فأفطر الناسُ ¬
معه (¬1). وإنَّما كانوا يأخذون بالأحْدَثِ مِن أَمْرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما روي: أنَّ عمرَ -رضيَ اللهُ عنه- أمرَ رَجُلاً صامَ في السفرِ أن يقضيَ الصِّيامَ (¬2). فإن قلتم: فما اختيارُك؟ قلت: ما عليه الأكثرُ من أهل العلم. فإنْ قلتُم: فما الجوابُ عنْ هذه الأدلَّةِ القويَّةِ؟ قلت: أما الآيةُ، فإنها تحتمل الأمرين، فقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] يحتملُ أن يكونَ للعزيمةِ، ويحتملُ أن يكونَ للرُّخْصَةِ، ودلَّ على أنه للرُّخْصَةِ تخييره لذوي الطاقة في الإفطار والصوم؛ فإن ذلك لمّا كانَ في آيةٍ واحدةٍ، دلَّنا على التَّخْييرِ والرُّخْصَةِ. - وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس من البرِّ الصِّيامُ في السَّفَرِ"، فالجوابُ عنهُ: أنَّ جابِرَ بنَ عبدِ الله -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- روى هذا الحديث مفسّراً بسببهِ، وذكر أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى زِحاماً ورجلاً قد ظُلِّل عليه، فسأل عنهُ، فقيل له: صائم، فقال: "ليسَ من البرِّ الصيامُ في السَّفَر" (¬3)، ويحتمل أن مرادَهُ ليسَ من الِبرِّ المفروضِ الذي مَنْ خالفه أَثِمَ. ¬
- وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أولئك العصاة"؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أفطرَ لَمّا قيلَ لَهُ: شَقَّ على الناسِ الصِّيامُ، وكانتِ المَشَقَّةُ أَفْضَتْ بهمْ إلى حَدِّ الضَّرَرِ، وإذا كانَ الأمرُ كذلكَ، حَرُمَ الصوْمُ، وذمَّهُمْ لمَّا خالفوهُ ورَغبِوا عن سُنَّتِهِ وقَبول رُخْصَتِه، ولهذا لم يُنْقَلْ أنه عَيَّرهُم، أو أمرهم بالقضاءِ والتَّدارُكِ. - وأمّا قولُ عمرَ -رضي الله عنه-، فقال الشافعيُّ: لا أعرفُه عنه، وإنْ عرفتهُ، فالحجَّةُ ثابتةٌ بما ثبتَ عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). - وأما قولُ ابنِ عباسٍ: يؤخذ بالأحدثِ فالأَحدث، فالظاهرُ أَنَّهُ من قوله، ويحتمل أنْ يقولَهُ من روى عنهُ برأيهِ واجتهادِه، فقد يسمعُ الراوي الشيءَ، فيتأوَّلُه، ولا يسمعُ غيرَه، ولا يمتنعُ على من علم الأمرين أن يقول بهما. * فإن قلتم: فما الأفضلُ عندَ من يقولُ بالرخصةِ؟ قلت: قالت طائفة: الفِطْرُ في السفرِ أفضلُ، رُوِيَ ذلكَ عنِ ابنِ عُمَرَ وابن عَباسٍ وسعيدِ بنِ المُسَيِّبِ ومُجاهدٍ وقتادَةَ والشَّعْبِيِّ والأوزاعِيِّ وعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ وأحمدَ وإسحاقَ (¬2)، وإيَّاهُ أَختارُ؛ لما فيه من التأسّي والاقتداءِ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الذي مَنْ خالفَهُ رَغْبَةً عنهُ، استَحقَّ أن يُسَمَّى عاصِياً، وللخروج من الخلاف. - وذهبَ قومٌ إلى أن الصومَ أفضلُ، رويَ ذلك عنِ ابنِ عباسٍ (¬3) ومعاذٍ ¬
وعثمانَ بن أبي العاصِ الثقفيِّ، وبه قالَ إبراهيمُ، وسعيدُ بنُ جبير، ومالكٌ في رواية، وإليه يؤولُ مذهبُ الشافعيِّ رضي اللهُ عنه (¬1). - والمشهورُ عندَ المالكيةِ التخييرُ (¬2)؛ لما روى أَنَسٌ -رضيَ اللهُ عنهُ- قالَ: سافرْنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضانَ، فلم يَعِبِ الصائمُ على المفْطِرِ، ولا المفطرُ على الصائِم (¬3). * فإن قلتُم: فبيِّنْ لنا حَدَّ السفرِ والمرضِ عندَ إمامِنا الشافعيِّ وغيرِه من أهل العلمِ، وبيِّنْ لنا مُسْتَنَدَ الشافِعيِّ في التحديد. قلتُ: أما السفرُ، فذهبَ قومٌ إلى أنه مسيرةُ يومٍ واحدٍ (¬4)، وذهبَ جماعةٌ إلى أنهُ ثلاثةُ أيامٍ، وهوَ قولُ الثوريِّ وأبي حنيفةَ (¬5). ¬
وأما الشافعيُّ، فلمّا قامَ الدليلُ عندَهُ على الفرقِ بينَ قليلِ السفرِ وكثيرِهِ، طلبَ دليلاً في التحديدِ، فلم يجدْ إلاّ ما رُوِيَ عنِ ابنِ عباسٍ وابنِ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم-: أنهم قَصَروا وأفطروا في أربعةِ بُرُدٍ (¬1)، فقضى به (¬2)؛ إذْ لم يجدْ أقل منهُ في التحديد، ومثلُه تقوم به حجَّة في مثلِ هذا المقامِ. - وأما المرضُ، فإنه لما قامَ الدليلُ -أيضاً- على أنه لا بدَّ من فرقٍ بين قليلهِ وكثيرِهِ؛ إذْ لا عبرَةَ بالمشقَّةِ اليسيرةِ؛ كالسفر القريب، طلبَ دليلاً على التحديد، فلم يجدْ، فنظرَ في المعنى المقصودِ بالرخصةِ، فوجدهُ المشقَّةَ، فجوز للمريض الفِطْرَ إذا جَهَدَهُ الصومُ جَهْداً غير مُحْتَمَلٍ، ومنعه إذا لم يَجْهَدْهُ؛ إذ هو كالصحيح، ولو جَوَّزَ له الإفطارَ بغير مَشَقَّةٍ، لوُجِدَ المعلولُ ولا عِلَّةَ معهُ، وبطلَ المعنى الذي لأجله رُخِّصَ في الفِطْر. وذهبَ أهلُ الظاهرِ إلى أنَّ ما يقعُ عليهِ اسمُ المَرضِ يبيحُ الفِطْرَ، وهو قول ابن سيرينَ، ورويَ عن الحَسَنِ أيضاً، وقال الحسنُ وإبراهيمُ: إنه المرضُ الذي تجوزُ معه الصلاةُ من قُعودٍ. ¬
وذهبَ الأكثرون إلى أنه ما يُخافُ من الصوم معهُ زيادةُ عِلَّةٍ غيرِ محتمَلَةٍ (¬1). * إذا تقررَ هذا، فقد اشتملتِ هذه الآية على أربعِ جُمَلٍ: الجملة الأولى: قولُه -عزَّ وجَلَّ- {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] قرأ أُبَيٌّ: (فعدةٌ من أيامٍ أُخَرَ مُتَتابعاتٍ) (¬2)، وروي عن عائشةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنها-: أَنها قالت: نزلت: (من أيامٍ أخرَ متتابعاتٍ) سقطتْ مُتتابعاتٍ (¬3)، أَيْ: نُسخت (¬4). * واختلفَ العلماءُ في هذهِ الأيامِ. فقال أكثرُهم: هي على التخييرِ، إن شاءَ جاء بها متتابعةً، وإن شاءَ جاء بها متفرقةً، وهو قولُ ابنِ عباسٍ وأنسٍ ومعاذٍ وأبي حنيفةَ ومالك والأوزاعيِّ والشافعيِّ، ويروى عن أبي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرّاحِ أنهُ قالَ: إنّ اللهَ تَعالى لم يرخِّص لكم في فِطْرِهِ، وهو يريدُ أن يَشُقَّ عليكمْ في قَضائِهِ (¬5). ¬
- ويروى عن عليٍّ وعائشةَ وابن عمرَ والشعبيِّ ومالكٍ أَنَّه يقضي كما فات متتابعاً (¬1). * وفي هذهِ الجُمْلَةِ دليلٌ على أَنه إذا أفطرَ في (¬2) الأيامِ الطِّوالِ كأيام الصيفِ، جاز له أن يقضيَ في أيام الشتاء (¬3)؛ فإنها عدَّةٌ من أيام أُخَرَ، ولا أعلمُ أحداً خالفَ في هذا. * وفيها دليلٌ على أنه إذا أفطرَ بالمَرَضِ جميعَ شَهْرِ رمضانَ، وكانَ تسعةً وعشرين يوماً، أنه يقضي تسعةً وعشرين يوماً (¬4). ¬
وخالف في هذا الحسنُ بنُ صالحٍ، فأوجَبَ شهراً بالهِلال (¬1). * وفيها دليلٌ على أنه لا يجبُ المُسارَعَةُ إلى قضاءِ رمضانَ بعدَ زوالِ العُذْرِ من المرضِ والسَّفر. وإلى هذا ذهبَ عامَّةُ أهلِ العِلْم (¬2)، ويدل لهم ما رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ عن عائشةَ -رضيَ الله تعالى عنها- قالت: يكونُ عليَّ الصومُ من رمضانَ، فما أستطيعُ أن أقضيَهُ إلا في شعبانَ؛ لشُغْلي برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وقال داودُ: يجب عليه القضاءُ من ثاني شَوَّالٍ (¬4). * وفيها دليل على أنه إذا أخَّرَ القضاءَ إلى سنةٍ أخرى حتى أدرَكهُ رمضانُ الثاني لعذرٍ أنَّ عليهِ العِدَّةَ (¬5). وقال قوم من أهل العلم: ليسَ عليهِ إلَّا الإطعامُ، وحُكيَ عنِ ابنِ عباسٍ ¬
وابنِ عمرَ وأبي هريرةَ وقتادةَ وسعيدِ بن جبير (¬1). والجمهورُ على خِلافهم. وأما إذا أَخَّرَهُ بغيرِ عذرٍ، فإن العِدَّةَ تجب بالآية، إما نطقاً، أو قياساً، وتجب مع العِدَّةِ الكَفّارةُ، لكلَ يوم مدٌّ من طَعامٍ؛ لقضاءِ الصحابةِ بالكَفَّارِة، روي ذلكَ عنِ ابنِ عباسٍ وابنِ عمرَ وأبي هريرةَ وابن مسعودٍ وجابرٍ والحسنِ بنِ عليٍّ رضيَ اللهُ عنهم، وبه قالَ مالك، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ. وقال أبو حنيفةَ: يقضي، ولا شيءَ عليه، ويروى عن الحسنِ وإبراهيمَ وداودَ، وأشارَ البخاريُّ إلى اختياره في "جامِعِه" (¬2). الجملةُ الثانية: قولهُ عزَّ وجلَّ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]. * واختلفَ أهلُ العلمِ في هذهِ الجُملةِ، فالمشهورُ أنها منسوخةٌ (¬3)، وهو ¬
قول ابنِ عمرَ وسلمةَ بن الأَكْوَع ومعاذِ بنِ جبلٍ وعكرمةَ والحَسَنِ وعَطاءٍ، وهي منسوخةٌ بقولهِ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، رواه البخاريُّ عن سلمةَ بنِ الأكْوَعِ وابنِ عمرَ (¬1). فإن قلتم: قد روى البخاريُّ عن ابنِ أبي ليلى: أنه قالَ: حدثنا أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نزلَ رمضانُ، فشق عليهم، فكانَ كل من أطعم كلَّ يومٍ مسكيناً، ترك الصومَ ممَّنْ يطيقُهُ، ورخصَ لهم في ذلك، فنسخَها: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، وأمروا بالصوم (¬2)، وهذا نسخٌ لأول هذه الآية بآخِرِها، فهل في القرآنِ يجوزُ أن يُنْسَخَ أولُ الآيةِ بآخرها (¬3). قلت: قال الإمامُ أبو عبدِ اللهِ الشافعيُّ -رحمهُ اللهُ-: لم أعلم أحداً من أهلِ العلمِ بالقرآن يخالفُ في أن الآية كلامٌ واحد، وأنها لم تنزل [إلا] مجتمعةً [بل اتفقوا على أن الآية كلامٌ واحد، نزلت مجتمعةً] (¬4) غير متفرقةٍ، وإن كان الآيتان قد تنزلان متفرقتين في سورة واحدة (¬5). وعلى سياقِ كلامِه -رحمهُ اللهُ تعالى- يجب ألا ينسخ آخرُ الآيةِ أوَّلَها؛ لأن النسخ لا يكونُ مع تراخي الناسخِ عن المنسوخِ، فواجبٌ حينئذٍ أن يُؤَوَّلَ كلامُ ابن أبي ليلى على أن الناسخَ قولهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، ولهذا قال في آخر كلامه: وأُمروا بالصومِ. ¬
ويدلُّ على هذا ما رويناهُ في "سننِ البيهقيِّ" عن عمرِو بن مُرَّةَ، عن ابنِ أبي ليلى، وقد تقدمَ ذكرُه قريباً [في صدر الكلامِ على أول الآيَة] (¬1). لكن ما ذكرَهُ الشافعي عن أهلِ العلمِ غيرُ مُسَلَّمٍ، وإنما وَهِمَ أبو عبد الله، بلِ الآيةُ تنزلُ متفرقةً، وينزل بعضُها دون بعضٍ، وقد رويَ في "صحيح البخاري" عن سهلِ بنِ سعدٍ قال: أنزلت: {كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، ولم ينزلْ {مِنَ الْفَجْر}، وكان رجالٌ إذا أرادوا الصوم ربطَ أحدُهم في رجليه الخيطَ الأبيضَ والخيطَ الأسودَ، ولا يزالُ يأكلُ حتى يتبينَ له رؤيتُهما، فأنزل الله بعدُ: {مِنَ الْفَجْر} (¬2). وروي أنه لما أُنزلَ قولُه تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ ... وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬3) [النساء: 95] شقَّ على أُولي الضَّرَر، فأنزلَ اللهُ سبحانه: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95]. قال ابنُ عباسٍ: ليستْ منسوخةً، بل هو للشيخِ الكبيرِ والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكانَ كلِّ يومٍ مسكيناً (¬4)، وكان يقرأ: ¬
(وعلى الذين يُطَيَّقونَهُ) (¬1) أي: يُكَلَّفونه. ويتأوَّلهُ على الشيخِ الكبير، والمرأةِ الكبيرة، وهو قولُ قَتادةَ، وقال: هي غيرُ منسوخة أبداً (¬2)، ومعناهُ: وعلى الذينَ كانوا يطيقونَهُ في حالِ الشبابِ، فعجزوا عنهُ بعد الكِبَر، فعليهم الفديةُ بدلَ الصومِ. وذكر بعضُهم قولاً أغربَ من هذا، فقال: هي محكمةٌ، والمعنى: وعلى الذين يطيقونه، أي: يطيقون الإطعام، ويعجزون عن الصيام، فديةٌ طعامُ مساكين (¬3). قال قائله: وهذا يُروى عن السلفِ، ورجَّعَ الضميرَ إلى (¬4) الفداء، وإن لم يتقدم ذكرُه؛ لأنه يَدُلُّ على صاحبِ الإضمار، وذلك جائزٌ في لسان العرب. وحكى ابنُ وهبٍ عن مالكٍ قال: قال لي مالك في الآية: إنما ذلك في الرجلِ يمرضُ، فيفطرُ، ثم يَبْرَأُ، فلا يَقْضي ما أفطرَ حتى يدركَهُ رمضانُ منْ قابِلٍ، فعليهِ أن يبدأَ برمضانَ الذي أَدْرَكَهُ، ثم يقضي الذي فاتَهُ بعدَ ذلك، ويُطْعِمُ عن كلِّ يومٍ مُدًّا منْ حِنْطَةٍ. وهذا التأويلُ من مالكٍ يدلُّ على أن الآيةَ محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ عندهُ، ويكون المعنى: وعلى الذين يطيقونه، أي: يطيقونَ قضاءَ ما عليهم، فلا يقضون حتى يأتيَ رمضانُ الثاني. وهو مناقضٌ لما سأحكيهِ عنهُ إن شاء الله تعالى. ¬
ويروى هذا القولُ عن زيدِ بنِ أسلمَ وابنِ شهابٍ (¬1). والقول بالنسخ هو الصحيحُ والمُعَوَّلُ عليه. * فإن قلتُم: فما حكم الَّذينَ لا يُطيقون الصومَ قبلَ النسخِ، وما حكمُهم بعدَ النسخِ؟ قلت: أوجبَ اللهُ الصيامَ على الجميع من المؤمنين، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، وهم من جُملةِ المؤمنين، ثم خَصّ المريضَ والمسافرَ بحُكْمٍ، وهو وجوبُ العِدَّةِ من أيامٍ أُخَرَ، وخصَّ الذين يُطيقونَ الصومَ بالذِّكرِ -أيضاً- لأجْلِ الرخصةِ لهم بالإفطار، وتركَ الذينَ لا يطيقونا على أصلِ الوُجوب، ولم يذكر الفديةَ في حَقِّهم؛ لأنها معلومةٌ بينةٌ من طريق الأَوْلى والأَحرى، إما نُطْقاً، أو قياساً فيها؛ لأنها إذا قُبلَتْ من الذي يطيقُ الصومَ، فالذي لا يطيقُهُ أولى بالقبولِ. ثم نسخَ اللهُ سبحَانَهُ حكمَ التَّخْيير عن الذين يطيقونَ الصومَ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وبين الله في الآية الثانية أن المريضَ والمسافرَ باقيان على حكمهما لمَّا كان يتطرَّقُ الظنُّ إلى نسخِ حكمِهما عندَ نسخِ حُكْمِ قرينتِهما، وتَرَكَ ذكرَ الذين لا يُطيقون الصومَ؛ لعدمِ تطرُّقِ الظنِّ إلى نسخِ حكمهم؛ فإنه معلوم أنّ اللهَ -سبحانَهُ- لم يحتِّمْ عليهمُ الصيامَ؛ لأنهم لا يطيقونه، وقد قال في آخر الآية: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وتبيينُ آخرِ الكلام لأولهِ كثيرٌ في القرآن الكريم. ويعضدُ هذا ما رُوي عن معاذٍ -رضي الله عنه- قال: لما قال الله عَزَّ وجلَّ ذكرُه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، كان ¬
من شاءَ صامَ، ومن شاءَ أفطرَ وأطعمَ مسكيناً، عن كلِّ يومٍ مُدًّا. قال: ثم أوجبَ اللهُ الصيامَ على الصحيح المقيمِ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وثبتَ الإطعام على من لا يُطيق الصومَ إذا أفطرَ مِنْ كِبَرٍ. وإن قلتم: فما الدليلُ على أن الصومَ كان واجباً على من لا يطيقُ الصومَ قبل النسخِ حتى تكونَ الفديةُ بدلاً عنه؟ قلت: قولُ الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]. فإن قلتم: فالذي كُتِبَ على الذين مِنْ قبلنا مُجْمَلٌ، والناسُ يختلفون فيه؟ قلت: قد ذكرتُ الاتفاقَ من عامَّةِ أهلِ العلمِ على أن المرادَ بذلكَ فريضةُ شهرِ رمضانَ، والشيخُ الكبيرُ داخلٌ في جُمْلَةِ المؤمنين، صالحٌ لقبول الخطاب. وروينا في "صحيح البخاري": أن أَنَساً أطعم بعد ما كَبِرَ، عاماً أو عامين، كلّ يومٍ مسكيناً خُبْزاً ولَحْماً، وأفطر (¬1). وما قدمْتُه عن ابنِ عباسٍ ومعاذٍ رضيَ اللهُ تعالى عنهم. وقال مالكٌ في غيرِ روايةِ ابنِ وَهْبٍ: الآيةُ منسوخةٌ، ولا إطعامَ على الكبيرِ إذا أفطر ولم يُطِق الصومَ (¬2). ¬
ولا يخلو مالكٌ من أحدِ أمرين: - إما أنه اعتقدَ أن الشيخَ غير داخلٍ في الخطابِ المنسوخِ؛ لعدمِ استطاعتِه على الصّومِ، وخَصَّ أولَ الآيةِ بآخرها، وجعلَ المُرادَ بالمؤمنينَ المريضَ والمسافرَ والذي يطيقُ الصومَ، وهذا ضعيفٌ جِداً؛ لِما قَدَّمْتُه من أنه داخلٌ في حُكمِ الخطابِ؛ لكونِه من المؤمنينَ، وشهدَ لذلكَ اللغةُ والآثار التي قدمتُها، وشهادةُ الأصولِ في العاجزِ عن المُبْدَلِ إذا قدرَ على البَدَلِ وجبَ عليهِ الإِتيانُ به؛ كالرَّمْي في الحجِّ (¬1)، والعادمِ للماء، والعاجز عن القيام في الصلاة. - وإما أن يكونَ اعتقدَ أن حكمُ الشيخِ قد نُسِخَ كما نُسِخَ حكم الذين يطيقونَ الصومَ من التَّخْييرِ إلى الحَتْم كما نُسِخَتِ الفِدْيةُ في حقهم، فكذلك نسخ (¬2) الفديةُ عن هذا؛ إذ هو غيرُ مكلَّف بالحتمِ، فهذا غير مكلف بالصوم؛ لتعذره منه عند شهود الشهر، وغيرُ مكلفٍ بالفديةِ لكونها منسوخةً. ولهذا وجهٌ في القياسِ؛ لأن الفدية تجب عوضاً عن الصومِ الواجبِ في الذمَّة، وهو لم يجبْ عليه؛ لعدم تكليفه الصومَ، فإذا أُبطلَ المُبْدَلُ، بطلَ البَدَلُ (¬3). ¬
ويشهدُ لهُ الأصولُ أيضاً؛ فإنه مفطرٌ بعذرٍ، فلا يجبُ عليه الفِدْيَةُ؛ كالمسافرِ والمريضِ. وهذا هو الظاهرُ عنهُ في مُرادِه، رحمه اللهُ تعالى. وخلاصةُ الأمرِ عندَ من يقولُ بالنسخِ: هل النسخُ وردَ على التخييرِ وحدَهُ، وانتسخَ حكمُ الفدية تبعاً، أو وردَ النسخُ على التخييرِ والفدية؟ فمنْ قالَ بالأولِ قال: لا تخييرَ في حقِّ الشيخ، فهوَ غيرُ داخلٍ في النسخ. ومن قال بالثاني، قال: نُسِخا جميعاً، ووجبَ الصومُ على المطيقِ، وارتفعَ الوجوبُ عَمَّنْ لم يطق الصوم. * فإن قلتم: فما قَدْرُ طعامِ المسكين؟ قلت: مُدٌّ عندَ أهلِ الحجاز، ونصفُ صاعٍ (¬1) عندَ أهلِ العِراقِ (¬2). ومستندُ فقهاءِ الحجازِ أنهم وَجَدوا (¬3) أقلّ شيءٍ أُخْرِجَ وأُطْعِمَ، فجعلوه ¬
حَدًّا ومِقداراً، ويستأنسون بما ورد في بعضِ طرقِ حديثِ الكَفَّارةِ على المُجامِع في نَهارِ رمضانَ: أَنَّ العَرَقَ (¬1) الذي أُتِيَ بهِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ فيه خَمْسَةَ عَشَرَ صاعاً، فقالَ له: "خذهُ وتصدقْ بهِ" بعد أن ندبه إلى إطعام ستين مسكيناً (¬2). ومستندُ أهلِ العراقِ: فدية الأذى (¬3)، رأوها أقرب الأشياء شَبَهاً به، من حيثُ إنه يحرمُ فِعْلُهما من غير عذر (¬4)، ويجوزُ فِعْلُهما مع العذر، فدل على أنه مثله. الجملة الثالثة: قوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184]، أي: زاد على مسكين واحد، قاله مجاهدٌ وعطاءٌ (¬5)، وقيلَ: زاد عَلى القدرِ الواجبِ عليهِ، فأعطى صاعاً أو مدَّين (¬6). ¬
* وفي هذا دليلٌ على أن الرجلَ إذا أخرجَ أكثرَ من الواجبِ عليهِ أنَّ الزائدَ يكونُ تطوُّعاً. وفي ذلك خلافٌ بين العلماء، والصحيحُ أنه تطوُّعٌ (¬1). الجملة الرابعة: قولُه تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]. فيه دليلٌ لمن يقولُ بنسخ الآيةِ؛ لأنه لا يندبُ إلى الصيام وأنه خيرٌ له، إلاّ من يطيقهُ، لا من يُطَوَّقُهُ وهو غيرُ مطيق له (¬2). * * * 9 - (9) قوله جَلَّ ثناؤه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. وفيها خمس جملٍ: الأولى: قوله تعالى: {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]. استنبطَ أهلُ العلم من هذا، مع قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]: أن ليلة القدر في شهرِ رمضان. واتفقَ (¬3) أهلُ العلمِ بالقرآنِ على أن اللهَ -سبحانَهُ- أنزلَ القرآنَ من اللوحِ ¬
المحفوظِ إلى سماءِ الدنيا جملةً واحدةً، ثم أنزلهَ على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - إلى الدنيا نُجوماً (¬1). الجملة الثانية: قولهُ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. أوجب بها علينا صوم شهر رمضان، وحَتَّمَهُ على من شَهِدَ الشهرَ، والشهودُ هنا هو العلمُ والحُضور، وذلك يحصل إما برؤيةِ الصائمِ وحدَه، وإما برؤيةِ غيرِه. * أما رؤيتهُ وحدَهُ، فموجبةٌ للصيام في حقِّهِ؛ خلافاً لعطاءِ بنِ أبي رباح وإسحاق؛ فإنه حُكِيَ عنهما أنهما قالا: لا يصومُ إلا برؤيةِ غيرِهِ معه (¬2)، وهما محجوجان بنصِّ القرآن. - ثم اختلفوا، هل يفطر وحده إذا رأى هِلال شَوّال؟ فقال الشافعيُّ: يُفْطِرُ، ولْيُخْفِ فِطْرَهُ، ولا يُعَرِّضْ نفسَهُ لعقوبة السلطان (¬3). وقال مالك: لا يفطر، سداً للذَّريعةِ؛ لئلاً يقول له (¬4) مَنْ لا أمانةَ له (¬5): رأيتُ الهلالَ. ¬
وهذا منْ أصولِه، وهو من عملِه بالمَصالحِ المُرْسَلَةِ، وقولهِ بِسَدِّ الذرائع. وإلى مثلِ هذا ذَهَبَ أحمدُ والليثُ (¬1). - وهل توجبُ رؤيةُ الواحدِ الصيامَ على غيره؟ اختلف أهلُ العلم، فقال الشافعي في رواية المزني (¬2): يجبُ الصيام برؤيته (¬3). وبه قال أبو حنيفةَ (¬4)؛ لما روى ابنُ عباسٍ -رضي الله عنه- أنه جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أبصرتُ الهلالَ الليلة، فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله؟ " قال: نعم، قال: "يا بلال أذِّنْ في الناس فليصوموا غداً" (¬5). ¬
وقالَ في روايةِ البويطي: لا يجبُ إلا بشاهدين (¬1)، وبه قال مالك (¬2)؛ لما رويَ عن عبدِ الرحمنِ بِن زيدِ بنِ الخَطَّابِ: أنه خاطبَ الناس في اليومِ الذي يُشَكُّ فيه، فقال: إني جالستُ أصحابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وسألتهم، وإنهم حدثوني أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم، فأتموا ثلاثين، فإن شهدَ شاهدانِ فصوموا وأفطروا" (¬3). والعملُ بحديثِ ابنِ عباسٍ أَحْرى وأَولى؛ لأن دلالته نَصٌّ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ودلالةَ حديثِ عبدِ الرحمن مفهومٌ، ودلالةُ المفهومِ من أضعفِ الظواهر (¬4)، فلا يُعارضُ بدلالةِ النصِّ؛ وللإجماع على العمل بخبرِ العدلِ في الأمور العامَّةِ والخاصَّةِ. - ثم اختلفوا في آخره، هل هو كأوله، أو لا؟ فذهب عامَّتُهم إلى التفريقِ بينَ أولهِ وآخرِه، وأنهُ لا يُقْبَل في آخِره إلاّ عَدْلان. وذهبَ أبو ثورٍ إلى أنه يُقبل فيه عدلٌ كأوَّله. واختارهُ أبو بكرِ بنُ المنذرِ (¬5)؛ وبه أقولُ؛ لما فيه من العملِ بقولِ الثقةِ، ¬
فقد عمل أهل قُباءٍ بخبرِ العدلِ، وتحوَّلوا من قبلةٍ إلى قبلةٍ، ولصحته في القياس؛ فإنه إذا قُبِل قولُ العدلِ في دخول (¬1) العَلاَمةِ الفاصلةِ بينَ زمنِ الفِطرِ والصومِ، قُبِلَ قولُه في خُروجِه أيضاً؛ إذْ لا فرقَ. فإن قيل: هذا طريقة الشهادة، فلا بد فيه من شاهدين. قلت: هذا يبطل بقبول الواحد في أوله، فدلّ على أن طريقه الإخبار، وإن سُلِّمَ، فقد قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهادة الواحد كما قضى في هلال رمضان، وكما قضى باليمين مع الشاهد، واليمينُ في الحقيقةِ إنما هي تحقيق للدعوى، وقولِ الشاهد، وَليستْ بقولِ رجلٍ أجنبيٍّ، فوجودُ اليمينِ دليلٌ على صِدْقِ الشاهد الواحد، وعدمُها دليلٌ على وَهْمِ الشاهدِ أو كَذِبه، وليس يوجد هنا دليل يدلُّ على وَهْمِهِ أو كَذِبه، فيكون قادحاً في خبره وشهادته. * واختلفوا -أيضاً- هل يتعدَّى حكم الرؤية من بلد إلى أخرى، أو لا؟ - فذهبَ قومٌ إلى أنه يلزمُ أهلَ البلدِ الأخرى الصومُ؛ لاستواءِ الأفق في حقهم (¬2). - وذهب آخرون إلى أنه لا يلزم (¬3)، حتى اعتبر بعضُ الشافعية مسافةَ ¬
القَصْر (¬1)، واستدلوا بما أخرجه مسلمٌ عن كُرَيْبٍ: أنَّ أمَّ الفَضْل بنتَ الحارث بعثته إلى مُعاويةَ بالشامِ. قال: فقدمتُ الشامَ، وقضيتُ حاجتَها، واستهلَّ عليَّ رمضانُ وأنا بالشامِ، فرأيتُ الهِلالَ ليلةَ الجمعة، ثم قدمتُ المدينةَ في آخِر الشهرِ، فسألني عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ، ثم ذكرَ الهلالَ فقال: متى رأيتم الهلالَ؟ فقلتُ، رأيته ليلة الجمعة، فقال: أنتَ رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناسُ، وصاموا، وصامَ معاويةُ، قال: لكنْ رأيناه ليلةَ السبتِ، فلا نزالُ نصومُ حتى نكملَ ثلاثينَ يوماً، أو نراه، فقلتُ له: ألا تكتفي برؤية معاوية؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). والقولُ الأول أولى. فلقائلٍ أن يقول: حديثُ كريبٍ في غيرِ مَحَلِّ النِّزاعِ، فقد نقلَ ابنُ عبدِ البَرِّ الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما تباعدَ من البلدان (¬3). والشامُ والحجازُ في غايةٍ من التباعدِ. وقولُ ابنِ عباسٍ: هكذا أمرنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يحتملُ أن تكونَ الإشارةُ إلى الحُكْمِ المعيَّن في القصة المذكورةِ، ويكون الأمرُ صريحاً منه - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن تكونَ الإشارةُ إلى قوله: فلا نزال نصومُ حتى نكمل ثلاثين يوماً أو نراه؛ أي: في مثل هذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون أمراً ظاهراً، لا نصًّا، وهذا الاحتمال أظهر، والله أعلم. * ولما أمرنا الله -سبحانه- بالصيام عند شهادةِ الشهرِ، كانَ علينا واجباً امتثالُ أمرِه، ولا نمتثله إلا بالقصد إليه، فكان بَيِّنًا ظاهراً أنه لا يصحُّ الصومُ ¬
إلا بالنية، وبهذا قال جمهور أهل العلم (¬1)، إلا زُفَرَ (¬2)؛ فإنه قالَ: لا يحتاج في رمضان إلى نية، إلَّا أن يكونَ مُسافراً أو مَريضاً ويريدُ الصومَ. * ثم اختلف الجمهور في صفة النية. - فقالَ أبو حنيفةَ: يجبُ تعيين جنس العبادة، فإنْ نوى الصومَ مطلقاً، أو نوى صيامَ غيرِ رمضان، أجزأه، وانقلبَ إلى صيامِ رمضان (¬3). - وقال مالكٌ والشافعيُّ: يجبُ تعيينُ العِبادَة، ولا بدَّ من تعيينِ صومِ رمضانَ (¬4). * ولما كانت هذه العبادةُ متعلقةً بزمنٍ مخصوصٍ، وجبَ علينا استيفاؤه، ولا يمكن استيفاؤه إلا باستيفاء جزءٍ من غيره، وجبَ أن يكونَ محلُّ النيةِ قبلَ الفجر. وبهذا قال مالكٌ، سواءٌ كانت العبادةُ فرضاً أو نفلاً (¬5)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صِيامَ لمَنْ لا يبيِّتُ الصيامَ منَ اللَّيل" (¬6)، ولاستواء الفرض والنفل في شروطِ العبادة. ¬
وفرق الشافعيُّ بينهما، فأوجَبَ التَّبييتَ في الفرض دونَ النَّفْل (¬1)، واستدلَّ بما أخرجه مسلمٌ في "صحيحه" عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها- قالت: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ: "يا عائشةُ هل عندكم شيءٌ؟ "، قالت: قلت: يارسول الله! ما عندنا شيء، قال: "فإني إذاً صائمٌ" (¬2). وفي هذا جمع بين الأحاديث، وتنزيلها على اختلاف الأحوال؛ ولأنَّ الأصول تشهد بالتفرقة بين الفرضِ والنَّفْلِ، وأنّ النفلَ (¬3) أخفُّ من الفرض، فيجوز فعلُه من قعود، وفعلُه على الراحلِة، وإلى غير القبلةِ. وخصَّ أبو حنيفةَ وجُوبَ التبييتِ بالصوم الواجب في الذمة دون النافلة، والصوم (¬4) الواجبِ المعيَّنِ في وَقْتٍ مَخْصوص (¬5). وقولُ غيرِه أولى، وقولُ الشافعيِّ أرجح. ¬
* وبقي مسائلُ تتعلق بشهادة الشهر اختلفَ فيها أهلُ العلم: المسألة الأولى: من أدركه الشهرُ، وهو مقيم، ثم سافرَ: - روي عن علي وعائشة وابن عباس وسُويد بن غَفَلة -رضي الله تعالى عنهم-: أنهم قالوا: لا يجوزُ له الفطرُ في بقية الأيام، وبه قال عَبِيدة (¬1) السَّلْمَانيُّ (¬2)؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] أي: كله (¬3). - وذهب أكثرُ الصحابةِ إلى أنه يجوز له أن يُفطر (¬4)، ومعنى الآية: فمن شهد منكم الشهرَ كلَّه، فليصمْهُ كُلَّه. أو فمنْ شهدَ منكمُ الشهرَ، فليصمْ ما شهدَ منه، فلا تقييد في الآية، والدليلُ على ذلكَ من السنَّةِ: ما روى ابنُ عبّاسٍ -رضيَ اللهُ تَعَالى عَنْهما-: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرجَ إلى مكةَ عامَ الفتح في رمضانَ، فصامَ حتى بلغَ الكَدِيدَ، ثم أفطرَ، وأفطرَ الناسُ معه، وكانوا يأخذُون بالأَحْدَثِ فالأَحْدَثِ من فِعْلِ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). الثانية: من أصبح صائماً، ثم سافر: - قالَ أكثرُ أهلِ العلمِ: لا يجوزُ له أن يفطرَ في هذا اليوم؛ لأنه اجتمع ما يوجب الرُّخْصَةَ وما يوجبُ العزيمةَ، فغلبتِ العزيمةُ، ولأنَّ الأصولَ ¬
تشهدُ بأنَّ مَنْ تَلَبّس بعبادةٍ، لزمه إتمامُها؛ كالحَجِّ والصَّوْمِ (¬1)؛ ولقولهِ (¬2) تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. - وقالت طائفةٌ: له أن يفطر، وهو قول الشَّعْبِيِّ، وإليه (¬3) ذهب أحمدُ وإسحاقُ وداودُ والمُزَنِيُّ وابنُ المنذرِ، ولفظُ الكتابِ العزيزِ يحتملُ الأمرين، ويترجَّحُ الآخرُ منهما بما خَرَّجه أبو داودَ عن أبي بصْرَةَ الغِفاري: أنه لما تجاوزَ البيوت دعا بالسُّفرةِ، فقال راوي الحديث: فقلت: نرى البيوتَ، فقال: أترغبُ عن سنةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال جعفرٌ: فأكلَ (¬4). الثالثة: -وهي عكسُ الثانيةِ-: منْ أصبحَ مُسافراً ثُمَّ أقام: - ذهب الشافعيُّ ومالك إلى جواز تماديه على فِطرِه؛ لوجودِ السببِ (¬5) المُبيح للفطر (¬6). - وذهبَ أبو حنيفةَ إلى وجُوبِ الإمساك؛ تغليباً للحَظْر على الإباحة، والعزيمةِ على الرخصة (¬7). ¬
* إذا تمَّ هذا فقد بيَّنَ لنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنّا إذا لم نر الهِلالَ، أكملْنا عدةَ شعبانَ ثلاثين يوماً، ثم نصومُ رمضانَ، وحَرَّمَ علينا أن نتقدَّمه بيوم أو يومين (¬1)، وقال: "إذا انتصفَ شعبانُ، فلا صيامَ حتى يكونَ رمضان" (¬2)، وحرَّمَ علينا صومَ يومِ الشَّكِّ، وقال: "من صامَ اليومَ الذي يُشَكُّ فيه، فقدْ عَصى أبا القاسِم" (¬3). الجملة الثالثة: قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، وقد مضى الكلام عليها قريباً. الجملة الرابعة: قولهُ -عزّ وجل-: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} لتكملوا عدد أيام الشهرِ بقضاءِ ¬
ما أفطرتم في صومِكم وسفركم (¬1). قال الشافعيُّ: سمعتُ من أرضاهُ من أهلِ العلم يقولُ في قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}: عدة رمضان، {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} عند إكماله (¬2)، وقال عطاء: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}، أي: عددَ أيام الشهر (¬3)، وهو كالتأويل الذي رواه الشافعيُّ، ويستأنسُ له بما روى ابنُ عمر -رضي الله تعالى عنهما -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشهر تسعٌ وعشرون يومًا، فلا تَصوموا حَتَى تَرَوُا الهلالَ، ولا تفطروا حتى تَروهُ، فإنْ غُمَّ عليكم، فأكملوا العدَّةَ ثلاثين" (¬4). الجملة الخامسة: قولهُ -عَزَّ وجَل-: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}. قال ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: هي تكبيراتُ ليلةِ الفِطْر (¬5). ¬
* وقد اختلفَ أهلُ العلم فيها. - فذهبَ داودُ إلى وُجوبها (¬1). - وقال أكثرُ أهلِ العلمِ: هو مستحبٌّ، وليس بواجب (¬2). - وعن ابنِ عباسٍ: يكبرُ مع الإمامِ ولا يكبِّر (¬3) المنفردُ (¬4). - وعن أبي حنيفةَ: يكبِّرُ في الأضحى، ولا يكبِّر في الفطر (¬5)، وهو محجوجٌ بالآية. * واختلفَ القائلونَ بالتكبير في ابتدائهِ. - فقال مالكٌ والأوزاعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ: لا يكبرُ ليلةَ الفطرِ، وإنما يكبرُ عندَ ذهابه إلى المُصَلَّى (¬6)؛ لما روى ابنُ عمرَ -رضيَ الله تعالى عنهما-: أنَّ ¬
النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يخرجُ يومَ الفِطر، والأضحى رافعًا صوتَهُ بالتهليل والتكبيرِ، فيأخذُ طريقَ الحدّادينَ حتى يأتيَ المُصلَّى (¬1). وفي لفظٍ آخرَ عنه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يكبرُ يومَ الفطرِ منْ حينِ يخرجُ من بيتهِ حتى يأتيَ المُصَلَّى (¬2). وفي لفظٍ آخرَ: أنه كان إذا غَدا إلى المُصَلَّى يومَ العيدِ، كَبَّرَ فرفَعَ صوتَه بالتكبير (¬3). - وقال الشافعي: يكبرُ بعدَ غروبِ الشمسِ ليلةَ الفطرِ (¬4)، ورواهُ عن ابنِ المسيِّبِ وعروةَ وأبي سَلَمَةَ، و (¬5) أنهم كانوا يكبرون ليلةَ الفطرِ، يجهرون بهِ (¬6)، وبه قال سائرُ فقهاءِ المدينةِ. وابنُ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما- رأى ¬
النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يكبرُ عندَ خروجهِ، فأخبر بذلك، وذلك لا ينفي أنه كان لم يُكَبِّرْ قبلَ ذلك. * وأما انتهاءُ وقتِ التكبير، ففيه اختلافٌ أيضًا (¬1). * * * 10 - (10) قوله جَلَّ ثنَاؤه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] ¬
وفي هذه الآية، ثلاثُ جمل: الجملة الأولى: أن الرفثَ في هذه الآية هو الجِماع بالاتِّفاق (¬1)، أحَلَّه اللهُ تَعالى باللَّيْل، وقد كانَ حرامًا في صَدْرِ الإسلام بعدَ النومِ، وحَرَّمه بالنهار (¬2)، وبيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ منْ جامعَ في نَهارِ رمضانَ أنَّ عليه الكفّارةَ، وصفتُها في حديث الأعرابي المخرج في "الصحيحين" (¬3). * والمباشرةُ التي أباحها الله بالليل، وحَرَّمها بالنهار، هي الجماع بالاتِّفاق (¬4). * واختلفوا فيما ما دونه؛ كالقُبلة: - فذهب الشافعي إلى جوازه (¬5)، واستدل برواية عائشةَ -رضي اللهُ ¬
تعالى عنها- ذلك من فعلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالت: ولكنْ كانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ (¬1). - ومنهم من حَرَّمها مطلقًا، وروي عن الشافعيِّ -أيضًا (¬2)، وحملَ الحديثَ على خصوصيته - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قالت عائشةُ -رضيَ الله تعالى عنها-: ولكنَّه كانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ. - ومنهم من فَرَّقَ بينَ الشيخِ والشّابِّ، [فأحلَّها للشيخ دونَ الشَّابِّ؛ لكونهِ أملكَ لإرْبِهِ، بخلافِ الشَّابِّ] (¬3). والصحيحُ هو الأولُ؛ لما روى مالكٌ، عن زيدِ بنِ أَسْلَمَ، عن عطاءِ بن يسار: أنَّ رجلًا قَبَّلَ امرأتَهُ وهو صائِم، فوجد من ذلك وَجْدًا شديدًا، فأرسلَ امرأتَهُ تسألُ عن ذلك، فدخلت على أمِّ سلمةَ أمِّ المؤمنين، فأخبرتْها، فقالتْ أمُّ سلمةَ -رضي الله عنها-: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّلُ وهو ¬
صائِمٌ، فرجعتِ المرأةُ إلى زوجِها، فأخبرتهُ، فزاده ذلك شَرًّا، وقال: لَسْنا مثلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يُحِلُّ الله لِرَسولهِ ما شاء، فرجعت المرأةُ إلى أم سلمةَ، فوجدت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عندها، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ما بالُ هذهِ المرأة؟ "، فأخبرته أمُّ سلمةَ، فقال: "ألا أخبرتيها أَنِّي أفعلُ ذلكَ؟ "، فقالت (¬1) أم سلمة: قد أخبرتها، فذهبت إلى زوجها، فأخبرته، فزاده ذلك شرًا، وقال: لسنا مثلَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، يُحِلُّ الله لرسوله ما شاء، فغضبَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "واللهِ إنِّي لأَتقاكُم لله، وأَعْلَمُكُم بحُدودِه" (¬2). قال الشافعيُّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: وقد سمعتُ من يصلُ هذا الحديثَ، ولا يحضرُني ذكرُ من وَصَله (¬3). الجملة الثانية: أحل الله -سبحانه- لنا الأكل والشربَ في ليلةِ الصيام بعد أن كانَ حَرامًا إلى أن يتبيَّنَ لنا طلوعُ الفجرِ الثاني، بل طلبهُ من فعلِنا ابتداءً من غير أن يتقدمَ الطلبَ تصريحٌ بقصدِ التحليلِ والإباحة كما فعل في تحليل الرفث. ئم بيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - عن الله تبارك وتعالى أنّ أمرَهُ وطلبه على الندب، فَكَرِهَ الوِصالَ (¬4)، وحثَّ على تعجيل الإفطار، وحث على السَّحورِ، وعلى ¬
تأخيرهِ، فقال: "لا تزالُ أمتي بخيرٍ ما عَجَّلُوا الفِطْرَ (¬1) وأخَّروا السّحورَ" (¬2). * وفي هذه الآية دليل على جواز الصوم لمن أصبح جنبًا، ووجه الدلالة من طريق الإشارة والاستلزام، وذلك أن الله -تباركَ وتعالى- أباحَ الجِماع إلى أن يتبين الخيطُ الأبيض من الخيطِ الأسود، ومعلوم أن من جامعَ قبلَ الفجرِ بلحظةٍ أنه لا يُدرِكُ فيها الاغتسال، وإنما يقعُ غسلُه بعدَ الفجر. وقد روى ذلكَ من فعلِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشةُ وأمُّ سلمةَ -رضي الله تعالى عنهما (¬3) - وبذلك قال أكثرُ العلماء، واتفق عليه الفقهاءُ حتى صار إجماعًا، أو كالإجماعِ (¬4). ¬
وقال الحسنُ وإبراهيمُ وسالمُ بنُ عبد الله وعروةُ وعطاءُ وطاوسٌ: يصومُ ويقضي (¬1). وروي عن أبي هريرةَ -رضي الله تعالى عنه-: أنه كانَ يقولُ: من أصبحَ جُنُبًا في رَمضانَ، أفطرَ (¬2)، وقال: ما أنا قلتُه، قالَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورَبِّ الكعبةِ! (¬3) ويروى (¬4) عنه أنه قال: لا عِلْمَ لي بذلكَ، إِنَّما أخبرَني مُخْبِرٌ (¬5). وخرَّجَ مسلم في "صحيحه": أن أبا هريرة رجعَ عَمَّا كان يقول في ذلك (¬6). والعملُ بحديثِ عائشةَ وأمِّ سلمةَ أَولى؛ لأنَّ روايةَ اثنين أرجحُ من رواية واحدٍ، ولتقدمِ عائشةَ في الحفظِ والفِقْه، ولكونِ أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرفَ بهذا من رجلٍ إنما يعرفه سماعًا أو خبرًا، وبشهادة الأصول لحديثهما في غسل الطِّيبِ للمُحْرِمِ بعد الإحرام؛ إذ لا يجب تقدُّمه قبل الإحرام، ولاتِّفاقِ روايتهِمِا واختلافِ روايتِه. ¬
- ثم اختلف القائلون بقول أبي هريرة، فرويَ عن أبي هريرةَ أنه قالَ: إذا عَلِمَ بجنابته، ثم نام حتى يصبحَ، فهو مُفْطِرٌ، وإن لم يعلمْ حتى يصبحَ (¬1)، فهو صائم (¬2). ورويَ عن عطاءٍ وطاوس وعروةَ. ومنهم من قال: إنه يقضي في الفرضِ دون النفل. ورويَ (¬3) عن الحَسَنِ وإبراهيمَ (¬4). والجميع محجوجونَ بقولِ عائشةَ -رضي الله تعالى عنها-: كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يدركُه الفجرُ في رمضانَ وهو جُنُبٌ من غير حُلُمٍ، فيغتسلُ ويصومُ (¬5). * وفي الآية دليلٌ على أن الحكم معلقٌ بالفجرِ الثاني المُسْتَطِيرِ الأبيضِ لا الأحمرِ (¬6). وهو قولُ عامَّةِ أهلِ العلمِ من الصَّحابةِ والتابعين. ورويَ عن حذيفةَ: أنه لما طَلَعَ الفجرُ، تسحَّرَ ثم صَلَّى. وروى النسائي: أنه قيل لحذيفة: أيَّ ساعةٍ تسحرتَ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هو النهارُ، إلا أن الشمسَ لم تطلُع (¬7). ¬
وروي مثلُ قولهِ عن عثمانَ وابنِ عباس وطَلْقِ بِنِ عَلِيٍّ. ورويَ معني ذلك عنِ ابنِ مسعودٍ، وعنْ مسروقٍ أنه قالَ: لم يكونوا يَعُدُّون الفَجْرَ فجْرَكُمْ هذا، إنما كانوا يَعُدُّون الفجرَ الذي يملأ البيوتَ والطرقَ (¬1). وحكيَ عنِ الأعمشِ وإسحاقَ: أنهما قالا بجواز الأكل والشرب إلى طلوع الشمس (¬2). ¬
* وفيها دليلٌ على أن الحكمَ مُعَلَّقٌ (¬1) في المواقيتِ بالإدراكِ الحِسِّيِّ، لا الإدراك العقلي؛ فإنَّ وقتَ الفجرِ يدخُلُ قُبيلَ التبيُّنِ قَطْعًا ويقينًا، ولم يعلِّقِ اللهُ -سبحانَهُ- الحُكْمَ به، وإنما علَّقه بالتبيُّنِ؛ لُطْفًا بعباده (¬2). وذهب بعضُ المالكية إلى أنه يجب الإمساكُ قبيلَ الطُلوع (¬3)، وهو محجوجٌ بالآية، وبما رويناه في "صحيح البخاري": أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلوا واشربوا حتى يُنادِيَ ابنُ أُمِّ مكتوم" (¬4)، وقد عُلم أنه لا يُنادي إلا حينَ يطلعُ الفَجْر. ¬
* وفيها دليلٌ على أن الصائمَ إذا أكلَ وهو يشكُّ في طُلوعِ الفَجْر، ولم يتبينْ لهُ الحالُ، بل استمرَّ على شَكِّه: أنّه لا يضرُّهُ الشَّكُّ، لأن اللهَ -تعالى- أباحَ الأكلَ والشربَ إلى أن يتبينَ لنا الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ، وعلق الحكم على التبيُّنِ لنا، لا على التبيُّن في نفس الأمر (¬1). وقال قومٌ: الحكمُ معلَّقٌ على التبيُّنِ نفسِهِ من غيرِ تعليقٍ بنا، فلا يجوز لهُ الأكلُ، وإنْ أكلَ لَزِمَهُ القضاءُ، وبه قال مالكٌ قياسًا على غُروبِ الشمسِ وعلى سائرِ الأوقاتِ الشرعيَّةِ (¬2)؛ كالزوالِ وغيرِه، وهو ضعيفٌ؛ لوضوحِ الفرق؛ فإن هذا مستديمٌ لحالِ (¬3) الإباحة والإذن؛ كالذي غُمَّ عليه هِلالُ رَمضان، والآخرُ مستديمٌ لحال النَّهْيِ والمنعِ. * وفيها دلالةُ نَصٍّ على أن اللهَ -سبحانَهُ وتعالى- أوجبَ علينا إتمامَ الصومِ إلى الليلِ، وهو إجماعٌ (¬4)، ويحصلُ بغروب الشمس (¬5). ¬
* وفيها دليل على أن الصائمَ إذا أكلَ وهو يشُكُّ في غروبِ الشمس أنّهُ يبطُلُ صومُهُ؛ لأنه لم يَتيقَّن إتمامَ الصِّيامِ إلى الليل، وهو مستصحبٌ حالَ النهيِ عن الأكل والشربِ، وسواءٌ تبيَّنَ له الغروبُ أو (¬1) لم يتبين (¬2). * وفيها دليلٌ على أنه إذا اعتقد دخولَ الليل، فأفطر، ثم ظهرتِ الشمسُ، أنَّه يبطل صومُه وعليهِ القضاءُ؛ لأنه لم يتمَّ الصِّيام إلى الليل. وبهذا قال أكثر أهل العلم، ومنهم الشافعيُّ ومالكٌ وأبو حنيفةَ. ومنهم من ألحقهُ بالناسي، وبه قال الحسنُ وإسحاقُ وأهلُ الظاهر (¬3)، ويروى عن عمر رضي الله تعالى عنه (¬4). الجملة الثالثة: قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، وقد اشتملت هذه الآيةُ على ثلاث مسائل: الأولى: نهانا الله تعالى عن المباشرةِ في حالِ الاعتكافِ، والمباشرةُ تقع على الوِقاع، وعلى ما دونهُ بشهوة وبغير شهوة، إما اشتراكًا، وإما حقيقة ومجازًا، وقد (¬5) بيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ المباشرةَ بغيرِ شَهْوَةٍ غيرُ مُرادةٍ للهِ -تباركَ ¬
وتَعالى- فقدْ كانَ يُدني رأسَه إلى عائشةَ فَتُرَجِّلُه (¬1). ولاشكَّ أَنَّ الوِقاعَ مُرادُ اللهِ تباركَ وتعالى. * واختلف أهل العلم في المباشرة بشهوة (¬2). - فذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تفسد، إلا أن يُنْزِلَ (¬3)، وحمل اللفظ إما على أحد معانيه، وإما على حقيقته دون مجازه. - وذهب مالكٌ إلى أنه يفسد الاعتكاف سدًا للذَّريعة (¬4)، وبه قال الشافعي في أحد قوليه (¬5)؛ لجوازِ حمل اللفظِ المشترَكِ على جميع معانيه. الثانية: وفيها دليلٌ على أنه لا يجوز الاعتكافُ إلا في المسجد؛ لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، ولبيان النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فلم يعتكف إلا في المسجد، وعلى هذا اتفق أهل العلم (¬6). ¬
وقال بعضهم: يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها (¬1). وَشذ بعضهم، فروي عنه أنه يصح (¬2) في غير مسجدٍ (¬3)، والمخصوصُ بالمساجدِ إنَّما هو منعُ المباشرةِ المنافيةِ لحُرْمَةِ المسجد، وهو مَحجوجٌ بالسنَّةِ والإجماع. * ثم اختلفوا في تعميم المساجد وتخصيصها، فحكي عن عليٍّ -رضي الله عنه- وحمَّاد: أنهما قالا: لا يصح إلّا في المسجد الحرام (¬4). [وقال عطاء: لا يصحُّ إلا في المسجدِ الحرام] (¬5) ومسجدِ المدينةِ (¬6). وقال حذيفةُ وسعيدُ بن المسيِّب: لا يصحُّ إلا في مسجدِ بناه نبيٌّ من الأنبياء؛ كالمسجد الحرام، ومسجدِ المدينة والمسجدِ الأقصى (¬7). ¬
وقال ابن مسعود والزهري وعروة وابن عُتَيبة (¬1) وحمّاد لا يصحُّ إلَّا في مسجدٍ تقام فيه الجمعة، وبه قال مالك في رواية ابن الحكم عنه، ويروى عن علي رضي الله عنه (¬2). وقال أحمد: لا يصحُّ إلا في مسجدٍ تقام فيه الجماعة (¬3). وقال قومٌ: يصحُّ في جميع المساجد، وبه قال الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، والثوريُّ، ومالكٌ (¬4) وداود، واختاره ابنُ المنذر، ويروى عن سعيدِ بن جبير وأبي قِلابة (¬5). والخِطابُ يدل عليه؛ فإنه عمَّ المساجدَ، ولم يخصَّ مسجدًا بعينه. ويحتملُ أن الخطابَ من العامِّ الذي أُريِد به الخاصُّ، وهو معهودٌ في الشرعِ (¬6)، بدليلِ قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18]، وأراد المسجد الحرام. الثالثة (¬7): ذكر الله -سبحانه- الاعتكافَ مقرونًا بذكر الصيام، وكان ¬
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعتكفُ في شهرِ رمضانَ العَشْرَ الوسطَى (¬1)، ثم اعتكفَ العشرَ الأخير (¬2). - فمن أهلِ العلم من اشترطَ الصومَ في الاعتكاف، واسْتَأنسَ بكونهِ مقرونًا بذكر الصوم، وبأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعتكفَ صائمًا، وبهذا قال مالكٌ وأبو حنيفةَ وأحمدُ، والشافعيُّ في القولِ القديم، ويروى عن عائشة وابنِ عباس وابن عُمَرَ (¬3). - ومنهم من لم يشترطِ الصِّيامَ، ورأى أن صومَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جرى بحكم الاتِّفاقِ؛ فإن صومَ رمضانَ لا يصلح لغيره، واستدلَّ بما خرَّجه البخاريُّ في "صحيحه": أن عمرَ -رضيَ اللهُ عنه- قال: يا رسول الله! إني نذرتُ أنْ أعتكفَ ليلةً في الجاهليَّةِ، فقال له: "أَوْفِ بِنَذْرِكَ" (¬4). ¬
والليلُ ليسَ مَحَلًا لصيامٍ، وبهذا قالَ الشافعيُّ وأحمدُ في أحد قوليه (¬1)، وروي (¬2) عن علي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما (¬3). وأما الاقترانُ، فلا يوجب للقرين حكمَ قرينه (¬4)؛ كما قرره أهل النظر. * ولأجلِ اختلافِهم في (¬5) اعتكافِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - العشرَ الأواخرَ، هل جرى بحكم الاشتراط أو الاتفاق، اختلفوا في أقلِّ الاعتكافِ: فقال بعضُ المالكية: أقلُّهُ يوم. وقال بعضهم: أقلُّه عشرة أيام (¬6). وعامةُ الفُقهاء على (¬7) أنه لا حَدَّ لهَ (¬8). * * * ¬
من أحكام القضاء
(من أحكام القضاء) 11 - (11) قوله جل جلاله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]. * حرَّم اللهُ -جل جلالُه- في هذه الآية أَكْلَ المالِ بالباطلِ، وحرَّمَ المُخاصَمَةَ فيهِ، والرشوةَ عليه. * وفي الآية دليل على أن حكم الحاكم لا يُحِل حَرامًا، ولا يُحرِّمُ حَلالًا، وإنما ينفُذُ في الظَّاهِرِ، ولا يغير حُكما شرعيًا في الباطن. قال الشافعيُّ: فحُكْمُ القاضي لا يجعلُ الحلالَ على واحدٍ من المَقْضِيِّ له والمَقْضِيِّ عليه حرامًا، ولا الحرامَ حلالًا، فالحلالُ والحرامُ على ما يعلمُ الله، والحكمُ على ظاهر الأمر (¬1). وكان القاضي شريح يقول للرجلِ: إني لأقضي لك، وإنِّي لأَظُنُّك ظالمًا، ولكن لا يسعُني إلا أن أقضيَ بما يحضرني من البيِّنة، وإن قضائي لا يُحِلُّ لك حرامًا (¬2). ¬
وبهذا قال مالكٌ وأحمدُ وجماهيرُ علماء الإسلامِ من الصحابة والتابعين (¬1)، فإذا شهدَ شاهدانِ بالزورِ أنَّ رجلًا طَلَّقَ امرأتَهُ، لم يَحِلَّ لمنْ علمَ كَذِبَهُما أنْ يتزوَّجَها بعد حكمِ الحاكم بالطلاق. وقال أبو حنيفةَ: يُحِلُّ حكمُ القاضي الفروجَ دونَ الأموال (¬2)، وقال: يحلُّ (¬3) المذكورةَ؛ كالمُلاعَنَةِ؛ فإنه لما حكمَ الحاكمُ بشهادتِهما، فرَّقَ بينهما، وحلَّت للأزواج، وإن كانتْ كاذبةً في الباطن الذي لو لم تُدْلِ (¬4) به، لَوَجَبَ عليها الحَدُّ، ولَم تثبتِ الفرقةُ لها على زوجها. * واختلفتِ الشافعيَّةُ فيما إذا وقع حكمُ الحاكمِ في أمرٍ يسوغُ فيه النظرُ والاجتهادُ، هل ينفُذُ في الظاهرِ والباطن؟ وذكروا ذلك فيما إذا قضى الحنفيُّ للشافعيِّ بشفعةِ الجوار (¬5). ¬
* والإثمُ: قال فيه ابن عباس -رضي الله عنهما-: هو اليمينُ الكاذبة (¬1). وقيل: الرشوة. وقيل: شهادةُ الزور أقيم المسبَّبُ مقامَ السبب في ذلك. وكلُّه حرامٌ بالاتَفاق. روينا (¬2) في "الصحيحين": أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سمع جَلَبَة (¬3) خَصْمٍ بباب حُجرته، فخرج إليهم، فقالَ: "ألا إنما أنا بشرٌ، وإنما يأتيني الخَصْمُ، فلعلَّ بعضَكُم أنْ يكونَ أبلغَ من بعضٍ، وأَحْسَبُ (¬4) أنه صادِقٌ، فأقضيَ له، فمنْ قضيْتُ لهُ بِحَقّ مُسْلِمٍ، فإنما هي قطعةٌ من النار، فَلْيَحْمِلْها أو يَذَرْها" (¬5) * * * ¬
من أحكام الجهاد
(من أحكام الجهاد) 12 - (12) قوله جل جلالُه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]. * أحسنُ القولِ في هذه الآيةِ قولُ ابن عباسٍ ومجاهدٍ وعمرَ بنِ عبد العزيزِ -رضيَ الله تعالى عنهم-، وهو أن اللهَ -سبحانَه وتَعالى- أوجبَ على المؤمنين قِتَال المُخالفين لهم في الدِّين الذين فيهم مقدرةٌ على القِتال، ونهاهم عن الاعتداء بقتلِ الذينَ لا قِتالَ فيهم؛ كالصبيانِ والنساءِ والشيخِ الكبير. وقد بيَّنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فنهى عن قتل النِّساء والولدان لمَّا بعثَ إلى ابنِ أبي الحُقَيقِ (¬1). فالآيةُ على هذا القول محكَمَة لا نسخَ فيها. وقال قومٌ: هذه الآية (¬2) أولُ آيةٍ نزلتْ في القتال، أبيح لهم أن يُقاتلوا مَنْ قاتلهم، ولا يَعْتَدوا فيقاتلوا من لم يقاتلْهم، ثم نُسِخَ النهيُ عن ¬
قتالِ من لم يقاتلهم بالأمرِ بالقتل والقتال (¬1). والقولُ بالنسخِ مع وجودِ التأويلِ ضعيفٌ لا يُصارُ إليه إلا بتوقيفٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وتحتملُ الآيةُ عندي تأويلًا حسنًا ظاهرًا، وهو أن يكونَ أمرَهُم اللهُ -تبارك وتعالى- بقتالِ الذين يُقاتلونهم عند المسجِد الحَرام إذا قاتلوهم فيه، ولا يعتدوا فيقتلوا (¬3) من لم يقاتلْهم ابتداءً. ويشهد لهذا التأويلِ ويقوِّيه قولُه -سبحانه وتعالى-: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191]، وقولهُ عزَّ وجلَّ: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. ويكون المرادُ بـ "سبيلِ الله": المسجدَ الحرام؛ كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 217]. ثم وجدتُ -بعد وضعي لهذا الكتابِ بأحوال- بعضَ المفسرينَ الحُفَّاظ قدْ جعلَ هذا التأويلَ تفسيرًا، وقال: نزلت هذه الآيةُ في عُمْرَةِ القَضاء لمّا خاف المسلمون غَدْر الكُفار لمَّا شَرَطوا أن يُخْلوا لهم مكةَ في العامِ القابل ¬
بعد عام الحُدَيْبيَةِ، وكرهوا (¬1) القتالَ في الشهر الحرام. ولكنه لم يسنِدهُ ولم يَعْزُ إلى أحَدٍ (¬2). * * * 13 - 14 (13 - 14) قوله عزَّ وجَلّ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 191، 192]. -: {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}: حيثُ وجدتموهم. - {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} يعني: مكة المشرَّفةَ، شرفَها اللهُ الكريمُ وعظَّمها. {والفتنة} هنا هي الشرك، مُقْتصٌّ من قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]، وقوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]. * ثم اعلموا -يرحمكم اللهُ الكريم وإياي-: أنَّ القولَ في هذه الآية من أشدِّ الأمورِ وأصعبِها وأكربها. وها أنا أحكي أقوال أهل العلم، وأتكلمُ على منتهى فَهْمي، وأستعين اللهَ الكريَم وأستهديه؛ إنه وليُّ ذلك، والقادر عليه. فأقول: اعلموا أنَّ العرب كانت تحرم القتل والقتال في المسجد ¬
الحرام، وفي الأشهر الحُرُمِ، وكان ذلك مِمَّا تَمَسَّكوا به، وبَقُوا عليه من دين إبراهيم -عليه الصلاةُ والسلامُ-. وكان الأمرُ كذلكَ في صدرِ الإسلامِ بشرعٍ من الله -جل جلاُله- فقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]. ثم أمر الله سبحانه المؤمنين بقتل المشركين حيث ثَقِفوهم (¬1)، وذلك عامٌّ في جميع الأمكنة؛ المسجدِ الحرامِ وغيرِه، وأمرهم بإخراجهم من حيثُ أخرجوهم، وذلك نصٌّ في مكان مكة المعظمة -شرَّفَها الله العظيمُ وعظَّمها- ولكن الأمر بالقتل والإخراج مطلَقٌ في الأزمان والأحوال. ثم بيَنَ اللهُ سبحانَه للمؤمنين هذا الإطلاق، فقال: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191]، فحرم الابتداء بقتالهم عند المسجد الحرام حتى يقُاتِلوا فيه ويَهْتِكوا حُرْمَته، فيُقتصُّ منهم فَتُهتك حُرْمَتُهم فيه؛ كما قال سبحانه: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. * فإن قلتم: فما الحكم في القتال في المسجد الحرام مع الكفار والبغاة -حرسه اللهُ الكريمُ وطهَّره- فهل (¬2) يجوز الآن إذا تغلبوا، أو لا يجوز كما كان في صدر الإسلام؟ قلت: اختلفَ أهلُ العلمِ في ذلكَ: ¬
- فقال مجاهدٌ وطاوسٌ وقومٌ من الفقهاء: لا يجوزُ قتالُهم في الحَرَم (¬1). وبهِ قالَ القَفَّال شارحُ "التلخيص" من الشافعيّة (¬2). وحَكى الماورديُّ من الشافعيَّةِ أَنَّ من خصائصِ الحَرَم ألّا يحارَبَ أهلُهُ، وإن بَغَوْا على أهل العدل، فقد قال بعضُهم: يحرُمُ قتالُهم، بل يُضَيَّقُ عليهم حَتَّى يرجِعوا إلى الطاعة، ويدخلوا في أحكام أهل العدل (¬3). ولهم من الدليل: هذه الآية، وما في معناها، ومن السنَّةِ ما رويناه (¬4) في "الصحيحين" عن أبي شريح العَدَويِّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- أنه قال لعمروِ بنِ سعيدِ بنِ العاص، وهو يبعثُ البُعوثَ إلى مكة-: اِئْذَنْ لي أيُّها الأمير أن أُحدِّثَكَ قولًا قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغدَ من يومِ الفتحِ، فسمعته أُذنايَ، ووعاهُ قلبي، وأَبْصَرَتْهُ عيناي حينَ تكَلَّمَ به؛ إنه حَمِد اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: "إن مَكَّةَ حَرَّمَها اللهُ ولم يُحَرِّمْها الناسُ، فلا يحلُّ لامرئٍ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ أن يَسْفِكَ فيها (¬5) دمًا، ولا يَعْضِدَ (¬6) بها شجرةً، فإنْ ¬
أحدٌ تَرَّخص لقتالِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقولوا (¬1): إن الله قد (¬2) أَذِنَ لرسوله، ولم يأذنْ لكم، وإنما أَذِنَ لي ساعةً (¬3) من نَهارٍ، وقد عادتْ حرمتُها اليومَ كحرمتِها بالأمسِ، فَلْيُبلِّغِ الشاهدُ (¬4) الغائبَ" فقيل لأبي شريح: ما قال لك؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح! إن الحرمَ لا يُعيذُ عاصيًا ولا فارًّا بدم، ولا بخربة (¬5). وهذا نصٌّ مكررٌ مؤكَدٌ في هذا الحديث الصحيح يدلُّ على تحريمِ قتالِ أهلِ مكَّةَ، وقتالُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنما كان مع المشركين. وأما قولُ عمرٍو: أنا أعلمُ بذلك منك، إن الحرَم لا يعيذُ عاصِيًا ولا فارًّا بدمٍ، ولا بخربة، فمن كلامه (¬6). ¬
- وقال أكثرُ أهلِ العلم: يقاتَلون (¬1) , وأجابوا عن الآية الكريمة بأنها منسوخةٌ. واختلفوا في الناسخ لها: (¬2) فقال قَتَادَةُ: هي منسوخةٌ بقوله تعالى: [{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (¬3) [البقرة: 193]. وقال قوم (¬4)، هي منسوخة بقوله تعالى] (¬5): {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬6) [التوبة: 5]، و (براءة) نزلتْ بعدَ البقرةِ بِمدَّةٍ طويلةٍ. ¬
وما ذكر هؤلاءِ من النسخِ بآية (براءة) غيرُ مستقيم، لوجوهٍ: أحدها: أنَّ قولَ الله سبحانه في سورةِ المائدة: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] يوافق آيةَ البقرة، والمائدة (¬1) نزلت بعد (براءة) في قولِ أكثر أهل العلم بالقرآن. وثانيها: أن آيةَ (براءة) تدلُّ على تعظيم الأشهر الحرم، فقال: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وما شأن الشهرِ الحرامِ والبلدِ الحرام إلا واحد. وثالثها: أن (حَيْثُ) كلمةٌ تدلُّ على المكان، ولكنها عامةٌ في أفراد الأمكنة، فتكونُ على عمومها، وآية البقرة نَصٌّ في النهي عن القتال في مكانٍ مخصوص، وهو المسجدُ الحرام، فيقضى بخصوصها على عموم آية (براءة)، وإن تأخر نزول (براءة) عن سورة البقرة، فلا تعارضَ بين الآيتين، فلا نسخَ، بل كل آية منهما حكمها في حالٍ غيرِ الحالِ الذي فيه حكمُ الآية الأخرى، ويكونُ التقدير: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، إلا أن يكونوا في المسجد الحرام، فلا تقاتلوهم (¬2) فيه حتى يقاتلوكم فيه. ألم يرَ هؤلاء إلى صدرِ آية البقرةِ كيفَ يوافقُ لفظُها لفظَ آية (براءة)، ويزيد عليه في التصريح والبيان قوله -سبحانه-: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة: 191]، ولم يكنْ أولُ الآيةِ مُناقِضًا لآخرها، فلا يجوز أن تكون آيةُ (براءة) ناسخةً لهذه الآية. - وأما قولُ قتادة، فإن صحَّ له النقلُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها ناسخةٌ له (¬3)، ¬
فهو المعتمَدُ، ولا يصحُّ ذلكَ مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فهو حَرامٌ بحُرْمَةِ اللهِ إلى يومِ القيامةِ" (¬1)، إلَّا على قولِ بعضِ أهل العلم بالنظرِ والاستدلَال (¬2). - وأما الجمعُ بين الآيتين فظاهرٌ، وذلك أنَّ قولَه تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] مطلق في الأمكنة والأزمنة والأحوال، وآية (¬3) البقرة مقيَّدَةٌ ببعضِ الأمكنةِ، فيقضى بالمُقَيَّدِ على المُطْلَقِ، ويكون التقدير: فقاتلوهم في غيرِ المسجدِ الحرامِ حتى لا تكونَ فتنة. وإذا أمكن الجمعُ فلا نسخ. - وأما الجوابُ عن حديث أبي شريحٍ -رضي الله تعالى عنه- فقيل: إنَّ الشافعيَّ -رحمه اللهُ تعالى- أجابَ عنه وعن مثله بأنَّ معناهُ تحريمُ قِتالهم بما يَعُمُّ؛ كالمنجنيقِ، وغيره، إذا لم يكنْ إصلاح الحال إلا (¬4) بذلك، بخلاف ما إذا اتحصَّن (¬5) الكفارُ في بلدٍ آخرَ؛ فإنه يجوزُ قتالُهم على كلِّ وجهٍ و (¬6) بكلِّ شيء (¬7). ¬
وهذا التأويلُ فاسدٌ؛ لمعارضةِ النصِّ الصَّريحِ في بيانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الخصوصية (¬1) بإحلالها لهُ ساعةً من نَهار، وتحريم ذلكَ على غيرهِ تحريمًا مطلقًا. فقال: "وإن أحدٌ ترخَّصَ لقِتال رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقولوا: إن اللهَ أذِنَ لرسولهِ، ولم يأذنْ لكمْ" (¬2)، والذي أذن فيه للرسول - صلى الله عليه وسلم - إنَّما هو مطلقُ القتال لا القِتالُ المخصوص بالذي يَعُمُّ. وأيضًا لم يكنْ قتالُهُ - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة بما يَعُمُّ. وليس له في تأويله دليلٌ على تخصيص الحديث بما ذكر، بل الحديثُ نصٌّ في أنّ لمكَّةَ المعظَّمَةِ -عظَّمها اللهُ سبحانه- حرمةً مطلقة لا تقييد فيها، وبعيدٌ أن يصحَّ مثلُ هذا عن الإمامِ أبي عبدِ اللهِ الشافعي -رحمَهُ اللهُ تعالى-، وفي ظَنِّي أنه أجابَ عن الأحاديثِ في قتله للملتجئ إلى الحرم: بأن الذي نُهِيَ عنهُ القِتالُ العامُّ، لا القَتْلُ الخاصُّ بِحَقٍّ، فنُقِل مِن ثَمَّ إلى هُنا بالمعنى، ونُسِب إليه، والله -سبحانه- أعلم بذلك. ثمَّ بعد كتبي (¬3) لهذا الكتاب بثلاثة أحوال وجدْتُ قولَ الشافعيِّ كما ظننتُهُ، وبخلافِ ما نُقِلَ عنه، قال الربيعُ: قالَ الشافعيُّ: فلو أن قومًا من أهل دار الحرب لجؤوا إلى الحرم، أخِذوا كما يؤخَذون في غير الحرم، يُحْكم فيهم من القتلِ أو غيرِه كما يُحْكَم فيمن كان في غيرِ الحرم. فإن قال قائل: فكيفَ زعمتَ أنَّ الحرم بحالي لا يمنعُهم، وقدْ قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة: "هي حرامٌ بحرمة الله، لم تَحِلَّ لأَحدٍ قبلي، ولا تحلُّ لأحدٍ بعدي، ولم تحلَّ لي إلا ساعةً من نهار، وهي ساعتنا هذه"؟ (¬4) ¬
قيل: إنما معنى ذلك -والله أعلم- أنها لم تحلَّ (¬1) أن ينصب عليها الحرب حتى تكونَ كغيرها. فإن قيل (¬2): ما دلَّ على ما وصفتَ؟ قيل: أمرُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قُتِل عاصمُ بنُ ثابتٍ وخُبْيبٌ -رضي الله عنهما- بقتل أبي سفيان في داره بمكة، إنْ قُدِرَ عليه، وهذا في الوقت الذي كانت فيه مُحَرَّمَةً يدلُّ (¬3) على أنها لا تمنعُ أحدًا من شيء وجبَ عليه، وإنما تمنعُ من أن يُنْصَب عليها الحربُ كما ينصَبُ على غيرها (¬4). فقد بان لنا من كلامِ أبي عبد الله أَنَّ مذهَبُه تحريمُ نَصْبِ الحربِ والقتالِ على مكةَ المشرَّفةِ -شَرَّفَها اللهُ تعالى-. فالحمدُ لله الذي بَرَّأَ أبا عبدِ الله مِمّا نسبوه إليه، فهم قومٌ لم يفرِّقوا بين المُتَغَلِّبِ والملتجئ، وأما كلامُ أبي عبدِ الله في هذه الآية، فإنه (¬5) يدلُّ على خِلافِ هذا، وذلك أنه قال -رحمه الله تعالى-: يُقال: نزل هذا في أهل مكة، وكانوا أشدَّ العدوِّ على المسلمين، ففرضَ اللهُ في قِتالهم ما ذكر سبحانه. ثم قال: يقال نزل نسخُ هذا كلِّه، والنهيُ عن القِتال حتى يقاتِلوا، والنهيُ عن القتالِ في الشهرِ الحرامِ بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]، انتهى (¬6). ¬
وقد دللت قريبًا على ضعف هذا القول، والله أعلم. فإن قلتم: فما اختيارُك في ذلك؟ قلتُ: الذي أَختاره وأقوله وأدين الله -سبحانه- تحريمَ المسجدِ الحرامِ كما حَرَّمَهُ اللهُ -جل جلالُه- فلا يجوزُ فيه القتال حتى يَبْدَأَ أهلُه بالقِتال، فيقاتَلون (¬1)؛ للنصِّ الصريح في الآية المذكورة، وفي حديث أبي شريح، ولما روي عن (¬2) ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ فَتْحِ مَكَةِ: "إن هذا البلد حرّمه الله يومَ خلقَ السمواتِ والأرضَ، فهو حرامٌ بحُرْمَةِ الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتالُ فيه لأحدٍ قبلي، ولم يحلَّ لَي (¬3) إلا ساعةً من نهارٍ، فهو حرامٌ بحرمة اللهِ إلى يوم القيامة، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، ولا يُنَفَّرُ صيدُهُ، ولا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلَّا مَنْ عَرَّفَها، ولا يُخْتَلى خَلاَها"، فقال العباسُ: يا رسول الله! إلا الإذْخِرَ (¬4)؛ فإنه لِقَيْنهم (¬5) وبُيوتهم (¬6)، فقال: "إلا الإذْخِرَ" (¬7)، فهذا -أيضًا- نصٌّ صريح في حرمتِها كما حرمها الله ¬
-تعالى-، وأنَّ حرمتَها مُؤَبَّدَةٌ إلى يومِ القيامة. وأما استدلالُ مَنْ أباحَ القِتال بالمعنى: بأنَّ قتالَ الكفارِ والبُغاةِ من حُقوقِ اللهِ -سبحانه-، فيجب حفظُها، ولا يجوز إضاعتُها، وحفظُها في المسجدِ الحرامِ أولى، ولأنه إذا جازَ قتلُ الفواسِقِ الخَمْسِ لفسقها، وهي لا تكليف عليها، فقتلُ الفاسقِ المُكَلَّفِ أَوْلى، فلا حُجَّةَ فيه مَعَ وجودِ نَصِّ الكتاب والسُّنَّةِ. وأما حفظُ حقِّ اللهِ -سبحانَهُ- في المسجدِ الحَرامِ، فَمُمْكِنٌ، وهو أن نقاتِلَهُم إنْ وجدناهم خارجَ المسجدِ الحَرامِ، ونأخذَهُم بالأسر من المَسْجدِ الحَرامِ من غيرِ قتلٍ ولا سفكِ دمٍ إنْ أمكنَ، وإلا فَنُضيِّقُ (¬1) عليهم حتى يبدؤوا بالقتال، فحينئذٍ نَقتلهم؛ كما أحلَّ اللهُ -سبحانه- ذلك، ثم نطَهِّرُ المسجدَ الحرامَ منهم، ونحرسُه فلا يقربونه؛ كما قالَ -جلَّ جلالهُ [{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5]. وَكما قال جل جلاله] (¬2) -: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]. وأما قتلُ الفواسقِ الخمس، فإنَّ قتلَها مباح في الأصلِ؛ لأنها غيرُ صيدٍ، وكذلك يجوزُ قتلُ غيرِها مِمَّا ليس بصيد، ما لم يُنْهَ عنه. وتخصيصُ الفواسِقِ بالذكر؛ لفِسقها، فقتلُها مستحبٌّ، وليس بواجب، وغيرها مِمّا لا فسق فيه قتلُهُ جائز، وليس بمستحبٍّ، فهذا فائدةُ ¬
التخصيص بالفسق (¬1)، وهذا ما انتهى إليه فَهْمي. وقد ظهر لكم ممّا ألحقته في كتابي من قول أبي عبدِ الله الشافعي أنه يوافق ما ذهبتُ إليه. وإن كانَ جميعُ منْ لقيتهُ من متفقهة الشافعية يعتقدُ خِلافَ ذلك عنه استحسانًا من نفسِه بغيرِ نَقْلٍ ولا دَليلٍ، كما اعتقده ابنُ خوازمنداد المالكي، وادَّعى ما ليسَ له عليه برهانٌ ولا دليل، فقال: الآيةُ منسوخةٌ؛ لأن الإجماعَ قد تقررَ بأن عدوًّا لو استولى على مكة، وقال: لا أُقَاتلكم، وأمنعكم من الحج، ولا أبرح (¬2) من مكة، لوجب قتالُهُ، وإن لم يبدأْ بالقتال، فهي وغيرها من البلاد سواء، وإنما قيلَ فيها هي حرامٌ؛ تعظيمًا لها، ألا ترى أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعثَ خالدَ بنَ الوليدِ يومَ الفتحِ فقالَ: "احْصُدْهُمْ (¬3) بالشَّيفِ حَتى تَلْقاني على الصَّفا"، حتى جاء العباس فقال: يا رسول الله! هلكت قريش، فلا قريش بعد اليوم (¬4). ألا ترى أنه قال في تعظيمها: "فلا يلتقطُ لُقَطَتَها إلا منشدٌ" (¬5)؟ (¬6) اللُّقَطَةُ ¬
بها وبغيرها سواء، ويجوز أن تكون منسوخةً بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (¬1) [البقرة: 193]. فانظر كيفَ ادَّعى الإجماع في موضع الخلاف! وهذا مجاهدٌ وطاوس من كبارِ التابعينَ، والشافعيُّ من راسخي العلماءِ يُخالفون في ذلك معَ معارضَةِ نَصِّ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وادّعى مُساواتَها لسائِرِ البلادِ، وجَعل لفظ الشارعِ في تعظيمها وتخصيصها مهملًا فارغًا من المعنى. فحينئذٍ لا يُوثَقُ بجميع خطابه، وهذا فساد في الدين. وأمَّا إذنُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لخالدٍ، فإنما كان في الساعة التي حَلَّت لهُ، فاستدلَّ بموضع التحليل على موضع التحريم. وأما تحليلُه لِلُقَطَتِها، فليس بِمُجْمَعٍ عليه، فكيف يستدلُّ بموضعِ الخلافِ على موضعِ الإجماع؟ فانظر إليه كيف جعل النسخ في كتاب الله بالتجويز والإمكان من غير دليل. وإنما أوردتُ مقالتهُ وأوضَحْتُ فسادَها، وإنْ كانتْ مُسْتَحِقَّةً لعدمِ الالتفاتِ إليها؛ لئلا يَغْتَرَّ بها الضعفاءُ. والحمد الله رب العالمين. * ثم اختلفت الفقهاءُ أيضًا في الملتجئ إلى الحرم. - فمنهم من قال: لا يُقتلُ (¬2)، واستدلَّ بقراءة من قرأ: (لا تقتلوهم) (¬3)، وبعُمومِ الحديث. ¬
- وقال الشافعيُّ: يُقتل (¬1)؛ لما ذكرتُه عنهُ من التخصيصِ. ويجاب عن هذه القراءة بأنه عَبَّرَ بالقتلِ عن القِتال؛ لأنه مسببُه، فهو من باب التعبير بالمسبَّبِ عن السَبَبِ (¬2). فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا}؟ قلنا: معناه -والله أعلم- انتهوا بتركِ الكفر (¬3)، لا بتركِ القتالِ، استدلالًا بوعدِه بالمغفرة والرحمة، ولا يكونانِ إلا بتركِ الكفر، واقتصاصًا من قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، واستدلالًا بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]، وبقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، ولأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يقرَّ أحدًا من قريش على الكفر بعدما انتهوا عن القتال. * * * 15 - (15) قوله جَلّ جلالُه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]. ¬
أمر الله سبحانه في هذه الآية وفي غيرِها بقتالِ المشركين حتى لا تكونَ فتنةٌ، ويكونَ الدينُ لله. - والفتنَةُ هنا تَحْتملُ أن يكونَ المرادُ بها فتنةَ الرجلِ في دينِه، ويدلُّ عليه ما رويناه في "صحيح البخاري" عن نافعٍ: أنَّ رجلًا أتى ابن عمرَ (¬1) وقال: يا أبا عبد الرحمن! ما حملك على أن تَحُجَّ عامًا وتعتَمِرَ عامًا، وتتركَ الجِهَاد في سبيلِ الله -عزَّ وجَلَّ- وقد علمتَ ما رَغَّبَ اللهُ فيه؟ قال: يابن أخي! بُنِي الإسلامُ على خمس: إيمان بالله ورسوله، والصلواتُ الخمس، وصيامُ رمضان، وأداءُ الزكاة، وحَجُّ البيت. قال: يا أبا عبد الرحمن! ألا تسمعُ ما ذكرَ اللهُ في كتابهِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]؟ قال: قد فعلْنا على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -, وكان الإسلام قليلًا، وكان الرجلُ يُفْتَنُ في دينه؛ إما قتلوه أو عذبوه، حتى كثر الإسلامُ، فلم تكنْ فتنةٌ (¬2)، الحديث. - ويحتملُ أن يكونَ المرادُ بالفتنةِ الشِّرْكَ (¬3)، ويدلُّ عليه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "لا أزالُ أقاتلُ الناسَ حتَّى يقولوا: لا إلهَ إلا اللهُ، فإذا قالوها، فقد عَصموا ¬
مِنِّي دِماءهم وأموالَهم إلا بِحَقِّها، وحسابُهُمْ على الله" (¬1). * فإن قلتُم: فقد وردَ في كتاب الله -عزَّ وجل- وسنَّةِ رسولهِ - صلى الله عليه وسلم - آيةٌ وسنةٌ تناقِضُ هذه الآية، وهذه السنةَ. - أما الآيةُ، فقولُ اللهِ سبحانَهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. - وأما السنَّةُ، فما روى علقمةُ بن مَرْثَدٍ، عن سُليمانَ بنِ بُرَيْدَةَ، عن أبيهِ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أَمَّرَ أميرًا على جيشٍ أو سريَّةٍ، أوصاه في خاصَّته بتقوى الله، وبمَنْ معهُ من المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغزوا بسم الله، و (¬2) في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا فلا (¬3) تَغُلُّوا، ولا تعتدوا (¬4)، ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتلوا وَليدًا، وإذا لقيتَ عَدُوَّكَ من المُشْركين، فادْعُهم إلى ثلاثِ خِلال -أو ثلاثِ خِصال- شَك عَلْقَمَةُ. ادعُهم إلى الإسلامِ، فإن أجابوك، فاقْبَلْ منهم، وكُفَّ عنهم، ثم ادْعُهم إلى التَّحَوّلِ من دارِهم إلى دارِ المُهاجرين، وأَخْبِرْهُمْ، إنْ فَعَلُوا أَنَّ لهم ما لِلْمُهاجرين، وأن عليهم ما عليهم، فإن اختاروا المُقامَ في دارهم، فأَخْبرهم أَنهم كأعرابِ المسلمين، يجري عليهم حُكْمُ الله كما يَجْري على المسلمين، ليسَ لهم في ¬
الفَيءِ شَيءٌ إلا أَنْ يجاهدوا معَ المسلمين، فإنْ لم يجيبوك إلى الإسلام، فادعُهُم إلى أن يُعْطُوا الجِزْيةَ، فإن فَعلوا، فاقبلْ منهم ودَعْهُم، فإن أَبَوا، فاستعِن باللهِ وقاتِلْهم" (¬1). قلت: ليسَ واحدٌ من الحديثينِ ولا من الآيتين معارضًا للآخر، بل آيةُ البقرة من العامِّ الذي أُريد (¬2) به الخاصُّ، وذلك أن لفظَهُ عامٌّ في المشركين، والمرادُ به المشركونَ من أهلِ الأوثان، وهم أكثر من قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك الحديثُ مثلُه، فالأمرُ خاصٌّ ببعضِ المشركينَ، وهم عَبَدَةُ الأوثان. وآيةُ (براءة) خاصَّةٌ ببعضِ المُشركينَ، وهم أهلُ الكتاب. وكذلك حديثُ ابنِ بُرَيْدَةَ مثلُه. فالفرضُ في قتال مَنْ كانَ هو أو أبوه (¬3) من أهل الأوثان: أن يقاتَلُوا حتى يُسْلِموا، ولا يحلُّ لنا أن نقبل منهم جِزْيَةً (¬4)، لما وردَ في سورة ¬
البقرة، ولما رواه أبو هريرة (¬1) والفرضُ في أهل الكتابِ ومَنْ دانَ دينهم قبل نُزول الفرقان (¬2) أن يقاتَلوا حتى يُسلموا، أو يُعْطوا الجِزْيَةَ؛ لِما ورد في سورة (براءة)، ولحديث ابنِ بريدة. فإن قلتم: حديثُ ابنِ بريدةَ كانَ قبلَ الفتحِ؛ بدليل قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ثم ادعُهُمْ إلى التَّحَوُّلِ من دارِهِمْ إلى دار المُهاجرين"، فهل يجوزُ أن يكونَ منسوخًا بحديث أبي هريرة، وأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام؛ لكون إسلام أبي هريرة بعد الهجرة؟ قلت: قد أجمع المسلمون على قبول الجزية كما ورد في كتاب الله -سبحانه-، وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفي عمل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم -، فلا يجوز نسخُهُ، ولأنه يؤدي إلى إبطال آية (براءة)، ولا دليل على نسخها. وأما تأخر إسلام أحد الراويين، فلا يكون دليلًا على النسخ؛ لجواز أن يكونَ رواهُ عمَّن قَدُم إسلامُه، ثم أرسله عنه. فإن قلتم: فهل يجوز لقائل أن يقولَ: يجوزُ أخذُ الجزيةِ من عبدَةِ الأوثان بحديثِ ابنِ بُريدةَ؛ بدليل أنَّ الذين كانَ يبعثُ إليهمُ السرايا كانوا أهلَ أوثانٍ، لا أهلَ كتابٍ، ويجوزُ أخذُها من أهلِ الكِتاب بآية (براءة)؟ قلت: لا يجوزُ -والله أعلم- القولُ بذلك (¬3)؛ لما فيه من إبطالِ قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] من غير دليل يدُّل على ¬
النسخ لها، ودعوى كونِ الَّذينَ يبعثُ إليهم أهلَ أوثانٍ، باطِلَةٌ لا بُرهانَ لها، فقدْ كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يبعثُ الأُمراءَ إلى أهلِ الكتابِ، فبعثَ معاذًا وأبا موسى وعليًا إلى اليمن، وكانوا أهل كتاب. وبعثَ خالدًا إلى دُومَةِ الجَنْدَلِ، وكانوا أهلَ كتابٍ. والله أعلم. * * * 16 - (16) قوله جل ثناؤه: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194]. * حرَّمَ اللهُ -سبحانه- علينا في غيرِ هذهِ الآيةِ القِتالَ في الشَّهرِ الحرام، فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]، وسيأتي الكلام عليه -إن شاء الله تعالى- قريبًا. وأباح لنا في هذه الآية أن نقاتلهم (¬1) في الشهرِ الحرامِ إنْ قاتلونا (¬2) في الشهرِ الحرام، كما أباحَ لنا مُجازاتَهم بذلك في المسجدِ الحرام، فقال: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 194]. قال ابن عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-في روايةِ عَطاء: يريد: إن قاتلوكم في الشهر الحرام، فقاتلوهم في مثله. ثم عقبه الله سبحانه بلفظٍ يشملُ المسجدَ الحرامَ والشهرَ الحرام، فقال: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194]. * ثم بيَّنَ ذلكَ القِصاصَ بيانًا عامًا، فقالَ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، ويندرج في هذا العموم جملة من المسائل: ¬
الأولى: اعتبار المماثلة في القصاص، وفي الآلة التي يُقْتَصُّ بها، وقد قال بهذا عامة أهل العلم (¬1)؛ لهذه الآية، ولقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]؛ وبفعلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في اليهوديِّ الذي قتلَ الجاريَة (¬2)، وإن اختلفوا في التفاصيل. الثانية: إيجابُ القِصاصِ في القَتْل بالمثقلِ. وقد قال به مالكٌ والشافعيُّ وغيرُهما من أهلِ العلمِ. ومنعه أبو حنيفةَ والشعبيُّ والنَّخَعِيُّ (¬3). وهم محجوجون بهذه الآية، وبقتل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - اليهوديَّ بالحَجَر، ولقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، ولأنَّ في تركِ القِصاص بالمثقلِ ذريعةً إلى إزهاقِ الأرواح، فيؤدي إلى فَسادٍ عظيمٍ. الثالثة: فيها دلالة على أن للرجل أن يقْتل منِ اعتدى عليه متى شاءَ، لكن عارضَهُ الإجماعُ على أنه لا يجوزُ إلّا بحَضْرةِ السلطانِ، لكن اختلفوا فيما إذا لم يمكنْهُ الاستيفاءُ بالسلطان؛ لعدمِ البيِّنَةِ، هل له أن يقتصَّ حَقَّهُ في (¬4) مالٍ أو دم؟ فذهب الشافعيُّ إلى أنَّ له ذلكَ (¬5)، وروي عن مالك، وأجازهُ (¬6) ابنُ ¬
المنذرِ، ويدلُّ لهُ قولهُ - صلى الله عليه وسلم - لِهنْدٍ بنتِ عُتبةَ لمّا قالتْ لهُ: إن أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ووَلَدي، إلا ما أخذتُ من مالِه (¬1) بغيرِ علمِه، فهل عليَّ من جُناح؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُذي ما يكْفيكِ وَوَلَدَكِ بالمَعْروف" (¬2). والمشهورُ عن مالكٍ المنعُ، وبه قالَ أبو حنيفةَ -رحمه الله تعالى- (¬3). * * * ¬
من أحكام الجهاد
(من أحكام الجهاد) 17 - (17) قوله عزَّ وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]. * والإنفاقُ في سبيل اللهِ قد يكونُ واجبًا، وقد يكونُ مُسْتَحبًّا، فيجبُ حيثُ يتعيَّنُ الجِهادُ والحَجُّ، ويستحبُّ إذا لم يتعيَّنْ ذلك. والأمرُ بالإنفاقِ في الآية مشتَركٌ بين المعنيينِ. * ونهانا اللهُ سبحانه أن نُلْقِيَ بأيدينا إلى التَّهْلُكَةِ. وذلكَ قاعدةٌ عامَّةٌ في كلِّ فعلٍ (¬1) جائز أو واجبٍ. فإذا كانَ يخافُ من فعلِ الواجبِ التهلكةَ، وجبَ عليه تركهُ، إلا في مواضعَ استُثْنيت: منها: أن يغرِّرَ (¬2) بِنَفْسِهِ في طلبِ الشهادةِ. ومنها: أن يأمرَ بمعروفٍ أو ينهى عن منكرٍ. وأما في فعل المنهيِّ عنه، فإنَ المكلَّف مخيرٌ بينَ فعلِ المنهيِّ عنه، وبين الكفِّ والوقوع في الهَلَكَة (¬3)؛ كما إذا أُكْرِهَ على الرِّدَّةِ -نعوذُ باللهِ ¬
العظيم من ذلك-، وكذا سائرُ المنهيّات (¬1). والآية نزلتْ على سببٍ في النفقةِ (¬2). روى يزيدُ بن أبي يزيد، عن أبي عمران قال: غزونا القسطنطينيةَ، وعلى الجماعةِ عبدُ الرحمنِ بنُ الوليد، والرومُ مُلْصِقونَ ظُهورَهم بحائط المدينةِ، فحملَ رجلٌ على القومِ، فقال الناسُ: مَهْ مَهْ، لا إله إلا الله، يلقي بيدهِ إلى التهلكة، فقال أبو أيوبَ الأنصاريُّ: سبحان الله! أنزلت هذه الآية فينا -معاشرَ الأنصارِ- لمَّا نصرَ اللهُ نبيَّهُ، وأظهرَ دينَه، قلنا: هَلُمَّ (¬3) نُقيمُ في أموالِنا (¬4) ونُصْلِحُها، فأنزل الله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، فالإلقاء إلى التهلكة أنْ نقيمَ في أموالنا ونصلحها وندعَ الجهاد، فلم يزلْ أبو أيوبَ مُجاهدًا حتى دُفِنَ بالقسطنطينية، فقُبر (¬5) هناك (¬6). ¬
والعِبْرَةُ بعموم اللَّفْظِ لا بخُصوصِ السبب، ما لم يَخْرُجِ السبب، ولهذا أنكر عليهم أبو أيوبَ تأويلَهم لما أخرجوا المُجاهدَ الطالبَ لإعزاز دينِ اللهِ سبحانه، وإغاظَةِ عَدُوِّ الله تبارك وتعالى. * * * ¬
من أحكام الحج
(من أحكام الحج) 18 - (18) قوله عزَّ وجلَّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196]. أقول: اشتملت هذه الآية على جُمَلٍ من الأحكام والمناسك. الجملة الأولى: أمرنا اللهُ سبحانه بإتمامِ الحَجِّ والعُمْرَةِ. فيحتملُ أن يكونَ المرادُ بإتمامهما أداؤهما (¬1)؛ بدليل ما روي من قراءة ابنِ عمرَ وابنِ عباسٍ -رضي الله عنهم-: أنهما كانا يقرأان: (وأقيموا الحَجَّ والعمرة لله) (¬2). فتدلُّ الجملة -حينئذٍ - على وجوبِ الحَجِّ والعمرةِ. ¬
وقد قالَ بوجوبِ العُمْرَةِ: عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عمر، وجابرٌ، وعطاءٌ، وابنُ المسيب، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والشافعيُّ في الجديد وأحمدُ، والثَّورِيُّ، والأوزاعِيُّ (¬1). واستدلُوا بالحديثِ الثابتِ عنْ عمرَ بنِ الخَطابِ -رضي الله عنه-: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن الإسلام فقال: "أن تشهدَ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ، وأن تُقيمَ الصلاةَ، وتُؤتيَ الزكاةَ، وتحجَّ البيتَ، وتَعْتَمِرَ، وتَغْتَسِلَ من الجَنابةِ، وتُتِمَّ الوُضوءَ" (¬2)، وبما رويناهُ في "سُنَنِ البيهقيِّ" عن أبي رَزينٍ العُقَيْلى، قال: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إن (¬3) أبي شيخ كبيرٌ لا يستطيعُ الحجَّ والعُمْرَةَ ولا الظَّعنَ (¬4)، قال: "حُجَّ عن أبيكَ واعتمرْ عنه" (¬5). ¬
قال البيهقيُّ: وقد روينا (¬1) عن أحمدَ بنِ حنبلٍ: أنه قال: لا أعلمُ في إيجاب العُمْرَةِ حديثاً أجودَ من هذا، ولا أصحَّ منه (¬2). واستأنس الشافعيُّ بأن الله - سبحانه - قرنَها مع الحَجِّ، وتَبِعَ في الاستئناس قولَ ابنِ عبَّاس: والذي نفسي بيده! إنها لَقَرِيْنَتُها في كتابِ اللهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬3) [البقرة: 196]. - ويحتملُ أن يكون المراد بإتمام الحجِّ والعمرة إتمامُ ما دخلنا فيه وعقدناه على أنفسنا من حَجٍّ أو عُمْرَةٍ، وهو الظاهرُ؛ لأن اللهَ - سبحانه - ذكرَ بعده حُكْمَ (¬4) المُحْصَرِ الذي لم يُتِمَّ الحجَّ والعمرةَ. فلا يكونُ فيها دليلُ وجوبِ الحجِّ والعمرةِ (¬5)، فقد تكونُ العبادة غيرَ ¬
واجِبَةٍ، فإذا عقدَها الرجلُ، وجبَ عليه إتمامُها؛ بدليلِ وجوبِ إتمام حَجِّ التطوُّعِ. وبهذا قال أبو حنيفةَ ومالكٌ والشعبيُّ (¬1)، والشافعيُّ في قولِه القديمِ (¬2). واستدلوا بقولِه - صلى الله عليه وسلم -: "بُني الإسلامُ على خمس: شهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وصومِ رمضانَ، والحَج" (¬3). وبما روى جابرُ بنُ عبدِ الله -رضيَ الله تعالى عنهما -: أنَّ رجُلاً سألَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عنِ العُمْرَةِ أهي واجبة؟ قال: "لا، وأنْ تعتمرَ خيرٌ لكَ" (¬4)، ولكن اتفق الحُفّاظُ على ضعفه (¬5). ¬
* فإن قيل: فقد أوجبَ الله - تعالى - علينا (¬1) إتمامَ الحجِّ والعمرةِ إذا دخَلْنا فيهما، ولا يجوزُ لنا الخروجُ منهُما؛ كما وردَ في كتابِ الله جَلَّ جلالهُ، وقد ثَبَتَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أمرَ أصحابَه الَّذينَ لم يكنْ معهم هَدْيٌ بِفَسْخِ الحَجِّ إلى العُمرةِ (¬2)، فما الحكمُ في ذلكَ، وكيفَ الجمعُ بين الآيةِ والحديث؟ قلت: ذهبَ بعضُ أهل المعاني والتفسير إلى أَنَّ هذه الآيةَ ناسخةٌ (¬3)؛ لِما رُوي أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - (¬4) أمرَ أَصحابه بعد أن أحرموا بالحجِّ أن يفسخوهُ في عمرة (¬5)، فالآية محكمةٌ مستمرةٌ على عمومها. ودعوى هذا القائل بالنسِخ باطلةٌ؛ فإن المتقدِّمَ لا ينسخُ المتأخِّرَ، فَحَجُّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأمرُه أصحابَهُ كان في سنةِ عَشْرٍ، والآيةُ نزلتْ في سنة سِتٍّ عامَ الحُدَيبية حينَ صدَّه كفارُ قريشٍ عن البيتِ الحرامِ. وكأنّ (¬6) هذا القائل سمعَ قولَ عمرَ -رضيَ الله عنهُ - فتوهَّمَهُ يدلُّ على النسخ، وليس كذلك. وذلك أن عمر -رضي الله عنه - كان ينهى عن هذه المتعةِ (¬7)، ويضربُ ¬
الناس عليها، وقال: "إن الله يُحِلُّ لرسوله ما شاءَ بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازلَه، فأتِمُّوا الحجَّ والعمرةَ كما أمركم اللهُ - تَعالى -، فافْصِلوا حجَّكم عن عُمْرتكم؛ فإنه أَتَمُّ لحِجِّكُمْ، وأتَمُّ لعمرتكم" (¬1). فتوهَّمَ نزول القرآن منازله ناسخاً للسنَّةِ، وليسَ كذلك. وإنما أرادَ عمر -رضي اللهُ تعالى عنه - أنَّ اللهَ - سبحانه - أباحَ ذلك لنبيِّهِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لأجلِ مخالَفَةِ الجاهليَّةِ من تحريمِهم العمرةَ في أشهرِ الحَجِّ، وَجَعْلَهم ذلكَ من أفجر الفجور، فأمَر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه بفَسْخ الحَجِّ إلى العمرة؛ ليعلموا جَوازَ ذلك، ففِعْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - لعِلَّةٍ، وقد زالتِ العِلَّةُ، فزال هذا الحكمُ لزوالها، وبقي ظاهرُ القرآن على إطلاقه ومقتضاهُ، فلا يجوزُ لمن بعدهم أن يفسخَ الحجَّ إلى العمرةِ. - وقد منعَ فسخَ الحجِّ إلى العمرةِ: أبو بكرٍ وعثمانُ وعليٌّ -رضي الله تعالى عنهم -، وتبعَهم جماهيرُ أهلِ العلم من السلف والخلف. وبه قالَ مالكٌ والشافعيُّ وأبو حنيفةَ (¬2). ولهم من الدليل: حديثُ أبي ذَرٍّ -رضيَ الله عنه -: كانت المتعةُ في الحجِّ لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً. وفي رواية: "رُخْصَةً"، يعني: فسخ الحج إلى العمرة (¬3). وفي النسائي، عن الحارث بن بلالٍ، عن أبيه قال: قلت: ¬
يا رسول الله! فسخ الحج لنا خاصَّةً أم للناسِ عامَّةً؟ فقال: "بل لنا خاصَةً" (¬1). - وقال أحمد وطائفةٌ من أهلِ الظاهر (¬2): ليس خاصًّا بالصحابة، بل هو باقٍ إلى يوم القيامة، فيجوزُ لكلِّ من أحرم بحجٍّ، وليس معه هَدْيٌ، أن يقلبَ إحرامَهُ عمرةً، ويتحلَّل بأعمالها. وقال أحمدُ: لا أردُّ تلكَ الآثار الواردةَ المتواترةَ الصِّحاحَ في فسخِ الحَجِّ إلى العمرةِ بحديثِ الحارثِ بنِ بلالٍ عن أبيهِ، وبقولِ أبي ذزٍّ، ولم يُجْمِعوا على ما قال أبو ذَرٍّ، ولو أجمعوا لكان حُجَّةً، وقد خالف ابنُ عباسٍ أبا ذرٍّ -رضيَ الله تعالى عنهما -، ولم يجعلْه خصوصاً (¬3). الجملة الثانية: قوله - عز وجل -: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. * أباحَ الله - سبحانه - لنا الخروجَ من هذا النسك الذي أوجبَ علينا إتمامَهُ بعذرِ الإحصار. ¬
والإحصارُ هو المنعُ، وهو اسمٌ مشترَكٌ يقع على المنعِ من العدوِّ، وعلى المنع بغيره. فقال الأزهريُّ: قال أهل اللغة: يقالُ لمنْ منعهُ خوفٌ أو مرضٌ من التصرفِ: أُحْصِرَ، فَهُو مُحْصَرٌ، ولمن حُبِسَ: حُصِرَ، فهو مَحْصورٌ (¬1). وكذا قاله الزَّجّاجُ عن أهل اللغة (¬2). وقال - أيضاً - هو وثعلبٌ والفَرَّاءُ: أُحْصِرَ وحُصِرَ، لغتان (¬3). والمرادُ بهِ في هذه الآيةِ حَصْر العَدُوِّ؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: 196]، ولذكْر المرضِ بعده. قال الشافعيُّ -رضي الله تعالى عنه -: لم أسمعْ ممَّنْ حفظتُ عنهُ من أهلِ العلمِ في التفسيرِ مُخالفاً أَنَّ هذه الآيةَ نزلتَ بالحديبيةِ حين أُحْصِرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية، وحلقَ ورجعَ ولم يَصِلْ إلى البيتِ، ولا أصحابُه، إلا عثمانَ بنَ عفانَ رضيَ الله تعالى عنهم (¬4). وزعم قومٌ أنَّ المرادَ به حَصْرُ المرضِ، وزعموا أنه لا يُقال: أُحْصِر، في العدوِّ، وإنما يقالُ ذلك في المرضِ، فيقال: أَحْصَرَهُ المرضُ، وحَصَرَهُ العدوُّ، وهذا قولُ الأخفشِ وابنِ السِّكِّيتِ من علماءِ اللغة (¬5). ¬
وأجابوا عن ذكرِ المرضِ بأنه يتنوَّعُ إلى مرضٍ مُحْصرٍ، ومرضٍ غيرِ مُحْصِرٍ، وأن المرادَ بالأَمانُ: الأمانُ من المرضِ. وهذا تكلُّفٌ واعتسافٌ، وقد قدَّمْتُ عن أهلِ اللغةِ ما يَدْفَعُ دعواهُم. والجوابُ عَمّا ادَّعَوْهُ من اللغةِ سَهْلٌ، فيجوزُ استعمالُ (أفعلَ) في غيرِ بابه مَجازاً للعلاقةِ التي بينَهُما، وهي المنع؛ لأنَّ (فُعِلَ به) إذا أوقع به الفِعْلُ، ويجوز أن يقال: (أُفْعِلَ به) (¬1)، ويكون معناه أنُه عَرَّضَهُ للفعل، ولم يوقعْه به، ويقال (قَتَله) إذا أوقِع به القتل، و (أَقْتَلَهُ) إذا عَرَّضَهُ للقتل (¬2)، فاستعمال أَحْصَرَهُ في العدوِّ الذي عَرَّضَهُ للمنعِ أحسنُ منهُ في حَصر المرض الذي أوقع به المنع. * إذا تقرر هذا، فإنَّ الله - سبحانه - قد أحلَّ تركَ إتمامِ الحجِّ والعمرةِ لعذرِ إحصار العدوِّ بهذهِ الآية، وبيَّنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عام الحُدَيبية، وكان مُحْرِماً بعمرةٍ. والحجُّ في مَعْنى العُمرةِ؛ بدليلِ أنَّ ابنَ عُمَرَ -رضي الله تعالى عنهما - لمّا أحرمَ عامَ الفِتْنَةِ بالعُمرةِ، وقالَ: إن صُدِدْتُ عنِ البيتِ، صنعتُ كما صنعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ومشى ثم قال: ما أرى شأنَ الحَجِّ والعُمرة إلا واحداً، فَأَهَلَّ بالحَجِّ (¬3)، وعلى هذا أجمع أهلُ العلم (¬4). ¬
* واتففوا - أيضاً - على أنه يتحلَّلُ متى أحْصِر، ولم يخالفْ إلا الثوريُّ والحسنُ بنُ صالح؛ فإنهما قالا: لا يتحلَّلُ إلَّا يومَ النَّحْرِ (¬1). وهذا خَطَأٌ مخالِفٌ لإطلاقِ الكتابِ العزيز، ولأنَّ تحللَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كان في ذي القعدة. * واختلفوا في إلحاقِ الإحصارِ بالمرضِ بإحصار العدو، وإن لم يكنْ مَقْصوداً ومراداً بالحكم، فألحقه أهلُ العراق بإحصار العدو. وهو مذهبُ ابن مسعود رضي اللهُ تعالى عنه (¬2). وقالوا: يُرْسِلُ هَدْيَهُ، وَيُقَدِّرُ يومَ نَحْرِه، ويُحِلُّ في يوم ميعادِهِ (¬3). واستدلُوا بحديثِ الحَجَّاج بن عمرو الأنصاريِّ قال: سمعت رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "منْ كُسِرَ أو عَرِجَ، فقدْ حَلَّ، وعليه حَجَّةٌ أخرى" (¬4). ¬
ومنع أهلُ الحجاز إلحاقه بالمُحْصَر، ولا يتحللُ إلا بعمرةٍ (¬1). وبه قالَ الشافعيُّ ومالكٌ وأحمدُ (¬2). واحتجوا بما روى عمرُو بنُ دينارٍ، عنِ ابنِ عباسٍ: أنه قال: لا حَصْرَ إلَّا حَصْرُ العَدُوِّ (¬3). وبما رُوي عن عائشةَ وابنِ عمر: أنهما قالا: لا يحل المريضُ دونَ البيتِ (¬4)، وحملوا الحديثَ -إن صَحَّ على من شرطَ ذلكَ في إحرامه؛ بدليل حديث ضُباعَةَ بنتِ الزبيرِ بنِ عبدِ المطلب المخرَّجِ في "صحيح مسلم"، وهو أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني امرأةٌ ثقيلةٌ، وإني أريدُ الحجَّ، فما تأمرني؟ قال: "أَهِلِّي بالحَجِّ، واشترطي أَن محلِّي حيثُ حَبَسْتَني" (¬5). وإيَّاه أختارُ؛ فإنه لو كان حصرُ المرضِ مُبيحاً للتحليل، لما أمرها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - باشتراط التحليل دون لقاء البيت. ¬
فإن قيل: فإذا تحلَّلَ المُحْصَرُ كما أباحَ اللهُ - سبحانه - له، فهل يجبُ عليه القضاءُ، أولا يجبُ إلَّا قضاءُ حجَّةِ الإسلامِ؟ قلت: الظاهرُ من الآية أنه لا قضاءَ عليه؛ لأن الله - سبحانه - لم يذكر قضاءً، والقضاءُ لا يجبُ إلا بأمر ثانٍ عند الأكثرينَ من أهلِ العلمِ بالنظرِ وشرائِط الاستدلال. قال الشافعيُّ: والذي عُقِلَ في أخبار أهل المغازي شبيهٌ بما ذكرتُ من ظاهر الآية، وذلك أَنّا قد علمْنا في متُواطئ أحاديثِهم أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) عام الحُدَيبيةِ رجالٌ معروفونَ بأسمائهم، ثم اعتمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عمرةَ القضية، وتخلَّف بعضُهم بالمدينة من غير ضرورةِ نفسٍ ولا مالٍ علمتُه، ولو لزمهم القضاءُ لأمرهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله تعالى - ألاّ (¬2) يتخلفوا عنه (¬3). وأيضاً (¬4) لم نعلم أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَ أحداً ممَّن كان معه أن يقضيَ شيئاً، ولو كانَ لنقِلَ وعُلم. وهذا مذهبُ ابنِ عبّاس وابن عمرَ -رضي الله تعالى عنهم - وبه قالَ مالكٌ (¬5). وهو أحبُّ إليَّ؛ لما قدمتُه، ولكونه أشبهَ بالأصول؛ فإنه من دخل في ¬
عبادةٍ، ثم مُنِعَ من إتمامها، لا يجب عليه قضاؤها، إلا أن تكونَ واجبةً، ولا يجب إلا قضاءٌ واحدٌ لذلك الواجب؛ كالصلاة والصوم، ولكونه أَوْفَقَ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ عن أمتي الخَطَأ والنِّسيانُ وما استكرِهوا عليه" (¬1). وذهبَ أبو حنيفةَ إلى وجوبِ القضاء، فإن كانَ مُحْرِماً بالحجِّ، فعليهِ حجةٌ وعمرةٌ؛ لأنه فسخَ حجَّهُ إلى عُمْرةٍ، ولم يتمَّ واحداً منهما، وإن كانَ محرماً بعمرة، قضى عمرتَه، وإن كانَ قارناً، قضى حجةً وعمرتين (¬2). واحتجوا بحديث الحجاج بن عمرو الأنصاري (¬3) بأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعتمرَ في العام المُقْبل (¬4)، ولذلكَ قيلَ لها: عمرةُ القضاءِ، وبالقياس على المُحْصَر بالمَرضِ؛ فإنه يجبُ عليه القضاءُ إجماعاً. وأجابَ الآخرون بأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يقضِ، وإنما سُميت عمرة القَضاءِ وعمرةَ القضية؛ لأنَّ الله - سبحانه - اقتصَّ لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فدخل عليهم كما منعوه. وروي عن ابن عمرَ -رضي الله تعالى عنهما - قال: لم تكن هذه العمرةُ قضاءً، ولكن كان شرطاً على المسلمين إن اعتَمروا من قابلٍ أن يكون في الشهر الذي صَدَّهم المشركون فيه (¬5). ¬
* ولما أحلَّ الله - سبحانه - لنا تركَ إتمام الحجِّ لعذر الإحصار، أوجبَ علينا ما استيسرَ من الهَدْي. وقد نحر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه هديَهم بالحُدَيبية. وعلى هذا اتفقَ أهلُ العلمِ (¬1)، ولم يخالفْ في وجوبِ الهَدْيِ - فيما علمت - إلا مالكٌ؛ فإنه قال: لا يجبُ (¬2)، وكان يقول: إن الهديَ في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] هو بعينِه الذي في قوله سبحانه: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬3) [البقرة: 196]. وفيه بُعْدٌ بالتأويل. ويلزمه أن يمنع المتمتع من الحلق قبل الذبح، وهو لم يمنعه. وأجاب موافقوه عن ذبح الهدي يوم الحُدَيبية بأنه ليسَ بهديِ تَحلُّلٍ، بل هو هدي سيق لله - تعالى - ابتداءً من غيرِ سبب. * والمُسْتَيْسِرُ من الهَدْي إما بَدَنَةٌ، أو سُبْعُها، أو بقرةٌ أو سُبْعُها، أو شاةٌ (¬4). (¬5) قال جابرُ بن عبد الله (¬6) -رضي الله تعالى عنه - أُحْصِرْنا مع ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية، فنحرنا البَدَنَةَ عن سبعة، والبقرةَ عن سبعةٍ (¬1). وأمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَعْبَ بنَ عُجْرَةَ أن يذبحَ شاةً، أو يطعم ستةَ مساكين، أو يصوم ثلاثة أيام (¬2). وكان ابنُ عمرَ وعائشةُ وابنُ الزبير يقولون: ما استيسر من الهَدْي: بعير أو بقرة، أي: بعير دون بعير، وبقرة دون بقرة، وأَبَوْا أن يقعَ اسمُ الهدي على الشاةِ (¬3). هذا الحكمُ ورد في الحصر من الكفار، وكذا إذا صدر من المسلمين، والحكمُ واحدٌ لا افتراقَ بينهما؛ إذ العبرةُ بعمومِ الخِطاب لا بخصوصِ السبب، ويدلُّ عليه ما قدمته من فعلِ ابنِ عمرَ، ولا أعلمُ مخالفاً في ذلك، والله أعلم (¬4). الجملة الثالثة: قوله عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. * حرم الله - سبحانه - فيها على المحرم حلقَ شعرِ رأسِه تحريماً مطلقاً ¬
حتى يبلغ الهديُ محلَّه، سواء كانَ محصَراً أو غير محصَر، واجداً للهدي أو عادماً له، ساقَ معه هديًا أو لم يَسُقْ. وهنا أربع مسائل: الأولى: المحصر الواجد للهدي، فيذبحُ هديه، ثم يحلق رأسه. وللشافعيِّ قولٌ أنه يجوز أن يحلق ثم يذبح، وكأنه قائم على تقديم الحلق على الذبح في يوم النحر. والراجحُ عندي عدمُ الجواز (¬1)؛ لظاهر القرآن، وإن كان الراجحُ عند متأخري أصحابه الجوازُ (¬2). المسألة (¬3) الثانية: المحصر العادم للهدي: اتفقوا على أنه يجوزُ له أن يحلق ويتحلل، وإن لم يبلغ الهدي محله، ويقيد إطلاق الآية بما عداه؛ لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]؛ فقد يستمر العدم أبداً. ثم اختلفوا هل يبقى الهديُ في ذمته إلى أن يجده؛ لأن اللهَ سبحانه لم يذكر له بدلاً، ولو (¬4) كان له بَدَلٌ لبينه كما فعل في التمتعِ وكفارةِ اليمينِ والقَتْلِ والظِّهارِ، أو له بدلٌ قياساً على المتمتع؟ ¬
وبالأول قال أبو حنيفة (¬1). بالثاني قال أحمد (¬2). وللشافعيِّ قولان، والراجحُ (¬3) منهما عندي عدمُ الوجوب؛ لأنه لو كان واجباً عليه، لبيَّنَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لِما فرض الله - سبحانه - عليه من بيان كتابه الذي أنزله عليه، والعلم يحيط بأن أكثرَ أصحابه الذين كانوا معه - وكان عددهم معه أربع عشرة مئة - أن فيهم المُعْسِرَ العادمَ للهديِ، بل أكثرُهم عادمون، ولم ينقل أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقتِ، ولا في الوقت الثاني، بيَّنَ وجوبَ هديٍ عليهم. وأما القياس في الكفارات والمناسك، فضعيف عند أهل النظر. المسألة الثالثة: غير المحصر إذا لم يسق الهدي. ولا يخفى على أحد أن حلقَ شعرِ رأسه حرامٌ إلى الوقتِ الذي يبلغُ الهدي منه (¬4) مَحِلَّهُ، وهو وقتُ التحلُّل، وهذا إجماع (¬5)، وإنما اختلفوا في المعنى الذي لأجله مُنع من حلق شعره، فمنهم من رأى منعَه لما فيه من النَّظافَةِ والتزيُّنِ والاستراحة، فعُفي عن اليسير من الشعر، وإليه ذهبَ مالكٌ ¬
رحمه الله تعالى (¬1)، ومنهم من رأى المنعَ تعبُّداً، فمنع قليلَ الشعر وكثيرَه، وإليه ذهبَ الشافعيُّ رحمه الله تعالى (¬2). المسألة الرابعة: غير المُحْصَرِ إذا ساق الهديَ: -فإن أحرم بحجٍّ: فلا يحلُّ حتى يبلغ الهديُ محلَّه (¬3)، وليس (¬4) له فَسْخُ الحجِّ إلى العمرةِ بالاتِّفاق؛ للآية (¬5)، ولقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لو استقبلتُ من أمري ما اسْتدْبَرْتُ، ما أهديت، ولولا أن معي الهَدْيَ، لأَحْلَلْتُ" (¬6)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "اجعلوا إهلالَكُم بالحجِّ عمرةً، إلَّا من قَلَّدَ الهَدْيَ؛ فإنَّهُ لا يحلُّ حتى يبلغَ الهديُ مَحِلَّهُ" (¬7). - وإن أحرم بعمرة، فكذلك لا يحلُّ حتى ينحرَ هديَهُ يومَ النحرِ عندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ -رضي اللهُ عنهما -، ولهم من الحُجّةِ قولُه تعالى: {وَلَا ¬
تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحرم بعمرةٍ ولم يُهْدِ فليحللْ (¬1)، ومَنْ أحرمَ بعُمْرَةٍ وأهدى فلا يحللْ (¬2) حتى ينحرَ هديَهُ يومَ النحر" (¬3). وقال مالكٌ والشافعيُّ -رضي اللهُ عنهما -: إذا طافَ وسعى، حَلَّ من عمرته (¬4). واحتجوا بالقياس على من لَمْ يَسُقِ الهديَ. وأجابوا عن الحديثِ بأن فيه محذوفاً، والمراد: من أحرم بعمرة وأهدى، فليهلَّ بالحجِّ، ولا يحل حتى ينحرَ هديَه؛ بدليل حديث عائشةَ -رضي الله تعالى عنها - قالت: خرجنا مع رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عام حجَّة الوداعِ، فأهللنا بعمرة، ثم قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "من كان معه هديٌ فليهللْ بالحجِّ معَ العُمْرَةِ، ثم لا يحلّ حتى يحلَّ منهما جميعاً" (¬5). والقول الظاهر عندي قولُ أبي حنيفةَ وأحمدَ؛ لعموم الآية، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو استقبلْتُ من أمري ما استدبرتُ، ما أهديتُ، ولولا أن معي الهدي لأَحللت" (¬6)، ولم يقل: ولولا أني أحرمت بالحجِّ وسقت الهدي ¬
لأحللتُ، فدلَّ على أن سوقَ الهديِ وحدَهُ سببٌ لمصابرة الإحرام، سواءٌ كانَ بحجٍّ كفعله - صلى الله عليه وسلم -، أو بعمرة كفعلِ بعضِ أصحابه -رضيَ الله تعالى عنهم أجمعين - الذين أرشدهم إلى الإهلالِ بالحج مع العمرة؛ ليحصِّلوا النسُكين المُعَظَّمينِ (¬1): الحجَّ والعمرة، ولو لم يرشدْهم إلى الإهلالِ بالحج، واقتصروا على العمرةِ، لصحَّتْ لهم دون الحج، ولكان لا يصحُّ لهم الحجُّ الذي هو النسكُ الأعظمُ إلا منْ عام قابل (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ عائشةَ -رضيَ اللهُ عنها -: "فليهللْ بالحَجِّ معَ العمرةِ" أمرُ إرشادٍ ليحوزوا فضيلة النُّسكين؛ لأن إحرامه (¬3) بالحجِّ علةٌ لمصابرة الإحرامِ؛ بدليل سياق كلامه - صلى الله عليه وسلم -: "من كانَ معه هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بالحَجِّ معَ العمرةِ"، فلو لم يكنِ الهديُ شَرْطاً، لما علق عليه الجواب (¬4). * والمَحِلُّ يقعُ على المكانِ الذي ينزل فيه، ويقعُ على الزمانِ الذي ينزل فيه أيضاً. 1 - فيحتمل أن يكون المرادُ به اسمَ المكان. بدليلِ قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]، وقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. ¬
وسياقُ الخِطاب يقتضي بظاهره أن المحرمَ لا يحلُّ حتى يبلغ الهديُ محلَّهُ، ولو كانَ مُحْصَراً، بهذا قال أبو حنيفةَ، واستدلَّ بأن نحرَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ الحُدَيبية وقعَ في الحَرَم، على ما قاله ابنُ إسحاق. وذهبَ الشافعيُّ إلى أنه ينحرُ هديَهُ حيثُ حَلَّ، وتقديرُ الآية: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] إن قدرتم على إيصاله محله. واستدلَّ بقوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]. قال: ونحرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحِلِّ، وقد قيل: نحرَ في الحَرَم، وحكاه عن عطاء. ثم قال: وإنما ذهبنا إلى أنه نحرَ في الحِلِّ، وبعضُ الحديبيةِ في الحِلِّ، وبعضُها في الحَرَم؛ لأن اللهَ تعالى يقول: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]، والحرم كلُّه مَحِلُّه عند أهلِ العلم (¬1). ويدلُّ عليه - أيضاً (¬2) - النظر والقياسُ، وإن كانَ ضعيفاً في هذا المقام، فإنه كما يجوز له ذبحُ الهَدْي قبلَ وقتِه للعذر، يجوز ذبحه قبل مكانِه - أيضاً -، ولأنه يشقُّ عليه مصابرة الإحرام، وربَّما وقف أبداً لا يقدر على إيصال الهدي إلى الحَرَمِ، ولم يجعلِ الله عليه في الدِّين حرجاً، فجاز نحرُه قبلَ مكانه لعذرِ المشقة (¬3). ¬
وسيأتي مزيدُ كلامِ على بيان المَحِلِّ (¬1) في "سورة المائدة"، إنْ شاءَ اللهُ تعالى. 2 - ويحتمل أن يكونَ المرادُ بالمَحِلِّ اسمَ الزمانِ، إمَّا وَحْدَهُ, وإمَّا مع المكانِ إذا أوقعنا المشترَكَ على جميعِ معانيه. بدليل ما روى ابنُ عباسٍ -: رضي اللهُ عنهما - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قيل له في الذبحِ والحلقِ والرمي، والتقديم والتأخيرِ، فقال: "لا حَرَجَ" (¬2)، ولعلَّ هذا هو سببُ الشبهةِ التيَ ألجأتِ الثوريَّ، والحسنَ بنَ صالحٍ إلى أن قالا: المُحْصَرُ لا يحلُّ إلا في يومِ النحر (¬3). * وقد ذهبَ إلى جوازِ تقديم الحلقِ على الذبحِ مالكٌ والشافعيُّ وداودُ وأبو ثور وأحمدُ -في إحدى الروايتين عنه- في العامد (¬4). إلا أن مالكاً قالَ: إن قدم الحلقَ على الرمي، لزمه الدمُ (¬5)؛ لأنه حلق قبلَ الشروعِ في ¬
التحلُّل، مع أنه لم يأتِ ذكرُ تقديمهِ في السنَّة، فبقي على أصل ترتيبه. ودعوى عدمِ ذكرهِ في السنَّةِ غيرُ مسلمةٍ، فقد أخرجه مسلمٌ في "صحيحه" عن عبد الله بن عمرِو بن العاص قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأتاه رجلٌ يومَ النَّحْر وهو واقفٌ عند الجمرةِ، فقال: يارسولَ الله! إني حلقتُ قبلَ أن أرميَ، فقال: "ارم ولا حرج"، وأتاه آخرُ وقال: إني ذبحتُ قبلَ أن أرميَ، فقال: "ارمِ ولا حَرَج"، وأتاه آخرُ، فقال: إني أَفَضْتُ (¬1) إلى البيت قبل أن أرمي، فقال (¬2): "ارم ولا حَرَج"، فما رأيته سئل يومئذ عن شيءٍ إلا قالَ: "افعلوا (¬3) ولا حرج" (¬4). وذهب قومٌ كالحسن وسعيدِ بنِ جبير والنخعيِّ وقتادةَ إلى وجوب الدمِ على من قَدَّم إحدى (¬5) الثلاثةِ التي هي الرميُ، ثم الذبحُ، ثم الحلقُ، بعضَها على بعضٍ (¬6). ¬
وحملوا الحديث على نفي الإثم عن الجاهلِ والناسي؛ بدليل ما رواه عبدُ الله بنُ عمرٍو -رضيَ الله تعالى عنهما - قال: وقفَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - للناس بِمِنًى، والناسُ يسألونه، فجاءه رجلٌ وقال: يا رسول الله! لم أكنْ أشعُرُ أن الرَّميَ قبلَ النحرِ، فنحرت قبلَ الرمي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارمِ ولا حَرَجَ"، قال: وطفق آخر يقول: إني لم أشعرْ أن النحرَ قبل الحلق، فحلقتُ قبلَ أن أنحر، فقال: "انحَرْ ولا حَرَجَ" قال: فما سمعتُهُ سُئِل يومئذٍ عن أمرِ شيءٍ ممّا يَنْسى المرءُ ويجهلُ من تقديمِ بعض الأمورِ قبل بعضٍ وأشباهها إلا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "افعلوا ذلك ولا حرج" (¬1). وذهب أبو حنيفةَ إلى أنه إن حلقَ قبلَ أن يذبحَ أو يرميَ، لزمَهُ دمٌ إنْ كانَ مُفْرِداً، و (¬2) دَمانِ إن كانَ قارِناً ومُتَمَتِّعاً (¬3). والصحيحُ هو الأولُ؛ لأنه لو وجبَ الدمُ لبيَّنَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه وقتُ الحاجةِ، وتأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ غيرُ جائزٍ. وأما حديثُ عبد الله بنِ عَمرٍو، فإنه، وإن وردَ في الناسي والجاهل، فلا يدلُّ على منعِه في العامدِ، والله أعلم. * وخص اللهُ سبحانه النهيَ بحلقِ الرأسِ: فيحتمل أن يكونَ التخصيصُ للتقييد، فيدل الخطابُ بمفهومه على إباحة سائِرِ شعرِ البدنِ. ويحتمل أن يكونَ للتعريفِ لا للتقييد، فيلحق بشعر الرأس سائرُ الشعور. ¬
وفي ذلك خلافٌ بين العلماء، فمنهم من قال بالأول (¬1)، ومنهم من قال بالثاني (¬2). الجملة (¬3) الرابعة: قوله عزَّ وجلَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. * استثنى (¬4) الله - سبحانه وتعالى - بفضلهِ ورحمتهِ المريضَ، ومَنْ برأسِه الأذى منَ النَّهْيِ، فأباح له حلقَ رأسهِ، وأوجب عليه الفِديةَ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ، وخَيَّره بين أنواعِها، وأطلق الفِديَةَ في كتابه - سبحانه -، ووكَلَ بيانَها إلى نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -. روينا في "الصحيحين" عن عبدِ الله بنِ مَعْقِلٍ (¬5) قال: جلستُ إلى كَعْب بنِ عُجْرَةَ، فسألتُه عن الفِدية، فقال: نزلتْ فيَّ خاصَّةً، وهي لكم عامَّةً؛ حُمِلْتُ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، والقملُ يتناثرُ على وجهي، فقال: "ما كنتُ أرى الوجعَ بلغَ بكَ ما أرى، أو: ما كنتُ أرى الجهدَ بلغَ بكَ ما أرى، تجدُ شاةً؟ "، فقلتُ: لا، قال: "فصم ثلاثةَ أيام، أو أطعِمْ ستةَ مساكينَ، لكلِّ مسكينٍ نصْفُ صاع" (¬6). ¬
وروينا (¬1) في "صحيح مسلم": "أو أَطْعِمْ ثلاثةَ آصُعٍ منْ تَمْرٍ على ستةِ مساكين" (¬2). وحكي عن قوم أقوالٌ تخالف السنَّة وتنابذها. فَحُكيَ عن أبي حنيفةَ والثوريِّ أن نصفَ الصاع لكلِّ مِسكينٍ إنَّما هو في الحنطةِ، فأما التمرُ والشعيرُ وغيرُها، فيجبُ صاعٌ لكلِّ مسكينٍ (¬3). وحُكي عن الحسنِ البصريِّ وبعضِ السلفِ أنه يجبُ إطعامُ عشرةِ مساكينَ، أو صومُ عشرةِ أيامٍ (¬4). * فإن قلتم (¬5): سمِّى اللهُ سبحانَه الدَّمَ في صدر هذه الآيةِ هَدْياً، وسمَّاهُ ¬
هنا نسكاً، فهل بين التسميتين فرقٌ أو تأثيرٌ في الحُكْم، أو لا؟ قلنا: أما الهَدْي فيطلَقُ في عُرْفِ الشرعِ على ما ساقَهُ المُحْرِمُ إلى البيتِ من بهيمةِ الأنعامِ ابتداءً. والنسكُ يطلق في العُرْفِ على الدَّمِ الذي يُذْبَحُ إمَّا كفارةً، وإما فديةً، وإما جُبراناً، وقد يطلَقُ عليه (¬1) اسمُ الهديِ أيضاً (¬2)، قال الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. وأما الحكمُ فواحدٌ عندَ الشافعيِّ وأبي حنيفة، فأوجبا الذبح بمكةَ كالهدي (¬3)، إما لوقوع اسم الهدي عليه عندهما، وإما لحمل المطلَقِ في الفديةِ على المقيَّدِ في هَدْيِ الإحصار عند الشافعي. وقال مالكٌ في إحدى الروايات عنه (¬4): يذبحُ أين شاءَ، بمكة أو غيرها، وكأنَّ الشرعَ إنما خالف بين اسميهما لاختلافِ حُكْمَيْهما (¬5)، مع ذكرِه للبيانِ في إحداهما (¬6)، وتركه له في الأخرى (¬7). ¬
وقد استنبطَ الأوزاعيُّ من إطلاق الفديةِ في الأذى، وترتُّبُ (¬1) الحلقِ على بُلوغِ الهدي محلَّه: أنه يجوزُ للمُحْرِم أن يكفرِ بالفِدْيَةِ قبل الحَلْقِ. وله وجهٌ في القياسِ على كفارةِ اليمين، وأبى ذلك الجمهورُ، وقاسوه على المُحْصَر (¬2). * ثم استنبطَ أهلُ العلمِ من ترخيصِ الله -سبحانَهُ - للمريضِ في حلقِ رأسه مع إيجاب الفدية وجوبَ الفديةِ على من حَلَقَ ناسياً؛ لأنه عذز في رَفْع الحرج، فلا يكونُ عذراً في ترك الفداءِ؛ كالمريض، وبه قالَ مالكٌ والشافعيُّ (¬3)، وداودُ وإسحاقُ (¬4). ثم استنبطوا أن كلَّ ما يُضْطَرُّ إليه المُحْرِمُ بسبب المرضِ، أو دفعِ الأذى؛ كالطيبِ واللُّبْس والستر أنه كالحَلْقِ؛ لأنه (¬5) في معناه (¬6). ¬
الجملة (¬1) الخامسة: قوله جلَّ جلالُه: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]. فأقول: أجمعَ أهلُ العلمِ على أنَّ وُجوهَ النسكِ ثلاثةٌ: الإفرادُ، والتَّمَتُعُّ، والقِرانُ، واتفقوا على أن فعلَ جميعِها جائز، فقد صحَّ وثبتَ جميعُ ذلكَ مِنْ بَيَانِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من قولِه وفِعله (¬2). روينا في "صحيح مسلم" عن عائشةَ -رضيَ الله تعالى عنها - قالت: خَرجْنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "مَنْ أرادَ منكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، ومَنْ أرادَ أَنْ يُهلَّ بِحَجٍّ فليفعلْ، ومن أرادَ أن يهلَّ بعُمْرَةٍ فليفعل"، قالتْ عائشةُ: فأهلَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بحجٍّ، وأهلَّ بهِ ناسٌ معهُ، [وأهلَّ ناسٌ بالعُمرةِ والحجِّ، وأهلَّ ناسٌ] (¬3) بعمرةٍ، وكنتُ فيمن أهلَّ بعُمْرَةٍ (¬4). وقد روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مُفْرِداً، ورُوي أنهُ كانَ مُتَمَتِّعاً، ورُوي أنه كانَ قارِناً (¬5). ¬
* وإنما اختلفوا في الأفضل منها: - فقال أحمدُ (¬1)، والمَكِّيُّونَ (¬2)، والشافعيُّ في أَحَدِ قَوْليه: التمتعُّ أفضلُ (¬3). قال أحمدُ: ولا شَكَّ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ قارِناً، والتمتُّعٌ أَحَبُّ إليَّ، واحتجَّ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو استقبلتُ من أمري ما استدْبَرْتُ، ما سُقْتُ الهَدْيَ، ولجعلتُها عُمْرَةً" (¬4). قال الشافعيُّ عندَ اختياره الإفراد: هذا وجهٌ لولا أنه يحتمل أنه قالَ هذا لِتكرُّهِ الناسِ الإحلالَ حينَ أمرهم به (¬5)، وإقامته مُفْرِداً - صلى الله عليه وسلم -، فلما احتملَ هذا، اخترتُ الإفراد، وهذان الوَجْهان أَحَبُّ إليَّ منَ القِران (¬6). - وذهبَ مالكٌ (¬7)، والشافعيُّ في أحدِ قوليه (¬8)، وكثيرون (¬9)، ¬
إلى تفضيلِ الإفراد؛ لفعل رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. - وذهب أبو حنيفةَ إلى تفضيلِ القِران (¬1)، وهو قولُ الشافعيِّ - أيضاً -، واختار المُزَنِيُّ (¬2). قال ابنُ عبدِ البَرِّ: ولا خِلافَ بينَ العلماءِ أنَّ التَّمَتعُّ المُرادَ بقولِ اللهِ -تعالى-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] هو الاعتمار في أشهرِ الحجِّ، والحجُّ من عامِه (¬3). وما أظنُّ (¬4) دعواهُ سالمةً، فقدْ كانَ ابنُ الزبير -رضي الله تعالى عنهما - يذهبُ إلى أنَّ التمتعُّ الذي ذكرهُ اللهُ - تعالى - هو تمتعٌّ المُحْصَرِ إذا حبسه العدوُّ حتى ذهبتْ أيامُ الحَجِّ، فيأتي بأفعالِ العُمرة، ثم يتمتعُ بحلِّه، إلى العامِ المقبلِ، ويهدي (¬5). ¬
فإن قلتُم: وقد (¬1) كان عمرُ وعثمانُ -رضيَ الله تعالى عنهما - ينهيان عن متعةِ الحَجِّ (¬2). قلنا: اختلفَ أهلُ العلمِ في المتعةِ التي نَهَيا عنها، هلْ هيَ فسخُ الحَجِّ إلى العُمرة، أو التمتعُ في أشهرِ الحجِّ؟ فقال القاضي عياضٌ بعدَ ذكرِ أحاديث وآثار: الظاهرُ منها أنَّ المتعة التي اختلفوا فيها إنما هي فسخُ الحجِّ إلى العُمرة، قال: ولهذا كانَ عمرُ يضربُ الناسَ عليها، ولا يضربُهم إلَّا على ما اعتقدَهُ من اختصاصِ هذه المتعةِ بتلك السنة؛ لمخالفة الجاهلية، وأن ذلك غيرُ جائزٍ في غيرها، وذلكَ اعتقادُ أكثرِ الصحابةِ -رضي الله تعالى عنهم - (¬3). واختار أبو زكريا النوويُّ أنه التمتعُ في أشهرِ الحجِّ، وإنما نهيا (¬4) عنه؛ لأن الإفرادَ أفضلُ، فنهيا عن (¬5) التمتع نهيَ تنْزيهٍ، وضربَ عليه عمرُ؛ لأنه مأمورٌ بصلاحِ رَعِيَّته، وكان يرى الأمرَ بالإفراد من جملةِ صلاحهم (¬6). والمختارُ عندي: أَنَّ الذي نهى عنه عمرُ إنما هو فسخُ الحَجِّ إلى العُمرة لا التمتع (¬7)؛ لما روى أبو موسى - رَضِي الله عنه - قال: قدمتُ على ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو بالبَطْحاءِ (¬1) فقال: "أحَجَجْتَ؟ " قلتُ: نعم، قال: "بم أهللتَ؟ " قلت: لبيكَ بإهلالٍ كإهلالِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أحسنْتَ، انطلقْ فطفْ بالبيتِ وبالصفا والمَرْوَةِ"، ثم أتيتُ امرأة من نِساء بني قَيْسٍ، فَفَلَّتْ لي رأسي، ثم أهللتُ بالحجِّ، فكنتُ أُفتي بهِ الناسَ حتى خِلافةِ عمرَ، فذكرته له، فقال: إن نأخذْ بكتابِ الله، فهو يأمرُنا بالتَّمام، وإن نأخذْ بسنَّةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحلّ حتى يبلغَ الهديُ محلَّه (¬2). وهذا صريحٌ في أن الذي منع منهُ إنما هو فسخُ الحَجِّ إلى العُمْرَةِ (¬3)، لا التَّمَتُّعُ المَعْروفُ؛ لأنه مذكورٌ في كتاب الله تعالى، وعمرُ أخذ بكتاب اللهِ، وبه احتجَّ على من خالفه، وقال (¬4): إن اللهَ -سبحانَه- يُحِلُّ لنبيِّهِ ما شاءَ، لما شاء، وإنَّ القرآنَ قد نزلَ منازِلَهُ، فأتموا الحجَّ والعمرةَ كما أمركمُ الله - تعالى -، وافْصِلوا حَجَّكُمْ من عُمْرَتِكُمْ؛ فإنه أَتمُّ لحجِّكم، وَأتَمُّ لعُمرتكم. ¬
وأرشدَ الناسَ عمرُ في آخرِ (¬1) كلامهِ إلى أفضلِ مراتبِ النُّسُكِ، وهو الإفرادُ، فجمعَ بين الحَثِّ على المنعِ من المتعةِ، وبينَ الترغيبِ في الفضيلة (¬2)، ولقول عمر -رضي الله تعالى عنه -: متعتانِ كانَتا على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أنهى عنهما، وأعاقبُ عليهما: متعةُ النساءِ، ومتعةُ الحجِّ (¬3). وأما الذي نهى عنه عثمانُ -رضي الله تعالى عنه -، فالظاهر أنه التمتعُ والقِران (¬4)؛ لما روى مروان بن الحكم قال: شهدتُ عثمان وعَلِيًّا، وعثمانُ ينهى عن المتعة، وأن يُجْمَع بينَهُما، فلما رأى ذلك عليٌّ، أهلَّ بهما، وقال: لبيك بعمرةٍ وحجةٍ، وقال: ما كنتُ لأدعَ سنةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لقولِ أحدٍ (¬5). * واتفق العلماءُ على وجوبِ الهَدْي على المُتَمَتِّعِ؛ للآية (¬6). * وإنما اختلفوا في وقت وجوبه. ¬
فقال الشافعيُّ وأبو حنيفةَ: يجبُ بالإحرام بالحجِّ (¬1). وقال مالكٌ: لا يجبُ حتى يرميَ جمرةَ العقبة، فاعتبرَ كمالَ الحجّ (¬2). وقال عطاء: لا يجب حتى يقف بعرفة، فاعتبر معظم الحجِّ (¬3)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحَجُّ عَرَفَةُ" (¬4). وقول الشافعيِّ أولى؛ لأن ما جُعِلَ غايةً، فأوله كآخره؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وهذا يلفت إلى قاعدة، وهي: هل العبرةُ بأوائل الأسماء، أو بأواخرها؟ * وكذلكَ اختلفوا في صِفةِ التَّمَتُعِّ، فاشترطَ جمهورُهم وقوعَ العُمرةِ في أشهر الحجِّ، ثم اختلفوا. - فمنهم من اشترطَ وقوعَ جميعِها تحلُّلاً وإحراماً، وهو قولُ أبي ثورٍ وأحمدَ وإسحاقَ والشافعيِّ في "الأم" (¬5)، وهو المشهورُ من قوله (¬6). ¬
- ومنهم من اكتفى بوقوعِ التحلُّلِ، وهو قولُ مالكٍ (¬1). - ومنهم من اكتفى بحُصول الطَّواف في شَوَّال، وهو قولُ الثوريِّ والحَكَم وابنِ شُبْرُمَةَ (¬2)، والشافِعِيِّ في أَحَدِ قولَيْه (¬3). - ومنهم منِ اكتفى بمُعْظَمِ الطَّوافِ، وقال: إن طافَ ثلاثةَ أشواطٍ في رمضانَ، وأربعةً في شَوّال، كانَ متمتِّعاً، وإنْ كانَ بالعَكْسِ لمْ يكُنْ متمتِّعاً، وهو قولُ أبي حَنيفَة (¬4). - وحُكي عن طاوس: أنَّ من اعتمرَ في غيرِ أشهر الحَجِّ ثم أقامَ حتى أتى الحاجُّ، وحجَّ من عامِه أنه متمتِّعٌ (¬5). وكلهم شرطوا أن الحجَّ من عامِهِ، إلا الحَسَنَ؛ فإنه روي عنه أنه متمتِّعٌ، وإن لم يحجَّ، وكان يقولُ: عمرةٌ في أشهر الحَجِّ متعةٌ (¬6). ويكون - على قوله -: ¬
(إلى) (¬1)، بمعنى (في). وهو جائزٌ في اللِّسانِ، قال النابغة: [البحر الطويل] فلا تَتْرُكَنِّي بالوَعيدِ كَأَنَّني ... إلى الناس مَطْلِيٌّ بِهِ القارُ أجرَبُ (¬2) وقال طَرَفَةُ: [البحر الطويل] وإنْ يَلْتَقِ الحَيُّ الكريمُ تُلاقِني ... إلى ذُرْوَةِ البَيْتِ الكَريمِ المُصَمَّدِ (¬3) والمستيسر من الهدي إما بَدَنَةٌ، أو بقرةٌ، أو شاةٌ، أو يشتركُ (¬4) في دمٍ (¬5). قال ابنُ عُمَر: بدنةٌ أو بقرةٌ (¬6). * ومن (¬7) لم يجدِ الهَدْي في وقتهِ، جازَ له أن ينتقل إلى الصَّوم؛ كما بيَنَ اللهُ - سبحانه - ذلك. ولم أعلمْ أحداً يخالِفُ (¬8) في ترتيبِ هذهِ الكفَّارة (¬9). * وواجبُ الصيامِ ثلاثةُ أيامٍ في الحجِّ وسبعةٌ إذا رجع؛ كما ذكره الله - ¬
سبحانه وتعالى -، فلا يجوزُ للمتمتع صومُ ثلاثةِ الأيامِ في غير الحجِّ؛ لظاهر الآية، وبهذا قال ابنُ عمرَ وعائشةُ -رضي الله تعالى عنهم - (¬1). وإليه ذهب الشافعيُّ (¬2). وقال أبو حنيفةَ وعطاءٌ وأحمدُ بجوازه قبلَ الحجِّ (¬3)؛ قياساً على تكفيرِ اليمينِ قبلَ الحِنْثِ، وتأويلُ الآيةِ عندهم: فمنْ لم يجدْ، فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ في وقت الحج. * والأفضل أن يفرغَ من صِيامها قبلَ يومِ عرفةَ (¬4)؛ لأن الأفضل للحاجِّ الفطرُ يوَم عرفة اقتداءً برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. * فإن لم يَصُمِ الثلاثةَ قبلَ يومِ عرفةَ، فهل له أن يصومَ في أيامِ التشريق؟ اختلف فيه أهلُ العلم - أيضاً -، فقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ في قولهِ الجديدِ: لا يجوزُ (¬5)، واختارَهُ ابنُ المنذرِ (¬6)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيامُ التَّشْريقِ أيامُ ¬
أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله -عَزَّ وجَلَّ (¬1) ". وقال مالكٌ والأوزاعيُّ وإسحاقُ: يجوزُ صومُها للمتمتعِّ (¬2)؛ لما رُوي عن عائشةَ وابنِ عُمر -رضيَ الله تعالى عنهم -: أنهما قالا: لم يرخّصْ في أيامِ التشريقِ أَنْ يُصَمْنَ إلَّا لمنْ لَمْ يجدِ الهَدْيَ (¬3). ويوافقهم النظرُ وظاهرُ القرآن. أما النظرُ، فإنه لا يتحققُ عدمُ الهدي إلا يومَ النحر؛ لأنه محلُّه، فيتحقق وجوب الصوم لعدم الهدي. وأما ظاهرُ القرآن، فإنَّ هذه الأيام من أيام الحج، وأفعالَها من أفعال الحج. * وبيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ المرادَ بالرُّجوع في كتابِ الله -عزَّ وجلَّ - هو رجوعُ المسافرِ إلى أهله، فقال: "ومن لم يَجِدْ هَدْياً فَلْيَصُمْ ثلاثةَ أيامٍ في الحَجِّ، وسبعةً إذا رجعَ إلى أهلهِ" (¬4) وفي رواية: "وسبعةً إذا رجعتم إلى أمصارِكم" (¬5). ¬
وقال أبو حنيفة وأحمد: إذا فرغَ من أعمالِ الحجِّ (¬1). وقال مالكٌ: إذا سار (¬2). وهما قولان للشافعيِّ -أيضاً- (¬3)، والأول أولى. الجملة السادسة: قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]. وفيها ثلاثُ مسائل: الأولى: اختلفوا في الحكم المُشار إليه بهذا التخصيص، هل هو صحة التمتُّع، أو وجوبُ الدم على المتمتِّع؟ فذهب أبو حنيفة بالإشارة إلى صحة التمتع المترتب عليه هذه الكفّارةُ، فلا يصحُّ لحاضِري المسجدِ الحَرام تمتُّعٌ، ولا قِرانٌ (¬4). ¬
ويدلُّ له ما رواه البخاري في "صحيحه" عن ابنِ عباسٍ -رضي اللهُ عنهما - قال ابن عباس في آخر حديث رواه: فجمعوا نسكين في عام بينَ الحجِّ والعمرةِ؛ فإن اللهَ أنزلَهُ في كتابه وسنَّةِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وأباحه للناس غير أهلِ مَكَّة، قال الله عزَّ وجلَّ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬1) [البقرة: 196]. وقال مالكٌ والشافعيُّ: التخصيصُ يرجعُ إلى سقوطِ الدمِ عن المتمتَعِّ (¬2). فدمِ المتمتعِّ عند أبي حنيفةَ دَمُ شُكْرٍ للهِ تَعالى على الجَمْعِ بين العبادَتيْنِ في سَفرٍ واحدٍ، وعندَ مُخالفيهِ دَمُ جُبْرانٍ؛ لتركِ الإِحرام بالحَجِّ من الميقات (¬3). المسألة (¬4) الثانية: اختلفوا في {حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: - فقال ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما -: من كانَ بالحَرمِ خاصَّةً، لا غير (¬5). وبه قالَ أهلُ الظاهر (¬6). - وقال الثوريُّ: هم أهلُ مكةَ (¬7). ¬
- وقال مالكٌ: أهلُ مكةَ ومنْ كانَ بذي طُوىً (¬1)، وما كان (¬2) مِثْلَ ذلكَ من مكَّةَ (¬3). - وقال أبو حنيفةَ ومكحولٌ: منْ كانَ دارُه دونَ الميقاتِ (¬4). - وقال الشافعيُّ: مَنْ كان (¬5) بينَه وبينَ مكةَ مسافةٌ لا تُقصر فيها الصلاةُ (¬6)، وذلك أنه معروفٌ في لسانِ العربِ أنَّ من قَرُبَ من الشئِ يُسَمَّى حاضراً له، يقال: فلانٌ بحَضْرَةِ الماءِ: إذا كانَ قريباً منه (¬7). ولما كانَ القربُ مُطْلَقاً، احتاجَ الشافعيُّ إلى تقديره، فلم يجدْ دليلاً يدلُّ عليه إلا القياسَ على المسافةِ التي اعتبرَها الشرعُ، وهي المسافةُ التي تُقْصَرُ فيها الصلاةُ وتُجْمعُ (¬8). وقولُ غيرِ الشافعيِّ أقربُ إلى حقيقةِ الحضور، لكنْ لمّا كان هذا ¬
التخصيصُ عندهُ لأجلِ مجاورةِ البقْعَةِ الشريفةِ، عدلَ الشافعيُّ إلى المَجاز. ويقوَّى ذلكَ عندَه بأنَّ أكثرَ المواقيتِ على مرحلتينِ (¬1) من مَكَّةَ، فَدَلَّ (¬2) على أن المرحلتينِ حَدٌّ بينَ القريبِ والبعيد، فهي غاية درجاتِ القريبِ، وأولُ درجاتِ البعيد. ولفظُ الحضورِ يصلُح لكلٍّ مِنَ الأقوالِ، إلَّا قولَ أبي حنيفةَ؛ فإنَّ الحُضورَ لا يصلُحُ أن يُطْلَقَ على ميقات ذي الحُلَيْفَةِ؛ لبعدها؛ فإنَّ ذا الحليفة على تسعِ مراحلَ (¬3). المسألة (¬4) الثالثة: قد بينتُ في كتابي هذا أنَّ المسجدَ الحرامَ يقع على مكَّةَ، ويقعُ على الحَرَمِ (¬5). واختلفتِ الشافعيَّةُ هنا في المراد به، بحسْبِ اخْتِلافهم في اعتبار المرحلتين: مِنَ الحرمِ، أم من مكةَ؟ (¬6) والراجحُ عندي اعتبارُ الحضورِ من مكةَ؛ لقربِ الحُضور من الحقيقةِ، والله أعلم. * * * ¬
19 - 20 (19 - 20) قوله جلَّ جلاله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 197 - 198]. أقول: اشتملت هذه الآيةُ (¬1) على جُمَلٍ من المناسِك. الجملة الأولى: قولُه تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، ومعلوم أن في الكلام حذفاً وإضماراً. قال أبو زكريا الفرَّاءُ: معناه: وقتُ الحجِّ هذه الأشهُرُ (¬2). قال ابنُ المنذرِ: وقالَ غيرُ الفراءِ: يريدُ أن الحجَّ في أشهرٍ معلوماتٍ (¬3). * وقد خصَّ اللهُ -سبحانَه - في هذه الجملة الحجَّ بزمنٍ مخصوص كما خصَّ الصلاةَ والصيامَ بزمنٍ مخصوص. وعلى هذا أجمع المسلمون. * وإنما اختلفوا في تحديد أشهرِهِ المعلومةِ: ¬
فقالَ جمهورُ العُلماء: أشهر الحج: شَوّالٌ، وذو القَعْدَةِ، وعَشْرٌ من ذي الحِجَّةِ. ورويَ عن عُمَر، وابن عمرَ، وابنِ عباسٍ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ الزبير -رضي اللهُ تعالى عنهم -. وإليه ذهب الشافعيُّ وأبو حنيفة (¬1). واختلفوا في يوم النحر، فعدَّهُ أبو حنيفة منها (¬2)، ولم يعدَّهُ الشافعيُّ (¬3). وقال قومٌ (¬4): أشهُرُ الحَجِّ: شَوّالٌ، وذو القَعْدَةِ، وجميعُ ذي الحِجَّة، ورويَ (¬5) عن عَلِيٍّ رضيَ اللهُ تعالى عنه (¬6). * واتفقوا على وجوب فِعْل الحجِّ في أشهُره. * واختلفوا هل يجوزُ فرضُه قبلَ أشهُره؟ ¬
- فذهبَ الشافعيُّ إلى أنه لايجوز؛ كما لا تجوز الصلاةُ قبل وَقْتِها (¬1). ولقولِ ابنِ عباس -رضيَ الله تعالى عنهما-: لا يُحْرِمُ بالحجِّ إلا في أشهر الحجِّ؛ فإنَّ من سُنَّةِ الحَجِّ أنْ يُحْرِمَ بالحجّ في أشهر الحج (¬2). ولقولِ جابرٍ: لا يُهِلُّ أحدٌ بالحجِّ؛ إلاّ في أشهُر الحجِّ (¬3). وهوَ قولُ عطاءٍ وعِكْرمةَ، فعنْ عِكْرِمَةَ أنه قال: لا ينبغي لأحدٍ أن يحرم بالحجِّ إلاّ في أشهُر الحجِّ (¬4)؛ من أجلِ قولِ الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (¬5) [البقرة: 197]. وللاستدلال بالآيةِ عندي وجهٌ قويٌّ: فأما على تأويل الفَرّاءِ فظاهرٌ. وفأما على تأويلِ غيرِه، فإنَّ الإحرامَ من جملةِ الحَجِّ، ولم يقعْ إلا في الأشهر المعلومات. - وذهب مالكٌ والثوريُّ وأبو حنيفةَ إلى صِحَّةِ الإحرام بالحجِّ قبل أشْهُرِه (¬6). ¬
* وتخصيصُ الله - سبحانه - الحجَّ بالتوقيتِ يُفْهِمُ أَنَّ العُمْرَةَ ليستْ مثلَهُ، وليس لها وقتٌ مخصوصٌ. وعلى هذا القولِ (¬1) اتفقَ أهلُ العلم، فأجازوها في جَميع السنة (¬2)؛ لأنها كانت في الجاهلية لا تصنع في أيام الحج، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيامَة" (¬3). وإنما اختلفوا في تكريرها في السَّنَةِ، فكرههُ مالكٌ (¬4)، واستحسنه الشافعيُّ وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى (¬5). * وبيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الميقاتَ المَكانيَّ، فروى ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لأهلِ المَدينةِ ذا الحُلَيْفَةِ، ولأهلِ الشامِ الجُحْفَةَ، ولأهل نجدٍ قَرْنَ المنازلِ، ولأهل اليمنِ يَلَمْلَمَ، هنَّ لَهُنَّ ولمنْ أَتى عَلَيْهِنَّ من غير أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أرادَ الحجَّ والعمرةَ، ومنْ كان من دونِ ذلك فمِنْ حيثُ أَنْشَأَ، حتى أهلُ مكةَ من مكةَ (¬6). ¬
* وقد اتفق العلماء على اعتبارِها، وإنما اختلفوا في صفته، وموضعُ تفصيلِ ذلك كتبُ الفقهِ، والله أعلم. الجملة الثانية: قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]. * حرم الله - سبحانه - فيها الرَّفَثَ، وهو الجِماعُ؛ كما قالَه ابنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهما - على من فرضَ الحَجَّ في أشهُره (¬1)، وقد أجمعت الأمةُ على تحريمِه، وعلى أنه مفسدٌ للحجِّ، وعلى وُجوبِ الكَفَّارة فيه، والمضيِّ في فاسدِه (¬2)؛ لقولِه تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. * وإنما اختلفوا في الوقتِ الذي يُفْسِدُهُ؟ فقال قوم: يفسد الحجَّ مطلقًا (¬3). وقال قوم: لا يفسدُه إلا إذا وقعَ قبلَ التَّحَلُّل الأصغر (¬4). ¬
* وبَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن ما كانَ من أسبابِ الرفثِ ودواعيه، فهو حرامٌ، فقالَ: "لا يَنْكِحُ المُحْرِمُ، ولا يُنْكَحُ، ولا يَخْطِبُ" (¬1). * ومفهومُ هذا الخِطاب يقتضي أنَّ من فرضَ الحجَّ في غيرِ أشهُره، فله أن يرفُثَ، وذلك يستلزمُ عدمَ صِحّةِ فرضِه، وبهذا قال بعضُهم (¬2). وقال الشافعيُّ: لا يصحُّ فرضُه للحج، لكنه يكونُ عُمْرَةً (¬3)، وأقاسَهُ على الصَّلاةِ قبلَ وقتِها؛ فإن المكتوبةَ لا تصحُّ مكتوبةً، وتصحُّ نافلةً. ويدلُّ له قولُه تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]؛ فإنَّ اللهَ تعالى أمر بإتمامِ الحجِّ، ولم يمكنْ إتمامه، فانقلبَ عُمْرَةً، وهيَ العبادةُ التي يمكنُ إتمامُها، فعارضَ هذا المفهومُ هذا العمومَ، وترجَّحَ العُمومُ بالقياسِ. ¬
ولا يخلو قياسُ الشافعيِّ من نِزاعٍ؛ فإنَّ الصحيحَ عندَ أصحابِه أَنَّ المكتوبةَ قبلَ وقتِها لا تنعقدُ أصلاً (¬1). وقولُ مخالِفِهِ أصحُّ؛ للمفهوم المستنبَطِ من هذه الآية، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأَعْمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكل امْرِئٍ (¬2) ما نَوى" (¬3). وأما الاستدلالُ بعموم قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فباطلٌ؛ لأن الله - سبحانه - إنما أمرَ بإتمام ما دخل فيه، ولم يأمرْهُ أن يتم بغيره، والله أعلم * والنهيُ عن الرفثِ مختصٌّ ببعضِ الأحوالِ؛ كالصومِ والاعتكافِ والحجِّ، وأما النهيُ عن الفُسوقِ والجِدالِ، فلا يختصُّ بحالٍ، وإنما خصَّه اللهُ -سبحانَهُ - بمن فرضَ الحجَّ؛ تعظيمًا وتفخيماً لشأنِ الحجِّ (¬4)؛ كما قالَ اللهُ تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]. الجملة الثالثة: ينبغي للحاجِّ أن يتزوَّدَ؛ لأمرِ الله - سبحانه - بذلك. فإنْ تركَ الزَّادَ واعتمدَ على المسألةِ؛ فإن كانَ غَنِيًّا، حَرُمَ عليهِ (¬5)، وإن كان فقيرًا، أو (¬6) لا كَسْبَ له، كُره له ذلك (¬7)، ولم يَحْرُمْ عليهِ فِعْلُه (¬8). ¬
قال ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما -: كانَ أهلُ اليمنِ يَحُجُّونَ، ولا يَتَزَوَّدونَ، ويقولون: نحنُ المُتَوَكِّلون، فإذا قَدِموا مَكَّةَ، سألوا الناسَ، فأنزلَ اللهُ سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (¬1) [البقرة: 197]. * ويجوز للحاجِّ أن يحملَ معه مالَ التجارة، من غيرِ كراهةٍ (¬2)؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وقرأ ابن الزبير -رضي اللهُ تعالى عنهما -: (في مواسم الحج) (¬3)، ولقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]. قال ابن عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما -: كان ذو المَجاز وعُكاظٌ مَتْجَرَ الناسِ في الجاهليةِ، فلما جاءَ الإسلام، كأَنَّهم كرهوا ذلك حتى نزلت: (ليسَ عليكُمْ جُناحٌ أنْ تبتَغُوا فضلاً من رَبِّكُمْ في مَواسِمِ الحَجِّ) (¬4). ¬
الجملة الرابعة: قوله جل جلاله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]. قال جماهير المفسرين وأهل السِّيَرِ والحَديث: المشعرُ الحرامُ: جميعُ المُزْدَلِفَةِ (¬1). * وذكرُ الله - سبحانه - يقعُ على التلبيةِ والصَّلاةِ والمبيتِ، وإن لم يصحبه ذِكْرٌ؛ لأنه من مناسكِ الحجِّ، والمناسكُ ذِكْرٌ؛ لأنها انقيادٌ وتسليمٌ لله - سبحانه -، قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]، والذكرُ في هذه الأيام هو الرميُ، وأما التلبيةُ، فهي مشروعةٌ في مواطنِ الحجِّ كلِّها، ولا تختصُّ بمكانٍ دونَ مكانٍ، وأما الصَّلاةُ والمبيتُ، فقد خَصَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المَشْعَرَ الحرامَ بالصلاةِ والمبيتِ. - أما الصلاةُ، فقد روينا في "الصحيحين" عن أسامةَ بنِ زيدٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - دَفَعَ من عرفةَ، فنزلَ الشِّعْبَ، فبالَ، ثم توضأ، ولم يسبغ الوضوءَ، فقلت له: الصلاة؟ قال: "الصلاةُ أمامكَ"، فجاء المزدلفة، فتوضأَ، فأسبغ، ثم أقيمتِ الصَّلاةُ، فصلَّى المغربَ، ثم أناخَ (¬2) كلُّ إنسانٍ بَعيرَهُ في منزلِه، ثم أقيمتِ الصلاةُ، فصلَّى، ولم يُصَلِّ بينهما (¬3). ¬
- وأما المبيتُ، فإن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- باتَ بِجَمْعٍ، وصَلَّى بِها الصُّبْحَ بِغَلَسٍ (¬1) ثم وقفَ حتى أَسْفَرَ (¬2)، ثم دَفَعَ قبل أن تطلُعَ الشمسُ إلى مِنًى. قال الشافعيُّ: أخبرنا مسلمُ بنُ خالدٍ، عنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ قَيْسِ بنِ مَخْرَمَةَ، قالَ: خطبَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالَ: "إن أهلَ الجاهليةِ كانوا يدفعون من عَرَفَةَ حين تكونُ الشمسُ كأنها عمائِمُ الرِّجالِ في وُجوههم، قبلَ أن تَغْرُبَ، ومنَ المُزْدَلِفَةِ بعدَ أن تطلُعَ الشمسُ حتى تكونَ كأنها عمائِمُ الرِّجالِ في وُجوههم (¬3)، وإنّا لا نَدْفَعُ من عَرَفَةَ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، ونَدْفَعُ منْ مزدلفةَ قبلَ أن تطلُعَ الشَّمسُ. هَدْيُنا مُخالِفٌ لِهَدْيِ أهلِ الأوثانِ والشِّرْكِ" (¬4). وروى عروةُ بنُ مُضَرّسٍ حديثاً متَّفَقًا على صحته، قال: أتيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بِجَمْعٍ، فقلتُ له: هل لي من حَجٍّ؟ فقال: "مَنْ صَلَّى هذهِ الصَّلاةَ مَعَنا، ووقفَ هذا المَوْقِفَ حتى يُفيضَ، وأفاضَ قبلَ ذلكَ من عَرَفاتٍ ليلاً أو نَهاراً، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وقَضى تَفَثَهُ" (¬5). ¬
* إذا تقررَ هذا، فقدِ اختلفَ أهلُ العلمِ في الصلاةِ بالمَشْعَرِ الحرامِ: - فذهبَ أبو حنيفةَ وغيرُه من الكوفيينَ، وبعضُ الشافعيةِ إلى وجوبِ الصَّلاةِ به، وإن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فعلَهُ نُسكاً، لا لأجل السفر، فيجبُ الجَمْعُ على الآفاقِيِّ والمَكِّيِّ، ولا يجمعُ بينَ الصلاتين إلا بالمُزْدَلِفَةِ (¬1). - وذهب الشافعيُّ والأوزاعيُّ وأبو يوسفَ وأحمدُ وفقهاءُ أهلِ الحديثِ إلى استحبابِ الجمعِ بالمزدلفةِ، وأنه لا يجوزُ للمَكِّيِّ، ويجوزُ أن يصلي في غير المزدلفة، ورأوا أنَّ فعلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- كانَ لأجلِ السفر (¬2). وقولُ أبي حنيفةَ أَشْبَهُ بالقرآنِ والسُّنَّةِ، وأَوفَقُ للنظرِ. وذلكَ أنه لم يُنْقَلْ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه جمعَ بينَ الصلاتينِ في سفره مثلما نُقِل هنا، إنما نُقِلَ عنهُ -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا كان نازلاً، فَّقدمَ الثانيةَ إلى الأولى، وإذا كانَ سائراً أخَّرَ الأولى إلى الثانية، وهذا يدخلُه التأويل، وعلى تسليمه، فقد كانَ النبي -صلى الله عليه وسلم- نازلاً بعرفةَ في وقتِ المغرب. - وقال مالك: لا يجوزُ أن يصلِّيَها قبل المزدلفة إلاّ مَنْ بهِ أو بِدائتِهِ ¬
عذرٌ، فلهُ أن يصليَها قبلَ المزدلفةِ، بشرط كونهِ بعدَ مغيبِ الشفقِ (¬1). * وكذلك اختلفوا في المبيتِ بمزدلفة: فقال الشعبيُّ والنَّخَعِيُّ والأَوزاعِيُّ والحسنُ البصريُّ وعَلْقَمَةُ والأسودُ: هو ركنٌ من أركانِ الحجِّ، لا يصحُّ الحجُّ إلَّا به؛ كالوقوفِ بعرفةَ، واختارَهُ أبو عبدِ الرحمن ابن بنتِ الشافعيِّ، وأبو بكر بنُ خزيمةَ من الشافعية. - وقال أكثرُ أهلِ العلم: ليسَ بركْنٍ في الحجِّ (¬2). * ثم اختلفوا هل هو واجب يجب بتركه الدمُ، أو سُنَّةٌ لا يجبُ فيه الدمُ؟ - فقال أصحابُ الحديثِ وأهلُ الكوفة: هو واجب، وفيه دم (¬3)، وهو الصحيحُ من قولِ الشافعيِّ (¬4). - وقالت طائفة: هو سنة (¬5)، وهو قولٌ للشافعيِّ أيضاً (¬6). - وحكي عن بعض السَّلَف أن المبيتَ ليس بِنُسُكٍ، وإنما هو مَنْزِلٌ، إن ¬
شاءَ نزلَهُ، وإن شاءَ تركَه (¬1). وهذا ضعيفٌ جداً، بل غلط ظاهرٌ؛ لمخالفةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ. والقولُ الأولُ عندي أقوى دليلاً؛ لموافقتِه القرآنَ، ولحديثِ عروةَ بنِ مضرّسٍ -رضي الله تعالى عنه-. وقد أجيب عنه بأنه - صلى الله عليه وسلم - علَّقَ تمامَ الحَجّ: 1 - على الصَّلاةِ معه، وهي صلاةُ الصُّبْحِ. 2 - وعلى وقوفِ هذا الموقفِ حتى يُفيضَ، ولم يُفِضْ إلا بعدَ صلاةِ الصبح بزمنٍ. 3 - وعلى الإفاضة قبل ذلك من عرفاتٍ. وقد أجمعَ العلماءُ على أن من وقفَ و (¬2) لم يصلِّ الصُّبْح، إما لعصيانٍ، أو نوم، أو نسيانٍ، فحجُّه تامٌ (¬3). وقد ثبَّتَ أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أرسلَ بعضَ أزواجه للإفاضَةِ بِلَيْلٍ (¬4)، فدلَّ على أن التَّمامَ معلَّق على الإفاضة من عرفاتٍ. وفي هذا الجوابِ نظرٌ؛ لأنَّ الأمرَ إذا عُلّقَ على أوصافٍ، وأمكنَ اعتبارُ ¬
كلِّها، وجبَ اعتبارُها، ولا يخرجُ عن الاعتبارِ إلا ما أخرجَهُ الدليلُ (¬1). 1 - فأمّا التعليقُ بالصلاةِ مَعَهُ، فقد دلَّ الدليلُ على عدم اعتبارِها؛ لأن العباداتِ لا تفسدُ بالمعاصي، ولأنّ الوقوفَ بعرفة كافٍ مع النومِ والنسيانِ، وليس هذا الموقفُ بِآكَدَ من عرفةَ، وهذا لا يمنعُ الوقوفَ برفةَ، فكذلكَ بالمزدلفة. 2 - وأما التعليقُ بالإفاضة معهُ معَ عدمِ إفاضَتِه لبعضِ أزواجِه، فإنه يدلُّ على أن للإفاضةِ جوازاً وفضيلة (¬2)، فعمل بالأفضل، وعَمِلَ بعض أزواجه بغير الأفضل. وأفعالُه وأقوالُه -صلى الله عليه وسلم- في البيان واحدٌ، فقدْ بيَّنَ هذا الموقف، كما بين - صلى الله عليه وسلم - في عرفات، فقال في حديث عروة: "وأفاض قبلَ ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تَمَّ حجُّه" (¬3): مع وقوفه -صلى الله عليه وسلم- إلى غروب الشمسِ وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وإنا لا ندفعُ من عرفة حتى تغرب الشمسُ " (¬4). ولهم أن يقولوا -أيضاً-: جميعُ ما علّق عليه معتبر، والمعنى: من صلَّى هذه الصلاةَ معنا، أو وقفَ هذا الموقفَ حتى نفيض، وتكون الواو بمعنى (أو)، ويكون في الخِطاب إشارةٌ إلى حالةِ الكَمال في هذا الموقف (¬5)، وإلى حالةِ الإجزاء (¬6)، أو يكون فيهِ حينئذٍ دليل على وجوب هذين الوقوفين، ¬
إما جميع الليل، وإما وقت هذه الصلاةِ لمن ضاقَ وقتُ وقوفه؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن أدركَ عرفةَ قبلَ أن يطلعَ الفجرُ، فقدْ أدركَ الحَجَّ" (¬1)؛ إذ علَّق تمامَ الحَجِّ عليهما، وهذا تأويل حسن قوي -إن شاء الله تعالى-، والواو تُستعملُ بمعنى (أو) كثيراً في اللسان، قال الشاعر (¬2): [البحر الطويل] وَقَالوا نَأَتْ فَاخْتَرْ مِنَ الصبْرِ والبُكَا ومنه قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]. * وقال قوم: المشعرُ الحرامُ اسمٌ لجبلٍ من جِبال المزدلفةِ خاصَّةً يُسَمى: قُزَحَ (¬3). واحتجوا بقولِ جابر -رضيَ الله تعالى عنه- في حديثه: فلما أجاز رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - منَ المزدلفة بالمشعرِ الحرام، لم تشُكَّ قريشٌ أنهُ سيَقتصرُ عليه، ويكونُ منزلُه ثَم (¬4). ولا شكَّ في استحبابِ الوقوفِ به (¬5)، وقد أجمع المسلمونَ على عدمِ ¬
وجوبِ تعيينهِ (¬1)، وأنه لا يجب بتركه دم؛ كما نقله القاضي أبو الطَّيِّبِ الطبريُّ من الشافعية (¬2). * * * 21 - (21) قوله جَلَّ جلالُه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]. أقول: الوقوف بعرفةَ أعظمُ أركانِ الحَجِّ؛ لقوله جَلَّ جَلالُه: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]. ولما رَوى عبدُ الله بنُ عمرو الديليُّ قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "الحَجُّ عَرَفات، فمن أدركَ عرفةَ قبلَ أن يَطْلُعَ الفَجْرُ فقدْ أدركَ الحَجَّ" (¬3). وهذا الحديث، وإن انفرد بروايته هذا الصحابيُّ من بين الصحابةِ، فهو متَّفَقٌ عليهِ. وهذه الآيةُ أصرحُ وأبيَنُ في الدلالةِ على الوجوبِ من التي قبلَها؛ فإنَّ اللهَ -سبحانه- أمرَنا (¬4) بالإفاضَةِ منْ حيثُ أفاضَ الناسُ، فأوجبَ (¬5) الحصولَ في مكان ابتداءِ الإفاضَةِ الذي (¬6) يفيضُ منهُ الناسُ، وهو عَرَفاتُ (¬7). ¬
وكانَ الناسُ، وهم العربُ ما خلا قُرَيْشاً، تتجاوزُ المزدلفة، وتَقِفُ بعرفات، وتفُيض منها، وكانت الحُمْسُ، وهم قريشٌ، تقفُ عندَ المشعرِ الحَرام، وتفُيض منهُ، ولا تتجاوزُه؛ لأن المزدلفةَ من الحَرَمِ، وتَقولُ: نحن أهلُ حَرَمِ الله، فلا نَخْرُجُ منهُ، فأمر اللهُ نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- أن يُفيض من حيثُ أفاضِ الناسُ، وكانتْ قريش تظنُّ أن يقفَ بالمَشْعَرِ الحَرام على عادتهم، فتجاوَزهُ لأمرِ اللهِ سبحانه. فإن قلتم: (ثُمَّ) كلمة موضوعة للترتيب في لسانِ العرب، وذَكرَ اللهُ -سبحانه- الإفاضة من حيثُ أفاضَ الناسُ بعدَ الذّكْرِ عندَ المشعرِ الحَرام، والذكْرُ عندَ المَشْعَرِ الحَرامِ لا يكونُ إلا بعدَ الإفاضة. قلت: هي هُنا لترتيبِ الذّكْرِ، لا لِترتيبِ الحُكْمِ، فلم تخرج (ثم) عن موضوعها (¬1)؛ لقوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6]، ولذلك نظائرُ في القرآنِ واللُّغَةِ يطولُ ذكرُها (¬2). ¬
22 - (22) قوله جلَّ ثناؤه: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203]. * اتفق العلماءُ على أن الأيام المَعْدوداتِ ثلاثةُ أيامٍ بعدَ يوم النَّحْرِ (¬1)، وتُسَمَّى أيامَ التَّشريقِ، وأيامَ مِنًى (¬2)، وفيها تتمُّ مناسِكُ الحَجِّ، وأمرَ اللهُ -جَلَّ جلالُه- بذكرِه فيها لِشَرَفِها، وأجمع السَّلَف على شَرْعيَّةِ التكبيرِ فيها (¬3)، وعلى شرعيَّةِ التقرُّبِ فيها بالدَّمِ للحاجِّ وغيره، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أيام التشريقِ أيامُ أَكْلٍ وشُرْب وذِكْرٍ للهِ -عَزَّ وجَلَّ- " (¬4). * وشرعَ اللهُ لنا فيها رَمْيَ الجِمارِ، ورَخَّصَ لنا في التعجُّلِ (¬5) في يومين من غَيْرِ إِثْمٍ؛ رِفقاً منهُ بعباده، والظاهرُ أنه لم يَخُصَّ بهذهِ الرَّحْمَةِ ناساً دونَ ناسٍ، وبهذا قالَ جمهورُ أهلِ العلم (¬6). وقال مالكٌ: إن كانَ للمَكِّىِّ عُذْر، فَلَهُ أن يتعجَّل، وإن كانَ يريدُ التّخفيف عن نفسِه، فليس له (¬7). ¬
وهو غيرُ سديدٍ؛ لأن الله -سبحانه- صَرحَ برفعِ الإثم، ولا يكونُ الإثمُ إلا عندَ عدمِ العُذْرِ، وأَمّا مع العُذْرِ، فلا إثمَ. ولأنَّ اللهَ -سبحانَهُ- أبطل بهذا ما كانتْ عليهِ العربُ من الاخْتلافِ في الدم للتعجيلِ، والدَّمِ للتأخيرِ، فَسَوّى اللهُ سبحانَهُ بين القِسمين، ولا فرقَ في هذا بينَ المَكِّيّ وغيره. * وبيَّنَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- شَرْعَهُ، فَبيَّنَ صِفَةَ الرَّمْيِ وكيفيتَه (¬1)، ووقتَه (¬2)، وأن المَبيتَ في مِنًى مشروع، ورخصَ في تركِهِ لأهلِ السِّقايةِ (¬3). * وقد أجمعَ المسلمونَ على مشروعيةِ الرمْي والمبيتِ. * واتفقوا على وجوب الرمْي (¬4). * واختلفوا في وجوبِ المبيت: - فقال ابنُ عباسٍ والحسنُ وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ في أحدِ قوليه: هو سُنَّةٌ لا يَجِبُ بتركِهِ الدَّمُ. ¬
- والصحيحُ من قوليه أنه واجِبٌ، وبه قالَ مالكٌ وأحمدُ. لما روى ابنُ عمرَ -رضي اللهُ تَعالى عنهما- أن العباسَ -رضي الله تعالى عنه- استأذَنَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ليبيتَ بمَكَّةَ لياليَ مِنًى منْ أَجْلِ سقايته، فأذنَ لهُ (¬1)، ولا يستأذنه إلَّا في واجب، ولَأنَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بات بها. * ولا يجوز التعجيلُ لمن أراده حتى يرميَ في اليوم الثاني؛ لقوله تعالى: {لِمَنِ اَتَّقَى} [البقرة: 203] والرمْيُ من عملِ التقوى، وكذا من تأخرَ إلى اليومِ الثالثِ لا يجوزُ له السفرُ حتى يرمي رميه؛ لقوله سبحانه: {لِمَنِ اَتَّقَى} [البقرة: 203]، والله أعلم (¬2). * * * ¬
من أحكام النفقة
(من أحكام النفقة) 23 - (23) قولُه جَلَّ ثناؤهُ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215]. نزلتْ في عمرِو بنِ الجَموحِ، وكان شيخا كبيراً، وعنده مالٌ عظيمٌ، فسأل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ماذا ننفقُ من أموالِنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت هذه الآية (¬1). قال كثيرٌ من أهل التفسير: هذا كانَ قبلَ أن تُفْرَضَ الزَّكاةُ، فلما فُرضتِ الزكاة بالآيةِ التي في (براءة) (¬2)، نُسِخَتْ هذه الآية (¬3). وقال بعضُهم (¬4): المرادُ ما يتقربُ بهِ الإنسانُ إلى الله -تعالى-، فأخبر اللهُ -سبحانَهُ- أنَّ من قَصَدَ ذلكَ ينبغي أَنْ يبرَّ بذلكَ المذكور، فلا نَسْخَ في الآية. ¬
من أحكام الجهاد
(من أحكام الجهاد) 24 - (24) قولُه -جَلَّ جَلالُهُ-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} البقر ة: 216]. أقولُ: لمَّا أرادَ اللهُ -سبحانَهُ- إنقاذَ عبادِهِ من الهَلَكَةِ، وهُداهُم من الضَّلال، بعث نبيَّهُ مُحَمَّداً-صلى الله عليه وسلم- إلى قومه خاصَّةً، وإلى الناسِ عامَّةً بشيراً ونذيراً. فقال -عَزَّ وجَلَّ-: {وَأَنذِرْ عَشِيَرتَكَ الأَقرَبِينَ} [الشعراء: 214]. وقال -عزَّ وجلَّ-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7]، فقال: "يابني عبدِ مَناف! إن الله بعثني أن أنذرَ عَشيرتي الأَقْرَبينَ، وأنتم عَشيرتي الأقربون" (¬1). وقال -عزَّ وجَلَّ-: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]. فلما صَدُّوا عنه، وأَعْرَضوا، أَمَرَهُ اللهُ -سبحانَهُ- بالصَّدِّ عنهم، والإعراض كما أعرضوا. ¬
فقال -جَلَّ جلالُهُ-: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم: 29]. وقال -جَل جلالُه-: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68]. ولما هدى اللهُ -سبحانَهُ- قوماً من عبادِه، واختارَهُم لدينه، واصطفاهُم لنفسِه، فآمنوا به، واتبعوا النورَ الذي أُنزلَ معه، فتنتهم قريشٌ، وصدُّوهم (¬1) عن دينِ اللهِ -سُبْحانه-، وعذَّبوهم، وظلموهم، ليرجعوا عن دينِ الله -سُبحانه- حَتَّى كَثُرَ تأذِّي رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، فحينئذٍ أَذِنَ اللهُ -تَعالى- لهم في الهجرة، ولَمْ يوجبْها، فقال -جَل جلالُه-: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100]، فهاجر إلى أرضِ الحبشةِ قومٌ، وبقيَ قومٌ فيهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فهاجروا إلى المدينةِ الشريفة -شَرَّفَها اللهُ الكريم-. ووجبت الهجرةُ على كلِّ مفتونٍ لا يقدرُ على إظهارِ دينهِ. وسيأتي إنْ شاءَ الله تعالى بيانُ الهجرةِ وأحكامُها في "سورةِ النساءِ" عند قوله -تعالى-: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88]. فلما عَمَّرَ اللهُ الكريمُ طَيْبَةَ بالإيمانِ، وجعلَها دارَ الإسلام، أذِنَ للمؤمنين في القِتال، ولم يفرضْه عليهم، فقالَ -جَلَّ جَلالُهُ-: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]. ولما قويَ المؤمنون، وكَثُرَ عددُهم، واشْتَدَّت شَوكَتُهُم، كتبَ اللهُ عليهمُ القِتالَ، فقال -جَلَّ جلالُه-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]، واستمرَّ فرضُ الجِهاد حتى تَضَعَ الحربُ أوزارها (¬2). ¬
* وقد أجمعَ المسلمون على فريضَةِ الجِهادِ، إلَّا ما حُكيَ عن عبيدِ اللهِ ابنِ الحَسَنِ العَنْبَرِيِّ أنه قال: إنَّهُ تطوُّع، وهذا من جُمْلَة شُذوذهِ (¬1). * واختلفوا هل (¬2) فُرضَ على الأعيانِ، أو على الكِفاية؟ - فقال قومٌ: هو فرض على الكِفاية، في جميع الأزمان (¬3)، في أولِ الإسلام وآخره؛ لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، ولقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ} [النساء: 95] ¬
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95]. - وقال قومٌ: كانَ فرضاً على الأعيانِ في أولِ الإسلام (¬1)، واستدلُوا بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216]، وبقوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120]، ثم صارَ فرضاً على الكفاية؛ لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا} [التوبة:122] الآية. وهذا القولُ حَسَن، لكنَّه يَحتاجُ إلى نَقْلٍ وتوقيفٍ في الترتيب. - وقالَ قومٌ: هو فرضٌ على البَعْض دون البَعْضِ، ما لم يَنْفِرْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا نَفَرَ وَجَبَ على الجَميع النَّفْرُ (¬2). وهو مذهبُ ابنِ عبَّاسٍ والضَّحّاكِ وقَتادة (¬3). وهذا قولٌ حَسَنٌ؛ لقوله تعالى: {وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120]، ولما فيه من الجَمْع بين الآيات، ونفي المعارَضات، ولأنَّ اللهَ -سُبحانه- عاتَبَ المُتَخَلِّفين عنهُ في غزوة تَبوكَ حتى (¬4) نزلَتْ توبتُهُ على الثلاثَةِ المُخَلَّفينَ (¬5). ¬
فإن قيل: فقدْ بعثَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى بني لِحْيانَ، وقال: "ليخرُجْ من كلِّ رَجلينِ رَجُلٌ"، ثم قال للقاعدين: "أيُّكمْ خَلَفَ الخارِجَ في أهلِهِ ومالِهِ بخيرٍ، كانَ له مثلُ نصفِ أجرِ الخارجِ" (¬1). قلت: إنما تَخَلَّفوا بإذنه - صلى الله عليه وسلم -؛ ليقوموا على نسائِهم وأموالِهم، وليحفظوها من كيد العدوِّ والمنافقين. ولكن المذهبَ الأولَ أحسنُ وأصحُّ؛ بدليلِ أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كانَ يَنْفِرُ في أَوَّلِ الإسلام، ويتخلَّف عنهُ بعضُ أصحابه. وأما معاتبةُ اللهِ -سُبْحانه- للمتخَلِّفين، فإنَّما هو لأجلِ الحاجةِ إلى نُفورهم؛ لكثرةِ العدوِّ وبعدِهم. وهذهِ الحالُ كما إذا وَطِئ الكفارُ بلادَ الإسلام -ونعوذُ باللهِ من ذلك- فليسَ لأحدٍ أَنْ يتخلفَ مِنْ غَنِيٍّ وفقيرٍ، وحُرٍّ وعَبْدٍ (¬2)؛ كَما فعلَ المسلمونَ يومَ الخندقِ، والله أعلم. * * * 25 - (25) قوله جلّ جَلالُه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ ¬
أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]. * نزلت هذه الآيةُ في سَرِيَّة بَعَثَها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، وأَمَّرَ عليهم عبدَ الله بْنَ جَحْشٍ، فانطلقوا حتى هبطوا نَخْلَةَ، فوجدوا بها عَمْرَو بنَ الحَضْرميِّ في عِيرٍ بِتجارَة لقريش في آخِر يوم من جُمادى الآخرة، أو في أولِ يوم من رَجَب، على اختلاف فيه، فقتلوا ابْنَ الحَضْرَميَ، وأخذوا العِيْرَ، فعيرَّ المشركونَ المسلمينَ، فأنزلَ اللهُ -سبحانه- هذه الآية (¬1). وكان القتالُ في أولِ الإسلام مُحَرماً في الشَّهْرِ الحَرام، وفي البلدةِ (¬2) الحَرام، إلَّا أن يُبْدَؤوا بالقِتال. * واختلفَ أهلُ العلم هلْ هذا الحُكْمُ باقٍ إلى الآن لم ينسخْ، أولا؟ (¬3) فقال عطاءٌ ومُجاهِدٌ: هوَ باق لمْ يُنْسَخْ، ولا يجوزُ القِتالُ في الشهرِ الحَرام (¬4)، ويُروى عن الشعبيِّ والحكمِ، ولهم هذه الآية، وغيرُها، وكان عطاء يقول: لا يجوزُ القتال في الشهرِ الحرامِ، ولا البلدِ الحَرامِ، ويحلفُ على ذلك. ¬
ونُقل عن أكثر العُلماءِ خلافُهم، وقالوا: هذهِ الآيةُ منسوخةٌ (¬1) بقوله سبحانَهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬2) [التوبة: 5]، وبقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 36]؛ كما قاله الزهريُّ (¬3). وما ذكرهُ هؤلاءِ الجَماعةُ لا يجوزُ أن يكونَ ناسِخاً لآية البقرة؛ لأن (حيثُ) كلمةٌ معناها عمومُ الأمكنةِ، والأمكنةُ لا تُعارضُ الشُّهورَ والأزمانَ، ولا نسخَ معَ عدمِ التعارض. وأما قولُه تَعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29]؛ فإن الأمرَ بالقتال مُطْلَقٌ في جميع الأحوال، مقيَّدٌ بإعطاءِ الجزية، والنهيُ عن القتالِ في الشهرِ الحرامِ خاصٌ ببعض الأزمان، فلا تَعارُضَ بينَهُما، فلا يجوزُ القولُ بالنسخِ، بل يجوزُ تَخصيصُ إطلاق قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} بالنهيِ عن القِتال في الشَّهْرِ الحَرام؛ لخصوص هذا، ولعموم ذلك، ولقوله تَعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وأما قولُه تَعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]،، فقد تقدَّمَ بيانُه أيضاً. وأما قولُه تَعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]، فإنَّها ¬
عامَّة في المشركين، مطلَقَةٌ في الزمانِ والمكانِ، وهذه الآيةُ خاصَّة مقيَّدَةٌ، والمطلَقُ لا يَنْسَخُ المقيَّدَ. والمختارُ عندي بقاءُ حرمَتِه كما حَرمَهُ اللهُ سبحانَه في غيرِ مَوْضِع من كتابهِ العزيزِ، فحرَّمَهُ في هذه السورة، وقال في سورةِ المائدةِ، وهي من آخِرِ ما نَزَلَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]، وقال أيضاً: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 97]. واستدل الآخرونَ (¬1) بأنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - غزا هوازنَ بِحُنَيْنٍ، وأَنْفَذَ سَرِيَّةً إلى أَوْطاسٍ، وحاصَرَ ثقيفاً بالطَّائِفِ في الشهر الحَرام، وبايع أصحابه بالحُدَيبيَةِ بيعةَ الرّضوانِ على القِتال في ذي القعدة (¬2). ولا حُجَّةَ لهم في ذلكَ: أَمَّا بيعةُ الرضْوانِ، فإنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بايَعَ المُسلِمين لمَّا بلغَهُ الخَبَرُ بقتل عُثمانَ، وأَنَّ قريشاً عازمون على قتاله (¬3). وأمّا غزوةُ هَوازنَ، وأُوطاسٍ، والطَّائِفِ، فلم تكنْ في الشهر الحرام؛ فإنَّ فتحَ مكةَ كانَ في شهرِ رمضانَ، وأقامَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكةَ عشرةَ أيامٍ، أو تِسْعَةَ عَشَرَ يوماً؛ كما قالَ ابنُ عباسٍ (¬4)، ثم خرجَ إلى حُنَيْنٍ في رمضان؛ كما ذكرهُ البخاري عن ابنِ عباس قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في رَمَضانَ إلى ¬
حُنينٍ (¬1)، وأنفذ السرية إلى أَوْطاسٍ لَمَّا فرغَ من حُنَيْنٍ (¬2). وكان حِصارُ الطائِفِ في شَوَّالٍ؛ كما ذكرهُ البُخاريُّ عن موسى بنِ عُقْبَه (¬3). ولعلَّهُ إنما أوهم هؤلاءِ ما رواهُ البخاريُّ: أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- اعتمرَ عُمْرَةً من الجعْرانَةِ (¬4) حيثُ قَسَمَ غنائِمَ حُنَيْنٍ في ذي القَعْدَةِ (¬5)، والله أعلم. وسيأتي تعريفُ الشَّهر الحَرام في سورة (براءة) - إن شاء الله تعالى-. * * * * قوله تباركَ وتَعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]. * فيها دليلٌ على أن العملَ الأخرويَّ لا يحْبَطُ بنَفْسِ الرِّدَّةِ، بل يكونُ العملُ موقوفاً على الموت، فإن ماتَ على الردَّةِ، حبطَ عملُه، وإنْ عادَ إلى ¬
الإسلام، لم يحبطْ عملُه قبلَ الرِّدَّةِ، ولم يجبْ قضاؤه، وبهذا قال الشافعي (¬1). وذهبَ مالكٌ، وأبو حنيفَة (¬2) إلى أن العمل يَحْبَطُ بنَفْسِ الردَّةِ، فإنْ عادَ إلى الإسلام، كان عليه قضاءُ الحج دونَ الصَّلاةِ والصِّيامِ؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5] [ولقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬3) [الزمر: 65]. ودليلُ الشافعيِّ أظهرُ؛ لأنَّ الردَّةَ فيهِ مقيدَة بالمَوتِ، وفي غيرهِ مطلَقَةٌ، والمطلقُ مُرَتَّب على المُقَيَّدِ، ولا يجوزُ أنْ يُقالَ: التقييدُ ذُكِرَ ليترتَّبَ عليهِ العقابُ والخُسرانُ؛ لأنَّ الخُسرانَ مذكور في آياتِ الإطلاق. * وفيها دليلٌ على عدمِ إبطالِ العملِ الدُّنْيَوِيِّ؛ كإبطالِ بَيْعهِ ونِكاحه وسائرِ تصرفاتِه، وإزالة ملكه، إلا أنْ يموتَ على غيرِ الإسلام، وهو الصحيحُ من أقوال الشَّافعيّ (¬4). ¬
وله قولٌ أنه بِنَفْسِ الردَّة يزولُ ملكُهُ، ولا تصحُّ تصرفاتُهُ. ولهُ قولٌ آخرُ أنه لا يزولُ ملكُهُ، وتصحُّ تصرفاتُه (¬1)، والله أعلم. * * * ¬
تحريم شرب الخمر
(تحريم شرب الخمر) 26 - (26) قوله جَلَّ جَلالُهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219]. أقول: حَرَّمَ اللهُ سبحانه الخَمْرَ بعدَ أن كانَتْ حَلالاً، وأنزلَ فيها ثلاثَ آيات في كتابهِ العزيز. روى بعضُ أهلِ العلمِ قال: خرجَ حمزةُ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ وقدْ شربَ الخَمْرَة، فَلقِيَهُ رجلٌ من الأنصارِ، ومعهُ ناضِحٌ لَهُ، والأنصاريُّ يتمثَّلُ ببيتين لكعبِ بنِ مالكٍ في مدحِ قومِه، ويقول: [البحر الطويل] جَمَعْنا معَ الإيواءِ (¬1) نَصْراً وهِجْرَةً ... فلم يُرَ حَيٌّ مثلُنا في المَعاشِرِ فَأَحْياؤُنا من خَيْرِ أحياءَ مَنْ مَضَى ... وأمواتُنا مِنْ خيرِ أهلِ المَقابِرِ فقال حمزة (¬2): أولئك المهاجرون، فقال له الأنصاري: بل نحن الأنصار، فتنازَعا، فجرَّدَ حمزةُ سيفَه، وعَدا على الأنصاريِّ، فلم يُمَكِّن الأنصاري أن يقومَ له، فترك ناضحَه (¬3) وهرب، فظفر به حمزةُ، فجعلَ ¬
يقطعُهُ، وجاءَ الأنصاريُّ إلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- مُسْتَعْدِياً، فأخبرَهُ بخبرِ حَمْزَةَ وفِعْلِهِ بالنَّاضِحِ، فغرم له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ناضحاً، فقال عمرُ بنُ الخطاب: يارسول الله! ما ترى ما لقينا من أمر الخَمْرةِ (¬1)، إنَّها مُذهِبَة للعقلِ، مُتْلِفَة للمال، فأنزل الله عزَّ وجَلَّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219]، فكره شربَها قومٌ؛ لما فيها من الإثم، وشَرِبَها قومٌ آخرونَ (¬2) للمنافعِ (¬3). قال قتادَةُ: ذمَّها الله سبحانه في هذه الآية، ولم يُحَرِّمْها، وهي يومئذٍ حلال (¬4). وأضاف عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ قوماً، فأطعمهم وسقاهم الخمرَ، فلما حضرَ وقتُ صَلاةِ المَغْرِب، قدَّموا رجلاً منهم يصلِّي بهم، فقرأ بفاتحةِ الكتاب، وقُلْ يا أَيُّها الكافرون، فخلط، فحذف كلمات (لا)، فأنزل اللهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] الآية. فتجنبوا الشُّرْبَ (¬5) أوقاتَ الصلاةِ، فكان الرجلُ منهم يشربُ بعدَ صلاةِ العِشاءِ الآخِرَةِ، ثم يرقُدُ فيقومُ عندَ صَلاةِ الفَجْرِ، وقد صَحا، ثم يشربها إن شاءَ بعدَ صلاةِ الصُّبْحِ، فيصحو منها عندَ الظهْرِ إلى العشاءِ الآخِرَةِ، حتى دعا سعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيُّ -وقد عملَ وليمةً ¬
على رأسِ جَزورٍ لهُ- ناساً منَ المُهاجرين والأنصارِ، فأكَلُوا وشَرِبوا فافتخروا (¬1)، فعمدَ رجل منَ الأنصارِ، وأخذَ (¬2) أحدَ لَحْيَيِ الجَزورِ (¬3)، وضرب بهِ أنفَ سَعْدٍ، فَفَزَرَهُ، وجاءَ سعدٌ مُسْتَعْدياً إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزلَ اللهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}: [المائدة:90 - 91]، فقالوا: انتهينا يارسول الله (¬4). * وبين رسولُ الله-صلى الله عليه وسلم- أنَّ اجتنابَ الخَمْرِ هو اجتنابُ شُرْبها وبَيْعِها، فروى جابرُ بنُ عبدِ الله -رضي الله تعالى عنهما-: أنه سمعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَرمَ بيعَ الخَمْرِ والمَيْتةَ والخِنْزيرِ والأصنام، فقيل: يارسول الله! أرأيتَ شُحومَ المَيْتة؛ فإنها تُطلى بها السُّفُنُ، ويُدْهَنُ بها الجُلود، ويُسْتَصْبَحُ بها، فقال: "لا، هو حرام"، ثم قال عند ذلك: "قاتلَ اللهُ اليهودَ؛ إن اللهَ لمّا حَرَّمَ شُحومَها، جَمَلوهُ ثمَّ باعوهُ، فأكلوا ثَمَنَهُ" (¬5). * وشَرَعَ فيه الحَدَّ عن اللهِ -سُبحانه-، فأتيَ برجلٍ قد شربَ الخَمْرَ، فجلدَهُ بجريدةٍ نحوَ أربعين، وفعلَه أبو بكرٍ. فلمّا كانَ عُمَرُ، استشارَ ¬
الناسَ، فقالَ عبدُ الرحمنِ: أخفُّ الحدودِ ثمانون (¬1). وقالَ عليٌّ: إنه إذا سكر هَذَى، وإذا هَذى افْتَرى، وأرى أَنْ يُحَدَّ حَدَّ المُفْتري، فأمر به عمرُ -رضي اللهُ تعالى عنهم- (¬2). * وكذلك المَيْسِرُ، وهو القِمار، حَرامٌ بالإجماع كالخمرِ (¬3)؛ لما فيه من إتلاف المالِ وأكلِه بالباطل، وكلُّ ما يدلُّ على الخطر فهو قِمار كالمَيْسِر. * * * * واختلفَ أهلُ العلمِ بالقرآنِ في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]. فقال بعضُ مصنِّفي الناسِخِ والمَنْسوخِ (¬4): فرضَ اللهُ قبلَ فرضِ الزكاةِ ¬________ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 272)، والنسائي في "السنن الكبرى" (5275)، وأبو عوانة في "مسنده" (6330)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 157)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 319)، عن أنس بن مالك، بهذا اللفظ. وقد رواه أيضاً عن أنس بن مالك: البخاري (6391)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في ضرب شارب الخمر، ومسلم (1706)، كتاب: الحدود، باب: حد الخمر، بلفظ نحوه. (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 842)، ومن طريقه الإمام الشافعي في "مسنده" (1/ 286)، عن ثور بن زيد الديلي. والجمهور من السلف والخلف على أن حد الخمر ثمانون جلدة، وخالف في ذلك الشافعية فقالوا: إن الحد أربعون على الحر، ويجوز للإمام أن يبلغ به الثمانين. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (24/ 269)، و"المغني" لابن قدامة (12/ 498)، و"روضة الطالبين" للنووي (10/ 171). (¬3) انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (1/ 216). (¬4) انظر: "المصفى بأكف أهل الرسوخ" (ص: 20)، و"نواسخ القرآن"=
إذا كانَ للإنسان مالٌ أنْ يُمْسِكَ أَلْفَ درهمٍ، أو قيمتَه منَ الذهبِ، ويتصدَّقَ بما بقيَ. وقالَ آخرون: فرضَ عليهم أَنْ يُمْسكوا ثُلُثَ مالِهم، ويتصدقوا بما بقي، وإنْ كانَ من أهلِ زِراعةِ الأرضِ وعِمارتها أنْ يُمْسِكوا نَفَقَتَهُمْ حَوْلاً، ويتصدَّقوا بما بقيَ، وإنْ كانَ مِمَّنْ يكدُّ بيدِه، أمسَكَ ما يَقوتُهُ يَوْمَهُ، ويتصدَّقَ بما بقي، فَشَقَّ ذلكَ عليهم حتَّى أنزلَ اللهُ الزكاةَ، وبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أعيانَ الزكاةِ، وصارَتْ ناسِخَةً لذلك (¬1). وبالنسخ قالَ ابنُ عباسِ رضيَ اللهُ تعالى عنهما (¬2). وقال قومٌ: هي محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ (¬3). * واختلفوا في المرادِ بالعفوِ، فقيل: العفوُ: الزكاةُ بعينِها، وقيل: المرادُ بهِ التَّطَوع (¬4). * واختلفوا أيضاً في حقيقةِ العَفْوِ: ¬
فَروي عن ابنِ عباسٍ: أنه القليل الذي لا يتبينُ خروجُه من المالِ (¬1). قال الحسنُ: العفو: ما لا يكون إسرافاً، ولا إقتار فيه على العيالِ (¬2). وقال قتادةُ: العفوُ أَفضلُ المالِ وأطيبُه (¬3). وقيل: نزلتِ الآيةُ في شأنِ عَمْرِو بنِ الجَموحِ (¬4)؛ فإنه لمّا نَزَلَ قولُه تعالى: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 215]، قال: كم أنفق؟ فنزل: {قُلِ العَفو} [البقرة: 219]، والعَفْوُ: ما سَهُل وَتَيسَّر؛ كما قالَ تعالى: {خذِ العَفوَ} [الأعراف: 199]، وكما قال الشاعرُ (¬5): [من الطويل] خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَديمي مَوَدَّتي ... ولا تَنْطِقي في سَوْرَتي (¬6) حينَ أغضَبُ وكل هذه الأقوالِ، وإن اختلفتْ، فإنها ترجعُ إلى معنىً واحدٍ، وهو هذا، واللهُ أعلم. * * * ¬
معاملة اليتامي
(معاملة اليتامي) 27 - (27) قوله جَلَّ جلالُه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220]. * أقول: عظم اللهُ سبحانَهُ أمرَ اليتامى، وشدّدَ فيه، وأنزلَ في شأنهم آيات كثيرةً، بعضُها يفسِّرُ بعضاً، وهذه الآيةُ مِنْ أَجْمَعِها وأَبْيَنِها، فقالَ جَلَّ جَلالُه: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: 9]، وقال سبحانَهُ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34]، وقال سبحانهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]، وقالَ جَلَّ جَلالُه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، وقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]. فنهى الله -سبحانه وتعالى- عن قهرهم، وحَرَّمَ أكلَ مالِهم في بعض الآيات تحريماً مطلقاً، وقيدَهُ في بعضِ الآيات بما إذا كان على جهةِ الظُّلم والتَّعَدِّي والإسراف، وأما إذا كانَ على جهةِ الإصلاح بالمعروف، وبالتي هي أحسنُ، فالأكلُ مُباح للفقير؛ لِما فيه من إصلاح القَيِّمِ لماله.
وكذا يجوز ضربه للتأديبِ والتعليمِ؛ لِما فيه من الإصلاح (¬1). وأباح الله تعالى خُلْطتَهُمْ ومُشاركتَهم مخالفةً لتحريجِ (¬2) الجاهليّةِ بذلك. * وفي الآيةِ دليلٌ على أن القيّم (¬3) أمينٌ على ما يدَّعيه بالمَعْروفِ، ولقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، فوكل اللهُ الأمرَ إلى تقوى القَيمِ وأمانتِه (¬4). وسيأتي مزيدُ كلامٍ فيهم في سورة النساءِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى. * * * ¬
حكم نكاح المشركات والكتابيات
(حكم نكاح المشركات والكتابيات) 28 - (28) قوله جَلّ جَلالُه: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221]. * اختُلِفَ في حقيقة النكّاحِ على ثلاثةِ أوجهٍ للشافعيَّةِ: وأَصَحُّها عندهم أنهُ حقيقة في العَقْدِ، مَجازٌ في الوَطْءِ (¬1)، وإياهُ أختارُ، لغلبةِ عُرْفِ الكتابِ والسُّنَّةِ واللسانِ فيه. وقيل: حقيقةٌ في الوَطْءِ، مجازٌ في العَقْدِ؛ كما هو أصلُ وضع اللُّغة، وبه قالَ أبو حنيفةَ (¬2). وقيل: إنه مشتركٌ بينهما (¬3). ¬
- * وقد أنزل اللهُ سبحانَه في نِكاح المُشركاتِ آياتٍ يعارضُ بعضُها بعضاً، وها أنا أتكلمُ فيها على مَبْلَغِ عِلمي، ومُنْتَهى فَهْمي، وأستعينُ باللهِ وأستهديه. فأقول: حَرّمَ اللهُ سبحانَهُ على المؤمنين نِكاحَ المُشْركاتِ ابتداءً ودواماً، فقال هنا: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221]، وقال تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، وهذا الخطابُ عامّ في الوَثَنِيّاتِ والكِتابِيّاتِ، الذِّمِّيَّاتِ منهنَّ والحَرْبِيّاتِ، وسمَّى اللهُ سبحانَهُ الكِتابيَّ مُشْرِكاً؛ لقوله: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، ولقوله: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه} [التوبة: 30]، وقوله: {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، وكانَ ابنُ عمرَ- رضي الله عنهما- إذا سُئِل عن نكاحِ الرجلِ اليهوديَّةَ أو (¬1) النصرانيَّةَ، قال: حَرَّمَ اللهُ المُشْركاتِ على المؤمنينَ، ولا أعرفُ شيئاً من الشِّرْكِ أعظمَ من أن تقولَ المرأةُ: ربُّها عيسى، أو عبدٌ من عبادِ اللهِ (¬2). وأحلَّ اللهُ لهم نِكاحَ الكِتابياتِ في سورة المائدةِ، فقال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. وهذا الخِطابُ لهم عامّ من وجهٍ، وخاصٌّ من وجهٍ، فخصوصُه في الكِتابياتِ دون الوَثنياتِ، فيقضى بخُصوص آيةِ المائدةِ على آية البقرة، وعمومُه في الذمِّياتِ والحربياتِ، في (¬3) الحرائر منهنَّ والإماءِ، ولكنَّ اللهَ ¬
سبحانَهُ حَرَّمَ الإِماء منهن، فقال في سورة النساء: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فشرط فيهنَّ الإيمان، فيقضى بخُصوص آية النساءِ على عُموم آية المائدة، وبخصوصِ آية المائدةِ على عموم آيةِ البقرة، هكذا ترتيبُ هذه الآيات بعضِها على بعضِ، ويُعْمَلُ بجميعِها. وقد اتفقَ العلماءُ على ترتيبِ آية البقرة على آية المائدة (¬1)، إلا ما يُروى عن ابنِ عمرِ -رضي الله تعالى عنهما- من تحريم نكاح الكتابيات (¬2)، وأن آية البقرة ناسخة لآيةِ المائدةِ (¬3)، وقيل: إنه كَرِهه، ولم يحرِّمْه (¬4). قال بعضُهم: ولا تصح عَنْهُ روايةُ التحريمِ (¬5). قلت: أو تُحْمَل على الكِتابيات الحَرْبيات؛ كما هو قولُ ابنِ عباس رضي الله تعالى عنهم (¬6). ¬
* واختلفوا في صفةِ ترتيبِ آية البقرة على آية المائدة (¬1). فقال مجاها وقتادةُ وابنُ جُبيرٍ: آيةُ البقرةِ مخصوصة مبيَّنة بآية المائدة (¬2). وقال الحَسَنُ وعِكرمةُ: نسخ الله سبحانَهُ من آيةِ البقرةِ تحريمَ نساءِ أهلِ الكِتاب، ويُرْوى عن ابنِ عباسٍ ومالكٍ وسفيانَ الثوريِّ (¬3). والقولُ بالنَّسخِ لا يستقيمُ إلا أنْ يكونَ قدِ استقرَّ تحريمُ المشركاتِ، الوثنيَّاتُ منهنَّ والكتابياتُ، ثم نُسِخَ بآيةِ المائدةِ. وقول هؤلاء الجماعةِ محمولٌ على ذلك، ولكن هذا يحتاج إلى صِحَّةِ نقلٍ لحكمِ الاستقرارِ في أثناءِ الإسلام (¬4)، ولعل الإشارة إلى اليوم بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] هي التي دلَّتهُمْ على استقرارِ الحكم، ثم نسخِه، أو لعل هذا بناء على أن تأخير البيانِ عن وقتِ الخِطاب لا يجوز. * واتفقوا على حِلِّ نكاح الكتابياتِ المُحْصَنات (¬5) المُعاهَداتِ كما ¬
تَقَدَّمَ، واختلفوا في الحربيّاتِ منهنَّ: فقال قومٌ من أهلِ العلمِ بتحريمه (¬1)؛ لأنهنَّ (¬2) لسن (¬3) من أهل ذمة المسلمين. وبه قال ابنُ عباس -رضيَ الله تعالى عنهما- ولما سُئِل عن ذلك تلا قولَه تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬4). وقال قومٌ بكراهيته، ولم يُحَرِّموه (¬5)؛ لعموم قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، وغلَّبوا الكِتاب على الدار، وبه قال مالكٌ وأبو حنيفةَ والشافعيُّ رضيَ اللهُ تعالى عنهم (¬6). * واتفقوا على حلِّ غيرِ المُحصَناتِ منهنَّ (¬7)، وهنَّ الإماء بملك اليمين (¬8)؛ لعموم قوله سُبْحانه: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]. ¬
* واختلفوا في حِلِّه بالنكّاحِ: فقال أبو حنيفةَ بجوازه (¬1). وقال مالكٌ والشافعيُّ بتحريمِه (¬2)؛ لقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] فَسَّره عمر، وابن عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- بالحرائر (¬3)، ولقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فقيدهن بفتياتنا المؤمنات، فدلَّ على أن فتياتنا الغير المؤمنات حرامٌ. وأجاب الحنفية بأن المرادَ بالمُحْصنات العفائف، وقد فسره (¬4) بذلك غير (¬5) ابنِ عمرَ رضي الله تعالى عنهما (¬6)، وبأن المفهومَ ليس بدليلٍ عندهم، وبأن التقييد للاستحباب؛ لأنها خيرٌ من الحُرَّةِ الكِتابية، وقد أُبيحَ نكاحُها، وإن كانت دونها، وبأن الخطابَ واردٌ على التغليب، لا على التقييد، والغالب على الإماء الإسلام (¬7). ¬
وبقولِ مالكٍ والشافعي أقولُ؛ لما فيه من الاحتياط، والتحريمُ أولى؛ لظهور التقييد على التغليب في سائرِ آيِ القرآن؛ كقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15]، وكقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وكقوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]، وغير ذلك، ولموافقته عُمومَ القرآنِ؛ كقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. * وحرّمَ اللهُ سُبْحانه على المؤمنينَ أن يُنكِحوا المشركين (¬1)، فلن يجعلَ الله للكافرينَ على المؤمنينَ سبيلاً. * وربَّما استدل بهذه الآية من يقولُ باشتراط الوليِّ في النكاح (¬2)؛ اعتقاداً منهُ أنَّ الخِطابَ مع الأولياءِ، ولا دلالةَ فيه؛ لأن الخطاب مع المؤمنين، وإن سلم فالخِطابُ واردٌ بالمَنع للأولياءِ من إنكاحِ المشركِ، ومنعُ الوليِّ لا (¬3) يوجبُ لهُ ولايةً، وسيأتي الكلامُ على هذا إنْ شاءَ الله تعالى. * * * ¬
من أحكام الحيض
(من أحكام الحيض) 29 - (29) قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]. * السائلُ أبو الدَّحْداح، وقيل: غيرُه، سألَ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وقال (¬1): يا رسولَ الله! كيف نصنِعُ بالنساءِ إذا حِضْنَ؟ فأنزل اللهُ هذه الآيةَ (¬2)، ونهى عن قُرْبانِهِنَّ حتى يَطْهُرْن، وبيَّنَ أَنَّ العِلَّةَ هي الأَذى. * فاستنبط قومٌ من أهلِ العلمِ كالنَّخَعِيِّ والشَّعْبِيِّ والزُّهْرِيِّ وابنِ سيرينَ: أَنَّ المُسْتحَاضَةَ لا يقربُها زوجُها ما دامَ معَها الدَّمُ، ويُروى عن عائشةَ -رضيَ الله تعالى عنها-، وبه قالَ بعضُ أصحابِ مالكٍ (¬3). ¬
وقال جُمْهورُهم: يجوز وَطْؤُها، وبه قالَ مالكٌ والشافعي وأبو حنيفةَ وأحمدُ (¬1)، كما يجوزُ لها أن تصليَ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -:"إنَّما ذلكَ دمُ عِرْقٍ، وليستْ بالحَيْضَةِ" (¬2). وعن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: لا بأسَ أن يصيبَها زوجُها، وإن كان الدَّمُ يسيلُ على عقبيها (¬3). * والحيضُ والمَحيضُ (¬4) مَصْدَران، يقال: حاضَتِ المرأةُ تحيضُ حَيْضاً و (¬5) مَحيضاً. والمَحيضُ أيضاً اسمٌ لموضِع الدَّمِ (¬6). ¬
فالمحيضُ الأَولُ هو الدَّمُ، وهو الأذى، والمَحيضُ الثاني قيل: هو مَوضِعُ الدمِ، ويُروى عن ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما (¬1). وهو إجماع من أهلِ العلمِ (¬2)، لكنه يدلُّ بمفهومِه على تحليلِ ما عدا موضعَ الدَّمِ. وقيل (¬3): إن المُرادَ بالمَحيضِ هو الحَيْضُ (¬4). فأمر (¬5) اللهُ سبحانه باعتزال الحُيَّضِ في حال حَيْضِهِنَّ، ونهى عن قُربانِهِنَّ حتى يَطْهُرْنَ. * وقد أجمعَ أهل العلم (¬6) على جوازِ قُربانهنَّ فيما فوقَ السُّرَّةِ وتحتَ الركبةِ (¬7). واختلفوا فيما وراءَ ذلك. - فمَنَعَهُ مالك وأبو حنيفةَ وسعيدُ بنُ المُسَيِّبِ وشريحٌ وطاوسٌ، واختاره أكثرُ الشافعيةِ (¬8)، واستدلُوا بقولِه -صلى الله عليه وسلم- لَما سُئل عَمَّا يحلُّ للرجلِ من امرأتِه، ¬
فقال: "ما فَوقَ الإزارِ" (¬1)، وبما روته عائشةُ -رضي الله تعالى عنها- من فعله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). - وجَوَّزَهُ قوم منهم عِكْرِمَةُ ومجاهد والشعبي والنخعيُّ والثوري والأوزاعيُّ والشافعيُّ (¬3) وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور وابنُ المنذرِ وداودُ (¬4)، وإيّاه أختار؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "جامِعوهُنَّ في البُيوت، واصنَعوا كُلَّ شَيءٍ إلَّا النكّاحَ" (¬5). والجوابُ عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما فوق الإزار"، أي: يحلّ حلاًّ لا منعَ فيه، ولا كراهةَ، أو يحملُ على الإزار الصغيرِ الذي تجعلهُ الحائضُ تحتَ إزارها. وأما فعلُه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يدلُّ على جوازِ مباشرةِ الحائضِ فيما فوق السُّرَّةِ، ولا يدلُّ على المَنعْ فيما تحتَها (¬6). ¬
* وفي الآية دلالة على أن الحائض إذا انقطع دمُها لا يحلُّ غِشْيانُها، وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ وجماهيرِ أهل العلم (¬1). - وقال أبو حنيفةَ: يحلُّ، وإن لم تغتسلْ (¬2)، والمراد عندهُ: صِرْنَ أهلاً للصلاة، وهو خِلافُ الظَّاهِرِ من لفظِ الآيةِ؛ فإنها تدلُّ لغيرِه من أربعةِ أوجهٍ: أحدها: قراءةُ مَنْ قرأ: (حتَّى يَطَّهَّرْنَ) (فإذا تطهَّرْنَ)، كلتاهما بالتشديد (¬3). ثانيها: قراءَةُ أُبَيِّ بنِ كعبٍ: (حتى يطهرن) (¬4)، فلا يقوم الوقتُ مقامَ الفعلِ المنسوبِ إليهن. ثالثها: قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرنَ} أي: اغتسلْنَ، وبهذا فسر ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ وغيرُهما (¬5). ¬
رابعها: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (¬1) [البقرة: 222]. فإن قلتم: فهل نجدُ ما يدل على أنَّ المرادَ بالمتطهرين المتطهرين بالماء؟ قلت: نعم، قوله تعالى في أهل قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]. وكلمة (من) في قوله تعالى {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] قيل: إنها بمعني (في) أي: في حيث أمركم الله، وهو الفرج؛ كقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]، فالإتيان مستحب، وكونُه في المحلِّ المَخْصوصِ واجب بإجماع المسلمين، فلا يحل لمؤمن إتيانُ امرأته في دُبُرِها. وقيل: إن (من) على حقيقةِ وضعِها، والمعنى: مِنْ حيثُ نهاكُم اللهُ عنهُ، وأَمَرَكُم باعتزاله، وهو أحسنُ؛ لأن الله سبحانه عَقَبَهُ بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (¬2) [البقرة: 222]. فعن مجاهد: المتطهرين من إتيانِ النساءِ في (¬3) أدبارهن (¬4). والمتنزِّهُ عن المحل المكروهِ مُتَطَهِّرٌ، كما حكى الله سبحانه عن قوم لوط: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]. ¬
من أحكام النكاح
(من أحكام النكاح) 31 - (31) قوله جل جلاله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223]. * هذه الآية رَدٌّ على اليهودِ، وكانت تقول: إذا أتى الرجلُ امرأته مِنْ دُبُرِها في قُبُلِها، كانَ الولدُ أحولَ، فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬1) [البقرة: 223]. والحَرْثُ من المرأةِ: الموضِعُ الذي يوضع (¬2) فيه المَنِيُّ لابتغاء الولد. و (أنّى) كلمةٌ لها معنيان: - تكون بمعنى (كيف)، وبهذا أخذ أهل العلم (¬3)؛ لما دلَّ عليه سببُ الآية من عيب اليهود على المسلمين، فردَّ اللهُ سبحانه عليهم. قال جابر -رضيَ الله تعالى عنه-: أنزل اللهُ سبحانه وتعالى: {نِسَاؤُكُمْ ¬
حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، من بَيْنِ يَدَيْها، ومِنْ خَلفِها، ولا يأتيها إلاّ في المَأْتَى (¬1). - وتكون في اللسانِ بمعنى (حيث)، ويُروى القولُ بهذا عن بعض علماء المدينةِ، وأنه ذهبَ إلى إباحةِ وَطْءِ المرأةِ في دُبُرها، حتى نسب ذلك إلى ابنِ عمرَ، ونافعٍ (¬2)، وابن المسيّبِ (¬3)، ومالكٍ (¬4)، ومعاذَ اللهِ سبحانه أن يصحَّ هذا عنهم. ويدلّ عليه ما رواه النَّسائي عن أبي النضر أنه قال لنافعٍ مولى ابنِ عمرَ: قد أُكْثِرَ عليك القولُ أنك تقول عن ابن عمر: إنه أفتى أن تُؤْتى النساءُ في أدبارهن، قال نافعٌ: لقد كذبوا عليَّ، سأخبركَ كيفَ كانَ الأمر: إن ابنَ عمرَ ¬
عرض عليَّ المصحفَ يوماً، وأنا عنده، حتى بلغ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} قال: يا نافع! هل تدري ما أمرُ هذه الآية؟ إنّا كُنَّا -معشرَ قريشٍ- نَجيءُ النساءَ منْ قِبَل أدبارهنّ، فلما دخلنا المدينةَ، ونكحنا نساءَ الأنصارِ، أردنا منهنَّ ما كنا نريدُ من نسائِنا، فإذا هُنَّ قَدْ كَرِهْنَ ذلك، وأَعْظَمْنَهُ، وكان نساءُ الأنصارُ يُؤْتينَ على جُنوبِهِنَّ، فأنزل اللهُ سبحانه: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ} الآية (¬1). والقولُ بهذا أيضًا باطلٌ؛ لأنه قد دلَّ الدليل على حَمْل هذا اللفظِ على أحدِ مَعْنَييه، فلا يجوز العُدول عنه (¬2). فإن قلتم: فقد ذهبَ الشافعي، والمالكيَّةُ، وجماعةٌ من الأصوليين إلى حمل المشترك على معانيه (¬3)، بل قال الشافعيُّ: يجب حملُه كالعموم، والعبرةُ بعمومِ اللفظ لا بخصوصِ السببِ. قلنا: إنما يحمل على معانيه حيث لا قرينةَ تدلُّ على أن المرادَ أحدُهما، والقرينةُ دالةٌ عليه من وجوه: أحدها: السببُ الذي ذكرناه قرينةً في إرادةِ أحدِ المعنيين وصرفِه عن المعنى الآخر. ¬
وثانيها: نهى (¬1) الله سبحانه عن قربان النساء في حال الحَيْض، وأمر (¬2) بإتيانهنَّ عند الطُّهْر (¬3)، ولو كان وَطْؤُهُنَّ في الدُّبُرِ حَلالاً، لما كانَ لنهيِهِ عن قربانهن معنًى. وثالثها: التشبيه بالحَرْث قرينةٌ دالة على أحد المَعْنيين؛ بدليل أن الحَرْثَ لا يكونُ إلا في موضعِ الزرعِ، قال الشاعر: [من مجزوء الرمل] إنَّما الأَرْحامُ أَرَضُو ... نَ لنا محترثات فَعَلَينا الزَّرْعُ فيها ... وعلى اللهِ النَّباتُ (¬4) وهذا تأويلُ الإمامِ مالك رضيَ الله تعالى عنه. روى يونسُ بنُ عبدِ الأَعْلى، عن ابنِ وهبٍ: أنه قال: سألتُ مالكَ بنَ أنس، فقلت: إنهم حَكَوْا عنكَ أنك تَرى إتيانَ النساءِ في أدبارهن، فقال: معاذَ اللهِ! أليسَ أنتم قوماً عرَباً؟ فقلت: بلى، فقال: قال اللهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، وهل يكونُ الحرثُ إلا في مَوْضِعِ الزرعِ أو موضع المنبت؟ وروى الدارَقُطْنِيُّ عن رجاله، عن إسرائيلَ بنِ رَوْح: أنه قال: سألتُ مالِكاً فقلت: يا أبا عبد الله! ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ فقال: ما أنتم عرب؟ هل يكونُ الحرثُ إلا في موضعِ الزرع، ألا تسمعونَ اللهَ تعالى يقول: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، قائمة ¬
وقاعدةً، وعلى جَنْبِها، ما (¬1) لا يتعدَّى الفَرْجَ. قلت: يا أبا عبد الله! إنهم يقولون: إنك تقول بذلك، فقال: يكذبون علي، يكذبون عليّ، يكذبون عليّ (¬2). فإن قيل: فقد قالَ محمدُ بن عبد اللهِ بنِ عبد الحَكَم: سمعتُ الشافعيَّ يقول: ليس فيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التحريم والتحليل حديث ثابت، والقياسُ أنه حلالٌ (¬3)، وقد غلط سفيان في حديثِ ابنِ الهاد (¬4). فالجوابُ: أن هذه الروايةَ مختصرةٌ من حكايةِ مناظرةٍ جرتْ بينَ الشافعيِّ ومحمدِ بنِ الحسنِ، وفي سياقِها دلالة على أنه إنما قَصَدَ بما قالَ الذَّبَّ عن بعضِ أهلِ المدينةِ على طريقِ الجَدَلِ، وأما مذهبُه، فقدْ قال الربيعُ: كان الشافعيُّ يحرّمُ إِتيان النساءِ في (¬5) أدبارهن (¬6). ¬
وقال: قال الشافعيُّ: قال الله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، وبين أن موضعَ الحرثِ موضعُ الولد؛ فإن الله تعالى أباح الإتيان فيه إلاّ في وقت الحيض (¬1)، وَ {أنَّى شِئْتُمْ}: من أين شئتم. قال: وإباحةُ الإتيان في موضعِ الحرث يشبهُ أن يكون تحريمَ إتيانِ غيره، فالإتيانُ في الدُّبُرِ حتى يبلغَ مبلغَ الإتيان في القُبُلِ مُحَرَّم بدلالةِ الكتابِ، ثم السنَّة. ثم قال: أخبرني عَمِّي محمدُ بنُ عليِّ بنِ شافعٍ، قال: أخبرني عبدُ الله ابن علي بن السائب، عن عمروِ بنِ أجحد بن الجلاح، أو عن عمرو بن فلان بن أجحد -أنا شككت- عن خُزَيمةَ بنِ ثابتٍ: أنَّ رجلاً سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن إتيان النساء في أدبارهن، أو إتيان الرجلِ امرأته في دبرها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حلال"، فلما ولّى الرجلُ دَعاه، أو أمرَ بهِ فدُعي، فقال: "كيف قلتَ؟ في أي الحرثين أو في أي الخرزتين، أو في أي الخصعتين، أَمِن دُبرها في قُبلها، فنعم، أمن دُبُرِها في دُبرها، فلا، إن الله لا يستحيي من الحق، لا تَأتوا النساءَ في أَدْبارهنّ" (¬2). عمي ثقةٌ، وعبدُ الله بنُ عليّ ثقةٌ، وخُزيمة مِمَّنْ لا يَشُك عالِمٌ في ثقتِهِ، ¬
فلستُ أُرَخِّصُ فيه بدليل (¬1)، بل أنهى عنه (¬2). * * * ¬
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَيْسِيْرُ البَيَانِ لِأَحْكَامِ القُرْآنِ [2]
جَمِيعُ الحقُوُقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1433 هـ - 2012 م ردمك: 3 - 41 - 459 - 9933 - 978: ISBN دَارُ النَّوادِرِ سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسة دَار النَّوادِرِ م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوادِر الكُوَيْتِيَة ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هَاتِف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هَاتِف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السَّحَاب - ص. ب: 4316 حَولي - الرَّمْز البريدي: 32046 هَاتِف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م نُورُ الدِّيْن طَالِب المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنفِيْذِي
من أحكام الأيمان
(من أحكام الأيمان) (اليمين المنعقدة واليمين اللغو) 33 - (33) قوله جل جلاله: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224]. قال ابنُ عباسٍ: لا تجعلوا اللهَ حُجَّةً إذا (¬1) كانَ الحِنْث خيراً (¬2)، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي واللهِ، إنْ شاء اللهُ، لا أَحْلِفُ على يَمينٍ، فأَرى غيرَها خيراً منها، إلا أتيتُ الذي هو خيرٌ، وتَحَلَّلْتُها" (¬3). وهذا الحكمُ مُتفَقٌ عليه (¬4). وقيل: معنى الآية: ولا تجعلوا اللهَ بِذْلةً (¬5)، فتحلفوا به في كلِّ باطلٍ ¬
وحقٍّ (¬1)، ويروى عن عائشة -رضي الله تعالى عنها-. وهذا الحكمُ متفق عليه أيضاً، فيُكْرَهُ للرجل أن يُكْثِرَ الحَلفَ باللهِ في كلِّ شيء، وإن بَرَّ واتَّقى (¬2)، والله أعلم. * * * 33 - (33) قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225]. * اللغو: هو ما يجري على اللسانِ من غير قصدٍ، نحو: لا والله، وبلى والله، وهكذا يروى تفسيرهُ عن عائشة -رضي اللهُ تعالى عنها- (¬3)، وبه أخذ الشافعيُّ -رحمه الله تعالى- (¬4). - وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: هو أن يحلفَ على شيءٍ ظَنَّهُ كذلك، وأنه صادق فيه، فتبين له خلافه، فهو خطأ منه (¬5)، ولا إثم عليه، وروي هذا عن ¬
ابنِ عباسٍ والحسنِ والنخعيِّ والزُّهْري ومُجاهدٍ وقَتادةَ والرَّبيعِ والسُّدِّيِّ -رضي اللهُ تعالى عنهم- (¬1). - ويروى عنِ ابنِ عباسٍ: أنه اليمينُ في حالِ الغضبِ والضَّجَرِ من غيرِ عَقْدٍ ولا عَزْمٍ. وهو قولُ عليٍّ -رضي الله تعالى عنه-، وطاوسٍ -رحمه الله تعالى- (¬2)؛ لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَمينَ في إغلاقٍ" (¬3). - وقال بعضُ أهل العلم: هو ما يجبُ نقضُه؛ لأن اللغوَ واجبُ الرفع، فقال الشعبيُّ ومسروقٌ: هو أن يحلفَ على معصيةٍ، فلا يُكَفِّر، ويروى عن ابنِ عباس أيضاً (¬4). ¬
- وقال ابنُ جُبَيْرٍ: هو أن يُحَرِّمَ حَلالاً، فلا يَأْثَمُ بِحِنْثِهِ، وسيأتي الكلامُ على مثلِه بهذه الآيةِ -إن شاءَ اللهُ تعالى- (¬1). * * * ¬
من أحكام الطلاق
(من أحكام الطلاق) (الإيلاء) 34 - 35 (34 - 35) قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227]. * أبطل الله -سبحانه- بهذه الآية (¬1) ما كانوا عليه من الضرارِ، كان الرجل يُؤْلي (¬2) من امرأته السَّنَةَ والسنتينِ وأكثرَ، ولا تَطْلُق عليه، فنسخ اللهُ ذلك، وأَنْظَرَ المُؤالي أربعة أشهر، فإما أن يَفيءَ، أو يُطَلِّقَ (¬3). * وليس في السُّنَّةِ -والله أعلمُ- ما يدلُّ على المُدَّةِ التي يؤلي عليها، ولا على صفة الفَيْئَة، ولا على عزيمة الطلاقِ (¬4)، ولذلك اختلفَ أهلُ العلمِ من الصَّحابةِ وغيرِهم في ذلك. ¬
- فروي عن بضعةَ عشرَ من الصَّحابةِ، منهم عثمانُ وعليٌّ وعائشةُ وابنُ عمرَ، ويروى عن عُمَرَ أيضاً -رضي اللهُ تعالى عنهم-: أنه إذا مضتْ أربعةُ أشهر وُقِف المُؤْلي، فإما أن يَفيءَ، وإما أن يطلق. وبهذا أخذَ مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ -رحمهم الله تعالى- (¬1). - وروي عن ابنِ عباسٍ وابنِ مسعودٍ -رضي الله تعالى عنهم-: أن عزيمةَ الطلاقِ انقضاءُ أربعةِ أشهر. والفيئَةُ فيما بين أن يؤلي إلى انقضاء أربعة أشهر، فإن فاءَ، وإلاّ فعزيمة الطلاق انقضاءُ المدة. وبهذا أخذَ أبو حنيفةَ -رحمه الله تعالى- (¬2)، وشَبَّهَ الإيلاءَ بالطَّلاقِ الرَّجْعيِّ، وشَبَّهَ هذه المُدَّةَ بمدَّة العِدَّةِ. والقول الأولُ أشبَهُ بظاهرِ القرآنِ من أربعةِ أَوْجُهٍ: أحدها: قال الشافعيُّ: في سياقِ الآيةِ ما يدلُّ على ما وصفتُ، وذلك لما ذكر اللهُ تعالى أن للمؤلي أربعةَ أَشْهُرٍ، ثم قال: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227]، فذكر الحُكْمَيْنِ معاً بلا فَصْلٍ بينهما، فدلَّ على أنهما يَقعان بعدَ الأربعة الأشهر؛ لأنه إنما جعل عليه الفيئةَ والطلاقَ، وقد جُعِلَ له الخِيار فيهما في وقتٍ واحدٍ، ¬
ولا يتقدمُ واحدٌ منهما صاحبَه، وقد ذُكِرا في وقتٍ واحدٍ؛ كما يقال في الرَّهْنِ: افدِهِ أو نبيعُه عليكَ، بلا فصلٍ، وفي كلِّ ما خُيِّرَ فيه عليه افعل كذا أو كذا، بلا فصلٍ، فلا يجوز أن يكونا ذُكِرا بلا فَصْلٍ، ويقال: الفَيْئَةُ فيما بين أن يؤلي إلى أربعة أشهر، وعزيمةُ الطلاقِ -أيضاً- انقضاءُ الأربعةِ الأشهرِ، فيكونانِ حكمين ذُكِرا معاً، يُفْسَحُ في أَحدهما، ويُضَيَّقُ في الآخر (¬1). ولمخالفه أن يقول: لم يفسخ في أحدِهما ويُضَيَّقْ في الآخر، بل هو مخيَّرٌ بينهما في مدة الأربعة الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق، ويتحقق التخيير بين الخصلتين عندَ انقضاءِ المدة، وجعلنا انقضاءَ المدةِ قائمًا مقام اللفظ (¬2) بالطلاق وقبل (¬3) انقضاءِ المدة إذا لم يبق بعدَ الأربعةِ الأَشْهُر زمانٌ يملك فيه الطلاق. الوجه الثاني: أنَّ منْ أَنْظَرَهُ اللهُ تعالى أربعةَ أشهرٍ في شيءٍ، لم يكنْ عليهِ سبيلٌ حتَّى يمضيَ أربعةُ أشهرٍ، فإذا مَضَتْ، كان عليه السبيل، وهو إما أن يفيء، وإما أنْ يطلِّق؛ كما لو قال: أُخَلِّيكَ (¬4) أربعةَ أشهرٍ، لم يكنْ لهُ الأخذُ منكَ إلا حتى تنقضيَ الأربعةُ الأشهرِ (¬5). فإن قيل: أنظرَ اللهُ سبحانه أربعةَ أشهرٍ في شيءٍ، وخَيَّرَهُ فيه إلى انقضائها، فأما أن يفيء، أو يلزم الفراقُ بانقضائها. ¬
قلت: ذلك خِلافُ المفهومِ من الخِطاب؛ فإنّ اللهَ سبحانه وتَعالى يقول: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} [البقرة: 227]، ومفهومهُ أنَّ منْ لم يعزم الطلاقَ في المدة، بل كان عزمه الفيئة إلى انقضاءِ المدَّةِ أن يخالف حكمُه حكمَ العازمِ على الطَّلاق إذا لم يُطَلِّقْ بلسانه، ولم يعزمْ عليه (¬1)، وأبو حنيفة لا يفرِّق بينهما، فدلَّ على أن المراد بالفيئة عزيمةُ الطلاقِ بعدَ مُضِيِّ المدة، لكنَّ مفهومَ الخِطابِ عندَهُ ليسَ بِحُجَّةٍ. والوجه الثالث: من وُجوهِ الدلالة أن الفاءَ تكون جواباً للشرط، وما هو في معنى الشرط، وفي هذه الآية معنى الشرط. فكأنه قيل لمَنْ آلى من امرأتِه: يتربَّصُ أربعةَ أَشهرٍ، فإن فاءَ، فإنّ اللهَ غفور رحيم، وإن عَزَمَ الطلاقَ، فإن اللهَ سميعٌ عليمٌ. فَفُهِمَ من هذا أنَّ مرادَ المتكلم ترتيبُ الفيئة والعزيمة على ذلك، كما يترتَّبُ الجزاءُ على الشرطِ. ولو لم تدخلِ الفاءُ في الجوابِ، لاسْتَوى الاحتمالان، فلما دخلتْ، كان هذا هو الظاهر. فإن ادَّعى الحنفيةُ الإضمارَ، وقالوا: التقديرُ: (فإن فاء فيها)، أي: في المدة. قلنا: تركُ الإضمار خيرٌ من الإضمار، إلَّا أن يَدُلَّ الدليلُ على وجوبِ الإضمار، فيضمر، ولا دلالةَ هنا. الوجه الرابع: أضافَ اللهُ -سبحانَهُ- إرادة الطلاق إلى الزَّوْجِ، وقد أجمعتِ الناسُ على أنَّ صريحَ الطلاقِ ثلاثة، وليسَ انقضاءُ المُدَّةِ واحداً من الثلاثة، ولهذا كانتْ عائشةُ -رضي الله تعالى عنها- إذا ذُكر لها الرجلُ ¬
يحلفُ أَلَّا يأتيَ امرأتَهُ، فَبَعُدَ عنها خمسةَ أشهرٍ، لا ترى ذلك شيئاً حتى يوقَفَ، وتقول (¬1): كيفَ قالَ اللهُ سبحانه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬2) [البقرة: 229]. - والإيلاءُ: هو اليمينُ والقسمُ على تركِ الجماع: - فمن أهل العلم من لم يشترطْ في الجماع مُدَّةً، بل إذا حلفَ على قليل الزَّمانِ وكثيره كانَ مؤلياً. وبه قال الحسنُ والنخعيُّ وقتادةُ وابنُ أبى ليلى، ويروى عن عبدِ الله بنِ مسعود -رضي الله تعالى عنهم- (¬3). وتمسكوا بظاهرِ قولهِ تعالى: {يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226]، ولا مُتَمَسَّكَ لهم في الآية؛ لأن الله سبحانه ضربَ هذهِ المدَّةَ ليرجِعَ فيها المُؤلي عن المضارَّةِ، والعملِ بمقتضى يمينه، وذلك يقتضى أن تزيدَ المدةُ على أربعةِ أشهرٍ. - وروي عن ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-: أَنَّ المُؤْليَ مَنْ حلفَ ألاَّ يصيب امرأته أبداً (¬4). ¬
- وقال أبو حنيفة: أن يحلفَ على أربعةِ أشهرٍ فصاعداً (¬1)؛ لكونه من لوازم قولهِ في المسألة الأولى. - وقال الشافعي وموافقوه: هو أن يحلفَ على أكثرَ من أربعةِ أشهر (¬2)؛ ليوافقَ مذهبَهُم في المسألة الأولى (¬3). * والفَيْئَةُ في اللغة هي الرجوعُ، والمرادُ بها الوَطْءُ في حقِّ القادر (¬4). وأما المعذورُ، فيبينُ عذرهُ، ويقول: لو قدرت لفئت (¬5). ¬
وقال عكرمة: فَيْئَةُ المعذور بالنِّية، وإليه ذهبَ أبو ثورٍ وأحمدُ (¬1). والأولُ أولى؛ لأنه وإن كانت الفيئة توبة، والتوبةُ لا يُطْلَبُ فيها القَوْلُ، لكنَّها هنا تعلَّقَ بها حَقُّ الغيرِ، فاشْتُرِطَ بيانُ تركِ الظُّلْمِ والضّرر، ولا يحصل عِلْمُهُ إلا بالقول. * والفيئة توجب الكفارةَ عند أكثر أهل العلم (¬2). ويُروى عنِ ابنِ عباس وزيدِ بنِ ثابتٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم- (¬3)، وهو القولُ الجديدُ للشافعيِّ (¬4)، والغفرانُ يختصُّ بالذنب لا بالكفّارة؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ على يَمينٍ فَرأى غيرَها خيراً منها، فَلْيُكَفِّرْ عن يمينِهِ، ولْيَأتِ الذي هوَ خَيْرٌ" (¬5). ¬
- وقال الحسن والنخعيُّ: لا تجبُ الكفارةُ (¬1)، وهو القديمُ من قولِ الشافعيِّ. * وعمومُ الآية يقتضي أن للعبد إذا آلى تربصَ أربعةَ أشهرٍ؛ لدخولِه (¬2) في خِطاب الأحرارِ؛ كما قدمتُه في مقدمة كتابي هذا، وبهذا قال الشافعيُّ وأحمد وأبو ثور وأهل الظاهر (¬3). - وذهب مالكٌ إلى تنصيف مُدَّتِهِ قياساً على تنصيف حَدِّهِ وطَلاقه. ويروى عن الزهريِّ وعطاءٍ وإسحاقَ (¬4). - وذهب أبو حنيفة إلى اعتبارِ نُقْصانِ المُدَّة بالنساءِ لا بالرجال؛ قياساً على العِدَّةِ (¬5)، وبه قال الحسنُ والنخعيُّ (¬6). ¬
فأما (¬1) اعتبارُ مالكٍ بالحَدِّ، ففاسدٌ؛ لأن الحدَّ حَقّ لله تعالى، ومبناه على الدَّرْءِ والإسقاط، والإيلاءُ حقّ للآدمي، ومبناه على التغليظ والاحتياط. وأما اعتبارهُ بالطلاق، فأولى منه الاعتبار بمدة العُنَّة؛ لأن الشرع ضرب المدتين توسعةً للأزواج في إذا ما وجب (¬2). وأضعف منه اعتبار أبي حنيفة بالعِدَّةِ؛ لأن الله سبحانه علَّق هذا الحكم بالرِّجالِ، وضرب هذا الأجل إنظاراً وتوسعةً، وعلَّقَ حكمَ العِدَّةِ بالنساء، فكيف يُعْتبرُ حكمٌ وجبَ للرجالِ بحُكْمٍ وجبَ على النساء (¬3)؟ * وعموم الآية أيضاً يقتضي صِحَّةَ الإيلاءِ من الرَّتْقاءِ (¬4) والقَرْناءِ (¬5)، ¬
والصغيرِة، والمريضةِ المضناة (¬1)، وفي ذلك خِلافٌ بين الفقهاء (¬2). - فمنهم من أخذ بالعموم. - ومنهم من أخذ بالمعنى، وهو عدمُ المُضارَّةِ في حَقِّهن. حتى ذهبَ مالك إلى أن مَنْ قصدَ المُضارَّةَ بتركِ الوطء ولم يؤلِ بلسانه يعتبر مؤلياً، والجمهورُ على خلافِه (¬3). ¬
* وأجمعوا على أن المراد بالنساء الأزواج دون الإماء (¬1)؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} [البقرة: 227]، وليس في الإماء طلاق، ولأنه لا يجب للمَمْلوك على مالكه شيءٌ غيرُ المؤنة. * إذا تمَّ هذا فالإيلاء في لسانِ العربِ هو الحلفُ مطلقاً، قال الشاعر: [البحر الطويل] فآليتُ لا أنفك أحدو (¬2) قَصِيدةً ... تكون وإياها بها مثلاً بعدي - فمن أهل العلم من جعل الحلفَ على الامتناعِ من الوَطْءِ بكلِّ شيءٍ مَحْلوفٍ به، سواءٌ حلف بالله، أو بغيره، وبه قال الجمهورُ، والشافعيُّ في الجديد، ويروى عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-. - ومنهم من نظرَ في الإيلاء إلى عرفِ الشرعِ، فإنْ حلفَ باللهِ، فهو مُؤلٍ، وإنْ حلف بغيره، فليس بِمُؤْلٍ (¬3)، وهو قولُ الشافعيِّ في القديم. ¬
36 - (36) قوله جَلَّ جلالُه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228]. * أقول: المطلقةُ لا تخلو (¬1): - إما أن تكون مدخولاً بها، أو لا. - والمدخولُ بها لا تخلو إمّا أن تكونَ حاملاً، أو لا. وغيرُ الحامل لا تخلو إما أن تكون من ذوات الحَيْضِ، أو لا. والخالية من الحيضِ لا تخلو إما أن تكونَ لا تعرفه أصلاً، وهي الصغيرة، أو تعرفه، ثم انقطع. والمنقطعُ دمُها لا تخلو إما أن تكونَ انقطع دمُها لإياسٍ، أو غيره. وقد ذكر اللهُ سبحانه جميعَ ذلك في كتابِه، وبيَّنه نَصًّا وعموماً، فقال في هذه السورة: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وهذا عامّ في كل مُطَلَّقة، وقال في سورةِ الأحزاب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49]، فهي مخصِّصة ومبيِّنة لآية البقرة. وقال بعضهم: آية الأحزاب ليست مخصصة لآية البقرة؛ لأن الله سبحانه قال في أثنائها: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]، فدلَّ ¬
على أن المراد بآية البقرة: المطلقاتُ المدخولُ بهنَّ. وما قاله هذا القائل لا يستقيمُ إلا على قولِ بعض الأصوليين: إن أول الآية يُخَصُّ بآخرها، وقد بينتُ ذلك في مقدمة كتابي هذا. وقال الله سبحانه: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فيُخصّ بها عمومُ آيةِ البقرةِ. - * وأمّا الخالياتُ عن (¬1) الحيضِ؛ لصغر، ومن انقطع دمُها لإياسٍ، فقال الله سبحانه فيهنَّ: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]. فمنهم من قال: يُخَصُّ بها عموم آية البقرة؛ فإنها عامَّة فيهن. - وقال بعضهم: إن آيةَ البقرة لا تتناولُهنَّ؛ لأن اللهَ سبحانه أمرَ المطلقاتِ في سورة البقرةِ أن يتربَّصْنَ بالأقراء، وهي مفقودةٌ منْ هؤلاءِ، فدل على أنهنَّ لم يُرَدْنَ (¬2). وهذا القولُ حسن وصواب إنْ شاءَ اللهُ تعالى؛ لأن ذلك ليسَ في استطاعتهنَّ عادةً، ولا فِعْلاً، حتى يؤمرْنَ به، فلا نزاع في هذا، والله أعلم. * وأما التي انقطع دمها. فإن كانَ لعارضٍ معروفٍ كرَضاعٍ أو مرضٍ، تَرَبَّصَتْ عَوْدَه، واعتدَّتْ بالأقراء؛ لعمومِ قولهِ تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، ولمفهومِ قوله سبحانه: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4]، وروي ذلكَ عن عثمانَ وعليٍّ وزيدِ بنِ ثابتٍ وابنِ مسعودٍ ¬
-رضي الله تعالى عنهم- (¬1). وإن كان لغيرِ عارضٍ معروفٍ، فقد اختلفَ أهلُ العلمِ في ذلك: - فقال عُمَرُ -رضي الله تعالى عنه-: أيُّما امرأةٍ طلقتْ، فحاضَتْ حيضة أو حيضتين، ثم رفعتها حيضتها (¬2)، فإنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حَمْلٌ، فذلك، وإلا اعتدَّت بعدَ التسعةِ ثلاثةَ أَشْهُرِ، ثم حَلَّتْ (¬3)، وبهذا قال مالكٌ وأحمدُ والشافعيُّ قديماً (¬4)؛ لأن العِدَّة تُزاد لبراءة الرحمِ، فإذا علم براءته (¬5)، فلا معنى للتربصِ، ولما في ذلك من الإضرار. - وقال علي وابنُ مسعود -رضي الله تعالى عنهما-: تقعدُ إلى الإياس، ¬
ثم تعتدُّ بالشُّهورِ (¬1)، وبه قال أبو حنيفةَ والشافعيُّ (¬2)؛ كالتي انقطع دمها لعارِضٍ، ولِمَا قدَّمْنا من العموم والمفهوم. * وأما الحائضُ المدخولُ بها: فقد اتفقَ أهلُ العلمِ على أن عِدَّةَ الحرائرِ منهن ثلاثةُ قروء (¬3). وإنَّما اختلفوا في الإماء: - فذهبَ داود وأهلُ الظاهر وابنُ سيرينَ إلى إلحاقهن بالحرائر؛ لتناولِ العُموم لهنَّ (¬4). - وذهبَ الجمهورُ إلى نُقصانِهِنَّ عن الحرائرِ؛ قياساً على نقصانهنَّ عنهنَّ (¬5) في الحَدِّ، فعدَّتهن قَرْآنِ (¬6)؛ لأن القَرْءَ لا يَتبَعَّضُ، فكمل لها قَرآنِ، ولهذا روي عن عُمر -رضي الله عنه-: أنه قال: لو استطعْتُ أن أجعل عِدَّةَ الأَمَةِ حَيْضَةً ونصْفاً، لفعلتُ (¬7). ¬
فإن قيل: الحَدُّ مَبْناهُ على الدَّرْءِ والإسقاطِ، والعِدَّةُ مبناها على اللزوم والاحتياطِ، فلا يصلح الاعتبار. قلت: لما شهد الشرع بالتفرقة بين الحرَّةِ والأمَةِ في براءة الرَّحِمِ؛ لنقصان الأمةِ وكمالِ الحُرَّةِ، فاكتفى في براءةِ رحمِ الأمة بحيضة في بعض الأحوال، ولم يكتف بذلك في الحرةِ أصلاً، صحَّ اعتبارُ النقصانِ بالنقصان، فالاعتبار في مقدار النقصان، لا في أصل النقصان. * واتفق أهلُ اللسانِ كالأَصْمَعِيِّ وأبي عبيدة وغيرِهما على أن القَرْءَ يقع على الطُّهْرِ وعلى الحيض؛ لأنه اسم للوقت، فوقع على الطُّهْر والحيض، يقال: قَرَأَتِ المرأة: إذا دنا حَيْضُها، وقَرَأَتْ: إذا دنا طُهْرُها (¬1)، فقال الشاعر: [البحر المتقارب] إذا ما الثُّريّا وقَدْ أَقْرَأَتْ ... أَحَسَّ السِّماكانِ منها أُفولا (¬2) والوقتُ هنا علامة تَمُرُّ على المُطَلَّقة تُحْبَسُ فيها عن النكاح حتى تستكملها. * واتفقوا على أنَّ المرادَ به أَحدُهُمَا، إما الطُّهر، وإما الحيضُ، واختلفوا في تعيينه: - فقالت عائشةُ وزيدُ بنُ ثابتٍ وابنُ عُمَرَ: الأقْرَاءُ: الأطْهارُ (¬3). وبه قال ¬
فقهاءُ المدينة، والزهريُّ، وربيعةُ ومالًا، والشافعيُّ (¬1). قال الزهريُّ: ما رأيتُ أحدًا من أهل بلدنا إلَّا يقول: الأقراءُ: الأَطهارُ، إلا سعيدَ بنَ المسيِّب (¬2). - وقال عمرُ وعلي وابنُ مسعودٍ وأبو موسى: الأَقراء: الحِيَضُ (¬3). وبه قال الأوزاعيُّ وأهلُ الكوفة والثوريُّ وأبو حنيفة (¬4). وعن أحمد روايتان (¬5). واحتجَّ أصحابُ القولِ الأولِ بالحديث الثابتِ عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-: أنه طلقَ امرأتَه وهي حائِضٌ على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألَ عمرُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَتغَيَّظَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "مُرْهُ فَلْيُراجِعْها، ثم لْيُمْسِكْها حتى تَطْهُرَ، ثُمَ تَحيضَ، ثم تَطْهُرَ، ثم إنْ شاءَ أَمْسكَهَا بعدُ، وإن شاءَ طَلَّق قبل أَنْ يمسَّ؛ فتلكَ العِدَّةُ التي أمرَ اللهُ أن تُطَلَّقَ لها النساء" (¬6). ¬
فإذا ثبت أن الطُهْرَ مَحَلُّ الطلاق، ثبتَ أنه محلُّ العدة (¬1). وهذا دليل واضح من جهة السمع. أما من جهة المعنى المتعلق بالوضع: - فإنهم احتجُّوا بأن هذا الجمع خاصٌ بالقَرْءِ الذي هو الطُّهر، وأما القُرْءُ الذي بمعنى الحَيْض، فإنه يجمع على أقراء، لا على قروء، وحكوا هذا عن ابن الأنباري -واستدلوا بتذكير العدد على تذكير المعدود، والطُّهْر مذكَّرٌ، والحيضة مؤنثة، ولو كانت مرادة لأَنَّثَ العَدَدَ. - واستدلوا بالاشتقاق؛ لأنه مشتق من قولهم: فلان يُقْرِئُ الماءَ في حوضه، أي: يجمعه، فالقَرء هو الحبس والجمعُ، والطهر إذا كان وقتًا فهو أولى في اللسان بمعنى القَرء، ولأنه حَبْسُ الدم. واحتج القائلون بالثاني: - بأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر في سَبْيِ أَوْطاسٍ أَنْ يُسْتبرأْنَ قَبلَ أَنْ يُوطَأنَ بحيضة (¬2)، والعِدَّةُ استبراءٌ، فاستبراءُ الحُرَّةِ بثلاث حِيَضٍ كَوامِلَ، تخرج منها إلى الطُّهرِ، كما تستبرئ الأمةُ بحيضةٍ كاملةٍ، تخرج منها إلى الطهر. - ولأن الحيضَ ممّا يجيء لوقتٍ، وأما الطهرُ فأصلٌ، فكان الحيض في اللسان أولى بمعنى القَرء؛ لأن المواقيتَ والعلاماتِ أقلُّ ممّا بينهما، والحيضُ أقلُّ من الطُهر فهو في اللغة أولى للعدة أن تكون وقتاً؛ كما يكونُ الهلالُ وقتاً فاصلاً بين الشهرين. ¬
ومن أجل هذا المعنى حكى بعضُ الشافعية (¬1) قولاً أن القرء هو الانتقالُ من الطهرِ إلى الحيض؛ لأنه أقل الأوقات والعلامات، وإنما لم يجعل الانتقال من الحيض إلى الطهر مراداً بالكتاب، وإن كان معنى التسمية واقعاً عليه؛ لأن الحيضَ ليس بوقتٍ مشروعٍ للطلاق، فلا يكون الانتقالُ منه إلى الطهرِ مُراداً لله عز وجل (¬2). * وفي قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]: دلالةٌ على أنها مأمونةٌ على العِدَّة (¬3)، فإذا ادعت انقضاءها لمدةٍ يمكن أن تنقضيَ فيها، قُبِل قولُها، وهو اثنان وثلاثون يوماً عند الشافعيِّ (¬4)، وأربعة وخمسون يوماً عند بعض أهل العراق (¬5). ¬
قال قتادةُ: كانت عادتهنَّ في الجاهليةِ أن يَكْتُمْنَ الحَمْلَ ليلحقَ (¬1) الوليدُ بالزوجِ الجديدِ، ففي ذلك نزلت الآية (¬2). وقال الشافعي: أنا (¬3) سعيدٌ -هو ابنُ سالم-، عن ابنِ جريجٍ: أن مُجاهداً قال في قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]: المرأةُ المطلَّقَةُ لا يحلُّ لها أن تقولَ: أنا حُبْلى، وليستْ بحبلى، ولا: لستُ بِحُبلى، وهي حُبْلى، ولا: أنا حائضٌ، وليست بحائضٍ، ولا: لستُ بحائضٍ، وهي حائضٌ (¬4). وهذا -إن شاءَ الله تعالى- كما قال مجاهدٌ لمعانٍ منها: أنه لا يحلّ الكذب، والآخر ألاَّ تكتم الحملَ والحيضةَ لعلَّهُ يَرْغَبُ، فيراجعَها، ولا تَدَّعيها لعلَّهُ يُراجِعُ، وليست له حاجة بالرجعةِ لولا ما ذَكَرَتْ، فتغرَّهُ، والغرور لا يحلُّ. والنهي يحتمل أنه لا يحلُّ لهنَّ أن يكتمن إذا سُئلن (¬5)، ويحتمل ألاّ يكتمن، وإن لمْ يسألْهُنَّ الزوج. قال ابنُ جريجٍ: سئل عطاءٌ: الحَقُّ عليها أن تخبرَهُ بحَمْلِها، وإن لم يرسل إليها يسألها عنه؛ ليرغَبَ فيها؛ قال: تظهره، وتخبرُ به أهلها، فسوف يبلُغُه (¬6). ¬
* وقيل (¬1): كان في مبدأ صدر الإسلام للرجلِ أن يراجعَ امرأته في الحملِ، وإن طلقها ثلاثاً. وقيل -والله أعلم-: إن قوله سبحانه {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228]، أي (¬2): في العِدَّةِ، وهي حامل، ثم نُسخ ذلك بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. وقال قوم (¬3): نسخها قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]. فإن قيل: فمفهومُ قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228] يدلُّ على أن البُعولَةَ لا تستحقُّ الردَّ إذا لم يريدوا الإصلاح. قلنا: هذا المفهوم يعارضه قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، وسيأتي الكلام عليه -إن شاء الله تعالى- قريباً، فلا مفهوم لهذا الشرط، بل فيه إيماءٌ إلى أن المراجعة في هذا الحال أحسنُ وأولى؛ لما فيه من إصلاح حالهما، وإزالة الوحشة بينهما (¬4). ¬
* وقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] مُجْمَلٌ يحتمل أن يريد: ولهن النفقةُ والكسوةُ والسكنى؛ كما عليهن الرجعةُ، أو لهنَّ من حسنِ العشرةِ والصحبةِ مثلُ ما عليهنَّ من الطاعة. * وقد اتفق أهلُ العلم على أن الذي يجبُ لهن (¬1): النفقةُ والكُسْوَةُ وحُسْنُ العِشْرة؛ لقوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [[النساء: 5]. * واتفقوا على أن الواجب عليها: طاعةُ الزوجِ إلى الفراش، وحسنُ العشرةِ والصحبةِ. * واختلفوا هل يجبُ عليها الخدمةُ؟ - فمذهب (¬2) الجمهور أنه لا يجب عليها الخدمة؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34]؛ ولأن المقصود بالعقد الاستمتاعُ، لا الخدمةُ (¬3). - وقال بعض المالكية: يجب عليها خدمةُ زوجِها بالمعروفِ من عادة أمثالها؛ كما جرى عُرْفُ المسلمين في قديم الأمر وحديثه، ويجبُ عليه أن ¬
يُخْدِمها إخدامَ مثلِها، فإن كانت لا تكتفي بخادم واحد؛ لكونها من بناتِ الملوك، وجبَ إخدامُها بقدر كفايتها؛ لأنه المعروفُ (¬1)، خلافاً لأبي حنيفةَ والشافعيِّ (¬2). وهذا على أصلهم من التخصيص والتقييدِ بالعادة. * * * ¬
عدد الطلاق التي يملك الزوج فيها الرجعة
(عدد الطلاق التي يملك الزوج فيها الرجعة) 37 - (37) قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)} [البقرة: 229]. والكلام في جملتين: الجملة الأولى: قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} معناه: الطلاق الذي يملكُ فيه الرجعةَ مَرّتان، {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، وهو الثالثة. ويروى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه سئلَ عن الثالثةِ فقالَ: "تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ"، أو كما قال (¬1). وهذه الآية قال قومٌ: هي ناسخةٌ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] كما قدمناه، وقال قومٌ غير ذلك (¬2). ¬
* وقد جعل الله -سبحانه- عَدَدَ الطلاق ثلاثاً، وأجمع عليه المسلمون في حق الأحرار (¬1). وأما العبيدُ: - فذهب أبو محمدِ بنُ حَزْمٍ وجماعةٌ من أهلِ الظاهرِ إلى أنهم كالأحرار وتمسكوا بالعموم (¬2)؛ كما تمسَّكوا بالعموم في إلحاق عِدَّةِ الإماءِ بعدة الحرائر (¬3). - وذهب جمهورُ أهل العلم إلى أن للرقِّ تأثيراً في نُقْصان العدد في الطلاق. * ثم اختلفوا في تعيينه. فاعتبره قومٌ بالرجال دون النساء، فإن كان الزوجُ رقيقاً ملكَ طَلْقتين، سواء كانتِ الزوجةُ حُرَّةً أو أَمَةً، وإن كان حُرًّا، ملكَ ثلاثا، ولو كانت الزوجة أَمَةً. وبه قال عثمانُ وزيدُ بنُ ثابتٍ وابنُ عباسٍ. وإليه ذهبَ مالك والشافعيُّ -رضي الله تعالى عنهم- (¬4). ¬
- واعتبره قومٌ بالنساء، وبه قال عليٌّ وابنُ مسعودٍ، وإليه ذهبَ أبو حنيفة -رضي الله تعالى عنه- (¬1). - واعتبره قومٌ بأيِّ الجانبين كان، وبه قال عثمانُ البَتِّيُّ، ويروى عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- (¬2). ومستندهم (¬3) القياسُ على نقصان حَدِّ الأمة عن الحُرَّةِ. ويظهر لي قوةُ مذهبِ المُلْحِقين (¬4)؛ لأن الحكمةَ التي شرعَ لها هذا العددُ موجودةٌ في نفوس العبيد؛ لأن (¬5) الله سبحانه وتعالى لم يُضيِّقْ على الرجال بتحديد طَلْقتين خشيةَ المشقةِ عندَ الندم، ولم يسمح لهم بأكثرَ من ذلك خشيةَ المشقةِ على النساء بالتضرُّر. وأما استدلالُ الجمهورِ، ففيه ضعفٌ؛ لأن القياس لا يُخَصِّصُ العمومَ ¬
على قولِ جماعةٍ من أهلِ العلمِ بشرائِط الاستدلال. وإن سلموا، فهذا القياسُ ضعيفٌ؛ لاعتبار ما بُني على التغليظ في حقِّ العبيدِ، وهو تقليل عَدَدِ الطلاق بما بُني على التخفيفِ في حقِّهَم وحقِّ غيرهم من الأحرار. وكان الأولى أن يقال: هذا الزوجُ رقيقٌ، ولم يضيقِ الشرعُ عليه في عَدَدِ الحَدِّ، فلِمَ يُضَيَّقُ عليه في عدد الطلاق. نعم، قد يقال: في الرجعة ملكٌ وسلطانٌ على الزوجة، والعبيدُ لا سلطانَ لهم ولا ملك، فمن لُطْفِ الشارع بهم أنْ جعلَ لهم سلطانًا أضعفَ من سلطانِ الأحرار وأَنْقَصَ، فجاز لنا حينئذ أن نعتبر النقصانَ بالنقصان، فالاعتبارُ في مقدارِه لا في أصله، ولولا هذا لما اخترتُ مذهبَ الجمهورِ، والله أعلم. * فإن قلتم: فقولُ الله سبحانه: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] فيه إيماءٌ إلى أن الثلاثَ إنما يقعْنَ في ثلاثِ كلماتٍ بثلاثِ مرات، فإن لفظ المرتين يقتضي التكرار، ولأن قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] يقتضي التكرار أيضاً؛ لما فيه من معنى الترتيب، فما الحكم فيما إذا قال: أنتِ طالق ثلاثًا بكلمةِ واحدة، هل تقع عليها الثلاث، أو لا يقعُ عليها إلا واحدةٌ؟ قلت: اختلف أهلُ العلمِ في ذلك. - فأخذ بهذا الظاهرِ أهلُ الظاهر، وقومٌ من أهل العلم لم يوقعوا إلا طلقةً واحدةً (¬1). ¬
وعمدتُهم في ذلكَ ما رواه ابنُ طاوسٍ، عن أبيه: أن أبا الصَّهْباء قال لابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: إنما كانت الثلاثُ على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تُجْعَلُ واحدةً، وأبي بكر، وثلاثٍ من إمارة عمر، فقال ابن عباس: نعم (¬1). واحتجوا أيضاً بما رواه عِكرمةُ، عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-، قال: طلق رُكانَةُ زوجته ثلاثاً في مجلسٍ واحد، فحزِن عليها حزناً شديداً، فسألهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيفَ طَلَّقْتَها؟ " قال: طلقتُها ثلاثًا في مجلس واحد، قال: "إنَّما تلكَ طلقةٌ واحدةٌ، فارْتَجِعْها" (¬2). - وذهب جمهورُ فقهاءِ الأمصارِ إلى وقوعِ الثلاثِ (¬3). واعتمدوا ما رواه أصحابُ ابنِ عباسٍ؛ كمجاهدٍ وسعيدِ بنِ جبيرٍ وعطاءٍ وعمرو بن دينارٍ ومالكِ بنِ الحُوَيْرِثِ (¬4) ومعاويةَ (¬5) بنِ أبي عياشٍ الأنصاري، وغيرِهم: أن ابنَ عباس -رضي الله تعالى عنهما- كان يفتي بوقوع الثلاث (¬6). ¬
فعن سعيدِ بن جُبيرة أنَّ رجلاً جاءَ إلى ابنِ عباسٍ، فقال: طلقتُ امرأتي ألفاً، فقال: تأخذُ ثلاثاً، ودعْ تسع مئة وسبعة وتسعين (¬1). وعن مجاهد: قال رجلٌ لابنِ عباسٍ: طلقت امرأتي مئة، فقال: ثلاثاً، ودع سبعاً وتسعين (¬2). وكلهم حكى أنه أجاز الثلاثَ، وأمضاهُنَّ. فإن قلتم: فكيف جاز اعتمادُ قولِ ابنِ عباسٍ مع صِحَّةِ ما رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلنا: قال الشافعيُّ: يشبه -والله أعلم- أن يكونَ ابنُ عباس قد علم أن كان شيئاً فنسخ. فإن قيل: فما دلَّ على ما وصفت؟ قلتُ: لا يشبه أن يكونَ يروي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - شيئا، ثم يخالفُه لشيء لم يعلمْهُ كانَ من النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: فلعل هذا شيءٌ روي عن عمر، فقال فيه ابنُ عباس بقولِ عمر. قلنا: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمرَ في نِكاح المُتْعَةِ وبيع الدينارِ ¬
بالدينارينِ، وفي بيع أمهاتِ الأولاد، وغيره، فكيف يوافقه في شيء يروى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيه خلافه؟ فإن قيل: فلمَ لمْ يذكره؟ قيل: قد يسأل الرجلُ عن شيء، فيُجيب فيه، ولا يتقصَّى الجوابَ، ويأتي على الشيء كله، ويكون جائزًا له، كما يجوز له لو قيل: أصلِّى الناسُ على عَهْدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس؟ أن يقول: نعم، وإن لم يقلْ: ثم حُوِّلَتِ القِبْلَةُ. قال: فإن قيلَ: فقد ذكر على عهد أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر. قيل -الله أعلم-: وجوابُه يخالف ذلك كما وصفت (¬1)، انتهى. قلت: ولا يخفى على ذي نظر صافٍ ما في هذا الجوابِ من التكلُّفِ والتعسف، ومن تجويزِ النسخِ بالظَّنِّ والاحتمال، وهذا من الشافعيِّ خلافُ مذهبه وأصوله. وقال غيرُ الشافعيِّ: يشبه أن يكونَ الحديثُ منصرفًا إلى طلاق البَتَّةِ الذي معناها الثلاثُ (¬2)، وذلك أنه قد رويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث رُكانَةَ أنه جعل البَتَّةَ واحدةً، وكان عُمر يراها واحدة، ثم تتابع الناسُ في ذلك، فألزمَهُمُ الثلاثَ (¬3). وبه عمل عمرُ بنُ عبد العزيز، وقال: لو كان الطلاقُ ألفًا ما أبقتِ البتَّةُ ¬
منه شيئاً، من قال البتة، فقد رمى الغايةَ القصوى (¬1). وهذا أيضاً باطلٌ؛ لما رويناه عن الشافعي قال: أخبرني عمِّي محمدُ بنُ عليِّ بنِ شافعٍ، عن عبد الله بنِ (¬2) السائبِ، عن نافعِ بن عجيرة بن عبد يزيد: أن رُكانةَ بن عبد يزيد طلَّق امرأته سُهَيْمَةَ البَتَّةَ، ثم أتى رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يارسول الله! إني طلقتُ امرأتي سهيمةَ البتة، واللهِ ما أردت إلاّ واحدة، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لركانةَ: "واللهِ ما أردتَ إلا واحدة؟ "، فقال رُكانةُ: واللهِ ما أردتُ إلَّا واحدةً، فردَّها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فطلقها ثانيةً في زمن عمر، والثالثةَ في زمن عثمان (¬3). فلو كانت البتةُ في عهده واحدةً، لما حَلَّفَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما قوله: إن عمر كان يرى البتةَ واحدةً، فلما رأى تتَابُعَ الناسِ، جعلها ثلاثاً، فليس بصحيحٍ؛ فقد أمر من طلق البتةَ أن يمسك أهله، ولم يحلفه وتكرر ذلك منه. وإنما الذي حَمَلهم عليه عمرُ -رضي الله عنه- ما روى أيوبُ السَّخْتِيانيُّ عن غير واحد، عن طاوسٍ، عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- في قصة أبي الصَّهْباء قال: بلى، كان الرجلُ إذا طلقَ امرأته ثلاثاً قبلَ أن يدخلَ بها، جعلوها واحدةً على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ، وصدراً من إمارة ¬
عمر، فلما أن رأى الناسَ تتابعوا فيها، قال: أجيزوهنَّ عليهم (¬1). فإن قيل: فهذا مثلُ ما رويت عنه أولاً، ولم يختلفِ الحالُ إلا في المدخولِ بها، فلا يتمُّ جوابُك. قلنا: ويشبه أن يكون المرادُ بالثلاث في غير المدخولِ بها الثلاث التي تترى وتتابع (¬2)؛ كقوله: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنت طالق. فقد روى الشعبيُّ عن ابن عباسٍ في رجلٍ طلقَ امرأتَهُ ثلاثاً قبلَ أن يدخُلَ بها، قال: عقدة كانت بيده، أرسلها جميعاً، فإذا كانت تترى، فليس بشيء (¬3). وقال عكرمةُ: شهدتُ ابنَ عباس جمعَ بينَ رجلٍ وامرأتِه طَلَّقها ثلاثاً، وفَرَّقَ بين رجل وامرأته طلقها ثلاثاً، أُتي في رجل قال لامرأته: أنتِ طالق، أنت طالق، أنت طالق، فجعلها واحدة، وأُتي في رجل قال لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ففرق بينهما. فإن قلت: فكيف يمكنُ الجمعُ بين حديث ابنِ عباسٍ وحديثِ رُكانَة، وأن حديث ركانة يقتضي أن البتةَ توجبُ الثلاثَ، إلا أن يريدَ واحدةً، وحديثُ ابن عباسٍ يقتضي أن الثلاثَ كانت واحدة، وهنَّ أولى بإيجاب الثلاث من البتَّة؟ قلت: أما الجمع على مذهب مالكٍ فبيِّن، وذلك أنه لا يوقع الثلاثَ باللفظِ الصريح (¬4)، ويوقعها بالكنايات الظاهرة؛ كقوله: أنتِ طالقٌ البتةَ، ¬
ولا سبيل لي عليكِ، وأنتِ عليَّ حرامٌ (¬1)، لأن الظاهر من هذه الألفاظ البينونة، والبينونةُ لا تحصلُ إلا بالثلاث، أو بِعِوَضٍ، ولا عِوَضَ هنا. وأما على مذهب الشافعيِّ، فيُحمل حديثُ ابن عباسٍ على غيرِ المدخول بها؛ كما قدمته من رواية أيوبَ السَّخْتِيانيّ، ويكون الصريحُ والبتةُ في إيجاب الثلاثِ سواءً (¬2)، والله أعلم. وأما الجوابُ عمّا احتجوا به من حديث رُكانة. فقيل: إنه وهم، وإنما روى الثقاتُ: أن رُكانةَ طلَّق زوجتَه البتةَ كما قدمناهُ من رواية الشافعيّ (¬3). ثم قال الشافعيُّ: فإن قال قائلٌ: فهل من سُنَّةٍ تدلُّ على هذا؟ قيل: نعم، أنا سفيانُ، عن الزهريِّ، عن عروةَ بن الزُّبير، عن عائشة: أنه سمعها تقول: جاءت امرأةُ رِفاعَةَ القُرَظِيِّ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إني كنت عندَ رفاعةَ، فطلقني، فَبَتَّ طلاقي، فتزوجتُ عبدَ الرحمنِ بنَ الزَّبيرِ، وإنما (¬4) معه مثل هُدْبَةِ الثوب، فتبسَّمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "أتريدينَ أن ترجِعي إلى رفاعة؟ لا حتَّى يذوقَ عُسَيْلَتَكِ، وتَذوقي عُسَيْلَتَهُ" قال: وأبو بكرٍ عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وخالدُ بنُ سعيدٍ بالبابِ ينتظرُ أنْ يؤذَنَ له، فنادى: يا أبا بكر! ألا تسمعُ ما تجهرُ به هذهِ عندَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5)؟ ¬
قال: فإن قيل: فقد يحتملُ أن يكونَ رفاعةُ بَتَّ طلاقَها في مَرّاتٍ. قلت: ظاهره في مرة واحدة، وبتَّ إنَّما هي ثلاثٌ إذا احتملَتْ ثلاثاً، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عُسَيْلَتَكِ"، ولو كانت حَسَبَتْ طلاقَها بواحدة، كان لها أن ترجعَ إلى رفاعةَ بلا زوج. فإن قيل: أطلَّق أحدٌ ثلاثاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قيل: نعم، عُوَيْمِرٌ العَجْلانِيُّ طلقَ امرأتَهُ ثلاثاً قبلَ أن يخبره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنها تحرم عليه باللّعانِ، فلما أعلمَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهاه (¬1). وفاطمةُ بنتُ قيسٍ تحكي للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ زوجَها بتَّ طلاقها، تعني -والله أعلم-: أنَّه طلقها ثلاثاً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ لكِ عليهِ نفقة" (¬2)؛ لأنها -والله أعلم- لا رجعةَ لهُ عليها، ولم أعلمْه عابَ طلاقَ ثلاثٍ معاً. قال: فلما كان حديثُ عائشةَ في رِفاعَةَ موافقاً ظاهرَ القرآن، وكانَ ثابتاً، كان أولى الحديثين أن يؤخذ به، والله أعلم، وإن كان ذلك ليس بالبيِّنِ فيه جداً. قيل (¬3): ولو كان الحديثُ الآخر له مخالفاً، كان الحديثُ الآخر يكون ¬
منسوخاً (¬1)، والله أعلم، وإن كان ذلكَ ليس بالبيّن فيه جداً (¬2). انتهى كلامه، رحمة الله تعالى عليه. قلت: ولا يخفى علي ذي نظر صحيح وقلبٍ سَلِمَ من الهَوى ما في استدلالِ أبي عبدِ الله من ضعْفٍ (¬3)، وما في تأويله من الوهن؛ حيث جعل ظاهر القرآن خلافَ الظاهر منه، وحيث ادَّعى النسخَ بالاستدلال والاجتهاد معَ ظهورِ الاحتمال، وحيث جعل الحُجَّةَ في فتوى الصحابي إذا خالفت روايته، وذلك بخلاف أصوله وأصول أصحابه وأتباعه، وكلُّ هذا غَفْلَةٌ منه -رحمه الله تعالى-، ولو وقع على الجواب الذي قدمته، لما عَدَل عنه، ولا استقام له حينئذ الاستدلال بإجماع عمر وأهل عصره -رضي الله تعالى عنهم-. * * * ¬
أحكام الخلع
(أحكام الخلع) الجملة الثانية: حَرَّم الله -سبحانه- على المؤمنين أن يأخذوا مما آتوا الأزواج شيئاً، فقال جَل جلالُه: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229]، وقال تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 20 - 21]، وقال تبارك وتعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19]، وهذا التحريم مطلق في جميع الأحوال. * وأباح اللهُ سبحانه للرجل أن يأخذَ مما آتى امرأته في حالٍ واحدة، وهي أن يخافا ألاّ يقيما حدودَ الله، فلا تؤدِّي حقَّه، ولا يؤدي حقَّها (¬1)، فقال جَلَّ جلالُه: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. ¬
وقال جَلَّ جلالُه: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء: 19]، والمراد: إذا جاءت بفُحْشٍ، أو نشُوزٍ، أو بفاحشة من زنى .... ، فهي لم تقم حدود الله، وهذا تخصيص يقيد إطلاق الآيتين. وقد جاءت السنة ببيان ذلك وتحليله أيضاً؛ كما روت عَمْرَةُ بنتُ عبد الرحمن، عن حَبيبةَ بنتِ سهل: أنها أتتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الغَلَس، وهي تشكو شيئا ببدنها، وهي تقول: لا أنا ولا ثابتُ بنُ قَيْس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا ثابتُ! خُذْ منها" فأخذ منها، وجلست (¬1). * واختلفوا فيما إذا كانت الحال مستقيمة بين الزوجين، وتراضيا على الخُلْع (¬2). - فقال مالك والشافعيُّ وأبو حنيفةَ وأكثرُ أهل العلم: يصحُّ الخُلْع (¬3)، ويحل له ما بذلَتْ له؛ لقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]، ولم يفرق. - وقال النخعيُّ والزهريُّ وعطاءٌ وداودُ وأهلُ الظاهرِ وبكرُ بنُ عبدِ اللهِ المُزَنيُّ: لا يصحُّ الخُلْعُ، ولا يحلُّ له ما بذلت، واختاره ابنُ المنذرِ (¬4)؛ لما في الآيةِ من الحصر والتقييد. ¬
وهذا المذهبُ وإن كان قويَّ الدِّلالة، فقولُ الجمهور أرجحُ دليلاً؛ لأن الله -سبحانه- حَرمَ الأخذَ من الأزواج مطلقاً، وقال: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 20 - 21] وبيَّنَ أن الأخذَ إنما يكونُ حراماً إذا كان على سبيل العَضْل (¬1) والمنعِ، وقال تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساه: 19]، فدليلُ هذا التخصيص يقتضي جوازَ الأَخذ إذا كان على غير (¬2) جهة المَنعْ والعَضْل، مع موافقةِ عموم (¬3) قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]، ولأنه إذا جاز الأكلُ من الذي تهبه وتَصَّدَّقُ بهِ من صَداقها، ولم يحصل لها به عوضٌ، فَلأَنْ يجوزَ الأكلُ منهُ مع حصولِ العِوَضِ أولى. * ثم بيَّن الله سبحانه في سورة النساء أنه يجوزُ الأخذ على جهةِ العَضْل عندَ الإتيان بالفاحشة، فقال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]. ¬
وبهذا الحصر أخذ الحسنُ وأبو قِلابةَ، فقالوا: لا يجوز الخُلْعُ حتى يراها تزني (¬1)، وجعلا الفاحِشَةَ المبينةَ هي التي يعلم بها تركُ إقامة حدود الله. والجمهور إما أن يحملوا الفاحشة المبينة على النشوز، أو يرون النشوز في معنى الفاحشة المبينة (¬2)؛ لأن في الجميع ترك إقامة حدود الله تعالى؛ بدليل فعلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في امرأة ثابتِ بنِ قيسٍ، وسيأتي مزيد الكلام إن شاءَ اللهُ تعالى. * والخوف يحتمل أن يراد به حقيقةُ الخوفِ الذي هو الظَّنُّ والحُسبان، فيدل حينئذٍ على جواز الخُلْع، وإن كان الحالُ بينهما مستقيماً يقيمان حدود الله تعالى، يؤدّي حقها، وتؤدِّي حَقَّه، لكنها كارهةٌ لصحبته، ويخافُ أن تمنعَهُ بعضَ حقِّه؛ لكراهيةِ صحبتهِ؛ كما قال الجمهور. ويحتمل أن يُراد به العلمُ؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا} [النساء: 35]؛ أي: علمتم، فلا يدلُّ على جواز الخُلْع في الحال المستقيمة بينهما؛ كما اختاره ابن المنذر. * ثم يحتمل أن يكون قولُه تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] خِطاباً للمؤمنين، ويحتمل أن يكونَ خِطاباً للوُلاة؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، وذلك خطابٌ للولاة بالاتِّفاق، وبهذا قال الحسنُ وسعيدُ بنُ جُبير ¬
وابنُ سيرين، فشرطوا في جواز الخُلْعِ حضورَ السلطان (¬1)، كما (¬2) شُرِطَ في بَعْثِ الحَكَمينِ. والجمهورُ على خلافهم؛ قياساً على الطلاق. وبه قال عمر (¬3) وعثمانُ وابنُ عمر وعامةُ الفقهاء (¬4). * وأحلَّ الله -سبحانه وتعالى- للرجل أن يمسكَ امرأته بعدَ المَرَّتينِ، وهذا إجماع (¬5)؛ لأنها كالزوجة، فيرثها وترثه (¬6). ولم يكن في السنة -والله أعلم- ما يدلُّ على بيان صفة الإمساك. ولا شَكَّ أنه يحصل بالقول بأن يقول: رددتُها إليَّ، وأمسكتُها. وأمَّا بالفعل الذي هو الوَطْءُ. فذهب الشافعيُّ إلى أنه لا تحصل به الرجعة (¬7). وذهب مالك وأبو حنيفةَ إلى حصولها بالوطء (¬8). ¬
واشترط مالكٌ النيةَ (¬1)، ولم يشترطْها أبو حنيفة (¬2)، وجعله كالمُؤْلي، وسيأتي مزيدُ كلام على هذا -إن شاء الله تعالى- عندَ قوله في سورة الطلاق: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. * وجعل الله سبحانه للرجل أن يسرِّحها، وقد أجمع أهلُ العلم (¬3) أن الرجعيَّةَ يلحقُها الطلاقُ (¬4). وجعل له أيضاً أن يخالعَها، وعلى هذا إجماعُهُمْ، نعم، للشافعيِّ قولٌ أنه لا يصحُّ خُلْعُها (¬5). فإن قلتم: فترتيبُ الأحكام في هذه الآية يقتضي أن المُخْتَلِعَةَ يلحقها الطلاقُ؛ لأن الله سبحانه رتَّبَ بالفاء التي للترتيب الإمساكَ والتسريحَ على الطلاق، ورتَّب الافتداءَ على الطلاق، ورتب الطلاقَ على الافتداء، فقال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]. قلت: ما فهمتموه واستنبطتموه قد قالَ به قومٌ من أهل العلم، منهم أبو حنيفةَ والثوريُّ -رحمهما الله تعالى-، واستدلوا بآثار ضعيفةٍ منقطعةٍ لا تقومُ بمثلها حجَّةٌ (¬6). ¬
وقال قومٌ: لا يلحقها طلاق، كما لا يلحقها إيلاءٌ ولا ظهار، ولا ترث، ولا تنتقل إلى عدة الوفاة، واحتجوا بما رواه عطاءٌ عن ابن عباس وابن الزبير: أنهما قالا في المختلعة: لا يلزمها طلاق؛ لأنه طلاقُ ما لا يملك، وبه قال مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور (¬1). فإن قلتم: فهذا الترتيبُ يقتضي أن المفاداةَ الواقعةَ بين الطلقتين لا تُحرِّم، ولا تجعل ثالثة؛ لأن الله سبحانه يقول: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، ولم يحرمها بالافتداء. قلنا: ما فهمتموه قد قال به -أيضًا- قومٌ من أهل العلم؛ كأحمدَ وداودَ، والشافعيِّ في أحد قوليه، وهو مذهبُ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما - (¬2). فعن إبراهيمَ بنِ سعدٍ بنِ أبي وقاص: أن رجلًا سألَ ابنَ عباس عن رجلٍ طلَّق امرأتَه طلقتين، ثم اختلعت منه، أيتزوجها؟ قال: نعم، لِينكحْها، ليس الخُلْعُ بطلاق، ذكرَ الله سبحانه وتعالى الطلاقَ في أولِ الآيةِ وآخرِها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلعُ بشيء (¬3)، ثم قال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ} [البقرة: 229]، ثم قرأ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ ¬
حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬1) [البقرة: 230]. قالوا: ولأنه لو كان طلاقًا لكان بعد ذكر الطلقتين ثالثًا، وكان قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} بعد ذلك رابعًا دالًا على الطلاق الرابع، فيكون التحريمُ متعلقًا بأربع تطليقات. واستدلوا بما رواه أبو داود والترمذي: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ امرأةَ ثابتِ بن قيسٍ حين اختلعتْ أن تعتدَّ بحيضة (¬2)، ولو كان طلاقًا لاعتدَّتْ بثلاثة أقراء. وقال الترمذيُّ: وقد قالَ بعضُ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: عدةُ المُخْتلعةِ حيضةٌ (¬3)، ولو كانَ طلاقًا لما اكتفي فيه بحيضة كسائر المطلقات، وكأنهم شبهوه بالإقالة وفسخِ العقود. وقال قوم: الخُلع طلاقٌ يُحْسَبُ من الثلاث، ولا يملك فيه الرجعة. وبه قال أبو حنيفةَ ومالكٌ والشافعيُّ (¬4)، وأظنهُ الجديدَ من قوليه، ويروى عن عليٍّ وعثمانَ وابنِ مسعودِ -رضي الله تعالى عنهم- (¬5). ¬
وقال أبو ثور: إن كان بلفظ الطلاقِ، فهو طلاق، وإن كان بلفظ المفاداة، فهو فسخ (¬1). وأجابوا عن الحديث بأنه مُرْسَلٌ ومضطربٌ، فإنه يروى (¬2) أنَّه جعل عدَّتها حيضةً ونصفًا (¬3). وأما الجوابُ عن الآية، فسهل (¬4). * وتخصيصُ اللهِ -سبحانَه- تحريم الأخذِ وحِلَّه بما آتيناهنَّ يحتمل أن يكون للتقييد، ويحتمل أن يكون للتعريف، وإنما ذكر على غالب الحال في الافتداء. وقد اختلف أهل العلم في ذلك. - فقال عطاءٌ وطاوسٌ والزهريُّ وأحمدُ وإسحاقُ والأوزاعيُّ: لا يجوز الخلع بأكثرَ من المهرِ المسمى (¬5)، لتخصيص الأخذِ بالذي آتيناهُنَّ في ¬
المواضع كلِّها، ولما روي أن امرأةَ ثابتِ بنِ قيسٍ كانت تبغضُه، وكان هو يحبُّها، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتّرُدّينَ عليه حَديقَتَهُ؟ "، قالت: نعم وزيادة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما الزِّيادَةُ، فَلا" (¬1). - وقال مالك والشافعيُّ وأبو حنيفةَ والثوريُّ وأبو ثورٍ وأكثرُ أهل العلم: يجوزُ الخُلع بأكثرَ من المَهْرِ المُسَمَّى (¬2)؛ لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيْمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، ولما روى الدَّارَقُطْنِيُّ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ أنَّه قال: كانتْ أختي تحتَ رجل من الأنصار، تزوجها على حديقةٍ، وكان بينهما كلامٌ، فارتفعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "تَرُدِّين عليهِ حَديقتَهُ ويُطَلِّقُكِ؟ " قالت: نعم، وأزيده، قال: "رُدِّي عليه حديقته وزيديهِ" (¬3). ¬
ولما رُوي أنَّه اختلعَتْ رُبَيِّعُ بنتُ مُعَوِّذٍ ناشِزةً بما تملكه، فأجازه عثمان -رضي الله تعالى عنه - بما دون عِقاصِها (¬1). وحكي عن الشعبيِّ أنَّه إنما يجوز الافتداءُ ببعضِ المَهْر؛ لكون الباقي عوضَ الاستمتاع (¬2)، وكأنه -والله أعلم- تمسَّكَ بقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] فعلق الذهاب بالبعض. فإن قلتم: فما التسريحُ بالإحسان؟ قلت: سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى (¬3). فإن قلتم: فهل التسريحُ صريح كلفظ الطلاق، أو (¬4) لا؟ قلت: لما ذكر الله - سبحانه - في كتابه العزيز، لِفُرقةِ الطلاق ثلاثةَ ألفاظٍ، وهي: الطلاقُ والسَّراحُ والفِراق، احتملَ أن يكون ذَكَرَها في القرآن تنبيهًا على أنها ألفاظٌ موضوعةٌ للفراق في عرف الشرع كلفظ الطلاق، ويحتمل أن يكون استعملَها (¬5) على موضوعها اللغوي؛ بخلاف الطلاق؛ فإنه لفظ موضوع للفراقِ في وضعِ اللغة، وعُرْف اللسان، وعرف الشرع. ¬
وبهذا قال أبو حنيفة ومالكٌ في أحد قوليه، فليس للطلاقِ عنده لفظٌ صريحٌ إلَّا لفظ واحدٌ، وهو الطلاق (¬1). وبالأول قال الشافعيُّ في قوله المشهور عنه (¬2). وسيأتي الكلام على الكِنَايَةِ عند الكلام على التحريم - إن شاء الله تعالى-. * * * 38 - (38) قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230]. شرع الله - سبحانه - أن الرجل إذا طلَّق امرأتَه ثلاثًا، لا تحلُّ له حتَّى تنكحَ زوجًا غيره، وحيث أُطْلِقَ النكاُح في كتاب الله - سبحانه -، فالمرادُ به العَقْدُ، إلا في هذا المقام؛ فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بيَّن عن الله سبحانه أن المراد به (¬3) الوَطْء، لا العقد (¬4). ¬
روينا في "الصحيحين": أن امرأة رِفاعة القُرَظِيِّ جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كُنْتُ عند رفاعةَ القرظيِّ، فطلَّقني فبتَّ طلاقي، فتزرجتُ بعده عبدَ الرحمنِ بنَ الزَّبيرِ، وإنما معه مثل هُدْبَةِ الثوبِ (¬1)، فتبسم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتَّى تذوقي عُسَيْلَتَهُ ويذوقَ عُسَيْلَتَكِ" (¬2). وبهذا قال عامة أهل العلم (¬3)، إلَّا سعيدَ بنَ المسيِّب؛ فإنه حُكي عنه أنَّه قال: تحل لزوجها بنفسِ العقد، ولعلَّ الحديثَ لم يبلغ سعيدًا (¬4). والمرادُ بالعُسيلة حصولُ اللذة بالتقاء الخِتانين عندَ عامةِ أهلِ العلم، إلا الحسن البَصْري، فإنه اشترطَ الإنزال (¬5)، وأطلق العُسيلة على النطفة (¬6). ¬
وقد فهمنا من اشتراط كونِ النكاح من زوجٍ أن النكاحَ من غيرِ الزوجِ لا يُحلُّها، ويندرجُ في ذلك ثلاث مسائل: الأولى: وطءُ السيدِ لأمته لا يُحلها؛ لأنه ليس بزوج. وبهذا قالَ عامةُ أهلِ العلم (¬1)، إلا ما رُوي عن عثمان وزيد بن ثابت والزبير (¬2). الثانية: السيِّد (¬3) إذا وهب الجاريةَ المبتوتةَ لزوجها، أو باعَها منه، فلا (¬4) تحلُّ للزوج، وبهذا قال زيدُ بن ثابت وعامةُ أهلِ العلم (¬5)، إلا ما روي عن ابن عباسِ وعطاءٍ وطاوسٍ أنَّه إذا اشتراها حلَّتْ له بملك اليمين (¬6). الثالثة: إذا تزوجَتْ ذِمِّيًّا، فهل يحلّها (¬7) لزوجها المسلم (¬8)؟ ¬
فقال الجمهور من أهل العلم: هو زوج، وبه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري (¬1). وقال مالكٌ وربيعةُ: لا يحلُّها (¬2). ومتى طلقها الزوج الثاني حلَّ للزوج الأول ارتجاعها (¬3). * وقوله تعالى: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ}، ذكره على سبيل التغليب، لا على سبيل الاشتراط (¬4)، فيحق (¬5) له نكاحُها وإن ظَنّا ألّا يقيما حدود الله - سبحانه -، وكان له عدد الطلاق (¬6)، والله أعلم. * * * ¬
النهي عن مضارة المطلقة
(النَّهي عن مضارَّة المطلقة) 39 - (39) قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231]. بلوغ الأجل هنا هو مقارَبَةُ انقضاء العدة (¬1)، وذلك معروف في اللسان. * نهى الله - سبحانه - المطلِّقين عن إمساك النساء عندَ قربِ انقضاء العِدَّة، ثم طلاقِهنَّ؛ ضرارًا لهن بتطويل العِدَّة عليهن إلا بالمعروف، فإن لم يكن لهم إليهن رغبةٌ، سرَّحوهن بالمعروف، وهو إبقاء التسريح الأول على حاله، لا استئنافُ تسريحٍ آخرَ؛ لأنه هو المنهيُّ عنه. فإن قِيل: فلِم جعلتَ بلوغَ الأجل مقاربَتَهُ، وهَلَّا حَمَلْتَهُ على حقيقتِه من البلوغ، ويكون للزوج الرجعةُ ما لم تغتسل عندَ من يقول: إن الأقراء الحيضُ، وقد ذهبَ إلى نحو هذا شريكٌ فقال: إذا فرَّطَتِ المرأةُ في الغُسْلِ عشرين سنة، فلزوجِها عليها الرجعةُ ما لم تغتسل (¬2)؟ ¬
قلنا: لو حملناه على حقيقته، لوجب للزوج أن يوقعَ التسريحَ عليها بعد الأَجَل ما لم تغتسل، كما له أن يراجعها؛ لأن الله - سبحانه - سوّى بينهما، ولا قائل بذلك من أهل العلم. * - وفي الآية دليلٌ على أن المرأة إذا راجعها زوجُها، ثم طلَّقها مرة أخرى قبل الوَطْءِ أنها تستأنفُ العِدَّةَ من الطلاقِ الثاني؛ لوجودِ العلَّةِ التي نهى الله لأجلها، وهو الإضرار بطول العدة (¬1)، ولو كانتْ لا تستأنف لما أصابها ضررٌ، ولفقدت العلّةُ وبقيَ المعلولُ، ولا عذرَ، وهذا هو القولُ الجديدُ للشافعيِّ -رضي الله عنه (¬2). وقال داودُ، والشافعيُّ في القديمِ: لا تستأنفُ العدَّ (¬3)؛ لظاهرِ قوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، ولأنه لو عقد النكاح على المُخْتَلعَةِ في عِدَّتها، ثم طلَّقها، لم تستأنف العِدَّةَ. وهو ضعيف؛ لأنه لو كانت لا تستأنف العدة، لم يحصل بها ضررٌ ولم ¬
يوجد المعنى الَّذي لأجله وردَ النهي، ولَخَلا المسبَّبُ عن سببه؛ فإنه روي أن الآية نزلت في ثابتِ بن يسار، طلَّقَ، فراجعَ، فطلق، لتطول العدةُ، إضرارًا (¬1)، والعملُ بالمسبَّبِ وإخراجُ سببه غيرُ جائز باتِّفاق أهلِ النظر والأصول. * وفيها دليلٌ على أنَّه إذا طلَّقها، ثم طلقها من غير مراجعة وإمساك أنها لا تستأنفُ العدَّةَ، بل تبني على العدَّةِ الأولى (¬2)، لقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، فدل (¬3) على أن الضرر لا يحصل من غير إمساك، وفي ذلك خلافٌ عند الشافعية (¬4). ¬
* وفيها دليل على أن المطلقةَ قبلَ الدخولِ لا رجعةَ عليها (¬1)؛ لأنه لا عدَّةَ عليها، فلا أجل لها فتبلغه، والله أعلم. * * * ¬
النهى عن عضل المطلقات
(النهى عن عَضْل المطلقات) 40 - (40) قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 232]. * الخطاب للمؤمنين، والأولياءِ منهم، وإن كان الأولياءُ لا يُطَلِّقون؛ فالمؤمنون كنفس واحدة. قال أبو الحسن الواحديُّ: وأجمع المفسرون على أن هذا الخطابَ للأولياء (¬1) وبلوغ الأجل هاهنا هو انقطاع العدة (¬2)؛ لأن النكاح لا يكون إلا بعدها، فنهى اللهُ -جلَّ جلالُه - الأولياء عن عَضْل النساء عن أن يَنْكِحْنَ أزواجَهن، وكذا غيرُ الأزواج في معنى الأزواج. والآية نزلت في مَعْقِل بنِ يسارٍ المُزَنِيِّ قال: كانت لي أختٌ اسمها جمل (¬3) تُخْطَبُ إليَّ، وأنا (¬4) أمنعها الناس، حتَّى ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ¬
أتاني (¬1) ابنُ عَمٍّ لها (¬2)، فخطبها إليّ، فزوجتُها إياه، واصطحبا ما شاء الله أن يصطحبا، ثم طلَّقها طلاقًا له عليها رجعةٌ، ثم تركها حتَّى انقضتْ عِدَّتُها، فخطبها مع الخُطَّابِ، فقلت: يا لُكَعُ (¬3)! خُطِبَتْ إليَّ أختي، فمنعتُها الناسَ، وخطبتَها إليَّ، فآثرتك بها، وأنكحتُكَ، فطلقتَها، ثم لم تخطِبْها حتَّى انقضت عدَّتُها، فلما جاءني الخاطب يخطبها، جئْتَ تخطبها! لا واللهِ الَّذي لا إله إلا هو ما أنكحتُكَها أبدًا. وقال: ففيَّ نزلت هذه الآية، فقلت: سمعًا وطاعة، فزوجتها إياه، وكَفَّرْتُ عن يمينى (¬4). * فإن قلتم: فهل في الآية دليلٌ على أن أمر النكاح إلى الأولياء؛ لأن اللهَ سبحانَه نهاهم عن عَضْلهن، ولو تُصُوِّر نكاحٌ بدون وليٍّ، لم يتصور عَضْلٌ؟ قلنا: نعم، قال الشافعيُّ -رحمه الله تعالى-: إنما يؤمر بألّا يعضلَ المرأةَ من له سببٌ إلى العَضْل؛ بأن يتمَّ به نكاحُها، وهذا أبين ما في القرآنِ أنَّ للأولياءِ مع المرأةِ في نفسِها حقًا، وأن على الوليِّ ألَّا يعضلها إذا رضيت أن تنكَحَ بالمعروف (¬5). ¬
فإن قلتم: فقد قيل: إن هذه الآية لا دليلَ فيها؛ لأنه ليس فيها أكثر من نهي قرابة المرأة عن منعها النكاحَ، وذلك لا يقتضي اشتراط إذنهم في صحة العَقْد، بل يفهم من النهي أن الأولياء ليس لهم سبيلٌ على من يلونهم، فهل نجد في السنَّةِ دليلًا يبيِّن ما قلت؟ قلت: نعم، حديثُ مَعْقِلِ بنِ يسارٍ؛ لأنه لو كان بيدها عقدُ النكاح، لم يكن ليمينه فائدة، ولكان لها أن تزوج نفسها، ولم يحتجْ إلى الحِنْثِ والتكفير. فإن قلتم: فهل نجد في السنةِ دليلًا أبينَ من هذا؟ قلت: نعم، قال الشافعي: أنا سعيد بن سالم وعبد المجيدِ، عن ابن جُرَيْجٍ، عن سليمانَ بنِ موسى، عن ابنِ شهاب، عن عروةَ بنِ الزبير، عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَيُّما امرأةٍ نكحتْ بغيرِ إذْنِ وليِّها فنكاحُها باطلٌ، فنكاحُها باطلٌ، فنكاحُها باطلٌ، فإنْ أصابَها، فلها الصَّداقُ بما استحلَّ من فرجها" (¬1). قال الشافعيُّ: قال بعضهم في الحديث: فإن اشتجروا، وقال غيره منهم: فإن اختلفوا، فالسلطان وليُّ مَنْ لا وليَّ له (¬2)، فهذا حديثٌ رواته كلُّهم ثقات. قال شعيبُ بن أبي حَمْزَة: قال لي الزهريُّ: إن مكحولًا يأتينا، ¬
وسليمان بن موسى، وايم الله! إن سليمانَ بنَ موسى لأَحفظ الرجلين (¬1). فإن قلتم: قد (¬2) طعن في هذا الحديث قومٌ، وضعفوه بأنَ ابنَ عُلَيَّة حكى عن ابن جريج: أنَّه سأل الزهريَّ عنه، فأنكر معرفته (¬3). قلنا: هذا الطعنُ غيرُ مقبولٍ مع عدالةِ رواة الحديث، ونسيانُ الراوي لا يَقْدَحُ في الحديث، وكذا فتواه بخلافه. وإن سلم، فقد قال جعفرٌ (¬4) الطيالسيُّ: سمعتُ يحيى بنَ معينٍ يوهِّن رواية ابنِ عُلَيَّةَ، عنِ ابنِ جريجٍ، عن الزهريِّ: أنَّه أنكرَ معرفةَ سليمان بنِ موسى، ولم يذكر ذلك عن ابن جريج غيرُ ابن علية، وإنما سمعَ ابنُ عليةَ من ابنِ جريج سماعًا ليس بذاك، إنما صحَّح كتبه على كتب عبد المجيد بن عبد العزيز، وضعَّف (¬5) يحيى بنُ معين روايةَ إسماعيلَ عن ابنِ جُريج جدًا، فقالَ يحيى بنُ معين أيضًا: ليس يصحُّ في هذا الباب شيء إلَّا حديثُ سليمانَ بنِ موسى (¬6). وكذلك أحمدُ بنُ حنبل ضَعَّفَ حكايةَ ابنِ عليةَ هذهِ عن ابن جريج، وقال: ابنُ جريجٍ له كتبٌ مدونة، وليس هذا في كتبه (¬7). ¬
فإن قالوا: هذا أمر تعمُّ به البلوى، ولو كان الوليُّ شرطًا في صحة النكاح، لنُقِلَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بطريق التواتر، وهو لم ينقل، والأصل عدم الاشتراط حتَّى يقومَ الدليل. قلنا: اشتراط التواتر في مقام البلوى غير مُسَلَّمٍ، وإن سُلِّم، فالأصل تحريم الأبضاع إلا بشرطها، فلا يجوز الإقدامُ عليها إلا بشرطها، ولو أنكحت امرأة نفَسها بغير وفي، لنقل إلينا إما تواترًا أو آحادًا، ولم ينقل. نعم نقل إلينا أن امرأةً نكحتْ بغير وليٍّ، فردَّ نكاحَها عُمر -رضي الله تعالى عنه -. وعن مالك أنَّه بلغه أن ابن المسيِّبِ كان يقول: قال عمرُ بنُ الخَطَّاب: لا تُنْكَحُ (¬1) المرأةُ إلا بإذن وليِّها، أو ذي الرأي من أهلها، أو السلطان (¬2). فإن قلتم: فهل نجدُ بيانًا في السنَّةِ يعضِدُ ما ذكرتَ؟ قلت: نعم، روينا في "الصحيحين" عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُنْكَحُ الثَّيِّبُ حتَّى تُسْتَأْمَرَ، ولا البكْرُ حتَّى تُسْتأذَنَ" قيل: يا رسول الله! كيف إذنها؟ قال: "إذا سكتتْ فهو رضًا (¬3) " (¬4). ¬
فلما نهى الأولياء عن الاستبداد عليهن حتَّى يؤامروهنَّ في أنفسهن دلَّ (¬1) ذلك بطريق الإشارة على أن للأولياء حقًّا في نكاحِهن عند إذنهن؛ إذ لا مُنْكِحَ لهن غيرُهم، ولا يجوز أن يُحمل على الخاطِب؛ لأنه لا يتصور منه بغير إذن المرأة بحال، فلم يتصور النهيُ عنه، ولا نفيه أيضًا. وثبتَ عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها -: أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجارية يُنْكِحُها أهلُها، أتستأَمرُ أم لا؟ فقال لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَمْ تُسْتأمَرُ"، قالت عائشة: فإنها تستحيي فتسكتُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذنُها إذا سَكَتَتْ" (¬2)، فأسندت الإنكاح إلى أهلها، ولم يعترضْ عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء. ومن استقرأ السُّنَنَ والسِّيَرَ، وجدَ ذلك أمرًا متقررًا من عادتهم، فقد أنكح أبو بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- بنتيهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقرَّهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على عادتهم؛ لكونها من مكارم أخلاقهم. فإن قلتم: لو كان الأمر كما قلتَ، لبيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مراتب الأولياءِ ودرجاتِهم وصفاتِهم المعتبرة؛ فإن الحاجةَ داعيةٌ إلى ذلك، وتأخير البيانِ عن وقت الحاجةِ غيرُ جائز. قلت (¬3): البيان في ذلك موجودٌ من فعلهِ - صلى الله عليه وسلم -، وإقرارهِ لما كانوا عليه، فمعلومٌ أنَّه لا يُنكحُ رجل منهم امرأةً، وهناك من هو (¬4) أقربُ منه، فلا يُقْدِم الابنُ على نكاح أخته وهناك أبوه، ولا ابنُ العم مع وجود أبيه، ولا الأبعدُ ¬
مع وجود الأقرب، كلُّ ذلك كان سبيلَهم في كلِّ (¬1) مقام عظيم؛ كوراثة الأموالِ وطلبِ الدماء، وقد أنكح خالدُ بنُ سعيدِ بنِ العاصِ بنِ أمية. أمَّ حبيبةَ بنتَ أبي سفيانَ بنِ حَرْبِ بن أُمَيَّةَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وكذلك رُويَ عن عُمَرَ بنِ أبي سلمةَ بنِ عبدِ الأسدِ بنِ هلالِ بنِ عبد اللهِ بنِ عمرَ بنِ مخزوم: أنَّه أنكح أُمَّهُ أُمَّ سلمةَ هِنْدًا بنتَ أبي أميةَ بنِ المغيرةِ بنِ عبدِ الله بنِ عُمر بنِ مخزومٍ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع صِغر سِنِّه؛ لكونهِ أقربَ الناسِ إليها (¬3). فإن قلتم: فقد روى ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "الأَيِّمُ أحق بنفسها من وليِّها، والبِكْرُ تُسْتأذَنُ في نَفْسِها، وإذْنُها صُماتُها" (¬4)، ففرق بين الثيّب والبكر، مع وجوب استئذانهما في حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، فدلَّ على أن الَّذي تميَّزَتْ به الثيِّبُ هو الاستقلال بنفسها. قلت: قد أخذ بهذا الظاهرِ أهلُ الظاهر (¬5)، وهو قويٌّ، لكنه يعارضُه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّما امرأةٍ نكحتْ بغيرِ إذن وليِّها فنكاحُها باطل، فنكاحُها باطل، ¬
فنكاحها باطل" (¬1)؛ فإنه لفظ عامٌّ مستغرق و (¬2) مؤكَّد بما يقتضي أن يقع على جميع أفراد النساء، ولا يجوز حملُه على الأبكار فقط، فعلمنا أن أحقية الثيب هو ألا يُعْقَدَ النكاحُ عليها إلا بأمرها، ولا يجوز بغير أمرها في حال من الأحوال؛ بدليل أن البِكْرَ قد تنُكح بغير إذنها؛ كما أنكح أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- عائشةَ -رضي الله تعالى عنها- من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي بنتُ ست سنين (¬3)، أو سبعِ سنين، وهي لا إذن لها حينئذِ، فعلمنا أن قوله: "والبِكْرُ تُسْتأذَنُ في نَفْسِها" أنَّه لفظ عامٌّ أريدَ به الخُصوص ببعض الأبكار؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - في بنتِ عثمانَ بنِ مَظْعون: "إنها يتيمةٌ، ولا تنكح إلا بإذنها" (¬4)، فمفهومه أن غيرَ اليتيمة تنكحُ بغير إذنها. فإن قلتم: دلالته ضعيفة؛ لأنها: - إما تخصيصٌ لبعض أفراد العموم بالذكر، وهو لا يخصِّصُ العمومَ عند الجمهور؛ خلافًا لأبي ثور. - أو مفهوم خطاب، وقد خالف في دلالته بعضُ أهل العلم بالاستدلال، فلا يخصّ بهذا المفهوم العمومُ. قلنا: قد ثبت في بعض طرق حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اليتيمة تُستأمرُ في نفسها، فإن سكتَتْ، فهو إذْنُها، وإن أبتْ، فلا جوازَ عليها" (¬5). ¬
وكذلك روي من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُسْتَأُمَرُ اليتيمةُ في نَفْسِها، فإنْ سَكَتَتْ فقد أَذِنَتْ، وإن كَرِهَتْ، لم تُكْرَهْ" (¬1). وكذلك روي من حديث ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأَيِّمُ أولى بأمرها، واليتيمةُ تُستأمر في نفسها، وإذنُها صُماتُها" (¬2). فعلمنا بمجموع هذه السنن وما أشبهها: أن للوليِّ حقًّا مع الثيِّبِ؛ بدليل حديث أبي هريرة، وأن الثيِّبَ لا بدَّ من إذنها، ولا تُجبر بحالٍ من الأحوال؛ بدليل حديث ابنِ عباس، وأن اليتيمةَ لا بدَّ من استئذانها كالثيِّبِ؛ بدليلِ حديثِ بنتِ عُثمان بنِ مظعون، وأحاديث أبي هريرة، وأبي موسى، وابن عباس التي قدمتها قريبًا، وأن البكرَ الصغيرةَ التي ليست يتيمةً لا تستأذن أصلًا؛ بدليل زواج عائشةَ. واحتملت البِكْرُ البالغةُ التي لها أبٌ أن تلحق بالصغيرة، فلا يفتقر إلى إذنها؛ بدليل مفهومِ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تُستأمر اليتيمةُ في نفسها"، وإن (¬3) احتملت أن تلحق بالبالغة اليتيمة لكمالها، وفي هذا المقام وقفةٌ للمجتهد. ¬
وأما ما رواه سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ في حديثِ ابنِ عباس -رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الثَّيِّبُ أحقُّ بنفسِها من وليِّها، والبِكْرُ يستأذنها أبوها في نفسِها، وإذنُها صُماتُها" (¬1)؛ فإنَّ الحافظَ أبا الحسنِ علي بنَ عُمرَ الدَّارَقُطْنِي قال: لا نعلمُ أحدًا وافق ابنَ عُيينةَ على هذا اللفظ، ولعله ذكرهُ من حفظِهِ، وسبقَ إليه لسانُه (¬2). وقال أبو داود: "أبوها" ليسَ بمحفوظ (¬3)، وهذا مسلكٌ سلكتُهُ في تقريرِ الوِلايةِ للرجلِ في النِّكاحِ، وفي الجَمْعِ بين حديثِ ابن عباسٍ الَّذي أخذ به أهل الظاهر وغيره. وسلك الشافعيُّ في الاستدلال مَسْلكًا آخر، فخصَّصَ الوليَّ المذكورَ في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الثيِّبُ أَحَقُّ بنفسِها من وليِّها" بالأب، وحمل استئذان البكْرِ على الاختيار، لا على الفرض؛ لأجل استطابةِ نفسِها، قال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فَرَّقَ بين الثَّيِّبِ والبِكْرِ، ولم أعلم أن أهلَ العلمِ اختلفوا في أنَّه ليسَ لأحدٍ من الأولياءٍ غير الأب أن يزوجَ بِكرًا ولا ثَيِّبًا إلا بإذنها، فإذا كانوا لم يفرِّقوا بين البكرِ والثيِّبِ البالِغَتَيْنِ -يعني: في غير الأب - لم يجز إلا ما وصفتُ (¬4). ولكنَّ هذا الاستدلالَ يبطلُه قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُنْكَحُ الثيِّبُ حتَّى تُسْتَأمَرَ، ولا البِكْرُ حَتَّى تُسْتأذنَ" (¬5)، وتخصيصهُ بالأب لا دليلَ عليه، وكذلك حملُهُ الاستئذانَ على الاختيارِ لا على الفرض قد ثبتَ الدليلُ على بطلانه. * * * ¬
من أحكام الرضاع
(من أحكام الرضاع) 41 - (41) قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233]. أقول: أنزل اللهُ -سبحانَه- في شأنِ المُرْضِعاتِ آيتين: إحداهما خاصَّة بالوالداتِ المُطَلَّقاتِ، وهي التي في سورة الطَّلاقِ (¬1)، وسيأتي الكلامُ عليها إن شاء الله تعالى. والأخرى هذه، ويحتملُ أن تكونَ عامَّةً في المطلقاتِ والمُزَوَّجاتِ، ويحتمل أن تكونَ خاصَّةً بالمزوَّجات، وهو أظْهر الاحتمالين (¬2)، والله أعلم. ¬
فإن قلتم: فما الدليلُ (¬1) على أن هذه في المزوَّجات؟ قلت: إيجابُه فيها ما يجبُ للزوجةِ من النفقةِ والكسْوَةِ؛ كما قال اللهُ تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5]، وقولِه تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 233]، فأباح الاسترضاع للآباءِ مُطْلَقًا، ولم يبحه في آيةِ الطلاق إلا عند التَّعاسرِ. وقد اشتملتْ هذه الآيةُ على جُمَلٍ من الأحكام: الجملة الأولى: قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَدَهُنَّ} [البقرة: 233]، فأوجب الله سبحانه على الوالدات أنْ يُرضعْنَ أولادهُنَّ، فورد الوجوب مصادمًا لهنّ. - فمنهم من أَخَذ بظاهرِ الخِطاب، فأوجبَ على الوالدةِ المزوَّجَةِ أن ترضعَ للزوجِ ولدَهُ، وهو قول أبي ثور (¬2)، ومالكٍ في أحدِ قوليه (¬3)، وأحسبه مذهبَ أبي حنيفة (¬4)، وكان هذا من جملة منافعِها المستحقة للزوج؛ بدليل أنَّه لم يوجب على الزوج إلا النفقةَ والكُسوةَ التي هي من خصائص الزوجيَّةِ. ¬
- ومنهم من حمل هذا الأمر على الاختيار، واستدلَّ عليه بآية الطلاق، وسوَّى بين المطلَّقة والمزوَّجة. فإما أنَّه جعل آية الطلاق مبيِّنةً لآية البقرة، أو (¬1) أنَّه رأى سياق الآية لبيانِ مدَّةِ الرَّضاعِ، لا لبيانِ إيجابه، وهو مذهب الشافعي (¬2). وله أن يقول: إنما ذكرتِ (¬3) النفقةُ والكسوةُ مَثَلًا وَتنبيهًا عَلى أن غالب كسب المرأة هو (¬4) منفعة بُضْعِها، وإذا اشتغلت برضاع ولدها وحضانته انقطعتْ عن (¬5) النكاحِ غالبًا، وفاتَ كَسْبُها؛ فضرب الله سبحانه هذا مثلًا يُحتذى به في تقدير الأجرة على ذوي اليَسار. - ومشهور مذهب مالكٍ أنَّه يجب على الدَّنِيَّةِ إرضاعُ ولدِ زَوْجها، ولا يجبُ على الشريفة (¬6)؛ نظرًا إلى عادة الناس وعُرْفِهم، ولهذا وجه قويٌّ، وهو من المعاشرة والائتمار بالمعروف. الجملة الثانية: قوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] ¬
* بيَّن الله - سبحانه - أن تمامَ مدةِ الرَّضاع حَوْلان كامِلان (¬1)، فلو أرادتِ الوالدةُ أن تُرْضِعَ الولدَ أكثرَ من حَوْلَيْنِ، لم تستحقَّ أجرةً، وإن كانت مُطَلَّقَةً؛ لأنه فوقَ تمامِ مُدَّةِ الرَّضاعِ، وإن أراد أَحَدُ الأبوين أن يفطمَه لدونِ الحولين، لم يجزْ إلا عن تشَاور (¬2). * ثم ظاهرُ الخطابِ أنَّه عامٌّ في جميع الأولاد. - وبه قال عامَّةُ أهلِ العلم بالقرآن (¬3). - وروي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما -: أنَّه قال: هذه الآية في الولد يمكث في البطن ستة أشهر، فإن مكث سبعة أشهر، فرضاعُهُ ثلاثةٌ وعشرون شهرًا، فإن مكثَ ثمانيةَ أشهر، فرضاعهُ اثنان وعشرون شهرًا، فإن مكثَ تسعةَ أشهرٍ، فرضاعهُ أَحَدٌ وعشرون شهرًا؛ لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (¬4) [الأحقاف: 15]. [وقد استنبط أهل العلم من هذه الآية مع قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}: أن أقل مدة الحمل ستة أشهر] (¬5). ¬
قال (¬1) أَبو الأسود الدُّؤَلِيُّ: رُفِعَتْ إلى عُمَرَ -رضي الله عنه - امرأةٌ ولدت لستة أشهر، فأمر برجمها، فأبى عليٌّ -رضي الله تعالى عنه- ذلك، فقال: لا رجمَ عليها، فبلغ ذلك عمرَ، فأرسل إلى عليٍّ فسأله عن ذلك، فقال: لا رجمَ عليها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] وقال (¬2) الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ستة أشهر وحولان كاملان، لا رجم عليها، فخلَّى عنها عمر -رضي الله تعالى عنه - (¬3). * وكذلك استنبطوا منها أن الرضاعَ المُحَرِّمَ ما كان في مدة الحولين (¬4)، واستدلوا (¬5) بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الرضاعةُ من المجاعة" (¬6). وسيأتي الكلام على هذا في سورة النساء - إن شاء الله تعالى -. الجملة الثالثة: قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} ¬
* أوجب الله سبحانه فيها للمرضِع على والد الطفل رزقَ المرضعةِ وكسوتَها (¬1): فيحتمل أن يكون ذلك لأجل الزوجية كما رآه (¬2) مالك (¬3). ويحتمل أن يكون لأجل الرضاع - كما رآه الشافعي - فهو أجرة المرضعة (¬4). ويترجَّح قول مالك؛ لأن الأجر لا يقدَّرُ بالنفقة والكسوة، وإنما يقدر بالنفقة والكسوة حقوقُ الزوجية. ومثل هذا قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5]. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وَلَهُنَّ عليكُم رزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمَعْروفِ" (¬5). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خُذي ما يَكْفيكِ ووَلَدَكِ بالمَعْروفِ" (¬6). وللشافعي أن يقول: إنما ضربه الله مثلَا يهتدى به في تقدير الأجرة كما قَدَّمْتُه، وإنما ذكرَ اللهُ -سبحانَهُ - النفقةَ؛ لأنَّ المرضعةَ تتغذَّى بالنفقة، والمولودُ يتغذى بِلِبانِها، فبتمامِ بِنْيَتهِا تتمُّ بِنيةُ المولود، وبصلاحِ جسدهِا ¬
يصلُح جسدُه، والكِسوة من تمامِ صلاح الجسد، وتوابعِ النفقة، فجُحل قدرًا للاعتبار به (¬1). * وكما أوجبَ اللهُ سبحانه نفقةَ المولودين على الوالدين، أقاس أهل العلم وجوب نفقة الوالدين على المولودِين (¬2) إذا احتاجوا وعجزوا عن الاستقلال بأنفسهم، وعلى هذا حصلَ الإجماعُ (¬3)، والله أعلم الجملة الرابعة: قوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233]. * نهى الله سبحانه الوالدِينَ عن المُضارَّةَ لبعِضهم بعضًا بالمَوْلودِ، فلا يجوزُ للوالدة أن تمتنعَ من رَضاعِه إذا لم يوجد غيرُها، أولم يَقبل إلا ثديَها، ولا يجوز للوالد أن ينزعَهُ عنها إلى مرضعةٍ غيرِها، ولا يسافرَ به عِنادًا، فهما فيه على السواء (¬4)، ولهذا خَيَّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - غلامًا اختصم فيه أبوه وأمُّه، فقال: "هذا أبوكَ، وهذِه أمُّكَ، فاخْتَرْ أَيَّهُما شِئْتَ" (¬5). ¬
الجملة الخامسة: قولهُ عَزَّ وجلَّ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] * هذه الجملة مُشْكِلَةٌ من وَجْهين، وقد اختلفَ أهلُ العلمِ في المَعْنِيِّ بالإشارة، وفي المعنيِّ بالوارث. فقال قوم: المعنيُّ بالوارث كلُّ من يرثُ المولودَ، والمعنيُّ بالإشارة ما وجب على المولود له من النفقة. ويروى عن إبراهيمَ، والحسنِ، ومُجاهِدٍ، وعَطاءٍ، وقَتَادَةَ، والسُّدِّي، وأحمدَ، وإسحاقَ. وروي عن مالكٍ، وسُفيَانَ، وأهلِ العراق أيضًا (¬1). ثم اختلفوا: فقالَ قتادةُ: هو وارثُ الصبيِّ، رجلًا كان أو امرأةً، ويلزمهم على قدر مواريثهم، وبه قال أحمدُ وإسحاقُ (¬2). وقال غيرُه: يختص بالوارث من الرجال (¬3)، واستدلوا بأن عمر -رضي الله عنه - أجبر (¬4) عَصَبَةَ صَبِيٍّ أن ينفقوا عليه، الرجالَ دونَ النساء (¬5). ¬
ولكن الحنفية خَصُّوا الوجوبَ بكل ذي رَحِمٍ محرمٍ، وإن لم يرثْ (¬1)، ويلزمُ منه أنَّ من ليس له ذو رَحِمٍ محرمٍ يتركُه ضائعًا، وإن كان له عَصَبَة وَرَثةٌ، ولا يجب عليهم شيء، فهم لم يوافقوا ظاهر القرآن، ولا ما فعل عمرُ -رضي الله عنه (¬2). وقال مالكٌ في روايةِ ابن القاسم: إنها منسوخة (¬3). قال النحاس: والذي يشبه أن يكون الناسخُ لهذا عنده -والله أعلم- أنَّه لما أوجب الله تعالى للمتوفَّى عنها زوجُها من مال المتوفَّى نفقةَ حولٍ والسُّكنى، ثم نسخ ذلك، ورفعه، فنسخ ذلك أيضًا عن (¬4) الوارث (¬5). ¬
وهذا قولٌ باطل وتأويلٌ فاسد؛ فإن النسخَ لا يكونُ إلا بالتوقيف، ولا يجوز بالتأويل والقياس (¬1) على منسوخ آخر، وليته إذا (¬2) لم يعلم سكتَ عمَّا لم يعلمْ؛ إذ السكوتُ بمن لم يعلمْ أوجبُ وأسلمُ (¬3). - وقال قوم: المعنيُّ بالإشارة تركُ المضارَّة. قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}: [البقرة: 233] على الوارثِ ألا يضارَّ والدةً بولدها (¬4). وبه قال الشافعي، وكذا مالكٌ في روايةِ ابنِ وَهْب وأَشْهَبَ عنه (¬5). ¬
وهذا التأويلُ أرجحُ؛ لكون ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- أعلمَ بالقرآنِ وتأويلِه، ولكونِ الأمِّ وارِثَه، ولا يجبُ لها على نفسها شيءٌ من النفقةِ والكِسْوَةِ في مقابلة رَضاعِهِ، ولأن وجوبَ النفقة والكِسوةِ خاصٌّ بالزوج الَّذي هو أبو المولود، والوارثُ لا يجبُ عليه نفقةٌ ولا كِسوةٌ، وإنما يجب عليه الأجرةُ، وهي لا تقدَّرُ بالنفقة والكِسوة. - وذهب قومٌ إلى التأويل: فقالَ بعضُهم: الوارثُ هو الطفلُ، عليه نفقتهُ ونفقةُ الوالِدَيْنِ الفقيرينِ (¬1)، واختار هذا محمدُ بن جَريرٍ الطَّبَرِيُّ (¬2). وقال بعضهم: هو وارثُ الوِلايةِ على الطفلِ، تكون نفقةُ الوالدةِ من ما المولود (¬3). وهذان التأويلان ضعيفان. الجملة السادسة: قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233]. * أباح الله سبحانه للوالدين فِصالَ المولود قبل الحَوْلين، إذا أطاقَ، بعدَ التشاور من الوالدين، والتراضي منهما. ومفهوم هذا الخطاب يقتضي أن الوالدة، إذا فصلَتْ ولدَها من غير ¬
مَشُورة على الأبِ أنَّه لا يجوزُ، وهو كذلك (¬1)، والله أعلم. الجملة السابعة: قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]. * أباح الله سبحانه للآباء أن يسترضعوا أولادهم، ولم يجعل ذلك من المضارَّةِ للوالدة، وهو كذلك في المزوَّجةِ؛ لأنها مستحقة المنفعةِ للزوج، والرضاعُ يقطع على الزوج منفعتَه، فله أن يجمع بين مصلحته ومصلحة ولده بما لا ضررَ فيه على الوالدة (¬2). ومعنى الشرط: إذا سلمتم أجرةَ ما مضى بالمعروف (¬3). وأما في المطلَّقة، فلا يسترضعُ الوالدُ الولَد إلا عند التعاسُر. وسيأتي الكلام عليه -إن شاء الله تعالى- (¬4). * * * ¬
عدة المتوفى عنها زوجها
(عدة المتوفى عنها زوجها) 42 - (42) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 234]. * الآية هذه ناسخة للآية التي بعدها (¬1)، ويبيِّن أنها ناسخةٌ لها الإجماعُ، وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هي أربعة أشهر وعشرًا، وقد كانت إحداكنَّ في الجاهليةِ ترمي بالبَعْرَة (¬2) عند رأسِ الحول" (¬3). فدل هذا على أن أمر الحَوْلِ كان متقدمًا على الأربعة الأشهر والعشر (¬4). ¬
* ولفظ الآية عام يشمل الكبيرةَ والصغيرةَ، والحرةَ والأمَةَ، والمسلمةَ والكافرةَ، والمدخول بها وغيرها (¬1)، ومن انقطع دمُها لإياسٍ أو غيرهِ. وقد أخذ بعموم الآية عامة أهل العلم (¬2). وعن مالك روايةُ قولٍ في المنقطع دمُها لعارض: أنَّها تنتظر الحيضَ؛ لأنها تكون مرتابةً (¬3). * وكذلك لفظُ الآية أيضًا (¬4) عامٌّ يشملُ الحاملَ وغير الحامل، لكنه يعارضه عموم قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. ¬
فإن قلتم: هذه الآيةُ خاصَّةٌ بالمطلَّقات؛ لأن سياقَ الخطابِ في المطلقات. قلنا: قد قدمتُ في مقدمةِ كتابي هذا: أن المختارَ عندَ أكثرِ الأصوليين ألَّا يُخَصَّ آخرُ الآية بأولها (¬1)، وينبغي للمجتهد في مثل هذا المقام أن يفزع إلى الأدلة، ولا يقدم أحد العمومين؛ إذ لم يمكن الجمع بينهما إلا بدليل. وقد اختلف أهل العلم في هذا: فقال بعضُهم (¬2): ذكر الله سبحانه في المطلقات: أن عدة الحوامل أن يضعن حملَهن، وذكر في المتوفَّى عنهنَّ أربعةَ أشهرٍ وعَشْرًا، فعلى الحامل المتوفَّى عنها أن تعتد أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، وأن تضعَ حملَها؛ حتَّى تأتيَ بالعدَّتين معًا؛ إذ لم يكن انقضاء العدة بوضع الحمل نصًّا إلا في الطلاق. قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: وكأنه يذهب إلى أن وضع الحمل براءة، وأن الأربعة الأشهر والعشر تَعَبُّدٌ؛ كما أن المتوفَّى عنها تكون غيرَ مدخولٍ بها، فتأتي بأربعة أشهر وعشر، ولأنه وجبَ عليها شيء من جهتين، فلا يسقط بإحداهما؛ كما لو وجب عليها حقان لرجلين، لم يُسْقِط أحدُهما حقَّ الآخر، وكما (¬3) إذا نكحت في عدتها، وأُصيبت، اعتدَّتْ من الأول، ثم تعتدُّ من الثاني (¬4). ¬
ويروى هذا القول عن علي وابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهم (¬1). وبه قال سحنون المالكيُّ (¬2)؛ لما فيه من العملِ بالآيتين، وعدمِ الإسقاط فيهما. - وقال جماهيرُ الصحابةِ وغيرُهمِ من فقهاء الأمصار: إذا وَضَعَتْ ما في (¬3) بطِنها، فقدْ حَلَّتْ، وإن كان زوجُها على السريرِ (¬4)؛ للحديثِ الثابت: أن سُبَيْعَةَ الأَسْلَميَّةَ كانت تحت سعدِ بنِ خَوْلَةَ، وهو من بني عامرِ بنِ لُؤَيٍّ، وكان ممَّنْ شَهِدَ بدرًا، فتوفِّي عنها في حجَّةِ الوَداع، وهي حاملٌ، فلم تنشَبْ (¬5) أن وضعتَ حملَها بعد وفاته، فلما تعلَّتْ (¬6) من نفاسها، تجمَّلتْ للخُطَّاب، فدخلَ عليها أبو السَّنابلِ بنُ بَعْكَكٍ (¬7) - رجلٌ ¬
من بني عبد الدار - فقال: ما لي أراك متجمِّلَةً، لعلكِ تَرْجِينَ النكاحَ؟ واللهِ ما أنتِ بناكحٍ حتَّى يمرَّ عليكِ أربعةُ أشهر وعشر، قالت سبيعة: فلما قال (¬1) ذلك، جمعتُ عليَّ ثيابي حين أمسيتُ، فأتيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حَلَلْتُ حين وضعت حَمْلي، وأمرني بالتزويج، إن بدا لي (¬2). رَوينا في "صحيح البخاري" عن محمد بن سيرين قال: جلستُ إلى مجلسٍ فيه عُظْمٌ (¬3) من الأنصار، وفيهم عبدُ الرحمن بنُ أبي ليلى، فذكرتُ (¬4) حديثَ عبدِ الله بنِ عتبةَ في شأنِ سُبيعة بنتِ الحارث، فقال عبد الرحمن: ولكنَّ عَمَّهُ كان لا يقولُ ذلك، فقلتُ: إني لجريءٌ إن كذبت على رجل في جانب الكوفة، ورفع صوته، قال: ثم خرجتُ فلقيتُ مالكَ بنَ عامرٍ، ومالكَ بنَ عوفٍ، قلت: كيفَ كانَ قولُ ابن مسعود في المتوفَّى عنها زوجُها وهي حامل؟ فقالا: قال ابن مسعود أتجعلونَ عليها التغليظَ، ولا تجعلونَ لها الرخصةَ؟! أنزلتْ سورةُ النساء القُصْرى بعدَ الطُّولى (¬5). ¬
وروي عن الشعبيِّ، والحسنِ، وإبراهيمَ، وحَمَّادٍ: أنهم قالوا: لا يصحُّ زواجُها حتَّى تطهرَ من نِفاسها (¬1)، ولست أعلمُ لهم دليلًا مع قولها: "فأفتاني أني قد حللتُ حين وضعتُ حملي". * ثم اختلفوا في العشرِ. - فقال الأوزاعيُّ والأصمُّ (¬2): تعتدُّ أربعةَ أشهرٍ وعشرَ ليال، دونَ اليومِ العاشرِ (¬3)؛ لظاهر اللفظ (¬4). - وقال سائرُ أهل العلم: هي عشرةُ أيام (¬5)، وأثبت العشر لسبقِ الليالي على الأيام، وتغليبُ التأنيثِ في العددِ معروف في اللسان (¬6). * وهذا في الزوجة الحرة، وأما الأَمَةُ، فتتربص شهرين وخمسةَ أيام (¬7). ¬
وقال أهلُ الظاهر: الأمةُ كالحرة، فتتربص أربعة أشهر وعشرًا (¬1)، وبه قال الشافعي في أحد قوليه (¬2)، وقد مضى القولُ معه في عدة الطلاق. * فإن قلتم: فما الحكمُ في الأمة الموطوءة بملك اليمين إذا مات عنها سيدها؛ فإن الله سبحانه لم يذكر إلا حكمَ الأزواج، وتخصيصُ الأزواجِ يفهمُ أن غيرهم ليسوا كمثلهم في الحكم، فهل روي في ذلك سُنَّةٌ أو أثرٌ؟ قلت (¬3): الأمةُ لا تخلو إما أن تكون أمَّ ولدٍ، أو لا. فأما غيرُ أمِّ الولد، فإن العلماء اتفقوا على وجوب استبراء رَحِمها بحَيضَةٍ (¬4). وأما أمُّ الولد: - فمنهم من ألحقَها بالزوجة الحرةِ (¬5)، واستُدل بحديثِ قَبيصةَ بن ¬
ذُؤيبٍ، عن عمرِو بنِ العاص: أنَّه قال: لا تُلبِّسوا علينا سُنَّةَ نَبيِّنا، عِدَّةُ أمِّ الولد إذا تُوُفَّي عنها سيدُها أربعةُ أشهر وَعْشرٌ (¬1)، ولكنه ضعَفه أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ، وقال: هو مُنْكَرٌ (¬2). - ومنهم من ألحقَها بالزوجة الأَمَةِ، فأوجب (¬3) عليها شهرين وخَمْسَ ليالٍ، وبه قال طاوسٌ وقتادةُ (¬4)، وهذا أضعفُ من الَّذي قبله. - وذهب سائر العلماء إلى عدم إلحاقها بالحرَّةِ، ثم اختلفوا: - فذهب مالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ، والليثُ، وأبو ثَوْرٍ إلى أن الواجب استبراءُ رحمِها كالأمَةِ (¬5)؛ لأنها ليست زوجةً (¬6)، فتتربَّصَ ¬
أربعةَ (¬1) أشهرٍ والعشرَ، وليست مطلَّقَةً فتتربصَ الأقراء، فلم يبق إلا براءةُ رحمِها. ويروى هذا القول عن ابنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما - (¬2). - وذهب أبو حنيفةَ، والثوريُّ، والنَّخَعِيُّ إلى أن عِدَّتها ثلاثُ حِيَضٍ (¬3)؛ لأن العدةَ وجبت عليها وهي حُرّةٌ، وليست بزوجةٍ فتعتدَّ عِدَّةَ الوفاة، ولا بأمةٍ فتعتدَّ عدةَ الأمةِ، فوجب أن يُسْتبرَأَ رحِمها بعدَّةِ الحرائرِ. - ويروى هذا القول عن عليٍّ وابنِ مسعود -رضي الله تعالى عنهما - (¬4). * ثم رفع الله سبحانه الجُناحَ عن المرأة إذا بلغتِ الأجلَ، وأحلَّ لها أن تفعل في نفسها ما شاءت بالمعروف. وقد تمسك بهذا من يقول باستقلالها بعَقْد النكاح على نفسها، إلا أن تفعلَ بغير المعروف من تزوجِ غير الأَكْفاء، وقد تقدمَ الكلامُ في ذلك. ومفهومُ هذا الخطاب يقتضي أن على المرأة الجُناح إذا فعلتْ في نفسها ¬
قبلَ بلوغِ الأجلِ، ولا شك في ذلك، وقد ذكره الله سبحانه بعد هذا بلفظٍ أوضحَ من هذا فقال {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]. * وفي الآية دليل على إبطال قول شريك في أن للزوجِ الرجعةَ على زوجته ما لم تغتسلْ، وعلى إبطال قول إسحاقَ في أن المرأةَ المعتدَّةَ بالأقراء لا يحلُّ لها (¬1) أن تتزوج حتَّى تغتسلَ (¬2) من حَيْضتِها (¬3)؛ لأن الله سبحانه ضربَ الأَجَلَيْنِ أمدًا للعِدّتين، فلا فرق بين المعتدَّتينِ. ولستُ أعلمُ لقول إسحاقَ وجهًا إلا ما يروى أنَّه مذهبُ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما - (¬4). " ثم بَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صفةَ التَّربُّصِ، فنهى المعتدةَ عن مسِّ الطِّيبِ، وعن الكُحْل، وعن لبسِ المصبوغ، إلا ثوبَ عَصْبٍ (¬5). ¬
وسيأتي تمامُ أحكام عدة المعتدةِ في الآيةِ المنسوخةِ قريبًا - إن شاء الله تعالى -. * * * ¬
التعريض بخطبة المعتدة
(التعريض بخطبة المعتدَّة) 43 - (43) قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235]. * عفا اللهُ - سبحانه وتعالى - في هذه الآية عَمَّا يكتمه الرجل ويُكِنُّه في نفسه من نكاح المعتدَّةِ، وأحلَّ التعريضَ بخِطبة (¬1) النساء في حالِ العدَّةِ، وذلك عامٌّ فيهن، ما خلا الرجعيةَ؛ فإنه لا يجوز (¬2) التعريضُ بخطبتِها؛ لأنها في معنى الزوجة (¬3). فإن قلتم: فما دَلَّكَ على ذلك؟ ولعل الخطابَ خاصٌّ بالمتوفَّى عنهن (¬4)؛ كما قاله الشافعي؛ حيث قال: العدةُ التي أذن الله سبحانه بالتعريض بالخطبة فيها العدةُ من وفاة الزوج، فلا أحب ذلك في العدَّة من ¬
الطلاق (¬1)، احتياطًا (¬2). ولعله استأنسَ بتعقيب ذكر الخِطْبة بعد ذكر عدتهنَّ. قلت: دلَّني في المبتوتة ما رويناه في "الصحيحين": أن فاطمةَ بنتَ قيسٍ طلقها زوجُها عمرُ بنُ حفصٍ البْتَّةَ، وهو غائبٌ، فأرسلَ إليها وكيلُه بشعيرٍ، فَسَخِطَتْهُ، فقال: واللهِ مالكِ علينا من شيء، فجاءت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال: "ليسَ لكِ عليهِ نفقة"، فأمرها أن تعتدَّ في بيتِ أم شريكٍ، ثم قال: "تلك امرأةٌ يغشاها أصحابي، اعتدِّي عندَ ابنِ أمِّ مَكْتومٍ، فإنه رجلٌ أعمى، تضعينَ ثيابَكِ عنده، فإذا حَلَلْتِ فآذِنيني"، قالت: فلما حللتُ، ذكرتُ له أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جَهْمٍ، خَطَباني، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما أبو جَهْمٍ، فلا يَضَعُ عَصاهُ عن عاتِقِه، وأما معاويةُ فصُعْلوكٌ لا مالَ لهُ، انكِحي أسامةَ بنَ زيدٍ"، فكرهته، ثم قال: "انْكِحي أُسامَةَ"، فنكحتُه، فجعل الله فيه خيرًا، فاغتبطتُ (¬3) (¬4). * وأما البائنُ فالقياسُ على المَبْتوتَةِ (¬5)، لانقطاع عصمة النكاح منها. وبهذا قال الشافعيُّ في أَصَحِّ قَوْلَيهِ (¬6). ¬
* والتعريضُ: أن يقول: رُبَّ راغب فيكِ، وإذا حَلَلْتِ فآذِنيني، وما أشبهه. * ونهى عن (¬1) مواعدتهنَّ سِرًّا. وقد اختلفَ أهلُ العلمِ في تفسيره؛ لتعارض المفاهيم: - فقال بعضهم: هو التصريحُ بالخِطبة، والمواعدةُ على النكاح بأخذِه ميثاقَها في خُفْيَةٍ على أن تنكحَه، ولا تنكِحَ غيره (¬2)، فلا (¬3) يصرح بخطبتها؛ لأن الله سبحانه أحلَّ التعريضَ، ورفعَ الجُناح (¬4) فيه، فدلَّنا على أن التصريح غيرُ جائز (¬5). ولكن هذا المفهومَ يعارضه مفهومُ قوله: {سِرًّا} فإنه يقتضي جوازَ المواعدةِ جَهْرًا، وبهذا (¬6) فسره داود، فحرَّمَ الخِطبة سرًّا، وأباحها علانيةً (¬7). ¬
- وفسره الحسنُ، وقتادةُ، والضحاك، والربيعُ والنخعيُّ، بالزنى (¬1)، وربما أعطاه كلام الشافعي. - وذكر بعضُهم أن الشافعيَّ فسره بالجِماع مثل أن يصف نفسه به، فيقولَ: عندي جماعٌ يصلح لمَنْ جومِعَتْ، وأنشد فيه قولَ امْرِئ القيسِ: [البحر الطويل] لَقَدْ زَعَمَتْ بَسْباسَةُ اليَومَ أَنَّني ... كبِرْتُ وأَنْ لا يُحْسِنُ السِّرَّ أَمثْالي (¬2) وكأنه أراد ذكره مع التصريح بالخِطبة، وأما مجردُ ذكرِه، فليس بحرامٍ، ولا مُواعَدَة. وأشهرُ هذه الأقوال هو الأولُ (¬3)؛ لأن الله سبحانه حظرَ ذلك خشيةَ الحِرْصِ منها على الإخبارِ بانقضاء العدَّة قبل أَجَلِها، وهو تفسيرُ ابنِ عباس، وابنِ جُبَيْرٍ، ومُجاهدٍ، وعِكرمةَ، والسدِّي، وبه قال الشعبيُّ ومالكٌ (¬4)، ويكون الاستثناء من قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} [البقرة: 235] ¬
على هذا متصلاً؛ لأن القولَ بالمعروفِ هو التعريضُ الذي أحلَّه الله تعالى. وأما على قول من فسره بالزنى، أو فسره بذِكْر الجماع، فيكون منقطعاً؛ لأنه ليس بقولٍ معروفٍ حتى يستثنى منه معروفٌ (¬1). * ثم حَرَّم الله سبحانه عقدَ النكاح حتى يبلغ الكتابُ أجله، فلا يجوز أن يعقدَ، ويعلق (¬2) الإجازةَ على انقضاء الأجل، وهذا إجماع من المسلمين (¬3). * فإن قلتم: فإذا خالفَ نهيَ الله سبحانه، وخطب في العِدَّة، ونكحَ بعدَها، أو نكحَ في العِدَّةِ، فما الحكمُ؟ قلنا: اختلفَ العلماء (¬4) في ذلك. - أما إذا خطب في العِدَّة، ونكحَ بعدها، فالنكاحُ صحيحٌ عند الشافعيِّ وأبى حنيفةً (¬5). وقال مالكٌ في روايةِ ابنِ وهبٍ: فراقُها أحبُّ إلي، دخلَ بها أو لم يدخلْ. ¬
وقال في رواية أَشهبَ: إنه يفرَّقُ بينهما وجوباً (¬1)، وهذه قاعدة مَذْهبِه (¬2)، فالنهيُ يقتضي الفسادَ عندَه مُطْلَقاً. - وأما إذا نكحها في العِدَّةِ، فيفرق بينَهما عند الشافعيِّ، حتى إذا انقضتْ عِدَّتُها، كان خاطباً من الخُطَّاب، وحلَّت له. وبه قال أبو حنيفةَ والثوريُّ (¬3)، سواءٌ دخل بها، أو لا؛ قياساً على ما لو زنى بها، فإنه يحلُّ له نكاحها، وهو قولُ عليٍّ وابنِ مسعود -رضي الله تعالى عنهما- (¬4). وقال مالك: إن دخل بها في العدَّة، فإنها لا تحلُّ له أبداً، وبه قال الليثُ والأوزاعيُّ وأحمدُ (¬5)، واستدلوا يقول عمرَ -رضي الله ¬
تعالى عنه-: لا يجتمعان أبداً (¬1). - وإن دخلَ بها بعدَ انقضاء العدةِ، فقال قومٌ بتأبيد التحريم، وقال آخرون: لا يتأبد، وعن مالك قولان (¬2). ¬
طلاق المفوضة
(طلاق المفوّضة) 44 - (44) قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)} [البقرة: 236]. * هذه الآيةُ نزلتْ في رجلٍ من الأنصار تزوجَ امرأةً، ولم يُسَمِّ لها مَهْراً، ثم طلقها قبلَ أن يمسَّها (¬1). قال أهلُ المعاني وغيرُهم من أهل العلم بالقرآن: (أو) في الآية بمعنى الواو (¬2)؛ كقول الشاعر يصف السَّنَة (¬3): [البحر البسيط] وكانَ سِيّان ألا يسرحوا نعماً ... أو يسرحوهُ بها واغْبَرَّتِ السُّوحُ (¬4) ¬
وإنما حملوا (أو) على غير حقيقتها؛ لأن الله سبحانه جعل تعليقَ الحكم على أحدهما؛ بخلافه هنا، فقال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237]. * وقد دلت الآيةُ بطريقِ التضمُّنِ والالتزام على أن النكاحَ بغيرِ صَداقٍ جائز؛ لأنه لا يصحُّ الطلاقُ إلا من زوجٍ، ولا تجبُ المُتْعَةُ إلا لزوجةٍ، وهو إجماع (¬1)، إلا أنه يجب ألا يَخْلُوَ النكاح منه، فلم يكن ذلك إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ولهذا اتفقوا -فيما أعلم- على (¬3) أنه لا يجوز التواطؤ على تركه في المستقبل (¬4)، ولم يخالف فيه إلا بعضُ أصحاب الشافعي، فقال: يصحُّ العقد، ويلغو الشرط، ويجب المهر (¬5). ولأجل هذا المعنى ذهب الشافعيّ في أحد قوليه إلى أنه يجب بالعَقْدِ، والصحيح من قوليه أنه لا يجبُ إلا بالفرْضِ أو بالمَسيس (¬6)؛ لأنه لو كان ¬
واجباً، لما سقطَ بالطلاق (¬1)، ولقوله (¬2) تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، ولم يقل: فنصف المَهْرِ (¬3). * فإن قلتم: فهل في الآية دلالة على سقوط المهر بالطلاق قبل الفرضِ والمَسيس أو لا؟ وما الحكمُ في ذلك؟ قلت: - أما الدلالةُ فموجودةٌ من طريق النظر، وهو أن الله سبحانه ذكرَ المفوِّضَةَ (¬4)، وذكر لها حكماً مخصوصاً، وهو وجوبُ المُتْعَةِ. وذكرَ المفروضَ لها، وذكر لها حُكماً مخصوصًا، وهو وجوبُ نصفِ المفروض، فلما خالفَ بينَ تخصيص أحكامهن، استدللنا بذلك على اختلاف أحكامِهن. وأما من جهة الخطابِ فلا دلالةَ إلا على جواز طلاقِهنَّ قبلَ الفرضِ والمَسيسِ كسائر النساء، لأن رفع الجُناح يستعمل في رفع الحرج. - وأما الحكمُ، فقد اتفق أهلُ العلم على سقوط المهر بالطلاق قبل الفرضِ والمسيسِ، ولست أعلمُ فيه خلافاً لأحد (¬5)، إلا فيما إذا طلقها بعد الطلب للفرض. ¬
فمنهم من أوجب لها النصفَ، وأظنه قولَ أبي حنيفة. ومنهم من لم يوجب لها شيئًا، بل هو مُخَيرٌ بين أن يفرضَ، أو يطلِّقَ، وهو قول مالكٍ والشافعي (¬1)؛ لعموم الآية، ولأن أصل الفرض لم يكن في عقد النكاح. * فإن قلتم: فما الحكمُ فيما إذا توفي عنها قبل الفرض والمسيس، هل تُلْحَقُ الوفاةُ بالطَّلاقِ، أو لا؟ قلنا: ذهب مالكٌ، والزهريُّ، والأوزاعيُّ إلى إلحاق الوفاة بالطلاق، فأوجبا لها الميراثَ دون الصَّداقِ (¬2). ¬
واستدلوا بما رواه نافعٌ: أن ابنةَ عبيد الله بن عمر، وأمُّها ابنةُ زيدِ بنِ الخطاب، كانت تحت ابنٍ لعبدِ الله بن عمر، ومات ولم يدخل بها، ولم يسمِّ لها صداقاً، فبعثت إليه أمُّها تطلب صَداقَها، فقال ابنُ عمر: ليس لها صداق، ولو كان لها صداق لم نَمنَعكُموهُ، ولم نَظلمها، فأبتْ أن تقبلَ، فجعل بينهمْ زيدَ بنَ ثابت، فقضى ألاَّ صداق لها، ولها الميراثُ (¬1). وبما روي عن عليٍّ -رضي الله تعالى عنه- من نحو ذلك (¬2). وذهب أبو حنيفةَ، وأحمدُ، وإسحاقُ إلى إيجاب الصداق (¬3)، وهو المختار عندي من قولي الشافعي (¬4). لما روي أن عبدَ الله بنَ مسعودٍ -رضي الله تعالى عنه- سئل عن رجل تزوجَ امرأة، فمات عنها، ولم يكنْ فرضَ لها شيئاً، ولم يدخل بها، فقال: ¬
أقول فيها برأيي، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمني، أرى لها صداقَ امرأة من نسائِها، لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، وعليها العدَّةُ، ولها الميراثُ، وقال مَعْقِلُ بنُ يَسارٍ (¬1) -: أشهدُ لقد قضيتَ (¬2) فيها بقضاءِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بَرْوَعَ بنتِ واشِقٍ، أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي، وصححه (¬3). قال الشافعي في حديث بَرْوَعَ: فإن ثبتَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو أولى الأمور بنا، ولا حجَّةَ في قولِ أحدٍ دون النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإن كَثُروا، ولا قياسَ، ولا شيءَ في قوله إلاّ طاعةُ الله بالتسليم له (¬4). * ثم أمرنا الله سبحانه بإمتاعهنَّ، على المُوسِعِ قَدَرُهُ، وعلى المُقْتِر قَدَرُ. وقد اتفق أهل العلم على تشريع المتعة، ولكن اختلفوا هل الأمر على الفرض، أو على الاستحباب؟ ¬
- فقال أكثر العلماء من الصحابة وغيرهم بوجوبها؛ لأمر الله سبحانه بها لهن هُنا، وفي سورة الأحزاب (¬1)، ولقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]، فجعل ذلك ملكاً للمطلقات بلام التمليك، وسمَّاه حقاً، والحَقُّ الواجِبُ. وبه قال الشافعيُّ وأبو حنيفةَ وغيرُهما (¬2). - وقال قوم: إنها مستحبةٌ، وليستْ بواجبةٍ، وبه قال مالك وشُرَيْح القاضي (¬3)، قالوا: ولو كانت واجبةً، لم يخصَّ الله سبحانه المحسنين والمتقين دونَ غيرهم، ولكان يقول: حقاً عليكم، وكان شُرَيْحٌ يقول: مَتع إن كنت من المحسنين، ألا تحبُّ أن تكونَ من المتقين (¬4)؟ واستدلوا بأنها غير محدودةٍ ولا مقدرة في كتاب ولا سُنَّةٍ ولا إجماع، وليس لها في الفروض (¬5) نظيرٌ تُحْمَلَ عليه، فهيَ بالندبِ أولى منها بالفرض. ¬
واستدلُّوا بأن المطلقةَ قبلَ الدخول لا تَضْرِبُ (¬1) مع الغُرماء بالمُتْعَةِ، سواءٌ كان قد فُرضَ لها، أو لم يُفْرَضْ، وتَضْرِبُ بنصفِ ما فُرض لها. وادَّعى بعضُ المالكية المتأخرين الإجماع على ذلك (¬2). ولا حُجَّةَ فيما ذكروه، فقد ذكر اللهُ -سبحانه وتعالى- نظيرَ ذلك، ولم يقدرْه، ووَكَلَ تقديرَه إلى نبيّه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإلى أولي الاستِنْباطِ من أهل العلم، فقال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وقال سبحانه: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)} [النساء: 5]. والمتعةُ تقديرها إلى الحاكم عند التشاجُرِ والتنازع. وأما المحسنون والمتقون، فأراد بهم المؤمنين المحسنين بالإيمان، المتقين للشّرك (¬3). ¬
* و (¬1) في الآية دليلٌ على أن قدرَ المتعةِ معتبرٌ بالزوجِ لا بالزوجة، وهو كذلك على المذهب الصحيح عند الشافعية (¬2). واعتبر بعضُهم حالَ الزوجةِ (¬3)، ففرق بين الشريفةِ والدَّنِيَّةِ، فقال: لو لم يعتبر حالُ الزوجة، لتساوت الشريفةُ والدَّنِيَّةُ، وهو خلافُ المعروف، وقد قال الله تعالى: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 236]، ولأنه يؤدي إلى أن تفوز الدنيةُ بمتعةٍ تزيد على مهر مثلها. وقالت الحنفيةُ: يُقدَّرُ بنصف (¬4) مهر المثل (¬5). وكل هذا خلاف القرآن (¬6). ¬
حكم المطلقة قبل المس وبعد الفرض
(حكم المطلقة قبل المس وبعد الفرض) 45 - (45) قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)} [البقرة: 237] الآية. * أوجب الله سبحانه في هذه الآية للمرأة إذا طُلِّقت بعد الفرض، وقبلَ المَسيس نصفَ المفروض (¬1). واختلفَ القائلون بوجوبِ المُتعة هلْ تجبُ لها المتعةُ مع نصفِ المفروض؟ - قال ابنُ عباسٍ وابنُ عمرَ -رضي الله تعالى عنهم-: لها نصفُ صَداقِها، ليس لها أكثرُ من ذلك (¬2). وبه قال الشافعيُّ -رضي الله تعالى عنه - (¬3). ¬
- وقال بعضُ أهل الظاهر: لها المتعةُ (¬1)؛ لعموم قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]، وتخصيصُ بعضِ أفراد العموم بالذكرِ لتعليقِ حكمٍ آخرَ لا يكون تخصيصاً لعمومه، بل يجب لها نصفُ المفروضِ بهذه الآية، والمتعةُ بالآية (¬2) الأُخرى. ولمخالفه أن يقول: ليس هذا تخصيصاً لبعض أفراد العموم [بالذكر مع السكوت عن باقيه، بل هو تخصيص لبعض أفراد العموم] (¬3) بوجوبِ نصفِ المفروض. والمُفَوِّضَةُ التي لم يُفْرَضَ لها مخصوصةٌ بذكرِ وجوبِ المُتْعَةِ، وتَخَصصهما بحكمينِ مختلفين يدلُّ على تغايُرِهما (¬4). ¬
وتخصيصُ العموم بمن خالفه منهما. ومما يدل لبعض أهل الظاهر قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ} (¬1) [الأحزاب: 49]، فذكر لهن المتعة في هذه الآية. إلا أن يصحَّ ما رُوي عن ابن المسيّبِ بتوقيفٍ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنه روي عنه: أنه قال: كانَتِ المتعةُ لمنْ لم يُدخَلْ بها من النساء؛ لقوله تعالى في سورة الأحزاب: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، فنسخ ذلك بقوله تعالى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬2) [البقرة: 237]، فيبطل هذا الدليل (¬3). وبعيد أن يثبتَ مثلُ هذا النسخِ بتوقيفٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). فإن قلتم: فما الجوابُ عن آيةِ الأحزاب؟ قلنا: لا تَعارضَ بينها وبين آية البقرة؛ فإن آية الأحزاب عامة، والمرادُ ¬
بها المُفَوِّضَةُ؛ إذا طُلِّقَتْ قبلَ الفَرْضِ والمَسيس؛ بدليلِ البيانِ والتقييدِ في آية البقرة، والمرادُ بآية البقرة مَنْ سُمِّي لها مَهرٌ أو فَرْضٌ (¬1). فإن قلتم: فما الحكمُ فيما إذا طُلِّقَتْ قبلَ المسيسِ، ولكنه قَدْ سمَّى لها مهراً صحيحاً، وفيما إذا طُلِّقَتْ بعدَ المسيس؟ قلنا: سيأتي الكلام عليها (¬2) قريباً إن شاء الله تعالى. * وفي الآية دليلٌ على أن المهرَ يستقرُّ بالدخولِ والمَسيسِ، وذلك إجماعُ (¬3)، وعلى أنه لا يستقرُّ قَبلَ المَسيسِ. * والمسيسُ يقع في وضع اللغة على المَسِّ (¬4) مُطْلَقاً، ويقع في العرْفِ على الجِماع (¬5). واختلفوا في المراد به: - فقال قوم: الخَلْوَةُ كالإصابَةِ. - وروي عن عمرَ -رضي الله تعالى عنه-: أنه قال: إذا أُرخيَ السترُ، وأُغلقَ البابُ، فقد وجبَ المَهْرُ، ما ذنبهنَّ إن جاءَ العجزُ من قِبَلِكم؟ (¬6) وهو قول عليٍّ، وابنِ عمرَ، وزيدِ بنِ ثابتٍ -رضي الله تعالى عنهم- (¬7)، ¬
والزّهْرِيِّ، والأوزاعيِّ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ في القديم (¬1). - وقال قوم: لا تأثيرَ للخَلْوَة، وهو قولُ ابن عباسٍ وابنِ مسعود، -رضي الله تعالى عنهم-. قال ابن مسعود: لها نصف الصَّداقِ ما لم يُجامِعها، وإن جَلَسَ بين رِجْليها (¬2). وروى طاوسٌ عن ابن عباس: أنه قالَ في الرجل يتزوجُ المرأة، فيخلو بها، ولا يمسُّها، ثم يطلقُها: ليس لها إلا نصفُ الصَّداقِ؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬3) [البقرة: 237]. قال الشافعي: وبهذا أقول (¬4). ¬
وهو ظاهرُ الكتاب. وصحَّ عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: أنه قال: يُحْمَلُ اللمسُ والمسُّ في كتاب الله تعالى على الجماع (¬1). وهذا القولُ أختاره؛ لموافقته ظاهرَ القرآن، وشهادة الأصول، فإنه عاقدٌ لم يستوفِ المنفعةَ المقصودةَ بالعَقْدِ، فلم يجبْ عليه عِوَضُها (¬2) كسائرِ العُقود. * ثم استثنى الله سبحانه من نصفِ المفروض، فقال: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ}، وهنَّ النساء، {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]. * وقد اختلفوا في الذي بيده عقدة النكاح: - فقال عليّ، وجُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ وابن عَبّاسٍ في روايةِ عَمّارِ بنِ أبي عامرٍ، ومجاهدٌ، والضحاكُ، وابنُ سيرين، وسعيدُ بنُ المسيِّبِ، وابنُ جُبَيْرٍ، والشعبيُّ، ومقاتلُ بن حَيّانَ، وشُرَيْح، وأهلُ الكوفة، والشافعيَّ في الجديد: هو الزوجُ. ¬
وروي (¬1) عن الحسنِ وطاوس (¬2)؛ لأن الذي بيده إمساكُ العقدة وحلُّها بالطلاق هو الزوجُ، ولأن الوليَّ لا يعفو عن أموالها، فكذلك صداقُها، ولأنَّ الولي لو أُبْرِئَ من صَداقها قبل الطلاقِ، لم يَجُزْ، فكذلك بعدَه، ولأن في الأولياء مَنْ لا يجوز عفوُه؛ كابن العمِّ. * وعفوُ الزوجِ هو أن يعطيَها الصَّداقَ كاملاً من عَفْو المُساهلَة. وقيل: الذي بيده عُقدةُ النكاح هو الوليُّ، وبه قال ابنُ عباسٍ، والزهريُّ، وطاوسٌ، والحسنُ، وعطاءٌ؛ وعلقمةُ، وإبراهيمُ، وربيعةُ، ومالكٌ، وأحمدُ، والشافعيُّ في القديم؛ لأن ذكر العفو وردَ بعدَ الطلاق، والذي بيده عقدةُ النكاحِ عليها حينئذٍ هو الوليُّ دونَ الزوج (¬3). * واتفقوا -واللهُ أعلمُ- أن قوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] خطابٌ للأزواج خاصَّةً (¬4). ¬
ويدلُّ له ما روي: أن جبيرَ بنَ مطعم طلق امرأةً تزوجَها، وأرسلَ إليها بالمَهْرِ تاماً، فقيلَ لهُ: ما دعاكَ إلى هذا، إنما عليكَ نصفُ المَهْرِ؟ فقال: وأينَ (¬1) قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]. وفي رواية: أنا أولى بالعفو (¬2). ¬
الصلاة الوسطى، وصلاة الخوف
(الصلاة الوسطى، وصلاة الخوف) 47 - 46 (47 - 46) قوله جَلَّ جلالُهُ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238، 239]. وفيها جملتان: الأولى: أمرنا الله سبحانه بالمحافظة على الصلوات، والمحافظةُ عليها تأديتُها في أوقاتها بأركانها على الدوام. وخصَّ الوسطى بالذكر والتأكيد لشرفِها، وسماها الله (الوسطى) إما من التوسُّطِ بين الشيئين، أو من الوَسَط الذي هو بمعنى الخِيار (¬1). * واختلف الناس في تعيينها: 1 - فقال عليٌّ، وابنُ عباسٍ، وابن عُمَرَ، وجابرٌ، ومعاذٌ، وطاوسٌ، وعكرمةُ، وعطاءٌ، ومجاهدٌ، والربيعُ بنُ أَنسٍ: هي صلاةُ الفَجْر (¬2). ¬
وهو اختيارُ مالكٍ والشافعيِّ (¬1)، واستدلوا بما ورد عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في فضلِ صلاة الصبحِ (¬2). ولأنها تأتي في وقتِ مشقَّةٍ بسبب بردِ الشتاءِ، وطيبِ النومِ في الصيفِ (¬3)، وفتورِ الأعضاء، فخصَّتْ بالمحافظةِ؛ لأنها معرَّضَةٌ للضَّياع. ولأنها توسَّطَتْ بين صلاتيَ الليلِ وصَلاتيَ النَّهار، فَتُصَلَّى (¬4) في سَوادٍ من (¬5) الليل، وبيَاضٍ من النهارَ. ولأن الله سبحانه أمرَ فيها بالقُنوتِ، ولا قنوتَ إلا في الصبح. وقال أبو رجاء: صلى ابنُ عباس بالبصرةِ صلاةَ الغداةِ، فقنتَ قبلَ الركوعِ، ورفعَ يديه، فلما فرغَ قال: هذَّة الصلاةُ الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين (¬6). 2 - وقال زيدُ بن ثابت، وأسامةُ بن زيد، وأبو سعيدٍ الخدريُّ، وعائشةُ، وعبدُ الله بنُ عمرَ، وعبدُ الله بنُ شداد: إنها الظهر (¬7). ¬
وبه قال أبو حنيفةَ في رواية عنه (¬1). وروي أن زيدَ بن ثابت احتج في ذلك بأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الظهر بالهجيرِ (¬2)، فلا يكون وراءَه إلا الصفُّ والصفّانِ، والناسُ في قائِلَتِهم وتِجارَتهم، فأنزل الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (¬3)، ولأنها تُفْعَلُ في وسَطِ النهار. 3 - وقال أيضاً عليُّ بنُ أبي طالب -في أصحَّ الرواياتِ عنه-، وابنُ مسعودٍ، وأبو أيوبَ، وأبيُّ بنُ كعبٍ، وعبد الله بنُ عمرِو بنِ العاص، وأبو هريرةَ، وابنُ عمرَ، وابنُ عباس، وكذا أبو سعيد الخدريُّ، وعائشةُ (¬4): إنها العصرُ. وبه قال النخعيُّ، وقتادةُ، والحسنُ، والضحاك، والكلبيُّ، ومقاتلٌ. وهو اختيارُ أبي حنيفةَ، وأحمدَ، وابنِ المنذر، ومتأخِّري الشافعية (¬5)؛ ¬
لقوله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الخندق، وقد فاتتهُ صلاةُ العصر: "حَبَسونا عن الصَّلاةِ الوُسْطى صَلاةِ العَصرِ، مَلأَ اللهُ قُبورَهم وبُيوتَهُم وأجوافَهُم ناراً" (¬1). واحتجوا بأن حفصةَ قرأت: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي العصر) (¬2). وبما روى ابنُ مسعودٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصلاةُ الوُسْطَى صَلاةُ العَصرِ" (¬3)، أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح، ولأنها تأتي في وقت اشتغال الناس بمعاشِهم وأعمالهم، ولأنها قد توسطت صلاتي ليلٍ، وصلاتَيْ نهارٍ. ¬
4 - وقال قَبيصةُ بن ذُؤيب في جماعة: إنها المَغْرِبُ (¬1)؛ لأنها وَسَطٌ في الطولِ والقِصَر من بينِ الصلاة، ولأنها لا تقصَرُ في السفر، ولأنها تُفعل في وقت واحد، ولم تؤخرْ عن وقتها بحال، ولأنها متوسطة بين صلاتي سِرٍّ وصلاتي جَهْر (¬2). وروي عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن أفضلَ الصلاةِ عندَ الله صلاةُ المَغْرِبِ، لم يَحُطها عن مُسافِرٍ ولا مُقيم، فَتَحَ اللهُ بها صَلاةَ اللَّيْلِ، وخَتَمَ بها صلاةَ النَّهارِ، فَمَنْ صَلَّى المَغْرِبَ، وصَلى بعدَها رَكعَتَيْنِ، بَنَى اللهُ لَهُ قصراً في الجَنةِ، ومَنْ صَلَّى بعدها أَربَعَ رَكَعاتٍ، غَفَرَ اللهُ لهُ ذُنُوبَ عِشْرينَ سَنَةً، أو أَربعينَ سَنَةً" (¬3). 5 - وقيل: إنها صلاةُ العشاء، ولعلَّه يستدلّ (¬4) بما ورد في فضلِ صلاةِ العشاءِ، ولأنها بين صلاتينِ لا تقصَرانِ، ولأنها توسَّطتْ وِتْرينِ، وهو ضعيف (¬5). ¬
6 - وقال سعيدُ بنُ المُسَيِّبِ، والربيعُ بنُ خُثَيْمِ: هي مُبْهمَةٌ كيرُ مُعَيَّنَةٍ (¬1)؛ كليلةِ القدرِ، وساعةِ الجمعةِ؛ ليحفظوا الكلَّ (¬2). ويروى عن ابن عمر أيضاً -رضي الله تعالى عنهما- (¬3)، واختاره بعضُ المتأخرين (¬4)، واستدلوا بما رواه مسلمٌ عن البَراءِ بن عازِبٍ قال: نزلت هذه الآية: (حافظوا على الصلواتِ والصلاةِ الوُسطى صلاةِ العصرِ)، فقرأناها ما شاء الله تعالى، ثم نسخها الله، فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فقال رجل: هي إذاً صلاةُ العصر، فقال البراءُ: أخبرتُكَ كيف نزلَتْ، وكيف نسخَها اللهُ (¬5). قالوا: ووجه الدلالةِ أن الله سبحانه نسخَ التعيينَ إلى الإبهام، والجوابُ عن قراءة حفصةَ أنها جاءَتْ تفسيراً لا قرآناً (¬6)، والقرانُ لا يَثْبُتُ بخبر الواحد، وسيأتي مزيدُ الكلامِ على مثلِ (¬7) هذا في سورة النساء، وبأنها ¬
يروى عنها مضطرباً، فروي: (وصلاة العصر)، كما روي عن عائشة (¬1)، ويروى (¬2) بغير واو. والراجح عندي أنها صلاة العصر؛ لما قدمناه من بيان النبيِّ ونصِّه على أنها صلاة العصر، ولما رواه البَراءُ من أنها كانت معينةً في كتاب الله سبحانه، ثم نُسِخَ تعيينُها، وإخبارُ الصحابي بمثلِ هذا النسخِ مقبولٌ. وما ذكروه من وَجْهِ الدَّلالَةِ باطلٌ؛ فإن هذا مِمَّا نُسخ لفظُه، وبقيَ حكمُه (¬3)، ألم تر إلى قولِ القائلِ للبراءِ: فهي إذاً (¬4) صلاةُ العصر، كيف فهم أن التعيينَ باقٍ لم يَزُلْ، وكيف لم يردَّ عليه البراءُ مقالته، وإنما قال: أخبرتُك كيف نزلَتْ، وكيف نسخها الله. * وأما قولُه تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فقال البخاري: أي: مطيعين (¬5)، وخرَّجَ عن زيدِ بنِ أرقم -رضي الله تعالى عنه- قال (¬6): كنا نتكلمُ في الصلاة، يكلمُ أحدُنا أخاه في حاجته، حتى نزلت هذه الآية: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، فأُمرنا بالسُّكوتِ (¬7). والظاهرُ أن نزول هذه الآية كان بالمدينة (¬8)؛ لما فيها من ذكر صلاة ¬
الخوف، وصلاةُ الخوف لم تُشْرَعْ إلا بعدَ الخَنْدَقِ. ويُشْكِلُ عليهِ قولُ الشافعيِّ -رحمه الله تعالى-: تحريم الكلام كان بمكة (¬1)، وروى حديثَ عبد الله بن مسعودٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: كنا نسلمُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في الصلاةِ قبل أن نأتيَ أرضَ الحبشة، ويردُّ علينا وهو في الصلاة، فلما رجعنا من أرض الحبشة، أتيته لأسلمَ عليه، فوجدتُهُ يصلِّي، فسلمتُ عليه فلم يردَّ، فأخذني ما قَرُبَ وما بَعُدَ، فجلست، حتى إذا قضى صلاتَهُ، أتيتُهُ، فقال: "إن الله يُحْدِثُ منْ أمْرِهِ ما يَشاءُ، وإنَّ مِمَّا أحدَثَ أَلأَ تَتَكَلَّموا في الصَّلاةِ" (¬2). قال: المحفوظُ في حديث ابنِ مسعود هذا أن ابنَ مسعودٍ مرَّ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمكةَ، فوجده يصلي في فِناء الكعبة، وأن ابنَ مسعودٍ هاجرَ إلى الحبشةِ، ثم رجعَ إلى مكةَ، ثم هاجر إلى المدينة، وشهد بدراً، وأهلُ الحبشةِ لم يقدَموا إلا أيامَ خيبر (¬3). والجوابُ عن هذا الإشكال ممكنٌ، وذلك أنه يجوز أن يكون التحريمُ للكلام كان متقدِّماً على نزول الآية، ولم يعلف به (¬4) ابنُ أَرْقَمَ، واستصحَبَ ¬
حالةَ حِلِّ الكلام حيث قال: وكان أحدُنا يكلمُ أخاه في حاجته حتى نزلتْ هذه الآيةُ، وقد كانت بعضُ الأحكام تثبُتُ بقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم تنزلُ الآية على وفْقِ قَوْلهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ تأكيداً؛ كما كان فرضُ الوضوء ثابتاً زماناً من دَهْرْ، ثم نزلت الآية تأكيداً (¬1). الجملة الثانية: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]. * أمرنا الله سبحانه بالمحافظة على الصلوات، ولم يبح تأخيرَها عن وقتها لعذر الخوف على النفس، بل قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} أي: مشاة على أقدامكم، ورُكباناً على ظهور دَوابَكُمْ. وروى نافع عن ابنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما-: أنه ذكر صلاة الخوف، فقال: فإنْ كان خوفٌ أشدُّ من ذلك، صَلُّوا رِجالاً قِياماً على أَقْدامِكم، أو رُكْباناً، مُسْتَقْبِلي القبلةِ وغيرَ مستقبليها. قال نافع: لا أرى عبدَ الله ذكرَ ذلك إلا عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وأكثرُ العلماء على العملِ بتفسير ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- (¬3). وخالف أبو حنيفة فقال: لا يصلِّي الخائفُ إلا إلى القبلة (¬4)، ولا يصلِّي ¬
في حال المسايَفَة (¬1)؛ لمخالفة الأصول. وفي قوله نظر؛ لأن صلاة الخوف إنما جازت مخالفتُها للأصولِ للضرورة، والضرورة موجودةٌ في شدة الخوف، بل أقوى، ولأن الأصول شاهدةٌ بأنه لا يجوزُ تأخيرُ العبادة عن وقتها المعيَّن لها؛ كما فعل في منع الجمع بين الصلاتين. والحجةُ في بيانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن الله سبحانه وتعالى، فإن كانَ ابنُ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما- قال ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما ظنه نافعٌ، فالحجةُ في قوله ظاهرةٌ، وإن كان من تفسير ابن عمرَ -رضي الله تعالى عنهما-، فتفسير الصحابيِّ مقبولٌ معمولٌ به؛ لأنه أعرَفُ بمواردِ كتابِ الله عزَ وجلَ. * ثم عندي إشكالٌ آخرُ، وهو أن أهل العلم بالحديث والسِّيَرِ اتفقوا، أو أكثرُهم، على أن صلاةَ الخوف إنما فرضَتْ بعدَ الخندق (¬2)؛ كما سيأتي ذكر ذلك وإيضاحُه -إن شاء الله تعالى- في "سورة النساء". ¬
وقد ثبت في الحديثِ الصحيحِ المتفق على صحته: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الخندق: "شَغَلُونا عن الصَّلاةِ الوُسْطى صَلاةِ العَصرِ، مَلأَ اللهُ قُبورَهُمْ وبُيوتَهم ناراً" (¬1)، وهذا يدل دلالةً واضحةً على أن بيانَ (¬2) الصلاةِ الوسطى معروفٌ عندهم، وهي لم يذكرها في كتابه إلا في هذه الآية، وقد ذكر فيها حكم صلاةِ شدةِ الخوف، فقال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]. ثم يُقال حينئذٍ: لِمَ أَخَّرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ يومَ الخندقِ مع بيانِ الله سبحانه لصلاةِ الخوف (¬3)؟ فإن قيل: إنما بيَنَ اللهُ سبحانه صلاةَ شدةِ الخَوْفِ، ولم يكنْ يومَ الخندقِ إلا مُجَرَّدُ الخوف؟ قلنا: إذا أباح الله سبحانه صلاةَ شدةِ الخوف مع كثرة مخالفتها لصورة الصلاة، فأولى أن يبينَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حكمَ اللهِ سبحانَهُ في صلاة الخَوْفِ؛ لأنه كان يمكِنُهم في الخَنْدَقِ التَّناوُبُ. فلم يبقَ إلا أن يقال: لعلَّ الصلاةَ الوسطى كانت معروفةً عندهم، وموقعُ شرفها موجود في صدورهم قبلَ نزولِ الآية، ثم أَمَرَهُم اللهُ سبحانَهُ بالمحافظة على ما هو مَعهودٌ عندهم، ومتقرَّر في نفوسِهم من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ تأكيداً لشأنِها؛ كما أجبنا بمثل هذا في الجمع بين حديثي عبدِ الله بنِ مسعود، وزيدِ بن أَرقَمَ -رضي الله تعالى عنهما-. أو يقال: لعلَّ قولَه تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] نزل عند الخندق، وقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ¬
قبل الخندق، ونزولُ بعضِ الآية دونَ بعضٍ جائزٌ؛ كما قدمت ذلك (¬1). وإن كان أبو عبد الله الشافعيُّ -رحمه الله تعالى- قال: إنه لا يجوز، وبينتُ (¬2) وَهْمَهُ في ذلك، وأن السنَّةَ دالَّة على خلافه. والأولُ أقرب الجوابين، والقولُ بكلِّ واحد منهما عسيرٌ. * ثم امتثلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَمرَ الله سبحانَه وتعالى بالمحافظة، وبيَّنَ المحافظةَ على الصَّلاةِ في حالِ الخوفِ على اختلافِ أحواله، وسيأتي بيانه في سورة النساء إن شاء الله تعالى. * ثم ندب - صلى الله عليه وسلم - إلى تعجيلها، فسئل: أَيُّ الأعمالِ أَفْضَلُ؟ فقالَ: "الصَّلاةُ في أَوَّلِ وَقْتِها" (¬3). * ثم أمر الله سبحانه عندَ الأمنِ بعدَ (¬4) الخوف أن نصليَ كما علمنا، ولو ظفرْنا بالعدو، وأمكنَنا الله سبحانه منه، فلا نغير هيئةَ الصلاةِ لغيرِ ضرورةٍ، والله أعلم. ¬
عدة المتوفى عنها
(عدَّةُ المتوفَّى عنها) 48 - (48) قوله جل جلالُه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 240]. * فرض الله سبحانه في هذه الآية في المتوفَّى عنها زوجُها (¬1) حكمين: أوجبَ عليها التربصَ حولاً كاملًا. وأوجبَ لها الوصيةَ بالمتاع إلى آخرِ ما أوجب عليها من المدة. والمتاعُ يقع على النفقةِ والكسوة والسُّكنى. * ثم بَيَّنَ اللهُ سبحانه أنها إذا خرجتْ من المنزل وأبطلَتْ حقَّها، فلا جُناح على الوارثِ في ترك النفقةِ، فَفُهِمَ من هذا أن النفقةَ تابعة للسُّكنى كما وجبتْ للزوجةِ وللرجعيةِ (¬2)، ولهذا المعنى قال قومٌ بوجوب النفقةِ للمَبْتوتَةِ لمَّا وجبتْ لها السُّكْنى (¬3). ¬
فإن قلتم: فهل كان الخروجُ لها جائزاً، فَعِدَّتُها على التخيير؟ قلت: نعم؛ لقوله تعالى: {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} [البقرة: 240]. قال عطاء: إن شاءت اعتدَّتْ عندَ أهلهِ، وسكنتْ في وَصِيتَّهِا، وإن شاءت خرجتْ؛ لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} (¬1) [البقرة: 234]. ودلَّنا هذا على أن كلَّ من وجب له حقّ، ثم تركه، فلا جُناحَ عليه. * إذا تمَّ هذا، فقد اتفقَ أهلُ العلم بالقرآن على أن الحَوْلَ منسوخٌ بالآية الأولى (¬2)، إلَّا ما يروى عن مجاهدٍ (¬3). روينا في "صحيح البخاري" عن ابن الزبير: قلتُ لعثمانَ بنِ عَفَّانَ -رضي الله تعالى عنه-: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 240] قد نسختها الأخرى، فَلِمَ تكتُبها، أو تَدَعُها (¬4)؟ قال: يا ابْنَ أَخي! ¬
لا أُغَيِّرُ شيئاً من مَكانِه (¬1). وروينا فيه أيضاً عن أبي نَجيح عن مجاهدٍ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] قال: كانت هذه العِدَّةُ عندَ أهلِ زَوْجها واجب، فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} قال: جعل الله لها (¬2) تمامَ السنة سبعة أَشْهُرٍ وعِشرين ليلةً، وَصِيَّةً، إن شاءتْ سكنتْ في وَصِيّتِها، إن شاءتْ خرجتْ، وهو قول الله عزَّ وجلَّ: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}، فالعِدَّة كما هي واجب عليها. ثم قال البخاري: زعم (¬3) ذلك عن مُجاهدٍ (¬4). وكلامُ مجاهدٍ هذا يقتضي أن هذه الآية نزلت بعد الأولى، فهي بعدَها في النزول، كما هي بعدها في الترتيب، وأن الأربعةَ الأشهرِ والعَشْر حَتْمٌ، وأنَّ ما زاد عليها إلى تمام الحولِ مشروعٌ على التخيير، لم يُنْسَخْ، فهذه الآيةُ إما ناسخةٌ لِحَتْمِ الآيةِ الأولى، أو مبيِّنَةٌ لِما زاد من تمامِ السُّنةِ بعدَ الحَتْم. ولكنَّ ما قاله لم يتابعْه عليه أحدٌ من أهل العلم (¬5). ¬
وقد روي عن ابن جُرَيْج عن مجاهدٍ مثلُ ما عليه الناس، فهو إِمَّا رجعَ إلى أهل الإجماع (¬1)، وإلَّا فقدِ اضطربتِ الروايةُ عنهُ، وسقطتْ. * وأما المَتاعُ، فليس في الآية الأولى دَلالةٌ صريحةٌ على نَسْخِ المَتاع، وإنما تعارضُه آيةُ الميراث. قال ابن عباس في رواية عِكْرِمَةَ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]، فنسخ ذلك بآية الميراث بما فرض الله لهن من الرُّبُعِ أو الثُّمُنِ، ونُسخ أَجَلُ الحَوْل بأن جُعِلَ أَجَلُها أربعةَ أشهر وعشراً (¬2). وكلامُ ابن عباس هذا يحتمل أن يدلَّ على نسخ السُّكنى. قال عطاء: ثم جاء الميراثُ، فنسخ السكنى، فتعتدُّ حيث شاءت، ولا سكنى لها (¬3). وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثلُ هذا (¬4). ويحتمل أن يكونَ النسخُ خاصًّا بالمتاع دونَ السكنى، ويدل له ما روى ¬
مالك عن سعيدِ بنِ إسحاقَ بنِ كعبِ بن عُجْرَةَ عن عَمَّتِهِ زينبَ بنتِ كعبٍ: أن الفُرَيْعَةَ بنتَ مالكِ بنِ سنانٍ أخبرتها: أنها دخلتْ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تسألهُ أن ترجعَ إلى أهلها في بني خُدرَةَ؛ فإن زوجَها خرج في طلبِ أَعْبُدٍ له أَبَقوا، حتى إذا كان بطرف (¬1) القدُّوم، لحقهم، فقتلوه، فسألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن أرجعَ إلى أهلي في بني خُدرَةَ؛ فإن زوجي لم يتركْني في مسكن يملكُه، ولا نفقةٍ، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم"، قالت: فانصرفتُ حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أمرَ بي فنوديت (¬2)، فقال: "كيف قلت؟ "، فرددت عليه القصةَ التي ذكرتُ له من شأن زوجي، فقال: "امكثي في بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتابُ أَجَلَهُ"، قالت: فاعْتَدَدتُ فيه أربعةَ أشهرٍ وعَشْراً، قالت: فلما كان عثمانُ بنُ عفانَ، أرسل إليَّ، فسألني عن ذلك، فأخبرتُه، فاتبَّعه، وقضى به (¬3). وقال الشافعي: -رحمه الله تعالى-: ثم حَفِظْتُ عَمَّنْ أرضى (¬4) من أهل العلم: أن نفقةَ المتوفَّى عنها زوجُها وكسوتَها حولاً منسوخةٌ بآية الميراث، ولم أعلم مخالفاً فيما وصفتُ من نَسْخِ نفقةِ المتوفَّى عنها زوجُها وكسوتها سنةً أو أقلَّ من سنة. ¬
ثم قال: ثم احتمل سكناها إذا كان مذكوراً مع نفقتها بأنه (¬1) يقع عليه اسمُ المتاع أن يكونَ منسوخاً في السُّنةِ وأقلَّ منها، كما كانت النفقةُ والكسوةُ منسوختين في السَّنَةِ وأقلَّ منها، واحتملت أن تكونَ نُسخَت في السَّنة، وأثبتت في عِدَّة المتوفَّى عنها حتى تنقضي بآخر هذه الآية، يعني قولَه: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]، وأن تكون داخلةً في جملة المُعْتَدّات؛ فإن الله تعالى يقولُ في المطلقات: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]، فلما فرضَ اللهُ سبحانَه في المتعدَّة من الطلاقِ السكنى، وكانت المعتدَّةُ من الوَفاة في معناها، احتملت أن يكونَ جعلَ لها السكنى، لأنها في معنى المعتدَّات، فإن كان هذا هكذا، فالسكنى لها في الكتابِ منصوصٌ، أو في معنى من نُصَّ لها السكنى، وإن لم يكن هذا، ففرضُ السكنى لها في السُّنةِ (¬2). وهذا أصحُّ قوليه -رحمه الله تعالى-، وإيَّاه أختارُ، لأن السُّكْنىَ ثابتة في الكتاب، فلا يجوزُ نسخُها بالاحتمال والتجويز لأجل نسخِ ما جاورها من الأحكام، فنسخُ المدةِ من حول إلى ما دونه لا يدلُّ على نسخِ السكنى فيما دون الحول، ونسخُ المتاعِ بايةِ الميراثِ على روايةِ ابنِ عباسٍ يحتملُ أن تعود الإشارة في قوله: فنسخ ذلك إلى (¬3) المَتاع دونَ الإخراج، ويحتمل أن يعودَ إلى المتَاع والإخراجِ، ولكنَّ الاحتمالَ الأولَ متعيِّن؛ لحديث الفُرَيْعَةِ بنتِ مالكٍ. وهذا هو مذهبُ عمرَ، وابنِ عمر، وابنِ مسعودٍ، وبهِ قال فقهاءُ الحجازِ ¬
والعراقِ وأكثرُ فقهاءِ الأمصار؛ كمالكٍ، وأبي حنيفة، وأحمدَ (¬1). قال الشافعيُّ في كتاب "العِدَد": الاختيارُ لورثته أن يُسكنوها، وإن لم يفعلوا، فقد ملكوا المال دونه (¬2). وقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "امكُثي في بيتِكِ" يحتملُ: ما لم تُخْرَجي منه إن كان لغيرك؛ لأنها قد وصفتْ أن المنزلَ ليس لزوجها، وهذا التأويل حُجَّة لمن أوجب السُّكنى؛ لأنه إذا أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تمكُثَ في بيتٍ ليسَ لزوجِها ما لم تُخْرَجُ عنه، فأولى أن تمكُثَ في بيتٍ لزوجِها لا تخرج عنه. وروي عن عليٍّ -رضي الله تعالى عنه-: أنه كان يُرَحِّلُ المتوفَى عنها، لا ينتظر لها، ونقل أمَّ كُلْثومٍ بعدَ قتلِ عمرَ بسبعِ (¬3) ليال (¬4). وعن عائشة: أنها كانت تُرحِّلُ المرأةَ وهي في عِدَّتِها من وفاةِ زوجها (¬5). ¬
وبه قال أهلُ الظاهر، وعطاءٌ، والحسنُ (¬1)، ويروى عن ابن عباسٍ (¬2)، وجابرٍ (¬3)، رضي الله تعالى عنهم. ¬
متعة المطلقة
(متعة المطلقة) 49 - (49) قوله جلَّ جلالُه: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]. * لفظُ هذه الآيةِ عامٌّ في إيجاب المُتعةِ لكلِّ مُطَلَّقة، سواءٌ كانتْ مدخولاً بها، أو لا، طُلِّقت قبلَ الفرض والمَسيس، أو بعدَ الفرضِ وقبلَ المسيس. وقد مضى حكمُ التي طُلقت قبلَ الفرض والمَسيس، وأنها مرادةٌ في العموم (¬1)، ومضى حكم التي طُلقت بعد الفرض وقبلَ المسيس، وأنها غيرُ داخلة في العموم، إلا على قولِ بعضِ أهل الظاهر، ومثلُها التي طُلِّقت قبل المسيس، وكان قد سُمِّي لها مهرٌ صحيحٌ؛ لعدم الفرقِ بينهما، وبقي حكمُ المدخول بها. * وقد اختلف أهلُ العلم في إيجاب المتعة لها. فقال عمرُ، وعليٌّ، والحسنُ بنُ عليٍّ، وابنُ عمرَ، والقاسمُ بن محمدٍ وابنُ شهابٍ، وسعيدُ بنُ جبير، وأبو العاليةِ، والحسنُ -رضي الله تعالى عنهم-: لها المتعة (¬2)؛ لهذه الآية، ولقوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ ¬
سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28]، وأزواجُه - صلى الله عليه وسلم - مدخولٌ بهن. وبهذا قال الشافعيُّ في الجديد (¬1)، وكذا أحمدُ في إحدى الروايتين (¬2)،وبه أقول. - وقال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ في القديم: لا متعةَ لها (¬3)؛ قياساً على المفروضِ لها. وهذا فاسدٌ، لأنه لا يجوز قياسُ المدخولِ بها على غيرِ المدخول بها، ولا يجوز القياسُ مع وجود النصّ. فإن قيل: النصُّ في إمتاعه - صلى الله عليه وسلم - خاصٌّ به. قلنا: دعوى التخصيص بغير دليل مردودةٌ، بدليلِ حديث أمِّ سلمةَ -رضي الله تعالى عنها- الذي قدمته في تقبيلِ الصائم (¬4). فإن قيل: محمولٌ على الاستحباب (¬5). قلنا: خلاف الظاهر، بدليل قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]. ¬
من أحكام الجهاد
(من أحكام الجهاد) 50 - (50) قولُه جل جَلالُه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]. هذه الآية (¬1) وما شابهها من آيات الصفح والإعراض عن المشركين منسوخاتٌ بآية السيف بالاتفاق (¬2)، وآيةُ السيف مثل قوله تعالى: {فَاَقتُلُوا ¬
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. ¬
من أحكام الزكاة
(من أحكام الزكاة) 51 - (51) قولُه جَل جلالُه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة: 267]. * تمسكَ الحنفيةُ بهذهِ الآيةِ في وُجوب الزكاة ممَّا أخرجت الأرضُ من غير المُقْتات (¬1). وسيأتي الكلام معهم في سورة الأنعام -إن شاء الله تعالى-. وللجمهور أن يتمسكوا بها في إيجاب الزكاةِ في عُروض الكَسْبِ؛ خلافاً لداود (¬2). * وحرم الله سبحانه وتعالى الإنفاق من الخبيث. فروي أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لونين من التَّمرِ: الجعرورِ (¬3)، ولونِ ¬
الحُبَيْقِ (¬1). قال الراوي: وكان أناس يَتيمَّمُونَ سَرَّ ثمارِهم، فيخرجونها في الصدقة، فَنُهوا عن لونين من التمر، ونزلت: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬2) [البقرة: 267]. * ولمّا أمرنا اللهُ سبحانه بالإنفاق من طيبات ما كسَبْنا، ونهانا عن تَيَمُّمِ الخبيث، استدلَلْنا بهذا على أن كل خَبيث ومَعيبٍ لمرضٍ أو هُزال أو غيرِه لا يجوزُ إنفاقه، إلا أن يكون جميعُ المال المزكَّى خبيثاً، أو مَعيباً؛ فإنَّا ننفق منه؛ لأنَّا لم نتيمَّمِ الخبيثَ للنفقة، وإن كانَ المالُ طيباً وخبيثاً، فلا يجوزُ لنا أن ننفق إلا من الطيِّبِ، لأمر الله سبحانه بالإنفاق منه، لكن يجبُ مراعاة العدلِ والقسط (¬3). وتفصيلُ ذلك مذكورٌ في كتبِ الفقه. ¬
صدقة التطوع
(صدقة التطوع) 52 - (52) قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]. * فضَّل الله سبحانَه في هذه الآية الإخفاءَ في الصدقةِ على الإبداء، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، وهذا في صدقةِ التطوُّع (¬1)، وأما صدقةُ الفرضِ، فإظهارُها أفضلُ من إخفائِها (¬2). * وفيها دليل على جواز الصدقة على الأغنياء، وذلك جائزٌ في التطوع (¬3). ¬
* وجوز اللهُ سبحانه في تِلْوِ هذه الآية الصدقةَ على الكافر (¬1)، وذلك جائزٌ (¬2) في التطوع، وأما الفرض، فلا يجوز صرفُه إلى الكافر (¬3)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أن آخذَ الزكاةَ من أغنيائِكم، وأَرُدَّها على (¬4) فُقَرائِكم" (¬5). ¬
تحريم الربا
(تحريم الرِّبا) 53 - (53) قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275]. أقول: * أحلَّ اللهُ سبحانه البيعَ لعباده، وبينَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أشياءَ من البيع أنّها لا تجوزُ، فنهى عن بَيع وشرْطٍ (¬1)، وعن بيعِ حَبَلِ الحَبَلَةِ (¬2)، وعن بيع المُلامَسة والمُنابَذَةِ (¬3)، وعن بيعِ الغَرَر (¬4)، وغير ذلك. ¬
وسيأتي الكلام على البيع في "سورة النساءِ" -إن شاء الله تعالى-. * والربا في اللغة هو الزيادةُ (¬1)، وهو يقع على ضربين: أحدهما: ربا الجاهلية، وسيأتي ذكره قريباً -إن شاء الله تعالى-. والثاني: ربًّا بيَنَهُ الشارعُ - صلى الله عليه وسلم -، وهو على ضربين أيضاً: أحدهما: ربا الفَضْل، كبيعِ الدينار بالدينارين، والدرهمِ بالدرهمين. والثاني: ربا النَّسِيئَةِ، كبيع دينارٍ ناجزاً بدينارٍ غائباً (¬2)، فهذا متفق عليه بين المسلمين (¬3). * وأما ربا الفَضْل، فخالف فيه (¬4) ابنُ عباسٍ وابنُ عمر -رضي الله تعالى عنهم- (¬5)، وكانا لا يريان بأساً في بيع الدرهم بالدرهمين ناجزاً، ويروى عن عروة بنِ الزبير -رضي الله تعالى عنهما- (¬6)، واحتج ابنُ عباس فقال: أخبرني أسامةُ بنُ زيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّما الربا (¬7) في النَّسيئَةِ" (¬8). ¬
وروي عن أبي الجَوزاء، عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أنه قال: كنت أُفتي بذلك حتى حدثني أبو سعيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ينهى (¬1) عنه، فأنا أنهاكم عنه (¬2). وكذلك رجعَ ابنُ عمرَ -رضيَ الله تعالى عنهما (¬3). والذي عليه أمرُ الصحابةِ وسائرِ السَّلَف، واستقرَّ عليه أمرُ المسلمين تحريمُ رِبا الفَضل (¬4)؛ لثبوتِ ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رواية عمر، وأبي سعيد الخدريِّ، وعثمانَ، وأبي هريرةَ، وأبي الدرداء، وعبادةَ بنِ الصامت، وغيرهم -رضي الله تعالى عنهم-. روينا في "صحيح مسلم" عن أبي الأشعث الصَّنعْانيِّ قال: كُنا في غَزاةٍ علينا معاويةُ، فأصبنا ذهبًا وفضةً، فأمر معاويةُ رجلًا أن يبيعَها الناسَ في ¬
أعطانهم (¬1)، فتسارع الناس فيها، فقام عُبادةُ بنُ الصامتِ، فنهاهم، فردُّوها، فأتى الرجلُ مُعاوية، فشكا إليه، فقامَ معاويةُ خطيبًا، فقال: ما بالُ رجالٍ يحدِّثونَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديثَ يكذبون عليه فيها، ولم يسمعوها؟ فقامَ عبادةُ فقال: والله لنحَدِّثَنَّ (¬2) عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن كرهَ معاوية، قال (¬3) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَبيعوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ، ولا الفِضَّةَ بالفضَّةِ، ولا البُرَّ بالبُرِّ، ولا الشَّعيرَ بالشَّعيرِ، ولا التَّمْرَ بالتَّمْرِ، ولا المِلْحَ بالمِلْحِ إلَّا مِثْلًا بمِثْلٍ، سَواءً بِسَواءً"، وفي بعض الروايات: "يَدًا بيِدٍ، عَيْنًا بِعيْنٍ"، وفي بعض الروايات: "فَمَنْ زادَ أَوِ اسْتَزادَ فَقَدْ أَرْبى"، وفي بعض رواياته: "فَإِنِ اخْتَلَفَتْ هذهِ الأصنافُ (¬4)، فَبيعُوا كيفَ شِئْتمُ، إذا كانَ يَدًا بِيدَ" (¬5). فنصّ في حديث عبادة -رضي الله تعالى عنه- على ستة أعيان، فحرم فيها النَّساءَ تحريمًا مطلقًا، وحرم فيها التفاضُلَ إذا اتفقَ الجنسانِ، وأحلَّه إذا اختلف الجِنْسان. وعلى هذا اتفق أهلُ العلم، إلا ما حكيَ عن ابنِ عُلَيَّةَ أنه قال: إذا اختلفَ الصِّنفانِ، جاز التفاضُلُ والنسيئةُ، ما عدا الذهبَ والفضةَ في النسيئة (¬6). ¬
وقد اتفق أهلُ العلم على العمل بحديث عبادةَ، إلا ما ذهب إليه مالكٌ، والليثُ، والأوزاعيُّ، ومعظمُ علماءِ المدينة والشام: أن البُرَّ والشعيرَ جنسٌ واحدُ، فلا يجوز فيهما التفاضُلُ (¬1). واحتج بعَمَل أهل المدينة (¬2). وفي بعض رواياتِ حديثِ عبادة: "فَبِيعُوا الذَّهَبَ بالفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ، والبُرَّ بالشَّعيرِ كَيْفَ شِئْتُمْ"، وصححها التِّرمذيُّ (¬3). * ثم اختلف أهلُ العلم. - فمنهم من قَصَرَ صِنْفَيِ الربا الفَضْل والنسيئة على هذه الأعيان الستة، ولم يُلْحِقْ بها غيرَها، فمهما اتفقَ الجنسان، حَرُمَ الفضلُ والنسيئةُ، ومهما اختلف الجنسانِ، حَرُمَ النسيئةُ، وجازَ الفضلُ. وبهذا قال أهلُ الظاهر (¬4)، وذلك لمنعهم القولَ بالقياس. ¬
- وذهب الجمهورُ إلى إلحاق غيرها بها (¬1)، فنظروا في الأعيانِ الستةِ، فوجدوها ترجعُ إلى شيئين: نَقْدٍ وغيرِ نقدٍ. واختلفوا في عِلَّةِ النقدين. - فذهبَ مالك والشافعيُّ إلى أن علةَ صِنْفي الربا فيهما كونُهما قيمَ الأشياء، فمعناهُما قاصر عليهما لا يتعدَّاهما، بل يمنع أن يلحقَ بهما غيرُهما (¬2). - وذهب أبو حنيفةَ إلى أن علةَ الربا كونُهما موزونَيْنِ (¬3)، فلا يجوز التفاضُلُ ولا النساء في مُتَّحِدِ الصنفِ، كالحديد بالحديد، ولا يجوز النَّساءُ في مختلف الصنف؛ كالحديد بالرصاص وإن جاز التفاضل، إلا في الذهب والفضة مع غيرهما، فإنه يجوز فيهما النَّساء والتفاضُل، لانعقاد الإجماع على جواز إسلامهما في غيرهما من الموزونات، فالمعنى عنده متعدّ، لكنه مخصوصٌ. ثم اختلفوا في علة غيرِ النَّقْد. - فقال سعيدُ بن المسيِّب: لا ربا إلا في ذهب أو فضة، أو ما يكال أو يوزَن ممّا يؤكل أو يشرب (¬4)، فجعل العلةَ في النقدين قاصرةً، والعلةَ في غيرهما معتبرةً بوصفين: الطُّعْم مع الكيل أو الوزن. ¬
وبه قال أحمدُ، والشافعيُّ في القديم (¬1). - وقال الشافعي في الجديد: العِلَّةُ لِصِنْفَي الربا من الفَضْلِ والنسيئةِ، وَصْفٌ واحدٌ، وهو الطُّعْمُ فقط (¬2)، فتعدَّتْ علتُه إلى المطعوم الذي لا يُكال ولا يوزن، واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَبيعُوا الطَّعامَ بالطَّعامِ إلا مِثْلًا بمِثْل" (¬3)، فعلق الحكم باسم الطعام، فدل على أنه علَّة الحكم. - وقال أبو حنيفة: العلة لصنفي الربا وَصْفٌ واحدٌ، وهو الكَيْلُ (¬4). ويدل له ما روي في حديث عبادة -رضي الله تعالى عنه-: "والبُرَّ بالبُرِّ كَيْلًا بِكَيْلٍ، والشَّعيرَ بالشَّعيرِ كَيْلًا بكَيْلٍ" (¬5) وقولُ عمرَ -رضي الله تعالى عنه-: الدينارُ بالدينارِ، والدرهُم بالدرهمِ، والصَّاعُ بالصَّاع (¬6). - وأما مالكٌ، فجعل الطُّعْمَ عِلَّةً لتحريم النَّساء، وجعلَ القوتَ والادِّخارَ علةً للتفاضُل، فإذا اتحد الصنفُ المُقتاتُ، حَرُمَ فيه صِنْف الربا من الفَضْل والنسيئة، وإذا اختلفا، جاز فيه (¬7) التفاضلُ، وحَرُمَ النَّساءُ، وإذا اتَّحَدَ الصنفُ من المطعومِ غيرِ المُقْتاتِ كالفاكهة، حَرُمَ النَّساءُ، وجازَ التفاضُلُ (¬8). ¬
ولم يتبين (¬1) لي دليلُ التفرقة بين صِنْفَي الربا (¬2). * وبيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن التفرُّقَ من المجلس قبل القَبْض في معنى (¬3) النَّساء. روينا في "صحيح البخاري ومسلم" عن عمرَ بنِ الخطابِ -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذَّهَبُ بالوَرِقِ رِبًا، إلا هاء وهاء، والبُرُّ بالبرِّ ربًا، إلا هاءَ وهاءَ، والشَّعيرُ بالشَّعير رِبًا، إلا هاءَ وهاءَ" (¬4). ¬
واقتصرت على هذا القدر، فإنه كافٍ في معرفة أصول الربا، وهو اللائق بكتابي هذا. * وفي الآية دليل على أن من استحل ما حَرَّمَ اللهُ سبحانه ممَّا اتفقتْ عليه الأمةُ، وشاع تحريمُه فيها: أنه يكفُر بذلك (¬1)، وهو قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275]. ولا يخلد في النار إلا من هو كافرٌ (¬2). * وفيها دليل على أنه إذا استحل ذلك جاهلًا، فلا يَكْفُر؛ فإن الخطابَ يدلُّ على أن من لم تأتِهِ موعظةٌ من ربه، فلا حَرَجَ عليه. * * * ¬
وجوب ترك التعامل بالربا
(وجوبُ تركِ التَّعامُل بالرِّبا) 54 - (54) قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]. * المراد بالربا هنا هو ربا الجاهلية. روى جابرٌ -رضي الله تعالى عنه-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته بعرفات: "وربا الجاهِليةِ مَوْضوعٌ، وأَوَّلُ رِبًا أضعُه رِبا العَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ، فإنَّهُ مَوْضوعٌ كلُّه" (¬1). وكان من ربا الجاهلية أن يكونَ للرجل على الرجل الدَّيْنُ، فَيَحُلُّ الدَّيْنُ، فيقولُ له صاحبُ الدَّيْنِ: تقضيني (¬2) أو تُرْبي؟ فإنْ أَخَّرَه، زاد عليه وأَخَّرَهُ (¬3)، فَأبطلهَ اللهُ سبحانه، وردَّ الناسَ إلى رؤوس أموالهم، فإن كانت باقية بعينها أخذوها، وإن كانت تالفةً أخذوا من الغريم عِوَضَها إن كان موسِرًا، وإن كان ذا عُسْرَةٍ وجب إنظارهُ إلى مَيْسَرَةٍ، وحَرُمَ مطالبتُه وملازمته ¬
البَتَّة (¬1)، والصَّدَقَةُ أفضلُ من الصَّبْر، قال الله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]. وقد اتفق المسلمون على إبطال هذا الربا كما أبطله اللهُ سبحانه (¬2)، وأنا أظنه أنه المَعْنِيُّ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الرِّبا النَّسِيئةُ" (¬3)؛ أي: معظمُ الرِّبا وأَغْلَظُه (¬4)؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحَجُّ عَرَفَةُ" (¬5). ونكتةُ التحريمِ أنَّ المُرْبيَ جعلَ للزمانِ عِوَضًا منَ المالِ، فَحَرَّمَ الشرعُ أن يُقابَلَ الزمانُ بعوضٍ في عَقْدٍ ابتداءً، وإن جازَ أن يُقابل به تَبَعًا؛ كما إذا باعه سِلْعةً تساوي ألفًا ناجزًا بألفين نَسيئةً (¬6). ¬
* واختلفَ أهلُ العلم في قول المديونِ لصاحبِ المالِ: ضَعْ من مالِك، وتعجل قبل الأَجَلِ. - فمنعه قومٌ؛ لأنه جعلَ للزمانِ عوَضًا من المال، فهو كما لو أَخَّرَ عليه الأجلَ، وزادَه في المال. وجوَّزه ابنُ عباس -رضي الله تعالى عنهما-، ومالكٌ، وزُفَرُ، وبعضُ الشافعية (¬1). واحتجوا بما روى ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما أَمَر بإخراج بني النَّضيرِ، جاء ناس منهم فقالوا: يا نبيَّ الله! إنك أمرتَ بإخراجِنا، ولنا على الناس ديونٌ لم تَحُلَّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضَعُوا وتَعَجَّلُوا" (¬2). * * * ¬
المداينة
(المُداينة) 55 - (55) قولُه عَزَّ وجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)} [البقرة: 282]. أقول: * أحَلَّ اللهُ سبحانَهُ المُدايَنَةَ إلى أَجَل مُسَمًّى. والمداينةُ من الدَّيْنِ المُفاعَلَة (¬1)، وهي اسمٌ لكل دَيْنٍ في الذِّمَّةِ، فيدخلُ ¬
في ذلك بيعُ السِّلْعَةِ المُعَيَّنَةِ بثمنٍ إلى أجلٍ مُسَمًّى، وبيعُ السلعةِ في الذمةِ إلى أجل مُسَمًّى، وهو السَّلَمُ والسَّلَفُ (¬1). وقد بين ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أنه (¬2) مرادُ الله سبحانه، فقال: أشهدُ أن السَّلَفَ المضمونَ إلى أجل مُسَمًّى قد أحلَّه اللهُ في كتابه، وأَذِنَ فيه، ثم قرأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬3) [البقرة: 282]. ¬
* وقد اتفقَ على جواز السَّلَمِ جميعُ أهلِ العلم (¬1)؛ لثبوته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة، وهم يُسْلِفون في التَّمْرِ السنةَ والسنتينِ، وربما قال: السنتينِ والثلاثَ، فقال: "مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ في كَيْلٍ مَعلوم ووَزْنٍ مَعْلومٍ إلى أَجَلٍ مَعْلومٍ" (¬2). فإن قيل: فقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لحَكيم بنِ حزامٍ: "لا تَبعْ ما لَيْسَ عِنْدَكَ" (¬3). قلنا (¬4): يحتمل أن يكون المعنى: لا تبعْ ما ليس عندك، أي: ما ليسَ مُلْكَكَ، ويحتمل أن يكونَ المعنى: ما ليس عندك، أي: ما كان غائبًا عنك؛ مِمَّا ليسَ يُسْلَمُ (¬5)، ويكون الحديثُ مرتبًا على الآية، ومخصوصًا بها. ¬
وبيَّن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يجبُ إحضار الثمنِ (¬1) المُسْلَفِ، فنهى عن بيع الكالِئِ بالكالِئِ (¬2)، وعلى هذا أيضًا أجمعَ أهلُ العلم (¬3). * وفي الآية تنبيهٌ على أنه لا يجوز المداينةُ إلا إلى أجل مُسَمًّى، فأما الأجلُ المجهولُ، فلا يُكْتَبُ؛ لعدم صِحَّته؛ لما فيه من الغَرَرِ العظيم، وعلى هذا اتفق أهلُ العلم (¬4). * وإنَّما اختلفوا في التوقيتِ بالأوقاتِ المعلومةِ الوقتِ، المجهولةِ المقدارِ (¬5)؛كالتأجيل بالحَصاد والعَطاء والمَوْسم، فمنعه أبو حنيفةَ والشافعيُّ (¬6)، وجَوَّزَه مالكٌ (¬7)، ورأى غَرَرَهُ يسيرًا؛ كنقصان الشهور. ¬
* وأمر الله سبحانه بكتابةِ الدين إلى أجل مُسَمّى: 1 - فتركه قومٌ على ظاهره، وحملوه على الوجوب والحَتْم، فيجب (¬1) على من له أو عليه الدين أن يكتبَهُ إذا وجدَ كاتبًا، وأن يُشْهِدَ؛ لقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [البقرة: 282]، ولقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282]، فلما رخَّص في ترك (¬2) الكتابة عند حضورِ التجارةِ برفع الجُناح، دلَّ على أن الأمر على الحَتْم (¬3). ثم اختلف هؤلاء: فقال قومٌ: الحتمُ منسوخ بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]، وحكى هذا مَكِّيُّ بنُ أبي طالبٍ عن الحسنِ والحكمِ والشعبيّ ومالك (¬4). وروي أن أبا سعيد الخدريَّ تلا: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} حتى بلغ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [البقرة: 282 - 283] الآية، فقال: هذه الآيةُ نسختْ ما قبلها (¬5). ¬
- وقال قومٌ: الأمرُ محكَمٌ غيرُ منسوخ بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}؛ لأنه إنما ذلك عندَ عدمِ الكاتبِ والشهودِ في السفر. وحكى هذا القولَ مكيُّ بنُ أبي طالبٍ عن ابنِ عمرَ، وابن عباسٍ، وأبي موسى، وابنِ سيرينَ، وأبي قِلابةَ، والضحاكِ، ومجاهدٍ، والشعبيِّ، وبه قال داودُ والطبريُّ (¬1). 2 - وقال أكثر أهل العلم: الكتابةُ والإشهادُ بالدَّيْنِ غيرُ واجبَيْن، ورُوِي (¬2) عن ابن عباس أيضًا، والأمر في ذلك على النَّدْبِ والإرشادِ (¬3). والدليلُ على ذلكَ: قولهُ تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا}، وهذا إرشاد إلى دفع التظالم، وحفظ المال، وعدم الرِّيْبَةِ في حفظِه بالشهادةِ، وتقويم الشهادة على وجهها، وقوله تعالى: ¬
{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}. والجوابُ عَمّا قاله الأولون (¬1): أن الأمر بالرهن عند عدم الإشهاد محمولٌ على الندب والإرشاد أيضًا لأصحاب الأموال إلى حفظ أموالهم، فهو كالكتابة (¬2)، وأما حصولُ الجُناح إذا لم يُكْتَبْ، فليس على حقيقته، بل قد يُستعمل الجُناح في تركِ قبول الإرشاد (¬3)، كما يقول القائل: إن قبلتَ مشورتي فلا جناح عليك، ومفهومه إنْ تركتَ قبولَها فعليك الجُناح. فإن قلتم: هل (¬4) نجد على هذا دليلًا من السُّنَةِ غيرَ هذا؟ قلت: نعم، روي أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ابتاعَ فَرَسًا من أعرابيٍّ، فاستتبعَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليقضيَه ثمنَ فرسِه، فأسرعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبطأ الأعرابي، فطفقَ رجالٌ يتعرَّضونَ للأعرابيِّ، فيساومونه بالفَرَسِ، لا يشعرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاعه، فنادى الأعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن كنتَ مُبتاعًا هذا الفرسَ، وإلا ¬
بعتُهُ، فقال (¬1) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَليسَ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ؟ "، فقال الأعرابي: لا واللهِ ما بعتُكهُ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "بَلْ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ"، فطفق الأعرابيُّ يقول: هَلُمَّ شهيدًا، فقال خُزَيْمَةُ: أنا أشهد أنكَ قد بايعته، فأقبل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على خزيمةَ وقال: "بمَ تَشْهَدُ؟ " فقال: بتصديقك يا رسول الله! فجعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شهادةَ خُزَيْمَةَ شهادَةَ رجلين (¬2). فلو كان الإشهادُ واجبًا، لما بايع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من غيرِ شهود، ولَبَيَّنَ ذلك بفعله. * ثم كرر اللهُ سبحانه الأمرَ بالكتابة، ونهى الكاتبَ عن الامتناع من أن يكتبَ كما علَّمه الله، فقال: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ}. ولا يخفى أن القيامَ بالكتابة للصُّكوك وحفظ الحقوق فرضٌ على الكفاية؛ كالقيام بالشهادة (¬3)، وقد جعلها الله سبحانه قرينةً للشهادة، وإن ¬
كانتِ الشهادةُ آكَدَ؛ بدليل شَرْطِيتِها في النِّكاح، وبأنه يجبُ على الحاكم الإشهادُ بما تقرر عنده من الحقّ. * وفي وجوبِ الكتابة خلافٌ، والأَصَحُّ عند الشافعية عدمُ الوجوب (¬1). * وأوجب اللهُ سبحانَه على الكاتبِ العدلَ فيما يكتبُ (¬2)، وبيَّنَ اللهُ سبحانه طريقَ العدل، فأمر الرشيدَ الكاملَ أن يُمْلِيَ بنفسِه {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}، وأمر الوليَّ أن يُمِلَّ عن المُوَلَّى عليه إذا كان سفيهًا مبذِّرًا مفسِدًا للمال، أو ضعيفًا غبيًّا أَحْمَقَ، أو لا يستطيع الإملاء؛ لجنونٍ أو صِغَرٍ أو عِيٍّ (¬3)، وأقام القَيِّمَ عليهم مقامَهم. ¬
* وهذا الخطابُ ظاهرٌ في أن السفيهَ الذي لا يصلح للمال يكونُ أَمْرُهُ إلى وَلِيِّه، وأنه يَرِدُ عليه الحَجْرُ بعدَ البلوغ، إما ابتداءً، أو دواما مع حَجْر الصِّبا. وبهذا قال مالك والشافعيُّ، وهو قولُ ابنِ عباس وابنِ الزبير -رضي الله تعالى عنهم (¬1). وذهب أبو حنيفةَ وجماعةٌ من أهل العراق إلى أنه لا يبتدأ عليه الحَجْرُ بعدَ البلوغ رشيدًا، وإن بذَّرَ (¬2). ¬
واستدلوا بحديث حَبَّان بنِ مُنْقِذٍ، وكان يُخْدَعُ في البيع والشراء، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُلْ: لا خِلابةَ، وأَنْتَ بالخِيار ثَلاثًا" (¬1)، ولم يمنعْه من التصرُّف (¬2). وسيأتي الكلام على استدامةِ الحَجْر على السفيه في أوائل "سورة النساء" -إن شاء الله تعالى-. * ثم أمرنا الله سبحانه بالاستشهاد (¬3)، وبيَّنَ لنا صفتَهُ، فقال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}. وقد اشتملت هذه الجملة على ثمانِ مسائلَ: الأولى: الأمرُ بالاستشهاد (¬4)، هل هو على الوجوب والحَتْم، أو على النَّدْبِ والإِرشاد؟ فيه ما مضى من الاختلاف في الكتابة. الثانية: تخصيصُ الشهادةِ برجالنا يقتضي أنه لا يجوزُ شهادةُ غيرِ رجالنا. * وقد اتفقَ أهلُ العلم على أن شهادةَ الكافر غيرُ جائزة في الديونِ والمعاملاتِ (¬5). ¬
لكنهم اختلفوا في جوازِ شهادةِ أهل الذمَّةِ على مثلهم. فأجازها شُرَيْحٌ القاضي، ويروى عن عليٍّ -رضي الله تعالى عنه- (¬1). وكذلك (¬2) اختلفوا في قبولها في حقِّ المسلمين في الوصية في السفر خاصَّةً، وسيأتي ذكرُ ذلك في آخر "سورة المائدة" -إن شاء الله تعالى-. الثالثة: تخصيصُ الشهادة بالرجال، يقتضي أن الصبيانَ لا تجوزُ شهادتُهم. وعلى هذا اتفق أهل العلم إلَّا (¬3) في شهادةِ بعضِهم على بعضٍ في القتلِ والجراح. فإن ابن الزبير أجازه (¬4) ما لم يتفرقوا، وبه قال قومٌ من التابعين، وإليه ذهب مالكٌ (¬5). ¬
وردها ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-، روى ابنُ أبي مُلَيْكَةَ، عنِ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- في شهادةِ الصبيان لا تجوز؛ لأن الله سبحانه يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬1)، وبهذا أخذ الشافعيُّ -رضي الله تعالى عنه- (¬2). الرابعة: تخصيص الشهادة بالمَرْضِيِّ من الشهداء يقتضي أنه لا يجوز غيرُه. * وقد أجمع أهل العلم على قبول شهادة العدلِ؛ لهذه الآية، ولقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وعلى ردِّ شهادة الفاسق (¬3)؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]. * وإنما اختلفوا في تفصيل العدالة. - فذهب الجمهورُ إلى أنها امتثالُ أوامرِ الله عزَّ وجلَّ، واجتنابِ نواهيه (¬4). ¬
- وذهب أبو حنيفةَ إلى أنها ظاهرُ الإسلامِ ما لم يُعْلَمْ جَرْحُه وفِسْقُهُ (¬1). وهو محجوج بهذه الآية؛ لأن الله سبحانه شرطَ في الشهيدين من رجالِنا أن يكونا ممَّنْ نرضاهُما، والرضا صفةٌ زائدةٌ عليهما، فلا بدَّ من اشتراطها (¬2)، ثم ناقض أبو حنيفةَ أصلَه، وجَوَّزَ انعقادَ النكاحِ بشهادة الفاسِقَيْن (¬3)، وكان هذا أولى بعدم الجواز (¬4). الخامسة: تخصيصُ الشهادةِ بالرجلين، أو المرأتين مع الرجل يقتضي حَصْرَ الحُجَّةِ في ذلك، وأن اليمينَ مع الرجل الواحد لا يقوم بها الحقُّ. ¬
وبهذا قال أبو حنيفةَ وأصحابُه، والثوريُّ، والنخعيُّ، والأوزاعيُّ، والزهريُّ، والحَكَمُ، والليثُ، وأهلُ الأندلس من أصحاب مالكٍ، فلا يحكم بالشاهد واليمين عندهم في شيء (¬1). وعُمْدَتُهم هذا التقسيمُ المُؤْذِنُ بالحصر. وما خرَّجه البخاريُّ ومسلم عن الأشعثِ قال: كان بيني وبين رجلٍ خصومةٌ في شيء فاختصمنا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "شاهِداكَ أو يَمينُهُ"، فقلت: إذًا يحلفُ ولا يبالي، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ على يمينٍ يَسْتَحِق بِها مالًا، وهُوَ فاجِر، لقيَ اللهَ وهُوَ عَلَيْهِ غضْبانُ" (¬2). قالوا: ولا يجوزُ عليه - صلى الله عليه وسلم - ألاَّ يستوفي أقسامَ الحُجَّةِ للمدَّعي؛ لأنه وقتُ البيان (¬3). - وذهبَ جمهورُ أهلِ العلم من الصحابة والتابعين إلى إثبات الحقِّ ¬
بالشاهدِ واليمينِ في المال، وما يقصد به المالُ، فقال به أبو بكرٍ، وعليّ، وعمرُ بنُ عبد العزيز، وفقهاءُ المدينة، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وأبو ثورٍ، وسائرُ فقهاء الحجاز (¬1). واستدلُوا بحديثِ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- المُخَرَّجُ في "صحيح مسلم": أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد (¬2). وبما أرسله جعفرُ بنُ محمدٍ عن أبيه: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد (¬3). * ثم اختلف مالكٌ والشافعيُّ في القضاء باليمين مع الامرأتين: فجوزه مالكٌ؛ لأنهما قد أقيمتا (¬4) مقام الرجل الواحد (¬5)، ومنعه الشافعيُّ (¬6)، ورأى أنهما إنما أقيما مقامَ رجلٍ آخرَ؛ بدليل أنَّ الأربعَ لم يقمن مقامَ الرجلين (¬7). ¬
* فإن قيل: فترتيبُ المرأتين على الرجلين يقتضي أنه لا يجوزُ شهادةُ النساء إلا بعد عَدَمِ الرجال. قلت: قد قال بذلك قومٌ، والحقُّ الذي عليه الجمهورُ أن الشرطَ للتقسيم لا للترتيب، والمعنى: فإن لم تستشهدوا رجلين، فلتستشهدوا رجلًا وامرأتين، فقال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ}، ولم يقل: فإن لم تجدوا، ولو كان الترتيب مرادًا لقال: فإنْ لم تجدوا (¬1). * فإن قيل: إذا كان الشرطُ لبيان التقسيمِ لا للترتيب، فيجب ألَّا تكون حجة الرجلين أقوى من حُجَّةِ رجل وامرأتين. قلت: الأمرُ كذلك على المذهبِ الصحيح عند الشافعية (¬2)، لأنهما حجتان مذكورتان في كتابِ الله جل جلالُه، فلم تُسْقِط إحداهما الأخرى، بخلاف حجة اليمين مع الشاهد مع حجة الشاهدين، فإن حجة الشاهدين أقوى وأقدم؛ لذكرها في كتاب الله تعالى، والإجماع عليها دون الأخرى (¬3). ¬
السادسة: تعميم الخِطاب يقتضي أن العبيدَ تُقبل شهادتُهم، وبه قال محمدُ بنُ سيرين، وشُرَيْحٌ، وأهلُ الظاهر (¬1)؛ كما قالوا بدخول العبيدِ (¬2) في خطاب الأحرار. وروى ابنُ المنذر قبولَ شهادة العبيد (¬3) عن عليٍّ -رضي الله تعالى عنه- (¬4). وقاله أنسُ بن مالكٍ، وقال: ما علمتُ أحدًا ردَّ شهادةَ العبيد (¬5). والجمهورُ؛ كمجاهدٍ، والحسنِ، والنخعيِّ، والزهريّ، وعطاءٍ، وسائرِ فقهاءِ الأمصار على خلافهم، وروي عن علي -رضي الله تعالى عنه- (¬6). ¬
السابعة: تعميمُ الخطاب يقتضي قبولَ شهادة العدل معَ قيام التهمة؛ كشهادة الوالدِ لولده، والعدوِّ على عدوه، وبالتعميمِ قال داودُ، وأبو ثورٍ، وشريحٌ القاضي، فقبلوا شهادةَ الوالدِ لولدهِ (¬1)، والجمهورُ على خلافهم (¬2). * نعم اختلفوا في شهادةِ العدوِّ على عدوِّه، فقبلها أبو حنيفةَ (¬3)، وردَّها مالكٌ والشافعيُّ (¬4)؛ لما روى عمرُو بنُ شُعيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّهِ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ردَّ شهادةَ الخائنِ والخائنةِ، وذي الغِمْرِ (¬5) على أخيهِ (¬6). ¬
* واختلفوا في شهادةِ أحدِ الزوجين لصاحبه، فردَّها مالكٌ وأبو حنيفةَ (¬1)، وقبلها الشافعيُّ (¬2). * وأجاز قومٌ شهادةَ الزوجِ لزوجته (¬3)، ومنعوا شهادتَها له، وبه قال النخعي (¬4). الثامنة: وَرَدَ تحديدُ نصابِ الشهود في الزنا بأربعة في غير موضع من كتاب الله تعالى. وورد تحديدُه في التحليل والتحريم فيما لا مال فيه ولا يقصدُ به المالُ شاهدين، فقال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "لا نِكاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وشاهِدَيْ عَدْلٍ" (¬5). ¬
وورد تحديدهُ هنا برجلين، أو رجل وامرأتين، فالحق به أهلُ العلم كلَّ ما كانَ من بابِ الأموال (¬1)، حتى ألحق بها الجمهور إثباتَ القتلِ (¬2)، وألحقَهُ الحسنُ بالزنا، وجعلَ النصابَ فيه أربعةً (¬3). ومنع (¬4) الجمهورُ أن تُلحقَ الحدودُ بالمداينات (¬5)، وجوَّزها أهلُ الظاهر (¬6). فإن قلتم: فقد جعل الله سبحانه النصابَ في الوصية شاهدين (¬7)، وهو ¬
يقتضي المعارضةَ لآيةِ المداينات. قلت: لا تعارضَ بينهما؛ لأنها في إثبات الوصاية والولاية، وهي ليست من جنسِ الأموال والمداينات، ولأن آية الوصية نزلت في أمر مخصوص، وسيأتي الكلام عليها هنالك -إن شاء الله تعالى-. * ثم أجمع أهل العلم على أن شهادة النساء وحدهُنَّ في الولادةِ وعيوبِ النساء جائزةٌ (¬1). وإنما اختلفوا في نصابهنَّ، فقال الجمهورُ: أربعُ نسوة (¬2)، وأجاز بعضُهم شهادةَ المرأة وحدَها، واحتجَّ بأن علياً -رضي الله تعالى عنه- قبل شهادة القابلة وحدَها (¬3) (¬4)، ورُدَّ بأنه أثرٌ غيرُ ثابت عندَ أهل النقل. * قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}. - يحتمل أن يكون المرادُ إذا ما دُعوا لتحمُّل الشهادة؛ كقوله تعالى: ¬
{وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ}، وسُمُّوا شهداء تجوُّزًا باسمِ ما يؤولون إليه. والتحمُّل فرضٌ على الكفاية، فيجب (¬1) على المسلمين أن يتحمَّلوا الشهادة، فإن أَبَوا ذلك كلُّهم أَثِموا (¬2). - يحتمل أن يكون المراد: إذا ما دُعوا لأداءِ الشهادة، وذلك فرضُ عينٍ إذا كانوا اثنين (¬3)، وسُمُّوا شهداءَ على سبيلِ الحقيقة. قال الشافعي: وهذا أشبه معانيه (¬4)، والله أعلم. - ويحتمل أيضًا أن يريد المعنيين جميعًا، ويكون منْ بابِ حمل المُشْتَرَكِ على جميع معانيه. قال الحسن: جمعت هذه الآيةُ أمرين، وهُمَا: أَلَّا تأبى إذا دعيتَ إلى تحصيلِ الشهادة، ولا إذا دُعيتَ إلى أدائها، وقد حصلت عندك (¬5). وأسند النَّقاشُ هذا التفسيرَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬6). * قولُه تعالى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ ¬
أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا}، فيه دليل على أن الرجل لا يُرجع في الشهادة إلى خَطِّهِ ويُعتمدُ عليه إلَّا إذا تَيَقَّنَهُ، ولم يَرْتَبْ فيه؛ لأن الله سبحانه إنما ندب إلى الكتاب لإقامة الشهادةِ ودفعِ الرِّيْبَةِ. وعلى هذا جمهورُ أهل العلم. قال ابنُ المنذر: أكثرُ مَنْ نحفظُ عنه من أهلِ العلم يمنعُ أن يشهدَ الشاهدُ على خَطِّهِ إذا لم يذكر الشهادة (¬1). وذهب مالكٌ إلى جواز الشهادة اعتمادًا على الخَطّ (¬2). وروى ابن المبارك عن مَعمرٍ، عن ابنِ طاوس، عن أبيه: في الرجل يشهد على شهادة، فينساها، قال: لا بأس أن يشهد إن وجدَ علامتَهُ في الصَّكِّ، أو خطَّ يده، واستحسنه ابنُ المبارك (¬3). * قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا}، رفع الله سبحانه عنا الجُناح في هذه الآية إذا كانتِ الحالةُ هذه، ومفهومُ الخطاب أنَّ علينا الجُناحَ في غيرِ هذه الحالة إذا لم نكتب. وقد قدمتُ الجوابَ عن هذا. * ومفهومُ الخطابِ يقتضي أن التجارةَ الحاضرةَ إذا كانت لا تُدار بيننا؛ كالدُّورِ والضِّياعِ، ألا نتركَ الكتابةَ فيها، وأنها تلحقُ بالدَّيْن، وهو كذلك؛ ¬
لما فيه من حفظ الأموالِ والقلوبِ من التشاجرِ والتنازع (¬1). وروي أن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- كان إذا باعَ بنقدٍ أشهدَ، وإذا باعَ بنسيئةٍ كتب (¬2). * قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ}. أمر الله سبحانه بالإشهاد عند التبايع مرَّةً أخرى، وفيه ما مضى من الاختلاف. قال عطاء: أَشْهِدْ إذا بعتَ وإذا شَرَيْتَ (¬3) بدرهمٍ أو بنصفِ درهمٍ أو بثلثِ درهمٍ (¬4). وبه قال داودُ وابنهُ، ويروى عن أبي موسى الأشعري، وابنِ المُسَيِّبِ، والضَّحّاكِ، وجابر بنِ زيدٍ ومُجاهدٍ. وذهب جمهورُ أهلِ العلم إلى (¬5) أن الأمرَ للنَّدْبِ والإرشاد، لا للحتم، وقد مضى الدليلُ عليه قريبًا. * ثم نهى الله سبحانه عن مضار الكاتِب والشاهدِ، فقال: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ}. فيحتمل أن يكونَ إسنادُ الفعل إليهما حقيقةً، فيكون قد نهى الله سبحانه الكاتبَ والشهيدَ عن المضارَّةِ، وهو أن يزيدَ الكاتبُ في المالِ والأَجَل، أو ¬
ينقصَ منهما، أو أن يمتنع الشاهدُ من إقامةِ الشهادة، أو يشهدَ بما لم يُستشهدْ عليه. وهذا تأويل طاوسٍ، والحسن، وقَتادة، وابنِ زيد (¬1)، ودليلهُ قراءة عمرَ -رضي الله تعالى عنه-: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (¬2). - وروي عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- في هذه الآية قال: أن يجيء فيدعو الكاتبَ والشهيدَ، فيقولان: إنا على حاجة، فيضارَّ بهما، فقال: قد أُمِرْتما أن تجيبا، فلا يضارهما (¬3). وقيل: أن يُكَلَّفا ما لا يَحِلُّ (¬4)، ودليله قراءة أُبَيِّ: (ولا يضارَرْ) (¬5). ¬
الرهن
(الرَّهن) 56 - (56) قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283]. * أمر الله سبحانه بالرَّهْنِ وقَبْضِه عندَ عدمِ الكاتبِ في السفر. وعلى هذا اتفق أهلُ العلم (¬1). ولكنهم اختلفوا في شَرْطَيِ السفرِ وعَدَمِ الكاتب، هل جاءَ على التغليب؛ فإن السفرَ مَظِنَّةُ عَدَمِ الكاتبِ في الغالبِ، أو جاء على التقييد؟ - فذهب أهلُ الظاهر إلى أنهما للتقييد، ولا يجوز الرهنُ عندَ وجودِ الكاتب، ولا يجوزُ في الحضر (¬2). ¬
ويروى اشتراطُ السفر عن مجاهدٍ والضَّحّاك (¬1). - وخالفهم الجمهورُ في ذلك (¬2)، وتمسكوا بما وردَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَهَنَ في الحَضَرِ. وهذا يدلُّ على أنَّ الشرطَ للتغليب، وأنَّ ذِكْرَ هذهِ الخِصال: الكتابةِ والإشهادِ والرهنِ، على سبيل الإرشاد والحَزْمِ، لا على سبيل العَزْمِ، وإلَّا لَما جازَ الرهنُ في الحَضَر. * واتفق أهلُ العلم على اشتراط قبضِ الرهن (¬3)؛ لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}، فيصحُّ الرهنُ حيثُ يتصورُ القبضُ من المرتهن، ويبطُلُ حيثُ يمتنعُ القبضُ؛ كرهن المُصْحفِ والعبدِ المُسْلِمِ من الكافر (¬4)، حتى قال أبو حنيفة: لا يصحُّ رهنُ المَشاع (¬5)؛ لأنه لا يتصَوَّرُ عندَه قبضُه، وخالفه الشافعيُّ ومالكٌ (¬6). ¬
* ثم اختلفوا في وجه الاشتراط. - فذهب الشافعيُّ وأبو حنيفةَ وغيرُهما إلى أنه شرط في لزومِ الرهنِ وصحتِه (¬1). - وذهب مالكٌ إلى أن الرهنَ صحيحٌ لازمٌ، ولكنه لا يتمُّ إلا بالقبض، فيُجبر السلطانُ الراهنَ على الإقباض عندَ الامتناع (¬2)، وهو خلاف الظاهر. قال الشافعي: لم يجعل الله تعالى الحكم إلا برهن موصوف بالقبض، فإذا عُدمت الصفةُ، وجب أن يعدم الحكم (¬3). ثم عمل مالكٌ بظاهر الآية، فأوجب استدامةَ القبضِ، فمتى خرجَ إلى يدِ الراهن بعاريَّةٍ أو غيرها، خرج الرهنُ عن اللزوم (¬4). ولم يشترطِ الشافعيُّ استدامةَ القبض (¬5). ¬
* ويستنبطُ (¬1) من الآية أن صاحبَ الدَّينِ إذا لم يكن له شاهدٌ أنه يجوزُ له أخذُ حقِّه من الرهنِ من غيرِ إذن السلطان، سواءٌ كان الرهن من جنس حقِّه، أو من غيرِ جنس حقه؛ إذ هو فائدة الرهن، لا فائدة له في هذا المكان غير الاستيفاء (¬2). * إذا تمَّ هذا، فقد ذكر الله سبحانه الرهن في آية المُداينة، ووصله بدين السَّلَم، وألحقَ أهلُ العلم بدين السّلَم كلَّ دينٍ ثابت في الذمة (¬3)، إلا أهلَ الظاهر، فإنهم خَصُّوا جوازَ الرهنِ بدين السَّلَم (¬4)، وذلك لمنعهم القياس. * * * ¬
سورة آل عمران
سُورَةُ آلَ عِمْرَانَ
النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء
(النَّهي عن اتخاذ الكافرين أولياء) 57 - (¬1) قوله عَزَّ وجَلَّ: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28]. * نهى الله سبحانه المؤمنين أن يتخذوا الكافرين الذين هم أعداءُ الله أولياءَ أصدقاءَ وأَخِلّاءَ وأنصارًا وحلفاءَ من دون المؤمنين، في هذه الآية، وفي آيات كثيرة من كتابه العزيز، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] الآية، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} [التوبة: 23] الآيتان. * ولم يُحِلَّ اللهُ تعالى ولايةَ المؤمنينِ للكافرين إلا في حالةٍ واحدةٍ، وهو أن يَتقوا منهم تُقاةً، فيخافوا من كيدهم إن لم يُوالوهم، وهذا من لطف الله سبحانه بالمؤمنين، فما جعل عليهم في الدين من حَرَج (¬2). ¬
وسيأتي -إن شاء الله تعالى- بيانُ الإكراهِ وأحكامُهُ في "سورة النحل". وبين الله سبحانه الولايةَ التي نَهى الله عنها في "سورة المودَّة" (¬1)، وبين ما يَحِلُّ منها، وما يَحْرُمُ، وسيأتي الكلام على ذلك هناك -إن شاء الله تعالى-. * * * ¬
فرض الحج
(فَرضُ الحجِّ) 58 - (2) قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]. أقول: * أوجب الله سبحانه في هذه الآية على الناس حَجَّ البيتِ (¬1). ولا خَفاءَ في (¬2) أنه ركنٌ من أركان الإسلام، فمن جحدَ وُجوبَهُ فهو كافرٌ مرتَدٌّ (¬3)؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: المعنى: ومَنْ كفر بفَرْضِ الحج، ولم يَرَهُ واجبًا (¬4). ¬
ويؤخذ من هذا (¬1) أن كُل من جَحَدَ حُكْمًا معلومًا من (¬2) دينِ الله ضَرورةً، فهو كافرٌ. وأما من ترك الحجَّ مع الاستطاعةِ تَهاوُنًا أو بُخْلًا أو تسويفًا، فهو عاصٍ بفعله، وليس بكافرٍ، بإجماع المسلمين، إلا الحسنَ؛ فإنه قال بتكفيره (¬3)، واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَلَكَ زادًا وراحِلَةً تُبْلِغُهُ إلى بَيْتِ اللهِ، ولم يَحُجَّ، فَلا عليهِ أَنْ يَموتَ (¬4) يَهودِيًا أو نَصْرانِيًا، وذلك لأن الله سبحانه يقول في كتابه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} " (¬5). وأجيبَ عن الحديث بأنه ضعيف، وإن صحَّ فهو متروكُ الظاهر، ¬
محمولٌ على الغالب؛ فإن المؤمن إذا استطاع الفريضةَ لا يترُكها، ولا سيما إذا كانتْ من دعائمِ الإسلامِ، إلا إذا اتصف باليهودية والنصرانية من عدم الإيمان، منافقًا بالإسلام، وقد كان المؤمنون في العصرِ الأول خيرُهم محضٌ، إلا المنافقين؛ فإنهم يشوبون الحقَّ بالباطل، فجعلَ تَرْكَ الحجِّ عنوانًا لهم، وخَصَّ اليهود والنصارى بالذكر؛ لأنهم لا يُعَظِّمونَ المسجدَ الحرامَ، وإنما يعظِّمونَ المسجدَ الأقصى خاصَّةً، بخلاف مشركي العرب. * وذكر الله سبحانه في هذه الآية الحَجَّ مُجْمَلًا، وذكر أركانَهُ مفرَّقَةً. فقال سبحانه وتعالى في الإحرام: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} [البقرة: 197]. وقال في الطواف: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]. وقال في السعي: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]. وقال في الوقوف: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]. وبين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كيفية هذه الأركان، ومواقيتَها وواجباتِها ومسنوناتِها، وما يحلُّ في الحج وما يحرُم. ثم خصَّ اللهُ سبحانه عمومَ أولِ الآية في آخرِها، فشرطَ الاستطاعةَ في وُجوبِ الحج؛ لطفًا بعباده، ورحمة لهم؛ لأنه يجمع فيه مشقة الأبدان، وبذل الأموال. والاستطاعةُ تقع على حالين: استطاعة مباشرة، واستطاعة نيابة. فأما المباشرة، فقد اتفق عليها أهلُ العلم، واختلفوا في تفصيلها،
فخصها الشافعيُّ وأبو حنيفةَ وأحمدُ بالزاد والراحلة (¬1)، ولم يوجبوا الحج على المستطيع بالمشي، أو بالاكتساب في الطريق؛ لما روى ابنُ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما- قال: قام رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما يوجبُ الحَجَّ؟ قال: "الزاد والراحلة" (¬2)، خَرَّجَهُ الترمذيُّ وحَسَّنه. وعمَّمَ مالكٌ وُجوبَ الحَجِّ على كل مستطيع بالقوةِ والاكتساب، ولو بالسؤال (¬3)، وتمسَّكَ بعُموم الآيةِ، وجعله مخصِّصا لعُموم الحديثِ، فخصَّه بمنْ لا يستطيع المشيَ أو الاكتسابَ؛ بدليلِ عموم قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. وهذا ضعيف؛ فإن العُمومَيْنِ إذا تعارضا، وأمكن أن يُخَصَّ بكل واحدٍ منهما عُمومُ الآخر، لم يجز أن يخص بأحدِهما الآخرُ إلا بدليلٍ آخر، ¬
والأولى أن يخصَّ بالحديث عمومُ الآية؛ لأنه لو كان الزادُ والراحلة مختصين بغير المستطيع، لبيَّنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ السؤال، لأن تأخير البيان في هذه الحالة غيرُ جائز. ولهم أن يقولوا: الحديثُ ضعيفٌ عندُ جمهورِ أهل العلم بالحديث، فتضعفُ معارضتهُ لعمومِ الآية. ويحكى القولُ بمثل مذهبِ مالك عن عبد الله بن الزبير، والشعبيِّ. وقال الضحاك: إن كان شابًا قويًّا صحيحًا، ليس له مال، فعليه أن يُؤَاجِرَ نفسَهُ بأَكْلِهِ أو عَقِبهِ (¬1)، حتى يقضيَ حَجَّهُ، فقال له مقاتل: كلفَ اللهُ الناسَ أن يمشوا إلى البيت؟، فقال: لو أن (¬2) لبعضِهم ميراثاً بمَكَّة (¬3)؟ أكانَ تارِكَهُ؟ بل ينطلقُ إليه ولو حَبْوًا، كذلك يجبُ عليه الحجُّ (¬4). وقولُ الشافعيِّ وأبي حنيفةَ عندي أولى؛ لوجوه: أحدها: لما فيه من التيسير والسماحة الموافق لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، ولقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثْتُ بالحنيفيةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَة" (¬5). ¬
ثانيها: فتوى ابنِ عباس وابنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنهم-، وهي مقبولة في مثل هذا المَقام التعبديِّ اتفاقًا. ثالثها: موافقة سائر أصول العبادات؛ كالطهارة والصلاة والصيام؛ فإن المشاقَّ والسَّفرَ يبيح فيها التأخير والتخفيف. 2 - وأما استطاعة النيابة، وذلك في حقِّ المعضوب (¬1) إذا وجد قريبًا أو أجيرًا يحج عنه، وفي حقِّ المَيِّتِ إذا مات وقد وجب عليه الحجُّ. - فأوجب الشافعيُّ معها الحج (¬2)؛ لبيان النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. روينا في "صحيح البخاري" عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما - قال: جاءت امرأةٌ من خَثْعَمٍ، فقالت: يا رسول الله! إن فريضةَ الله على عباده في الحجّ أدركَتْ أبي شيخًا كبيرًا، لا يَثْبُتُ على الراحلة، أَفَأَحُجُّ عنه؟ قال: "نعم"، وذلك في حجة الوداع (¬3). ¬
وروينا فيه -أيضًا- عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما -: أن امرأة من جُهينةَ جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إنَّ أمي نذرت أن تحجَّ، فلم تَحُجَّ حتى ماتَتْ، أفأحجُّ عنها؟ فقال: "حُجِّي عَنْها، أَرَأَيْتِ لَوْ كانَ على أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللهَ؛ فإنَّ اللهَ (¬1) أَحَقُّ بالوفاء" (¬2). - وقال مالكٌ وأبو حنيفةَ: لا يجبُ الحَجُّ على المستطيع بغيرهِ (¬3)؛ أخذًا بالقياسِ على سائر الأصولِ في منع النيابة في العبادات، والخبرُ مخصوصٌ بحالةِ الموتِ، ومقصورٌ عليها؛ ولأن الخبرَ إذا خالفَ القياسَ أو قياسَ الأصول، فهو مردودٌ عندَ أبي حنيفةَ ومالكٍ (¬4). واختلف قولُ الشافعيِّ -رضي الله تعالى عنه- في جواز النيابة في حَجِّ ¬
التطوُّعِ، والأصحُّ الجواز (¬1). * وفي الآيةِ عندي دليلٌ على وجوب الحَجِّ على الكافرِ المستطيعِ؛ لتناولِ العُموم له، وظهوره فيه، وتعقيبه بقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. وقد قدمت الخلاف فيه في مقدمة هذا الكتاب، والصحيحُ وقوعُ التكليفِ عليه (¬2)، ولا خلافَ بينَ أهلِ العلم أنَّ الإسلامَ شرطٌ للصحة، وإن اختلفوا في كونِه شَرْطًا للوجوب؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، فخطابه سبحانه بكونه غنيًا عن عباده في مَعْرِضِ الإهانةِ والتوبيخ دليلٌ على بطلانها (¬3). * وتمسكَ بعضُ أهل الظاهر في وجوب الحجِّ على العبد بالآية (¬4)، وخالفهم (¬5) عامة أهلِ العلم؛ لأنه غير مستطيع، بدليل قوله: {لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75]، وللإجماع (¬6). ¬
* ولا خلافَ في تناولِ العمومِ للمرأة الحرَّة (¬1)، وإنما اختلفوا في حقيقةِ استطاعتها. - فجعل مالكٌ والشافعيُّ -في أحد قوليه- استطاعَتَها كاستطاعة الرجل، فيجب عليها الحجُّ إذا وجدت رُفْقَةً تأمنُ معها على نفسها (¬2). - وشرطَ أبو حنيفةَ وأحمدُ للوجوب مصاحبةَ زَوْجٍ أو مَحْرَمٍ (¬3)، واحتجوا بما رويناه في "صحيح البخاري" من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ بالله واليومِ الآخِرِ أنْ تسافرَ مسيرةَ يومٍ إلا مع ذي مَحْرَمٍ" (¬4). ويظهر ترجيحُ قولِ مالكٍ وصاحبه؛ لأن الدليلين إذا تعارضا، وكان كلُّ واحد منهما عامًّا من وجه، وخاصّا من وجه، وأمكن أن يخصَّ بكل واحد منهما عمومُ الآخر، كان الحكم للدليل الخارجي. وبيان ذلك أن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} عامٌّ في الرجال والنساء، ¬
وقوله تعالى: {حِجُّ الْبَيْتِ} خاص في السفر الواجب إلى البيت، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة" خاصٌّ بالنساء، وقوله: "أن تسافر مسيرة يوم" عامٌّ في سفرِ الحج وغيره، فيفزع الناظر حينئذ إلى الأدلة الخارجة؛ إذ ليس أحدُ التخصيصين أولى من الآخَرِ. فنظرنا فوجدنا حديثًا رواه عديُّ بنُ حاتمٍ -رضي الله تعالى عنه-: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَتوشِكُ الظعينةُ (¬1) أن تَخْرَجَ مِنْها- أي: الحِيْرةِ (¬2) - بغير جِوارٍ حَتَّى تَطوفَ بالكَعْبَةِ"، قال عديٌّ: فلقد رأيتُ الظعينةَ تخرجُ من الحيرةِ حتى تطوفَ بالكعبةِ بغير جوارٍ (¬3). وتأوله مخالفُهما على أن ذلك شرطٌ للجواز، لا للوجوب، والمعنى يردُّ هذا التأويلَ؛ لأنه إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سفرها بغير محرم؛ للخوفِ عليها، فإذا أمنتْ على نفسها، وزال خوفُها، جاز لها السفرُ، ووجب عليها الحجُّ. فإن قلت: فما حكمُ السفر الجائزِ عندَ الأمنِ، هل يكونُ كسفرِ الحجِّ الواجبِ أو لا؟ ¬
قلت: قد سوى بعضُهم بينهما، فجوَّزَ لها السفرَ عندَ الأمنِ (¬1). وجمهورُ أهل العلمِ على إيجاب المَحْرَمِ في السفرِ الجائزِ دون السفرِ الواجبِ؛ جمعًا بين الآية والأحاديث (¬2). وادعى القاضي عياضٌ الاتفاقَ عليه (¬3). وأما سفرُ الهجرةِ فيجبُ على المرأةِ بكلِّ حالٍ؛ لما في الوقوف من فساد الدينِ (¬4)، والله أعلم. * وخص الله سبحانه الوجوبَ بالحجِّ، وأطلقهَ، فبيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "إنَّهُ لِلأبَدِ" (¬5)، فلا يجب أكثر من مرة، وذلك إجماع (¬6). وبَيَّنَ بفعلِه أن وجوبَهُ على التراخي؛ لأنه لم يحجَّ إلا بعد سنتين من ¬
فريضة الحج، ولو كان تأخيرُه لعذرٍ، لَبَيَّنَهُ ونُقِل إلينا، وبه أخذ الشافعي (¬1)، واختلف قولُ مالكٍ وأبي حنيفة. والصحيحُ عند الحنفيةِ أنه على الفَوْرِ (¬2). والصحيحُ عند متأخري المالكية أنه على التراخي (¬3). وأما تخصيصُ الوجوب بالحجِّ دون العُمْرَةِ، فقد مضى الكلامُ عليه. * * * ¬
الشوري
(الشوري) 59 - (3) قوله عَزَّ وجَلَّ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]. أقول: * أمر الله سبحانه وتعالى نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بمشاورة ذوي الأحلام والنّهَى، ومدح اللهُ سبحانه المؤمنينَ بالمشاورة، فقال: {وَأَمْرُهُم شُورَى بَيْنَهُم} (¬1) [الشورى: 38]، ولا خلاف في استحبابِها في حقِّ الرعيَّة (¬2)؛ لما فيها من البحث وزيادةِ النظرِ في عواقب الأمور، وحصول البركة، ففي الحديث: "ما شقِيَ عَبْدٌ قَطٌّ بَمَشورَةٍ، وما سَعِدَ باسْتِغْناءٍ بِرَأْيٍ" (¬3). وقد كان عمرُ -رضي الله تعالى عنه- يجمع الصحابةَ، ويستشيرُهم في الأحكام وغيرها. * وإنما اختلفوا في وجوبها على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعلى ولاة المسلمين. ¬
- فذهب المالكية إلى وجوبِها على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعلى غيرِه من الوُلاة، قال ابن عطيةَ منهم: والشورى من قواعدِ الشريعةِ وعزائمِ الأحكام، ومن لا يستشيرُ أهلَ الدين والعلمِ فعزلُه واجبٌ (¬1). وعن (¬2) ابن خُويزمِنْداد مثلُه (¬3)، وذهبت الشافعيةُ إلى استحبابه في حَقِّ الوُلاة (¬4). وأَمّا في حَقِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فقيلَ بوجوبها؛ حَمْلًا لمطلقِ الأمر على ظاهره، ولما في تخصيصِه - صلى الله عليه وسلم - بالوجوب مِنْ رَفْعِ درجته، وتكثيرِ ثوابه، وتكريمِه، وهو الصحيح عند الشافعية. وقيل باستحبابها قياسًا على الأُمة، والأمرُ محمولٌ على الاستحباب (¬5)، ونُقل هذا عن نص الشافعي- رحمه الله تعالى (¬6). ¬
ونُدِبَ - صلى الله عليه وسلم - إلى مشاورتهم، مع كمالِ عقله، وجزالةِ رأيه، وعصمةِ الله سبحانه له؛ تطييبًا لقلوبِ أصحابه -رضي الله تعالى عنهم-؛ كما روي عن قتادةَ والشافعيِّ (¬1). وقيل: بل نُدِبَ حَثًّا لهم على الاقتداء به (¬2). قال الحسنُ: علم اللهُ سبحانه أنه ما بهِ إليهم من حاجة، ولكن أرادَ أن يَسْتَنَّ به مَنْ بعده (¬3). ونحو هذا قال الشافعي أيضًا (¬4). وقيل: تحصيلًا لبركة التشاور (¬5). * * * ¬
سورة النساء
سُورَةُ النِّسَاءِ
من أحكام اليتامي
(من أحكام اليتامي) 60 - (1) قوله جَلَّ جلالُه: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]. أقول: * لمَّا علم اللهُ جلَّ جلالُه ضعفَ اليتامى وعجزَهُمْ عن دفعِ بأس الظالمين لهم، نهى العبادَ عن أخذ أموالهم، وتواعدَ على ذلك بما لم يتواعدْ به على غيره، فجعل آكلَها إنما يأكلُ نارًا، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]. وسماها في هذه الآية (خبيثة)؛ لتنفر القلوبُ عن تناولها؛ استقذارًا لها من (¬1) خبثها، ولا ينبغي أن يُحمل الطَّيِّبُ والخبيثُ على حقيقتهما؛ إذ لو حمل على ذلك، لكان قد زادهم خيرًا حين أخذ الزيف بالجيد، والمهزولَ بالسمين، ولَكَان معارضًا لقوله تعالى: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬2) [الإسراء: 34]. ¬
والمعنى (¬1) -والله أعلم-: ولا تتبدلوا الخبيث الحرام، الذي ترونه بزعمكم طيبًا سمينًا، بالطيب الحلال من أموالكم، الذي ترونه بزعمكم رديئًا مهزولًا (¬2). * وأمر بإيتائهم أموالهم: وذلك يقع على حقيقة الإيتاء؛ ببذل مُؤَنِهم، والإنفاقِ عليهم. ويقع على الإيتاء الذي هو الحِفْظُ مجازًا؛ فإنه إذا حَفِظَ أموالَهم حقَّ حفظِها، فكأنه قد آتاها أربابَها. ولا يجوز أن يُحمل على حقيقةِ دفعِ جُمْلَةِ المال إليهم؛ فإن الله سبحانه لم يأمرْ به إلا عند بلوغِ النكاح، وإيناسِ الرُّشْد. نعم يجوز أن يرادَ بهِ حقيقةُ الإيتاءِ والدفعِ، ويكونُ إطلاقُ اليتامى على البالغين مجازًا من باب تسميةِ الشيء بما كان عليه؛ كقوله تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} (¬3) [طه: 70]، وهذا أولى؛ لأنه سبب الآية، في قول الكلبي ومقاتل (¬4). * ثم من لُطْفِ الله تعالى بهم (¬5) أن أباحَ مخالطَتَهم ومبايعتَهم، فقال ¬
سبحانه: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34]، فعلَ اللهُ تعالى ذلك بهم لئلاً يتعطَّلِ تثميرُ أموالهم، وحَفِظَها بالبيع والشراءِ لئلَّا يتحرَّج القُوَّامُ عليها (¬1)، وجَوَّز للقيِّم أن يأكلَ منها إن كانَ فقيرًا، وأمرَهُ بالاستعفاف إنْ كان غنيًا، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى-. * وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}. قيل: منسوخ (¬2) بقوله تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} (¬3) [البقرة: 220]، والصحيحُ عدم النسخُ. ثم قيل (¬4): إن (إلى) بمعنى (مع)، أي: ولا تأكلوا أموالَهُم مع أموالكم ظلمًا. وهو مذهبُ نحاة الكوفةِ، وبعض أهل (¬5) البصرة، قال امرؤ القيسِ يصفُ فرسًا: [البحر الطويل] لَهُ كَفَلٌ كالدِّعْصِ لَبَّدَهُ النَّدَى ... إلى حَارِكٍ مِثْلِ الغَبيطِ المُذَأَبِ (¬6) ويحتمل عندي ثلاثَ تأويلات أُخَرَ: ¬
أحدها: أن يكون بمعنى (إلى): ولا تأكلوا أموالهم مقترضين لها إلى حصول أموالكم؛ فإنه ليس قُرْبا بالتي هي أحسن؛ لفوات تنميتِها وتثميرها. ثانيها: أن تكون بمعنى (في)؛ فإنه إذا خلطَ (¬1) بمالِه مُفْسِدًا، كان الجميعُ حرامًا، وشاهد هذا المعنى قولُ النابغة: [البحر الطويل] فلا تَتْرُكَنِّي بالوَعيدِ كَأَنَّنِي ... إلى الناسِ مَطْلِيٌّ بهِ القارُ أَجْرَبُ (¬2) ثالثها: وهو أرجحُها، أن تكون بمعنى (إلى)، ويكون المعنى: ولا تأكلوا أموالهم ضامِّين لها إلى أموالكم؛ لأنهم إذا أكلوها، فقد ضمُّوها إلى أموالهم التي يأكلونها (¬3). * {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}؛ أي: إثمًا (¬4)، وقيل: ظلمًا كبيرًا (¬5). * * * 61 - (2) قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)} [النساء: 3]. روينا في "صحيح البخاري" عن عروةَ بنِ الزبير: أنه سألَ عائشةَ- ¬
رضي الله تعالى عنها -، فقال: يا أُمَّتاه (¬1)! قولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}؛ قالت: يا بنَ أُختي! هذه اليتيمةُ تكونُ في حِجْرِ وليِّها، فيرغبُ في جمالها ومالها، ويريد أن يَنْتَقِصَ صَداقَها، فنُهوا عن نكاحِهِنَّ إلَّا أن يُقْسِطوا لهنَّ في إكْمالِ الصَّداقِ، وأُمروا بنِكاحِ من سِواهُنَّ من النساءِ. قالتْ عائشةُ: استفتى الناسُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعدَ ذلكَ، فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إلى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127]، فأنزل اللهُ لهم في هذه الآيةَ: أنَّ (¬2) اليتيمة إذا كانت ذاتَ مالٍ وجَمال، رغبوا في نِكاحها، وسنتها في الصَّداق (¬3)، وإذا كانت مرغوبًا عنها في قلة المالِ والجمالِ، تركوها وأخذوا غيرَها. قالتْ: فكما يتركونها حين يرغبون عنها، فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلَّا أن يُقْسطوا لها، ويُعطوها حَقَّها الأوفى من الصَّداق (¬4). * ومضمونُ الآيةِ والأَثَر تجويزُ نكاح اليتيمةِ عندَ حصولِ القِسْط. وقد اختلف أهلُ العلم بالفتوى في نكاحِها (¬5). - فجوَّزَه أبو حنيفة مُطْلَقًا (¬6)، وله من الدليل ما قدمتهُ. ¬
- ومنعه مالكٌ مطلقًا إلا عند خوفِ الضَّيْعَةِ والفَسادِ. - ومنعه الشافعيُّ إلا عندَ وجودِ الجدّ (¬1). وحَمَلا ظاهر الآية والأثر على البالغة التي أطلق عليها اسم اليتيمة تجوُّزًا؛ بدليل ما روى ابنُ عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: زوجني خالي قدامةُ بن مَظْعونٍ ابنةَ أخيهِ عثمان بن مظعون، فجاء المغيرة بن شعبة إلى أمِّها، فأرغَبها في المالِ، فمالَتْ إليه (¬2)، وزَهِدَتْ فيَّ، فقالتْ أُمُّها: يا رسول الله! بنتي تكره ذلك (¬3)، فقال قدامةُ: يا رسولَ الله! أنا عمُّها، ووصيُّ أبيها، وقد زوجتُها من عبد الله بنِ عمرَ، وقد عرفتَ فضلَهُ وقرابته، وما نَقِموا منه إلا أنه لا مالَ له، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّها يتيمةٌ، ولا تُنْكَحُ إلا بإذنِها" (¬4)، وفي رواية: "ولا تُنْكِحُوا اليتامى حتى تَسْتأْمِروهُنَّ، فإن سكتْنَ، فهو إذن (¬5) " (¬6)، وموضعُ الدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تنكح إلا بإذنها"، "ولا ¬
تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن"؛ فإن الصغيرة ليستْ من أهلِ الاستئمار بالاتّفاقِ، والبالغةُ من أهلِ الاستئمار بالاتفاق (¬1)، والبلوغ هو الفارق بينَ الحدَّين، فيكون السنُّ الذي قبلَ البُلوغِ كحالِ الصِّغَرِ، فحينئذٍ يمتنعُ النكاحُ؛ لفقدان الاستئمار (¬2). ويظهر لي قوةُ قول أبي حنيفة؛ لما فيه من حمل اللفظ على حقيقته، والحقيقةُ خيرٌ من المجاز (¬3). وأما حديثُ ابنِ عمرَ، فلا دلالةَ فيه، فللحنفيةِ أن يقولوا: الحديثُ وارد في اليتيمةِ الكارهةِ للنكاح، فالحديثُ مختصٌّ بسببه في اليتيمةِ التي من أهلِ الاستئمار، فلا تزوجُ حتى تستأمَرَ، والعبرةُ عندَ قومٍ منهم بخصوصِ السببِ، لا بعموم اللفظ. وأما إذا لم تكنِ اليتيمةُ من أهل الاستِئْمار، فهي في مَحَلِّ السكوت، فلا يتناولُها الحديثُ الوارد على سببٍ مخصوص، أو لأن الخطابَ ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - على الغالب؛ فإن الغالبَ أنه لا تُنْكَح إلا من قد صارت من أهل الاستئمار، والله أعلم. فإن قيل: مفهومُ الشرط يقتضي أنه لا يجوز نكاحُهنَّ إلا عندَ وجودِ القسطِ والعدلِ؛ لأن الله سبحانه أمر بنكاح مَنْ سواهُنَّ عند خوفِ الجَوْرِ عليهن. ¬
قلت: لا مفهومَ له (¬1)؛ فإنه لو كان كذلك؛ لما جاز لنا أن ننكحَ ما طابَ لنا من النساء مثنى وثُلاثَ ورُباع عند عدمِ خَوفِ الجَوْرِ، ولا يجوزُ القولُ بذلك، بل ذلك إرشادٌ من الله سبحانه وتعالى للمتَّصفين بذلك إلى ما فيه صلاحُهم من فراقِ اليتيمة والتزوجِ بسواها. يدلُّ على ذلك ما روينا (¬2) في "صحيح البخاري" عن عروةَ عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها-: أن رجلًا كانت له يتيمة، فنكحها، وكان لها عَذْقٌ (¬3)، وكان يُمْسِكُها عليه (¬4)، ولم يكن لها من نفِسه شيءٌ (¬5)، فنزلت فيه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} (¬6). * وفي الآية والحديث دَلالةٌ من طريق التضمُّن والمفهوم أنَّ للوليِّ إذا أقسط في اليتيمة، أن يُنْكِحَها من نفسه؛ إذ لو كان الأمرُ في ذلك إلى غيره، لما كان لنهيه عمّا هو إلى غيره معنى، وبهذا قال أبو حنيفةَ، والأوزاعيُّ، ¬
والثوريُّ، وأبو ثورٍ، والليثُ (¬1). وقال الشافعيُّ: لا يجوزُ أن يزوِّجَها منهُ إلا وليٌّ آخرُ من سلطانٍ أو عَصَبَة (¬2). والخلاف بينهم في بيعهِ مال اليتيمِ من نفسِه؛ كما في النكاح، إلا أن أبا حنيفة وافقَ الشافعيَّ (¬3). * وأمر الله سبحانه في هذه الآية بنكاح ما طابَ لنا من النساء: فحمل أهلُ الظاهر الأمرَ في هذا على الوجوب (¬4). وحمله جمهورُ أهل العلم على الاستحباب مطلقًا (¬5). وذهب بعضُ متأخِّري المالكية إلى تقسيمه إلى: واجبٍ، ومستحبٍّ، ¬
ومباحٍ؛ بحسب ما يخشى من العَنَتِ. * وأحل الله سبحانه أربعًا من النساء (¬1)، وأما الزيادة فممنوعةٌ؛ لبيانه - صلى الله عليه وسلم - في غَيْلانَ لَمّا أسلم وتحته عَشْرُ نِسْوَةٍ: "أَمْسِكْ أَرْبَعًا، وفارِقْ سائِرَهُنَّ" (¬2). وقال (¬3) الشيعةُ: يجوز نكاحُ تِسعِ نِسْوَةٍ؛ لأن الواو موضوعةٌ للجمع. وقد تمسك بهذا الظاهرِ بعضُ أهل الظاهر، فأباحَ ثماني عَشْرةَ (¬4)، وذلك زيادة على ما خصّ به المصطفى المكرَّم - صلى الله عليه وسلم -، فلا التفاتَ إليه. فقيل: لا متمسكَ لهم؛ لأن معنى (مَثْنى مَثْنى): ثنتان ثنتان إلى ما لا نهاية له؛ كما تقولُ: جاء القومُ مَثْنى مَثْنى، إذا جاؤوا اثنين اثنين، وإن كانوا ألفًا، وكذا معنى (ثُلاثَ ورُباع)، فهذا اللفظ موضوعٌ لتفريق الأعداد، فوقفهم على هذا العدد تَحَكُّم يُخالِفُ لسانَ العرب. وهذا الجوابُ ضعيفٌ؛ فإن ذلك ليس من خصائص هذا اللفظِ، بل لو قال: ادخلوا واحدًا واحدًا، لفُهم منه التفريقُ أيضًا، وليس هذا المثالُ محلَّ النزاع؛ لخلوِّه عن (¬5) الواو، وإنما مثاله لو قال: خُذْ من الدراهم ثلاثَ ¬
وثلاثَ، وهذا مما يجوز حملُه على الجمع، وليس موضوعًا للتفريق. والذي أراه مَخْلَصًا (¬1) من شُبْهَتهم: أنَّ (مثنى وثلاث ورباع) أحوالٌ من قوله تعالى: {مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬2) [النساء: 3]، والحال لا يتعدَّدُ مع واوِ العطف الموضوعةِ للجمع، وإنما يتعدد بدونها، ومتى دخلت الواو على الأحوال المتعددة، كان من باب النعت؛ كقوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا} (¬3) [آل عمران: 39] والنعت غير متصوَّرٍ هاهنا، فتعين حينئذ مجيءُ الواو للتخيير (¬4)؛ كقولِ ¬
الشاعر (¬1): [من الطويل] وقالوا نأَتْ فاخْتَرْ بها الصبر والبُكا أو للتقسيم كقولك: الكلمةُ اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ، وكقول الشاعر (¬2): [من الطويل] كما الناسُ مَجْرومٌ عليه وجارِمُ ¬
* إذا تَمَّ هذا، فالخطابُ عامٌّ في الأحرارِ والعبيد، وقد قدمتُ اندراجَ العبيدِ في خطاب الأحرارِ في قولِ أكثرِ أهل العلم. وعارضَ العمومَ قياسُ تشطيرِ العددِ على تشطير الحَدِّ. وبالعموم أخذَ مالكٌ، وأبو ثورٍ، وأهلُ الظاهر (¬1). وذهب الشافعيُّ وأبو حنيفةَ، وأحمدُ، وإسحاقُ، والليثُ، ومالكٌ -في روايةِ ابنِ وَهْبٍ-، وجمهورُ أهلِ العلم إلى تخصيص هذا العمومِ، فلم يجوِّزوا للعبدِ إلا اثنتين، وهو قول عُمر، وعليٍّ، وعبدِ الرحمن بنِ عوفٍ (¬2). * ثم بيَّن الله سبحانه أن الاقتصارَ على واحدة، أو على ملكِ اليمين أولى وأفضل؛ لخلوِّه من الجَوْر، فقال: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}؛ أي: لا تَميلوا ولا تَجوروا، قاله مجاهد وغيرُه (¬3)، وهو المعروف في اللغة، قال ¬
أبو طالبٍ: [البحر الطويل] بميزانِ صِدْقٍ ما يعولُ شعيرةً ... ووزَّانِ صدقٍ وَزْنُه غيرُ عائِلِ (¬1) وقال آخر: [البحر البسيط] إنا تَبِعْنا رسولَ الله واطَّرَحوا ... قولَ الرسولِ وعالُوا في المَوازينِ (¬2) ولا شك أن العدلَ بين الأزواجِ واجبٌ بالإجماع (¬3)، وتفاصيلُه مذكورةٌ في كتب الفقه. ¬
وقال الشافعي: أي لا يكثر عيالُكم (¬1). ونُسِبَ إلى الشذوذ (¬2)، أو خَرْقِ اللغة (¬3). وليس كما قيل. أما الشذوذُ: فقد أسنده (¬4) الدَّارقُطْنِيُّ في "سننه" عن زيد بن أسلم (¬5)، ويروى عن جابر بن زيد (¬6). وأما اللغة: فلقوله وجهٌ في اللغة، يقال: عالَ عِيالَهُ يعولُهم، أي: قاتَهُمْ وأنفقَ عليهم، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعولُ" (¬7). قال الكُميتُ: ¬
كما خامَرَتْ في حِصْنِها أُمُّ عامرٍ ... لدى الحَبْلِ حتى عالَ أوسٌ عيالَها (¬1) يقول: إن الضَّبُعَ إذا صادَها الصائدُ ذو الحَبْلِ المتعلقِ بعُرْقوبها (¬2)، ولها وَلَدٌ من الذئبِ، لم يزلِ الذئبُ بطعمُ ولدها إلى أن يكبر. فتأويلُ الشافعىِّ من باب التعبير عن الشيء بسببه، فإنَّ من كثرَ عيالُه، كثر عَوْلُهُ، أي: نفقته. وقد حكى هذه اللغةَ الكسائيُّ، وابنُ الأعرابى، وأبو عمرو الدُّوريُّ. قال الكسائي: العربُ تقول: عالَ يعولُ، وأَعال يعيلُ، أي: كثر عيالُه. وسئل الدوريُّ عن هذا، فقال: هو لغةُ حِمْيَرٍ، وأنشدَ: [البحر الوافر] وإن الموتَ يأخُذُ كُلَّ حَيٍّ ... بلا شَكٍّ وإنْ أمشى وعالا أي: وإن كثرتْ ماشيتُه وعيالُهُ (¬3). فإن قيل: سياقُ الخطابِ يمنعُ من هذا، أو يدلُّ على أن المرادَ الجَوْرُ؛ بدليل قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}. قلت: فللشافعيِّ أن يقول: فإن خفتم ألا تعدلوا في اكتسابكم، أو في ولايتِكُم أمرَ الأيتام إن وَلِيتُموهم. ¬
فإن قيل: فقوله يبطُلُ بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، فإن التَّسَرِّيَ (¬1) غير محصورِ فإنه إذا تسرى ما أبيح له، كان أكثر عَوْلًا. قلت: ليس الأمر كذلك؛ فإن الإماء أموالٌ يُسْتَغنى عنهنَّ، فإنهنَّ متى شاء يبيعُهُنَّ، واستمتاعُه بهنَّ رِبْحٌ؛ إذْ لا مُهورَ لهنَّ، ولا إخدامَ. وهذا قلتُه على سبيل الردِّ لمن نسبَ إمامَ الأئمة إلى الشذوذِ وخَرْقِ اللغةِ، وهو أعرفُ بها وبمَقاصدِها، وأعلمُ بوجوه التأويل، ولا يُظَنُّ بأبي عبد الله أنه يَجْزم أنَّ ما ذَكَرَهُ مُرادُ الله -سبحانه- فقط، بل ذَكَرَه على وجه التأويل؛ لاحتمال اللفظ له، ولم يزل العلماء يبدون من التأويلات التي يحتملُها الخِطاب في المآل بضربٍ من النظرِ والاستدلال ما لا تُحصى كثرتُه على تعاقُب الدهور والأعصار، ولا حَجْرَ إلا في التفسير المنصوص الذي بيَّنَ الشارعُ - صلى الله عليه وسلم - مرادَ اللهِ جلَّ جلالُه (¬2). ولا شكَّ أَنَّ قولَ الجَماعةِ أرجَحُ من قولِ الشافعيِّ، ورُجحانُ غيرِه لا يمنعُ من ذكره (¬3). * ثم أمرَ (¬4) اللهُ سبحانه بإيتاءَ النساءِ صَدُقاتِهِنَّ. ¬
فقيل بتخصيص الخطابِ للأزواج، وهو الظاهرُ؛ لسياقِ الخطاب معهم (¬1). وانتصبَ (نِحلَةً) على المصدر؛ لأن النَّحْل في معنى الإيتاء (¬2)، أي: عَطِيَّةً من الله سبحانه. ويظهرُ لي انتصابُه على التمييز لنسبة الإيتاء؛ فإن النِّحْلَةَ: العطاءُ بغيرِ عِوَضٍ عن طيبِ نفسٍ من غيرِ مطالبةٍ، فالزوجُ مأمورٌ بإيتاءِ الصَّداقِ عن طيبِ نَفْسٍ، ومن غيرِ مطالَبةٍ، فإذا فعلَ ذلك، فكأنه أَنْحَلَها إيّاه، وأما ما يؤخذ بالخِصام، فلا يقال له: نِحْلة. ويحتمل انتصابُه على المفعول لأجله، فالنِّحْلَةُ: الدِّيانَةُ، أي: تديُّنًا؛ لأجل الدِّينِ. ويحتمل انتصابه على هذا التأويل على التمييز (¬3)، ولهذا قال ابنُ عباس وغيرُه -رضي الله تعالى عنهم- في قوله: نِحْلَةً: فريضةً (¬4). ¬
وقيل: إن الخطابَ مختصٌّ بالأولياء (¬1)؛ لأن العربَ كانتْ لا تعطي النساءَ من المهورِ شيئًا إن كان الزوجُ من القبيلة، وإن كان غريبًا حملوها على بعيرٍ فقط، حتى يُمدَحَ كِرامُهم بتركِ الأخذِ، فقال: [من بحر الرجز] لا يأخذُ الحُلْوانَ من بَناتِنا (¬2) والأمرُ يقتضي الوجوبَ على كل من التقديرات، فلا يجوزُ المواطأة على تركِه (¬3). * ثم أباحَ اللهُ لنا ما طابتْ عنهُ نفوسهُنَّ، وجعلَهُ هنيئًا مريئًا، فقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. قال عليٌّ -رضي الله تعالى عنه-: إذا اشتكى أحدُكم، فليسألِ امرأتَهُ ثلاثةَ دراهِمَ منْ صَداقِها، ثم لْيَشْتَرِ بها عَسَلًا، فيشربُه بماءِ السماءِ، فيجعلُه الله هنيئًا مريئًا وشفاءً مباركًا (¬4). ¬
ثم قال شريحٌ القاضي فيما رويَ عنه: إن المرأة إذا وهبتْ صداقَها لزوجها، ثم رجعتْ، أنه لا يحلُّ للزوج أن يأكلَهُ، وينفذُ رجوعُها؛ لأنها لم تطبْ به نفسًا (¬1). وخالفه عامةُ أهلِ العلم (¬2). * * * 62 - (3) قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)} [النساء: 5]. * أرشد الله سبحانه ذوي الكمال من عباده إلى ما تقوم به مصالحُهم، فنهاهم عن إيتاءِ أموالِهِمُ السفهاءَ؛ من النساءِ والصِّبيانِ والبالغينَ المُفْسدين (¬3)؛ تحذيرًا لهم من الاسترسالِ معهم، وتركِ الحَزم منهم، مع كَثْرِ مُلابستهم، وشدَّةِ الميل إليهم. وقال سبحانه وتعالى في موضع آخر: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]. * وأوجب الله سبحانه عليهم رزقَهُم وكِسْوَتَهم، فأمرهم بذلك أمرًا ¬
مُجْمَلًا غيرَ مبيَّن الوقتِ والمقدار، فالواجبُ ما يقتضيه حالُ الرجل، ويَخْتلفُ ذلك بحسبِ اختلاف الأزمنةِ والأمكنةِ والأحوال؛ كقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]. * وقد اتفق أهل العلم على عدم تحديدِ الكِسْوَةِ. * وأما النفقةُ، فاختلفوا في تحديدها: فذهب مالكٌ وأبو حنيفة إلى تركِ التقديرِ كما هو ظاهرُ الكتاب (¬1). وذهب الشافعيُّ إلى تقدير النفقة اعتبارًا بالكَفّارة في اليمين (¬2)؛ حيث قَدَّرَ فيها الإطعام، ولم يقدرِ الكِسوةَ. وقد قدمتُ (¬3) كيفية هذا الاعتبار في مقدمةِ هذا الكتاب، والمختارُ عندي تركُ التقديرِ، والرجوعُ فيه إلى العرف والعادة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لهِنْد بنتِ عُتْبَةَ: "خُذِي ما يَكْفِيك ووَلَدَكِ بالمَعْروفِ" (¬4)، فَحَكَم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أمرها المعروف، وذلك يختلفُ باختلافِ الأحوال والأماكن والأزمان (¬5). ¬
* ثم نَدَبهم إلى حسنِ الخُلُق معهم، وطيبِ المعاشرة لهم، فقال: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} أي: عِدَةَ واعتذارًا (¬1). * * * 63 - (4) قوله عز وجل: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)} [النساء: 6]. الابتلاء: الاختبارُ، مُقْتَصٌّ من قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، ومن قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124]. فأمر اللهُ سبحانه بابتلاء اليتامى؛ ليُعْلَم رُشْدُهُم، والأمرُ للوجوب، ومحلُّه قبلَ البلوغِ عند المالكية (¬2)، وهو الصحيحُ عند الشافعية (¬3)؛ للآية. ¬
وقد ذكروا في كتبهم كيفيتَهُ وتفصيلَه (¬1). * وجعل اللهُ سبحانه في هذه الآية ميقاتَ دفعِ أموالهم إليهم بلوغَ النكاح مع إيناسِ الرشد، وجعلَه في آية أخرى بلوغَ الأَشُدِّ، فقال سبحانه: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}، وفي قوله تعالى: {بَلَغُواْ النِّكَاحَ} حذفٌ وإضمارٌ، تقديره: حالَ النكاح، وذلك مُجْمَلٌ يؤخذُ بيانُه من قوله سبحانَه في موضع آخر: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإسراء: 34]؛ أي: قُوَّتهُ. * وبيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقتَ الأَشُدِّ الذي لم يفهم من لفظه: أن المراد به أدنى درجاته أو أقصاها: أنه خَمْسَ عَشْرَةَ سنةً. روينا في "الصحيحين" عن ابنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما- قال: عُرِضْتُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عامَ بَدْرٍ، وأنا ابنُ ثلاثَ عَشْرَةَ سنةً، فردَّني، وعرضتُ عليه عامَ أُحُدٍ، وأنا ابن أَرْبَعَ عَشْرَةَ سنةً، فردَّني، وعرضتُ عليه عامَ الخندق، وأنا ابنُ خَمْس عَشْرَةَ سنةً، فأجازني في المُقَاتِلَة (¬2). ¬
ونقل عن عمر بن عبد العزيز أنه جعلَ هذا حدًّا لَمَّا بلغَهُ هذا الحديثُ (¬1). وبيانُ الدليلِ منه أنه لا يُعْرَضُ للقتال في ثلاثَ عَشْرَةَ سنةً، وأَرْبَعَ عَشْرَةَ سنةً، إلا من فيه قدرة على القتال، ولَمَا ردَّهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحال، وأجازه وهو ابنُ خمسَ عَشْرَةَ سنةً، دلَّ أن العبرة بِالسِّنِّ المذكورةِ، ولو كان - العبرةُ بغير السن، لنقله ابنُ عمرَ صاحبُ القصة. وبهذا البيانِ أخذَ الشافعيُّ، وأحمدُ، وصاحبا أبي حنيفة، وبعضُ أصحابِ مالك (¬2). وقال أبو حنيفة: هو ابن سَبْعَ عَشْرَةَ سنةً، وروي عنه: ثماني عشرة سنة (¬3)، وهو تفسيرُ أهل اللغة. ¬
وقال مالكٌ: هو أن يَغْلُظَ صوتُهُ، وتَنْشَقَّ أَرْنَبَتُهُ (¬1). وقال أهلُ الظاهرِ: ليس لسنٍّ حدٌّ في البلوغ، فلا يبلغُ حتى يحتلمَ، ولو بلغَ أربعين سنةً (¬2). واختلفوا في نباتِ العانةِ: فقال الشافعيُّ في أحدِ القولين: هو دلالة على البلوغ، وهو الصحيحُ عند أصحابه، وبه قالَ أحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ، وروي عن مالك (¬3). ¬
وقال في القول الثاني: هو نفسُ البلوغ، وبه قالَ مالكٌ (¬1). ويظهر لي قُوَّتُه؛ لقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لسعدِ بنِ مُعاب -رضي الله تعالى عنه-: "لقد قضيتَ بحكم الله"؛ حيثُ قضى في بني قريظة بقتل مقاتلتهم، وسبيِ ذراريهم (¬2)، مع رواية عطية القرظي قال: عُرِضْنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن كان مِنّا مُحْتَلِمًا، أو نَبَتَتْ عانتُه، قُتل (¬3). ففرق سعا بين الذرارِيِّ والمقاتِلة، وبيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بفعلهِ أنَّ من نبتَتْ عانتُه من المقاتِلة، لا من الذراري، وأنه حكمُ الله، ولو لم يكنْ بالغًا لما قتله. ¬
وقال أبو حنيفةَ: ليس ببلوغٍ، ولا بدليلٍ عليه (¬1). * وإيناسُ الرشدِ؛ علمُه وتحققُه، مُقْتَصٌ من قوله تعالى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29]، أي: أَبْصَرَ، فلا يُدفَع إليه المالُ مع ظَنِّ الرشد دون تيقُّنه، والرشدُ هو الصَّلاحُ، ويقع على الصلاحِ في العقلِ وحفظِ المال، ويقع على الصلاحِ في الدينِ والمال، ويقع على الصلاحِ في المالِ فقط، ويقع على الصلاح في الدين فقط، وبكلِّ واحدٍ قال ناسٌ (¬2) من المفسرين (¬3). وقيل: الرُّشْدُ -بالضم- يقع على الصلاح في المال، والرَّشَدُ (¬4) -بالفتح- يقع على الصلاح في الدين، ونقل عن أبي عمرو (¬5). أما الفقهاءُ، فاختلفوا في المعنى المرادِ به، فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: ¬
المرادُ: الصلاحُ في المال فقط (¬1). وقال الشافعي: الصلاحُ في المال والدين (¬2). ولا شكَّ أنه أحوطُ، ولكنه أضيقُ وأَحْرَجُ؛ لقلة الصلاحِ في الدين في أكثرِ الناس من قديمِ الزمان، وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. فإن قيل: فقد أمرنا الله سبحانه أن ندفعَ إليهم أموالَهم عند إيناسِ رشدٍ منهم، وذلك يقع على رشدٍ ما، فما وجه اشتراطِ الشافعي الرُّشْدَ في الدينِ والمال؟ قلنا: إن الله عَلَّقَ الدفعَ على إيناسِ رشدٍ ما، وكان ينبغي أن يُدفع إليه المالُ عند وجود الشرط، سواءٌ كان رشيدًا في ماله دون دينه، أو في دينه دون ماله، ولما اتفقوا على أنه لا يُدفع إليه في هذه الحالة، وهي إذا رَشَدَ في دينه دون ماله، جعل الشافعيُّ الحالةَ الأخرى مثلَها؛ إذ ليس إحدى الحالتين أَوْلى من الأخرى، ولِما فيه من حملِ اللفظِ المشتَركِ على جميع معانيه؛ إما لغةً، وإما احتياطًا. ولكن يردُّ هذا الاستدلالَ مذهبُ مالكٍ وأبي حنيفة أن الخطابَ مع الأولياء جاء بصدد المال، ولم يُقصد به شيءٌ بلا من أمر الدين، فينبغي أن يصرفَ الرشدُ إلى الصلاح في المال؛ لقرينة القصد. وقد بيَّنتُ أن القصدَ قرينةٌ قوية تخصُّ الأسماء ببعض مُسَمَّياتها، بل ¬
يُعْدَلُ بها عن حقائقها إلى مجازاتها، ولأجل هذا أقولُ بقول مالك وأبي حنيفةَ، وأفتي به. * ثم مفهومُ هذا الخطاب أنه إذا لم يبلغ النكاحَ، لا يُدفع إليه المالُ، وذلك إجماعُ المسلمين (¬1). * ومفهومُه أيضًا أنه إذا بلغَ النكاح غيرَ رشيدٍ أنه لا يُدفع إليه المالُ، وهو كذلك عند الشافعي ومالك وغيرهما. قال سعيدُ بن جبير: إن الرجلَ لَيَأْخُذَ بلحيته، وما بلغ رشده، فلا يدفع إليه مالُهُ، وإن كان شيخًا، حتى يُعلم منه إصلاحُ ماله (¬2). وقال الضَحَّاك نحوه. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسًا وعشرين سنةً، يُعطى المال، وإن كان غيرَ رشيد (¬3). وهو استحسانٌ لا دليلَ عليه. * ثم عمومُ اللفظ يتناول ذكورَ اليتامى وإناثَهم، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الأمر فيهم واحد (¬4)، لكنْ مالكٌ خالفَ في سن رشدِ المرأة، ¬
فقال: لا يُتصور إيناسُ الرشدِ من المرأةِ إلا بعد اختبار الرجل (¬1)، فهي في حِجْر وليِّها، وإن بلغت حتى تتزوجَ ويدخلَ بها زوجُها، ويؤنسَ رشدَها، فهو موافقٌ لهم في الشرط، مخالف في التفصيل (¬2). وروي عنه مثلُ قول الجمهور (¬3). * وحرَّم الله سبحانه على الأولياء أكلَ أموالِهم مسرفين متجاوزينَ الحدَّ ومُبادرة لبلوغهم، وأباحه بالمعروفِ للفقير دونَ الغني (¬4)، فقال: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}. فأخذ الشافعيُّ بظاهر الآية، وحقق التأويلَ بالنظر من القياس، فأوجبَ العفَّةَ على الغني، وإن عمل في مال اليتيم عملًا لمثلِهِ أجرةٌ، وأباحَ للفقير إذا عملَ عملًا له أجرٌ أن يأخذ أقلَّ الأمرين من أجرةِ عملِه أو كفايتِه، فذلك الأكل بالمعروف (¬5). * واختلف قوله هل يجبُ ردُّ البدلِ إذا أيسرَ، أو لا؛ لأنه في مقابلة عمله؛ وهو الصحيح (¬6). ¬
أما إذا لم يعمل على مال اليتيم، فلا يجوز له الأكلُ، وإن كان فقيرًا؛ لأنه أكل بغير المعروفِ (¬1). فإن قيل: إنما أبيح له الأكلُ لأجل الفقر، لا لأجل العمل، ولو كان لأجل العمل، لجاز للغنيِّ (¬2)، ولم يجب عليه الاستعفافُ، ولَمَا كان لذكر الفقر فائدةٌ. قلت: وإنما لم يأخذ الغنيُّ في مقابلة عمله؛ لبيان النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقد روينا في "صحيح البخاري" عن عائشة -رضي الله تعالى عنها-: أنها نزلت في والي اليتيم إذا كان فقيرًا أنه يأكلُ منه مكانَ قيامِه عليه بالمعروف (¬3) (¬4)، ¬
ولأن القيامَ على مال اليتيم فرضُ كفايةٍ لإصلاح حاله، وفرضُ الكفاية لا يجوزُ أخذ الرزق عليه إلا للفقير دون الغني؛ كولاية القضاء (¬1). * إذا تمَّ هذا، فقد انقسم العلماء في هذه الآية على ضربين: فقال بعضهم: هي منسوخةٌ بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]، ويروى عن ابن عباسٍ وزيدِ بنِ أسلم (¬2). وهذا ضعيفٌ باطلٌ لا يصحُّ عنهما؛ فإن الله سبحانه حرم أكلَ أموالِهم بالظلم، وأباحه (¬3) بغير الظلم، والمعروفُ غيرُ الظلمِ؛ لأنه في مقابلة عمله، فلا تعارض بينهما، فلا نسخ. وقال جمهورهم: هي محكمةٌ (¬4). ¬
واختلفوا في تفسير المعروف، فقيل: هو الأكل قرضًا يؤديه إذا أَيْسَرَ. * وقوله تعالى: {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}؛ معناه: في رَدِّ ما استقرضتُم من أموالهم، ويروى هذا القولُ عن عمر، وابن عباسٍ، والشعبيِّ، ومجاهدٍ، وابن جبيرٍ، وأبي العالية، والأوزاعيِّ، وهو أحد قولَي الشافعي. وقيل: هو ما يسدُّ جوعه إذا احتاج، وليس عليه ردُّه، وهو القولُ الصحيحُ للشافعيِّ، ويروى عن الحسنِ، وقتادةَ، والنخعيِّ، وعطاءِ بنِ أبي رباح. وقيل: هو الأكلُ من الغَلَّةِ والربحِ، دونَ الأكلِ من الناضِّ (¬1)، ويروى عن الشعبيِّ، والضَّحّاكِ، وأبي العاليةِ أيضًا. وقيل: هذا خاصٌّ بالسفرِ من أجلِ مالِ اليتيم، وأما في الحَضر، فيمتنع مطلقًا، قاله أبو حنيفةَ وصاحباه (¬2). وأمر الله سبحانه الأولياءَ بالإشهادِ على الدفع إليهم إرشادًا لا إيجابًا (¬3)؛ خوفًا من الاختلاف فيما بعد. ¬
* وفيه إشارةٌ إلى أن قول القَيِّمِ من غيرِ شهودٍ غيرُ مقبولٍ في الدفع، وإلا لَما أمر (¬1) بالإشهاد عليه، وهو كذلك، ولم أعلم فيه مخالفًا (¬2)، والله أعلم وأحكم. * * * ¬
من أحكام المواريث
(من أحكام المواريث) 64 - (5) قوله جلَّ جلالُه: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)} [النساء: 7]. * بيَّن الله سبحانه في هذه الآية أن للرجالِ وللنساء نصيبًا، ولم يبينْ مقداره. فروي عن يونسَ بنِ عبدِ الأعلى قال: قال لي الشافعي في قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} نُسخ بما جعل للذكر والأنثى من الفرائض (¬1). وهذا القولُ ضعيفٌ؛ لأن الحكمَ لم يتقررْ بالنصيب، ومقداره لم يَرِدْ حكمٌ آخرُ يناقضه، وإنما هو مجملٌ في المقدار، ثم بَيَّنه الله تعالى في آية المواريث (¬2). ¬
قال ابن عباسٍ في رواية الوالبي: إن أوسَ بنَ ثابتٍ الأنصاريَّ تُوفي وتركَ ثلاثَ بناتٍ وامرأةً يقال لها أم كُجَّة، فقام رجلان من بني عمه، فأخذا المالَ ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئًا، فجاءت أُمُّ كُجَّةَ (¬1) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكرت له ذلك، فنزلت هذه الآية (¬2). ويروى: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُفَرِّقا مالَهُ حَتَّى يَنْزِلَ بَيانُ النَّصيب"، فنزل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} (¬3). * * * 65 - (6) قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 8]. * لمَّا أمرنا اللهُ سبحانه برزق ذَوي القربى واليتامى والمساكين إذا حضروا القسمةَ رزقًا غيرَ مقدَّرٍ، اختلف العلماء في العملِ بهذه الآيةِ والجوابِ عنها، وتشعبت بهم الطرقُ: 1 - فقال قوم: هي منسوخة (¬4)، واختلفوا في الناسخ لها: ¬
- فقيل: إنها منسوخةٌ بآية المواريث (¬1). وقيل: نسختها آيةُ المواريثِ والوصية (¬2)، ويروى عن ابنِ عباسٍ، وعطاءٍ، والضَّحَّاكِ، والسُّدِّيِّ، وعكرمةَ، وابنِ المسيِّب. - وقيل: نسختها آية (¬3) الزكاةُ، ويروى (¬4) عن الحسنِ (¬5). والقولُ بالنسخ ضعيفٌ؛ لعدم العلم بتقدم هذه الآية على الناسخ الذي ذكروه (¬6)، وتقدمُه في الترتيبِ لا يوجبُ تقدمَه في التنزيل، ولعدمِ المعارضَةِ بينهما وبين الناسخ (¬7) الذي ذكروه (¬8)، نعم إن ثبت النسخُ بنقلٍ عن الشارع - صلى الله عليه وسلم -، فحينئذ يعلم أن الأمرَ على الوجوب، وأنه قد استقرَّ حكمُه حتى ورد عليه ما نسخه. 2 - وقال جمهورُهم؛ كعائشةَ وأبي موسى: هي محكَمَةٌ غيرُ منسوخة (¬9). ¬
وهو الصحيحُ في النقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. روينا في "صحيح البخاري" عن عكرمةَ عن ابنِ عباس قال: هي محكمةٌ وليست بمنسوخة، وتابعه سعيدٌ عن ابنِ عباسٍ (¬1). ثم اختلف هؤلاءِ: - فذهب قومٌ إلى التأويل: عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أنه قال: هي مخاطبة للمُوصي يقسم وصيته بيده على الندب والترغيب في ذلك (¬2). - وتركه قومٌ على ظاهره. ثم اختلف هؤلاء أيضًا: فحمله قومٌ على الوجوب بظاهرِ الأمرِ، فقالوا: تجب الصلةُ بما طابتْ به أنفسُ الورثةِ عند القسمة، وروي عن مجاهدٍ، والحسنِ، والزهري (¬3). وروي أن ابن عُلَيَّةَ نُصِّبَ وصياً ليتيم، فذبح لمن حضره شاةً، وقال: لولا هذه، لكانت في مالي (¬4). ¬
وهذا القولُ ضعيفٌ؛ لأن ما يجب لا يشترط فيه طيبةُ أنفسِ الوَرَثَةِ، فقد لا تطيبُ أصلًا، وقد يكونون أيتاماً لا يتصور طيبُ أنفُسِهم، بل هذا من خصائصِ المندوبِ إليه. والذي ذهب إليه مالكٌ والشافعيُّ وأكثرُ أهل العلم أن الآيةَ مُحكَمَة محمولةٌ على الندبِ والاستحبابِ، لا الحَتْم والإيجاب، وهو قولُ ابنِ جُبير وعطاءٍ، ويروى عن ابنِ عباسٍ ومجاهدٍ -رضي الله تعالى عنهم (¬1) -. والدليل على صحته إجماعُ الأمةِ على أنهم إذا لم يحضروا القسمة لا يُرزقونَ شيئًا؛ كما اقتضاهُ الخطابُ في الآية، ولو كان واجبًا لوجبَ لهم، وإن لم يحضروا؛ كسائر الفرائضِ الواجباتِ، ولأنه لو كان واجبًا لكان مُقَدَّرًا محدودًا؛ كسائر الفرائض، فدلَّنا ذلك أنه على الندب (¬2). ¬
من أحكام الوصية
(من أحكام الوصية) 66 - (7) قوله عزَّ وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9]. * أمر الله سبحانه حاضرَ المُوصي أن يعدلَ في تلقينه بالوصية كما يعدل هو في وصيته لو كان هو الموصي (¬1) يورثُ ولدَه، وليتقِ الله سبحانه، فلا يتجاوزِ الثلثَ، وليقلْ قولًا سديداً، أي: صوابًا، وهو التلقين (¬2) بما دونَ الثلث، فالمقصودُ بالخطابِ الحاضرون (¬3). ¬
قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في رواية عطاء: كان الرجلُ إذا حضرته الوفاةُ، قعدَ عنده أصحابُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: انظر لنفسك؛ فإن ولدك لا يغنون عنك من الله شيئًا، فيقدم جُلَّ ماله، ويحجُبُ ولدَه، وهذا قبل أن تكونَ الوصيةُ في الثلث، فكرهَ اللهُ ذلك منهم، فأنزل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} (¬1). فإن قلتم: إذا كان الخطابُ مع حاضري الموصي، والنهيُ لهم، فمقتضى هذا أن الموصيَ إذا جاوزَ الثلثَ بوصيته لا إثم عليه؛ لأن النهي لم يواجهه، وإن وصيته صحيحة؛ إذ لو لم يصحَّ لما حذر الحاضرين من ذلك. قلنا: إذا فعل ذلكَ، فهو مأثومٌ، ووصيتُه غيرُ صحيحة؛ لبيان النبي -صلى الله عليه وسلم-. روينا في "الصحيحين" عن سعد بن أبي وَقّاصٍ قال: جاءني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعودُني عامَ حجةِ الوداع من وَجَعٍ (¬2) اشتدَّ بي، فقلت: يا رسول الله! قد بلغَ بي من الوجَعِ ما ترى، وأنا ذو مالٍ، ولا يرثنُي إلا ابنةٌ، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا" قلت: فالشطر يا رسول الله؟ فقال (¬3): "لا"، قلت: فالثلث؟ قال: "الثُّلُثُ، والثلُثُ كثير، إنكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِياءَ خير مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عاَلة يَتكفَّفُونَ النَّاسَ" (¬4). ¬
والنهي يقتضي التحريمَ والفسادَ على قولِ أكثرِ الأصوليين، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لما بلغ الثلث، وأجازه مع استكثاره له وكراهته الوصية به، ومحبته لِما هو دونه؛ حيث قال: "الثلثُ، والثلثُ كثيرٌ، إنك أن تذرَ ورثتكَ أغنياءَ خيرٌ من أن تذرهم (¬1) عالَه يتكففُونَ الناسَ"، دلَّ ذلك على أنه محلُّ الجَواز، وأن ما فوقه غيرُ مَحَل للجواز، ولأنه روي عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أن الخطابَ واردٌ مع الموصي أيضًا. فإن قلتم: هذا الحكمُ قيده الله سبحانه بوصفين، فما الحكمُ لو لم يترك ذريةً (¬2)، أو ترك ذريةً بالِغينَ غيرَ ضعفاءَ؟ فالجواب: * أنه اختلفَ أهلُ العلم فيما إذا لم يتركْ ورثةً: فمنعه مالكٌ، والشافعيُّ، وأهلُ المدينة، والأوزاعيُّ، وأحمدُ في أحد قوليه (¬3). وجوّزَه أبو حنيفةَ، وإسحاقُ، وأحمدُ في قوله الآخر (¬4). ¬
وروي عن عبد اللهِ بن مسعود (¬1) رضي الله تعالى عنه. ويدلُّ لهؤلاء (¬2) المفهومُ من الآيةِ والحديث؛ لذكر الذريةِ والورثةِ فيهما. ومُخالِفُهُ (¬3) لا يسلِّم أنَّه مفهومٌ مخالفٌ للنطق، بل يقول: هو مسكوتٌ عنه، موافقٌ للمنطوقِ به بالنظرِ والقياس؛ لأنَّ المسلمينَ ورثتُه، وفيهم الأيتامُ والضعفاءُ، فلا يجوزُ له الحَيْفُ عليهم، والتخصيصُ بأحدهم. وأما إذا كان ورثتُه بالغينَ غيرَ ضعفاء، فقد اتفق أهلُ العلم على منعه أيضًا كالضعفاء؛ لحديث سعدٍ -رضي الله تعالى عنه -. وذكرُ الضعفِ جاءَ على سبيل الترقيقِ لقلوبِهم، والتلطفِ بهم في تركِ الحَيْفِ؛ بدليل المخاطبةِ بالذريَّةِ، والذريَّةُ وسائرُ الورثةِ في ذلكَ سواءٌ؛ لحديثِ سعدٍ، ولأجلِ الاتفاقِ على مَنعْ الحَيْف. قال الشيخُ أبو حامد الإسفرايينيُّ من الشافعية: لا تَصِحُّ الوصيةُ بما زادَ على الثلث، قولًا واحدًا، فإن أجازه الورثةُ، فهل يكونُ ذلك تنفيذًا لما فعله المُوصي، أو ابتداءَ عطية من الورثة؟ على قولين. وقال غيره: هل تصحُّ الوصية؟ فيه قولان. أحدهما: أنها باطلة. والثاني: أنها صحيحةٌ؛ لمصادفتها ملكه، وتعلقُ حقِّ الوارثِ لا يمنع الصِّحَّةَ؛ كالشُّفْعَةِ (¬4). ¬
من أحكام المواريث
(من أحكام المواريث) 67 - (8) قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11]. * ذكر اللهُ سبحانه في هذه الآية ميراثَ الأولادِ الذكورِ والإناثِ، فإن كانتْ واحدة، فلها النصفُ، وإن كنَّ فوق اثنتين، فلهنَّ ثُلُثَا ما تركَ، وقد علم بهذا ميراثُ المذكور إن تمحَضوا، فإن كانَ ابنا واحدًا فله الكلُّ؛ لأنه مثلُ حظِّ الأنثيين عند انفرادهما بأبوين، وإن كانوا أكثرَ من ذلك، فالمالُ بينهم بالتَّعْصيب، وهذا إجماعٌ من الأمة (¬1). ويزيدُه بياناً ما رويناه في "الصحيحين" عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَلْحِقُوا الفَرائِضَ بأَهْلِها، فما بقِيَ فهو لأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" (¬2). ¬
فالبنون (¬1) أولى الرجال بالميت (¬2). * وأجمعتِ الأمةُ أيضًا على أن للبنتين الثُّلُثين (¬3)، إلا ما رُوي عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أنه قال: للبنتين النصفُ، والثلثان مختصٌّ بالثَّلاثِ، فصاعداً؛ أخذاً بَظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} (¬4) [النساء: 6]، وأقلُّ الجمع عنده وفي لسانِ قومه ثلاثٌ، ولهذا لم تُحجَبُ الأمُّ من الثلثِ إلى السدسِ بالأخوين؛ لأنهما ليسا عنده بإخوة. فإن قلتم: فكيف المَخْلَصُ من شبهته؟ قلت (¬5): يكون المخلصُ من ثلاثة أوجه: أحدها: أن المراد بالنساء الاثنتين إما حقيقةً، وإما (¬6) مجازاً، وكلمة (فوق) صلة و (¬7) زيادةٌ (¬8)؛ لما روى عبدُ الله بنُ محمدِ بن عقيلٍ، عن جابر ¬
-رضي الله تعالى عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى البنتين الثلثين (¬1). وثانيها: أنه من مجاز التقديم، والتقدير (¬2): (فإن كنَّ نساءً اثنتين فما (¬3) فوقَ ذلك)، و (فوق) كلمة تستعمل في ذلك كثيرًا؛ كقوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12]، أي: فاضربوا الأعناق فما فوقها، فأرشدَ إلى ضربِ الرأسِ والعنقِ؛ لما فيه من النكاية فيهما؛ لضعفهما، واجتماعِ العروق فيهما، وخفةِ لباسهما، وسكونِ العقل فيهما، وهذا أحسنُ مِنْ مجازِ الزيادةِ والصلة؛ لما ذكرتُه، ولما فيه من الدلالةِ على حكمِ الثلاث. وثالثها: وهو أسدُّها -إن شاء الله تعالى-، وهو أن الألفاظَ باقية على حقائقِها من وقوعِ جميع النساءِ على الثلاث، ومن استعمال كلمة (فوق) ¬
فيما زاد على اثنتين من غيرِ تقديم وتأخير، وأن حكم الثنتين (¬1) مأخوذٌ من فَحوى الخطاب، لا من نصِّ الخطاب، فذكر (¬2) الله سبحانه أن فرضَ البنتِ الواحدة النصفُ، وذكر أن فرض البنات اللاتي هن فوق الاثنتين الثلثانِ، وأكد جَمْعَ النساء بقوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}؛ لئلا يَظُنَّ ظانٌّ أن المرادَ بالجمعِ اثنتان فقط، فيتوهم أن للثلاثِ والأربعِ وما زادَ كلَّ المال؛ لكونهم زادوا على ضعف الواحدة، ولقوة البنوة، ولهذا قدَّمه في الذِّكر على الواحدة، اهتمامًا به، ولم يقصد به مخالفةَ حكمِ الثلاثِ حكمَ الاثنتين في مقدار النصيب، بل حكمُ اثنتين ملحقٌ بحكمِ الثلاثِ؛ لمفهوم قوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}؛ فإنَّه يدلُّ على أن الاثنتين لهما أكثرُ من النصف، فألحقنا الاثنتين بالثلاث؛ كالأخوات، بل البنتين (¬3) أولى بأخذ الثلثين من الأختين، ولأن إلحاقَ البنتينِ (¬4) بالثلاثِ أولى من إلحاقهما بالواحدة؛ لمشاركتهما في وقوع الجمع عليهما، إما مجازًا، وإما حقيقة كالثلث. وهذا أحسنُ جوابٍ؛ لما فيه من إبقاء الألفاظ على حقائقها، والسلامةِ من الوقوع في المجاز من غير ضرورة، ولما فيه من العمل بالمفهوم المعضود بالقياس، ولا شك أنَه خيرٌ من المجاز في الاستعمال، وأقوى في الاستدلال. وظنِّي أن هذا النقلَ عن ابن عباسٍ غيرُ صحيحٍ (¬5)؛ فإنّ لا يُظَنُّ به أن ¬
يجعل نصيبَ البناتِ دونَ نصيبِ الأَخَوات، ولا أنه يجعلُ إلحاقَ الاثنتين بالواحدة أولى من الثلاث، ولكنه لما كان مذهبُه في الإخوة في نقصان الأم أنهم لا يقعون على الاثنتين؛ لكونهما ليسا بجمعٍ عنده وفي لسان قومه، اعتقد من اعتقد أن مذهبه هنا كذلك؛ لكون النساء جمعًا لا (¬1) يقعُ على الاثنتين؛ فنقل مَذْهباً له، وليس كذلك، فالطريق هنا غير الطريق هناك، والله أعلم. * ثم ذكر الله سبحانه ميراث الأبوين، ففرض لهما السدس عند وجود الولد، وفرضَ للأم وحدَها الثلثَ عند عدم (¬2) الولد، وسكت عن الأب، ولا شك أنه يفهم من سياق ذلك أن له الباقي، مع ما روينا في "الصحيحين" عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اقْسِموُا المالَ بَيْنَ أَهْلِ الفَرائِضِ على كتابِ اللهِ تَعالى، فما تَرَكَتْ فَلأِوْلى رَجُلٍ ذَكَرٍ" (¬3). فإن قلتم: فإذا كانَ الولد بنتاً، فإنَّه يقتضي أنه ليس للأب إلا السدسُ فقط، وهو يأخذ الجميع. فالجواب: أنه يأخذ الجميع بجهتين مختلفتين، يأخذُ السدسَ بالفرضِ المذكور في الآية، والباقي بالتعصيب؛ للحديث السابق (¬4). ¬
ولهذا قال رجل للشعبيِّ لَمّا سأله عن رجل ماتَ وخلَّفَ بِنْتًا وأبًا، فقالَ: للابنةِ النصفُ، والباقي للأب: أصبتَ المعنى، وأخطأتَ العبارةَ، قل: للأبِ السدسُ، وللابنةِ النصفُ، والباقي للأب (¬1). فإن قلتم: فهذا يؤدي إلى أن الأب لا يأخذ مِثْلَيْ ما تأخذ الأمُّ فيما إذا تركَ زوجةً وأَبَوَيْنِ، بل يؤدِّي إلى أنها تأخذُ أكثر من الأبِ فيما إذا تركتْ زوجًا وأبوين (¬2)، وجميعُ ذلك مخالفٌ لقياسِ الأصول. والجوابُ (¬3) أن هذا سؤال قويٌّ ظاهرٌ، وقد أخذ به ابنُ عباس، فجعل (¬4) في الأولى للزوجة الربع، وللأم الثلث من رأس المال؛ لأنهن ذواتُ الفرض، وللأب ما بقي؛ لأنه ذو تعصيب، وجعل في الثانية للزوجِ النصف، وللأمِّ الثلث من رأس المال، وللأب ما بقي (¬5)، وتابعه شريحٌ القاضي، وداودُ، وابنُ شُبْرُمَةَ، وجماعةٌ، واختاره ابنُ اللَّبّان. والذي عليه جمهورُ الصحابةِ وسائرُ الفقهاء أن للأمِّ ثُلُثَ الباقي بعدَ فرضِ الزوجِ والزوجة بالفرض، والثلثان للأب بالتعصيب؛ لشهادة الأصول ¬
بذلك؛ كالابن والابنة، والأخ والأخت إذا انفردوا، للذكر مثلُ حَظ الأنثيين، وكذلك إذا اجتمعا مع الزوج والزوجة (¬1)، ونهاية ما استدلوا به أن يكون مطلقاً، وتقييدُ المطلَقِ جائزٌ في القياس والاستدلال؛ بشهادة الأصول. روى (¬2) عكرمةُ قال: أرسل ابنُ عباسٍ إلى زيدِ بنِ ثابتٍ، فسأله عن امرأة تركَتْ زوجَها وأبويها، فقال: للزوجِ النصفُ، وللأم ثلث ما بقي، قال: تجدُه في كتاب الله، أو تقوله برأي؟ قال: لا أُفَضلُ أُمّا على أب (¬3) (¬4). ¬
وهذه عبارةُ أهلِ العلمِ من الخلفِ والسلف؛ اتباعًا لكتاب الله، وعملًا بالأصول. ولقد أخطأ القاضي أبو الفتوح بنُ أبي عقامة حيث قال: لا يُقال: للأم ثلثُ ما بقي، وإنما يقال: لها سدسُ جميع المال، أو ربُعه؛ لمخالفة عبارة ¬
القرآن، فهو نظر إلى المتحصَّل، ولم ينظر إلى الطريق المؤدية إليه. * ثمَّ بيَّن اللهُ سبحانه أن فرضَ الأم مع الأخوة السدسُ، وذلك إجماعٌ من الأمة (¬1). * واختلفوا في مقدار الإخوة. فقال ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: هم ثلاثة؛ لأن الأخوين ليسا بإخوةٍ. وقال سائرُ الصحابةِ وغيرُهم من الفقهاء: مقدارهم اثنان، إما لأنهما أقلُّ الجمعِ حقيقةً، وإما لأنه محمول عليهما مجازًا للدليل. روي أن أبنَ عباسٍ دخل على عثمانَ -رضي الله تعالى عنهم-، فقال له: قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} وليس الأخوان إخوةً بلسانِ قومك، فقال له عثمانُ: لا أستطيع أن أردَّ ما كان قبلي، وانتشرَ في الأمصار، وتوارثَ به الناس (¬2). فاعتذرَ منهُ بالإجماع (¬3). * إذا تمَّ هذا، فالإخوةُ في الآية تقع على الذكور والإناث، إلا عند بعض المتأخرين ممَنْ لا يرى دخولَ الإناث في خطاب الذكور، فقال: لا تنقصُ ¬
الأم بالأخوات، إلا أن يكون معهنَّ أخ؛ لتغليب العربِ المذكرَ على المؤنث (¬1). * وبيَّن الله سبحانه أنه لا يرثُ ولا يورث إلَّا من كانَ موافقًا في الدين، ولم يكنْ عبدًا، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (¬2) [الأنفال: 73]. وروى أسامةُ بنُ زيدٍ: أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يَرِثُ الكافِرُ المُسْلِمَ، ولا المُسْلِمُ الكافِرَ" (¬3)، وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75]، ولأن توريثه يؤدي إلى توريثِ الأجنبي؛ لأنَّ السيدَ يملك العبدَ واكتسابَه، والأجنبيّ لا يرثُ مَنْ لا نسبَ بينَه وبينَه، ولا زوجية، وقد يكونُ الأجنبيُّ مالكُ العبدِ قاتلًا، فيؤدي إلى توريث القاتل، وقد قطعَ اللهُ الموالاة بينهما، فقال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]، فجعل وليَّ المقتول غيرَ القاتل (¬4). ¬
وروى ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يَرِثُ القاتِلُ شيئًا" (¬1). * ثمَّ بيَّن الله سبحانه أن التوريثَ المذكور إنما يكون من بعدِ وصيةٍ يوصي بها، أو دينٍ. فيحتمل أن يريد منهم أنهمِ لا يرثون شيئًا من التركة إلا بعدَ أداءِ الدَّين، وهو ظاهرُ الخطاب، وبه أخذ أبو سعيدٍ الإصطخريُّ من الشافعيةِ، فروي عنه منعُ الإرثِ بالدَّيْنِ مطلقًا، وروي عنه التفريقُ بين المستغرِق وغيرِه، فإن لم يكن مستغرِقًا، منع الإرث في القَدر (¬2) الذي يقابله (¬3). ويحتملُ أن يريدَ أنه ليسَ لهم قسمةُ التركةِ والأخذُ منها إلا بعد أداءِ الوصيةِ والدَّيْنِ، وأما الملكُ فينتقلُ إليهم، ويكونُ من بابِ التعبيرِ عن المسبَّبِ بالسببِ؛ لأن القسمةَ مسببةٌ، وسببُها الإرثُ، والدليلُ على ذلك الإجماعُ فيما إذا خلفَ اثنين، فماتَ أحدُهما قبلَ قضاءِ الدين، وخلفَ ابناً، ثم أبرأ (¬4) من له الدينُ، فإن التركةَ تنقسمُ بين الابنِ وابنِ الابنِ، فلو لم يملكِ الابنُ الهالكُ، لما ورثَ ابنُه. والدليل أيضًا أن من أسلمَ، أو أعتقَ بعد الموتِ وقبلَ قضاءِ الدين، ¬
لا يرثُ إجماعًا، ولو لم يورَّث قبل ذلك، لورثه هؤلاء. والدليلُ أيضًا كونُ الوصيةِ الشائعةِ لا تمنعُ الإرثَ اتفاقًا، وإنما تمنعُ قسمةَ التركةِ، وهي قرينةُ الدَّيْنِ في الحكم الذي فرق بينهما لشأنه، فلا يجوز أن يختلفا في الحكم اتفاقًا، فيفوتُ بيانُ الحكم الذي قرن بينهما لأجله، ولأنه يؤدي إلى حملِ اللفظِ الواحدِ على معنيين مختلفين، وذلك غيرُ جائزٍ عندَ أكثر الأصوليين، ولا شكَّ في أن غيرَ المشترَكِ خيرٌ منه. فإن قلت: الصحيحُ عند أهل العلم بالأصول أن المقارِنَ ليسَ له حكمُ قرينه، فكيف ادَّعيتَ الاتفاقَ (¬1) هنا؟ قلت: إن ذلك فيما إذا قَرَنَ بين أمرين في الذِّكر، وخَصَّ أحدَهما بالحكم دونَ الآخر، وأما إذا قَرَنَ بينهما، وقَصد بالحكم قصدًا إجمالياً، ثم بيَّن في أحدهما، فإن للآخر حُكْمَ قرينه، وهذا تحقيق حسنٌ لم يتنبَّهْ أحد عليه (¬2)، والحمدُ للهِ على نعمِه ومِنَنه. وبعدم المنع للإرث قال سائرُ الشافعية (¬3). وقال أبو حنيفة: إن كان الدَّيْنُ يستغرقُ التركةَ، منعَ الإرثَ، وإلا فلا يمنعُ من الإرث شيئاً (¬4). فإن قلتم: الوصيةُ والدَّيْنُ مطلقان، وذلك يقتضي تقديمَ أيِّ وصيةٍ كانت، وأيِّ دينٍ كان لله سبحانه، أو للآدميين. قلنا: أما الوصيةُ فهي مقيدَةٌ في قوله تعالى: {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]، ¬
وفي قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} [النساء: 9]، ولا يبطل حكمُ المقيدِ بتأخرِ المطلَقِ عنه، بل يقضى به عليه، وكذلك (¬1) التقييدُ مذكورٌ في حديثِ سعدِ بنِ أبي وقاص أيضًا (¬2). وأما الدينُ، فإنَّه في عُرْفِ اللسانِ مختصٌّ بدين الآدميين، وأما الواجباتُ الشرعيةُ، فلا تسمى في اللغة دَيْناً، ولهذا ألحقها مالكٌ وأبو حنيفةَ بجنس الوصايا، فقالا: إن أوصى بها، أُخرجتْ من الثلث، وإن لم يوص، لم يلزم الورثةَ إخراجُها، وألحقها الشافعيُّ بدين الآدميين (¬3)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرَأَيْتِ لَوْ كانَ على أمكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قاضِيتهُ؟ اقْضُوا اللهَ، فاللهُ أَحَق بالوَفاءِ" (¬4)، فهي لاحقة بالدينِ بالاستدلالِ، لا بالعموم. * إذا تَمَّ هذا، فالدَّين مقدَّم على الوصية عندَ اجتماعهما، والدينُ معتبرٌ من رأسِ المالِ، والوصيةُ من الثلثِ اتفاقاً، وكلمة (أو) معناها التفصيل والتقسيم. * ولم يذكر اللهُ سبحانه الكَفَنَ وتجهيزَ الميتِ؛ لوضوحِه عندَ الناس كما جرتْ عادتُهم بتقديمه على كل شيء، ولا شك أنَّه مقدَمٌ على الدِّيْنِ أيضًا بإجماعِ المسلمينِ، وإنما اختلفوا في مَحَلِّه، فقال بعضُ السَّلَف: محلُّه الثلثُ؛ لأنَّ المالَ ينتقلُ بالموت إلى الورثة، ولم يجعلِ اللهُ للميتِ إلا ¬
الثلثَ، فاختصت به مُؤْنتُهُ، ولم يجزِ التضييقُ عليهم في ملكهم. وقال الزهريُّ: إن كان الميتُ موسِرًا، فمحلُّه رأسُ المال، وإن كان مُعْسِرًا، فالثلثُ (¬1). وقال جمهورُ أهل العلم: محلُّه رأسُ المالِ مطلقًا، وبه قَالَ مالكٌ وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ (¬2)؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في المحُرِمِ الذي خَرَّ من بعيره: "كفِّنوهُ في ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ ماتَ فيهما" (¬3)، وكُفِّنَ مصعبُ بنُ عميرٍ في نَمِرَة ليس لهُ غيرُها (¬4)، ولم يسأل عن الثلث، ولو كان يختصُّ بالثلث، لسألَ وَبيَّنَ؛ لأنه موضع الحاجة، ولأن المالَ إنما نقل إلى الورثة؛ لاستغناء الميتِ عنه، وهو غيرُ مستغنٍ عن كفنه ومُؤْنَةِ تجهيزِه. وهذا التعليلُ ضعيف، فللمخالفِ أن يقول: لا أسلِّمُ أنَّ المالَ إنما انتقل إلى الوارثِ (¬5) لذلك، بل إنما انتقل إلى الوارث؛ لأنه لا يتصور لمن ¬
هو من أهل الآخرة أن يملك شيئًا من أغراض الدنيا، ولو قالوا: إذا كانَ الدينُ محلُّه رأس المال؛ فلا يكون (¬1) الكفنُ محلّه رأسُ المال (¬2)، لأنه مقدم عليه في الحياة قطعاً، ولو جاز أن يكون محلُّه الثلثَ، لما جاز أن يتقدم على الدين الذي محلُّه رأسُ المال؛ وهو خلاف الإجماع. * * * 68 - (9) قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12]. * بين الله سبحانه فيها ميراثَ الأزواج، فجعلَ للزوج النصفَ عندَ عدمِ الولد، والرُّبُعَ عندَ وجوده، وجعل لجنسِ الزوجاتِ نصفَ ذلكَ عندَ وجودِ الولد، وعندَ عدمه، وأجمع المسلمون على أنهم لا ينقصون عن النصفِ والربعِ والثمنِ، ولهذا خُصَّ النقصانُ بجانبِ الأُمّ في مسألة زوج وأبوين، وزوجةٍ وأبوين. وبيَّن اللهُ سبحانه أن للأخِ أو الأختِ من الأم السدسَ في ميراثِ الكلالة، فقال: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}. ¬
وأجمع أهلُ العلم بالقرآن (¬1) أن المرادَ إخوةُ الأم (¬2)، وكان سعدُ بنُ أبي وَقّاصٍ -رضي الله تعالى عنه- يقرأ: (وله أخٌ أو أختٌ من أُمٍّ) (¬3). فإن قيل: قراءةُ الصحابيِّ لا يقومُ بها حجة في التقييدِ لمطلَقِ القرآن، ولا تبلغُ رتبةَ خبرِ الواحدِ عند الشافعية، فهل نعلم للإجماع دليلًا أحسن (¬4)؟ قلنا: نعم، لمّا ذكرَ الله سبحانه في آيةِ الكَلالَةِ أن ميراثَ الأختِ الواحدةِ النصفُ، والبنتينِ الثلثان، وأن الأخَ يرثُها (¬5)، وبَيَّنَ في هذه الآية أن للأخ أو الأختِ السدسَ، فإن كانوا أكثرَ من ذلك، فهم شركاءُ في الثلث، علمنا أن المرادَ بالإخوة هنا غيرُ الإخوة هناك، وإلَّا لكانت إحدى الآيتين ناسخة للأخرى، والتشريكُ (¬6) بينهم في الثلثِ مُقتضاه التسويةُ بين الذكرِ والأنثى، وذلك إجماعٌ، وإنما استووا؛ لأنهم يُدلون بالرَّحِم، وسيأتي بيانُ الكَلالةِ -إن شاء الله تعالى-. * وحرم الله سبحانه المضارَّةَ فقال: {غَيْرَ مُضَارٍّ}. ¬
قال ابنُ عباسِ -رضي الله تعالى عنهما-: الإضرارُ بوصيةِ الله تعالى من الكبائر (¬1). وروي عن أبي هريرةَ عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجلَ لَيَعْمَلُ، أو المَرأَةَ، بطاعةِ اللهِ سِتِّينَ سَنَةً، ثمَّ يَحضُرُهما المَوْتُ، فَيضارّانِ في الوَصِيةِ، فَتَجِبُ لَهُمُ النارُ"، ثمَّ قرأ أبو هريرة: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} إلى قوله: {غَيْرَ مُضَارٍّ} (¬2). وقال عبدُ الله: هما المُرَتانِ: الإمساكُ في الحياة، والتبذيرُ عند الموت (¬3). * وقوله تعالى: {غَيْرَ مُضَارٍّ}: يحتمل أن يريدَ غيرَ مضارٍّ في الوصيةِ والدَّيْنِ، فلا يزيدُ على الثلث، ولا يوصي بَديْنِ ليس عليه، فيكون دليلًا على تحريمِ الوصيةِ بما زاد على الثلث. - ويحتمل أن يريد غيرَ مضارِّ في الدَّيْنِ فقط، وهذا يرجعُ إلى قاعدةٍ أصولية، وهي الصفة إذا تعقبت جُملاً، فهل تعمُّها، أو تختصُّ بالأخير؟ ¬
والأولُ مذهبُ مالكٍ والشافعيِّ وأصحابِهما، والثاني مذهبُ أبي حنيفةَ وأصحابِه (¬1)، ولكن قد دلَّ حديثُ سعدٍ على رجوعِه إلى الوصية أيضًا (¬2). * * * فصل وها أنا أذكر نُبذةً نافعة في علم المواريث؛ لشدة الحاجة إليها، وليتمَّ بها نفعُ كتابي هذا -إن شاء الله تعالى-، فنقول: * أجمعَ أهلُ العلم على أن الابنَ يأخذ جميعَ المالِ عندَ الانفراد. * وأجمعوا على إقامةِ ابنِ الابنِ مقامَ الابن، يرثُ كما يرثُ، ويَحجُبُ كما يَحجُبُ، إلا ما رُوي عن مجاهدٍ أنه قال: ولدُ الابنِ لا يحجُبُ الزوجَ من النّصفِ إلى الربع، ولا الزوجةَ من الرُّبُعِ إلى الثُّمُنِ، ولا الأمَّ من الثُّلُثِ إلى السُّدُسِ (¬3). ¬
* وأجمعوا على أنه ليسَ لبناتِ الابنِ مع البنتِ أكثرُ من السُّدُس تكملةَ الثلثين (¬1). وقالت الشيعة: لا ترثُ بنتُ الابنِ مع بنتِ الصُّلْب شيئًا كابنِ الابنِ لا يرثُ مع (¬2) الابنُ شيئًا (¬3). * وأجمعوا على أنَّه ليسَ لبناتِ الابنِ ميراثٌ بعد استكمالِ بناتِ الصُّلْبِ الثلثين، إلا أن يكونَ معهن ابنُ ابنٍ في درجتهن أو أسفلَ منهن؛ فإنه يعصبُهن، ويقتسمون (¬4) المالَ، للذكر مثلُ حظَ الأنثيين عندَ جمهور العلماء. وهو قولُ علي وزيدِ بنِ ثابتٍ رضي الله تعالى عنهم (¬5). وقال ابن مسعودٍ: يرثن معُه للذكرِ مثلُ حظ الأنثيين، إلا أن يكونَ الحاصلُ لهنَّ (¬6) أكثرَ من السدس، فلا يعطَيْنَ إلا السدسَ (¬7)؛ لأنهن لا يرثْنَ أكثرَ من السدسِ مع البنتِ عندَ عدمِ ابنِ الابنِ، فلا يَزيدونَ (¬8) عليه عند ¬
تعصيبه لهن، فإن كانت واحدةً، فالمقاسمة أحظُّ لابنِ الابن، وإن كنَّ ثلاثًا تعينَ لهنَّ السدسُ، وإن كنَّ اثنتين، استوى السدسُ والمقاسمةُ (¬1). وقال أبو ثور (¬2) وداودُ (¬3): المال لابنِ الابن، دونَهن؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقْسِمُوا المالَ بَيْنَ أَهْلِ الفَرائِضِ عَلى كِتابِ اللهِ، فَما تَرَكَتْ فَلأِوْلى رَجُلٍ ذَكرٍ" (¬4) (¬5). وحجةُ الجمهورِ عمومُ قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، [فقد تعارض حينئذ عموم الآية وعموم الحديث، فيحتمل أن يريد: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}] (¬6) فيما عدا هذه الصورة؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فما تركت فلأولى رجلٍ ذكرٍ". ويحتمل أن يريد: فما تركت فلأولى رجلٍ ذكر فيما عدا هذهِ الصورةَ؛ بدليل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ}، فيحتمل أنَّ يرجحه عمومُ الحديثِ بالقياسِ على كونهنَّ لم يرثْنَ في الانفراد، فأولى ألَّا يرثْنَ في حال ¬
الاجتماع، ويرجحُ عمومُ الآية بالقياسِ على كون ابن الابن يُعَصِّبُهُنَّ في حال حِيازةِ جملةِ المال، فأولى أن يعصبهنَ في حيازَةِ الفاضلِ. ثمَّ يرجَّحُ هذا القياسُ بشهادةِ الأصول له في إقامةِ ابنِ الابنِ مقامَ الابن في التوريث والحَجْبِ؛ كتوريثِ الواحدةِ النصفَ، والبنتينِ الثلثين، وتكميلِ النصفِ بالسدسِ ممَنْ هو أسفلَ منهن، وكحَجْبِ الأمِّ والأبِ والزوجِ والزوجةِ، ومثلُ هذا المقام تتقاومُ فيه الأدلةُ، وتتعارضُ فيه الظنونُ، وهذا نهايةُ ما يصل إليه نظرُ المجتهِد. * وأجمعوا على أن الأب يأخذُ جميعَ المالِ عند الانفراد، والباقي بعد الثلثِ مع وجود الأم. * وأجمعوا على إقامةِ الجدَّ مقامَ الأبِ في حِيازة جميعِ المال عند انفراده، وفي فرَض السدس مع الابنِ وابنِ الابن، وفي حجب الإخوةِ لأمٍّ (¬1) (¬2). * واختلفوا في إقامته مقامه في حَجْبِ الأخوة والأخوات، وفي كيفيةِ توريثه اختلافًا كثيرًا، وتحرَجَ الصحابةُ -رضي الله تعالى عنهم- من الكلام فيه. فروي عن عليٍّ -رضي الله تعالى عنه -: أنه قال: من أحبَّ أن يقتحمَ جراثيمَ جهنمَ (¬3)، فليقضِ بين الجَدَّ والإخوة (¬4). ¬
وعن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: أنه قال: سلونا عن كل شيء، ودَعونا عن الجَدِّ، لا حَيَّاهُ اللهُ ولا بيَّاه. فذهبَ أبو بكرٍ، وابنُ عباسٍ، وعائشةُ، وأبو الدّرداءِ، وابنُ الزبير -رضي الله تعالى عنهم- إلى أنه يقوم مقامه في حَجْبِهم (¬1). وبه قال أبو حنيفةَ، وداودُ، وإسحاقُ، واختارَهُ المزني وابنُ سُريج (¬2). وذهب عمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وابنُ مسعودٍ -رضي الله تعالى عنهم- إلى توريثِ الإخوة معه (¬3). وبه قال مالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ، والأوزاعيُّ، وأبو يوسفَ ومحمدُ بنُ الحسن (¬4). واختلفوا في كيفيةِ التوريثِ، فذهب زيدٌ -رضي الله تعالى عنه- إلى أنه يُعْطى الأفضلَ من المقاسمة، أو ثلثَ جميع المالِ إن لم يكن هناك ذو فَرضٍ، فإن كان معهم ذو فرضٍ، فيُعطى الأَفضلَ من ثلاثةِ أشياءَ: ثلثِ ما يبقى بعدَ الفرض، أو سدسِ جميعِ المال، أو المقاسمة. ¬
وبقوله أخذ مالكٌ، والشافعيُّ (¬1). وذهب على وابنُ مسعودٍ -رضي الله تعالى عنهما- إلى أنه يُعطى الأَحَظَّ من شيئين: المقاسمةِ، أو سدسِ جميع المال مطلقاً (¬2). وسنبين حكمه بسِتّ مسائل -إن شاء الله تعالى-؛ لأنه لا يخلو من ثلاثةِ أحوالٍ (¬3): 1 - إما أن يجتمعَ مع الإخوة الذكور فقط. 2 - أو مع الإخوة والأخواتِ. 3 - أو مع الأخوات. ومع ذلك فلا يخلو: إما أن يجتمعَ مع ذي فرضٍ أو لا، وذلك قسمان: القسم الأول: إذا لم يكن معهم ذو فرض، وفيه (¬4) ثلاثُ مسائلَ: المسألة الأولى: أن يجتمعَ مع الأخوة الذكورِ: فذهب زيدُ بنُ ثابتٍ -رضي الله تعالى عنه- إلى أن له الأوفرَ من المقاسمةِ، أو ثلثَ جميعِ المال. ¬
وبه قال الشافعيُّ (¬1). وذهبَ عليٌّ (¬2) إلى أنَّ له الأحظَّ من المقاسمة، أو سدَس جميع المال (¬3). وعنه رواية غير مشهورة: أن له الأحظَّ من المقاسمةِ، أو سبعَ جميعِ المال (¬4). المسألة الثانية: أن يجتمعَ مع الإخوة والأخوات، والحكمُ فيها كالتي قبلها. المسألة الثالثة: أن يجتمعَ مع الأخواتِ: فذهب زيدٌ -رضي الله تعالى عنه- إلى أن الحكم فيها كالتي قبلها، له الأحَظُّ من ثُلُثِ جميع (¬5) المال، أو المقاسمةُ، وإذا قاسمهنَّ كانَ له مثلُ حظ الأنثيين، ولا يفرض لهن مع الجَدِّ أصلًا. وذهبَ عليٌّ وابنُ مسعودٍ -رضي الله تعالى عنهما- إلى أنَّه يفرضُ للأخواتِ فروضُهُنَّ، ويكونُ الباقي للجدِّ. القسم الثاني: أن يكونَ معهم ذو فرضٍ، وفيه مسائل: المسألة الأولى: أن يجتمعَ الجدُّ والأخوةُ الذكورُ مع ذوي الفروضِ: فذهب زيدٌ -رضي الله تعالى عنه- إلى أنه يُعطى صاحبُ الفرضِ فرضَه، ¬
ويعطى الجَدُّ الأوفرَ من ثلاثة أشياءَ: المقاسمةِ، أو ثلثِ ما بقيَ، أو سدسِ جميع المال، إلا أَلَّا يبقى بعد الفروض إلا السدسُ، فإن الجدَّ يأخذُه (¬1)، ويسقط الإخوة. كما إذا ماتتِ المرأةُ وتركتْ زوجاً وأماً وأخاً وجداً، فإنَّ للزوجِ النصف، وللأمِّ الثلث، وللجدِّ السدس، ويسقط الأخ؛ لأنه ذو تعصيب. وبقوله أخذَ الشافعيُّ -رحمه الله تعالى-. وقياسُ مذهبِ علي -رضي الله تعالى عنه- أن له الأحظَّ من المقاسمةِ أو سدسِ جميع المال. ومثالُ ذلك إذا ترك زوجة وأماً وأخاً وجَدًّا، فإنَّ للزوجة الربعَ، وللأم الثلث، وللأخ والجد ما بقي، وهو خمسةٌ من اثني عشرَ، وتصحُّ من أربعةٍ وعشرين. وقال ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- في هذه المسألة: للزوجة الربعُ، وللأم ثلثُ ما بقي، وللجد والأخ سهمان. المسألة الثانية: أن يجتمع الجدُّ والإخوةُ والأخواتُ مع ذوي الفروض، فالحكمُ كالمسألة التي قبلها. ومثالُه: إذا ترك زوجة وأماً وأخاً وأختاً وجَداً، فإن للزوجة الربعَ، وللأمِّ السدس، والباقي بين الجدَّ والأخ والأخت، للذكرِ مثلُ حَظِّ الأنثيين، وتصحُّ من ستين، للزوجة خمسةَ عَشَرَ، وللأم عشرةٌ، وللأخت سبعةٌ، وللجدّ أربعةَ عَشَرَ، وللأخ أربعةَ عَشَرَ. المسألة الثالثة: أن يجتمع الجدُّ والأخوات مع ذوي الفروض. فمذهبُ زيدٍ -رضي الله تعالى عنه-: أن للجدَّ الأحظَّ من الأمورِ الثلاثة ¬
بعد عطاءِ ذوي الفروض فروضَهم، إلا ألا يبقى بعدَ سِهام ذوي الفروض إلا السدسُ، وكان في ذوي الفروض بنتٌ للبنت، فإنه لا شيِءَ للأخوات؛ لأنهن مع البناتِ عَصَبَةٌ، وقد استغرقَ ذَوو الفروض فروضهم؛ كما إذا تركتْ زوجًا وأماً وبنتًا وأختًا وجدًا، فأصلُها من اثني عشر، للزوج الربعُ، وللبنت النصفُ، وللأم السدسُ، وللجدِّ السدسُ، ولا شيءَ للأخت (¬1). ومذهبُ عليٍّ -رضي الله تعالى عنه- بُيِّن فيما مضى، وفيما يأتي. * وفي هذه المسألة صورٌ اختلفَ فيها الصحابةُ -رضي الله تعالى عنهم-: الأولى: إذا ترك زوجة وأختًا وجدًا: فذهب زيدٌ -رضي الله تعالى عنه- إلى أن للزوجة الربع، والباقي بين الجدّ والأخت، للذكرِ مثلُ حظ الأنثيين، ويصحُّ من أربعة. وبه أخذ الشافعيُّ رحمه الله تعالى (¬2). وذهب عمرُ وابنُ مسعود -رضي الله تعالى عنهما- إلى أن للزوجة الربعَ، وللأخت النصف، وللجدِّ ما بقي، وتعرفُ هذه المسألة بالمربَّعة؛ لأنهم اتفقوا على أنها من أربعة (¬3). واختلفوا في كيفية التوريثِ، وقياسُ مذهبِ عليٍّ -رضي الله تعالى عنه- كمذهب ابن مسعود؛ لأنه يفرضُ للأخوات مع الجدِّ. ¬
الصورة الثانية: إذا ترك أماً وأختاً (¬1) وجدًّا. فذهبَ زيدُ بنُ ثابت -رضي الله تعالى عنه- إلى أن للأم الثلثَ، والباقي بين الجدِّ والأخت، للذكرِ مثلُ حَظ الأنثيين، وأصلها من ثلاثة، وتصحُّ من تسعة. وبه قال الشافعي رحمه الله تعالى. وقال عمر -رضي الله تعالى عنه- في إحدى الروايتين عنه: للأختِ النصفُ، وللأم السدسُ، والباقي للجدّ وقال في الرواية الأخرى: للأخت النصفُ، وللأم ثلثُ ما بقي، والباقي بين الجد والإخوة نصفين، أي: إن كانوا. وقال ابنُ مسعود -رضي الله تعالى عنه-: للأخت النصفُ، والباقي بين الجدَّ والأم نصفين. وعنه روايتان كروايتي عمرَ رضي الله تعالى عنهما. وقال عثمانُ رضي الله تعالى عنه-: يقسم المال على ثلاثة أسهم، للأمِّ سهمٌ، وللجدِّ سهمٌ، وللأخت سهمٌ. وقال علي -رضي الله تعالى عنه-: للأم الثلثُ، وللأخت النصفُ، وللجدّ السدسُ. وهذه المسألة تسمى الخرقاءَ؛ لتخرُّقِ أقوالِ الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- فيها؛ فإنها تبلغ تسعةً بقول أبي بكرٍ وابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهم (¬2) -. ¬
الصورة الثالثة: إذا تركت زوجًا وأمًا وأختًا وجدًا، وهذه التي تسمى بالأكدريّة (¬1)، فكان (¬2) عمرُ وابنُ مسعود -رضي الله تعالى عنهما- يقولان: للزوجِ النصفُ، وللأختِ النصفُ، وللأمِّ السدسُ، وللجدِّ السدسُ، ويعولُ إلى ثمانية. وكان عليّ وزيدٌ -رضي الله تعالى عنهما- يقولان: للزوج النصفُ، وللأخت النصفُ، وللأم الثلثُ، وللجد السدسُ، ويعول إلى تسعة. إلا أن زيدًا كان يجمعُ الثلاثةَ التي للأختِ، والسهمَ الذي للجد، فيصير أربعة، يقسمها بينهم للذكر مثلُ حظ الأنثيين، وتصح من سبعة (¬3) وعشرين، للزوج تسعةٌ، وللأم ستة، وللجد ثمانيةٌ، وللأخت أربعةٌ. وبه أخذ الشافعيُّ -رحمه الله تعالى-؛ لأنه لا سبيل إلى إسقاط الأخت؛ لأنه ليس هنا بنت تسُقطها، ففُرض لها النصفُ، ولا يمكن أن تأخذَ جميعَه؛ لأنه لا يجوز تفضيلُها على الجَدّ، فوجبَ أن يُجمع نصيبهما، فيقسمانِهِ. ¬
وضعف الجميعُ التشريكَ الذي قال به زيدٌ في هذه الفريضة، حتى زعمَ بعضُهم أنه ليسَ من قولِ زيدٍ. روي عن الأعمش أنه قال: إنما سميت الأَكْدَرِيَّةَ؛ لأن عبدَ الملكِ بنَ مروانَ سأل عنها رجلًا يقال له: أَكْدَرُ، فذكر لهُ اختلافَ الصحابةِ فيها (¬1). وقيل: سميت أكدرية؛ لأنَّ امرأةَ تسمى أكدرية ماتت وخلفت هؤلاء، فسميت أكدريةَ (¬2). وقيل: لأنها كَدَّرَتْ على زيدٍ أصلهَ؛ لأنه لا يفرض للأخواتِ مع الجَدّ، وقد فرض، ولا يعيل مسائلَ الجد، وقد أعالها هنا (¬3). ثم اختلفوا أيضًا: فذهب زيدٌ -رضي الله تعالى عنه- إلى أن الإخوة للأب وللأم يعادون الجد بالأخ للأب، فيمنعونه بهم أكثر الميراث، ثم (¬4) يأخذونه من الأخ للأب، قياسًا على الأخ للأب والأم، والأخِ للأب؛ حيث ينقصون الأمَّ من الثلث إلى السدس، ويأخذ الأبُ ما في أيديهم، وبه أخذ الشافعيُّ رحمه الله تعالى. وذهب على وابنُ مسعود -رضي الله تعالى عنهما- إلى عدم اعتبارهم؛ لأنهم محجوبون، والاحتسابُ بمن لا يرثُ مخالفٌ الأصولَ. ¬
واختلفوا -أيضًا- (¬1) في إقامته مقامَ الأبِ في مسألةِ زوجٍ وأبوينِ، وزوجةٍ وأبوينِ، فإذا تركت زوجًا وأمًا وجدًا، فذهب زيدٌ -رضي الله تعالى عنه- إلى أن للزوج النصفَ، وللأم الثلث، وللجدِّ السدس. وإن كان بدل الزوج زوجةٌ، كان للجدّ الباقي بعد الربع والثلث. وبه أخذ الشافعيُّ رحمه الله تعالى. واختلف أصحابه في العبارةِ، فقال بعضهم: للزوجةِ الربعُ، وللأمِّ الثلثُ، وللجدِّ السدسُ، وما بقي للجدِّ؛ لأنه أخذه بجهتين: جهةِ الفرض، والتعصيب. وقال بعضهم: يجوز أن يُقال: والباقي للجدِّ. وروي عن عمر -رضي الله تعالى عنه-: أن للزوج النصفَ، وللأمّ ثلث ما يبقى، والباقي للجدِّ، وأقامه مقامَ الأبِ. وروي عنه أن للزوج النصفَ، وللأم السدس، والباقي للجدّ. وتظهر فائدة العبارتين إذا كان بدلَ الزوجِ زوجةٌ. وروي عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: أن للزوج النصفَ، والباقي بين الجد والأم، وهذه من مربَّعاتِ ابن مسعود، وعنه روايتان كروايتي عمر رضي الله تعالى عنه. * وأجمعوا على توريثِ الجدةِ للأم (¬2) السدسَ عندَ عدمِ الأم (¬3) (¬4)، ¬
ولا يقيمونها مقامَها، إلا ما شذَّ عنِ ابنِ عباسٍ: أنَّه جعلَ الجدةَ كالأمِّ، فورثَها الثلثَ (¬1). * وأجمعوا على توريثِ الجدةِ أُمّ الأبِ السدسَ عندَ عدمِ الأبِ (¬2). * وأجمعوا على أن السدسَ بينهما عندَ اجتماعِهما؛ لما رَوى قَبيصَةُ بنُ ذُؤيب: أن جَدَةً جاءتْ إلى أبي بكرٍ -رضي الله تعالى عنه- تسأله عن ميراثها، فقال أبو بكر: مالك في كتاب الله شيءٌ، وما علمتُ لكِ في سُنَّةِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، فارجعي حتى أسألَ الناسَ، ثمَّ سألَ الناسَ، فقال المُغيرةُ بنُ شُعبةَ: شهدتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وقدْ أعطاها السُّدُسَ، فقال أبو بكر: من يشهدُ معك؟ فقام محمدُ بنُ مسلمةَ، فشهد بما شهدَ به المغيرةُ، فأنفذَهُ أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- لها. ثم جاءت الجدَّةُ الأخرى إلى عمرَ -رضي الله تعالى عنه- تطلب ميراثها، فقال: ما لكِ في كتابِ الله شيءٌ وما كان ذلكَ القَضاءُ الذي قُضي به إلَّا لغيركِ، ولستُ بزائدٍ في الفرائض؛ لأنما هو ذلك السدس، وإن (¬3) اجتمعتُما فهو بينَكُما، وأيتكما خَلَتْ به، فهو لها (¬4). * واختلفوا في توريث مَنْ عدا هاتين الجدتين إذا اجتمعْنَ، كما إذا ¬
ارتفعْنَ إلى المنزلة الثانية، فاجتمع اثنتان من جهةِ الأمِّ، وهما أمُّ (¬1) أمِّ الأمِّ، وأمُّ أب الأم، واثنتان من جهة الأب، وهما أمُّ أمِّ الأب، وأمُّ أبِ الأب، فكانَ زيدٌ وأهلُ المدينة لا يُوَرِّثون الاثنتين، وهما أمُّ أمِّ الأمِّ، وأمُّ أمًّ الأبِ، وإن عَلَوْنَ. وبه قال مالكٌ والشافعيُّ في أحد قوليه؛ للحديث السابق. وكان عليٌّ وابنُ عباس وزيدٌ -في إحدى الروايتين عنه- يورثون معها (¬2) أُمَ أبِ الأبِ. وبه قال أهلُ الكوفة، وأبو حنيفةَ، والثوريُّ، والأوزاعيُّ، وأحمدُ، والشافعيُّ في أحد قوليه؛ لأنها تُدلي بوارثٍ، فهي كأمِّ الأمِّ، ولما روى ابنُ عيينة، عن منصورٍ عن إبراهيمَ: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وَرَّثَ ثلاثَ جَدّات: اثنتين من قِبَلِ الأبِ، وواحدةً من قِبَلِ الأم (¬3). وكان ابنُ مسعود يورِّث الأربعَ، وبه قال الحسنُ وابنُ سيرينَ؛ تشبيهًا لجدةِ الأمِّ بجدةِ الأبِ. ثم اختلفوا في صفةِ توريثهنَّ، فكان ابن مسعودٍ -رضي الله تعالى عنه- يُشْرِك بين الجدات في السدسِ؛ دُنياهُنَّ وقُصواهُنَّ، ما لم يحجُبْها ابنُ ¬
ابِنها، وبنتُ بنتِها، وروي عنه أنه كان يُسقط القُصوى بالدُّنيا، إذا كانتا من جهة واحدة (¬1). والذي عليه سائرُ الناسِ من الصَّحابة وغيرِهم أن البُعْدى تَسقط بالقربى عند اتِّحاد جهتهما، وعند اختلافهما إذا كانتِ القُربى من جهة الأمِّ، والبُعدى من جهة الأب. * واختلفوا في ما إذا كانت القربى من جهة الأب، والبعدى من جهة الأم، فكان عليٌّ -رضي الله تعالى عنه- يسقط البُعْدى بالقُرْبى. وقال به أهلُ الكوفة، ورووه عن زيدٌ -رضي الله تعالى عنه-؛ لأنهن أمهاتٌ، فكما يقدم من الآباء أقربُهم، وكذلك هنَّ، واختاره ابن المنذر. والرواية الثانية التي رواها المدنيون عنه أنه كان لا يُسقطها بها، وبه قَالَ مالكٌ والشافعيُّ في الأصحَّ من قوليه (¬2)؛ لأنَّ الأبَ لا يُسقط أُمَّ الأُمِّ، وهو أقربُ منها، فأولى ألَّا يسقط القُربى من جهة البُعدى من جهةِ الأم. * واتفقوا على أنه لا ترثُ جدةٌ مع وجود الأمّ من أيّ جهةٍ كانت (¬3)، فالأم تحجُب أُمَّ نفسِها وأمَّ الأبِ؛ لأنها أقربُ منهن، ولا يحجُب الأبُ أمَّ الأمِّ لأنه لا يحجُبُ الأمَّ، فلم يحجُب أمَّها، كما لا يحجُبُ الأبُ ابنَ الابن. ¬
* واتفقوا على أن الجدَّ لا يحجُب أمَّ الأبِ؛ لاستوائِهما في الدرجة (¬1). * واختلفوا في الأبِ هل يحجبُ أمَّ نفسه؟ -فذهب زيدٌ، وعثمانُ، وعليّ -رضي الله تعالى عنهم- إلى أنَّه يحجُبُها. وبه قال شريحٌ، والأوزاعيُّ، والليثُ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأبو حنيفة وأصحابه؛ قياسًا على الأمِّ، ولأنه لما كان الجدُّ محجوباً بالأب، أوجبَ أن تكونَ الجَدَّةُ أولى. - وذهبَ عمرُ بنُ الخطاب، وابنُ مسعودٍ، وأبو موسى، وعمرانُ بن الحصينِ إلى أنه لا يحجُبُها. وبه قَالَ عطاءٌ، وابنُ سيرينَ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وابنُ المنذرِ، وبعضُ أصحاب مالكٍ؛ لما روى محمدُ بنُ سالمٍ، عن الشعبيِّ، عن مسروقٍ، عن عبدِ الله -رضي الله تعالى عنه -قال: أولُ جدَّةٍ أطعمها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَدَّةٌ مع ابنِها (¬2)، ولأنه لما كانتِ الأمُّ وأمُّ الأمِّ لا يُحجَبْنَ بالذكور، كُنَّ جميعُ الجداتِ كذلك. وأجابوا عن الخبر بأنّه إنما رُوي منقطعاً عن الحسنِ بنِ أبي الحسن، ومحمد بنِ سيرين، وإنما تفرد بوصله هكذا محمدُ بن سالم، وهو غير محتجّ به، وبأنه يجوزُ أن يكون ابنُها الوارثَ من ابنِ أخته التي ورثت السدسَ منه، والله أعلم (¬3). ¬
من أحكام الحدود
(من أحكام الحدود) 69 - (10) قوله عَزَّ وجَل: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]. الفاحشة هنا: الزنا، مقتصٌّ من قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، ومن قوله: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. * وبين اللهُ سبحانه أن نصابَ الشهادةِ على هذهِ الفاحشة أربعةٌ من المؤمنين (¬1)، فقال هنا: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15]، وقال في موضع آخر: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6]، وقال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8]. ¬
* وقيد الشهداءَ (¬1) بالإضافة إلى المؤمنين، وأطلقَ صفتَهم هنا، وقيدَها في موضع آخرَ فقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، وقال أيضًا: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. فإن قلتم: فقد تميزت هذه الشهادةُ عن سائرِ الشهاداتِ بالحقوقِ، فهل تلحق بها شهادة المرءِ على نفسه، فلا بد من أربع شهادات (¬2) في الإقرار؛ كسائر الأصول المختصة بالزنا، أو يكفي مرة واحدة كسائر الأصول في الإقرار بالحقوق؟ فالجوابُ أنه يحتملُ الأمرين. وبالأول: قال أبو حنيفة (¬3)، وأحمدُ (¬4)، وإسحاقُ (¬5). وبالثاني: قال الشافعيُّ (¬6) ومالكٌ (¬7). ¬
والراجح إلحاقُ أبي حنيفةَ؛ لأن إلحاقَ الشيء بالأصول التي من جنسه أولى من غير جنسه، ويَعْضِدُه الحديثُ وظاهرُ القرآن. أما الحديث، فما روينا في "الصحيحين" من حديثِ أبي هريرةَ -رضي الله تعالى عنه- قال: أتى رجلٌ من المسلمين رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في المسجد، فناداه: يا رسول الله إني زنيت، فأعرضَ عنه، فتنحَّى تِلقاءَ وجهه، فقال: يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض عنه حتى عَدَّ (¬1) أربع مراتٍ، فلما شهدَ على نفسه أربعَ شهادات (¬2)، دعاهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "أَبكَ جُنونٌ؟ " قال: لا، قال: "فَهَلْ أَحصَنْتَ؟ " قال: نعم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اذْهَبُوا بِهِ فارْجمُوُهُ" (¬3). وأما ظاهرُ القرآن العزيز، فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]، فسمى الإقرارَ شهادةً، وقد (¬4) اشتركا في التسمية، فاعتبر فيها العددُ؛ كشهادة الغير. وأما إطلاقُ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "واغْدُ يا أنيْسُ عَلى امْرَأَةِ هذا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ، فَارجُمْها" (¬5)، محمولٌ على تقييد حديث أبي هريرةَ -رضي الله تعالى ¬
عنه -، فلا دليل فيه على خلاف أبي حنيفة. * ثم أمر الله سبحانه بإمساكهِنَّ في البيوت حتى يتوفاهُنَّ الموتُ، أو يجعلَ اللهُ لهنَّ سبيلًا، وإمساكُهن حفظٌ لهنَّ عن الزنا، وليس بحكمٍ ولا حَد، وقد اعتقده كثيرٌ من الناس حكمًا، وسمَّوه حَدًّا، ولعلهم سَمَّوْهُ تجوزاً، أو ملاحظةً للوضع اللغويِّ؛ فإن الحدَّ في اللغة هو المنعُ (¬1)، وأما أنه حَدّ حقيقيٌّ شرعيٌّ، فلا (¬2). * وقيَّد الله سبحانه اللاتي يأتينَ الفاحشةَ بكونهنَّ من نساءِ المؤمنين. - فيحتمل (¬3) أن يكونَ أرادَ حقيقةَ التقييدِ، فلا يتناولُ الحكمُ غيرَ نساءِ المؤمنين. ¬
- ويحتمل أن يكون جَرى التقييدُ بالمؤمنين لمواجهته (¬1) إياهم بالخطاب. وبالأول قال أبو حنيفةَ (¬2) ومالكٌ (¬3)، فاشترطا الإِسلامَ في المحدودِ (¬4) بالرجم والجلدِ الذي استقر حكمًا مبينًا لهذه الآية، فيكون إطلاقهُ أيضًا مبيَّنًا بتقييدِ المبيَّنِ بنساءِ المؤمنين، فأنه (¬5) إذا كان اللفظ مفتقرًا إلى البيان لإجماله، فهو مقيدٌ بحالٍ أو صفةٍ، فورد لفظٌ مُبَيِّنٌ لذلك الإجمال (¬6)، وهو حالٌ من ذلك التقييد، حمل على التقييد، وصار مبيِّناً (¬7). ويشهد للتقييد التقييدُ في الآية التي تليها، وهو قوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: 16]. ويشهد له أيضًا الاعتبارُ بالتقييد؛ كقوله تعالى: {وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55]. وبالاحتمال الثاني قال الشافعيُّ (¬8)، ويشهدُ له ما رويناه في "الصحيحين" من حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: إن اليهودَ ¬
جاؤوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكروا (¬1) أن امرأةً منهم ورجلا زَنَيا، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما تجدونَ في التَّوراةِ في شأنِ الرَّجْمِ؟ "، فقالوا: نفضحهم، ويجلدون، قال عبدُ الله بنُ سَلامٍ: كذبتم، فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضعَ أحدُهم يدَه على آية الرجم، فقرأ ما قبلها، وما بعدَها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفعْ يدكَ، فرفعِ يدَهُ، فإذا فيها آيةُ الرجمِ، فقال: صدقتَ يا محمَّد، فأمر بهما النبي -صلى الله عليه وسلم-، فرُجِما (¬2). واعتذر الحنفيةُ: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- رجمهما بحكمِ التوراةِ، وأن ذلكَ عندَ قدومِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ (¬3)، وادَّعَوا أن آيةَ الرجمِ نزلتْ بعد ذلك، فكانَ (¬4) الحديثُ منسوخاً (¬5). وهذا خطأ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تَجِدُونَ في التوراةِ في شَأنِ الرَّجْمِ؟ "، فدلَّ على أن ذلكَ بعدَ نزولِ الرجمِ وتقرُّرهِ عندَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، والنسخُ يحتاج إلى تاريخٍ، وبعيدٌ أن يجدوه منقولاً. ولو اعتذروا بكونِ ذلك عقوبة كليَّة جاءت خصيصًا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - مؤاخذةً لهم من عند الله سبحانه بنقيضِ قصدِهم؛ حيث قصدوا الرخْصَةَ معَ وجُودِ حكمِ اللهِ عندَهم الذي استُحفظوه، وكانوا ¬
عليه شهداءَ، فأوجبَ ذلكَ عليهم عقوبة وانتِقاماً لإعراضهم عن قبولِ حكمٍ يعتقدونه إلى حكم يَجْحدونه ويكفرون به = كان أقربَ من دعوى النسخ. ولا شكَّ أن قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] لفظٌ ظاهرهُ العُموم، فيجوز أن يكونَ أُريد به التخصيصُ، إما بالأبكارِ من النساءِ، أو بالثَّيّبات منهن، ويجوزُ أن يكونَ على عمومهِ فيعمَّ البكْرَ والثَّيِّبَ، هذا هو المُتَعَينُ عندي؛ لإطلاق اللفظِ على حقيقةِ عمومهِ، وليَس هنا دليلٌ على التخصيص بالأبكار أو بالثيّبات. فإن قلتم: فهل نجد بياناً يعضد قولك؟ قلت: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خُذوا عني، خُذوا عني، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُن سَبيلًا، البِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مِئةٍ وتَغْريبُ عامٍ، والثَّيِّبُ بالثيِّبِ جَلْدُ مِئَةٍ والرَّجْمُ" (¬1)، فذكر البكرَ والثيّبَ بعدَ أن ذكر الضميرَ العائدَ عليهنَّ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قد جعلَ اللهُ لهنَّ سبيلًا"، وضم إلى بيانهن بيانَ حكمِ المذكور الذي في الآية الثانية، فدَّل على أنه على عمومه. إذا تقرَّرَ هذا، فقد قال بعض المفسرين، وبعض مؤلفي الناسخ والمنسوخ: إن هذه الآيةَ في البِكْرين (¬2) تردُّ التي بعدَها في المُحصَنين (¬3)، وقال أكثرُهم: هذه في المحُصَنيَن (¬4)، والتي بعدَها في البِكرين (¬5) (¬6). ولقد أخطؤوا خطأ فاحشًا من جهة اللغة؛ حيث أطلقوا اللفظَ المختصَّ ¬
بالإناثِ، وهو قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ} على الذكور؛ إذ لا يُعرف في اللسان أن جمعَ الإناثِ يتناولُ الذكورَ، لا منفردينَ ولا مجتمعين مع الإناث، نعم يجوزُ في لغةٍ شاذةٍ إطلاقُ جمعِ المؤنثِ على جمع (¬1) المذكر مَجازًا في جمع الموصولِ خاصَّة؛ كقولِ الشاعر: [البحر الوافر] فَما آباؤُنا بأمنَّ مِنْهُ ... عَلَينا اللائي قَدْ مَهَدُوا الحُجُورَا (¬2) ولا يجوزُ تنزيلُ قولهم على هذا؛ لأن القرآن لم يردّ باللغة الشاذة، ولو لم تكن شاذةً، لَمّا جازَ؛ لقولهِ تعالى: {يَأْتِينَ}، ولو كانَ المرادُ به اللغة المذكورة لقال: يأتون؛ كقوله: مهدوا الحُجورا، وللتقييد بالنساء؛ كقوله تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمْ}، فليس على تخصيصهم إحدى الآيتين بإحدى الصفتين دليلٌ، وإنما هو تحكُّمٌ باطل. * ثم اختلف أهلُ العلم: - فقال بعضهم: هذه الآيةُ منسوخةٌ بآية الجَلْد (¬3) (¬4)؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قد جعلَ اللهُ لهنَّ سبيلًا"، وأضاف البيانَ إلى اللهِ تعالى. - وقال بعضُهم (¬5): ليست منسوخةً؛ لأن الله سبحانه علقَ البيانَ بوقتٍ، ¬
وقد بيَّنَ اللهُ سبحانه السبيلَ بالحُدود، وضعفه بعضهُم بأن الوقتَ غيرُ معلومٍ ولا محدودٍ [وإنما كان يمتنعُ من النسخِ لو قال: (حتى يتوفاهنَّ الموتُ)، أي: يبلغن إلى وقتِ كذا] (¬1). وهذا التضعيفُ ضعيفٌ، بل الصوابُ أنها ليستْ بمنسوخةٍ؛ لأن النسخَ لا يكون إلا بعد استقرارِ حكمٍ متقدّمٍ، وهذه الآية لم يبين الله فيها حُكْمًا، وإنما وعدَ عباده ببيانِ الحكم في الوقت الذي يريدُه، وأمرهم بإمساك الزواني؛ حفظًا لهم من الزنا؛ وانتظاراً لوعده وقضائه، ثم منَّ اللهُ على عبادِه ببيانه وشرعِه في الوقتِ الذي أراده، فهذا بيانٌ لا نسخٌ، ونظيرُه إذا قَالَ السيدُ من العربِ لعبدِه: سالمُ احبسْ عبدَكَ غانِمًا الذي أساء (¬2) حتى يموتَ، أو يأتيكَ قضائي فيه، فلا يقال: إن السيدَ حكمَ في غانمٍ بحكمٍ، وإنما حبسَهُ لأجلِ القضاء. وبهذا يتبيَّنُ (¬3) لكَ أن آيةَ السيفِ (¬4) نسخَتْ كلَّ عفوٍ وصَفحٍ عن المشركين، وإن كان قد علَّق قضاءه بوقتٍ غير معلوم؛ كقوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109]، وقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} [الأعراف: 87]؛ لأن العفو والصفح والصبر حكمٌ مستقرٌّ، وهو الكفُّ عن قتالِهم، والاستسلامُ معهم. ¬
70 - (11) قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16]. * قد بينتُ أن هذه الآيةَ مختصةٌ بالذكور، وأن الآيةَ الأولى خاصَّةٌ بالإناث عامَّةَّ فَي أنواعهن، ثم كذلك هذه عامَّةٌ في أنواعِ الذكورِ من الِبْكرين والثَّيبين (¬1)، وإنما قلت هذا؛ لأن الله سبحانه ذكرَ الإناثَ بلفظ يخصُّهُنَّ، وذكر الذكورَ بلفظٍ يخصُّهم، وقيدَ لفظَ الإناثِ بقوله: {مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15]، وقيدَ لفظَ الذكور بقوله: {مِنْكُمْ} [النساء: 16]، ففي التقييد دلالتان: التقييد بالنساء، والتقييد بكونهن من نساء المؤمنين. * ثم أمر اللهُ -سبحانه- بإيذاء الذَّكَرَيْنِ إذا زنيا، والإيذاءُ أمر مُجْمَلٌ لا يُعرفُ المُرادُ منه، فيجوز أن يُرادَ به التوبيخُ والضربُ (¬2)، فبين هذا المجملَ مع بيان السبيلِ الذي وعدَ به اللهُ سبحانه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "خُذوا عَنِّي، [خُذُوا عَنِّي"، الحديث. فآيةُ الجلد مبينةٌ لجنسِ الإيذاءِ في حقِّ البِكْرِ، وآيةُ الرجمِ ناسخةٌ للأذى ¬
في حقِّ الثيّبِ؛ إذ لا يجوزُ في اللسانِ إطلاقُ الأذى على الرجمِ والقتلِ حتى تكون مبينة لمُجْمَلِه، وإنما يُطلق الأذى على ما دون ذلك. فهذه الآيةُ بعضُها مبيَّنٌ وبعضُها منسوخٌ، إلا أن يثبتَ تعيينُ الإيذاءِ بنوعٍ معلومٍ مستقرٍّ في الشرع، فتكون هذه الآيةُ منسوخةً في حقِّ البكرِ والثيِّبِ، وثبوت ذلك طريقه] (¬1) [النقل الصحيح، ولقد أخطأ من خصَّ الأنثيين بالبكرين (¬2)، حتى تحكم. ونسخُ الأولى بالثانية من وجهين] (¬3): من طريق اللغة والنقل. أما اللغة، فَلِمَا قدمتُ، فلا يجوز أن يجعل المذكر ناسخًا لخطابِ المؤنث الذي لا يجوزُ إطلاقهُ على المذكَّرَ (¬4) بحالٍ. وأما النقلُ، فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبيلًا، البِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مِئَةٍ وتَغْريبُ عامٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ جَلْدُ مئةٍ والرَّجْمُ" (¬5) ولم يقل: [خذوا عني] (¬6)، خذوا عني (¬7)، قد جعل الله لهن سبيلًا هو الأذى، فدلَّ على بطلانِ قوله. * وفي الآية دليلٌ على أن الزانيَ إذا تابَ سقطَ عنُه الحَدُّ؛ لأن اللهَ سبحانه أمرنا بالإعراضِ عنه، ولو كانَ واجبًا لم يسقطْ، ولَما أَمَرنَا بالإعراض، ¬
وهذا أحدُ قولَي الشافعيِّ -رحمه الله تعالى- (¬1). وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ -رحمهما الله تعالى- والشافعيُّ في القول الجديد: إن الحدَّ لا يسقطُ بالتوبةِ (¬2). واستدلَّ قائلوه بإطلاقِ قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2]، ولا دليلَ فيه؛ لأنه مطلقٌ، وهذا مقيدٌ بالتوبة، والمقيدُ قاضٍ على المطلقِ باتفاقِ أهل العلمِ بشروط الاستدلال. وهذا عندي أقوى دليلًا، وبه أقول؛ للنص المذكور في الآية، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في ماعز: "هَلَّا تَرَكتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ فَيتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ" لَمَّا أخبروه أنه قال: رُدُّوني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَمّا مَسَّهُ ألمُ الحجارة (¬3). * وعطفُ الإصلاحِ على التوبة: - يحتملُ أن يُرادَ به الإصلاحُ بنفسِ التوبة، أي (¬4): فإن تابا وأصلحا بالتوبة. - ويحتمل أن يرادَ به: فإن تابا وأصلَحا العمل، وهو الظاهر؛ لأن ¬
العطفَ يقتضي الغَيْرِيَّةَ، ولأن به تتبيَّنُ التوبةُ الخالصةُ لله -تعالى- من التوبةِ للتَّقِيَّةِ. * وقد اختلفَ الشافعيةُ في اشتراطِ الإصلاح، والصحيحُ اشتراطهُ (¬1). * وينبغي أن يُعْلَمَ أن الإصلاحَ شرطٌ لمسقط الحَدِّ، لا أنه مُسْقِطٌ للحدِّ بنفسِه، وقد وهم بعضُ الشافعية، فجعل نفسَ الإصلاح مسقطًا للحدِّ، وليس كذلك. * ولما أطلقَ الله سبحانه الإصلاحَ في الأزمانِ، ولم يقيِّدْه لنا، نظرْنا في بيانه، وفي (¬2) الدلالة عليه، فوجدنا الشرعَ قد قَدَّر حولًا في فراقِ الأمرِ المألوفِ امتحانًا للإنسان، فغرَّبَ البِكْر إذا زنى عامًا؛ عقوبةً له بفراقِ وطنهِ المألوف المحبوبِ، فاستدللنا بذلكَ على أنه (¬3) من ادَّعى نفي نفسِه عن مألوفها وشهواتِها، فلا بدَّ من امتحانِه بعامِ، كتغريبِ البكرِ إذا زنى، وهذا الاعتبارُ أحسنُ من الاعتبار بحولِ الزكاةِ والجزية؛ فإن ذلكَ من باب الرفقِ بالأموال. ولما رأى إمامُ الحرمين والغزاليُّ، -رحمهما الله تعالى- مباينةَ هذا الحولِ للزكاةِ (¬4) والجزية، وأن اعتبارَهُ به غيرُ مطابقٍ (¬5)، رجعا إلى الأمر ¬
المقصودِ به، وهو الدلالةُ على صدقِه في توبته، فوجداه يحصل بمضيِّ مدة يغلب على الظنِّ صدقُه فيما ادعاه، ويختلف ذلك بأمارات الصدق، وقُوَّتِها وضعفها. والأولُ قولُ أكثر الشافعيةِ، وهو الأولى؛ لما بينتُه. ومنهم من قدر ستةَ أشهرٍ، وحُكي عن نصِّ الشافعيِّ -رحمه الله تعالى- (¬1). وظاهر إطلاق الآية أن التوبةَ تسُقط الحدَّ، سواء تابَ قبلَ الوصول إلى القاضي، أو بعده، وفيه خلافٌ (¬2)، واتِّباعُ الظاهر أولى وأليقُ بباب الحدِّ. * * * ¬
من أحكام التوبة
(من أحكام التوبة) 71 - (12) قوله عَزَّ وجَلَّ: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17 - 18]. * بيَّن الله -سبحانه- في هذه الآية مدةَ انتهاءِ التوبة التي أوجبها على نفسه بفضله وكرمه، ووسَّعَ مُدَّتَها بلطفِه ورحمته، فقال: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}. وبيَّن الله سبحانه هذا الزمنَ القريبَ أنه ما لم يحضرْهُ الموتُ، وتتعلقْ به مبادئُه، فقال: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ}. وبيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكم بمثل ما بينه الله سبحانه، فقال: "مَنْ تابَ قَبْلَ أن تُغَرْغِرَ نَفْسُهُ في حَنْجَرَته، قَبِلَ اللهُ تَوْبَتَهُ" (¬1). ¬
قال أهلُ العلم (¬1): فمن صارَ بهذه الحال، فلا تصحُّ توبتُه ولا إسلامه، ولا كفره، ولا وصيته، ولا قَوَدَ ولا دِيةَ ولا كَفَّارَةَ على قاتله؛ لأن الحياة التي فيه غيرُ مستقرة، فهو كالميت، وهذه الحالةُ التي آمن فيها فرعون فلم ينفعه إيمانُه. وإذا لم يحضرْهُ الموتُ، ولكنهُ مَيْئوسُ الحياة، فإنه تصحُّ توبتُه ووصيتُه؛ لأن حياتَه مُستقرةٌ، وهذه الحالةُ التي أوصى فيها عمرُ بنُ الخطاب -رضي الله تعالى عنه- لما طُعِنَ وخرجَ اللبنُ من جوفِه، وأجمعتِ الصحابةُ على صِحَّةِ وصيَّتِهِ. * * * ¬
من أحكام النكاح
(من أحكام النكاح) 72 - 74 (13 - 15) قوله عَزَّ وجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 19 - 21]. قال الربيعُ: قال الشافعيُّ: يقال -والله أعلمُ-: نزلت في الرجل يمنعُ المرأةَ حقَّ اللهِ تعالى عليه في عشرتِها بالمعروفِ من غير طيبة نفسِها، ويحبسُها لِتموت، فيرثُها ويذهبُ ببعض ما آتاها، واستثنى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} وهي الزنا (¬1). وساق الكلام حتى قال: قيل (¬2): إن هذه الآيةَ منسوخةٌ وهي في معنى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ ¬
سَبِيلًا} [النساء: 15] بآية الحدود: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُذوا عني، خُذوا عني (¬1)، قد جعلَ الله لهنَّ سبيلًا، البكرُ بالبكر جلدُ مئةٍ وتغريبُ عامِ، والثيبُ بالثيبِ جلدُ مئة والرجمُ" (¬2)، فلم يكن على المرأة (¬3) حَبْسٌ تُمْنعُ به حَقَّها على الزوج، وكان عليها الحدُّ. قال: وما أشبه ما قيل من هذا بما قيل -والله أعلم- لأن لله أحكامًا بين الزوجين بأن يجعلَ له عليها أن يطلقَها مُحسنةً ومُسيئةً، ويحبسَها محسنةً ومسيئةً، وكارهًا لها وغير كاره، ولم يجعلْ له منعَها حقَّها في الحال (¬4). هذا قولُ أبي عبدِ الله، وما اختارَهُ من النسخِ بالاحتمالِ والقياس ممنوعٌ غيرُ جائزٍ (¬5)، والذي عليهِ عامَّةُ أهلِ العلمِ بالقرآن القولُ بأنها محكمةٌ (¬6). قال ابن عبَّاسٍ، والمفسرون (¬7): كان في الجاهلية أولياءُ الميتِ أحقَّ بامرأته، إن شاءَ بعضُهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم ¬
يزوجوها، فأعلم الله سبحانه أن ذلكَ حرامٌ (¬1). * ثم حرَّم على الأزواجِ إمساكَهُنَّ على جهة المُضارَّةِ، فقال: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19]، فإن خالعَها على وجهِ المُضارَّةِ فقد عصى، ولم يصحَّ خُلْعُه، ولم يجزْ له أخذُ ما بذلَتْهُ لهُ بالإجماع (¬2). وشذ بعضُهم (¬3) فقال: الخلع في هذه الحالة جائزٌ ماضٍ، وهو آثمٌ، ثم لا يحلُّ له ما صنعَ، ولا يُجْبَرُ على ردِّ ما أخذ (¬4). وروى ابنُ القاسمِ نحوَ هذا عن مالكٍ (¬5). قال ابنُ المنذر: وهو خلافُ ظاهرِ كتاب الله تعالى (¬6)، وخلافُ ما أجمعَ عليه عوامُّ أهلِ العلمِ من ذلك. ¬
ثم قال: ولا أحسب أنه لو قيل لأحَدٍ: اجهدْ نفسَكَ في طلب الخطأ، ما وجدَ أمرًا أعظمَ من أن يَنطقَ الكتابُ بتحريم شيءٍ، ثم يقابله بالخلافِ نصًّا، و (¬1) يقول: بل يجوزُ ذلك، ولا يُجبر على ردِّ ما أخَذ (¬2). وأباح ذلك على جهة المضارة عند إتيانهنّ بالفاحشة المبينة ليفتدين منهم، فقال: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}؛ لأن المستثنى نقيضُ المستثنى منه، فيكون المعنى: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فاعضلوهن لتذهبوا ببعضِ ما آتيتموهُنَّ. * فالفاحشةُ قيل: هي الزنا. قال أبو قِلابةَ: إذا زنتِ امرأةُ الرجلِ، فلا بأسَ أن يضارَّها حتى تفتديَ منه (¬3). وقال السديُّ: فإذا (¬4) فعلنَ ذلك، فخذوا مهورَهُنَّ (¬5). ونحوه عن ابن سيرين (¬6). ¬
وقيل: الفاحشةُ: البغضُ والنشوزُ، ورويَ عن ابن عباسٍ وابنِ مسعودٍ (¬1). فأحلوا أخذَ مالِها عندَ نشوزِها. وبه قال مالكٌ (¬2) والشافعيُّ (¬3)، فحلَّ (¬4) الخلعُ في هذه الحالةِ بهذه الآية، وحلَّ في غيرِها إذا كانَ النشوزُ منهما بآية البقرة (¬5). * فإن قيل: فقد بينَ الله سبحانه أنه لا يحلُّ للأزواجِ أن يذهبوا ببعض ما آتوا النساءَ على جهة العَضْلِ والمُضارَّةِ إلا عندَ الإتيانِ بالفاحشةِ، فهل يَحِلُّ للأزواج أن يذهبوا ببعضِ ما آتَوْهُنَّ على غيرِ جهةِ المُضارة؟ قلنا: - أما إذا أتينَ بالفاحشةِ، فيحل لهمُ الأخذُ؛ لأنه إذا حلَّ مع العَضْلِ بالمُضارَّةِ، فمع عدمِها أولى. - وأما إذا لم يأتينَ بالفاحشةِ، فيحلُّ أيضًا إذا خافا ألا يقيما حدودَ الله، كما مضى في "سورة البقرة" (¬6). ¬
- وأما إذا لم يأتين بالفاحشة، ولم يخافا ألا يقيما حدود الله، فلا يحلُّ للأزواجِ الأخذُ؛ كما بينه اللهُ سبحانه في قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}، فحرمه الله تحريمًا مطلقًا، وقد علمنا أن اللهَ سبحانه إنَّما أراد تحريمَ ذلك إذا لَمْ يأتينَ بالفاحشةِ المبيِّنة، وإذا لم يخافا أَلَّا يقيما حدودَ الله، فإطلاقُ هذه الآيِة مقيَّد بالتي قبلها، وبآية البقرة (¬1). " ثم ذمَّ اللهُ سبحانَه فاعِلي ذلك، ووبَّخَهُم بقوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}. * إذا تمَّ هذا، فإن قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} كناية عن الجِماع والمباشَرَةِ، وهو تفسيرُ ابنِ عباسٍ رضي الله تعالى عنهما (¬2). قال في "الصِّحاح" يقال: أفضى الرجلُ إلى امرأته: إذا باشَرَها وجامَعَها (¬3). ويقعُ على الوُصولِ، أي: وُصولِ بعضِهم إلى بعض. ويقع على المُخالطة، أي: خالطَ بعضُهم بعضًا (¬4). ¬
* فإن قيل: مفهومُ هذا الخطابِ يدلُّ على أنه يجوزُ الخُلْعُ قبل الإفضاءِ (¬1)، وقبلَ الدخولِ، على قول الشافعي (¬2)، وقبلَ الخَلْوةِ بها، على قولِ أبي حنيفةَ (¬3) ومالكٍ (¬4)؛ لأن الله سبحانه عَيَّرهم بالإفضاء، فدلَّ على أنه إذا لم يفضِ بعضهم إلى بعض، يجوزُ لهم الأخذ ممَّا آتوهم، وإن لم يأتوا بفاحشة مُبَيِّنَةٍ. فالجوابُ: أنه لا مفهومَ له؛ لأن الله سبحانه قصد بذكره تنفيرهم بما يستقبحونه في نفوسهم، ويسترذلونه في عقولهم من قبحِ العهدِ ورذيلة الخلق، ولم يقصد به التعليل بالإفضاء من بعضهم إلى بعض، وعلى تقدير أنه يفهم ذلك، فلا دلالةَ له؛ لقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229]، فإنها حاصرةٌ مقيدةٌ بجميع الحالات والصفات. * فإن قيل: فقوله تعالى في الآية الأولى: {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} هل التقييد ببعضِ ما آتاهُنَّ الأزواجُ للتخصيص، فلا يجوزُ الافتداءُ إلا ببعضِ المهرِ، أولا، فيجوزُ بكلِّ المَهْر؟ فالجوابُ: أن ظاهره للتخصيص، وبه قال الشعبيُّ، ويجوز أن يكونَ لغيرِ التخصيص، ولكنه جرى على الغالب في الوجود، فإن المرأةَ لا تختلع ¬
إلا بدون ما تأخذ غالبًا، وهو خلافُ الظاهر، ولكنا عدلْنا إليه للدليلِ الذي قدمناه في سورة البقرة (¬1). * * * 75 - (16) قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22]. * حرم الله سبحانه على الرجل نكاحَ أربعٍ بالمُصاهرة، فحرَّم عليه نكاحَ منكوحَةِ أبيه، وعفا عَمّا قد سلفَ في الجاهلية، وأطلق التحريمَ، ولم يفرِّق بين أن يكونَ الأبُ قد دخلَ بها أو لم يدخلْ بها، والحكم كذلكَ بإجماع المسلمين (¬2)، وألحقوا بمنكوحَتِهِ موطوءَتَهُ بملك اليمين، وبنكاح الشُّبْهَةِ بطريق التنبيهِ والأَوْلى، وهو إجماعٌ منهم أيضًا. * والنكاحُ في وضعِ اللغة هو الضَّمُّ (¬3)، وذلك حقيقةٌ في الجِماع، ويقعُ على العَقْدِ، وهو المستعملُ في عُرْفِ الشرعِ (¬4)، وحَمْلُ ألفاظِ الشرعِ على عُرْفِ الشَّرعِ أولى من حملها على وَضْعِ اللغة، ولهذا حمله الشافعيُّ على العُرْفِ، فلم يُحَرِّمْ موطوءَةَ الأبِ بالزنا (¬5)، وحمله أبو حنيفةَ على أصلِ ¬
الوضع، فحرَّمها (¬1)، وعن مالكٍ راويتان (¬2). * * * 76 - 77 (17 - 18) قوله عَزَّ وجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 23 - 24]. * حرم الله سبحانه في هذه الآية سَبْعًا من ذَوي النسب، وأجمعَ المسلمونَ على تحريمهنَّ، وهنَّ: الأُمهاتُ، والبناتُ، والأَخَواتُ، والعمَّاتُ، والخالاتُ، وبناتُ الأخِ، وبناتُ الأختِ. - واتفقوا على أن الأمهاتِ هاهنا كلُّ أنثى لها عليكَ وِلادَةٌ؛ من جِهةِ الأُمِّ، أو من جِهَةِ الأب. - وأن البناتِ كلُّ أنثى لك عليها ولادةٌ؛ من قِبَلِ الابنِ، أو من قِبَلِ البنتِ. ¬
- وأن الأختَ كلُّ أنثى شاركتكَ في أحدِ أصلابِكَ. - وأن العَمَّةَ كلُّ أختٍ لذكرٍ له عليكَ وِلادةٌ؛ كأختِ الأبِ وأختِ الجدِّ من جِهة الأب، وأختِ الجدِّ من جهةِ الأم. - وأنَّ الخالةَ كلُّ أختٍ لأنثى لها عليك ولادةٌ، كأختِ الأمِّ، وأختِ الجَدَّةِ من قِبَلِ الأمِّ، وأختِ الجَدَّةِ (¬1) من قبلِ الأبِ. - وبناتُ الأخِ وبناتُ الأخت كلُّ أنثى لأخيكَ أو لأختِكَ عليها ولادةٌ من قِبَلِ أُمِّها، أو من قِبَلِ أبيها (¬2). * وحرم الله سبحانه اثنتين بالرَّضاعِ: الأُمَّ والأَخَواتِ، فقال: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، وأجمع عليه المسلمون (¬3). * وأطلق الله سبحانه الإرضاعَ، ولم يقيدْهُ بصفةٍ: - فيحتمل أن يكونَ له مقدارُ عددٍ معلومٍ ووقتٍ معلومٍ. - ويحتملُ غير ذلك، وهو الظاهرُ من إطلاقِ الخطابِ الذي لا يُعْدَلُ عنه ¬
إلا بدليل، فعدل الشافعيُّ وجماعة قليلون عن الظاهر (¬1). * أما في العدد، فلِما خَرَّجَهُ مسلم من حديثِ عائشةَ -رضي الله تعالى عنها- أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُحَرَّمُ الإمْلاجَةُ والإمْلاجَتانِ" (¬2). وخرَّج عن عائشة أيضًا (¬3) -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: كان فيما نزل من القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرمن)، ثم نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلوماتٍ، فتوفي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهُنَّ فيما (¬4) يُقْرَأ في القرآن (¬5). وأخذ بظاهر الإطلاق أكثرُ أهلِ العلم: عليٌّ، وابنُ مسعودٍ، وابنُ عُمَرَ، وابنُ عباس -رضيَ الله تعالى عنهم-، وعطاءٌ، وطاوسٌ، وابنُ المسيّبِ، ومكحولٌ، والحسنُ، والزهريُّ، وقتادةُ، والحكمُ، ومالكٌ، والليثُ، والأوزاعيُّ، والثوريُّ، وأبو حنيفةَ رحمهم الله تعالى (¬6). ولا أعلمُ لهم جوابًا صحيحًا عن الأحاديثِ الواردةِ بالتحديد. ثم اختلفَ القائلون بالتحديدِ، فقال الشافعيُّ: لا يُحَرِّم إلا خمسُ ¬
رَضَعاتٍ؛ لقول عائشةَ رضي الله تعالى عنها: ثم نُسِخْنَ بخمسٍ معلوماتٍ (¬1). وقال أحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ: تحرمُ الثلاثُ، ولا يُحَرِّم ما دونهنَّ (¬2)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ ولا المَصَّتانِ" (¬3). فقد تعارضَ مفهومُ الخطابِ في الدلالتين، وعلى المجتهدِ أن ينظر في ترجيحِ أحدهما، وإنما عدلنا إلى التحريمِ، وإنْ كانَ التحريمُ (¬4) بالثلاث أحوطَ؛ لأنه لما عدل بالتحريم من العشر إلى الخمس، دلَّ دلالةً ظاهرةً بينةً أنها حدٌّ فاصلٌ بين التحريمِ والتحليل، بخلاف (¬5) قوله: "لا تُحَرِّمْ الإمْلاجَةُ والإمْلاجَتانِ"؛ فإنه لا ينفي أن الثلاثَ والأربعَ لا يُحَرِّمْنَ، ولا يكونُ العدولُ والنسخُ إلا بعدَ استقرارِ الحُكْم (¬6). ¬
فإن اعترضَ معترضٌ علينا (¬1) بأنَّ القرآنَ لا يَثْبُتُ بخبر الواحدِ، وإذا لم يثبتْ بخبر الواحد، بطلَ العملُ، ولا يتنزلُ منزلةَ خبر الواحد، كما هو قولُ المحققينَ من أهلِ النظرِ؛ لأنه إنما رواه على أنه قرآنٌ، فإذا لم يثبتْ قرآنًا، لم يثبتْ غيرُه. ولأنَّ خبرَ الواحد إذا توجَّه إليه قادحٌ، وجبَ التوقُّفُ عن العملِ به، وهذا لم يجئْ إلا بآحاد -مع أن العادة مجيئُه متواترًا- يوجبُ ريبةً في صحةِ الخبر. ¬
قلنا: هذا ليس مَحَلَّ النزاعِ، فإن صورةَ المسألةِ المختَلَفِ فيها إذا روى الصحابيُّ شيئًا على أنه من القرآنِ ثابتٌ غيرُ منسوخٍ؛ كقراءةِ ابنِ مسعود: (فصيامُ ثلاثة أيامٍ متتابعات) (¬1)، (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم) (¬2). وأما إذا روى الصحابيُّ أنه كان من القرآن ثم نسخ، فهذا يُقبل فيه خبرُ الواحد؛ لأنه لم ينقلْه على أنه قرآنٌ الآنَ، وإنما نقله على أنه كان قرآنًا، وقد نُسخ، وهذا يُقبل فيه خبرُ الواحد؛ لعدم توفُّر الدواعي من الأمة على نقله، فلا يوقع ريبةً، فيجوز لنا أن نقول: من القرآن شيءٌ نُسخ لفظُه على الجملة لِنَقْلِ أهلِ العلمِ ذلكَ بالتواتُرِ من طريق المعنى، لا من طريقِ اللفظ (¬3). روي عن أنس -رضي الله تعالى عنه-: أنه قال: نزلت (¬4) في شأن الذين قُتلوا ببئر معونة: (بَلِّغوا قومَنا أنا قد لقينا رَبَّنا، فرضيَ عنا ورضينا عنه)، قال أنس: فكان ذلك قرآنًا قرأناه (¬5). ¬
وروي عن أبي موسى الأشعري: أنه قال: نزلتْ سورةٌ نحوٌ من (براءة)، ثم رفعت، وذَكر أنه حَفِظَ منها شيئًا (¬1). وروي عن بعضهم أنه كانتْ سورةُ الأحزابِ تعدلُ سورةَ البقرة (¬2). وروي عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها-: أنها قالت: نزلت: (فصيامُ ثلاثةِ أيام متتابعات)، فسقطت متتابعات (¬3). قال الدَّارَقُطْنِيُّ: إسنادُه صحيح. ومثل ما روي: (الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا) (¬4)، ولأنه لا يسمى قرآنًا إلا مجازًا، وليسَ له حرمةُ القرآن، فيجوز للجنب والحائض قراءةُ مثلِه، ولا يجوز لنا أن نقول: في القرآن شيء ثابت بنقل الواحد؛ لتوفر دواعي الأمة على نقله، فإذا نقل بعضُهم شيئًا شاذًا، رَدَدْناه، ودلَّ على بطلانه مخالفة الإجماعِ من المسلمين، بخلاف ما قدمناه؛ فإنه ليس فيه مخالفةٌ لإجماع المسلمين، فينزل منزلةَ السُّنَنِ؛ لاتفاقهما في أن الدواعيَ لا تتوفرُ من المسلمين على نقل أفرادِهما كما تتوفرُ على نقل أفراد القرآن، ¬
ولاتفاقهما على أنهما لا يخرجان عن رتبة الظنِّ، ولا يتعديان إلى رتبةِ القطع (¬1). نعم قد يكونُ في السنن أشياءُ متواترةٌ من طريقِ المعنى، وهي يسيرة جدًا، والله أعلمُ، وبه العصمةُ والتوفيق. " وأما الوقتُ: فذهبَ جمهورُ أهل العلم من الصحابة والتابعين وفُقهاءِ الأمصار إلى اعتبارِه؛ لما خَرَّجَهُ مسلم عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها- قالت: دخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وعندي رجلٌ، فاشتدَّ ذلك عليه، فرأيتُ الغضبَ في وجهه، فقلت: يا رسول الله! إنه أخي من الرضاعة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "انْظُرْنَ مَنْ إخْوانُكُنَّ؛ فإنَّما الرَّضاعَةُ من المَجاعَةِ" (¬2)، أي: إن الرضاعةَ إنما تثبُتُ في حَقِّ من يقوم له الرَّضاعُ مقامَ الغِذاء عندَ الجوع (¬3). وأخذ داودُ بظاهر إطلاق الآية، فرضاعُ الكبير عنده يُحَرِّمُ (¬4). ¬
وهو مذهبُ عائشة -رضي الله تعالى عنها- وكانتْ إذا أحبتْ أن يدخلَ عليها أحدٌ من الرجالِ، أمرتْ أُخْتَها أُمَّ كُلثومٍ وبناتِ أختها يرضعْنَه (¬1). وخرَّجَ مسلم عن عائشةَ رضي الله تعالى عنها: أن سالِمًا مولى أبي حُذَيفةَ كان مع أبي حذيفة وأهلِهِ في بيتهم، فأتت سهلة (¬2) بنتُ سُهَيلٍ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت إنَّ سالمًا قد بلغَ ما يبلغُ الرجالُ، وعقلَ ما عَقَلوا، وإنهُ يدخل علينا، وإني أظنُّ أنَّ في نفسِ أبي حُذَيفةَ من ذلك شيئًا، فقال لها النبيُّ: "أَرْضِعيهِ تَحْرُمي عليهِ، ويَذْهَب الذَّي في نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ" (¬3). وأجيب عنه بأنه نازلة في عينٍ (¬4)، فلا تعمُّ. وهذا الجوابُ ضعيفٌ؛ لما رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "حُكْمِي في الواحِدِ حُكْمِي في الجَماعَةِ" (¬5). وبأنه كان يراها سائرُ أزواجِ النبي - صلى الله عليه وسلم - رُخْصَةً لسالمٍ وسَهْلَةَ. وقالت أمُّ سلمةَ رضي الله تعالى عنها: أبى سائرُ أزواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن ¬
يُدْخِلْنَ عليهنَّ أحدًا بتلكَ الرضاعة، وقلن لعائشة: واللهِ ما نرى هذا إلا (¬1) رخصةً رخَّصها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لسالم خاصَّةً، فما هو بداخل علينا أحدٌ بهذه الرضاعة (¬2). * ثم اختلفَ القائلون بالتوقيت: فمنهم من قَيَّدَهُ بافتقارِ الأطفالِ إلى اللَّبَنِ، فمتى استغنى عن اللبن، فلا أَثَرَ لرضاعه، وإن وقعَ قبل انقضاءِ الحَوْلين، وهو قولُ الأوزاعي (¬3)؛ أخذًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الرَّضاعَةُ من المَجاعَةِ" (¬4). ومنهم من وَقَّتَهُ بالزمان، وهو حولانِ عند الشافعيِّ (¬5)؛ استئناسًا بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. وحولانِ وستةُ أشهرٍ عند أبي حنيفة (¬6). وحَوْلانِ وشهرٌ ونحوُه عند مالك (¬7). ¬
وعمل داودُ بأصله في اتباعِ الظاهر، وترك المعنى، فلم يحرمْ بالوُجور (¬1) واللُّدود (¬2). ووافقه عطاءٌ في الحُكم (¬3). وخالفهما سائرُ أهلِ العلم؛ لأن المعنى في لبن المرضعة هو ممازجةُ لبنِها لِلَحْمِ الطفل وعروقِه، فنباتُ لحمِه ودمِه من لبنها، فصار كبَضْعَةٍ منها، وهذا المعنى موجودٌ في الوجور واللدود (¬4). * فإن قيل: فهل تخصيصُ الله سبحانه الأمهاتِ والأَخَوات بالذِّكْرِ يدلُّ على أن مَنْ عداهُنَّ مِمَّنْ يُدْلي بجهةٍ غيرِ جهةِ الأمِّ بخلافهن، أو لا يَدُلُّ (¬5)؟ فالجواب: أنه بمجردِ ذكرِه لا يدلُّ؛ لأنَّ الاسمَ من غير ذكر صفتِه لا يدلُّ؛ على أنَّ ما عَداهُ بخلافه، باتفاق الأصوليين، إلا أبا بكرٍ الدَّقَّاقَ، وإنما يدلُّ عليه قولهُ تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بعدَ ذكرهِ لهذهِ المُحَرَّماتِ المَعْدودات، فيجوز أن يكونَ في التخصيصِ بذكرهنَّ دلالةٌ على أَنَّ مَنْ عداهُنَّ بخلافِهِنَّ، فلا حُرْمَةَ بينَ الرضيعِ والفَحْلِ، ومن يدلي به؛ كأخيه، فيجوزُ للرضيعِ أن يتزوَّجَ عَمَّته، ويجوز للفَحْلِ ولأخيهِ أن يتزوجَ المُرْضَعَةَ بلِبانه، ويجوز أن يكونَ هذا التخصيصُ للتنبيهِ على حكمِ ¬
أصل الرَّضاع، ثم يلحق به سائرُ المحرمات بالنسبِ، وهو خلاف الظاهر الذي لا يُعْمَدُ (¬1) إليه إلا بدليل. فقال بالأول قومٌ منهم ابنُ عمر، وابنُ الزبير، وابنُ المسيّب، وإبراهيمُ، وأبو سلمةَ بنُ عبد الرحمن؛ لما قررتُه من الظاهر، ولأن المعنى المُحَرِّمَ للأمِّ هو نباتُ لحمِه وانتشارُ عظمِه بِلبِانها مفقودٌ في الفحل. وذهبَ كثيرٌ من أهلِ العلم إلى إثباتِ الحُرمةِ بين الفحلِ والرضيعِ، وبه قالَ الأئمةُ الأربعةُ (¬2)؛ لما أخرجه الشيخان من حديث عائشةَ: أنه جاءَ أَفْلَحُ أخو أبي القُعَيْسِ يستأذنُ عليها بعدما نزلَ الحِجابُ، وكانَ أبو القُعَيْسِ أبا عائِشَةَ منَ الرضاعةِ، قالت عائشة: فقلت: واللهِ لا آذنُ لأفلحَ حتى أستأذنَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن أبَا القُعَيْسِ ليسَ هو أَرْضَعَني، ولكنْ أرضعَتْني امرأتهُ، قالت عائشةُ: فلمّا دخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: يا رسول الله! إن أفلحَ أخا أبي القعيس جاءني يستأذن عليَّ، فكرهتُ أن آذنَ لهُ حتى أستأذنكَ، قالت: فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ائذَنِي لَهُ" (¬3). ¬
وفي بعض طرقه: "إنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ" (¬1)، ولأنه سببُ اللبنِ، فلا يخرجُ السببُ عن حكمِ المسبّب، ولهذا قال ابن عباس: اللقاحُ واحد، لمَّا سئل عن رجل كان له امرأتان، فأرضعت إحداهُما غلامًا، والأخرى جارية، هل يتزوجُ الغلامُ الجارية؟ فقال: لا، اللَّقاحُ واحدٌ (¬2). * وحرم الله سبحانه في هذه الآية ثلاثًا بالمُصاهرة، وهي: أمهاتُ الزوجات، وبناتُ الزوجات، وزوجاتُ الأبناء، فقال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23]. وهذا إجماعٌ من الأمة. * وأطلق الله سبحانه تحريم أمهاتِ الزوجات وزوجاتِ الأبناء، وقيدَ تحريمَ بناتِ الزوجات بالدُّخول. وقد اتفق المسلمون على تحريم زوجات الأبناءِ بالعَقْدِ؛ كما أطلقه الله سبحانه، وعلى أن الربائبَ لا يحرمْنَ إلا بالدخول على أمهاتهن؛ كما قيد الله سبحانه، ونصَّ عليه (¬3). ¬
* واختلفوا في أمهاتِ الزوجاتِ هل يحرمْنَ بالعَقْدِ أو بالدخول؟ - فذهب جمهورُ أهل العلم من كافة فُقهاء الأمصار إلى أنها تحرم بالعَقْدِ على البنت. - وذهب قومٌ إلى أنها لا تحرمُ إلا بالدخول؛ كالبنت. قيل: ويروى عن عليٍّ وابنِ عباسٍ من طرق ضعيفة (¬1). وظنَّ بعضُ المتأخرين (¬2) أن منشأ اختلافِ الفريقين هو الأصلُ المشهورُ في الصفة إذا تعقبت جُملًا عُطِفَ بعضُها على بعض، هل يعود إلى الجميع، أو يختصُّ بالأخيرة؟ واعتقد (¬3) أن قوله تعالى: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] عائدٌ إلى الجميع على قول، وغير عائد على قول، وليس كذلك، بل تقييد الصفة خاصٌّ بالربائب (¬4). ¬
وإنما اختلفوا في إلحاقِ الأمهات بالبنات في التقييد: فمنهم من ألحقها بالبنت، فاشترطَ الدخولَ، ولم يرَ بينهما فرقًا. ومنهم من لم يُلْحقها بها، ورأى أن الأمَّ لا يُصيبها نُفْرَةٌ، ولا يلحقها (¬1) غَيْرَةٌ على ابنتها، بخلاف البنتِ، كما هو المعهودُ من طباعِ الناس، فرآه فارقًا من محاسن الشريعة. فإن قيل: فتقييدُ (¬2) الربائب بكونهن في الحُجور يدلُّ على أنهن إذا لم يكنَّ في الحُجور لا يَحْرُمْنَ. فالجوابُ: أن هذا الخطابَ لا مفهومَ له، وإنما ورد استعمالهُ على غالبِ الوجود؛ فإن الموجودَ من أحوال الناس أن الربائبَ لا يَكُنَّ إلا في حُجورِ أزواجِ أمهاتهن، وهذا قولُ جمهورِ أهل العلم. وخالف داودُ، فجعلَه مفهومًا، وأباحَ الربيبةَ التي لم تكنْ في حجرِ الرجل، وهذا من ظواهره البعيدة (¬3). ¬
* وأما مفهومُ قوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23]، فهو يدلُّ على أن زوجةَ الابن من التبنيِّ لا تَحْرُمُ، وهي كذلك حَلالٌ بالإجماعِ (¬1). وقد ورد حِلُّه مبيَّنًا في موضعٍ آخرَ، قال الله جَلَّ جلالهُ: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]، وهو المراد بمفهوم الآية، وأما حليلُة ابنِ الرَّضاع، فحرامٌ بالاتفاق (¬2)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يَحْرُمُ منَ الرَّضاعِ ما يَحْرُمُ منَ النَّسَبِ" (¬3). " ثم حرم الله سبحانه الجمعَ بين الأختين، فقال: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]، وذلك إجماعٌ (¬4)، سواءٌ كُنَّ معًا، أو مُتَرَتبِّاتٍ. ¬
والحكمةُ إيقاعُ البُغْضِ (¬1) والتقاطعُ بين الأرحام. * وبَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن الجمعَ بين المرأةِ وخالَتِها، وبينَ المرأةِ وعمَّتِها في معنى الجمعِ بين الأختين (¬2)، وعلى هذا اتفق أهلُ العلم (¬3). قال أبو عبد الله الشافعيُّ: وهو قولُ من لَقِيتُ من المُفْتين، لا اختلافَ بينهم فيما علمتُه (¬4). والاستثناءُ في قوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} راجعٌ إلى الجملَةِ الأخيرة، قال ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: كان أهلُ الجاهلية يُحَرِّمون ما حَرَّمَ اللهُ، إلا امرأةَ الأبِ، والجمعَ بين الأختين (¬5). * ثم حرم الله سبحانه المزوَّجاتُ من النساءِ على غير أزواجهنَّ، فإنه أكبرُ الزنا وأعظمُه، فقال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، والمراد بالمُحْصنات هنا: المزوَّجات (¬6). فإن قال قائل: فبيِّنْ لنا حقيقةَ الإحصان، والدليلَ على أن المرادَ به المزوجاتُ؛ فإنَّا رأينا الإحْصانَ يقعُ في كتابِ الله على معانٍ مختلفة. ¬
قلنا: هو كما ذكرتَ يقعُ على معاني مختلفة، ولكنه إن وقعَ على معانٍ مختلفة، فإنه يجمعُها معنًى واحدٌ، وهو المنعُ. فالإحصانُ (¬1) مأخوذٌ من التحصين، وهو المنعُ، فكلُّ ما يَمْنَعُ فهو مُحْصِن -بكسر الصاد- وما مُنِع فهو مُحْصَنٌ -بفتح الصاد (¬2) - قال الله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80]، وقال تعالى: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} [الحشر: 14]، يعني: ممنوعة، وقال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91]، أي: منعته عن الزنا. وهو يقعُ في القرآن على معانٍ. منها: العِفَّةُ؛ لأنها مانعةٌ؛ لقوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25]، أي: عفائفَ غيرَ زوانٍ. ومنها: الحرية؛ لأنها مانعةٌ، وذلك كقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، وكقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]، وكقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، وكقوله تعالى: {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]. ومنها: الإسلامُ؛ لأنه مانعٌ، وذلك كقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ}، أي: أسلمْنَ (¬3)، وهذا ¬
تأويلُ الشافعيِّ -رحمه الله تعالى- المشهورُ عنه، ويروى عن عبدِ الله بن مسعود (¬1)، والدليلُ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيِّنَ زِناها، فَلْيَحُدَّها" (¬2). قال الشافعيُّ: ولمَّا (¬3) لم يقلْ: محصنة، أو غير محصنة، استدلَلْنا على أن قولَ الله في الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 25] إذا أسلمْنَ، لا إذا نكحن وأُصبن بالنكاح، ولا إذا أُعتقن، وإن لم يُصَبْنَ (¬4). قال: وروينا عن ابن مسعود أنه قال: إحصانُها إسلامُها (¬5)، وسيأتي الكلام على هذا قريبًا -إن شاء الله تعالى-. ومنها: النِّكاح؛ لأنه مانعٌ؛ وذلك كقوله (¬6) تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24]. والدليل عليه ما روينا في "صحيح مسلم" عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله تعالى عنه-: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ حنينٍ بعثَ جيشًا إلى أَوْطاسٍ، فلقي عدوًا، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، فأصابوا لهم سبايا، فكأنَّ ناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَحَرَّجوا من غِشْيانِهِنَّ من أجلِ أزواجهنَّ من ¬
المشركين، فأنزل عليه في ذلك: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، أي (¬1): فهنَّ لهم حلالُ إذا انقضتْ عِدَّتُهُنَّ (¬2). فإن قال قائل: فعمومُ الاستثناء يقتضي أن كلَّ مزوجة تَحِلُّ بملكِ اليمين، سواءٌ كانت مَسْبيَّة أو غيرَ مَسْبِيَّةٍ، وثنيةً كانت أو كتابيةً، ويقتضي أن الأختينِ حَلالانِ بملكَ اليمين؛ لأنَّ العبرةَ بعُموم اللفظ لا بخُصوص السبب، ولأن الاستثناءَ راجعٌ إلى الجميعِ عند الأكثرين من أهل العلم بشرائطِ الاستدلال. قلنا: قد اختلفَ الناسُ في ذلك. فرأى أبو حنيفة حِلَّ المَسْبيَّةِ المزوَّجَةِ إذا سُبيت منفردةً عن زوجها، سواءٌ تقدّم سَبْيُها أو تأخر، ورأَى تحريمَها إذا سُبيت مع زوجها، وكذا رأى تحريمَ المزوَّجَة المُشْتراة، فحملَ عمومَ الآية على خصوصِ سببها (¬3). ورأى الشافعيُّ حِلَّ المَسْبيةِ مطلقًا؛ إذ العبرةُ عنده بعُموم اللفظ لا بخُصوص السبب، ووافقَهُ في تحريمِ المزوَّجَةِ المشتراة (¬4)؛ لأجلِ تخيير النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَريرَةَ بعد العتقِ (¬5)؛ لأنها لو طَلُقَتْ بشراءِ عائشةَ، أو بعتقِها، لما خَيَّرَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا قولُ عمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ، وابنِ ¬
عُمر (¬1)، فعملَ الشافعيُّ بعمومِ الآيةِ، وبخصوصِ الحديث. ووافقهما مالكٌ في تحريم المزوَّجة المُشتراة؛ لحديث بَريرَةَ (¬2). وعن مالكٍ في المَسْبية روايتان كالمذهبين (¬3). * وخالف الجميعَ قومٌ في المزوَّجَةِ المُشْتراة، فرأوا حِلَّها، وأن بيعَها طلاقٌ، ويُروى عن ابن عباسٍ، وجابرٍ، وابنِ مسعودٍ، وأبيِّ بنِ كعبٍ، وعِمْرانَ بنِ حُصين (¬4). وقال البخاري: قال أنس: لا نرى بأسًا أن ينزعَ الرجلُ جاريَته من عبدِه (¬5)، فعملوا بعمومِ الآيةِ مُطلقًا. * وكذلك اختلف أهلُ العلم في الأَمَةِ الوثنيَّة. فقال جمهورُهم: لا يجوزُ وطْؤها؛ لأن من لا تحلُّ بملكِ النِّكاح، لا تحلُّ بملكِ اليمينِ، كالأمِّ والأخت (¬6). ¬
قال الشافعيُّ: وإذا حَرَّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على من أسلم أن يطأَ (¬1) امرأةً وثنيةً حتى تسلم في العِدَّةِ، دلَّ ذلك على أنه لا يَطَأُ من كانَت على دينها حتى تسلم من حرة أو أَمَةٍ (¬2). وقال بجوازه طاوسٌ، ومجاهدٌ (¬3). وهو قويُّ الدلالةِ عندي معَ اتفاقِ فُقهاء الأمصارِ وسائرِ العلماءِ على خلافه؛ لأنه ما هو في الدلالةِ أقوى من القياس لا يَخُصُّ من العموم محلَّ السبب. وقد أباح النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وطء سبايا أَوْطاسٍ، وهنَّ أصحابُ أوثان، إلا أن يثبتَ أنهنَّ لم يوطأنَ إلا بعد إسلامهن، فحينئذٍ تتضحُ الحجةُ وتقوم (¬4). ولكن لقائل أن يقول: السببُ هو الإحصانُ، لا الكفرُ، قال أبو عبد الله الشافعيُّ: ولا أحسبُ أحدًا من أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَطِئَ مسبيَّةً عربيةً حتى أسلمت (¬5). ¬
* وأما الاستثناء، فقال أكثرُ الناس باختصاصه بالجملة الأخيرة، وأن الجمعَ بين الأختين بملكِ اليمينِ حرامٌ (¬1). قال عثمانُ -رضي الله تعالى عنه-: أحلَّتهما آية وحَرَّمتهما آية (¬2)، والتحريمُ أولى (¬3). وبهذا قال عامَّةُ أهلِ العلمِ بالقرآن. وخالف الناسَ أهلُ الظاهر، فقالوا: يجوزُ الجمعُ بينَهما كما يجوزُ ملكُهُما، ولا التفاتَ إليهم (¬4). * وضابطُ الجمعِ المحرمِ ما قاله الشعبيُّ: كلُّ امرأتين إذا جَعَلْتَ موضعَ إِحداهما ذَكَرًا، لم يَجُزْ أن يتزوجَ الأخرى، فالجمعُ بينهما باطلٌ، فقيل له: ¬
عَمَّنْ هذا؟ فقال: عن أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). " ولما ذكر اللهُ سبحانه الحرامَ من النساء، ذكر الحلالَ منهن بلفظٍ عامٍّ مترقٍّ في الظُّهور إلى رتبةِ النصوصِ، فقال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}، ثم بين شرطه فقال: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] أي: ناكحين غيرَ زانين. " وبين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صفةَ النكاح، وشرائطَه، والحالةَ التي يحلُّ فيها أو يَحْرُم. * فإن قال قائل: فتقييدُ الابتغاء بالأموال يقتضي أنه لا يجوزُ بغيرِ أموالٍ (¬2). قلنا: قد اختلف أهلُ العلم في مسائلَ: * فاختلفوا في جواز النكاح على المنفعة (¬3). فجوزه الشافعيُّ وبعضُ أصحاب مالكٍ (¬4)؛ قياسًا على الإجارة (¬5). ومنعه أبو حنيفةَ إلا في حقِّ العبدِ، لما في الإجارةِ من مخالفةِ القياس، فلا يقاسُ عليها (¬6). ¬
ويروى عن مالكِ المنعُ مُطْلقًا، والمشهورُ عنه الكراهةُ (¬1)، وعنده فرقٌ بين المَمْنوع والمكروه، فالممنوعُ ما يُفْسَخُ به النكاحُ بعد الدخول، والمكروهُ ما يُفسخ به قبلَ الدخول، ولا يُفسخ به بعده. والخلافُ في هذه المسألةِ يرجعُ إلى أصل آخرَ، وهو هل شرع مَنْ قبلَنا شرعٌ لنا أو لا (¬2)؛ فمن قالَ: شرعٌ لنا، جَوَّزَ النكاحَ على المنفعة؛ لفعلِ النبيِّ شعيبٍ ذلك مع النبيِّ موسى- صلوات الله وسلامهُ عليهما (¬3) -. ومن لم يقلْ بشرعيته، منعَ هذا النكاحَ، لمخالفته القياسَ ونظمَ الآية (¬4). والصحيحُ الجوازُ لقوله: "زَوَّجْتُكَها بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ" (¬5) وهذا إجازة. ¬
الثانية: اختلفوا في النكاح على تعليم القرآن. فجوزه جمهورُ الفقهاء (¬1)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "زَوَّجْتُكَها بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ". ومنعه قومٌ، وتأولوه على معنى السببية، أي: لسبب ما معك من القرآن (¬2). وهذا بعيدٌ جدًا؛ لخروجه عن قصدِ الخطاب، ولخُلُوِّ النكاحِ عن الصَّداق. الثالثة: خَرَّجَ الشيخانِ عن أنسٍ -رضي الله تعالى عنه-: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أعتقَ صَفِيَّةَ، وجعل عتقَها صَداقَها (¬3). - فذهب الثوريُّ، والزهريُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وداودُ إلى أنه يجوز أن يعتقَها على أن تتزوج به، ويكون عتقُها صداقَها، ويلزمها ذلك، ويصحُّ الصداقُ عملًا بظاهر الحديث (¬4). ¬
- ومنعه مالكٌ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ؛ لمخالفتِه الأصولَ؛ لأن العتقَ إزالةُ ملكٍ، والإزالةُ لا تتضمنُ إباحةَ الشيء بوجه آخر، ولأنها إذا عتقت، ملكتْ نفسَها، فكيف يكون يلزمها النكاحُ (¬1)؟ وتأولوا قوله: وجعلَ عتقَها صداقَها، أي: قائمًا مقامَ صَداقِها، فسماهُ باسمه، إذا لم يكنْ ثَمَّ عِوَضٌ، ويكون ذلك من خصائصِه - صلى الله عليه وسلم -؛ استدلالًا بقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50]، واستئناسًا بكثرةِ خصائصِه في النكاح. وتأوله بعضهم على أنه جعلَ قيمتَها المقابلةَ لعتقها صداقَها، وتقديُره: وجعلَ عوضَ عتقها صداقَها، وهذا التأويلُ أقربُ من الأول؛ لأن الأصلَ مشاركةُ الأُمَّةِ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). واختصَّ بالهبةِ في النكاح، وهذه لم تهبْه، ولأنه لو كان مخصوصًا بهذا، لبيَّنَ الخُصوصية؛ كما قال تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]. ويقوي هذا التأويلَ ما روي عن ابنِ عمر: أنه كانَ يكرهُ أن يُجعلَ عتقُ المرأة مَهْرَها حتى يُفْرَضَ لها صداق (¬3). ثم تفصيلُ مذهب الشافعي أنها (¬4): إذا كرهتْ زواجَهُ بعد العتق، ¬
ضمنتْ له قيمتَها؛ لأنه لم يرضَ بعتِقها مَجّانًا، فكأنها أتلفت عليه رقبتَها، وإن رضيتْ ونكحها على قيمتها، فكانت معلومةً لهما، صحَّ الصَّداقُ، ولا يبقى له عليها قيمةٌ، ولا لها عليه صداقٌ. وإن كانتِ القيمة مجهولةً، فوجهان: أحدُهما: يصحُّ الصداقُ، ولا يبقى له (¬1)؛ للحديث (¬2). والثاني: لا يصحُّ، وإنما (¬3) يجب مَهْرُ المِثْل؛ عملًا بالقياس (¬4). فإن قال قائل: فمقتضى قولك: إن عمومَ قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] يقاربُ النصَّ في الظهور: أنه لا يجوزُ تخصيصُه، فيحرم الجمعُ بين المرأةِ وخالتِها، وبينَ المرأةِ وعَمَّتِها، وإذا لم يجزْ خصيصه، اقتضى أنه حلالٌ، وهو خلافُ الإجماع (¬5). قلت: هو كذلك، لا يجوز تخصيصه بذلك، ولا بغيره. وأما تحريمُ الجمعِ بين المرأة وخالتِها وعمتِها، فإنما هو لبيان الشارع - صلى الله عليه وسلم - أنه في معنى بين الأختين؛ لوجود العلة المحرِّمة هناك، وليس ¬
هو من باب التخصيص لعموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، وإنْ كانَ قد تَوَهَّمه كثيرٌ من جِلَّةِ العُلماء، وغَفَلوا عن هذا التحقيقِ والقصدِ النفيسِ؛ فإنه ليسَ من التخصيصِ بالقياسِ؛ لورودِ السنَّةِ به، ولا من التخصيص بفردٍ غيرِ مذكورٍ في العموم، ولا في معنى المذكور في العموم (¬1). ولأجل هذا المأخَذِ رَدَدْنا إلحاقَ بعضِ السلف بهؤلاء مَنْ عداهُنَّ من المَحارم؛ حيث قالوا: يحرمُ الجمعُ بينَ كُلِّ امرأتينِ بينَهما رَحِمٌ محرِّمةٌ أو غيرُ محرمة، فمنعوا الجَمْعَ بين ابنتي عَمٍّ، وابنتي عَمَّةٍ، وبين ابنتي خالٍ، وابنتي خالةٍ، وبينَ المرأةِ وبنتِ بنتِ عَمِّها، أو بنتِ بنتِ عَمَّتِها، أو بنتِ بنتِ خالتِها، أو بنتِ بنتِ خالِها (¬2). * واختلف أهلُ العلم في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24]. فقال قومٌ: نزلت في نِكاح المُتْعَةِ، فكانَ ابنُ عباسٍ، وابنُ مسعودٍ، وأُبَيُّ بنُ كعبٍ، وابنُ جبيرٍ يقرؤون: (فما استمتعتُم بهِ منهنَّ إلى أجلٍ مُسَمًّى) (¬3). ¬
ثم افترقوا، فقال قومٌ؛ نَسخ الله ذلك بما جعل بين الزوجين من الطلاق في سورة البقرة (¬1)، وبما فرضَ من الميراث والعِدَّةِ والصَّداق (¬2). فإن قال قائل: فما وجهُ التعارض والنسخ؟ فالجواب: أنه لما وجدنا سنةَ الله التي شَرَعَها بين الزوجين؛ من استمرارِ النكاحِ، ووقوعِ الطلاق، وفرضِ الميراث، ووجوبِ العِدَّةِ معارضًا لخصائصِ المُتعةِ؛ لأن المتعة قولُ الرجلِ للمرأة: أتزوجُك على كذا وكذا، إلى أجل كذا وكذا، على أن لا ميراثَ بيننا، ولا طلاقَ ولا عِدَّةَ، استدللنا على أن أحدَهما ناسخٌ للآخَرِ، فوجدنا الشرعَ استقرَّ على هذا، وبينتِ السنَّةُ تحريمَ نِكاح المُتعةِ (¬3)، فجعلناها مبينةً للناسخ في القرآن، لا ناسخةً ¬
للقرآن، وفي هذا الوجه (¬1) نظر (¬2). فلقائل أن يقول: لا تعارُضَ بينَ نكاحِ المتعةِ والنكاحِ الصحيح؛ لأنَّ (¬3) النكاحَ كان على نوعين. فحيث اشترط ذلكَ، كان متعةً كما شرط، وحيث ذكر الرجلُ المُسَمَّى ووقتَ النكاح، كان متعةً من خصائصِه تركُ الميراثِ وعدمُ الحاجةِ إلى الطلاق، وإن لم يشترطْ، ولم يسمَّ الأجلَ، كان نكاحًا تامًا مؤبدًا يترتَّبُ عليه أحكامُهُ من الطلاقِ والميراثِ والعدَّةِ. فيكون الراجحُ ما قال الآخرون: إن الآية مُحكمة، والمعنى: فما استمتعتم به منهن، أي: فما انتفعتم به، وتلذَّذْتُم من النساء بالنكاحِ الصحيحِ، فآتوهُن أجورَهُن، أي: مُهورَهُنَّ فريضةً (¬4). ولكنه يُضَعِّفُ هذا الترجيحَ ويقوِّي تأويلَها بنكاحِ المُتعة قولُه تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24]. فإن قيل: معنى {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24، أي: لا إثمَ عليكم في أن تهبَ المرأةُ للزوجِ مهرَها (¬5)، أو يهبَ ¬
الرجلُ للمرأةِ تمامَ المَهْرِ (¬1) إذا طلقها قبل الدخول (¬2). قلنا: رفعُ الجُناحِ لا يُستعمل في اللِّسانِ في أداء الفريضة، ولا في فعل البِرِّ، وإنما يَرِدُ فيما له أصلٌ في المنع (¬3). فإن قيل: قراءةُ الصحابيِّ بطريق الآحاد لا تثبتُ قرآنًا (¬4)، ولا تبلغ بيانَ السنةِ عندَ المحققين من أهل الاستدلال. قلنا: ينبغي أن يكون هذا بمنزلة التفسير، وتفسيرُ الصحابيِّ أولى من ¬
تفسير غيره، على الصحيحِ عندهم في تفسير السنة بأحدِ الوجوه عندَ قيامِ احتِمالها، فكذلك ينبغي أن يرجِّحوا به أحدَ الوجوه عند احتمال القرآن لها، ولم أر هذا لأحدٍ من الأصوليين (¬1)، ولكنه متَّجِه عندي (¬2). وأما ابنُ عباسٍ فيقول: إنها محكمة في إباحة المتعة، وقد اشْتُهر عنهُ ¬
القولُ بها وتبعه أصحابُه من أهلِ مكة واليَمَن (¬1)، وربما فهم القول به من بعضِ الأحاديثِ عن ابن مسعود (¬2)، وكان ابنُ عباس -رضي الله تعالى عنه- يحتجُّ بهذه الآية، وروى عنه ابنُ جُرَيْجٍ وعمرُو بنُ دينار: أنه كان يقول: ما كانتِ المتعةُ إلا رحمة من الله -عزَّ وجلَّ- رَحِم بها أمةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ولولا نَهْيُ عُمَر عنها، ما اضطُرَّ إلى الزنا إلا شَقِيٌّ (¬3). وخَرَّجَ مسلمٌ عن جابرِ بنِ عبدِ الله -رضي الله تعالى عنهما- قال: تَمَتَّعْنا على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكرٍ، ونصْفًا من خلافةِ عُمَرَ، ثم نهى عنه عُمَرُ الناسَ (¬4). ¬
وبتحريمِ المتعةِ قال جمهورُ الصحابةِ -رضي الله تعالى عنهم (¬1) -، وأجمع عليه فقهاءُ الأمصارِ بعد الخلاف، ولم يخالف فيها إلا الرافضةُ، فمن قائلٍ بأنها منسوخة، ومن قائلٍ بأنها محكمة مؤولةٌ كما قدمنا (¬2). فإن قال قائل: فكيف استمرَّتِ الإباحةُ بعدَ موتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمنِ أبي بكرٍ، ونِصْفٍ من خلافةِ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما- مع وجودِ النهي عنه - صلى الله عليه وسلم -؟ قلنا: يحتمل أمرين: أحدهما: أنه لم يظهرْ ويكثرْ بين الناس فعلُ المتعة، وينتشرْ إلى الخلفاء فعلُ من لم يعلمْ بنسخها، إلا في نصفِ خلافة عمر. والثاني: أن يكون توقفُ أبي بكر وعمر؛ لتكرار الإباحةِ والنسخ؛ فإنها أُبيحتْ، ثم نهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - عامَ خَيْبَرَ، خرجه الشيخانِ عن عليٍّ -رضي الله تعالى عنه (¬3) -، وعامُ خيبرَ قبلَ فتحِ مكة (¬4). ¬
وقال سَبْرَةُ بنُ معبدٍ الجُهَنِيُّ: أمرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالمتعةِ عامَ الفتحِ حينَ دخلنا مكةَ، ثم لم يخرجْ حتى نهانا عنها (¬1). وروى سَلَمَةُ بنُ الأَكْوَعِ -رضي الله عنه- قال: رخَّصَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ أَوْطَاسٍ في المتعةِ ثلاثًا، ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها (¬2). وعامُ أَوْطاسٍ وعامُ الفتح واحدٌ، وهو بعدَ خيبر، فلما تقرر عنده أنه منسوخٌ أبدًا كما رواه سَبْرَةُ الجهنيُّ -رضي الله تعالى عنه-: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أيُّها الناسُ! إنِّي قَدْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمُ في الاسْتِمْتاعِ من النِّساءِ، وإن اللهَ قَدْ حَرَّمَ ذلكَ إلى يومِ القيامَةِ، فمنْ كَانَ عنَدُه شَيْءٌ، فَلْيُخْلِّ سبيلَها، ولا تَأْخُذوا مِمَّا آتَيْتُموهُنَّ شيئًا" (¬3)، علم أنه لا يجوز الإباحة بعدَه بوجه، نهى عنه. وقد روي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: أنه رجعَ عن القولِ بتحليلها (¬4). وكذا روى الحَكَمُ بن عيينةَ، عن أصحابِ عبدِ الله، عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ أنه قال: المتعةُ منسوخةٌ، نسخها الطلاقُ والصَّداقُ والعِدَّةُ والميراث (¬5). وإن صحَّ ما رُوي عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: أن ¬
رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حَرَّمَ -أو هدم- المُتْعَةَ النكّاحُ والطَّلاقُ والعِدَّةُ والميراثُ" (¬1) فالحجَّةُ فيه، لا في قولِ أحدٍ غيرِه، والله أعلم (¬2). وفي الآية دليل أن المهرَ لا يستقرُّ إلا بالاستمتاع، لا بالخلوة (¬3). * * * 78 - (19) قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ ¬
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)} [النساء: 25]. * أباحَ الله سبحانه في هذه الآية للحرِّ نِكاحَ الأَمَةِ بثلاثة شروط، فواحدٌ متفقٌ عليه عند أهل العلم، والآخران مختلَفٌ فيهما. فأما المتفق عليه، فهو نِكاحُها بإذن سَيِّدِها (¬1). وأما المختلَفُ فيهما: فأحدهما: عدمُ الاستطاعة على الطَّوْل، وهو المال الذي يحصلُ به نِكاح الحُرَّةِ المؤمنة. والثاني: خشيةُ العَنَتِ، وهو الزنا المتولدُ من شِدةَّ الشَّبَقِ والغُلْمَةِ (¬2). - فذهب مالكٌ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ إلى اشتراطهما. ويروى عن عليٍّ، وابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ، وجابرٍ، وعطاءٍ، وطاوسٍ، والزهريّ، والحسن، والشعبيِّ، ومكحول (¬3). ¬
- وذهب قومٌ إلى تأويل الطَّوْلِ هنا بالقوة والجَلَدِ، فمن أحبَّ أَمَة وهَوِيَها حتى لا يستطيعَ أن يتزوجَ غيرها، فله أن يتزوج أَمَةً، وإن وجدَ سعةً من المال، فقوله تعالى: {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] يفسّرُ عدمَ الطَّوْلِ. ونسب هذا التأويل إلى قَتادةَ، والنخعي، والثوريِّ (¬1). وهو بمكانةٍ من البُعد والتعسُّف (¬2). - وذهب قومٌ منهم ابنُ القاسم المالكي إلى عدمِ اشتراطه (¬3). ولعلَّ هؤلاء رأوا هذا الشرطَ كالشرط في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، فكما يجوزُ له أن ينكحَ أربعاً معَ خوفَ عدمِ العدل، كذلك يجوزُ له هنا نِكاحُ الأَمَةِ مع الطَّول (¬4). * وإذا علمتَ مذهبَ الجمهورِ، فهل عدمُ الطولِ شرطٌ في استدامة النكاحِ كابتدائه، أو لا؟ ¬
اختلف فيه السلفُ. - فذهب عطاءُ بن أبي رباح إلى عدمِ شَرْطيته (¬1)، فلو تزوج حرةً بعد الأمةِ، ولم تعلم الحرة بالأمة، فهو جائز ثابت، وبه قال الشافعي (¬2). - وذهب النخعيُّ (¬3) ومسروقٌ إلى فسخِ نكاحِ الأمةِ، لأنه أبيحَ للضرورة، وقد زالت (¬4). - وذهب قومٌ إلى أن للحرة الخيارَ إذا لم تعلمْ بالأمة، إما أن تقيمَ معه، أو تفارقه (¬5). - وقيل: إما أن تُقِرَّ نكاحَ الأمة، أو تفسخَه. وبه قال مالكٌ، وأحمدُ، وإسحاقُ (¬6). ¬
* وقد استنبط قومٌ من أهل العلم أنه إذا زال خوفُ العَنَتِ بنكاحِ أمةٍ واحدةٍ، فليس له نكاحُ أَمَةٍ أخرى. وبه قال الشافعيُّ (¬1) وأحمدُ (¬2) وإسحاقُ، ويروى عن ابن عباس (¬3). وقال مالكٌ، وأبو حنيفةَ (¬4)، والزهريُّ: له أن ينكحَ أربعاً (¬5). * وتقييدُ الفتياتِ بالمؤمناتِ يقتضي أنه لا يجوزُ نكاحُ الأمةِ الكتابيةِ. وبه قالَ مالكٌ، والشافعيُّ (¬6) (¬7)، والحسنُ، وسعيدٌ (¬8). ¬
وقال أبو حنيفةَ: يجوز نكاحُ الأمةِ الكتابيةِ (¬1)؛ لأن دليلَ الخطابِ (¬2) عنده ليسَ بحجَّة، فلا يعارضُ عمومَ قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] إذا فسِّرَ الإحصانُ بالعِفَّةِ (¬3)، وإن فُسِّرَ بالحرية؛ كما هو قولُ عمرَ وابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهم (¬4) -، فقياسُ الأمةِ على الحرة عنده إما أنه مقدَّم، على مفهوم الخطاب، وإما أن يجاب على التقييد بأجوبة تقدمَتْ عند قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]. * ومفهومُ تقييد المُحْصَنات بالمؤمناتِ يقتضي أيضاً (¬5) أنه لو قَدَرَ على ¬
نكاحِ حرةٍ كتابية أنه لا يحلُّ له نكاحُ الأمة (¬1). وفي ذلك وجهان لأصحاب الشافعي، والصحيحُ عندهم، وهو مذهبُ أبي حنيفةَ، عدمُ الجواز (¬2)؛ لأنه لا يخاف العنتَ بنكاحِ الحرةِ الكتابية، فغلب بالقياس على المفهوم (¬3). والمختار عندي الجوازُ؛ تقديماً للمفهوم المعضود من قوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221] على القياس. * ولما بينَ اللهُ سبحانه لنا حِل نِكاح الإماء، أمرنا به أيضاً فقال: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25]. فيحتمل أن يكون الأمرُ على الحَتْم؛ كما قاله أهلُ الظاهر. ويحتمل أن يكون على الاختيار؛ كما قاله الجمهورُ (¬4). ¬
ويحتمل أن يكون على الحتم لأجل خشية العَنَت؛ كما أوجبه في هذه الحالة بعضُ متأخري المالكية، وهو في هذا المعنى أظهرُ اعتباراً بسائر الأصول، كما يجبُ عليه الأكلُ من الميتةِ عندَ خوفِ الهلاكِ، والفطرُ في رمضان، وغيرُ ذلك. والمر اد بأهلهنَّ ساداتهن. وقد أجمع أهل العلم على اعتبار هذا الشرط كما قدمتُه، فلا يحِلُّ نكاحُ أمةٍ إلا بإذن سيدها (¬1). وكذلك أجمعوا على أن العبدَ مثلُ الأمةِ، فلا يجوزُ نكاحُه إلا بإذن سيده (¬2). * وأمرنا اللهُ سبحانه بإيتاء الإماءِ أجورَهُنَّ، وظاهرُه يقتضي اختصاصَهُنَّ دون ساداتهن، وبه قال مالكٌ (¬3). وقال الشافعيُّ: هو للساداتِ دُونهنَّ؛ عملًا بالقياسِ على سائر ¬
منافعهِنَّ، وإضافته إليهنَّ لأنهنَّ المحلُّ المعوض (¬1). فإن قال قائل: فما معنى الإحصان في الآية؟ قلنا: أما قوله: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} فالمرادُ به ناكحات غير زانيات (¬2). وأما قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} فالمراد به النكاحُ على قراءة بنائه للمفعول، ويجوز أن يراد به الإسلام عندَ من فسره به. وأما على القراءة بإطلاق الفعل للفاعل، فيحتمل النكاحَ والإسلامَ (¬3). وبالنكاح فسره ابنُ عباس (¬4)، وبالإسلام فسره ابنُ مسعود (¬5) - رضي الله تعالى عنهم-. وعن الشعبى أنه قال: إحصانُ الأمةِ دخولُها في الإسلام (¬6). وعن إبراهيمَ النخعى أنه كان يقرأ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} بفتح الهمزة (¬7)، ¬
واختار الشافعيُّ تفسيرَ ابنِ مسعود، وقد قدمتُ استدلاله لذلك. وعن يونسَ بنِ عبد الأعلى قال: قال الشافعيُّ في قوله تعالى: {(23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}: ذواتُ الأزواجِ من النساءِ، {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] مُحْصَناتٍ غيرَ مسافحاتٍ، عفائفَ غيرَ خبائثَ، {فَإِذَا أُحْصِنَّ}، قال: فإذا نكحن (¬1)، {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] غيرِ ذواتِ الأزواج (¬2). وقال في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5]: الحرائرُ من أهل الكتاب، {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]، عفائفَ غير فواسقَ (¬3). وحكى أيضا أبو علي الطبريُّ صاحب "الإفصاح" عن ابنِ عبد الحكمِ، عن الشافعيِّ: أنه قال: إحصانُها نكاحها (¬4). * إذا تقرَّرَ هذا، فقد اتفقَ جمهورُ العلماء على أنه لا رَجْمَ على الأمةِ؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، والرجمُ لا يَتَنَصَّفُ، فاختص بالجلد (¬5). ¬
فذهب أبو ثورٍ إلى أنها إذا أحصنَتْ بالنكاح، وجبَ عليها الرجمُ كالحرِّةِ؛ قياساً على استواء الحرِّ والعبدِ في حدِّ السرقة (¬1). وهذا خطأ مخالفٌ للكتابِ والسنةِ. * وأجمعوا على أن جلدَها لا يزيدُ على خمسينَ جلدةً؛ لقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬2) [النساء: 25]. * واختلفوا في حقيقةِ الجلدِ. - فقال قومٌ: لا حدَّ (¬3) على الأَمَة، وإنما تُحَدُّ (¬4) تعزيراً، ويروى عن عمرَ -رضي الله تعالى عنه (¬5) - (¬6). قال أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه-: سمعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِناها، فَلْيَجْلِدْها الحَدَّ، ولا يُثَرِّبْ عَلَيها، ثم إنْ زَنَتْ، فَلْيَجْلِدْها الحَدَّ، ولا يُثَرِّبْ عليها، ثم إن زَنَتِ الثالثةَ، فَتَبَيَّنَ زناها، فَلْيَبعْها ولو بِحَبْل مِنْ شَعرٍ" (¬7). ولا يصح القولُ بهذا عن عمر؛ لما روي عن عبِد الله بِنُ عياشِ بنِ أبي ربيعة قال: أمرني عمرُ بنُ الخطابِ في فِتْيَةٍ من قريش، فجلدنا ولائِدَ ¬
من ولائد الإمارة خَمسينَ خَمسين في الزنا (¬1). وقال كافَّةُ العلماء بوجوبِ الحَدِّ، وهو نصفُ حَدِّ الحرَّةِ؛ كما بينه اللهُ سبحانه (¬2). واختلفوا في محلِّه. فروي عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أنه قال (¬3): لا يجبُ عليها الحَدُّ إلا بعدَ النكاح، وأما (¬4) إذا لم تنكحْ، فلا حدَّ عليها؛ لعدم الإحصان (¬5). وتمسكوا بمفهوم الشرط، وانحطاطِ دَرَجةِ البِكْرِ عن درجةِ المُحْصَن في باب الحَدّ. وبه قال طاوس وأبو عبيدةَ (¬6)، وهو ضعيفٌ؛ لأن المفهومَ لا يقاوم النصّ. وقد روى أبو هريرةَ وزيدُ بنُ خالدٍ الجهني -رضي الله تعالى عنهما- قالا: سئل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الأمة إذا زنتْ ولم تحصنْ (¬7)، قال: ¬
"إذا (¬1) زَنَتْ فاجْلِدوها، ثُمَّ (¬2) إذا زَنَتْ فاجْلِدوها، ثم إذا (¬3) زَنَتْ فاجْلِدوها، ثم بِيعُوها ولو بظفر"، خَرَّجه الإمامان (¬4). وبهذا الحديث قال أبو حنيفةَ والشافعيّ رحمهما الله تعالى (¬5). فأوجب عليها الحدّ مطلقًا، سواءٌ أحصنت بالإسلام، أو بالنكاح، أم لم تحصنْ، وتمسَّكا بإطلاقِ هذا الحديثِ الذي تركَ فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - اعتبارَ الإحصانِ بعدَ أن توهَّمَهُ السائل مؤثرًا. فإن قال قائل: فمذهبُ الشافعيِّ يخالفُ تفسيره؛ فإنه إن فسرَ إحصانَها بنكاحِها؛ كما حكاه ابنُ عبدِ الأعلى وابنُ عبد الحَكَمِ، وجب عليه أن يقولَ بسقوط الحَدِّ عنها قبلَ الإحصان؛ كما هو مذهبُ ابنِ عباسِ -رضي الله تعالى عنهما-، وإن فسره بإسلامها، وجبَ عليه أن يقولَ بسقوط الحَدِّ عنها قبلَ الإسلام، وإن كانت مزوجةَ؛ لأنه فائدة الاشتراط للإحصان، وهو لم يقل بشيء من ذلك. قلنا: لو لم تَرِدِ السنةُ بتركِ اعتبارِ تأثير الإحصانِ في وجوبِ الحدِّ وسقوطِه، كما توهمهُ السائل مؤثراً كما هو ظاهر (¬6) القرآن، لقلنا بذلك، ¬
ولَمَّا وردتِ السنَّةُ، عملنا (¬1) بها، وفهمنا أن فائدةَ الاشتراطِ والتقييدِ بالإحصان إنما هو التنبيهُ على سقوطِ الرَّجْمِ عنها في أكملِ حالاتها، بخلاف الحرة، لا لمخالفة ما قبل الإحصان ما بعده، وحينئذ فيدل القرآنُ على سقوطِ الرجم عنها من وجهين: أحدهما: نصاً، وهو هذا، إن حُمل الإحصانُ على الإسلام. والثاني: استنباطاً، وهو عدم تصور التنصيف في الرجم، إن حُمل الإحصانُ على النكاح. * إذا تمَّ هذا، فقد اختلفوا في قياسِ العبدِ على الأمةِ في تنصيفِ الحَدِّ، فأجازه فقهاءُ الأمصار (¬2)، ومنعه أهلُ الظاهر؛ لأنهم لا يقولون بالقياس (¬3). * * * ¬
من أحكام البيوع
(من أحكام البيوع) 79 - (20) قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]. * نهانا الله سبحانه عن أكلِ أموالِ بعضِنا بعضاً بالباطل، والمراد بالأكل الأخذُ؛ لأن الأخذَ يُراد للأكل، فعبر بالمسبَّب عن سببِه، وأباحَ أكلَها بالتجارة إذا كانتْ عن تراضٍ (¬1). * ولما كان الرضا أمراً يتعلق بالباطن، لا يطَّلعُ عليه أحد في الظاهرِ إلا ببيانِ اللسان، اشترطنا النطقَ، واكتفينا به دليلاً على الرضا، صريحاً كان النطقُ أو كناية؛ لقيام الكنايةِ بالدلالةِ على الرضا (¬2). ولأجل هذا اشترطنا (¬3) كونَ اللفظِ ماضياً؛ كقول البائع: بِعْتُك بكذا، أو قول المشتري: اشتريتُ، و (¬4) ابتعتُ منك بكذا؛ لتحقيق الدلالة. ¬
ومنعنا انعقادَهُ بالألفاظ المستقبلة؛ لعدم تحقق الرضا، فإن اللفظ متردِّدٌ بين الوعد والإنشاء (¬1). * ولما كان البيعُ يقعُ عن بصيرةٍ ومعرفة، ويقع بغتة من غير تروٍّ ومعرفةِ حقيقته، بمنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مدةً تندفع بها معرةُ (¬2) الندامة والخداع، ويستدرَكُ بها الغبنُ والظُّلامَةُ؛ لِيُتَحقَّقَ بهذه المدَّةِ الرضا الباطني. فروى ابنُ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إذا تَبايعَ الرَّجُلانِ، فَكُلُّ واحِدٍ منهُما بالخِيارِ على صاحِبِه ما لم يَتَفَرَّقا، وكانا جَميعاً، أو يُخَيِّرْ أحدُهما الآخَرَ" (¬3). وروى حكيمُ بنُ حزامٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعانِ بالخِيارِ ما لم يَتَفرَّقا -أو قال: حَتّى يَتَفَرَّقا- فإنْ صَدَقا وصبيَنا، بورِكَ لهما في بَيْعِهما، وإن كتما وكَذَبا، مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهما" (¬4). خرجهما الشيخان. وبه عمل ابنُ (¬5) عمرَ وسائرُ الصحابة (¬6)، وجمهورُ ... ... ... ¬
الفقهاء (¬1) -رضي الله عن جميعهم-. وخالف في ثبوته أبو حنيفةَ، ومالكٌ، وربيعهُ (¬2). وهم محجوجون بما تقدَّمَ من الأحاديثِ الصحيحةِ الموافقةِ لاعتبارِ الرِّضا الذي جعلهُ اللهُ سبحانه في حَقِّنا معياراً. وليس للمخالفين دليل مستقيمٌ، وإطلاقُ الآيةِ محمولٌ على ما بينه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من شروطِ البيع، والتجنبِ لمفسداته، والسلامةِ من البيوع المنهيِّ عنها، وإلا فذلك باطل وإن تراضى به المتبايعان. فإن قال قائل: فاشتراطُ التلفُّظِ في البيع أمرٌ زائدٌ على ما وردَ به القرآنُ الكريم؛ إذ لم يردْ إلا باشتراطِ التراضي، ولم تردِ السنة باشتراطه أيضاً، ومقتضى هذا أنه يجوزُ البيعُ بالمعاطاة إذا دَلتِ القرائنُ وشواهدُ الأحوال على الرضا. قلنا: التجارةُ والبيعُ أمرٌ معتاد في الوجود، وهو التعاوضُ، ومعلومٌ أنه لا ينفكُّ عن مساوَمَةٍ وخِطاب، فلما وجدنا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَّقَ بين السَّوْمِ والبيعِ في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَسُمْ أَحَدُكُمْ على سَوْمِ أَخيهِ، ولا يَبعْ على بَيع أَخيهِ" (¬3)، ¬
علمنا أنَّ البيعَ هو التعاقدُ الناقلُ لملك أحدِهما إلى الآخر، وأن التساومَ من مقدِّمات البيعِ، ولما وجدْنا الإشارةَ إليه في الحديثِ كثيرةً؛ كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - لحبانَ بن مُنْقِذٍ: "إذا بِعْتَ، فَقُلْ: لا خِلابَةَ، وأنتَ بالخِيارِ ثَلاثاً" (¬1)، وكما قدمنا في حديثِ ابنِ عُمر -رضي الله تعالى عنهما- من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْ يُخَيِّرْ أَحَدُهما الآخَرَ" (¬2)، وغير ذلك من الإشارات المستلزمةِ للتعاقد، فدل على أنه من عادِتهم، فخاطبهم اللهُ -سبحانه وتعالى- بلُغَتِهم الجاريةِ على عادتهم (¬3). نعم جرتِ العادةُ بعدمِ التساومِ والتعاقدِ في المالِ الحقير، فينبغي أن يُكْتفى فيه التعاطي؛ لأنه يسمى بيعاً لغةً وعرفاً. واختاره جماعةٌ من الشافعيةِ (¬4). وأما أبو حنيفةَ، فلم يشترطِ التعاقُدَ في التبايُعِ؛ أخذاً بظاهرِ الخطاب (¬5). ¬
* ثم حرم الله سبحانه علينا قتلَ النفسِ المؤمنة فقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وسيأتي الكلام عليه -إن شاء الله تعالى-. * * *
من أحكام القضاء
(من أحكام القضاء) 80 - (21) قوله جَلَّ ثناؤه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]. * هذه الآية أصل في العَدالةِ والفِسْقِ عندَ أهلِ العلم، فمنِ اجتنبَ الكَبائرَ، فهو عَدْلٌ، ومن ارتكبها، فهو فاسقٌ (¬1). * وقسم الله سبحانه المَنْهِيّاتِ إلى كبائرَ، وغيرِها. والإشارةُ إلى هذا التقسيم ظاهرةٌ في قوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7]. وبظاهرِ التقسيم إلى الصغائرِ والكبائرِ قال جمهورُ العلماء من السَّلَفِ والخَلَفِ (¬2). وقال بعضُ أهلِ العلم: ليس في الذنوبِ صغائرُ؛ نظراً إلى مَنْ عُصِيَ بها، وهو اللهُ الكبيرُ المتعال، فمخالفَةُ الكبيرِ ليس بصغيرٍ، وإنما هي صغائرُ بالإضافة إلى ما هو أكبرُ منها. ¬
وروي هذا القولُ عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما (¬1) -، واختاره القاضي أبو بكير الباقِلاّنيُّ، والأستاذُ أبو إسحاقَ الإسفرايينيُّ، وإمامُ الحرمين (¬2). والجوابُ عن الآيتين ممكنٌ شائعٌ، والخلافُ في التسمية، وإلا فالاتفاقُ حاصلٌ على أن العدالَةَ لا تبطُل بكلِّ الذنوب. * ثم اختلفوا في تعريفِ الكبائرِ. - فمنهم من ذهب إلى تعريفِها بالتَّعْدادِ، وهم جمهورُ الصَّحابة -رضي الله تعالى عنهم-. واختلفت رواياتُهم وعباراتُهم في تَعْدادها على أقوالٍ كثيرةٍ مذكورة في كتبِ الحديث، وقولُ بعضِهم داخل في قولِ بعضٍ، وينبغي أن يُحْمَلَ قولُ من اقتصرَ منهم في العَدَدِ على أربع أو سبع ونحوِ ذلك على أكبرِ الكبائرِ؛ كما وردَ التلفُّظُ بأكبرِ الكَبائر في بعضِ الروايات (¬3). - ومنهم من ذهب إلى تعريفها بالضوابط الكُليَّةِ (¬4). قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ: قال رجلٌ لابنِ عباس: الكبائرُ سبعٌ؟ قال: هي إلى السبع مئةٍ أقربُ منها إلى سَبْعٍ، غيرَ أنه لا كبيرةَ مع استغفارٍ، ولا صغيرةَ مع إصرارٍ (¬5). ¬
- ثم اختلفوا على أقوالٍ كثيرةٍ، وأقوالُ بعضِهم قريبةٌ من بعض. فقال زيدُ بنُ أسلمَ: الكبائرُ ما لا تصلحُ معه الأعمالُ (¬1). وكأنه يشيرُ إلى الشِّرْك، وجمعهُ لاخْتِلاف أنواعِ الكفر. وقال الحسينُ بنُ الفضلِ: ما سماه اللهُ في القرآنِ كبيراً أو عظيمًا، نحو قولهِ تعالى {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]، {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31]، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} (¬2) [الأحزاب: 53]. وقال سفيان الثوريُّ: الكبائرُ ما كان فيه تَظالُمُ العِباد فيما بينهم، والصغائرُ ما بينهم وبينَ الله عَزَّ وجَلَّ؛ لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يُنادي مُنادٍ من بُطْنانِ (¬3) العَرَّشِ يومَ القيامة: يا أمةَ مُحَمَّدٍ! إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ -قَدْ عفا عَنْكُمْ جَميعاً، المؤمنين والمؤمناتِ، تَواهَبوا المَظالِمَ، وادخُلوا الجنةَ بِرَحْمَتي" (¬4)، ولأن الكريمَ لا يتعاظَمُه شيءٌ (¬5). وقال مالِكُ بنُ مِغْوَلٍ: الكبيرةُ ذنبُ المُبْتَدِع، والصغيرةُ ذنبُ السُّنِّيِّ (¬6). ¬
وقال الحسنُ وسعيدُ بنُ جبير: الكبائرُ ما جاء مقرونًا بذكرِ الوعيد (¬1). وقال عليُّ بنُ أبي طلحةَ، وابنُ عباسٍ فيما حُكيَ عنه: الكبيرةُ كلُّ ذنبٍ ختمهُ اللهُ سبحانه بنارٍ، أو غَضَبِ، أو لَعْنَةٍ، أو عذابٍ (¬2). وقال الضحاكُ: ما أوعدَ الله عليه حَدًّا في الدنيا، أو عذاباً في الآخرة (¬3). وقال المحاسِبِيُّ: الكبائرُ ذنوبُ المستحلِّين؛ كذنب إبليسَ -لعنه الله سبحانه-، والصغائرُ ذنوبُ المستغفرين؛ كذنب آدمَ -عليه الصلاةُ والسلام (¬4) -. وقال السُّدّيُّ: الكبائرُ: ما نهى الله عنهُ من الذنوبِ الكبارِ، والسيئاتُ: مقدماتُها وتوابعُها ما يجتمع فيه الصالحُ والفاسقُ مثل النظرةِ واللمسةِ والقُبْلَةِ (¬5). وقال بعضُهم: ما تَوَعَّدَ عليه الشارعُ بخصوصه. ¬
قال الرافعي: وهو أكثر ما يوجد للشافعية (¬1). وقال بعضُ الشافعية: كل ما وجبَ فيه الحَدُّ، فهو كبيرة (¬2). وقال أبو سعد الهَرَوِيُّ منَ الشافعية: الكبيرةُ كلُّ فعل نَصَّ الكتابُ العزيزُ على تحريمه، وكل معصيةٍ يجبُ في جنسها حَدٌّ، وتركُ كلِّ فريضةٍ مأمورٍ بها على الفور، والكذبُ في الشهادة والرواية واليمين (¬3). ولما رأى المتأخرون اضطرابَ هذه الأقوال، وفسادَ كيبرٍ منها، اختلفوا: فذهب بعضهم إلى أن الكبيرةَ ليس لها حَدّ معروفٌ، وإنما وردَ الشرعُ بوصفِ أنواع من المعاصي بأنها كبائرُ، وأنواع بأنها صغائرُ، وأهمل أنواعاً مشتملَةً على معنى الصغيرةِ والكبيرةِ، فلم يصفها، ولم يبينْها حكمُهُ؛ لزجر العِباد عن ارتكابها؛ مخافةَ أن تكونَ من الكبائر، فهذه شبيهة بإخفاء ليلةِ القَدْرِ وساعَة الجمعةِ، وبهذا قال أبو الحسنِ الواحديُّ (¬4). ومنهم من لاحظَ المعنى الذي لأجله سُميت كبيرةً. فمنهم من نظرَ إلى تأثيرِ المعصيةِ في نفسها، فقال: كلُّ ما وردَ في الكتابِ العزيزِ وفي السُّنَّةِ الطاهرة لَعْنُ فاعلهِ، أو التشديدُ في الوعيد عليه، فهو كبير، ثم يُنظر فيما وقع من غيرِ ذلك، ويعتبر بالنسبة إليه، فإن ساواه ¬
في المَفْسَدة، حُكِمَ بأنه كبيرة، وما سوى القبلةِ في المفسدة، حُكمَ بأنه صغيرة (¬1). ومنهم من لاحظَ تأثيرَها في المُتَّصِفِ بها. فقال إمامُ الحَرَمين: الكبيرةُ كلُّ معصيةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكتراثِ مُرتكبها بالدِّين، ورقَّةِ الديانة؛ كالقتلِ، والزنا، واللِّواطِ، وشربِ الخمر، ومطلَقِ السُّكرِ، والسرقةِ، والقذفِ، وشهادةِ الزورِ، واليمينِ الفاجرةِ، وقطيعةِ الرحمِ، والعُقوقِ، والفِرارِ، وأكلِ مالِ اليتيم، وخيانةِ الكيلِ والوزن، وتقديمِ الصلاة على وقتها وتأخيرِها عنه، والكذبِ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وضربِ المسلمِ، وسَبِّ الصحابة، وكِتْمانِ الشهادة، والرشوةِ، والدياثة، والقِيادة، والسِّعاية (¬2)، ومنعِ الزكاة، واليأسِ من رَوْح الله، والأمنِ من مكرِ الله، والظِّهار (¬3)، وأكلِ لحمِ الخنزير والميتة، وكفطرِ رمضانَ، والغلولِ، والمحاربةِ، والسحرِ، والربا، والإصرارِ على الصغيرة (¬4). وقد عُلم من هذا التعريف حَدُّ الإصرار على الصغيرة، قال الشيخُ الإمامُ ¬
عزُّ الدين بنُ عبد السلام -رحمه الله تعالى- في حَدِّ الإصرار: أن تتكررَ منه الصغيرةُ تكرراً يشعرُ بقلَّةِ مبالاته بدينه إشعارَ مرتكبِ الكبيرة. قال: وكذلك إذا اجتمعتْ صغائرُ مختلفةُ الأنواع بحيثُ يُشْعر مجموعُها بما يُشعر أصغرُ الكبائر (¬1). وقال الشيخُ أبو عمرِو بنُ الصلاح -رحمه الله تعالى-: المُصِرُّ من تلبَّس من أضدادِ التوبةِ باستمرارِ العزم على المُعاوَدَةِ، أو باستدامةِ الفعل بحيثُ يدخلُ به في حَيِّزِ ما يُطْلقُ عليه الوصف (¬2) كبيراً عظيماً (¬3)، وليس لزمان ذلك وعدده حصر معلوم (¬4) (¬5). * * * ¬
من أحكام المواريث
(من أحكام المواريث) 81 - (22) قولهم جَلَّ ثناؤه: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء: 33]. * جعل الله سبحانه لكلٍّ من الرجالِ والنساء مَواليَ. وهم العَصَبَةُ في قولِ ابنِ عباسِ ومجاهدٍ وقتادةَ (¬1)، أو جميعُ الورثة في قول السديِّ وابنِ عباسٍ في روايةِ سعيدِ بنِ جُبير (¬2). * وجعل لهم حقاً فيما تركَ الوالدانِ والأقربون، وذلك الحَقُّ مجهولٌ هنا، مبيَّنٌ في أول السورة، بين الله تعالى قَدْرَهُ وشَرْطَهُ، ونَسَخَ بها -في قولِ ابن عباس- ما كانوا يتوارثون به في صدرِ الإسلام من المؤاخاة والمعاقدة (¬3). روى البخاريُّ عن سعيدِ بن جُبير، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: كان المهاجرون لمّا قدِموا المدينة، يرثُ المهاجريُ الأنصاريَّ دونَ ذوي ¬
رَحِمِه؛ للأُخُوَّةِ التي آخى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينهم، ولما نزلتْ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ}، نُسِخَتْ. ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] منَ النُّصرةِ والرِّفادَةِ (¬1) والنصيحةِ (¬2) (¬3). ومنهم من قال: إنها نازلة في الحليف، وكان له السُّدُسُ في صَدْرِ ¬
الإسلام، ثم نسخ الله سبحانه ذلك بقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (¬1) [الأحزاب: 6]. وقيل: إنها في نصيب الزوجين؛ لأنه يبذُلُ يمينَهُ في عقد النكاح، فليستْ بمنسوخة، والله أعلم (¬2). * * * ¬
من أحكام النكاح
(من أحكام النكاح) 81 - (23) قوله جَلَّ ثَناؤه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34]. [قوامون]؛ أي: مسلَّطونَ على تأديبهنَّ. والقَوَّام والقَيِّم بمعنى واحد، وهو القائمُ بالمصالحِ والتدبيرِ والتأديبِ. والآية نزلت في سعدِ بن الربيع وامرأتهِ، وذلك أنها نَشَزَتْ عليه، فلَطَمَها، فانطلقَ أبوها معها إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أفرشته (¬1) كريمتي (¬2) فلطمَها، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لتَقْتَصَّ منْ زَوْجِها"، فذهبت مع أبيها لتقتصَّ منه، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ارْجِعُوا، هذا جِبْريلُ أَتانِي"، فأنزل الله هذه الآية، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَردَنْا أَمْرًا، وأرادَ اللهُ أَمْرًا، والذي أرادَ اللهُ خَيْرٌ" (¬3). ¬
* ثم أمر الله سبحانه الرجالَ بوعظِ الأزواج عند خوفِ نُشوزِهِنَّ، وذلك يكون بظُهور أَماراتِ النُّشوز، إما بالخُشونة وسوءِ الخُلُق، وإما بإخلافِ عادتِها في حسنِ طاعتِها ولينِ عِشْرَتها. وأمرهم بهجرهنَّ وضربهنَّ، وذلك يكون عندَ ظهورِ النشوزِ وتحقُّقِه والإصرارِ عليه، لا عندَ خوفِه؛ فإنَّ ظهورَ أَماراته لا يُبيحُ الضربَ؛ لاحتمال خُلْفِ الأَماراتِ والخطأ فيها، فقد يكونُ ذلك منها لِغَمٍّ وضيق صدرٍ (¬1) (¬2). ونُقل عن بعضهم جوازُ الجمع بين الوعظِ والهجرانِ والضربِ؛ لأن الواو تقتضي الجمعَ، لا الترتيب (¬3)، وحمل خَوْف النشوزِ على ظهورهِ والعلمِ به تَجَوُّزاً؛ كما في قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182]. ¬
والأول (¬1) أصحُّ من ثلاثةِ أوجه: أحدها: استعمالُ الخوفِ في حقيقتِه دونَ مَجازه؛ فإن الخوفَ لا يقع حقيقةً إلا على الخشيةِ للشيء دون الوقوعِ فيه، وأما التجوزُ بالواو إلى الترتيب؛ فإنه أكثرُ استعمالاً من هذا، فمجازه أرجحُ. وثانيها: استغراقه (¬2) بجميع الحالاتِ المفتقرة إلى التأديب، وعلى هذا القول تخرج حالةُ مبادئ النشوز من التأديب، وهي أولى بالتأديب؛ لما فيها من استدراكِ المفسدةِ قبلَ انتشارِها بما هو أوفقُ وأرفقُ. وثالثها: صدقُ الاعتبار بنظائره في دفع الصائل (¬3). نعم للشافعيِّ قولٌ أنه يجمع بين الهجرانِ والضرب بظُهور النشوز منها، وإن لم تُصِرَّ عليه (¬4)، وهو الصحيحُ عند بعض الشافعية (¬5). * والأمرُ بالوعظِ محمولٌ على الاستحبابِ، وبالهجرانِ محمولٌ على ¬
التأديب، وبالضربِ محمولٌ على الإباحة. " وبين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صفةَ الضرب أنه غَيْرُ مُبَرِّحٍ (¬1). * وقيدَ اللهُ سبحانه هجرانَهُنَّ في المَضاجِع، فدلَّ على أنهم لا يهجرونَهُنَّ في الكلام (¬2)، ويدل عليه ما روى أبو هريرةَ -رضي الله تعالى ¬
عنه- أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخْاهُ فَوْقَ ثَلاثةِ أَيِّامٍ" (¬1). * ثم نهى الله سبحانه الرجالَ أن يبغوا عليهن سبيلاً (¬2)، فقال: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34]. * * * 82 - (24) قوله جل ثناؤه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35]. أخفتم،؛ أي: علمتم شقاقَ بينهما؛ كقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] وكقول الشاعر (¬3): [من الطويل] ولا تَدْفِنَنِّي في الفَلاةِ فإنَّني ... أَخافُ إذا ما مِتُّ أَلَّا أَذوقُها ¬
* فأمر الله سبحانه الوُلاة عندَ العلم بالشِّقاق بينهما، وإشكالِ الظالمِ منهما بأن يبعثوا حَكَماً من أهله، وحَكَماً من أهلها، ليطَّلعا على باطنِ أحوالهما، وحقيقةِ أمرِ هما، فيحكما بينهما. * والتقييدُ بكونهما من أهلهما يقتضي أنه لا يجوزُ أن يكونا من غير أهلِهما، وهو كذلك عند المالكية (¬1)، حتى ادَّعى بعضهم أنه إجماعٌ، إلا ألاّ يكونَ في أهلِهما من يصلُحُ لذلك، فيرسل من غيرِهما (¬2). ودعوى الإجماع ممنوعة، فذلك مستحبٌّ غيرُ واجبٍ عند الشافعية (¬3). * وأجمع العلماءُ على أن قولَهما في الإصلاح نافِذٌ، وإن كانَ بغيرِ توكيلٍ من الزوجين؛ لقوله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} [النساء: 35] فقرنَ الله سبحانه بينهما في الإرادة، ولهذا أجمعوا على أنه لا ينفذُ قولُهما إن اختلفا (¬4). * واختلفوا في الحَكَمين إذا أرادا التفريق: فأخذَ مالكٌ بظاهرِ الآية، وجعل إلى الحَكَمَين التفريقَ بغير رضا الزوجين، إن رأياه، فيبذلُ الذي من أهلها العِوضَ، ويطلِّقُ الذي من أهله، ¬
وهو أحدُ قولَي الشافعي -رحمه الله تعالى (¬1) -. واحتج أيضاً بما روى عَبيدةُ السَّلْمانيُّ قال: جاء رجل وامرأةٌ إلى عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي الله تعالى عنه- مع كل واحدٍ منهما فِئَامٌ (¬2) من الناس، فأمرهم علي، فبعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها، ثم قال للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ إن (¬3) رأيتُما أن تجمعا فاجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا ففرِّقا، فقالت المرأةُ: رضيتُ بكتابِ الله بما فيه لي وعَلَيَّ، وقال الرجلُ: أما الفرقةُ، فلا، فقال عليّ: كذبتَ، واللهِ لا تنفكُّ حتى تقِرَّ بمثلِ الذي أقرَّتْ به المرأةُ، فجعلَ علَى الحكمين التفرقةَ (¬4). وقال أبو حنيفةَ، والشافعيُّ في القول الآخر: ليس لهما أن يفرقا إلا أن يجعل الزوجُ إليهما التفريق (¬5). واحتجا بالقياس؛ إذ الأصل أن الطلاق ليسَ بيد أحدٍ سوى الزوج، أو مَنْ يوكِّلُه الزوجُ. ¬
واحتجا أيضًا بقولِ عليٍّ للرجلِ: والله لا تنفكُّ حتى تقرَّ بمثلِ ما أقرَّتْ به المرأةُ، فاعتبرا إذنَ الرجل في ذلك (¬1). ولا حجةَ لهما في ذلك؛ فإن علياً إنما واخذه بسوء (¬2) أدبه؛ حيثُ لم يقبلْ ما لَه وعليه في كتاب الله سبحانه كما قبلتِ المرأةُ، ولذا قال له: كذبتَ، واللهِ لا تنفَك حتى تقرَّ بمثلِ الذي (¬3) أقرتْ به المرأة، ولم يقل: حتى تأذن للحَكَم وتُحَكِّمَهُ، ولأنَّ المرأة لم يوجد منها سوى القَبول، ولم يوجد منها التوكيلُ (¬4). وقولُ مالكٍ أرجحُ وأولى؛ لأن الله سبحانه سَقاهما حَكَمين، وقد جعل الله سبحانه إلى الحُكامِ التفريقَ، وإن لم يرض الزوج؛ كالملاعِن والعِنِّين (¬5). * * * ¬
من أحكام الطهارة والصلاة
(من أحكام الطهارة والصلاة) 83 - (25) قوله جَلَّ جلالُهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43]. * نهانا الله سبحانه عن قُربانِ الصلاة في حالِ السُّكْرِ، وبَيَّنَ لنا العِلَّةَ المانعةَ أنها عدمُ عِلْمِ المُصَلّي بما يقولُ. "والإجماعُ منعقدٌ على أن السُّكْرَ إذا بلغَ بالشاربِ إلى حَدِّ التخليطِ، لا تصحُّ صلاتُه، وفعلُها حرامٌ؛ لوجودِ العِلَّةِ الموجِبَةِ للفساد (¬1). * وأما الشاربُ إذا صَلَّى في مبادِئِ النشوة ودبيبِ السكر؛ بحيث يعلمُ ما يقولُ، فصلاتهُ جائزةٌ صحيحة، وجميع أعماله (¬2) وأقواله كذلك؛ لعدم العلة، ولأنه لا يُسَمَّى سَكْرانَ، ولأنه داخلٌ في جُملة المكلفين (¬3). وسواءٌ حملنا كلمةَ (حتى) على التعليل، أو على الغاية؛ فإن وجود ¬
العلمِ من الشارب بما يقولُ، وعدَم العلم به، علَّةٌ لصحةِ الصلاةِ وفسادِها طرداً وعكساً؛ لأن الغايةَ بمنزلةِ العِلَّةِ للحُكْم المعيَّن. * وإن صلَّى في حالِ اختلاطِ عقلهِ، فلا تصحُّ صلاتُه اتفاقاً؛ للآية. * واختلفوا هل يلحقُ بها سائرُ أقواله أو لا؟ فذهب قومٌ إلى الإلحاق، فقال الليث: كلُّ ما كان من منطقِ السكرانِ، فموضوعٌ عنه، ولا يلزمهُ طلاقٌ ولا عتقٌ ولا نكاحٌ ولا بيعٌ ولا حَدٌّ في قذف، وكلُّ ما جَنَتْهُ جوارحُه، فلازم له، فيُحَدُّ في الشربِ والقتلِ والزنا والسرقةِ (¬1). وبه قال داودُ، وأبو ثورٍ، وإسحاقُ، وجماعة من التابعين؛ كالقاسمِ بنِ محمدٍ، وطاوسٍ، وعطاءٍ، وأبانَ بنِ عثمان (¬2). وثبتَ عن عثمانَ أنه كان لا يرى طلاقَ السكران (¬3)، وبه قالَ الشافعيُّ في قولهِ القديم، واختاره المزنيُّ، وابنُ سُريج، وأبو سهلٍ الصعلوكيُّ، وابنُه من الشافعية (¬4). ¬
- وذهب مالك، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ في الجديدِ إلى عدم الإلحاقِ، يروى عن عمرَ، ومعاويةَ، وجماعةٍ من التابعين (¬1). ثم اختلفوا، فقال أبو حنيفة: يلزمه كلُّ شيءٍ (¬2). وقال مالكٌ: يلزمه الطلاقُ والعتقُ والقَوَدُ، ولا يلزمهُ النكاحُ ولا البيع (¬3). وللشافعيةِ اختلافٌ وتفصيلٌ طويلٌ (¬4). ¬
* ويلحق بالسُّكْر ما في معناه من الحالةِ التي تقتضي اختلاطَ العقل وجهلَ المصلي بما يقول؛ كتخبيطه بأكل قليلٍ للأفيونِ (¬1) والبَنْجِ (¬2) والحَشائِشِ -نسأل الله سبحانه العافية لنا ولسائر المسلمين- وكالمغلوبِ بالنُّعاس؛ لوجودِ العلَّةِ المقتضية للنهيِ والفساد (¬3)، ولما روت عائشةُ ¬
-رضي الله تعالى عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وهو يصلي، فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عنهُ النومُ؛ فإنَّ أَحَدَكُمْ إذا صَلَّى وهو يَنْعُسُ، لَعَلَّهُ يَذْهَبُ فَيَسْتَغْفِرُ، فيَسُبُّ نَفْسَهُ" (¬1). * وحرمِ سبحانه علينا أيضاً قُربان الصلاة في حالِ الجَنابةِ حتى نَغْتسلَ، إلا أن نكون مُسافرين عادِمين للماء؛ فإنه أباحَ لنا قُربانَها إذا تيمَّمْنا صعيداً طيباً، فقال: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]، والتقدير: ولا جُنُباً حتى تغتسلوا، إلا عابري سبيل، فتقربونها، وإن لم تغتسلوا. ثم قربانُها بغيرِ اغتسالٍ مطلقٌ في هذه الجملة، مقيدٌ بقَصْدِ الصعيدِ الطيبِ في الجملة التي بعدَ هذه. فإن قال قائل: فهذا يقتضي أن الجنبَ لا يقرب الصلاة في الحضر إذا عدم الماءَ، ولا يجوز له التيممُ؛ لما في الاستثناء من الحَصْر. قلنا: - يحتمل أن يريد به الحصرَ في الإباحة؛ كما ذكرت، فدلَّ على أنه لا يجوز له في غير ذلك الحال؛ كما هو قولُ أبي حنيفة (¬2). - ويحتمل أن يكونَ الاستثناءُ ورَد على الغالب في الوجود؛ فإنَّ الماءَ لا يعدمُ غالباً إلا في السفر، وعدمُه في الحَضَر نادر، فلا يدلُّ على عدم ¬
الجواز، فيلتحق به ما في معناه من حالاتِ العدمِ؛ كما هو قولُ مالكٍ، والأوزاعيِّ، والشافعي (¬1). إلا أن الشافعيَّ قالَ: إذا قدرَ على الماء، فعليه الإعادةُ (¬2). وما ذكرتُه من الأحكام هو على قولِ جماعةٍ من الصَّحابةِ والتابعينَ والمفسرين أن المرادَ بالنهي عن قُربان الصلاةِ نفسُها (¬3). وقال فريقٌ منهم: المرادُ بالنهيِ مَوْضِعُ الصلاة الذي هو المَسْجِدُ، فالصلاةُ على هذا داخلة في النهيِ من باب الأولى (¬4). قال عطاءُ بنُ يسارٍ عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهم- في قوله تعالى: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 34]: لا تقربِ المسجدَ وأنتَ جنب إلا أنْ يكونَ طريقُك فيه، فتمرَّ ماراً (¬5). وروى الليثُ، عن يزيدَ بنِ أبي حبيب: أن رجالاً من الأنصار كانت ¬
أبوابُهم في المسجدِ، فتصيبهم جنابةٌ، ولا ماءَ عندهم، فيريدون الماءَ، ولا ممرَّ لهم إلا في المسجد، فأنزل الله هذه الآية (¬1). وقد اختلف أهلُ العلم في ملابسةِ الجنبِ المسجد، فقال جمهورُ السلفِ: يجوزُ له العبورُ دونَ القَرار (¬2)، وبه أخذ الشافعيُّ (¬3). فهؤلاء منهم من يقول بهذا التأويل؛ كابنِ عباسٍ، فجرى على تأويله (¬4). ومنهم من يقول بالقول الأول أن المرادَ بالنهي عينُ الصلاة، وإنما وافقه لدليلٍ آخرَ مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِجُنُبٍ ولا لِحائِضٍ" (¬5) (¬6). وربما ظنَّ ظانٌّ أن كلَّ من قال بجواز العبور للجنب أنه قائل بالمعنى الثاني؛ لموافقته للقائل به في الحكمِ، وليس كذلك؛ إذ لا يلزمُ من القَول بإيقاع النهيِ عن الصلاة القولُ بتحريم العبور. وقال قوم: لا يقربُ المسجدَ بحالٍ، وهو قولُ مالكٍ، واحتجَّ له بما روت عائشةُ -رضي الله تعالى عنها-: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وَجِّهوا هذهِ البيوتَ (¬7) ¬
عن المَسْجِدِ؛ فإنِّي لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِجُنُبٍ ولا لحِائِضٍ" (¬1) (¬2). وقال أحمدُ، وإسحاقُ، والمزنيُّ (¬3)، وأصحابُ الرأي (¬4)، وأهلُ الظاهر (¬5): يجوزُ مطلقًا، إلا أن أحمدَ وإسحاقَ شرطا الوضوء (¬6)؛ أخذاً بظاهر قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 43] ولأن الأصلَ عدمُ التحريم. ولا حجةَ في الحديث لمالكٍ؛ لأنه مُجْمَلٌ لا يُحتجُّ به عند أكثر المحققين من الأصوليين (¬7). ¬
نعم يبقى فيه الاحتجاجُ للفريقِ الأول؛ فإن تحريمَ اللُّبْثِ مُتيَقَّنٌ بكلّ حال؛ لأنه إن كانَ المرادُ بالتحريم العبورَ، فاللبثُ داخلٌ فيه من طريق الأولى، وإن كان التحريمُ خاصًّا باللُّبثِ، فهو المقصودُ بالحكم. وأما الحديثُ -وإن سلم الاحتجاج به- فقد ضَعَّفه أحمدُ؛ لأن راويَهُ مجهول (¬1). فإن قال قائل: فأيُّ القولين أرجحُ وأولى: وقوعُ النهيِ على الصلاة، أو على موضعها؟ قلنا: الأولُ أولى من ثلاثة أوجه: أحدها: أن فيه حملَ اللفظ على حقيقته، وعدمَ الإضمار، وحملُ اللفظِ على حقيقته أولى من المجاز (¬2). ثانيها: سياق آخر الآية حكُمهُ مختصٌّ بالصلاة، ولا يجوز أن يتعلق بموضِعِ الصَّلاة، فهذا يدل على أن أولَ الكلام كآخره؛ لما بينهما من الربط بحرف النَّسَق (¬3). ¬
ثالثها: ما حكاه المفسرون من سببها، وذلك أن عبدَ الرحمن بنَ عوفٍ -رضى الله تعالى عنه- صنعَ طعامًا، ودعا ناساً من أصحابِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، فَطَعِموا وشربوا، وحضرت صلاةُ المغربِ، فتقدمَ بعضُ القوم فصلَّى بهم المغرب، فقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، ولم (¬1) يتمَّها، فأنزلَ الله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (¬2) [النساء: 43]، وحملُ ذلكَ على موضعِ الصلاة حَمْل لها على غير سببها، وحملُ اللفظِ على غير سببه، وإخراجُ سببه غيرُ جائز. فإن قيل: فقد روى بعضُهم نزولهَا في الذين كانت أبوابهم في المسجدِ (¬3)، مع اتفاقِهم على أن صدرها نازلٌ في السُّكارى، فكيف يتفق لها سببان؟ قلنا: يمكن أن يقال: إن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا ¬
الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فزل في هذا السبب، وأن قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] نزل في الذين كانت أبوابُهم في المسجد، ونيةُ العاملِ والمعمول في حرف العطف جائر، فهو معطوف على الجملة الحالية. وقد بينتُ في أول كتابي هذا أنه يجوزُ أن ينزلَ بعضُ الآية دونَ بعضٍ، ثم ينزلَ البعضُ الآخرُ في زمنٍ آخر، وإن كانَ قد تَوَهَّمَ الإمامُ أبو عبد الله الشافعيُّ خلافَ ذلك. وهذا التأويلُ عندي متعينٌ في هذا المقام؛ لما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- من كونِ عمرَ وابنِ مسعودٍ -رضي الله تعالى عنهما- لا يُجَوِّزان التيممَ عن الجنابة (¬1)، ولو كان نزولُ هذه الجملة في الصلاة كالجملة الأولى، لما خالفوا في ذلك. * فإن قال قائل: فما حقيقة الجُنُبِ؟ قلنا: الجُنُبُ في الأصلِ موضوع لمعنى البُعْد، ومنه قوله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]، سمي بذلك لبعده عن حالة التقرب إلى الله تعالى، وهو مأخوذٌ من الجنابة. والجنابةُ تطلق على خروج الماء بالتلذُّذ، وقد تطلق على الماءِ نفسِه؛ لأنه سببٌ للبعد (¬2)، قالت عائشةُ -رضي الله تعالى عنها-: كنت أغسلُ الجنابةَ من ثوبِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فيخرج إلى الصلاة وبقع الماء على ثوبه. ¬
خرجه الشيخان، ولفظ مسلم: "وقد كنت أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركاً، فيصلي فيه" (¬1). وبين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن التقاءَ الختانَيْن من غيرِ إنزالٍ كمثله مع الإنزال، فقال: "إذا الْتَقَى الخِتانانِ، وَجَبَ الغُسْلُ" (¬2)، وقال أيضاً: "إذا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِها الأَرْبَعِ، وجَهَدها، فَقْدَ وَجَبَ الغُسْلُ، وإنْ لم يُنْزِلْ" (¬3)، خرجه الشيخان. * وبيَّنَ أن إنزالَ المرأةِ الماءَ من غيرِ جِماع كَهُوَ مع الجِماع، فقال - صلى الله عليه وسلم - لأمِّ سُلَيْمٍ امرأةِ أبي طلحةَ لمّا سألتْهُ: هل على المرأةِ من غسل إذا هي احْتَلَمَتْ؛ قال: "نَعَمْ، إذا رَأَتِ الماءَ" (¬4)، خرجه الشيخان أيضاً، ولم يخالف فيه إلا النخعيُّ؛ فإنه قال: لا غُسْلَ عليها (¬5). ¬
وروي عن الشافعيِّ -رحمه الله تعالى-: أنه قال: إنما سُمِّيَ الجُنُبُ جُنُباً من المخالطة، ومن كلامِ العربِ: أجنبَ الرجلُ: إذا خالَطَ أهلَه (¬1). فعلى قوله يكونُ لفظُ القرآنِ متناولاً لمن جامَعَ ولم يُنْزل، بطريقِ اللغة، مع البيانِ من النبي - صلى الله عليه وسلم -. * إذا تقرر هذا، فهل يطلقُ الجنبُ على من خرجَ منه الماءُ بغير تَلَذُّذٍ، فيجب عليه الغسلُ، أو لا يطلق عليه إلا إذا خرج على الحالة المعتادة، فلا يجب عليه الغسل؟ اختلف فيه، فقال الشافعيُّ بالأول (¬2)، وقال مالك وأبو حنيفة بالثاني (¬3). * ثم قال الله جَلَّ جَلالُهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]. فقيدَ بعدمِ الماء بعد ذكرِ حالتي المَرَضِ والسَّفَر، فيجوزُ أن يكونَ التقييدُ متعلِّقاً بهما، فلا يجوزُ التيممُ إلا عندَ عدمِ الماء، ويجوز أن يكون [متعلقاً بحالة السفر فقط؛ لغلبة عدم الماء بالسفر دون المرض، وهو الظاهر من سياق الخطاب، فيجوز] (¬4) له التيممُ، سواءٌ كانَ واجِداً للماء أو عادماً. ¬
وبالثاني قال الجمهورُ. ويروى القولُ بالأولِ عن عطاءٍ والحَسَنِ (¬1). وهو بعيدٌ؛ لأنه لو جازَ تعلُّقُه بالمرضِ، لما كانَ لذكره فائدةٌ، لأنه إذا جازَ للصحيح التيمُّمُ عندَ عدمِ الماءِ، فالمريضُ أولى بالجواز، فذكره المرضَ حَشْوٌ لا فائدةَ له؛ وليس كذلك. * ثم مقتضى مفهومِ تخصيصِ التيمُّم بالحالتين أنه لا يجوزُ في غيرِهما، وهو كذلك عندَ أهلِ العلم، ولكنهم ألحقوا بالحالتين ما كان في معناهما؛ لبيانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). روى جابرٌ -رضي الله تعالى عنه-: أنَّ رجلاً أصابه حَجَرٌ في رأسه، فَشَجَّهُ، ثم احتلمَ، فاغتسلَ، فمات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما كان يَكْفيهِ أن يَتَيَمَّمَ ويَعْصِبَ على رَأْسِهِ خِرْقَةً يَمْسَحُ عليها، ويَغْسِلَ سائِرَ جَسَدِهِ" (¬3) (¬4). وروى عمرُو بنُ العاصِ -رضي الله تعالى عنه- قال: احتلمتُ في ليلةٍ ¬
باردةٍ في غَزاةِ ذاتِ السلاسل، فأشفقت إن اغتسلتُ أن أهلكَ، فتيمَّمْتُ وصلَّيتُ بأصحابي صَلاةَ الصبح، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ياعَمْرُو! صَلَّيْتَ بأَصْحابكَ وأَنْتَ جُنُبٌ؟ " فقلت: سمعت اللهَ يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فضحك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقلْ شيئاً (¬1) (¬2)، فاستدلوا بقوله وبإقراره على أن ذلك في معنى المَرَض؛ لوجود العلَّةِ فيهما، وهو الضررُ باستعمال الماء. * وجَوَّزوا التيمُّمَ عندَ العجزِ عن الوصولِ إلى الماء، إما لخوفِ عدوٍّ أو سَبُعٍ، أو عدمِ آلةٍ يغرفُ بها الماء؛ لوجود العلَّةِ، وهي العجزُ عن الماء، فهو كالذي لم يجدِ الماء (¬3). * واختلفوا في الصحيحِ إذا عدم الماءَ في الحَضَرِ. فقال أبو حنيفة: لا يتيمَّمُ، ويقفُ إلى أن يجد الماء؛ عملاً بمفهوم التخصيص بالصفتين، ولمفهوم الشرط، وهو السفر (¬4). ¬
وقال مالكٌ، والشافعيُّ، والأوزاعيُّ: يتيمَّمُ (¬1)، إلا أن الشافعيَّ قال: عليه الإعادةُ (¬2). فكأن هؤلاءِ لم يروا ذكرَ السفر للشرطِ والتقييدِ، وإنما ورد الحكمُ مقيداً به على (¬3) الغالب في الوجود؛ إذ لا يعدم الماء غالباً إلا في السفر، وتكونُ الحالتان المقتضيتان للتقييد عندهم المرضَ وعدمَ الماء. والقولُ بعدمِ الإعادة عندي أقوى من القول بالإعادة؛ لما روى أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه-: أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا نكونُ بأرضِ الرمل، وفينا الجُنُبُ والحائضُ، ونبقى أربعةَ أشهرٍ لا نجدُ الماءَ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكُمْ بالأَرضِ" (¬4) فهذا حاضرٌ وليس بمسافر، ولم يأمرْ بالإعادة، وهو في وقتِ الحاجة للبيان (¬5). ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّعيدُ الطَّيِّبُ وَضوءُ المُسْلِمِ، ولَوْ لَمْ يَجِدِ الماءَ إلى عَشْرِ حِجَجٍ (¬6)، وهذا عامٌّ بصيغة المبالغة ليس معه مخصّص. ¬
واختار القولَ بعدمِ الإعادة المزنيُّ، وهو قولٌ للشافعيِّ، وهو المختار من قولَيْ (¬1) مالِكٍ عند أصحابه -رحمهم الله تعالى (¬2) -. * وقيد الله سبحانه جوازَ التيمُّم بعدمِ الوِجْدان، والوِجْدانُ اسمٌ للظَّفَرِ بالمطلوب بعد الطلب، يقال: وجدَ مطلوبَه، ووجد ضالَّتَه: إذا ظفر به (¬3). ولهذا أوجبَ الشافعيُّ ومالكٌ الطَّلَبَ على فاقد الماء (¬4). وقال أبو حنيفة: لا يجبُ عليه الطَّلَبُ؛ قياساً على سائرِ الأصول في أنَّ من فقدَ شرطاً في العبادةِ لا يجبُ عليه طلبُه؛ كمن فقدَ السُّتْرَةَ في الصلاة، والمالَ في الزكاة، والاستطاعةَ في الحج (¬5). والفرقُ عند الآخرين ظاهرٌ، وهو تَيَسُّرُ تحصيل الماء، بخلاف غيره. ¬
* فإن قال قائل: فما حَدُّ المَرَضِ والسفرِ المُبيحَيْنِ للتيمم؟ قلنا: أما السفرُ، فما يقع عليه اسمُ السفر ممّا يعدمُ فيه الماء كثيراً، وذلك يقعُ على السفرِ القصيرِ، وعلى مسافة العدو (¬1) (¬2) على الصحيحِ عندَ الشافعية (¬3). وأما المرضُ، فيجوزُ أن يُرادَ به عدمُ القُدرةِ على استعمالِ الماء لِخوفِ التلفِ في نفسٍ أو عضوٍ، استدلاً عليه بحكمِ قرينه، وهو السفرُ، فإن الله سبحانه شرطَ فيه عدمَ وجودِ الماء، وعدمُ وجوده هو عدمُ القدرةِ عليه، فكذلك المرضُ لا يتحققُ عدمُ القدرةِ على استعمال الماءِ معه إلا بخوفِ التلفِ (¬4). واستدلالاً بتفسيرِ ابن عباس -رضي الله عنهما - قال: إذا كانتْ بالرجلِ جراحة في سبيلِ الله عزَّ وجَلَّ، أو قُروحٌ، أو جُدَرِيٌّ، فَيُجْنِبُ، ¬
فخافَ أن يغتسلَ فيموتَ؛ فإنه يتيمَّمُ بالصعيدِ (¬1)، وهذا أحدُ قولي الشافعي -رحمه الله تعالى (¬2) -. ويجوز أن يُرادَ به مرضٌ يحصلُ معهُ المشقَّةُ والضررُ باستعمال الماءٍ؛ استدلالاً بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وهذا قولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ، والصحيحُ من قَوْلَي الشافعي -رحمة الله عليهم (¬3) -. وقال داود: ما يقع عليه اسمُ المرض (¬4). وهو ضعيفٌ. * فإن قال قائل: فما الفرقُ عند الشافعيةِ بين السَّفَرينِ؛ حيثُ اعتبروا مسافةَ القَصْرِ في الفِطْرِ في رَمضانَ، ولم يعتبروها هنا، وما الفرقُ بين المَرَضين؛ حيثُ اكتفَوا هناكَ بوجودِ المشقةِ، ولم يكتفوا هنا إلا بخوفِ تلفِ نفسٍ أو عضو؟ ¬
قلنا: أما السفرُ، فإن الفرقَ بينَهما أن العذَر المُبيحَ هناك هو مشقةُ السفر، ولا تتحقق مشقتُه إلا بيومين، والعذرُ هنا عدمُ الماء في السفر، لا السَّفَرُ؛ إذ لا مشقةَ في استعمالِ الماءِ في السفر، فحيث عدمَ الماءُ في السفر، وُجِدَ العذرُ المبيحُ، وذلك يصدقُ بالسفرِ القصير. وأما المرضُ، فإن المبيح لتركِ الماءِ هنا هو عدمُ القدرةِ على الماءِ بالعجز؛ لعدم القدرةِ عليه بالعدم، وذلك لا يتحقَّقُ إلا بخوفِ التلفِ، ولأنهم لم يجدوا شيئاً يرجعون إليه في التَّحديدِ أقوى من تفسيرِ ابنِ عباسٍ، والمبيحُ هناك هو تيسيرُ المشقة المُشارِ إليه بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. * وأوجب اللهُ سبحانه الوضوءَ والتيمُّمَ عندَ المجيء من الغائطِ، وعندَ ملامسةِ النساء. وكَنَّتِ العربُ بالغائط عنِ الخارجِ من الإنسان؛ لملازمتِه له؛ تأدُّباً، وتركاً للألفاظ المُسْتَهْجَنَةِ (¬1). * والإجماعُ منعقدٌ على وجوبِ الوضوءِ والتيمُّم عندَ الخارجِ المُعْتادِ من المَخْرَجِ المُعْتادِ؛ للآية (¬2). * واختلف العلماء فيما وراءَ ذلك. فمنهم من قصَرَ نظرَه على ذلك، فقال: كلُّ ما خرج من الخارج ¬
المُعتادِ (¬1)؛ كالبولِ والغائطِ والمَذْيِ والوَدْيِ والرِّيحِ، فهو ينقضُ الوضوءَ، وإن خرجَ من غيرِ المخرجِ المعتادِ؛ كالقيءِ والرُّعافِ، أو من المَخْرجِ المعتاد، لكنه نادرٌ؛ كالدودَةِ والحصاةِ والسَّلَسِ، فلا ينقضُ الوضوءَ. وهو قولُ مالكٍ وأصحابِه بناءً على أصلِهم من التقييدِ بالعادة (¬2). ومنهم من لاحظَ المعنى الموجِبَ لذلك. ثم اختلفوا، فمنهم من رأى العلَّة فيها كونَها أنجاساً خارجةً من البدن، فهي مناقِضَةٌ للطَّهارة، فأوجبَ الوضوءَ من كلِّ نجاسةٍ تخرجُ من الجَسد؛ كالدم، والرُّعافِ الكثيرِ، والفَصْدِ، والحِجامة، والقَيء، وهو مذهبُ جماعةٍ من الصحابة -رضي الله عنهم - (¬3). وبه قال أبو حنيفةَ وأصحابهُ، وأحمدُ (¬4)، وإسحاقُ، والثوريُّ، وابنُ المبارك (¬5). ومنهم من رأى العلة خُصوصَ المَخْرَجين، لا خُصوصَ الخارج، فأوجب الوضُوءَ من أيِّ (¬6) شيءٍ خرجَ من دمٍ أو حَصاةٍ أو دودةٍ أو سَلَسٍ أو استحاضَة، ولم يوجبِ الوضوءَ في خروجِ الدمِ من غيرِ المَخْرج المُعْتاد، ولا من الرُّعافِ والحِجامة والقيء. ¬
وبه قال الشافعيُّ وأصحابُه (¬1)، ومحمدُ بنُ عبد الحَكَم المالكيُّ (¬2)؛ لأنهم اتفقوا على وجوبِ الوضوءِ بالريحِ الخارجةِ من أسفل، وعدمِ إيجابه إذا خرجتْ من أعلى، وكلاهما ريحٌ واحدةٌ خارجةٌ من الجَوْف، فدل على أن الاعتبارَ بالمَخْرَجِ لا بالخارج، وضُغِّفَ بأن الريحينَ مختلفتان في الصفةِ والرائحةِ، فلا دلالةَ. وقولُ أبي حنيفةَ وموافقتُه، أَقْيَسُ، وقولُ مالكٍ أقوى. فإن قال قائلٌ: فـ (أو) موضوعةٌ في لسانِ العربِ لأحدِ الشيئين، أو الأشياءِ، إما تخييراً، أو إباحةً، أو تقسيماً وتفريعًا (¬3)، وغير ذلك (¬4)، فما معنى (أو) في قوله تعالى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6]؟ قلنا: معناها الجمعُ كالواو، فقد تأتي بمعنى الواو كثيراً في لسان العرب (¬5)، قال الشاعر (¬6) يصف السَّنَة: [البحر البسيط] وكَانَ سِيَّانِ أَلا يَسْرَحوا نَعَماً ... أَوْ يَسْرَحوهُ بِها واغْبَرَّتِ السُّوحُ ¬
* واختلف الناسُ في حكم اللَّمْسِ والمُلامسة بحسبِ اختلافِهم في معناهما في الآية. ولا شَكَّ أنهُ يُكنى بِهما عن الجِماع في عُرْفِ الشرع. وأما حقيقةُ وَضْعِهما، فهي اللَّمْسُ باليدِ، ومنه نهيهُ - صلى الله عليه وسلم - عن بَيْعِ المُلامَسةِ (¬1). فقال قومٌ: المُراد به في الآيةِ الجِماعُ، وهو قولُ ابن عباسٍ، والحسنِ، ومجاهدٍ، وقَتادةَ (¬2)، فهو لا يلزمُ من قولهم جوازُ التيمُّمِ عن الجَنابة؛ كما هو مذهبُ الجمهور (¬3)، ولا يلزمُ من قولهم عدمُ انتقاضِ الوضوءِ باللَّمْس باليدِ، ولكنه هو الظاهرُ عنهم؛ لكونِ الجنابةِ لم يتقدمْ ذكرُها إلا في حُكْم المُرور، ويجوز عنهم خلافُه. وبهذا المعنى قال أبو حنيفة، فلم يوجبِ الوُضوءَ من مَسِّ (¬4) الرجلِ المرأةَ، إلا أن يكونَ معهُ انتشارُ (¬5)؛ لما روى حبيبُ بنُ أبي ثابت، عن عروةَ، عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها- عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَبَّلَ بعضَ ¬
نسائِه، ثم خرجَ إلى الصلاة، ولم يتوضَّأْ (¬1). وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: هذا الحديث وَهَّنَهُ الحجازيون، وصحَّحَهُ، الكوفيون، ومال هو إلى تصحيحه (¬2). ويروى هذا الحديثُ من حديثِ معبدِ بنِ نُبَاتَةَ، والشافعيُّ قالَ: إن صَحَّ حديثُ معبدِ بنِ نباتَةَ في القبلة، لم أرَ فيها ولا في اللمس وضوءاً، فإن معبدَ بنَ نباتةَ يروي عن محمدِ بنِ عمرِو بن عطاءٍ عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُقَبَّلُ، ثم لا يتوضَّأ، ولكني لا أدري كيفَ كان معبدُ بنُ نباتة هذا، فإن كان ثقةً فالحجَّةُ فيما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكني أخافُ أن يكونَ غَلَطاً من قِبَلِ أنَّ عُروةَ إنما روى أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلَها صائِماً (¬3). قال البيهقيُّ: معبدُ بنُ نُباتَةَ مجهول، ومحمدُ بنُ عمرِو بنِ عطاءٍ لم ¬
يثبتْ له من عائشةَ شيءٌ، وأما عروةُ هذا فهو المُزَنِيُّ، لا عروةُ بنُ الزبير، قاله أهلُ العلمِ بالحديث (¬1) (¬2). قال يحيى بنُ سعيدٍ القطان -وذكر حديثَ الأعمشِ عن حبيبٍ عن عروةَ- قال: أما إن سفيانَ الثوريَّ كانَ أعلمَ الناسِ بهذا، زعمَ أن حَبيباً لم يسمعْ من عروةَ -يعني: ابن الزبير- شيئاً (¬3). وقال قومٌ: المرادُ به اللمسُ باليد، وهو قولُ عمرَ وابنِ مسعودٍ -رضي الله تعالى عنهما (¬4) -، فهو لا يلزم من قولهم انتقاضُ الوضوء باللمسِ، ولا يلزمُ من قولهم منعُ التيمُّم عن الجنابة (¬5)، وإن كانَ المشهورُ عنهما منعَ التيمم عن الجنابة، وهو الملزم لهما حملَ اللمسِ على لمسِ البشرة. ¬
وبهذا المعنى قال مالكٌ، والشافعيُّ، والليثُ، والأوزاعيُّ، فأوجبوا الوضوءَ من لمسِ النساء (¬1). واستدلَّ له الشافعيُّ -بعدَ اعتمادِه على تفسيرِ عمرَ وابنِ مسعودٍ- بذكر الله سبحانه للملامسةِ موصولةً بذكرِ الغائطِ بعدَ ذِكْرِ الجنابة، فما أوجب الوضوء من الغائط، أوجبه من الملامسة، فأشبهتْ أن يكونَ اللمسَ الذي هو غيرُ الجنابة (¬2)، إلا أن مالكاً قيده بوجود اللذَّةِ، أو بقصدِها، مع وجودِ الحائلِ ومع عدمِه؛ تخصيصاً لعمومه بمعناه (¬3)؛ لما روت عائشةُ -رضي الله تعالى عنها - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يغمزُها عندَ سجودِه بيده (¬4)، وضُعِّفَ بأنه إذا لمسَ من وراءِ حائلٍ فليسَ بِماسٍّ ولا بِمُلامِسٍ لها، وإنما هو لامسٌ لثوبها (¬5). وقيده الشافعيُّ -في أحد قوليه- بمظنة اللذة، فلم ينقضِ الوضوءَ ¬
بذواتِ المحارمِ والصغائرِ اللاتي لا يُشْتَهى مثلُهن؛ تقييداً بالمعنى أيضاً (¬1). وقيده الأوزاعيُّ باليدِ خاصَّةً (¬2). والصحيح عندي هو المعنى الأولُ كما فسر ابنُ عباسٍ؛ لأن حمل خطابِ الشرعِ على عُرْفِ الشرعِ أولى من حَمْلِه على وَضْعِ اللغةِ وعُرْفها، ولم تردِ الملامسةُ والمُماسَّةُ في الكتِاب والسنة إلا للجماع، لا للمماسَّةِ باليد. وما استدلَّ به الشافعيُّ من تقدمِ ذكرِ الجنابة حتى يدلَّ على أن المُلامَسَةَ غيرُ الجنابة، فلا دلالة فيه؛ لأن هذه الآيةَ اشتملتْ حكمين: أحدهما: حكمُ محلِّ الصلاة، فبين الله سبحانه أن الجنبَ لا يَقْرَبه إلا عابرَ سبيل. والثاني: حكمُ الصلاة، فبين أن الحدثَ الذي جاء من الغائط، وأن الجُنُب المُلامِسَ لا يقربُها إلا متيمِّماً إذا لم يجدِ الماء. والراجحُ عندي عدمُ انتقاض الطُّهْرِ بمسِّ اليدِ؛ إذ ليسَ على وجوبِ الوضوءِ دليلٌ من السنَّةِ، بل السُّنَّة (¬3) تدلُّ على خلافه. قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها -: افتقدتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الفراش، فالتمستهُ، فوقعت يدي على أَخْمَصِ قدميه وهو يصلي (¬4)، ولم يُنْقَلْ أنه قطعَ صلاته. وقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، وأنا معترضةٌ بين يديه، ¬
فكان (¬1) إذا سجدَ غَمَزَني، وإذا قامَ مددتُ رِجلي (¬2)، والأصلُ عدمُ الحائلِ بينَ كَفِّهِ وبَشَرَتِها، والظاهرُ أيضاً ملامَسَةُ كَفِّهِ لبشرتِها؛ إذ كانت بيوتُهم حينئذٍ لا مصابيحَ لها (¬3)، ولا سيَّما في حالِ التَّهَجُّدِ، والله أعلم. * ثم أمر الله بقَصْدِ الصعيد الطَّيِّبِ، وقَيَّدَ الأمرَ به. وقد اختلفتْ عباراتُ أهل اللغةِ في الصَّعيد (¬4)، فقال أبو عُبيدٍ والفَرَّاءُ: الصعيدُ: الترابُ. وقال ابنُ الأعرابيِّ: الصعيدُ: الأرضُ بعينها. وقال الخليلُ والزَّجّاجُ وثَعْلَبٌ: الصعيدُ: وَجْهُ الأرضِ؛ لقوله تعالى {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40]. * وكذلك اختلفَ الفُقهاء أيضاً: فذهبَ الشافعيُّ إلى أنه لا يجوز إلا بالترابِ الخالِصِ الذي له غُبار (¬5)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "جُعِلَتْ لنَا الأَرْضُ مَسْجِداً، وجُعِلَتْ لنا تُرْبَتُها طَهوراً" (¬6)، فنزل من عمومِ الأرضِ إلى خُصوصِ تربتها، ولقولِ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما - في تفسيره: "فتعمدوا الأرضَ وتربتَها"، ولأنَّ الله سبحانه وصفَهُ بالطَّيِّبِ، والطَّيِّبُ: الخِالصُ الذي هو ترابُ الحَرْثِ؛ استدلالاً بقوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58]. ¬
وبه قال أحمدُ (¬1)، وأبو يوسفَ، وداودُ، وابنُ المنذر، وأكثرُ الفقهاء (¬2). وذهب مالكٌ وأبو حنيفةَ إلى جوازه بكلِّ ما صَعِدَ من الأرضِ من أجزائِها (¬3)، لوقوع الاسمِ عليه، ووجود معنى الاشتقاق فيه، حتى أجاز مالكٌ في إحدى رواياته التيممَ بالحَشيشِ والأخشابِ والمِلْحِ؛ لوجود معنى الاشتقاق؛ لكونه متصاعداً على وجهِ الأرض (¬4). وزاد أبو حنيفةَ، فجوَّزَ بما يتولَّدُ منَ الأرضِ مثلَ النُّورَةِ والزَّرنيخِ، واستدلُّوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وجُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مَسْجِداً وطَهوراً" (¬5) (¬6). وأجيب بأنَّ المراد بالطَّيِّبِ: الطاهرُ، أو الحلالُ؛ استدلالاً بقوله تعالى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]. والاستدلالُ والجوابُ ضعيفان؛ لأن هذا الحديثَ مُجْمَلٌ، وحديثُ الشافعيِّ مفسَّرٌ، والمفسَّر يُقضى به على المُجمل. ¬
وأما الجوابُ، فإن الأصل والغالبَ على الأرض عدمُ النجاسةِ، ولاسيَّما في الفَيافي والقِفار، فَحَمْلُ الطيبِ على ما يناسبُه من جنسِه أولى من حَمله على ما لا يناسبُهُ، وحملُه على ما يُعْهَدُ في العادةِ أولى من حمله على ما لا يُقْصَدُ في العادة، لندوره، وهو المكانُ النجسُ في القِفار والخبوت (¬1). وضعف قولُهم في المتولِّد والمتصاعِد بأن اسمَ الصَّعيدِ لا يتناولُ ذلك بوضعِ اللُّغة، وإنما يتناوله قياساً، والأسماءُ لا تثبُتُ بالقياس. فإن (¬2) قلت: فهل نجد في القرآنِ دليلاً على التخصيص بالتراب؟ قلت: نعم، قال الله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] و (من) موضوعةٌ للتبعيض، وذلك يقتضي أن يصيرَ على الوجهِ والأيدي شيءٌ من الصعيد، ولا يكون ذلك إلا في التراب. والمُخالفون يحملونها على تبيين الجنس، أي: من الذي هو الصعيد، والحَمْلُ على الحقيقةِ خيرٌ من الحَمْل على المجاز (¬3)، وسيأتي الكلامُ على صفةِ التيمِّمِ -إن شاء الله تعالى-. ¬
من أحكام الإمامة
(من أحكام الإمامة) 84 - (26) قوله جَلَّ جَلالُهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59]. * أمر الله سبحانه عباده بطاعتهِ وطاعةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ أطاعَني فقدْ أطاعَ اللهَ، ومن يَعصْنِي فَقَدْ عَصى اللهَ، ومن يُطعِ الأميرَ فقدْ أطاعَني، ومن يَعْصِ الأميرَ فقدْ عَصاني" (¬1). وذلك واجبٌ شرعاً لا عقلاً، خلافاً للمعتزلة (¬2). * وقد اختلفتِ الصحابةُ والتابعونَ -رضي الله تعالى عنهم - في أولي الأمر. فقال أبو هريرةَ، وابنُ عباسٍ في راويةِ عطاءٍ، وابنُ زيدٍ، والشافعيُّ، وجمُهورُ السَّلَفِ من المُحَدِّثين والفُقَهاء: هم الولاةُ والأمراءُ (¬3). ¬
وقال جابرٌ، وابنُ عباس -في رواية الوالِبي-، ومجاهدٌ، والحسنُ، والضحاكُ، ومالكٌ: همُ الفُقَهاءُ والعُلَماء الذين يُعَلِّمونَ الناسَ مَعِالِمَ دينهِم؛ استدلالاً بقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (¬1) [النساء: 83]. وأيَّ الأمرين كان، فهو واجبٌ إجماعاً. * فإن أجمعَ العُلماءُ على حُكْمٍ، وَجَبَ على العامَّةِ اتِّباعُه. وإنِ اختلفوا، وَجَبَ عليهمُ اتِّباعُ أحدِهم. وهل يجبُ عليهم اتِّباعُ الأفضل؟ فيه خلاف. * وإن كانَ خليفةٌ إما بإجماعٍ من ذوي الحَلِّ والعقدِ، أو باستخلافٍ، أو باستيلاءٍ وقهرٍ، وجبَ على الكافَّةِ طاعتُه. روى أنسٌ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ لأبي ذر: "اسْمَعْ وأَطِعْ ولو لعبدٍ حَبِشيٍّ كانَّ رأسَهُ زَبيبةٌ" (¬2). وأطلق الله سبحانه وجُوب طاعتهِ على أيِّ حالٍ كان، سواء كان عدلاً أو فاسِقاً، ظاهراً أو خامِلاً، عادِلاً أو جائِراً، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألاَ مَنْ وَلِيَ عليهِ والٍ، فرآه يأتي شيئاً منْ معصيةِ الله، فَلْيَكْرَهْ ما يَأْتى من مَعْصِيَةِ الله، ولا يَنْزِعنَّ يداً عن طاعةِ الله" (¬3)، خرجه مسلم. ¬
وهذا إجماعٌ، حتى قال: الفقهاءُ: يجبُ طاعتهُ ولو كانَ مأسوراً في يدِ العدوِّ، بل يجبُ على الكافة استِنْقاذُه، إما بِحَرْبٍ، أو مالٍ، وإن تعسَّرَ (¬1) عليهم أمرُه، أجمعوا على نائب له (¬2). * وبيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يَجِبُ على المؤمن طاعةُ الأميرِ في معصيةِ الله سبحانه (¬3). روى عبدُ الله بنُ عمرَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "السَّمْعُ والطاعَةُ على المرءِ المُسلم فيما أَحَبَّ وكَرِهَ، ما لم يُؤْمَرْ بِمَعْصِيةٍ، فإذا أُمِرَ بَمعْصِيةٍ، فلا سمعَ ولا طاعةَ" (¬4). ¬
من أحكام الجهاد
(من أحكام الجهاد) 85 - (27) قوله جَلَّ جَلالهُ: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75]. * حَرَّض الله سبحانه المؤمنين على القِتال؛ لأجلِ استنقاذِ المستضعفينَ من المؤمنين، واستنقاذُهم من أيدي العدوِّ واجبٌ إجماعاً، إما بقِتالٍ أو فداءٍ أو مُفاداة. ولنا في قتالِ الكُفار حالاتٌ: الأولى: أن نقاتلهمَ لتكونَ كلمةُ الله هيَ العليا، فنغزوهم، ونبدَأُهم بالقتال، فهذا في حَقِّنا فرضُ كِفايةٍ، فإذا قامَ بهِ من فيهِ الكفايةُ في قتالهم، سقطَ الفرضُ عن الباقين. الثانية: أن نقاتلَهُم للدفِعِ عن بلادِ الإسلام؛ كما إذا غَزَوْنا، وَوَطِئُوا بلادَنا -صانَها اللهُ عنهم وخَذَلَهم- فهذا فرضُ عَيْنٍ على أهلِ تلكَ البلدان إن قامت بهمُ الكفِايةُ، وإلاَّ فيجبُ على من يَليهمُ وجوباً مُعَيناً. الثالثة: أن نقاتَلهُمُ استنقاذاً للضُّعفاءِ والأَسْرى، فإن كانوا كَثيرينَ، فهو فرضُ عَيْنٍ، وإن كانوا قليلين كواحد أو اثنين، فوجهانِ عند الشافعية، أَصَحُّهما -وبه قالتِ المالكيةُ- التعيينُ (¬1). ¬
من أحكام السلام
(من أحكام السَّلام) 86 - (28) قولهُ جَلَّ جَلالهُ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86]. * أمرنا اللهُ سبحانه في هذه الآية بردِّ التحيَّةِ، فروى ابنُ وهبٍ وابنُ القاسِمِ عن مالكٍ: أنَّ التحيةَ هنا تشميتُ العاطِسِ، والردُّ على المُشَمِّتِ (¬1). ولا شكَّ في ضَعْفِه. وحكي عن الحنفيةِ أنَّ المرادَ بالتحية الهَديَّةُ، لقوله تعالى: {أَوْ رُدُّوهَا} استدلالاً بأنَّ السلامَ لا يمكن رَدُّهُ بعينِه، بخِلاف الهِبَةِ والهَدِيَّةِ (¬2). ¬
والذي قاله الشافعيةُ وعامةُ أهلِ العِلْمِ أنها السلامُ؛ لقوله تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (¬1) [النور: 61]. * ولا خفاء بأن الردَّ واجبٌ إجماعاً (¬2). * واختلفوا في صفته. فقال الجمهور: هو واجبٌ على الكفِاية، فإذا ردَّ واحدٌ من الجميعِ، سقط الفرضُ عن الباقين (¬3). وقال أبو يوسفَ: لا بدَّ منْ رَدِّ الجميع (¬4). وهو مَحْجوجٌ بما أخرجه أبو داودَ، عن عليٍّ -رضي الله تعالى عنه-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُجْزِئُ عن (¬5) الجَماعة إذا مَرُّوا أن يسلِّم أحدُهم، ويُجْزِئُ من الجلوس أن يردَّ أحدُهم" (¬6)، ولكنه قد ضُعِّفَ (¬7)، وبما خرجهُ مالكٌ في "مُوَطئِه" عن زيدِ بنِ أسلمَ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ¬
سلمَ واحدٌ من القومِ أَجْزَأَ عنهم" (¬1). وندب الله سبحانه إلى ابتداءِ التحية فقَال: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61]، والأمر محمولٌ على الاستحبابِ إجماعاً، نقله ابنُ عبدِ البَرِّ وغيرُه (¬2). قالوا: وهو مستحبٌّ على الكِفاية، فإذا سَلَّمَ من الجميعِ واحدٌ، تأدَّتِ السنَّةُ بذلك (¬3)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يُسَلِّمُ الراكبُ على الماشي، وإذا سَلَّمَ واحد (¬4) من القومِ، أَجْزَأَ عنهم". ولنتكلمْ فيه؛ إذ الموضعُ على الردِّ، ثم نؤخِّرُ الكلامَ على الابتداءِ إلى موضعه -إن شاء الله تعالى-. فنقول: أطلقَ الله سبحانه التحيةَ هُنا، وقَيَّدهَا في موضِعٍ آخرَ، فقال سبحانَه وتعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61]، فخرج من الإطلاقِ تحيةُ العَرَبِ؛ كقولهم: أطالَ اللهُ بقاءَكَ، وأسعدَ مساءَكَ، وأبيتَ اللَّعْنَ، وما أشبهَ ذلك، فإنه لا يستحقُّ جواباً. ¬
ثم أطلقَ اللهُ سبحانه صفَةَ المُحَيِّي، وأوجَبَ الردَّ عليه، سواء كان صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، مسلماً أو كافِراً، وها أنا أذكره مفصَّلاً -إن شاء الله تعالى-. - أما الصبيُّ، فهو على إطلاقِه، إلا ما نُقِلَ عن بعضِ الشافعيةِ من تخريج وجهٍ ضعيفٍ ورأى أنه لا يجبُ الردُّ عليه (¬1). وأما المرأةُ، فإن كانَ السلامُ من نِسْوَةٍ، فإنه يجبُ الردُّ عليهنَّ، كما يستَحَبُّ السلامُ عليهنَّ ابتداءً، قلته بحثاً وتخريجاً. وإن كانَ السلامُ من امرأةٍ، فإن كانتْ زوجةً أو مَحْرَماً، وَجَبَ الردُّ، وكذا إن كانت عَجوزاً لا يُشْتهى مثلُها. وإن كانت شابَّةً فسلامُ أحدِهما على الآخَرِ مكروهٌ، ولا يستحقُّ المُسَلِّمُ منهما جواباً، بل الجوابُ منها حرامٌ، ومنهُ مكروهٌ. وهذا تفصيلُ مذهبِ الشافعيِّ (¬2). وبنحوهِ قالَ قتَادةُ، وعطاء (¬3) (¬4)، ومالكٌ (¬5). ومنعَهُ الكوفيون في النِّساءِ غيرِ ذوي المحارم؛ قياساً على سُقوط الأذانِ والإقامةِ، فلا يُسَلِّمْنَ، ولا يجبُ عليهنَّ رَدٌّ (¬6). ولكنه يردُّه ما رويناه في "صحيح البخاري" عن سَهْلِ بن سَعْدٍ قال: ¬
كانت فينا امرأةٌ، وفي رواية: كانت لنا عجوزٌ، تأخذُ من أُصولِ السِّلْقِ، فتطرحُهُ في القِدْرِ، وتُكَرْكِرُ (¬1) عليه حَبَّاتٍ من شعير، فإذا صَلَّينا الجمعةَ، انصرفْنا، فنسلمُ عليها، فتقدمُه إلينا (¬2). وما رويناه في "صحيح مسلم" عن أم هانئ بنتِ أبي طالبٍ -رضي الله تعالى عنها - قالت: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفَتْحِ وهو يَغْتَسِلُ، وفاطمةُ تسترُهُ، فَسَلَّمْتُ، وذَكَرَتِ الحديثَ (¬3)، وسيأتي ذكرُ أقوالِ العلماءِ عندَ الكلامِ على الابتداء بالتحية. - وأما الكافرُ، فإن كان كتابِيًّا، فحُكي عن مالكٍ وطائفةٍ من أهلِ العلمِ أنهم قالوا بعدم الردِّ (¬4)، وظني أنهم أرادوا عَدَمَ وُجوبِ الرَّدِّ، وأما جوازُه فما أظنُّ فيه خلافاً؛ لصحةِ الأحاديثِ الواردةِ في ذلكِ من فِعْلهِ وقوله - صلى الله عليه وسلم -. وذهبَ جُمهور السلفِ كابنِ عباس والشعبي وقتَادة إلى مشروعيَّةِ الردِّ عليهم (¬5)، وبه قال الشافعيُّ (¬6)، واحتج له بالأحاديثِ الواردةِ في صفةِ ¬
جَوابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأمرهم بذلك؛ كقوله: "فَقولوا: وعَلَيْكُمْ" (¬1). ولا دلالةَ في ذلك على الوجوب كما زعم بعضُ أصحابهِ الوجوب عنه (¬2)؛ لأن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرَ بصِفَةِ الردِّ عليهم على جِهَةِ الإرشادِ والتعليمِ، وإن حُمِلَ على غيرِ الإرشاد، فالأمرُ بالصفةِ لا يَقْتَضي إيجابَ المَوْصوفِ؛ لأنه قد يُؤْمَرُ بصفةِ ما هُو واجبٌ، وما هو نَدْبٌ، وما هو مباحٌ، ولأن الله سبحانه خَصَّ التحيةَ بالسَّلامِ، وهم لا يُسَلِّمونَ، وإنما يقولون: السَّامُ عليكم (¬3). فإن قال قائل: فالعُموم متناولٌ لوجوبِ الردِّ عليهم، قال ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما -: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ}، فإنْ كانتْ من مُؤْمِنٍ، فَحَيُّوا بأَحْسَنَ منها، وإن كانتْ من كافرٍ، فردوا على ما قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يقال: وعليكم. قلنا: تحيتُهم غيرُ داخلةٍ في عُموم الآية؛ لأنها ليستْ بتحيةٍ ولا سلامٍ، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اليهودَ إذا سَلَّمَ عليكُم أَحَدُهُم فإنَّما يقولُ: السامُ ¬
عليكُمْ، فقلْ: عَلَيْكَ" (¬1) والرُّد عليهم ليسَ بردٍّ للتحيَّةِ، وإنما هو دعاءٌ عليهم مكافأةً لدُعائِهم علينا. قالت عائشةُ -رضي الله تعالى عنها - إن اليهودَ أَتَوُا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: السَّامُ عليكَ، قال: وعليكُم، فقالت عائشةُ: السَّامُ عليكُمْ، ولعنَكُمُ اللهُ، وغَضِبَ الله عليكَم، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَهْلاً يا عائشةُ! عَلَيْكِ بالرِّفْقِ، وإياكِ والعُنْفَ (¬2) والفُحْشَ" قالت: أَوَ لَمْ تسمع ما قالوا؟ قال: "أَوَ لَمْ تَسْمَعي ما قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عليِهْم، يسُتجابُ (¬3) لَي فيهم، ولا يُستجابُ لَهُمْ فيَّ" (¬4). وقد تنبه عطاء لفقهِ الآيةِ فقال: الآيةُ للمؤمنينَ خاصَّةً، ومَنْ سَلَّمَ مَن غيرِهم، قيل له: عليكَ؛ كما جاءَ في الحديث (¬5)، وهذا يدلُّ على أنَّ قولَ ابنِ عبّاسٍ وغيرِه: إنَّما أُمِرْنا بالردِّ على الكافرِ أدباً لا وجوباً؟! وبهذا قال مالكٌ -رحمه الله-، فحينئذ يرتفعُ الخِلافُ (¬6). ¬
وكيف يجُب الردُّ عليهم، واللهُ يقولُ في أمثِالهم: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة: 8]. ومعلومٌ أنَّ الشافعيَّ ما أرادَ إلا ما أرادَهُ ابنُ عباسٍ، لا حقيقةَ الوجوبِ كما توهَّمَهُ بعض (¬1) أصحابه. وصفةُ الردِّ عليهم ما قَدَّمنا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وعليكم" أو: "عليكم" (¬2) (¬3). وأما على المُسْلِم، فالأفضلُ أن يقولَ: (وعليكُم السلامُ ورحمةُ الله وبركاتُه) (¬4)، وهذا هو الأحسنُ الذيَ ندب اللهُ إليهِ المؤمنين. ¬
ولو اقتصرَ على قولِ: (وعليكم (¬1) السلامُ)، فهذا هو الواجُب؛ لأنه مثلُ تحيةِ المُسَلِّمِ، ولو اقتصرَ على قوله: وعليكم، فالصحيحُ عندَ الشافعيةِ واختيار إمامِ الحرمين أنه لا يكفي؛ لأنه ليسَ مثلَ سلامِهِ في اللفظِ والإيناسِ (¬2). والصوابُ أنه يكفي؛ لِما ثبتَ في "صحيح مسلم" من اقتصاره في ردِّه - صلى الله عليه وسلم - على أبي ذَرٍّ (¬3) في حديثِ إسلامِه (¬4) (¬5). وعلى قياسِ هذا ما إذا قالَ المُسَلِّمُ: (السلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه)، فقال الرادُّ: (وعليكم)، وينبغي أن يكونَ مَكْروهاً؛ لقلة إيناسِه، والله أعلم. ومقتضى عمومِ الآية أنَّ الكِتابيَّ إذا قال: (السلامُ عليكم) أَنَّهُ يجبُ الردُّ عليهِ؛ لأنه حيّانا بتحية اللهِ (¬6)، ولستُ أعلمُ فيه نَقْلاً عنِ السَّلَفِ. وأما الغائبُ، فكذلك أيضاً يجبُ ردُّ السلامِ عليه (¬7)، أَرْسَلَ بهِ، أو كَتَبَ به (¬8). ¬
وصِفَتُهُ الأَحْسَنُ (¬1) ما رويناه في "سُنَنِ أبي داودَ" عن غالبٍ القَطَّانِ عن رجلٍ قال: حدثني أبي عن جَدِّي قال: بعثَني أبي إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ائتهِ فَأَقْرِئْهُ السلامَ، فأتيتُه، فقلتُ: إنَّ أبي يُقْرِئُكَ السَّلامَ، فقال: "عليكَ وعلى أبيكَ السلامُ" (¬2). وأما المفارقُ فقد قالِ القاضي الحسينُ وصاحبُه المُتَولي من الشافعية: جرتْ عادَةُ بعضِ الناسِ بالسلامِ عندَ مفارقَةِ القومِ، وذلكَ دعُاءٌ يستحَبُّ جوابه، ولا يجبُ؛ لأنَّ التحيةَ إنما تكونُ عندَ اللقاء، لا عندَ الانصراف. وأنكر عليهما الإمامُ أبو بكرٍ الشَّاشِيُّ، وقال: هذا فاسِدٌ؛ لأن السلامَ سُنَّةٌ عندَ الانصرافِ، كما هو سُنَّةٌ عندَ الجلوس. قال أبو زكريا النوويُّ: وما قالهُ الشاشِيُّ هو الصوابُ (¬3). وهو الحقُّ كما قالَهُ الشاشِيُّ والنواويُّ، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا انتهى أحدُكم إلى مَجْلِسٍ، فَلْيُسَلِّمْ، فإذا أرادَ أن يقومَ، فَلْيُسَلِّمْ، فَلَيَستِ الأُولى بأَحَقَّ منَ الآخِرَة" (¬4) قال الترمذيُّ: حديثٌ حسنٌ. ¬
فأمرَنا (¬1) بالسلامِ، وبينَ بأنَّ الأولى لَيْسَتْ بآكَدَ من الثانية، والله يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]. ¬
من أحكام الجهاد
(من أحكام الجهاد) 87 - 89 (29 - 31) قوله عَزَّ وجَلَّ: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 88 - 90]. اختُلِفَ في سببِ نُزولها: روينا في "الصحيحين"، واللفظُ للبخاريِّ: عن زيدِ بنِ ثابتٍ -رضي الله تعالى عنه-: أنه لما خرَج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أُحُدٍ، رجعَ ناسٌ مِمَّنْ خرجَ معهُ، وكانَ أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِرقتين: فرقةٌ تقولُ نقاتلِهم، وفرقةٌ تقول: لا نقاتلهم، فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]. وقال: "إنها طَيْبَةُ تَنْفي الذُّنوبَ كما تَنْفي النارُ خَبَثَ الفِضَّةِ" (¬1). ¬
وقال مجاهدٌ: هم قومٌ خرجوا إلى المدينةِ، وأسلموا ثم ارتدوا (¬1)، فاستأذنوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الرجوعِ إلى مكةَ ليأتوا ببضائِعَ لهم يَتَّجِرون فيها، فخرجوا، وأقاموا بمكة (¬2)، فاختلف المسلمونَ فيهم، فقائل يقولُ: هم منافقون، وقائلٌ يقول: هم مؤمنون (¬3). وقال بعضهم: هم قومٌ أسلموا بمكة، ثم لم يُهاجروا، وكانوا يُظاهرون المشركين (¬4). وقال بعضُهم: نزلتْ في قومٍ من قريشٍ، قَدِموا المدينةَ وأسلموا، ثم نَدِموا على ذلك، فخرجوا كهيئة المُتَنَزِّهين حتى إذا تباعدَوا من المدينة، كتبوا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّا على الذي فارقناك عليهِ من الإيمان، ولكنّا اجْتَوَيْنا (¬5) المدينةَ، واشتقنا إلى أرْضِنا، ثم إنهم خرجوا في تجارةٍ لهم نحوَ الشامِ، فبلغَ ذلكَ المسلمين، فقال بعضهم: نخرجُ إليهم (¬6) لنقتلَهُم ونأخذَ ما مَعَهُم؛ لأنهم رغَبِوا عن ديننا، وقالت طائفةٌ: كيف تقتلونَ قوماً على دينِكم لم يَذَروا ديارَهُمْ؟! وكانَ هذا بعَيْنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو ساكتٌ لا يَنْهى واحداً من الفريقين، فنزلتْ هذه الآيةُ (¬7). ¬
وجميعُ ما ذكروه من الأسباب مُحْكَمٌ في العَصْر الذي فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. فمن خرجَ من فِئَةِ المسلمين، والتحقَ بفئةِ المشركين، فُهو مُرْتَدٌّ. وكانَ منِ التحقَ بدارِ الحربِ مُرْتَدًّا غادِراً برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مُرْتَدًّا كافِراً، وكذا من ظاهرَ المُشركين على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين. فإن قال قائل: فالسببُ الرابعُ يقتضي أنَّ من خَرَج إلى دار الحرب مُسْتَوْطِناً لها، وهو معَ ذلك باقٍ على الإيمانِ غيرُ مظاهرٍ للمشركين أنهُ مرْتَدٌّ كافِرٌ كهؤلاء. قلنا: إنما كفروا، لخبرِ الله عنهم بأنهم كفروا، وأنهم يَوَدُّون كُفْرَ سائرِ المؤمنين، ولم يَكْفُروا بمجرَّدِ الاستيطانِ بدارِ الحرب، ويدلُّ على ذلكَ قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72]، فأوجب على المؤمنين نُصْرَتَهُمْ في دارِ الحربِ، وسَمَّاهم مؤمنين، ولا يجبُ إلا نصرةُ مؤمِنٍ، وأما المرتَدُّ، فلا تجبُ نصرتُهُ. ولأنَّ سَعْدَ بنَ خَوْلَةَ مِمَّنْ ماتَ بِمَكَّةَ ولم يُهاجر -كما قال عيسى بنُ دينارٍ وغيرُه (¬1) (¬2) - أو هاجرَ ثم رجعَ بعد شهودِهِ وَقْعَةَ بَدْرٍ -كما قالَ البخاريُّ (¬3)، وهو مؤمن بالاتفاقِ (¬4)، ولكن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَثى له، كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى. فإن قال: فظاهرُ الآيةِ يقتضي أنهم ارتدُوا بتركِ الهجرةِ والرجوعِ عنها ¬
فقط، وأنهم لا يُقْبل إسلامُهم إلا مع الهجرة؛ ولا يُقبل بدون الهجرة؛ لأن الله سبحانه نَهى عن مُوالاتهم حتى يهاجروا في سبيل اللهِ، وأمرَ بقتلهم عندَ امتناعهم عن الهجرة. ويدل على هذا الظاهرِ قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، فلم يعاتبهمُ الله إلا على تَرْكِ الهجرةِ، وجَعَلَها سبباً لمأواهم جهنمَ. ويدلُّ عليهِ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، في حديثِ سعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ المخرَّجِ في "الصحيحين": أنه لما مرضَ بمكَّةَ، عادَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقال: "اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحابي هِجْرَتَهُمْ ولا تَرُدَّهُمْ على أَعْقابِهِمْ" (¬1). قلنا: لأجلِ هذهِ الظواهرِ قال الواحديُّ والبَغَوِيُّ من الشافعيةِ في "تفسيريهما": لم يكنِ الله ليقبلَ بعدَ هجرةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إسلاماً إلا بهجرة، ثم زادَ البغويُّ فقال: ثم نُسِخَ ذلكَ بعدَ الفتح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ" (¬2) (¬3). والذي قالاه غير صحيح؛ لما قدمته من دلالة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72]. وموضعُ الدلالةِ أنَّ الله سبحانه سَمّاهم مؤمنين، وأمرَ بِنُصْرتهم، ولا يأمرُ إلا بنصرةِ مؤمنِ، وأما المرتَدُّ، فلا تجوزُ نُصرته بحالٍ. ¬
فإن قيل: فالمرادُ به المستضعفون غيرُ المستطيعين، فيكونُ عامًّا مَخْصوصاً بالمستضعفين؛ بدلالةِ هذه الآيات والظواهرِ. قلنا: نصرةُ المستضعفينَ واجبة على كلِّ قومٍ، سواءٌ كان بينَنا وبينَهُم ميثاقٌ، أم لا؛ لأن لهم حكمَ المؤمنين؛ لكمال إيمانهم؛ لأنهم معذورون، وأما غيرُ المستضعفين، فغير معذورين، فوجبتْ نصرتُهم على الحَرْبِيِّ؛ لإيمانهم، ولا تجب نُصرتُهم على المعاهَدِ؛ لنُقصان إيمانِهم. وأما الجوابُ عن الظواهرِ، فهو أن الهجرةَ كانت عُنواناً للإيمان، وميزاناً للإسلامِ في زمنِ النبِّي - صلى الله عليه وسلم -، يتبينُ فيها المؤمنُ من المنافقِ: فمنافقُ مكة تبينَ بتركِ المهاجَرَةِ من مكةَ إلى المدينة، وإذا أخبرَ اللهُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بكفرِه، فهو كافرٌ. ومنافقُ المدينةِ يتبينُ بتركِ المُجاهدةِ في سبيلِ الله -سبحانه- مع رسوله، قال الله سبحانه: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 90]، فسماهم كَفَرَةَ. وكان الفرقُ بينهم أن منافقَ دارِ الحربِ تجري عليه أحكامُ المحاربين منَ القتلِ والأسرِ والاسترقاق، ومنافقَ دارِ الإسلام يُعْصَمُ دمُه ومالُه وولدُه بالإسلام، وتجري عليه أحكامُ المسلمين. وأما إذا لم يُهاجِرْ من مكةَ إلى المدينة، ولم يخبر اللهُ سبحانه بردَّتِهِ وكفرِه، فإنه باقٍ على إيمانِه (¬1). ¬
ويدلُّ عليه قولهُ تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] الآية، وكان العباسُ -رضي الله تعالى عنه- أقام بعد إسلامِه بمكةَ، ولم يقلِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إن إسلامَهُ لا يتمُّ مع الوقوفِ بدار الحربِ. وقد ذكرَ الشافعيُّ هذا الحُكْمَ كما ذكرتُه، واستدلَّ له بوقوفِ العباس كما ذكرته (¬1). وأما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [النساء: 97] الآية، فإنها نزلتْ في قومٍ تكلَّموا بالإسلامِ، ثم خرجوا مع المشركينَ إلى بَدْرٍ مُكَثِّرينَ لِسَوادِهم، فقُتلوا يومَ بدرٍ، وأخبرَ اللهُ سبحانه بكفرِهم وظُلْمِهم لأنفسِهم (¬2). فإن قيل: فإن الملائكةَ لم تعاتبْهم إلا على عَدَمِ الهجرة. قلنا: جعل الله سبحانه هذا قاطعاً لحجَّتِهم، وإلا فقدْ أخبرَ الله تعالى بظُلْمهم لأنفسِهم، والظلمُ هو الكفر (¬3). ¬
وأما حديثُ سعدٍ، فإنه لا يدلُّ إلا على تعظيمِ شأنِ الهجرةِ. * وقد اختلفَ أهلُ العلم في موتِ المُهاجِر بمكةَ: فقالَ بعضُهم: الموتُ بمكةَ والمُقام بها يُحْبطُ الهجرةَ، سواءٌ كانَ بالضرورةِ، أو بالاختيار، واستدلَّ بدعاءِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لسعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ مع أصحابه، ولأنَّ سعدَ بنَ خولَةَ الذي رَثىَ له النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ماتَ في حجَّةِ الوداعِ بعدَما شهدَ بدراً وغيَرها، على ما ذكره ابنُ شهاب (¬1). وقال بعضُهم: إنما يحبطُ الهجرةَ ما كانَ بالاختيارِ، وأما بالضرورةِ، فلا؛ لأن سعدَ بنَ خولةَ لم يهاجرْ من مكةَ حتى ماتَ بها؛ كما قال عيسى بنُ دينار وغيُره، أو ماتَ بمكةَ بعدَما هاجرَ وشهِدَ بدراً، وانصرفَ إلى مكة (¬2)؛ كما قالهُ البخاري (¬3). * فإن قال قائل: فما حكمُ الهجرةِ في زمنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وبعده؛ قلنا: أما في زمنه، فأجمعت الأمةُ على وجوبِ الهجرة من مكةَ إلى المدينِة -شَرَّفها اللهُ- حتى قال الواحديُّ والبَغَوِيُّ: إنها شرطٌ في الإسلام؛ كما قدمتُه عنهم. ¬
* واختلفوا فيما عدا مكة. فقال أبو عبيدٍ: لا تجبُ عليه الهجرةُ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرْ من أسلمَ من العربِ بالمهاجرة إليه، ولم ينكرْ عليهم مُقامَهُمْ ببلدِهم، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعثَ سريَّةً، قال لأميرها: "إذا لقيتَ عَدُوَّكَ منَ المُشْركينَ، فادْعُهُم إلى ثَلاثِ خِصالٍ -أو ثلاثِ خلالٍ- فَأيَّتَهُنَّ أَجابوكَ، فاقبلْ منهم، وكُفَّ عنهمُ: ادعُهم إلى الإسلامِ، فإن أجابوا (¬1)، فاقبلْ منهم، وكُفَّ عنهُم، ثم ادعُهُمْ إلى التحوُّلِ عن دارِهم إلى دارِ المهاجرين، وأَعْلِمْهم أنَّهم إن فَعلوا ذلك، أنَّ لهم ما لِلمْهاجرين، وأن عليهم ما عَلى المُهاجرين، فإن أَبْوا واخْتاروا ديارَهم (¬2)، فأَعْلِمْهم أنهم يكونونَ كأعرابِ المُسلمين، يَجْري عليهم حُكْمُ اللهِ الذي يَجْري على المؤمنين، ولا يكونُ لهم في الفَيْءِ والغنيمةِ نصيبٌ إلا أن يُجاهِدوا مع المسلمين" (¬3). وقال الجمهورُ: تجبُ الهجرةُ من سائرِ بلادِ الحَرْبِ إلى سائر (¬4) بلادِ الإسلام على مَنْ لا يقدرُ على إظهارِ دينهِ، ولا تجبُ على من يَقْدِرُ على إظهارِ دينه، إما بعشيرةٍ أو رئاسة؛ كما جازَ ذلك للعباس -رضي الله تعالى عنه-، لكن تُستحبُّ له (¬5) المهاجرةُ (¬6). ¬
* وكذا الحكمُ في الهجرة في زمننا تجبُ عليهِ إن كانَ لا يتمكنُ من إظهارِ دينه، ويُستحبُّ إن كان يتمكنُ من إظهار دينه. * والبدعة تجري مَجْرى الكُفْر في وجُوبِ الهِجْرةِ أو استحبابِها (¬1). * وأما سائرُ المعاصي، فتستحبُّ، ولا تجبُ الهجرةُ لأجلِها، إلا أن يغلبَ عليها الحرامُ، فإن طلبَ الحلالِ فرضٌ (¬2). * ثم استثنى الله القومَ الذين يَصِلون إلى أهلِ العهدِ والميثاق، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} [النساء: 90]. والذين بينهم وبينَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ميثاقٌ همُ الأَسْلَمِيُّون، وذلكَ أن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وادع هلالَ بنَ عُوَيْمِرٍ الأَسْلَمِيَّ قبلَ خرُوجِه إلى مكةَ على ألاَّ يُعينَه ولا يُعينَ عليه، ومن وَصَلَ إلى هِلالٍ من قومِه وغيرِهم، ولجأ إليهم، فلهمْ من الجِوارِ مثلُ ما لِهلالٍ (¬3). وقال الضحاك عن ابن عباس: أرادَ بالقومِ الذين بينكم وبينهم ميثاق: ¬
بني بكر بن زيدِ مناةَ، كانوا في الصلحِ والهُدْنة (¬1). وقال مقاتل: هم خُزاعَةُ (¬2). وأما الذيَن جاؤوه - صلى الله عليه وسلم - ضَيِّقةً صدورهم من قتاله ومن قتال المشركين، فهم بنو مُدْلِجٍ (¬3). ومعنى (يَصِلون): يَنْتَمون وينتسبون، قال الأعشى: [البحر الطويل] إذا اتصلتْ قالتْ لبكرِ بنِ وائلٍ ... وبكرٌ سَبَتْها والأنوفُ رَواغِمُ (¬4) * والاستثناء مختصٌّ بالقتلِ دون المُوالاة؛ فإن موالاةَ الكافرِ لا تجوزُ بحالٍ، سواءٌ كان حربياً أو معاهداً أو منافقاً، قال الله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28]، الآية، وإنما استثناهم اللهُ سبحانه لأجلِ الوفاءِ بالعهدِ والميثاق؛ كما أمر به في كتابه العزيز (¬5). ¬
* فإن قال قائل: فظاهرُ حكمِ الآية أن المرتدَّ إذا لجأ إلى أهلِ عهدٍ لا يُتعرَّض له، سواءٌ شُرِطَ ذلكَ في عَقْدِ الهُدْنَةِ أم لا؟ قلنا: قال أبو الحسنِ الواحديُّ والبغويُّ من الشافعية في "تفسيريهما": نهى الله سبحانه عن قتلِ هؤلاء المرتدِّين إذا اتَّصلوا بأهلِ عهد المسلمين؛ لأن من انضمَّ إلى قومٍ ذوي عهدٍ، فلهُ حكمُهم في حَقْنِ الدم (¬1) (¬2). والمشهورُ من مذهبِ الشافعيِّ؛ حكايةُ قولين في جوازِ شرطهم تركَ من جاءهم من المسلمين مرتدًّا، والصحيحُ الجوازُ، وأما إذا لم يشترطوا (¬3)، فيجب عليهم التمكينُ من رَدِّةِ لإقامة الحدِّ عليه (¬4). وأما الآيةُ، فإنها محمولةٌ على أنهم لم يشرطوا ذلك كما تقدم في شرطِ الأسلميين الذين شَرَطوا دخولَ من اتصلَ بهم، أو (¬5) لجأ إليهم في العهدِ والميثاقِ. ¬
من أحكام القصاص والديات
(من أحكام القصاص والديات) 90 - (32) قولهُ جَلَّ ثنَاؤه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92]. * سبب نزولها ما رُوي أن عياشَ بنَ أبي ربيعةَ المَخْزوميَّ أسلمَ، فقدمَ المدينةَ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمكةَ، فردَّه أخواه لأمه: أبو جَهْل، والحارثُ ابنا هشامٍ، ومعهما الحارثُ بنُ زيدٍ العامري، فَفَتَنَهُ أخواه حتى ارتدَّ، فعيَّرهُ الحارثُ بنُ زيدٍ، فقال له: لَئِنْ كانَ الذي كنتَ عليه هُدًى، لقد تركْتَ الهُدى، ولئن كانَ ضلالةً، لقد كنتَ عليها، فحلفَ عَيّاشٌ ليقتلنَّهُ حيثُ يلقاه، ثم عادَ مسلِماً إلى المدينة، فأسلمَ الحارثُ بنُ زيدٍ، وهاجر، فرآه عياشٌ بظاهرِ قُباء، فقتلَه، ثم عاد (¬1)، وهو لا يعلَمُ بإسلامه، فأخبرَ عياشٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت هذه الآية (¬2) (¬3). ¬
ولا خِلافَ في أن حكمَها عامٌّ غيرُ مختصٍّ به. * فحرم اللهُ سبحانه فيها قتلَ المؤمنِ تَحْريماً مُغَلَّظاً لا يوجدُ في سائرِ المحرَّمات، فاْوجبَ الكَفَّارَةَ في خَطَئِه مع ضَمان متلفِهِ، وهو المقتولُ، وقال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]. وهذا أمرٌ مُجْمَعٌ عليه بينَ الأمة. * وأوجبَ الشافعيُّ الكفارةَ في قتلِ العَمْدِ وشبه العَمْد؛ لأنه أولى وأحرى بالوجوب من الخطأ (¬1). وبه قال الزهريُّ (¬2) ومالك (¬3). وقال الثوريُّ (¬4) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... ¬
وأبو حنيفةَ (¬1) وأصحابهُ (¬2): لا تجبُ الكَفَّارةُ بِقَتْلٍ غير الخَطَأ، واختارهُ ابنُ المنذر (¬3). وهذا على أصلِهم من منع القياسِ في الكفاراتِ (¬4)، وهو قول الباجِيِّ وابنِ القَصّار من المالكيَّة (¬5). وظاهرُ الخطابِ أن وجوبَ الكَفَّارةِ والديةِ متعلِّقٌ بالقاتل، والمعنى: فعليه تحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ، وديةٌ مسلَّمَةٌ إلى أهله. ويحتمل أن يكونَ التقديرُ: فالواجبُ تحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ، وديةٌ مسلمةٌ إلى أهله. * وقد أجمع المسلمون على تَعَلُّقِ الكفارةِ بالقاتلِ وُجوباً وفِعلاً، وأما الدِّيَةُ، فقضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بوجوبها على العاقِلَةِ (¬6) (¬7)، وكذا فعلَ عمرُ ¬
وعليٌّ (¬1)، ولم يخالفْهُما أحدٌ من الصحابة، فهو إجماع. ودليلُهُ مخصِّصٌ لعموِم قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬2) [الإسراء: 15]. ولا التفاتَ إلى خلاف الأصَمِّ وابنِ عُلَيَّةَ والخوارِج في منعِ تَحَمُّلِ العاقِلَةِ، وتمسَّكوا بالآيةِ، وبالقياسِ، ولا دليلَ لهمْ معَ قِيام النصِّ والإجماع (¬3). والحكمةُ في ذلك أن ديةَ المُسلم كثيرةٌ لا يطيقُها القاتلُ وحدَه إلا نادراً، ولا يمكنُ إهدارُ دمِ المقتولِ عندَ فقرِ القاتل، فكانتْ على عاقلته؛ حفظاً للدماء (¬4). ¬
* واختلف قولُ الشافعي في العاقِلة، هل تحملُ الديةَ ابتداءً، أو تجبُ على القاتل، ثم تحملُها العاقِلةُ، بحسبِ تقديرِ الإضْمارِ. فمن أضمرَ: (فعليهِ تحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ وديةٌ مسلمةٌ إلى أهله)، جعلهم مُتَحَمِّلين (¬1)، ومن أوجبَ عليهم ابتداءً تمسَّك بظاهرِ الحديثِ، وأضمر: (فالواجبُ تحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ وديةٌ مسلمة إلى أهله) (¬2). * وأمر اللهُ سبحانه بتأدية الدية إلى أهله. فيجوزُ أن يريدَ بأهله أولياءه. ويجوز أن يريد به ورثَتَهُ (¬3). ¬
فبيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن المرادَ بأهل المقتول ورثتُه. روي أن عمرَ -رضي الله تعالى عنه- لم يُوَرِّثِ المرأةَ من ديةِ زوجِها، فقال له الضَّحّاكُ بنُ قيسٍ (¬1): كتبَ إليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ وَرِّثِ امرأةَ أَشْيَمَ الضّبابِيَّ من دية زوجِها، فرجعَ عمرُ رضي الله تعالى عنه (¬2). * وعلق اللهُ سبحانه هذهِ الأحكامَ بقتلِ المؤمنِ، وأطلقه، فوقعَ على الذكرِ والأنثى، والصغيرِ والكبير، والحرِّ والعبد (¬3). والحكمُ كذلكَ بإجماعِ المسلمين، إلا في العبدِ. فقال طائفةٌ من أهل الكوفة: تجبُ فيه الديةُ؛ لظاهر الآية، ولا يبلغ ¬
بها ديةَ الحرِّ، بل ينقص منها شيء؛ اعتباراً بنقصانِه عن درجةِ الحُرِّ في الحَدِّ وغيره (¬1). وقال الشافعيُّ، ومالك، وأبو يوسفَ: تجبُ فيه القيمةُ، بالغةً ما بَلَغَتْ؛ قياساً على سائر الأموال، فقيدوا إطلاقَ الآيةِ بالقياس (¬2). وقال أبو حنيفةَ: تجبُ فيه القيمةُ، ولا يُزاد بها على ديةِ الحرِّ (¬3). * وبيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الجنينَ تجبُ فيه الديةُ، وأن ديتَهُ غُرَّةٌ؛ عَبْدٌ أو وَليدَةٌ. روى الشيخان عن أبي هريرةَ -رضي الله تعالى عنه- قال: اقتتلتِ امرأتانِ من هُذَيْلٍ، فرمَتْ إحداهُما الأخرى بحجرٍ، فقتلتها، وما في بطنها، فاختصموا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ديةَ جَنينِها غُرَّةٌ عبدٌ أو وليدةٌ (¬4). * ثم بين حكمَ المؤمنِ الذي أهلُه كفار، فأوجبَ الكفارةَ بقتله، ولم يوجبِ الديةَ، سواء كانوا محارِبين أو معاهَدين، فقال: {فَإِن كَانَ مِن ¬
قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] , لأن الله سبحانه سكتَ عن الدية، ولم يوجبْها قبلُ. وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ (¬1)، والأوزاعيُّ وأبو ثورٍ (¬2)؛ لأن أهلَه كفارٌ ليسوا له بأولياء. وعن مالك روايتان، والمشهورُ كمذهبِ الجماعةِ (¬3). والمعروفُ من مذهبِ الشافعيّ (¬4) وجوبُ ديتِه للمسلمين تُجْعَلُ في بيتِ المال (¬5). * ثم بين اللهُ سبحانَه حُكْمَ الذي له ميثاقٌ، فأوجب فيه الكفارةَ والديةَ، ¬
فقال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]. ولكن الله سبحانه أطلقَ صفتَه، ولمْ يقيدْه بصفةِ الإيمان كما قيدَ غيرَه. فأخذَ جمهورُ أهل العلمِ كابنِ عباسٍ، والشعبيَّ، والنَّخَعيِّ (¬1) بإطلاقه (¬2)، وبه قال الشافعيُّ (¬3). فأوجبوا الكفارةَ في قتلِ الذَّمَّيِّ، والمعاهَد. ومنهم من قَيَّدَه بصفةِ الإيمان، وأعاد الضميرَ على المؤمنِ، ولم يوجبِ الكفارةَ في قتله، ونُسب إلى أهل الحجاز (¬4). * وبين الله سبحانه أن الكفارةَ تحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ، فمن لم يجدْ فصيامُ شَهْرين متتابعين، ولم يَذْكُرِ الإطعامَ في حَقَّ العاجِزِ، فدلَّ على أنه لا يجب (¬5). ¬
وللشافعي قولٌ ضعيف أنه يجبُ إطعامُ ستينَ مسكيناً؛ قياساً على الظهار (¬1). * وأحكم الله سبحانه فرضَ الديةِ مُجْمَلاً، وجعل بيانَها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبَّينَ أن الدية مِائةٌ من الإبلِ، وأن ديةَ المرأةِ على نصفِ ديةِ الرجل، وبيَّن أن ديةَ الجنين غُرَّة عبدٌ أو وليدَة، وأجمع المسلمون على ذلكَ (¬2)، إلا ما حكي عن الأصَمّ وابن عُلَيَّةَ أنهما جعلا دِيَةَ المرأةِ كديةِ الرجلِ (¬3). * واختلفوا في أهل الذمَّة: فذهب الشافعيُّ إلى أنه على الثلث من ديةِ المسلمِ، ذُكْرانُهم كذكرانهم، وإناثُهم كإناثهم (¬4). وبه قال عمرُ وعثمانُ وجماعةٌ من التابعين (¬5). ¬
وذهبَ مالكٌ إلى أن ديتَه على النِّصْفِ من دِيَةِ المُسلم (¬1)، وبه قالَ عروةُ بنُ الزبيرِ وعمرُ بنُ عبدِ العزيز (¬2). وذهب أبو حنيفةَ (¬3) والثوريُّ (¬4) إلى أن دِيَتَهُ كديةِ المسلم، وهو مروي عن عمرَ وعثمانَ أيضاً، وبه قالَ جماعةٌ من التابعين (¬5). وتمسكوا في ذلك بآثارٍ. * واختلفوا في المجوسِيِّ أيضاً. فذهب الشافعيُّ ومالكٌ إلى أن ديتَه خُمْسُ ثُلُثِ ديةِ المسلم (¬6)، وبه قال جماعةٌ منَ التابعين (¬7). ¬
وقال أبو حنيفة: ديتُه مثلُ ديةِ المسلم (¬1). وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيز: هو كاليهوديَّ والنصرانيَّ، وهو النصفُ عنده (¬2). واحتجَّ الشافعيةُ بأن ذلك رُوي عن عمرَ وعثمانَ وابنِ مسعود، ولم يُعْرَفْ لهم مُخَالِفٌ (¬3). * وأما المعاهَدُ، فإن كان كتابياً، فهو كالذميَّ، وإن كان مجوسياً أو وثنياً، فهو كالمجوسيَّ (¬4). وذهب قومٌ إلى أنه لا يجبُ في المعاهَدِ ديةٌ، إلا أن يكونَ كتابياً، فحملَ بعضُهم إطلاقَ المقتولِ في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] على تقييد الإيمان في القتيلين الأوَلَيْن، فحمله على المؤمن الذي بين المعاهدين، أو المنتقلِ من المعاهدين إلى دارِ الإسلام. ومنهم من تركَه على إطلاقه، وذهبَ فيه إلى النسخ. قال (¬5) ابنُ أبي أويسٍ: إن قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] منسوخٌ بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ ¬
وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، فليس لأحد غير المسلم ديةٌ من الكفار غيرَ أهل الذمَّة؛ لأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعاهدْ بعد نزول (براءة) أحداً من الناس. قال: وكانت هذه الآيةُ نزلتْ في المسلمَيْن اللَّذين قتلهما أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم نسخ بآية (براءة) (¬1). ونقل عن ابن شهابٍ عن عطاءٍ مثلُ ذلك في النسخِ والسببِ والحكمِ (¬2). * إذا تمَّ هذا، فبينَ الفقهاءِ خِلافٌ في صفةِ أسنانِ الإبل (¬3)، وتغليظِ الدية (¬4)، ¬
وتخفيفها (¬1)، وفي إبدالها (¬2)، وتفصيلُ ذلك يطولُ، وموضعُه كتبُ الفقه. * * * 91 - (33) قوله جَلَّ ثناؤه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93] ¬
نزلت في مِقْيَسِ بنِ صبابةَ الكِنانيِّ، وقد كانَ أسلمَ هو وأخوه هشامٌ، فوجدَ أخاهُ قتيلاً في بني النجّار، فأرسلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) زهيرَ بنَ عياضٍ الفهريَّ - وكانَ من المُهاجرينَ منْ أهل بدر - مع مِقْيَسٍ إلى بني النجار: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم إن علمتُمْ قاتلَ هشامِ بنِ صبابَة أن تدفعوه إلى مقيسٍ، فيقتصَّ منه، وإن لم تعلموهُ أن تدفعوا إليه ديتَه، فقالوا: سَمْعاً وطاعةً للهِ ورسوِله، ما نعلمُ له قاتلاً، ولكنا نؤدي له ديتَه، فأعطَوْه مئة من الإبل، ثم انصرفا إلى المدينة راجعين، فتغفل مقيسٌ زهيراً، فرماه بصخرة، فشجَّه (¬2)، ثم ركبَ بعيراً، وساق بقيتَها إلى مكة مرتدًّا، وقال في ذلك أبياتاً منها: [البحر الطويل] قتلتُ بهِ فهراً وحَمَّلْتَ عَقْلَهُ ... سَراةَ بني النَّجَّارِ أربابِ فارعِ فأدركتُ ثأري واضطَجَعْتُ مُوَسَّداً ... وكنتُ إلى الأوثانِ أولَ راجِعِ فنزل فيه قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا (93)} [النساء: 93]، وهو الذي استثناهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يومَ فتحِ مكة عَمَّنْ أَمَّنَهُ، فقُتل وهو متعلقٌ بأستارِ الكعبة (¬3). * وقد أجمعتِ الأمةُ على تعظيمِ شأنِ القتل؛ كما عظمه الله تعالى، ورسولُه - صلى الله عليه وسلم - فهو أكبرُ الكبائرِ بعدَ الشركِ بالله تعالى. * ثم اختلفوا في توبتِه وتخليدِه في النار -نعوذ بالله الكريم من ذلك-. ¬
فالمشهور عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما - أنه: كان يقول: لا توبةَ له (¬1). ويقول (¬2): إن آية الفرقان (¬3)، وهي (¬4) قولُه تعالى: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا} [الفرقان:70] إلى آخرها نزلتْ في ناس من أهل الشركِ، وآيةُ النساء (¬5) نزلتْ في الرجلِ إذا عرفَ الإسلامَ وشرائِعَهُ (¬6). ¬
وروى سعيد بنُ جبير عنه أنه قال في آية الفرقان: هذه آيةٌ مكيةٌ نسختها آيةٌ مدنيةٌ التي في "سورة النساء" (¬1). وروي عن زيد بن ثابتٍ - رضي الله تعالى عنه -: أنه قال: لما نزلتْ التي في الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا} عَجِبْنا من لينها، فلبثنا سبعةَ أشهرٍ، ثم نزلتِ الغَليظةُ بعد اللينة، وأراد بالغليظة هذه الآية (¬2). وسأل رجلٌ ابنَ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما،- فقال: إني قتلتُ نفساً، فهل لي من توبةٍ؟ فقال له ابنُ عمرَ: أَكْثِرْ مِنْ شربِ الماءِ الباردِ. قال مالك: يريدُ أنه من أهلِ النار. ورويَ أن رجلاً سأل أبا هريرة، وابنَ عمر، وابنَ عباس -رضي الله تعالى عنهم- عن رجل قتل مؤمناً متعمداً، هل له من توبة؟ فكلهم (¬3) يقول: هل تستطيع أن تحييه؟ هل تستطيع أن تبتغي نفقاً في الأرض (¬4) أو سلماً في السماء (¬5)؟ وبقول ابنِ عباس قالتِ المعتزلةُ (¬6). وقال جمهورُ أهلِ العلمِ من الصحابةِ وغيرهم، وجميع أهل السنة: إن ¬
له توبةً، وأمرُه إلى الله تعالى، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه (¬1). واختلفت بهم الطرقُ في الكلامِ على الآية. فمنهم من ذهبَ إلى النسخ (¬2)، فقال: إنها منسوخةٌ بقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110]. وروي عن عليٍّ أنها منسوخةٌ بآيتين: آيةٍ قبلَها، وآيةٍ بعدها في النظم (¬3)، وهي قولُه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} إلى قوله: {فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)} [النساء: 116]. والقول بالنسخ بعيدٌ؛ لما سأذكره بعدُ -إن شاء الله تعالى- من عدم التعارضِ بينهما. وما روي عن عَليٍّ -رضيَ الله تعالى عنه - يجبُ حملُهُ على معنى قولِ ابنِ عمر -رضي الله تعالى عنهما -: كنا معشرَ أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نشكُّ في قاتلِ المؤمن وآكلِ مالِ اليتيمِ وشاهدِ الزورِ وقاطعِ الرحمِ حتى نزلت: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]، فأمسكنا عن الشهادة، يعني: الشهادة لهم بالنار (¬4). ومنهم من ذهب إلى وقفِ حكمها على سَببها؛ فمن قتلَ مؤمناً متعمداً ¬
مستحلاً لدمِه كمِقْيَسِ بنِ صُبابة، فهو مخلَّدٌ في النارِ إذا ماتَ على كفره، وهذا قولٌ قويٌّ حسنٌ (¬1). ومنهم من ذهبَ إلى التأويل، فحمل الخلودَ على طول المُقام؛ كقول الله تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)} [الهمزة: 3]، وكقولهم: فلانٌ خالدٌ في السجن: إذا طالَ مُقامُهُ فيه (¬2)، وهذا القولُ باطلٌ؛ لأنه يقتضي أنه لابدَّ من دخولهِ النار، ثم يطولُ مُقامهُ، ثم يخرجُ منها، وهذا لم يقلْ به أحدٌ من الفريقين. وقال جمهورُهم: تأويلُه: فَجَزاؤه ذلكَ إنْ جازاه، رواه عاصمُ بنُ أبي النجودِ عن ابنِ جبيرٍ عن ابنِ عباس- رضي الله تعالى عنهما - (¬3): أنّه قال: هو جزاؤه إن جازاه (¬4). وروي عن ابن سيرينَ عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الآية: "هو جزاؤه إن جازاه" (¬5). ¬
وقال بهذا التأويل إبراهيم التيميُّ، وعَوْنُ بنُ عبدِ الله، وبَكْرُ بن عبد الله، وغيرُهم (¬1). وقد قال من اعتقد هذا: إن الله إذا وعد بالحسنى، وعدَ ولم يخلف، وإذا وعدَ بالعذابِ، جازَ أن يعفوَ (¬2). ويشهد لهذا (¬3) ما روى ثابتٌ البُنانيُّ، عن أنسِ بنِ مالكٍ -رضي الله تعالى عنه- أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من وَعَدَهُ اللهُ على عملهِ ثواباً، فهو مُنْجِزُهُ له، ومن وَعَدَهُ على عَمَلِهِ عِقاباً، فَهُوَ فيهِ بالخِيارِ" (¬4). وهذا هو الوجهُ المختارُ عندي في الجمعِ بين الآياتِ المتعارِضَةِ الواردِة في القتلِ، وبيانُ صفةِ الجَمْعِ أن نقول: إن قوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] مُطْلَقٌ في الأحوال. وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم: 60] مقيِّدٌ لآية ¬
النساء، ويجوزُ تقييدها بها، وإن كانتْ متقدمةً في النزول عليها (¬1). ولهذا قال مجاهدٌ: فجزاؤه جهنمُ خالداً فيها، إلا أن يتوبَ، لكن قولَهُ يقتضي أنه إذا لم يتبْ كان خالداً في النار، وليسَ الأمرُ كذلك عندَ أهلِ السنةِ (¬2). والأولى أن يقيدَ إطلاقُها بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]؛ فإنه سبحانه لم يقيدْ غفرانَه بالتوبة، وإنما قَيَّدَهُ بمشيئته سبحانه، ويكون المعنى: (فجزاؤه جهنم خالداً فيها إنْ جازاه، إلا أن يغفر اللهُ له)، فتعين حَمْلُ الآية على ما أَوَّلَها به السلفُ الصالحُ - رضي الله تعالى عنهم (¬3) -. فإن قال قائل: فهلا خَصَصْتُمْ عمومَ قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} بقوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}، ويكون المعنى: ويغفرُ ما دونَ ذلك لمن يشاء، إلا أن يكونَ قاتلاً متعمِّداً؛ فإنه لا يَغْفِرُ له، وتكون آيةُ القتلِ بياناً منه سبحانه أنه لم يشأ المغفرة له. قلنا: إنما قيدنا آيهَ القتل بآية المغفرة؛ لوجوه دلَّت على ذلك: أحدها: قوةُ دلالتها وبُعْدُها من التأويل؛ فإنها جمعتْ في دَلالتها بين ¬
دَلالةِ المَفهوم والمنطوق، فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} يقتضي بمفهومه أن الله سبحانه يَغْفِرُ لمنْ لا يشركُ به، فهو كافٍ في دلالة التقييد، فزاده تأكيداً وبياناً، فقال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. وثانيها: تظاهرُ الآياتِ والأحاديثِ المؤكدة بحكمها الواردة بمعناها؛ كقول الله جل جلاله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94]، وقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. ولا ينبغي أن يُذْهِبَ إثمُ القتلِ أجرَ الإيمانِ والتوحيد، وإلا لكانَ السيئاتُ يذهبْنَ الحسناتِ، والحسناتُ لا يذهبْنَ السيئاتِ، وذلك مخالف لنصَّ القرآن العزيز. وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (¬1) [الزلزلة: 7 - 8]. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من لقِيَ اللهَ لا يُشْرِكُ بهِ شيئاً، لَمْ تَضُرَّهُ معهُ خَطيئةٌ، ومن لقيهُ يشركُ به شيئاً، لم ينفعْهُ معهُ حسنةٌ" (¬2). وروى جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما -: أن رجلاً أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! ما الموجبتان - فقال: "مَنْ ماتَ لا يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً، وَجَبَتْ لهُ الجَنةُ، ومَنْ ماتَ يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً، وجَبَتْ لهُ النارُ" (¬3). ¬
ويروي عُبادةُ بنُ الصامِتِ - رضي الله تعالى عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال- وحوله عصابةٌ من أصحابه -: "بايِعوني على ألاّ تُشْرِكوا باللهِ شيئاً، ولا تَسْرِقوا، ولا تَزْنوا، ولا تَقْتُلوا أولادَكم، ولا تأتوا ببهتانٍ تَفْتَرونَهُ بينَ أَيْديكُم وأَرْجَلِكُم، ولا تَعْصوا في معروفٍ، فَمَنْ وفَى منكم، فأجرُه على الله، ومن أصابَ من ذلكَ شيئاً، فعوقبَ به (¬1) في الدنيا، فهو كفَّارَةٌ له، ومن أصابَ من ذلكَ شيئاً، ثم سَتَرَهُ اللهُ، فهو إلى الله، إن شاءَ عَفَا عنه (¬2)، وإن شاءَ عاقَبَهُ"، فبايعناه على ذلك (¬3). وقال ابنُ عمر - رضي الله تعالى عنهما -: كنا معشرَ أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نشكُّ في قاتلِ المؤمنِ، وآكلِ مالِ اليتيم، وشاهدِ الزورِ، وقاطعِ الرحم، حتى نزلت: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]، فأمسكنا عن الشهادة (¬4)، يعني: الشهادة لهم بالنار. وثالثها: دلالةُ الإجماعِ في نظائِرها على جوازِ التوبة منها؛ كالفرارِ من الزحف، والتعدِّي في المواريث. قال الله سبحانه في الفرار من الزحف: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} [الأنفال: 16]. ¬
وقال تعالى في المواريث: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى أن قال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13 - 14]. فقد توعَّدَ الموليَّ يومَ الزحف بأَنَّ مأواهُ جهنمُ، والمتعديَ في حدوده بالخلود في النار. وقد أجمعَ المسلمون على قَبول توبتِهم، فوجبَ بهذهِ الأدلَّةِ القضاءُ بآية المغفرةِ على آية العذاب. قال قريشُ بنُ أَنسٍ: كنتُ عندَ عَمُرِو بْنِ عُبَيْدٍ في بيته، فأنشأَ يقولُ: يؤتى بي يومَ القيامة، فأُقامُ بين يَدَي الله، فيقول: قلت: إن القاتلَ في النارِ، فأقول: أنتَ قلتَ، ثم تلا هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93]، حتى فرغ منها، فقلتُ له -وما في البيت أصغرُ مني-: أرأيتَ إن قالَ لكَ: فإني قلت: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ (116)} [النساء: 116] من أين علمتَ أني لا أشاءُ أن أغفرَ لهذا؟ قال: فما استطاعَ أن يردَّ عليَّ شيئاً (¬1). وأما ما روي عن ابن عباسٍ وغيرهِ من السَّلَفِ -رضي الله تعالى عنهم - من قولهم: لا توبةَ للقاتلِ، فمحمولٌ على التغليظِ وتنفيرِ الناس من هذِه الكبيِرةُ؛ فإن الأولى لأهل الفَتْوى سلوكَ سبيلِ التغليظِ، ولا سيَّما في القتل. يدلُّ على ذلك ما روي: أن سفيانَ بنَ عُيَيْنةَ سُئِلَ عن توبةِ القاتل، ¬
فقال: كان أهل العلم إذا سئلوا، قالوا: لا توبة له، وإذا ابتليَ الرجل، قالوا له: تُبْ (¬1). وما روي عن عطاءٍ، عنِ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما -: أن رجلاً سأله: ألقاتلِ المؤمنِ توبةٌ؟ فقال: لا، وسألهُ آخَرُ: ألقاتلِ المؤمن توبة؟ قال: نعم، فقيل له: قلت لذلك توبة، ولذلك لا توبةَ له، قال: جاءني ذلك، ولم يكنْ قتلَ، فقلت له: لا توبة لك؛ لكيلا يقتل، وجاءني هذا، وقد قَتلَ، فقلت له (¬2): لكَ توبةٌ؛ لكيلا يلقيَ بيدهِ إلى التهلكة (¬3). وروي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما -: أنه قال: دعا اللهُ -جَلَّ ذكرُه- إلى المغفرةِ مَنْ زعَمَ أَنَّ عُزَيْراً ابنُ الله، ومن زعمَ أنَّ الله فقيرٌ، ومن زعم أن يدَ الله مغلولةٌ، ومن زعم أن اللهَ ثالثُ ثلاثة، يقول الله سبحانه لهؤلاء: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74]؟ قال: وقد دعا إلى توبةِ مَنْ هو أعظمُ جُرْماً من هؤلاء، مَنْ قالَ: أنا رَبُّكُمُ الأَعْلى، ومَنْ قال: ما علمتُ لكمْ من إله غيري، قال: ومن أيَّسَ العِبادَ مِن التوبةِ، فقد جَحَدَ كِتابَ الله، ومن تابَ إلى الله، تابَ الله ¬
عليه، قال الله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)} (¬1) [التوبة: 118]. قال ابنُ عباسٍ: فكما لا ينفعُ مع الشركِ إحسانٌ، كذلكَ نرجو أن اللهَ يغفرُ ذنوب المُوَحِّدين (¬2). فإن قالَ قائل: فقد رويتُم النسخَ بآيةِ القتل (¬3) لآية الفرقانِ (¬4) عن ابنِ عباسٍ وزيدِ بن ثابتٍ رضي الله تعالى عنهم (¬5). قلنا: أما قولُ زيدِ بنِ ثابتٍ، فمحمولٌ على أن الغليظة نسخت من اللينة، ليَّنَها الهنيء (¬6) الذي لا نَكَدَ (¬7) فيه، وأما حكمُها فلم تنسخه. وأما ابنُ عباس، فلم يقلْ بالنسخِ، وإنما حَمَل آيةَ الفرقانِ على المشركين، وحمل آيةَ النساءِ على المؤمنِ الذي التزمَ أحكامَ المؤمنين. وأما روايةُ سعيدِ بنِ جبير عن ابن عباس: أن هذه مكيةٌ، وتلكَ مدنيةٌ نسختها (¬8). ¬
فلعل قوله: نسختها، زيادةٌ من بعضِ الرواةِ عن ابن جبيرٍ. فالمشهورُ من روايةِ ابن جُبيرٍ ما ذكره البخاريُّ في "جامعه" عن ابن جُبَيرٍ قال: آية اختلفَ فيها أهلُ الكوفةِ، فرحلتُ فيها إلى ابنِ عباسٍ، فسألتُه عنها، فقال: نزلتْ هذه الآيةُ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93]، هي آخر ما نزلَ، فما نسخَها شيء (1). وهذا ينفي أن تكونَ منسوخةً، ولا يثبتُ أن تكونَ ناسخة لآية الفرقان. وهو وإن صحَّ عنه، فليس على توقيفه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دليلٌ، وإنما قالهُ ابنُ عباسٍ باجتهادِه، واستدلَّ بتأخُّرِ نزولِ آية النساء، وقد قامتِ الأدلةُ التي قدمتُها عندَ غيره على إحكام الآيتين، وأنه (¬2) لا معارضة بينهما. وأنكر مَكَيُّ بنُ أبي طالب إمكانَ النسخِ في الآيتين؛ لأنهما خبرٌ من الله سبحانه عن حكمِه، وحكمُهُ يستحيلُ فيه النسخُ؛ لإفضائه إلى الكذبِ (¬3). وهذا غَفْلَة منه؛ فإن الآيتين لَفْظُهُما لفظُ الخَبَرِ، ومعناهُما الحُكْمُ الذي يجوزُ وقوعُه على وجهينِ من التخليدِ وعدمِ التخليدِ، وكلُّ ما جازَ وقوعُهُ على وجهين، جاز الحكمُ بنسخِه، ولأنه لو كانَ الأمرُ على ما ذكر، لما جازَ ¬
الغفرانُ عن الفرارِ من الزحفِ وأمثالهِ إذا لم يتبْ، وهذا لا يقولُهُ أحدٌ من أهل السُّنَّة. وجميعُ ما مضى في حكم اللهِ سبحانه في الدارِ الآخرة، وأما أحكامُ الله عليه في دارِ الدنيا، فإنه يجبُ عليهِ القصاصُ. * وهل تجبُ عليه الديةُ مع القصاص، أو لا تجب إلا برضاه واختياره؟ فيه خلافٌ سبقَ ذكرُه في سورة البقرة. * ومتى وجبتْ عليه الديةُ، وجبت عليهِ حالَّةٌ مُغَلَّظَةٌ، ولا تحملُ العاقلة منها شيئاً (¬1). * واختلفوا في وجوبِ الكَفَّارةِ عليه، وقد مضى ذكرُ ذلك. * إذا تقرَّرَ هذا، فقد قسمَ اللهُ سبحانه القَتْلَ إلى خَطَأٍ وعَمْدٍ، وذلكَ إجماعٌ. * واختلفَ أهلُ العلمِ هل بينَ العَمْدِ والخَطَأِ وَسَطٌ، أو لا؟ - فذهب جمهورُ فقهاءِ الأمصارِ إلى أن بينَهما وسَطاً يُسَمَّى شِبْهَ العَمْدِ، فلم يوجبوا فيه القِصاص (¬2). - وذهبَ مالكٌ والليثُ إلى أنه لا واسطةَ بينَ القصدِ إلى القتلِ وعدمِ القصد، كما لا واسطةَ بينَ القيامِ والقُعودِ، فأوجبَ فيه القصاص (¬3). ¬
واحتجَّ الجمهورُ بأن عمرَ، وعثمانَ، وعليًّا، وزيدَ بن ثَابِتٍ -رضي الله تعالى عنهم -، وأبا موسى، والمغيرةَ بنَ شعبةَ -رضي الله تعالى عنهم - قالوا بإثبات ذلك، ولم يخالفْهُم منَ الصحابةِ أحدٌ، فكان إجماعاً فيه، أو كالإجماعِ (¬1). ومما رويَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا إنَّ في قتيل الخطأ بالسَّوْطِ والعَصا مِئةً من الإبل مُغَلَّظَةً، منها أربعونَ خَلِفَةً" (¬2)، إلا أنه حديثٌ مضطربٌ عندَ أهلِ ¬
الحديث، لا يثبتُ من جهةِ الإسناد، وإن كان أبو داودَ قد خرجه، قاله ابنُ عبدِ البَرِّ (¬1). واحتجَّ الجمهورُ من طريقِ النظرِ بأنَ العَمْدَ هو القَصْدُ، والنيةُ لا يطَّلعُ عليها إلا اللهُ تعالى، وإنما الحكمُ بما ظهرَ. * فمن قصدَ ضرب أحدٍ بآلةٍ تَقْتلُ غالِباً، كان عامِداً، ومن قَصَدَ ضربَ رجلٍ بعينه بآلةٍ لا تقتلُ غالباً، كانَ حكمُه متردداً بينَ العمدِ والخطأ في حَقِّنا، لا في حقيقةِ الأمر عند الله سبحانه. * ثم اختلفَ الذين قالوا به في حقيقته. فقال أبو حنيفة: كلُّ ما عدا الحديدِ من القصبِ والنارِ والحجرِ، فهو شبهُ العمد (¬2). وقال أبو يوسفَ: شبهُ العَمْدِ ما لا يَقْتلُ مثلُه (¬3). وقال الشافعيُّ: هو ما كان عَمْداً في الفِعْل، خَطَأً في القتلِ، أي: لم يقصدْ به القتلَ، فتولد عنه القتلُ، والخطأُ ما كان خَطَأً فيهما، والعَمْدُ ما كانَ عَمْداً فيهما (¬4). وهذا تحقيقٌ حسن، فالحنفيةُ نظروا إلى الآلةِ التي حَصلَ بها القتلُ، والشافعيُّ نظرَ إلى الآلةِ والأحوالِ التي كانَ من أجِلها القتلُ، ولكُلٍّ متمسَّكٌ ¬
من الحديثِ والقياس، وموضعُهُ كتبُ الفقه والخلاف. * * * 92 - (34) قوله جَلَّ ثنَاؤه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)} [النساء: 94] * أمرَ اللهُ سبحاَنُه الغُزاة في سبيلهِ أَنْ يَتبَيَّنوا، أي: يتأنَّوا، ويتعرَّفوا، قال الأعشى: [البحر المتقارب] تَبَيَّنَ ثُمَّ لرْعَوَى أو قَدِمْ (¬1) * وبين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صفةَ التبيُّنِ بفِعْله وقولِه، فكان إذا غزا قوماً، فإنْ سمعَ أَذاناً، كَفَّ عنهم، وإن لم يسمعْ، أغارَ عليهم (¬2). وروي أنهُ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا بعثَ سَرِيِّةً قال: "إذا رأيْتُمْ مَسجِداً، أو سمِعْتُمْ مُؤَذِّناً، فلا تَقْتُلوا أحداً" (¬3). ¬
فمتى رأى الغزاةُ شِعارَ الإسلامِ في حيٍّ أو بلدٍ، وجبَ عليهمُ الكَفُّ عنهم؛ كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * ثم بين صِفَةَ التبيُّنِ في الذين لم تبلغْهُمُ الدعوةُ، أو بلغتْهُم ولم يَبْلُغْهم إنزالُ الحَرْبِ بهم، فكانَ إذا بعثَ سرية قال لأميرها: "إذا لقيتَ عَدُوَّكَ من المُشركين، فادْعُهُمْ إلى ثلاثِ خصال - أو: خِلالِ - فأيتهنَّ أجابوكَ، فاقبلْ منهم، وكُفَّ عنهم، ادْعُهُم إلى الإسلامِ، فإنْ أجابوكَ، فاقبلْ منهم، وكُفَّ عنهم، ثم ادْعُهم إلى التَّحَوُّلِ عن دارِهم إلى دارِ المُهاجرين، وأَعْلِمْهم أنهم إن فَعَلوا ذلكَ أَنَّ لهم ما لِلْمُهاجِرين، وأَنَّ عليهم ما على المُهاجرين، فإنْ أَبَوا، واختاروا دارَهم، فأعلمْهم أنهم يكونونَ كأعرابِ المُسلمين، يجري عليهم حكمُ الله الذي يَجْري على المؤمنين، ولا يكونُ لهم في الفَيْءِ والغَنيمَةِ نصيبٌ، إِلَّا أن يُجاهِدوا مع المُسلمين، فإن هُمْ أَبَوا، فادْعُهُم إلى إعطاءِ الجِزْيَةِ، فإنْ همْ أَجابُوا، فاقبلْ منهمْ، وكُفَّ عنهم، وإن أَبَوا، فاسْتَعِنْ باللهِ، وقاتِلْهم" (¬1). فمتى وقع الغزاةُ إلى قومٍ لم تبلغْهُم الدعوةُ، فعلوا بهم ما أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. * فإن قال قائل: فقد ثبتَ أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُبَّيتُ العدوّ (¬2) على بني المُصْطَلِقِ وهمْ غازُّون (¬3). ¬
قلنا: اختلفَ أهلُ العلمِ في ذلكَ على ثلاثةِ مذاهبَ. - منهم من ذهبَ إلى الجَمْعِ، وهمُ الجمهورُ، فحملَ أمر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالدعاءِ لهم إلى الثلاث الخِصال على الاستحباب، وحَمَلَ فعلَه على الجواز، والحكمُ عندَهُ أنه لا يَجِبُ تكرارُ الدعوةِ إلى المشركين بعدَ بلوغِها إليهم، ولكنها تستحبُّ (¬1). - ومنهم من ذهبَ إلى التعارضِ، فذهب جمهورُهم إلى النسخ، فقال: إنَّ فِعْلَهُ ناسخٌ لقوله، وإن ذلك إنما كانَ في أولِ الإسلامِ قبلَ أن تنتشر الدعوةُ، والحكمُ عندهم: أنه لا يجبُ تكرارُ الدعوةِ، ولا يستحبُّ. - وذهبَ بعضُهم إلى الترجيح، فرجَّحَ قولَه على فعلهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأوجبَ تكرارَ الدعوة (¬2). ولو جُمعَ بين الحديثين بان قولَه في الذين لم يتحققْ منهمُ العِناد، وفِعْلَهُ في الذين قد علمَ منهم مَحْضَ العِناد، لكان أولى وأحسن (¬3)، ولم أقفْ عليه لأحدٍ (¬4). ¬
* وحرم الله سبحانه قتلَ الرجلِ إذا أظهرَ الإسلامَ، وان غلَب على الظَّنِّ أنه فَعَلَهُ تَقِيّهً، فقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا (94)} [النساء: 94]. وسببُ نزولها ما رواهُ البخاريُّ عن عطاءٍ عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما - قال: كان رجلٌ في غُنَيْمَةٍ لَهُ، فلحقه المُسلمون، فقال: السلامُ عليكم، فقتلوهُ، وأخذوا غُنَيْمَتهُ، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ إلى قوله: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (94)} (¬1) [النساء: 94]. وقال ابنُ عباسٍ أيضًا - في رواية أبي صالح: - نزلت هذه في رجلٍ من بني مُرَّةَ بنِ عوف، يقال له: مِرْداسُ بنُ نَهيك، وكانَ من أهلِ فَدَكَ، وكان مُسْلمًا لم يُسْلِمْ من قومِه غيرُه، فسمعوا بِسَريَّةٍ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تريدُهم، وكانَ على السريةِ رجلٌ يقالُ له: غالبُ بنُ فَضالةَ الليثيُّ، فهربوا، وأقامَ الرجلُ؛ لأنه كانَ على دين المسلمين، فلما رأى الخيلَ، خاف أن يكونوا من غيرِ أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فألجأَ غَنَمَهُ إلى عاقولٍ (¬2) من الجبلِ، وصَعِد هو إلى الجبل، فلما تلاحقتِ الخيلُ، سمعهم يكبِّرون، فلما سمعَ التكبيرَ، عرفَ أنهم من أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، كَبَّرَ ونزلَ وهو يقولُ: لا إلَه إلا اللهُ محمدٌ رسولُ اللهِ، السلامُ عليكم، فتغشَّاهُ أسامةُ بنُ زيدٍ فقتله، واستاقَ غَنَمَهُ، ثم رَجَعوا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبروه، فَوَجَدَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك وَجْداً شديداً، وقد كانَ سبقَهم قبل ذلك الخبرُ، فقال رسولُ - صلى الله عليه وسلم -: "قَتَلْتُموهُ إرادَةَ ما مَعَهُ! "، ثم قرأ هذه الآيةَ على ¬
أسامةَ بنِ زيدٍ، فقال: يا رسول الله! استغفر لي، فقال: "فكيفَ بلا إلهَ إلا اللهُ؟ "، فقالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثَ مراتٍ، فقال أسامةُ: فما زال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعيدُها حتى وَدِدْتُ أني (¬1) لمْ أكنْ أسلمتُ إلا يَوْمَئِذٍ، ثم إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استغفرَ لي بعدُ ثلاثَ مراتٍ، وقالَ: "أَعْتِقْ رَقَتة" (¬2). وروى أبو ظبيانَ عن أسامةَ قال: قلتُ: يا رسولَ الله! إنما قالها خوفاً منَ السلاح، قال: "أَفَلا شَقَقْتَ عن قلبِه حتى تعلَم أَقالها أم لا؟ " (¬3). والسَّلاَمُ والسَّلَمُ بمعنى، وهو تحيةُ الإسلام. فإن قيل: فما حكمُ القاتلِ اليومَ إذا فعلَ مثل هذا؟. قلنا: يقتلُ قِصاصاً. فإن قيل: فلمَ لمْ يقتلِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أسامةَ بنَ زيدٍ وغيرَهُ؟ قلنا: إنما قتلَهُ أسامةُ متأوِّلًا، فظنَّ أنهُ قالَها تَقيَّةً، وكانَ هذا التأويلُ منه في صَدْرِ الإسلامِ، قبل أن تَسْتَقِرَّ الشريعةُ وتنتشرَ (¬4). * * * ¬
93 - (35) قولُه عَز وجَلَّ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)} [النساء: 95]. * فيها دليلٌ على أن الجهادَ يسقطُ عن أولي الضررِ، معَ بقاءِ فضل المُجاهدين لهم إذا نَوَوُا الجِهاد لو كانوا سالِمين من الضرَرِ (¬1). * وفيها دليل على أن الجِهاد لا يجبُ على جميعِ أعيان المُسلمين (¬2)؛ إذ قدْ (¬3) وعدَ اللهُ القاعدين بالحُسْنى كما وعدَ المجاهدين (¬4) (¬5). * * * 94 - (36) قولُه عَزَّ جَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 97 - 98]. قد تقدَّم الكلُام على حكمِهما في الهِجْرَةِ. ¬
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَيْسِيْرُ البَيَانِ لِأَحْكَامِ القُرْآنِ [3]
جَمِيعُ الحقُوُقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1433 هـ - 2012 م ردمك: 3 - 41 - 459 - 9933 - 978: ISBN دَارُ النَّوادِرِ سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسة دَار النَّوادِرِ م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوادِر الكُوَيْتِيَة ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هَاتِف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هَاتِف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السَّحَاب - ص. ب: 4316 حَولي - الرَّمْز البريدي: 32046 هَاتِف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م نُورُ الدِّيْن طَالِب المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنفِيْذِي
من أحكام الصلاة
(من أحكام الصلاة) 96 - 95 (37 - 38) قولُه عَزَّ وجَلَّ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 101] * رحمَ اللهُ سبحانه عبادَه المؤمنين، فرفعَ عنهم الجُناح في تركِ إتمامِ الصلاةِ، فرخَّصَ لهم في قَصْرِها في السَّفَرِ إذا كانوا خائفين، فقال: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101]. وبين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك كما شرعَهُ الله، فقصَرَ في السفرِ في الخوفِ، وهذا إجماعٌ من المسلمين. * واختلف الناسُ في شَرْطِ الخَوْفِ، هل جيءَ به للتعليقِ، أو للتغليب. فاخذ قومٌ بظاهرِه، واعتقدوهُ للتغليبِ؟ واختلفتْ بهم الطرقُ. - فذهب عطاءٌ، وطاوسٌ، والحَسَنُ، ومجاهدٌ، والضَّحّاكُ، وإسحاقُ
إلى أنه يجوزُ القَصْرُ في السفرِ في الخَوْفِ إلى رَكْعَةٍ، وأما رَكْعَتا المسافرِ فليستا مَقْصورَتين، بل هيَ أصلُ فريضةِ السفر (¬1). ويروى هذا القولُ عن جابرٍ، وكعبٍ، وابن عمرَ -رضي الله تعالى عنهم (¬2) -، وفعلهُ حُذيفةُ بِطَبَرِسْتانَ، وهي صلاة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بذي قَرَدٍ كما سيأتي. فإن صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قَصَرَ الصلاةَ في السفرِ في الخوف إلى ركعة، فهو مذهبٌ قويٌّ نذهبهُ ونختارُه (¬3)، وإن لم يثبتْ عنه - صلى الله عليه وسلم -، فهو مردودٌ؛ لأنه لا بُدَّ أن يكونَ للنبيَّ مع كتاب الله سُنَّة تبينُه كما فرضَ الله تعالى ذلك عليه. ويدلُّ له ما خرَّجَهُ مسلمٌ عن بكيرِ بنِ الأخنسِ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما - قال: فرضَ اللهُ تعالى الصلاةَ على لسانِ نبيكم في الحَضَرِ أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف رَكْعَة (¬4). وتأويله بعيدٌ (¬5). ¬
لكن قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ: بُكَيْرُ بنُ الأخنس ليس بحجَّةٍ فيما يتفردُ بهِ (¬1). وحكيَ عن ابنِ عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّ المراد بالقَصْر هو الإيماءُ عندَ الخوفِ راكباً (¬2). - وذهب قومٌ إلى أنه شرطٌ للتعليقِ بالحكم الذي بعدَهُ، فهو ابتداءُ كلامٍ مُتَّصِلٍ بما بعدَهُ، منقطعٍ عما قبله (¬3). وروي عن أبي أيوبَ الأنصاريِّ - رضي الله تعالى عنه -: أنه قال: نزل قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاة (101)} [النساء: 101] هذا القَدْرُ، ثم بعدَ حَوْلٍ سألوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاةِ الخَوْفِ فنزل (¬4): {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ ¬
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101] {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} (¬1) [النساء:102]. وروي مثلُه عن عليِّ بنِ أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - قال: نزل قولُه: {إِنْ خِفْتُمْ} بعدَ قوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء:101] بسنةٍ في غزوةِ بني أسَد حينَ صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر، قال بعضهم: هَلاً شددتُم عليهم، وقد أمكنوكُم من ظُهورهم، فقالوا: بعدَها صلاةٌ هي أَحَبُّ إليهم من آبائِهم وأولادِهم، فنزل: {إِنْ خِفْتُمْ} إلى قوله: {عَذَابًا مُهِينًا} (¬2) (¬3) [النساء:101 - 102]. وروي نحوهُ عَن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما - أيضاً (¬4). - وذهب الجمهورُ من الصحابةِ وغيرِهم -رضيَ الله تعالى عنهم- إلى أن الشرطَ للتغليبِ، خرجَ على غالبِ الوجود، وأن المرادَ بالقصرِ التشطيرُ؛ فإن أسفارَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه المواجَهين بالخطاب لا تنفكُّ عن الخوف ¬
غالباً، ويدل على ذلكَ بيانُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله، أنَّ الشرطَ ليسَ للاعتبارِ والتعليق. قال يَعْلَى بنُ أُمَيَّةَ: قلتُ لعمرَ بنِ الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه -: إنما قالَ الله تعالى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101]، فقد أمنَ الناسُ، فقالَ عمرُ: عجبتُ من الذي عجبتَ منه، وسألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - , فقال: "صَدَقةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بها عليكُمْ، فاقْبَلُوا صَدَقَتهُ" (¬1). وقال ابنُ عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما -: سافرنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بينَ مكةَ والمدينة آمنينَ لا نخافُ إلا اللهَ تعالى، نُصَلِّي ركعتين (¬2) ورفعُ الجُناح عن المُصَلِّي إذا قَصَرَ الصلاةَ يدلُّ على جواز القصرِ، ولا يدلُّ على وجوبه، لأن رفعَ الجُناح موضوعٌ لإباحة الشيء، لا لوجوبه. * وقد اختلفَ الفقهاءُ في القصر، هل هو رخصة، أو عزيمة؟ 1 - فقال الشافعيُّ: هو رخصةٌ، إما على تقدير أنها رخصةٌ جائزةٌ، أو مستحبةٌ؛ كما هو المشهورُ عند أصحابه كما سيأتي -إن شاء الله تعالى (¬3) -. واستدلَّ بظاهرِ اللفظِ في الآيةِ، وبحديثِ يَعْلَى بنِ أميةَ، وبقولِ عائشةَ -رضي الله تعالى عنها -: كُلَّ ذلكَ قدْ فعلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , أتمَّ في السفر، ¬
وقصرَ (¬1)، وبإتمامِ عثمانَ وعائشةَ -رضي الله تعالى عنهما (¬2) -، وبما ثبتَ أنَّ الصحابةَ -رضي الله تعالى عنهم - كانوا يسافرونَ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فمنهم القاصرُ، ومنهمُ المُتِمُّ، ومنهمُ الصائِمُ، ومنهُمُ المُفْطِرُ، لا يَعيبُ بعضُهم على بعض (¬3). 2 - وذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابهُ إلى أنهُ عزيمةٌ (¬4). واستدلّوا بما رواهُ الزهريُّ عن عُروةَ عن عائشةَ - رضي الله تعالى عنها - قالت: أَوَّلَ ما فُرِضَتِ الصَلاُة رَكْعَتينِ رَكْعَتين، فزيدَ في صلاةِ الحَضَرِ، وأُقِرَّتْ صلاةُ السفر (¬5). وبما روى عِمرانُ بنُ الحُصَينِ -رضي الله تعالى عنه- قال: حَجَجْتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يصلَّي رَكْعتين، وسافرتُ مع أبي بكرٍ - رضي الله تعالى عنه -، فكانَ يصلَّي ركعتين حتى ذهب، وسافرتُ مع عُمَر -رضي الله تعالى عنه-، فكان يصلَّي رَكعتين حتى ذهب، وسافرتُ مع عثمانَ -رضي الله تعالى عنه-، فكان يصلِّي رَكعتين ستَّ سنين، ثم أتمَّ بنا (¬6). ¬
وأجابوا عن إتمامِ عُثمان، بأن ابنَ مسعودٍ عابَهُ على عثمانَ. وعن إتمامِ عائشةَ، بأنَّ الزهريَّ قال لعروةَ لمّا روى له الحديثَ السابق: وما شأنُ عائشةَ كانت تُتِمُّ؟ قال: إنها تأولت ما تأولَ عثمان. وما استدلَّ به الكوفيون، فلا حجةَ فيه: أما حديثُ عمرانَ، فليس فيه أكثرُ من فعلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإن كانَ بياناً للقرآنِ، وهو الظاهرُ، فهو بيانٌ لما ظهرَ فيه قصدُ الإباحةِ والرخصةِ، فإن كانَ ابتداءَ حُكمٍ، وهو خلافُ الظاهرِ، فالفعلُ بمجربٍ لا يدلُّ على الوجوب. وأما عَتْبُ ابنِ مسعودٍ - رضي الله تعالى عنه -، ففيه الحجَّةُ عليهم؛ لأنه قامَ وصَلَّى بأصحابه في منزله، وأتمَّ، فقيل له: عِبْتَ الإتمامَ وأَتْمَمْتَ! فقال: الخلافُ شَرٌّ (¬1)، فلو كانَ القصرُ حَتْماً، لَما أتَمَّ، ولعلَّهُ إنَّما عابَ على عُثمانَ تركَ الأخذِ بالرُّخْصَةِ (¬2). وأما حديثُ عائشةَ، فلا دلالةَ لهم أيضاً من وجهين: ¬
أحدهما: أنها عملتْ بخِلافِ ما رَوَتْ، وعملُ الصَّحابيّ مقدَّم على روايتهِ عندهم (¬1). الثاني: أنها رَوَتْ - أيضاً - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَصَرَ وأَتَمَّ (¬2)، فدلَّ على أن المرادَ بقولها: وأُقرَّتْ صلاةُ السفرِ لمن شاءَ القصرَ؛ بدليلِ روايتها الأخرى، ولأنه ما اجتمعَ فيه روايتُها وعملُها، كان أقوى مما اختلف فيه عملها وروايتُها. قال الشافعيّ: وإنما عَمِلَتْ بما رَوَتْ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم تعملْه تأوُّلاً كما قالَهُ عُروةُ (¬3). 3 - وذهب قومٌ إلى أن القصرَ سُنَّةٌ ليسَ بِرخْصةٍ، ولا حتماً (¬4). وهو المشهورُ عن مالكٍ، والمشهورُ عندَ الشافعية؛ لما فيه منَ الجَمْع بين الأدلةِ، والاقتداءِ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬
4 - وذهبتِ البغداديةُ المالكية (¬1) إلى أن القصرَ والإتمامَ فَرضان، فأيَّهما فَعل، فقد فَعَلَ الواجبَ؛ كالواجبِ المُخَيَّر (¬2). ونقله بعضُ المصنفين (¬3) عن بعضِ الشافعيةِ، وهذا القولُ غيرُ معروفٍ عندهم، وإن كان القولُ به غير ممتنع. * وعلق اللهُ سبحانه القصرَ على الضربِ في الأرض، وذلك مطلقٌ غيرُ مقيدٍ. 1 - فأخذَ بإطلاقه آخرون، وهم أهلُ الظاهر، فجوزوا القصرَ، في كلَّ سفرٍ، طويلاً أو قصيراً (¬4). 2 - وقيده الجمهورُ من أهل العلمِ بالمعنى الذي أُبيحَ له القصرُ، وهو المشقةُ الزائدَةُ على مشقةِ الحَضَر. ثم اختلفوا. - فذهبَ ابنُ مسعودٍ، وعثمانُ، وغيرُهما -رضي الله تعالى عنهم - إلى أن المسافةَ المُبيحةَ للقَصْر هي ثلاثةُ أيام (¬5)، وبه قال أبو حنيفةَ وأصحابهُ (¬6). ¬
- وذهبَ ابنُ عمرَ، وابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهم - إلى أنها أربعةُ بُرُدٍ، وذلك يومانِ (¬1). وبه قالَ مالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ (¬2)، وجَمْعٌ كثير (¬3)، ولأن المشقةَ المعتبرةَ توجد في ذلك غالباً. ومذهبُ أهلِ الظاهر قويٌّ. لَما رواهُ مسلمٌ عن عُمر -رضي الله تعالى عنه-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقصُرُ في السَّبْعَةَ عَشَرَ ميلاً (¬4). * إذا تقرَّرَ هذا، فقد رُوي عن النبَّي - صلى الله عليه وسلم - أحاديثُ صحيحةٌ أنه جمعَ بينَ الظُّهر والعَصْرِ، والمغربِ والعِشاء في السفر. * فأجمعَ أهلُ العلم على جوازِ الجَمْع بينَ الظهر والعصر بعرفةَ، وبينَ المغربِ والعِشاء بمُزْدَلِفَةَ (¬5). ¬
واختلفوا في غيرِهما من الأمكنة. فجوزه الجمهورُ (¬1)، ومنعه أبو حنيفةَ وأصحابُه (¬2). لأن الأفعالَ يتطرقُ إليها من الاحتمالِ ما لا يتطرقُ إلى الأقوالِ. واحتجوا بأنَّ ابنَ مَسعودٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: والذي لا إله غيره! ما صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةً قَطُّ إلا في وقتِهما، إلا صلاتين: جمعَ بين الظهرِ والعصرِ يومَ عرفةَ، وبين المغربِ والعشاءِ بِجَمْعٍ (¬3). وتمسكوا بدليل الإجماع على أنه لا يجوزُ الجَمْعُ في الحَضَرِ، واستمرَّ الحكمُ في السفر. وحملوا الأحاديثَ على أنه أخرها إلى آخرِ وقتها؛ بحيث يفرغ منها ثم يدخلُ وقتُ الصلاةِ التي بعدَها، بدليلِ بيانِ جبريلَ - عليه الصلاة والسلام - في المرةِ الثانيةِ (¬4). واستمسكوا بأنَّ الأصلَ عدمُ جوازِ الجَمْعِ إِلا بيقينٍ، وليس فيما رُوي من أفعالِه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك نَصٌّ لا يحتملُ التأويل. * * * ¬
97 - (39) قوله جَلَّ ثَناؤه: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)} [النساء: 102]. * لمَّا شرَّفَ اللهُ هذهِ الأمةَ وكرَّمها ورحِمَها، جمعَ لها بينَ فضيلةِ امتثالِ أمرهِ بأداءِ فرائضِه في حالِ الشدةِ والبأسِ، وبينَ استعمالِ الحذرِ فيها من عدوَّهم، فشرع لهم صلاةَ الخوفِ، وبينَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. * وأجمع المسلمونَ على وجوبِ الصلاةِ في حالِ الخوفِ، وجوازِها كما شرعَ اللهُ سبحانَه في كتابه وبيَّنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). إلا ما يُحْكى عن طائفةٍ من فُقهاء الشامِ من المالكيَّةِ أنه يجوزُ تأخيُرها عن وقتِ الخَوْف إلى وقتِ الأمنِ (¬2)؛ كما فعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الخندق (¬3). ¬
والجمهورُ على أنه منسوخ بصلاةِ الخوف؛ لأن صلاةَ الخوفِ أولَ ما شُرِعَتْ بذاتِ الرِّقاعِ، وهي أولُ سنةِ خَمْسِ قبل خَيْبرَ، وأَنَّ خَيْبَرَ في سنةِ سَبْعٍ، هكذا ذكره النوويُّ في "الروضة" (¬1). وذكر البخاريُّ في "صحيحه": أن ذاتَ الرقاعِ بعدَ خَيْبَر (¬2). واستدلَّ بأنَّ أبا موسى شهدَ ذاتَ الرقاعِ، ومجيئُهُ كانَ بعدَ خيبرَ، وأما يومُ الخَنْدَقِ، فكان في سنةِ أربعٍ في شَوَّال، ذكرهُ البُخاريُّ (¬3) وغيره، وهو الصحيحُ (¬4). وقيل: في سنة خَمْسٍ؛ كما قالهُ ابنُ إسحاقَ (¬5). وأما أول ما شُرعتْ صلاةُ الخوفِ، فإن ذلك كان بِعُسْفانَ، لا بِذاتَ الرِّقاعِ، كما سيأتي في روايةِ أبي عياشٍ الزُّرقِيِّ -رضي الله تعالى عنه-. * وقد صلاَّها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بصفاتٍ مختلفةٍ بحسبِ اختلافِ المَواطنِ والأحوالِ، يبلغُ مجَموعها ستةَ عَشَرَ وَجْهاً، وسنبين مُعْظَمَها بذكرِ أربع صفات: الصفة الأولى: صلاةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعُسْفانَ. قال أبو عياشٍ الزرقيُّ -رضي الله تعالى عنه- كنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بعسفانَ، وعلى المشركين خالدُ بنُ الوليد، فصلينا الظهرَ، فقال ¬
المشركونَ: لقد أَصَبْنا غفلة، لو كُنَا حَمَلْنا عليهمْ وهم في الصلاة، فنزلتْ آيةُ القَصْرِ بين الظهرِ والعصرِ، فلما حضرتِ صلاة العصر (¬1)، قام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبلَ القبلةِ، والمشركون أمَامهُ، فصفَّ خلفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - صَفٌ واحدٌ، وصفَ بعدَ ذلك صَفٌّ آخرُ، فركعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - , وركعوا جميعًا، ثم سجدَ الصفُّ الذي يليه، وقام الآخَرُ يحرس لهم، فلما صَلَّى هؤلاء السجدتين، وقاموا، سجدَ الآخرونَ الذين كانوا خلفَه، ثم تأخرَ الصفُّ الذي يليهِ إلى مَقامِ الآخرينَ، وتقدم الصفُّ الآخرُ إلى مَقام الصفَّ الأولِ، ثم ركعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وركعوا جميعاً، ثم سجدَ وسجَد الصفُّ الذي يليه، وقام الآخرونَ يحرسونهم، فلما جلسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والصفُّ الذي يليهِ، سجدَ الآخرون، ثم جلسوا جميعًا، ثم سلم بهم جميعاً (¬2). وخرجه مسلم عن جابر بنِ عبد الله -رضي الله تعالى عنهما (¬3) -. وروى ابنُ عباس -رضي الله تعالى عنهما - نحوَ حديثِ جابرٍ وأبي عياشٍ، إلا أنه ليس في روايته تقدُّمُ الصف الثاني، وتأخرُ الصفِّ الأول (¬4). والعملُ بظاهره جائز عند الشافعية (¬5). ¬
وهل الأفضلُ التقدُّمُ والتأخُّرُ كما وردَ في روايةِ جابرٍ وأبي عياشٍ، أو بقاء الصفينِ على حالِهما كما هو ظاهرُ رواية أبي عياش؟. فيه وجهانِ عند الشافعية. وينبغي أن يقطع بفضيلة التقدم والتأخر (¬1). ويحملُ إطلاقُ ابنِ عباسٍ على تقييدِ غيرهِ، وإن كانتْ أكثرَ أفعالاً؛ ففي كثرةِ الأفعالِ حكمةٌ حسنةٌ، وهو قطعُ طمعِ العدوِّ. وبهذه الرواياتِ أخذَ الشافعيُّ، والثوريُّ، وابنُ أبي ليلى، وأبو يوسفَ، وجماعةٌ من أصحاب مالكٍ (¬2). إلا أن الشافعيَّ قال في "المختصر": يسجدُ معه الصفُّ الثاني، ويحرسُ الصفُّ الأولُ (¬3). فأخذ بها الخُراسانيون من أصحابهِ حتى ادَّعى بعضُهم أنها منقولةٌ عن فعل رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعُسْفان (¬4). ودعواهُ ضعيفةٌ. وقال العراقيون: الشافعيُّ عكسَ ما ثبتَ في السُّنَّةِ، والمذهبُ ما ثبتَ فيها؛ لأنه قال: إذا رأيتم قولي مخالفاً للسنِة، فاطَّرحوه (¬5). ¬
وأجاب النوويُّ من متأخِّري الشافعيةِ بأنَّ الشافعي إنما ذكرَ هذا ليبين جوازَهُ؛ فإنه ذكرَ الحديثَ كما ثبتَ في "الصحيحين" (¬1)، ثم ذكرَ الكيفيةَ المذكورةَ، فأشار إلى جوازِها (¬2). وهو جوابٌ حسنٌ. الصفة الثانية: صلاة النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بذاتِ الرَّقاعِ من نَخْلِ (¬3) أرضِ غَطَفان، وفيها ثلاثُ رواياتٍ: الأولى: رواية صالح بنِ خَوَّاتِ بِنِ جُبيرٍ عَمَّنْ صَلَّى مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ ذاتِ الرقاعِ، وهو سَهْلُ بنُ أبي حَثْمة، قال: إن طائفةً صفَّتْ معُه، وصفَّتْ طائفةٌ وِجاهَ العدِّو، فصلى بالتي معه ركعةً، ثم ثبتَ قائماً، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وِجاهَ العدوَّ، وجاءت الطائفةُ الأخرى، فصلى بهم الركعةَ التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً، وأتموا لأنفسِهم، ثم سلم بهم (¬4). الثانيةُ: رواية عبدِ الله بنِ عمرِ -رضي الله تعالى عنهما - قال: صلى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الخوفِ في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفةٌ بإزاءِ العدوِّ، فصلى (¬5) بالذين معه ركعةً، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون، فصلى ¬
بهم ركعة، وقضت الطائفتان ركعةً ركعةً (¬1). ثم اختلفَ أهلُ العلمِ في روايته. فقيل: إن الطائفتين قضوا ركعتَهم الثانيةَ جميعاً، وهو قولُ الشافعيِّ في "كتاب اختلاف الحديث" (¬2). وقيل: قَضَوْها متفرِّقين، وهو ظاهرُ نقلِ البخاريِّ (¬3). ¬
قال النوويُّ: وهو الصحيحُ (¬1). الثالثة: خَرَّجها أبو داودَ عن ابنِ مسعودٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: صَلى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الخوفِ بطائفةٍ، وطائفة مستقبلي العدوِّ، فصلى (¬2) بالذين معه ركعةً وسجدتين، وانصرفوا ولم يسلموا، فوقفوا بإزاءِ العدو، ثم جاء الآخرون فقاموا معه، فصلى بهم ركعة، ثم سلم، فقام هؤلاء فقضوا لأنفسهم ركعةً، ثم سلموا وذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مراتبهم، فصلوا لأنفسهم ركعةً ثم سلموا (¬3). فأخذ أبو حنيفةَ بهذه الروايةِ، إلا أنه قال: تتم الطائفةُ الثانيةُ الركعةَ التي عليها بعدَ أن تذهبَ إلى وَجْهِ العدو، وتأتي الطائفةُ الأولى وتتم ركعتها، ثم تذهب إلى مقامِ العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية، فحينئذٍ تتمُ ركعتَها (¬4). وقد أُنكرتْ عليهِ هذهِ الزيادةُ، وقيل: إنها لم تردْ في حديثٍ (¬5). وأخذ الأوزاعيُ وأشهبُ المالكي بروايةِ ابنِ عُمَر، ورُجِّحَتْ بأنها وردتْ بنقلِ أهلِ المدينة، وهم الحجةُ في النقلِ على مَنْ خالفهم (¬6). ¬
وبرواية صالحِ بنِ خَوّاتٍ أخذَ مالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وأبو ثور، ورجحوا بأنه أحوطُ للصلاة؛ لقلةِ الأفعالِ فيها (¬1). قال الشافعيُّ: ولأنهُ أكثرُ موافقةً للقرآن؛ لأن اللهَ سبحانه ذكرَ صلاةَ الطائفتين معه، وإذا أتموا لأنفسِهم، لم تكنْ جميعُ صلاتِهم معه، ولأن اللهَ سبحانه لم يذكرْ على الإمامِ ولا على واحدةٍ من الطائفتين قضاءً، ولأنَّ اللهَ سبحانه وصفَ الطائفةَ الآتية أنها لم تصلِّ، ولو صلَّتْ ركعةً ثم انصرفتْ ورجعتْ لم يقعْ عليها الوصفُ بأنَّها لم تصلِّ، ولأنه أبلغُ في الحِراسةِ ومَكيدةِ العدوِّ، ومعلومٌ أن منْ هو خارجَ الصلاة أكملُ في الحراسةِ ممَّن هو فيها؛ لأن غيرَ المصلي يتكلمُ بما يَرى من حركةِ العدوِّ وإرادته، ويخبر عنه بالمَدَدِ وغيره، فيخففُ الإمامُ والمصلون لذلك، أو يأخذون حِذْراً أبلغَ من الأولِ، أو يخبر الإمامَ أن حركةَ العدو حركةٌ لا خوفَ فيها، فيتمكن من صلاته، فلا يعجل فيها. وفي غيرها من الروايات: تُصَلِّي الطائفتانِ مع الإمامِ بعضَ الصلاة، ولا يكون لهما (¬2) حارس إلا الإمام (¬3). ولم يأمرِ اللهُ سبحانه إلا بحراسةِ إحدى الطائفتين [للأخرى]. وكان الأخذُ بروايةِ صالحِ بنِ خَوَّاتٍ أبلغَ في الحذر، وأقوى في المكيدة، وأحوطَ للصلاة، وأكثرَ موافقةً للقرآن (¬4). ولهذا قال فيه مالكٌ: ¬
وهذا أحسنُ ما سمعت في صلاةِ الخوف (¬1). إلا أن مالكاً رواهُ في "الموطأ" موقوفاً على سَهْلِ بن أبي حثمة، وفيه أنه لما قضى الركعة بالطائفةِ الثانية سَلَّم، ولم ينتظرهم (¬2) حتى يفرغوا من الصلاة (¬3). واختار هو وأبو ثورٍ هذه الصفة؛ لموافقتها الأصولَ؛ لأن الإمامَ متبوعٌ لا تابع ولا مختلَف عليه (¬4). واختار الشافعيُّ العمل بالرواية المسندة، وهي أن ينتظرَهم ويسلمَ بهم؛ لأنه أقوى؛ لاتصاله، واختاره أحمدُ مع إجازتهِ لجميعِ صلاةِ الخوف (¬5). ولمالكٍ قول كمذهبِ الشافعيِّ (¬6). ثم ذهب قوم إلى أن هذا اختلاف من جهةِ المُباح، فيجوزُ للإمام أن يصليَ بهم بأيِّ روايةٍ وردتْ في السنة. قال الإمامُ أحمدُ: كلُّ حديثٍ رُوي في أبوابِ صلاةِ الخوفِ فالعملُ به جائز (¬7). ¬
وعند أصحابِ الشافعيِّ خلافٌ فيما إذا صلى بما رُوي عن ابن عمرَ هل تصح الصلاة أو لا؟ (¬1). الصفة الثالثة: صلاةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ببطْنِ نَخْلٍ في غزوةِ ذاتِ الرقاعِ أيضاً: وهي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بكلِّ طائفةٍ ركعتينِ، خَرَّجها الشيخانِ عن جابرٍ (¬2)، وأبو داودَ في "سننه" عن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه (¬3) -، فكانتِ الطائفةُ الثانيةُ مُفْترِضين خلفَ مُتَنَفِّلِ، وبه أخذَ الشافعيُّ (¬4)، وكان يفتي به الحسنُ البصريُّ (¬5)، وادَّعى الطَّحاوِيُّ أنه منسوخٌ (¬6)، ودعواهُ مردودةٌ؛ إذْ لا دليلَ عليها. الصفة الرابعة: ويقالُ إنها: صلاةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بذي قَرَد. روي عنْ (¬7) حُذيفةَ -رَضيَ اللهُ تعالى عنهُ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -صَلَّى بإحدى الطائفتينِ ركعةً، وبالأخرى ركعةً، ولم يقضوا شيئاً (¬8). ¬
ورويَ أيضاً عن زيدِ بنِ ثابت، وقال: كانتْ للقومِ ركعة ركعة، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتان (¬1). وتأوله قومٌ على صلاة شدةِ الخوفِ، وقالوا: الفرضُ في هذه الحالة ركعةٌ واحدة (¬2). قال الشافعيُّ: وإنما تركناه؛ لأن جميعَ الأحاديثِ في صلاةِ الخوف مجتمعةٌ على أنَّ على المأمومين من عددِ الصَّلاة ما على الإمامِ، وكذلك أصلُ الفرض في الصلاةِ على الناسِ واحدٌ في العدد، ولأنه لا يثبتُ عندَنا مثلُه لشيءٍ في بعضِ إسناده، ولا يثبتُ أهلُ العلمِ بالحديثِ مثلَه (¬3). * إذا تقرر هذا، فقد اتفقَ جُمهور أهلِ العلم على جَواز صلاةِ الخوفِ بعدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، ولم يخالفْ إلا بعضُ فُقهاءِ الشام، والمزنيُّ، وأبو يوسفَ. فأما أهلُ الشامِ والمزنيُّ (¬5)، فادعَوا نسخَها، وقد بَيَّنّا بُطلانَه. ¬
وأما أبو يوسفَ، فزعم أنها من خصائِصِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنها لا تجوزُ بعدَهُ إلا بإمامينِ، يصلي كلُّ واحدٍ منهما بطائفةٍ ركعتين. وتمسك بالمفهومِ والنظرِ: أما المفهومُ، فاعتقد أن قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] يقتضي تخصيصَه. وأما النظُر، فإنها صلاةٌ على خِلافِ المُعْتادِ من هيئةِ الصلاة، وفيها أفعال كثيرة مباينة لصفةِ الصلاةِ تقتَضي إخلالَها، فجاز أن تكونَ المسامحةُ بسببِ فضيلةِ إمامةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك مخير حالَ صلاةِ المؤتمين به (¬1). ورُدَّ ذلك بأن الصحابةَ -رضي الله تعالى عنهم- لم يزالوا على فِعْلِها بعدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا منكرَ فيهم، فكان إجماعاً، ولأنه قال: "صَلُّوا كما رأيتُموني أصَلِّي" (¬2)، والأصلُ وجوبُ التأسي، وعدمُ التخصيص، فالشرط المذكور في الآية لذِكْرِ الحال، لا للتعليق، فدل على أن فعلَها على خلافِ صفتها المعتادةِ؛ لِخُصوصِ الضرورةِ الموجودةِ في وقته - صلى الله عليه وسلم -، لا بخصوص وقته، والضرورةُ موجودة بعده - صلى الله عليه وسلم -، فجازَ أن تُفعل، ولأنه لو كانَ من خصائِصه، لبينَهُ - صلى الله عليه وسلم -؛ لِما فرضَ اللهُ عليه من بيانِ كتابِه العزيز (¬3). * ثم أمر اللهُ سبحانه عبادَه بالحذرِ وأخذِ السلاح، وهذا الأمرُ للوجوبِ. ¬
وبينَ (¬1) وجوبَه قولُه تعالى في آخر الآية: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] وهذا الوجوب متفق عليه بينَ المسلمين. فيجب عليهم الحذرُ من عدو الله سبحانه، ومراقبةُ غَدْرِه ومَكْرِه، ويجب عليهم حملُ السلاحِ إن خافوا بأسَهُمْ وكيدَهُمْ، ولا يجوزُ لهم تمكينُهم من غارَتهم والاستسلامُ لهم بنيةِ الطلبِ للشهادةِ، بل يجبُ ذلك وجُوباً مُطْلقاً. وليس المرادُ بأخذِ السلاح ملازمةَ حملِه وتناوله، بل المرادُ إما حملُه أو وضعُه قريباً بحيثُ يمكنُ المجاهد تناولُه على قرب وسهولة، ويكون حذراً، كما قالَ الله تعالى عندَ وضعِ السلاح للعذرِ: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 102]. ويختلفُ ذلكَ باختلافِ مواطنِ الحربِ ومواقفه. * واختلف أهلُ العلمِ في المُجاهدِ هل يجبُ عليه حملُ السلاح (¬2) حالَ الصلاة؟ - فقال أبو حنيفةَ، والشافعي -في أحدِ قوليه (¬3) -: لا يجبُ، ويكونُ الضميرُ في قوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] عائداً على الضمير الذي قبلَه، والمرادُ به الطائفةُ التي لم تُصَلِّ، ¬
وكانت وراءهم، فالضمير في قوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} عائدٌ على الطائفةِ التي قد صَلَّتْ. ويروى هذا التأويلُ عن ابنِ عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما (¬1) -. - وقال غيرُه: المرادُ بالأمرِ الطائفةُ المُصَلِّية، وبه قالَ داودُ، والشافعيُّ في قوله الآخر (¬2). وهو الصحيحُ عندي -إن شاء الله تعالى-؛ لأن عَوْدَ الضميرِ على الأقربِ أولى وأرجَحُ، ولأن اللهَ سبحانه لم يرخِّصْ في تركِ السلاحِ إلا في حالتِي المَطَرِ والمَرَضِ خاصَّةً، فدلَّ على أنه لا يَخُصُّه في تركه في غيرِ الحالتين، ولأن إحدى الطائفتين تحرُسُ الأخرى، إما في سجودها كصلاةِ عُسْفان، أو بالخروج إلى وجهِ العدو في حالِ الصلاةِ كما في روايةِ ابنِ عمرَ وابنِ مسعود -رضي الله تعالى عنهما- في صلاةِ ذاتِ الرقاع، ولا معنى للحراسة بغيرِ سلاح، والله أعلم. وقد تقدمَ الكلامُ على الصلاةِ في شدةِ الخوف. * وأمر الله سبحانه بالقيامِ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فيحتمل أن يكونَ للاستحباب، فلو أرادوا أن يصلُّوا منفردين، جاز لهم؛ بدليل قوله: "صلاةُ الجماعَةِ أَفضَلُ من صَلاة الفَذِّ بِسَبْعٍ وعِشْرينَ دَرَجَة" (¬3)، وبه قالَ جمهورُ ¬
الفقهاءِ؛ كمالكٍ، والشافعي، وأبي حنيفة (¬1). ويجوزُ أن يكونَ للوجوبِ، وهو الظاهرُ، بدليل فعلِه - صلى الله عليه وسلم -، فلم يصلِّ صلاةً إلا في الجَماعة، وبدليلِ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أثقلُ صلاةٍ على المنافقينَ صلاةُ العشاء وصلاةُ الفَجْر، ولَو يَعْلَموا ما فيهما، لأتوْهُما ولو حَبْواً، ولقد هَمَمْتُ أن (¬2) آمرَ بالصلاةِ فَتُقامَ، ثم آمرَ رجلاً فيصلي بالناسِ، ثم أنطلقَ معي برجالٍ معهم حُزَم من حَطَبٍ إلى قومٍ لا يَشْهدونَ الصلاةَ، فأحرقَ عليهِمْ بيوتَهُمْ بالنارِ" خرجه الشيخان (¬3). وبدليل ما خرَّجه مسلم عن أبي هريرةَ -رضي الله تعالى عنه- قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى، فقال: يا رسولَ الله! إنه ليسَ لي قائد يقودُني إلى المسجدِ، فسأل رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يرخصَ له فيصليَ في بيتِه، فرخَّص له، فلما وَلَّى، دعاهُ فقال: "هل تسمعُ النداءَ بالصلاة؟ "، فقال نعم، قال: "فأجب" (¬4). * ثم افترق القائلون بالوجوب. فقالَ قومٌ: هيَ فرضٌ على الكِفاية، وهو قولٌ يروى للشافعيِّ ومالِكٍ (¬5). ¬
وقال فريقٌ: هي فرضٌ على الأعيان، وبه قال داودُ وأحمدُ (¬1)، وبعض الشافعية (¬2). * ثم اختلفوا في صِفَةِ هذا الوُجوب. فقال داود: هي شرطٌ في صِحَّةِ الصلاةِ؛ كالجماعَةِ في الجُمعةِ، وقيل: إنها روايةٌ عن أحمدَ أيضاً، والمشهورُ خلافُه (¬3). * * * 98 - (40) قولُه عَزَّ وجَلَّ: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. * المرادُ بقضاء الصلاةِ في هذهِ الآيةِ الأداءُ، أي: أَدَّيْتُمُ الصَّلاةَ، لا حقيقةُ القضاء الذي هو استدراكٌ، لِما فاتَ، وذلك مُقْتَصٌّ من قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200]، وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]. * وأما الذكرُ المأمورُ به في الأحوالِ المذكورةِ. فيحتمل أن يكون المرادُ به الحَثَّ على مُطْلَقِ الذكرِ لله تعالى، ولا شكَّ في أنهُ مُسْتَحَبٌّ عقيبَ قضاءِ الصلاةِ (¬4). ¬
فقد روى الشيخان في "صحيحهما" عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أن رفعَ الصوتِ بالذكرِ حينَ ينصرفُ الناسُ من المكتوبةِ كانَ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعتُه (¬1). ويحتمل أن يكونَ المرادُ بالذكرِ ذكراً مخصوصاً، وهو الصلاةُ، وهذا المعنى هو الظاهرُ من سياقِ الخطاب (¬2). ويدلُّ عليه قولُه تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 103]. وما رُوي عن ابنِ مسعود -رضي الله تعالى عنه-: أنه رأى الناسَ يَضِجُّونَ في المسجد، فقال: ما هذه الضجة؟ فقالوا: أليس اللهُ تعالى يقول: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]، فقال: إنما تعني هذه الآيةُ الصلاةَ المكتوبةَ، إن لم تستطعْ قائماً فقاعداً، فإن لم تستطعْ فعلى جنبك (¬3). فبين اللهُ سبحانه فيها حُكْمَ أصحابِ الضرورةِ القائمةِ بهم بعدَ بيانِ حكمِ أصحابِ المشقةِ من أولي السفرِ والقتال، وذو الضرورة أولى بالجوازِ منهم. ¬
وقد بين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ كما وردَ في الآية الكريمة، فقال لعِمْرانَ بن الحصين -رضي الله تعالى عنه-: "صَلِّ قائماً، فإنْ لمْ تَسْتَطعْ، فقَاعِداً، فإنْ لم تَسْتَطعْ، فعلى جَنْبٍ" (¬1). * وقد أجمع أهلُ العلم على أن المريض مخاطَبٌ بأداءِ الصلاة، وعلى أنه يسقط عنهُ فرضُ القيامِ والقعود إذا لم يستطعهما. ومذهبُ الشافعيِّ أنه إذا عجزَ عن القعودِ، صَلَّى مضطجعاً على جنبه مستقبلَ القبلةِ، إلا إذا لم يمكنْه، ذلكَ فيصلي مستلقياً، ورجلاهُ إلى القبلَةِ كما ورد في الكتابِ والسنة (¬2). وبه قال أحمدُ بنُ حنبل، واختاره ابنُ المنذر (¬3)، ورويَ عن عمرَ -رضيَ الله تعالى عنه (¬4) -. وقال قوم: إذا عجزَ عن القعودِ، صلَّى مستلقياً، ورجلاه إلى القبلة. ¬
وبه قالَ بعضُ الشافعية (¬1)، وزعموا أنه أكملُ في استقبالِ القبلة، ويروى عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما (¬2) -. وقال بعض الشافعية: يضطجعُ على جنبه، ويستقبل القبلةَ برجليه (¬3). * واختلفوا في صفةِ العُذرِ المبيح للقعود، أو الاضطجاع. فقال قوم: هو الذي لا يستطيع القيامَ والقعودَ بحال، وتمسكوا بظاهرِ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنْ لمْ تَسْتَطَعْ". وقال قومٌ: هو الذي يشقُّ عليه ذلك، وهو مذهبُ مالكٍ والشافعيِّ (¬4)، واعتبروه بتخفيف الشرع في نظائره من المواطن؛ كالفِطْر للمسافرِ، والتيمُّم ¬
للمريض؛ استدلالاً بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. * ولما ذكر الله سبحانه حكمَ أصحابِ الضرورات، أمرهم بإقامةِ الصلاة على وَجْهِها عندَ زوالِ ضرورتهم، وهو وقتُ اطمئنانِهم واستقرارِ حالهم. فالمسافرُ إذا أقام واطمأنَّ أقامَها أربعاً، والخائف إذا أمنَ يُقيمُ سكينتها وطُمَأنينتَها، ولا يَخْتَلِفُ على الإمام فيها، والمريضُ إذا شُفِي يقيمُ قيامَها وركوعَها واعتدالَها وسجودَها. * ثم عرَّفنا الله سبحانه تأكيدَ فرضِها وصفتها، فقال: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، أي: مكتوباً مقدراً، فالمصدر بمعنى المفعول، والمقدَّر هو المؤقَّتُ (¬1). فقد يكونُ في أَعدادِها، وقد يكون في مواقيتها، وكلُّ ذلك قد بينه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً. وأجمعَ المسلمون على أن للصلاة أوقاتاً مؤقتة هي شرطٌ في صحتها، وأن منها أوقاتَ فضيلة، وأوقاتَ توسعة، واختلفوا في تحديد أوقات الفضيلةِ وأوقاتِ التوسعة؛ لتعارُضِ الأحاديثِ الواردِة في ذلك، وموضعُ تفصيلِه كتب الفقه (¬2). * * * ¬
من أحكام النكاح
(من أحكام النكاح) 99 - (41) قوله جَلَّ ثَناؤه: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} [النساء: 127]. * قال الكلبيُّ عنْ أبي صالحٍ عنِ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: نزلتْ هذه الآية في بَناتِ أُمِّ كُجٍّ وميراثِهنَّ من أبيهنَّ (¬1). وقال عروةُ عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها-: نزلت في اليتيمةِ تكونُ في حِجْرِ الرجلِ، وهو وليها، فيرغبُ في نكاحِها (¬2)، وقد مضى ذكرُ القصتين في أولِ السورة. ولا اختلاف بينَ قولِ عائشةَ وابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهم-، بل يجوزُ أن يكونَ صدرُ الآية إلى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} في اليتيمة، ويكونَ عجزُها من قوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} في بناتِ أُمِّ كُجٍّ. * والاسم الموصول في قوله تعالى: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} في موضع ¬
رفعٍ بالعطف (¬1)، إما على المبتدأ، وإما على الفاعل في {يُفتِيكُمْ}، ومعناه: "وما يُتلى عليكم في الكتابِ يفتيكم"، أو: "ويُفتيكم ما يُتلى عليكم في الكتاب" (¬2). * * * 100 - 101 (42 - 43) قوله جَلَّ جَلالهُ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128]. * ذكر الله سبحانه حُكْمَ الرجلِ مع نسائهِ، وندبَ كُلَّ واحدٍ من الزوجِ والزوجةِ إلى إسقاطِ حَقِّهِ عندَ نشوزِ صاحِبه؛ لما فيه من البقاء على حُسْنِ العهد. فبين اللهُ سبحانه أنه يجبُ عليه العَدْلُ بينَ أزواجه فيما يستطيعه من الواجبات؛ كالنفقةِ والكسوةِ والإيناسِ بالمبيت، ولا يجب عليه العدلُ فيما لا يدخلُ تحتَ استطاعته؛ كالمحبة والوِداد، فأيُّهما أسقطَ حَقَّهُ، وغلبَ نَفْسَه، كانَ محسناً. فإن أرادَ فِراقها، إما لِكِبَرٍ أو دَمامةٍ، ورضيتْ بالصُّلحِ على إسقاطِ حَقِّها، وتسليمِ شيءٍ منْ مالِها؛ لبقاءِ قَسْمِها، كانت محسنةً، ولا جُناح على الرجلِ في قَبول ذلك، بل هو أفضلُ من تفارُقِهما، وإن صبرَ على كبرِها، وأوفاها حَقَّها، كان مُحْسناً (¬3). ¬
وقد بين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك (¬1) عن الله سبحانَه. روى هشامُ بنُ عروةَ، عن أبيه قال: قالت عائشة: يا بنَ أختي! كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُفَضِّلُ بَعْضنا على بَعضٍ في القَسْمِ منْ مُكْثِه عندَنا، وكان قَلَّ يومٌ إلا وهو يطوفُ علينا جَميعاً، فيدنو من كلِّ امرأة من غير مَسيس، حتى يبلغَ التي هو في يومها، فيلبَثُ عندَها، ولقد قالَتْ سَوْدَةُ بنتُ زَمْعَةَ حينَ أَيِسَتْ (¬2) وفَرِقَتْ أن يفارقَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! يومي لعائِشةَ، فقبلَ ذلكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالت: تقول: في ذلكَ أنزلَ اللهُ، وفي أشباهها، أراهُ قال: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] الآية (¬3). وقد عُلِم هذا من بيانِ الآيةِ التي قبلها. وأما قولُه تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء: 129]، فالمراد به العدلُ بينهنَّ بميلِ القلبِ والمحبَّةِ، فذلك غيرُ داخلٍ تحتَ ¬
الاستطاعة، ولو حَرَصَ عليهِ الرجلُ، ولهذا تجاوزَ الله عنه (¬1). وإنما نهى عن موافقةِ ميلِ القلب بميلِ الفعلِ، فهذا لا يجوز؛ كما نهى الله تعالى عنه، وكما بينه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان يقسمُ لنسائه في المرض، ولا يسافرُ بامرأةٍ إلا بقُرْعَةٍ، وكان يقسمُ ويعدلُ ويقولُ: "الَّلهُمَّ هذا قَسْمي فيما أَمْلِكُ، فلاَ تُلْمني فيما تَمْلِكُ ولا أَمْلِكُ" (¬2). وبين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مع كتابِ الله سبحانه أنَّ من العدلِ أن يُقيمُ الرجلُ إذا تزوَّج جديدةً عندَها سَبْعاً إنْ كانَتْ بِكْراً، أو ثَلاثاً إن كانت ثيِّباً (¬3)، ولا يفتقرُ إلى رِضا أزواجِه، ولا قضاءَ عليه في ذلك (¬4). * * * ¬
من أحكام الشهادات
(من أحكام الشهادات) 102 - (44) قوله عَز وجَل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135]. * أمر الله سبحانه في هذه الآية وفي غيرها من الآيات عبادَه المؤمنينَ بالقِيام بالقِسْطِ والعَدْلِ في الشَّهادَةِ، ولو على أنفُسِهم، وهي الإقرارُ. ونهاهم عن العدولِ عنِ القِسْطِ واتباعِ الهوى، والإعراضِ عن القيامِ بأدائها، سواءٌ كان المشهودُ عليه غَنِياً أو فَقيراً، قريباً أو بعيداً. وهذا أمرٌ مجمَعٌ عليه بينَ المسلمين (¬1). والآية نزلتْ في مقيسٍ الأنصاريِّ حين قالَ: إن على أبي خَمْسَ أواقٍ، وهو مُعسرٌ، أَفَلي أن أكتم الشهادة؟ (¬2). * وقد أجمع العلماءُ على إجازةِ شهادةِ الولدِ على والدِه، وكذلك الوالدِ ¬
على ولدِه (¬1)، وأما شهادَةُ أحدِهما للآخر، فقد أجازَها ابنُ شهابٍ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيز وإسحاقُ، والمزنيُّ (¬2). ومنعها مالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ (¬3). ويروى عن الحسنِ والنَّخَعِيِّ وشُريحٍ (¬4). * * * ¬
من أحكام المواريث
(من أحكام المواريث) 103 - (45) قولُه عَزَّ وجَلَّ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]. * وتسمى آيةَ الصيف؛ لأن الله سبحانه أنزلَ في الكلالةِ آيتين: آيةً في الشتاء، وهي الأولى (¬1)، وآيةً في الصيف (¬2)، وهي هذه (¬3). ¬
* والمرادُ بالكَلالةِ في الآيةِ الأولى هو مَنْ لا وَلَدَ لهُ ولا ولدَ ابنٍ، ولا أبَ ولا جَدَّ، أو مَنْ عَدا الولدَ وولدَ الابنِ والأبَ والجدَّ. وما أعلم في ذلك خِلافاً بينَ أهلِ العلمِ (¬1). وأما المرادُ بها في هذهِ الآية، فقدِ اختلفوا فيها اختلافاً عظيماً، وعظمَ شأنُ ذلكَ عليهم (¬2). قال مَعْدانُ بنُ أبي طلحةَ: خطبَ عمرُ بنُ الخَطَّاب -رضي الله تعالى عنه- يومَ جمعةٍ، فذكر نبيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وذكرَ أبا بكرٍ -رضي الله تعالى عنه- ثم قال: لا أدعُ بعدي شيئاً أهمَّ عندي من الكَلالَةِ، ما راجَعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في شيءٍ ما راجَعْته في الكَلالَة، وما أَغْلَظَ لي في شيءٍ ما أغلظَ لي فيه، ¬
حتى لقد (¬1) طَعَنَ بأصبُعِهِ في صَدْري، وقال: "يا عمرُ! ألا تكفيكَ آيةُ الصَّيْفِ التي في آخِر سورة النساء"، وإني إن أعشْ أَقْضِ فيها بقضيَّةٍ يقضي بها من يقرأُ القرآنَ ومَنْ لا يقرأُ القرآن (¬2). وقال عمرُ -رضي الله تعالى عنه-: ثلاثٌ لأَنْ يكونَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيَنَهُنَّ لنا أَحَب إلينا منَ الدنيا وما فيها: الكلالةُ، والخلافةُ، وأبوابُ الربا (¬3). وسأل رجلٌ عقبةَ عن الكَلاَلةِ فقال: ألا تعجبون من هذا يسألُني عن الكَلالةِ، وما أعضلَ بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء ما أعضلَتْ بهمُ الكلالَةُ (¬4). والذي عليه أكثرُ الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، وادَّعى بعضُ أهلِ العلمِ الإجماعَ عليه: أن الكلالةَ ما عدا الوالدَ والولدَ (¬5). وهو قولُ أبي بكر وعمرَ، رضي الله تعالى عنهما. قال الشعبيُّ: سُئل أبو بكر عن الكَلالة، فقال: إني سأقولُ فيها قولاً برأي، فإن كانَ صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمنِّي ومنَ الشيطان، أراهُ ما خلا الولدَ والوالدَ. فلما استُخلفَ عمرُ فقال: إني لأَستحيي من الله تعالى أن أرد شيئاً قالَهُ أبو بكرٍ (¬6). ¬
وروي عن ابنِ عمرَ وابنِ عباس -رضي الله تعالى عنهم- في إحدى الروايتين عنه: أنه مَنْ ليسَ لهُ ولد (¬1). وإليه ذهبَ طاوسٌ (¬2)، والشيعة (¬3). واستدلُّوا بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176]، فلم يشترط إلا (¬4) فُقْدانَ الوالد. وأجيبَ بأنَّ الوالدَ، وإن كانَ محذوفاً من اللفظ، فهو مُقَدَّرٌ فيه، ويدل عليه أن الآيةَ نزلتْ في شأنِ جابرِ بنِ عبد الله -رضي الله تعالى عنهما-، ولم يكن له يومئذ وَلَدٌ ولا والدٌ. قال جابرٌ: عادني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مريضٌ لا أعقلُ، فتوضَّأَ وصَبّوا (¬5) عليَّ وَضوءَهُ، فعقلتُ، فقلت: يا رسول الله! لمن الميراث؟ إنما يرثنُي كلالَةٌ، فنزلتْ آية الميراث، يريد: قولَه تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} (¬6) [النساء: 176]. فإن قالَ قائلٌ: فما معنى قولِ من قالَ: إنَّ الكلالَةَ من لا ولدَ لَهُ، فإنه يقتضي أن الإخوة يرثونَ معَ الأبِ، وقدِ انعقدَ الإجماعُ على أن الأبَ ¬
يحجُب الإخوة (¬1)، فإن كانَ فائدَتُه توريثَ الإخوة مع الأبِ؛ كما رويَ عنِ ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-، وذهبَ (¬2) إليه الشيعةُ، فقد قالَ القاضي عِياض: الروايةُ بهذا باطِلَة، والصحيحُ عنه موافقةُ جماعةِ أهل العلم؟ (¬3) قلنا: الظاهرُ أنه أراد: من لا ولدَ له ولا والدَ، وإنما سكتَ عن ذكره؛ لئلا يدخلَ فيه الجَدُّ، والله أعلم. * إذا تقررَ هذا، فقد أجمعَ المسلمون على حُكْم هذه الآيةِ، وعلى تنزيل الإخوة للأب مع الأخوة للأبوين منزلةَ بني الابن مع بني الصلْب، فلا يرثُ الإخوة للأب مع الإخوة للأب والأم شيئاً، ولا ترثُ الأخواتُ للأبِ مع الأخواتِ للأبِ والأم إذا استكملْنَ الثلثينِ شيئاً؛ كبناتِ الابنِ مع بناتِ الصُّلْبِ. واختلفوا إذا كانَ معهنَّ ذَكَرٌ. - فقالَ الجُمهور: يعصبُهُنَّ كما يعصِبُ ابنُ الابنِ بناتِ الابن (¬4). - وقال أبو ثور: المالُ للأخ دونَهُن (¬5). - وقال ابنُ مسعودِ -رضي الله تعالى عنه-: إذا استكملَ الأخواتُ الشقائقُ الثلثينِ، فالباقي للذكر، ولا يعصبُهن، وإن لم يستكملْن الثلثين، ¬
فإنه يقاسمهُنَّ، للذَّكَرِ مثلُ حَظِّ الأنثيين، إلا أن يكونَ الحاصِلُ للأخواتِ أكثرَ من السُّدُسِ، فلا يزدْن على السدسِ؛ كما فعلَ في بناتِ ابنِ الابنِ مع أخيهنَّ مع بناتِ الصُّلب (¬1). * وأجمعوا على أن الإخوة للأبِ والأمِّ مقدَّمون على الإخوة للأبِ (¬2). * واختلفوا فيما لو تركَ بنتاً وأختاً لأبوين، وأخاً لأب. فذهب الجُمهور إلى أن للبنتِ النِّصْفَ، والباقي للأختِ، ولا شيء للأخ. وقال ابنُ عباسٍ: للبنتِ النصفُ، والباقي للأخ دونَ الأختِ (¬3)، وسيأتي مأخذُه قريباً -إن شاء الله تعالى-. * وأجمعوا على أن الإخوة للأب يقومون مقامَ الإخوة للأبوين عندَ فقدهم، كما يقومُ بنو الابن عندَ فقدِ بني الصُّلْب (¬4). * وأجمعوا على أن الأخ يَعْصِبُ أخواته، فيأخذْنَ ما بقيَ بعدَ الفرض (¬5). ¬
* واختلفوا في موضع واحد، وهو إذا توفيتِ امرأةٌ، وتركتْ زوجَها وأمَّها وأخوينِ لأمها، وإخوةً لأبيها وأمها (¬1). فكان علي، وأبيُّ بنُ كعبٍ، وأبو موسى -رضي الله تعالى عنهم- يعطون الفرائضَ أهلَها، فلا يبقى للإخوة شيءٌ (¬2). وبه قال ابنُ أبي ليلى، وأحمدُ (¬3)، وأبو ثورٍ، وداودُ (¬4). وكان عمرُ وعثمانُ وزيد -رضي الله تعالى عنهم- يقسمونه بينهم (¬5). وبه قالَ مالكٌ، والشافعيُّ والثوريُّ (¬6)؛ لأنهم ... ... ... ... ¬
يشاركونهم (¬1) النَّسبَ الذي يرثون به، فوجبَ أن يشاركوهم في الميراث. واحتجَّ الأولون بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقْسِموا المالَ بينَ أَهْلِ الفَرائِضِ على كتابِ اللهِ، فما تَرَكَتْ فَلأِوَلْى رَجُلٍ ذَكَرٍ" (¬2). وتعرف هذه المسألةُ بالمُشَرِّكة (¬3). فإن قال قائل: فإطلاقُ الآيةِ يقتضي أن الأخَ والأختَ لا يرثان مع وجود الولدِ على كل حال. قلنا: المرادُ بالولدِ الذكُر. فإن قالَ: فما دليلُك على ذلك، وعلى (¬4) أن الأخَ يرثُ مع البنت؟ قلنا: إجماعُ عامةِ أهلِ العلمِ على أن الابنَ يحجُبُ الأَخَ، وأما ميراثُه مع البنتِ، فالدليل عليه قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "اقسموا المالَ بين أهلِ الفرائضِ على كتابِ الله، فما تركت فلأَولى رجلٍ ذكر". فإن قال: فهذا الحديثُ يقتضي أن الأختَ لا ترثُ مع البنتِ شيئاً، فيدلنا ذلك على (¬5) أن المرادَ بالولدِ الذكرُ والأنثى، فحينئذ يتفقُ مفهومُ الكتابِ والسنَّةِ على أن الأختَ لا ترثُ مع البنتِ شيئاً. ¬
قلنا: الحديثُ يدلُّ على ما ذكرتَ من عدمِ ميراثِ الأختِ مع البنت، وعلى عُموم الولدِ للذكرِ والأنثى. ولهذا ذهب داودُ وطائفةٌ إلى أنها لا ترثُ مع البنتِ شيئاً، وهو قولُ ابنِ عَبّاسٍ -رضي الله تعالى عنهما (¬1) -. ولكن العمومَ لا تقومُ دلالتُه إلا إذا لمْ يعارضْهُ ما هو أقوى منه. وهذا العمومُ والإطلاقُ قد عارضَهُ ما روى ابنُ مسعودٍ -رضي الله تعالى عنه-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ابنةٍ وابنةِ ابنٍ وأختٍ: للبنتِ النصفُ، ولابنةِ الابنِ السُّدُسُ تكملة الثلثين، وما بقيَ فللأخت (¬2). فذهب الجمهورُ إلى هذا النص، وخَصُّوا به العمومَ، ودلَّهم على أن المرادَ بالولدِ الذكرُ، لا عمومُ الذكرِ والأنثى، فالخلافُ آيِلٌ إلى أن الوراثةَ مع البنتِ هل هيَ كَلاَلة أو لا؟ فعند الجمهورِ كلالة (¬3). وعندَ ابنِ عباسٍ وداودَ ليسَ بكلالةٍ، وكانَ ابنُ الزبير يقولُ في هذه المسألةِ بقولِ ابنِ عباسٍ حتى أخبرَهُ الأسودُ بنُ زيدٍ أنَّ معاذاً قَضى في بنتٍ وأختٍ، فجعل المالَ بينهنَ نصفين (¬4). فإن قلت: فالكلالةُ هل المرادُ بها الوارثُ أو الميت؟ ¬
قلت: أما في اللغةِ؛ فإنَّها تقعُ على الوارثِ، قال ابنُ الأعرابيِّ: الكلالةُ هم بنو العَمِّ الأباعدُ (¬1)، قال الفرزدق: [البحر الطويل] وَرِثْتُمْ قَناةَ المَجْدِ لا عَنْ كَلالَة ... عَنِ ابْنَي مَناتٍ عَبْدِ شَمْسٍ وهاشِمِ (¬2) ومنه قولُ جابر -رضي الله تعالى عنه-: وإنما يرثنُي كلالَةٌ (¬3)، وحكيَ عن أعرابى أنه قال: مالي كثيرٌ، ويرثنُي كلالةٌ مُتَراخٍ نَسَبُه (¬4). وقد يقعُ على الميتِ، يقال منه: كَلَّ الرجُلُ يَكَلَّ كَلاَلةً، وهي مأخوذَةٌ من التكلُّلِ، وهو الإحاطةُ بالميتِ، فإذا ذهب أبوه وولدُه، فالعَصَبَةُ محيطون به، متكللون نَسَبَهُ، ومنه سُمِّيَ الإكليل (¬5). وأما المرادُ بها في القرآن، فالمراد بها هنا -والله أعلم- الوارثُ. لما رويناه في "صحيح مسلم" من حديثِ جابرٍ (¬6)، فإنه إنَّما سألَ عنِ الوارثِ منَ الكَلالة، فأنزل الله سبحانه الآيةَ بياناً لسؤالِه، واستوفى (¬7) حُكْمَ الكلالَةِ منَ الذكورِ والإناثِ. وهذه الكلالَةُ هي التي عَظُمَ على الصَّحابةِ أمرُها. ¬
لأن منهم منْ يورثُ الكَلالَةَ معَ الجَد؛ لأن اللهَ سبحانه قال في توريثها: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176]، ولم يشترط عدمَ الوالِد والجَدّ صريحًا (¬1). فأما الوالدُ فاشتراطُه واجبٌ بالإجماع، وبقيَ الجَد على عدِم الاشتراط. ومنهم من لمْ يُوَرثْها؛ كأبي بكر -رضي الله تعالى عنه (¬2) -. ولما رأى الإجماعَ قامَ باشتراطِ الأبِ، وهو غيرُ مذكورٍ، وجعلَ الجَدَّ مثلَه، وهو لا يجوز أن يقعَ عندهم الكلالةُ على الميتِ، ولا يمتنع أن يقعَ على الوارثِ أيضاً، فمن أجل تحرجهم في الجَد، تحرجوا في الكلالة، -رضي الله تعالى عنهم-. وأما المراد بالكلالةِ في آيةِ الشتاء. فيجوزُ أن يُراد بها المَيتُ، لأن ولدَ الأم لا يرثُ مع الجَد شيئاً بالإجماع. ويجوز أن يرادَ بها الوارثُ، ولهذا قرئ (وإن كانَ رجلٌ يُورِثُ كلالة) (¬3) بفتح الراء وكسرها، فمن كسَرها أوقعها على الوارِث، ومن فتحَها فيجوزُ أن يقعَ على الوارثِ أيضاً، ويكونُ التقديرُ: وإن كانَ رجلٌ يورثُ ذا كلالة، ويجوز أن يقعَ على الميتِ، وينتصب كلالة على الحالِ، ¬
وهو الظاهرُ، وهذا ما انتهى إليه فَهْمي وبَحْثي في الكلالةِ، والله أعلمُ، فإن كان صواباً فمنَ الله، وإن كان خَطَأً فمنِّي، وأستغفرُ اللهَ الغفورَ الرحيمَ (¬1). * * * ¬
سورة المائدة
سُورَةُ المَائِدَةِ
من أحكام المعاملات
(من أحكام المعاملات) 104 - (1) قوله عَزَّ وجلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]. أقول: أصلُ العَقْدِ في اللُّغَةِ: الشَّدُّ والرَّبْطُ (¬1). ثم استُعمل استعمالاً غالِباً في عُهود الحِلْفِ، وأُطلقَ مَجازاً على عُهود اللهِ من التحليلِ والتحريمِ؛ بدليلِ قولهِ تعالى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]. فيحتمل أن يكونَ المرادُ بالعُقودِ هُنا عُهودَ الله تعالى؛ بدليل تعقيبه بذكرِ التحليلِ والتحريمِ، وهذا قول ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما (¬2) -. ¬
ويحتمل أن يكونَ (¬1) المرادُ ما غلبَ عليه الاستعمالُ، وهذا قولُ قَتادة (¬2). ويحتمل أن يرادَ به الأمرانِ جميعاً (¬3). * ولا شكَّ أن الوفاءَ بجميع ذلكَ واجبٌ (¬4). فأما عقودُ الحلفِ؛ فلقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 90]، وقوله تعالى: {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72]، وقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]، وغير ذلك من الآيات والآثار. والعلمُ يحيط بأن الوفاءَ بالعهدِ من مَعالم الدينِ، ومَكارِم الأخلاق، وقيامِ السياساتِ، فيجب على كل مؤمن من إمامٍ وغيرِه الوفاءُ بما عاهدَ (¬5) عليهِ، ما لم يكنِ الشرطُ حراماً. وخرج مسلمٌ في "صحيحه" عن حذيفةَ بن اليمانِ -رضي الله تعالى عنه- قال: ما منعني أن أشهدَ بَدْراً إلا أني خرجْتُ أنا وأبو حلسٍ، قال: فأَخَذَنا كُفّارُ قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمداً؟ قلنا: ما نريدُه، وما نريدُ إلا ¬
المدينةَ، فأخذوا منا عهدَ اللهِ وميثاقَهُ لننصرفنَّ إلى المدينة، ولا نقاتلُ معه، فأتينا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرناه الخبرَ، فقال: "انْصَرِفا، نَفي لَهُمْ بِعَهْدِهم، ونستعينُ اللهَ عليهم" (¬1). ولهذا ذكر علماؤنا أنه ينبغي للأسيرِ أن يفيَ ببذلِ المالِ الذي عاقدَ عليه الكفارَ أو البغاةَ، وإن استعانوا به على البغيِ والضلال. * * * ¬
من أحكام الأطعمة
(من أحكام الأطعمة) * ثم أحلَّ الله سبحانه في هذه الآيةِ، وفي "سورة الحجِّ" (¬1)، بَهيمةَ الأنعام، وهي الثمانيةُ الأزواجِ التي ذكرَ تفصيلَها في كتابه العزيز (¬2). وقيل: بهيمةُ الأنعام: الأَجِنَةُ التي في بُطون الأمَّهات، فهي تؤكلُ من (¬3) دونِ ذَكاة، وروي عن ابنِ عمرَ وابنِ عباس -رضي الله تعالى عنهم (¬4) -. والمشهور الأولُ (¬5). * ثم أحلها اللهُ سبحانه حلالاً مطلقاً، واستثنى منها شيئاً مبهَماً موعوداً ¬
ببيانه حتى يعظمَ موقعُه في النفوس، فتتوفر الدواعي على علمه ومعرفته، فقال: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]، ثم بينه وتلاه في هذه السورة بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] الآية. * ثم أحلَّ الله سبحانه بهيمةَ غيرِ الأنعامِ من الصيدِ بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]. * وبين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حكمَ غير ذلك من البهائم، فنهى عن كُلِّ ذي ناب من السباعِ، وذي مِخْلبٍ من الطير (¬1)، وحَرَّمَ لحومَ الحُمُرِ الأهليةِ، وأَذِنَ في لُحوم الخيلِ (¬2). * وحرم اللهُ سبحانه الصيدَ في حالةِ الإحرام، وذلك شيء مُجْمَلٌ؛ إذ لا يُدرى هل المرادُ أكلُه أو اصطياده؟ وسيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-. * * * ¬
من أحكام المعاملات
(من أحكام المعاملات) 105 - (2) قوله عَزَّ وجلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]. * نزلت في الحُطَم، وهو شُريحُ بن ضُبيعةَ بنِ هندٍ البكريُّ حينَ وصلَ حاجاً في بَكْرِ بن وائلِ، وقد قلدوا جمالَهم وَهَمَّ (¬1) المؤمنون بالإغارة عليه، وذلكَ أنه جاءَ وحدَهُ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وخَلفَ خيلَه خارجَ المدينةِ، فقال لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: ما تدعو إليه؟ قال: "شهادةُ أن لا إله إلا اللهُ، وإقامُ الصلاةِ، وإيتاءُ الزكاةِ" فقال: حَسَنْ، غيرَ أن لي أمراءَ لا أقطعُ أمرًا دونَهم، فلعلي أُسْلِمُ وأرجعُ بهم، فانصرف، فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "دخل بوجهِ كافرٍ، وخرجَ بَعقِبِ غادِر"، فمرَّ بسرحِ المدينةِ (¬2)، فاستاقَه وهو ¬
يَرْتَجِزُ ويقول: [من بحر الرجز] باتوا نِياماً وابنُ هِنْدٍ لمْ يَنَمْ ... باتَ يقاسِيها غُلامٌ (¬1) كالزَّلَمْ خَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ خَفَّاقُ القَدَمْ ... قَدْ لَفَّها الليلُ بِسَوّاقٍ حُطَمْ ليسَ بِراعي إبِلٍ ولا غنَمْ ... ولا بِجَزَّارٍ على ظَهْرِ وَضَمْ هذا أوانُ الشَّدِّ فاشْتدِّي زِيَمْ (¬2). فِنهى الله المؤمنين أن يفعلوا كما فعلَ المشركون عامَ الحُدَيْبَيةِ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه حيثُ أَحَلُّوا شعائِرَ الله، ومنعوا الهديَ أن يبلغَ مَحِلَّهُ، وصَدُّوهُمْ عن البيتِ الحَرام؛ تعظيماً لشعائرِ الله -جَلَّ جلالُهُ- وتفخيماً لهذه الحُرُماتِ الخَمْسِ، وقد ذكرَها في غيرِ موضعٍ من كتابهِ العزيز، وعَظَّمَ أمرَها، وها أنا أفصلُها حُكماً حُكماً: الحكم الأول: الشهر الحرام: وقد كانت الجاهليةُ تحرِّمُه وتعظّمُهُ، ثم وردَ الشرعُ بذلكَ. فقالَ اللهُ سبحانه في هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [لمائدة: 2]. وقال في موضع آخر: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36]. وقال أيضاً: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194]. ¬
وقال أيضًا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]. وقال أيضًا: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 97]. واستمر الحكمُ على ذلكَ في صدرِ الإسلامِ باتِّفاقِ أهلِ العلم. ثم اختلفوا في بقاِئه: فقال ببقاءِ حُرْمته ومَنْعِ القتال (¬1) فيه طاوسٌ، ومجاهدٌ (¬2). وخالفهما الباقون، وزعموا نسخَ هذه الآية وما أشبهها (¬3)، ولم أقفْ لهم على دليلٍ يدلُّ على ما ادَّعوه، وقد قدمتُ ما قالوه في "سورة البقرة"، ودعوى النسخ بعيدٌ؛ لأن "سورة المائدةِ" من آخرِ ما نزل. قالت عائشةُ -رضي الله تعالى عنها-: إنها آخرُ سورةٍ نزلتْ، فما وجدتُم فيها من حَلالٍ فاستَحِلّوه، وما وجدتم فيها من حَرَامٍ فحرّموه (¬4)، ولأن "سورة براءة" من آخر ما نَزَل أيضاً؛ كما سيأتي بيانه قريباً -إن شاء الله تعالى-. ¬
من أحكام الحج
(من أحكام الحج) الحكم الثاني: الهَدْيُ: وهو الأنعامُ تُهْدَى إلى البيت العتيق. وقد ذكره الله سبحانه في مواضع (¬1) من كتابه العزيز، وجعلها من شعائره، فقال: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]. وقال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]. وقال تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]. وسيأتي الكلامُ عليه -إن شاء الله تعالى-. الحكم الثالث: القلائد: يحتمل أن يكونَ المرادُ بها الهَدْيَ المُقَلَّدَةَ، وإنما أفردَها بالذكرِ إما (¬2) تفخيماً وتعظيماً لشأنها، وإما أن التقليدَ يقومُ فعلُه مقامَ النطقِ في خروجها عن ملكِ مالكِها كالنذر. وبهذا أخذَ مالكٌ، فمتى قَلَّدَ هَدْيَهُ وأَشْعَرَهُ، وجبَ عليه ذبحُه، حتى لو ¬
تعيَّبَ وخرَج عن (¬1) الإجزاءِ وجبَ عليه إبدالُه، ووجب عليه ذبُحه أيضاً (¬2). ويحتمل أن يكون المرادُ بها أصحابَ القلائد، على حذف المضاف (¬3). قال قَتادةُ: كان الرجلُ إذا خرجَ إلى الحجِّ يقلِّدُ بَدَنته من لِحاء شجرِ الحرمِ، فلا يعرض له (¬4) أحد (¬5). وحكي عن مجاهد أنه قال: لم يُنْسَخْ من المائدةِ إلا القلائدُ، نسخها قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬6) [التوبة: 5]. قال بعضُ المتأخرين: وفي هذا نظرٌ؛ فإن أكثرَ أهلِ العلم على أن المائدَة نزلَتْ بعد (براءة)، والمتقدمُ لا ينسخُ المتأخِّرَ. وهذا الذي ذكره عن (¬7) أهلُ العلمِ من التاريخ غيرُ مُسَلمٍ، فقد روى البخاريُّ في "جامعه" عن البراءِ -رضي الله تعالى عنه-: أنه قال: آخرُ آيةٍ نزلَتْ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]، وآخرُ سورةٍ ¬
نزلت (براءة) (¬1)، ولأن (براءة) نزلت في سنةِ تسعٍ. وبعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - علياً -رضي الله تعالى عنه- بعشرِ آياتٍ من أولِها إلى مكة؛ ليقرأها على أهلِ المَوْسِمِ بعدَما بعثَ أبا بكرٍ -رضي الله تعالى عنه - أميراً للموسم، وقال: "لا يُبَلِّغُ عَنِّي إلا رَجُلٌ منْ أهلِ بيتي"، فقرأها عليهم يومَ النَّحْرِ، ثم نادى: ألا لا يطوفَنَّ بالكعبةِ عُرْيانُ، ولا يطوفَنَّ بعدَ عامِنا هذا مُشركٌ (¬2). و"سورةُ المائدة" فيها تحريمُ الخمرِ، وكان تحريمُه في السنةِ الثالثةِ، وفيها آيةُ التيمُّم، وكان نزولها في سنةِ أربعٍ، وفيها (¬3) قولُه تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وكان نزولُها بعرفاتٍ في حجَّةِ الوَداع في سنةِ عَشْرٍ كما ثبت ذلكَ في "الصحيحين" (¬4) والله أعلم (¬5). ¬
ومرادُ مجاهِدٍ: المتقلدُ بلِحاء شجرِ الحَرَمِ (¬1). * وأما الهَدْيُ المُقَلَّدُ، فالحكمُ في تحريمها وتعظيمها باقٍ، ولا التفاتَ إلى منِ ادَّعى النَّسْخَ منِ المفسرين، فقد قلدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الهَدْيَ، وبعثَ بهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬2) (¬3). ولأجل هذا ذهَب مالكٌ إلى أنه إذا قَلَّدَ الهَدْيَ فلا يجوزُ له بيعُه، ولا هِبَته، ولا يورَثُ عنه إنْ مات، بخلاف الأُضْحِيَّةِ (¬4). وعندَ الشافعيِّ لا يصيرُ هَدْياً إلا بالنُّطْقِ (¬5)، وسيأتي مزيدُ كلامٍ على تقليد الهَدْيِ وإشعارِه في "سورة (¬6) الحج" -إن شاء الله تعالى-. الحكم الرابع: قاصدو البيت الحرام: وقد نهى الله سبحانه في غير موضع من كتابه العزيز عن صَدِّهِمْ عنه، ¬
وذمَّ من فعلَ ذلك فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]. والذي أذهبُ إليه وأعتقدُه مَذْهباً لكافةِ أهلِ العلمِ -إن شاء الله تعالى-: أنَّ هذا الحُكْمَ قد زالَ وبَطُلَ، فلا يجوزُ لنا أن نتركَ مُشْرِكاً يقصُد البيتَ، ولو ابتغى بذلك رضوانَ الله تعالى في زعمه؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]. فإن قال قائل: فلم عَمِلْتَ بهذِه الآية ولم تعملْ بآية المائدة (¬1)؟ قلت: لاتفاقِ أهلِ العلمِ على العمل بها دون غيرها. فأجمعوا على أن الحربيَّ يُمْنَعُ من دخولِ المسجد الحرام (¬2) (¬3). واختلفوا في الذِّمِّيِّ، فمنعه مالكٌ والشافعيُّ (¬4)، وأباحه أبو حنيفةَ (¬5). ¬
فإن قال: فهل تجدُ دليلاً من السنَّةِ على تقديمِها غيرَ عملِ الكافَّةِ من أهلِ العلم؟ قلت: نعم، أما آيةُ (براءة)، فقد ثبتَ في الصحيحِ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَ علياً في سنةِ تسعِ ينادي بها: أَلا لا (¬1) يَحُجَّ بعدَ العامِ مشركٌ (¬2). وأما آيةُ المائدةِ، فروي أن نزولَها كان في عامِ الفتح في الحُطَمِ (¬3) شُرَيْحِ البَكْرِيّ؛ كما قدمتهُ، وهذا كله يدلُّ على تأخرِ (براءة) عن المائدة، والله أعلم. - الحكم الخامس: شعائرُ الله: أي: معالمُ دينِ الله. وقد ذكرها الله سبحانه في مواضعَ من كتابه العزيز، فقال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]. وقال أيضاً: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]. واختلفوا في تأويله. فقيل: المرادُ به البُدْنَ المُشْعَرةَ. وقيل: مناسكُ الحجِّ. وقيل: ما حَرّمَ اللهُ في الإحرام. وقيل: حدودُ التحليل والتحريم. وقيل: حدودُ الحرم، فلا يجاوزها بغير إحرام (¬4). ¬
* ثم أمرنا الله سبحانه باصطياد الصيدِ إذا حللنا. وقد أجمع العلماء على أن الأمر في ذلك للإباحةِ، وعلى تحليلِ الاصطياد بعدَ التحلل (¬1). وفي ظني اتفاقُهم على تحريمِ الاصطيادِ حتى يكونَ التحليلُ الأكبر (¬2)؛ لإشعارِ قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، بذلك، فإنه لا يُسَمّى حلالاً قبل ذلك وإن رَمَى (¬3) دون رَمْيِ جمرةِ العقبة، ولقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، وما لم يتحلل التحليلَ الأكبرَ، فهو مُحَرمٌ، بدليل اتفاقهم على تحريم النساء. فإن قيل: فقد روي عن ابنِ عباس: أن هذهِ الآيةَ نزلَتْ لمَّا هَمَّ المُسلمون أن يُغيروا على أهل اليمامة حين أَتوا البيتَ الحرام، ومعهم ¬
الحُطَمُ عندما سمعوا تلبيتهم، والمسلمون بالحديبية، وهذا (¬1) يعارض قولَه تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}، وقولَه تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. فالجوابُ أنه لا تعارضَ بين الآياتِ، فإن الحطم إنما نَهَبَ سَرْحَ المدينة، ولم يحل مقلدَهُم، ولا صَدَّهم عن المسجد الحرام، ولا أحلَّ شعائَر الله تعالى التي تقرَّب (¬2) بها، ولا هتكَ لهم شهرًا حرامًا، فلو صَدُّوه لكانوا قد تَعَدَّوا، وأحلُّوا شعيرة (¬3) اللهِ والشهرَ الحرام أو الهدي المُقَلَّد، وأتى البيت الحرامَ، فلم يصدَّ المسلمين إلا كفارُ قريشٍ، فنهاهم الله تعالى فقال: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2]. فما نهاهم إلا عن الاعتداء، لا عن الاقتصاص، والله أعلم. * * * ¬
من أحكام الصيد والذبائح
(من أحكام الصيد والذبائح) 106 - (3) قوله عزَّ وجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]. أقول: فصَّل لنا ربُّنا -جَلَّ جلالُه- في هذه الآيةِ ما حَرَّمه علينا، وها أنا أذكره حُكْمًا حُكْمًا. * أما الميتةُ، فإنها حَرامٌ بإجماعِ المسلمين؛ لهذه الآية، ولغيرِها من الآيات. * واتفق أهلُ العلم على أن هذا اللفظَ ليسَ على عمومه، واختلفوا في المُخَصِّصِ (¬1) له. فذهبَ أبو حنيفةَ إلى تخصيصهِ بكل ما لاَ دمَ لهُ، وعمَّمه في سائِر المَيْتاتِ، بريَّةً كانَتِ الميتةُ أو بحريةً (¬2). ¬
واستدلَّ بأمر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَقْلِ الذُّبابِ (¬1) إذا وقعَ في الطعامِ (¬2)، ورأى أنَّ الدمَ علَّةُ التحريم، يوجدُ باحتباسِه، ويعدَمُ بإهراقه. وزاد قومٌ آخرون على ما استثناه ميتةَ البحر؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96]. وإليه ذهبَ مالكٌ (¬3). وذهب الشافعيُّ إلى استثناءِ ميتةِ البحر خاصَّةً (¬4)، فجمعَ بين الآياتِ والآثارِ. أما الآياتُ فخصَّ بخُصوصِ آيةِ البحرِ عمومَ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]. واستدلَّ على تخصيصها لآية التحريم دونَ أن تكونَ آيةُ الميتةِ مخصِّصَةَ لصيدِ البحر بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أحِلَّتْ لنا مَيْتَتانِ ودَمانِ" (¬5) وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في البحر: ¬
"هو الطَّهورُ ماؤهُ الحِلُّ مَيْتتهُ" (¬1)، وبما رواه جابر -رضي الله تعالى عنه-: أنهم أكلوا من الحوتِ الذي رماهُ البحرُ أيامًا، وتزودوا منه، وأنهم أخبروا بذلك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستحسنَ فِعْلَهُم، وسألهم: "هل بقيَ منه شيء؟ " (¬2) (¬3). وضعف الشافعيُّ الاستدلالَ بأن ظاهرَ الكتابِ يقتضي تنويعَ المُحَرَّمِ إلى ميتةٍ ودمٍ، فالميتةُ تَحِلُّ بالذكاةِ، بخلافِ الدمِ، فلا يكون أحدُهما عِلَّةً لتحريم الآخر، ورأى أن العلَّة للمَقْلِ (¬4) هو ما فَصَّلَتْه الإشارةُ النبويةُ من الداءِ بقوله: "فإنَّ في أَحَدِ جَناحَيْهِ داءً، وفي الآخَرِ دَواءً" (¬5)، فجعله الشافعيُّ من بابِ العفوِ؛ لِمَشَقَّةِ الضَّرَر، وهذا من محاسنِ نظرهِ - رحمة الله عليه، وعليهم أجمعين (¬6) -. فإن قال قائلٌ: فقد أفتى الشافعيُّ بتحليلِ جنينِ الذبيحةِ إذا خرجَ ميتًا (¬7). ¬
قلنا: ألحقهُ الشارعُ بالمُذَكَّى حُكْمًا ولَفْظًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "فإنَّ ذَكاتُه ذَكاةُ أُمِّهِ" (¬1). وبهذا القولِ قالَ مالكٌ (¬2)، إلا أنه اشترطَ وجودَ ما يدلُّ على الحياةِ في الجنينِ من تمامِ الخَلْقِ وإنباتِ الشَّعرِ؛ لإشعارِ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنَّ ذَكاتَه ذَكاةُ أُمِّه"؛ فإنه يقتضي كونَه مَحَلًا للذكاة، مع ما روي أن أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون: إذا أشعرَ الجنينُ، فذكاتُه ذَكاةُ أُمِّهِ (¬3). وأما الشافعيُّ فلم يشترطْ ذلكَ، وتمسك بالمعنى؛ فإنه إنما جعل ذكاتَه؛ ذَكاتَها لكونه جزءًا منها، فلا مَعْنى لاشتراطِ الحياةِ (¬4)، مع ما روى ابنُ أبي ليلى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَكاةُ الجَنينِ ذَكاةُ أُمِّهِ، أَشْعَرَ أو لَمْ يُشْعِرْ" (¬5)، لكن هذا مُرْسَلٌ، وابنُ أبي ليلى سَيِّئُ الحفظ عندَ أهل الحديث (¬6). ¬
* وأما الدمُ، فقد أطلقه الله سبحانه هنا، وقيدهُ في موضعٍ آخر بكونه دمًا مسفوحًا، والمسفوحُ هو المَصْبوبُ، قال طَرَفَةُ: [البحر الكامل] إنِّي وجَدِّكَ ما هَجَوْتُكَ وَإلا ... نْصابُ يُسْفَحُ فَوْقَهُنَّ دَم" (¬1) * وقد أجمع المسلمون على تحريمِ المسفوحِ؛ لهذه الآية، ولغيرها من الآيات (¬2). * واختلفوا في غيرِ المسفوحِ. فقال الجمهورُ بتحليل القليلِ الغيرِ المسفوحِ؛ تقديمًا لمفهومِ التقييدِ على الإطلاق. وقال قومٌ بتحريمِ الدَّمِ مطلقًا، إما تقديمًا للقياس على المفهوم؛ فإن كلَّ حَرامٍ لا يَتبَعَّضُ ولا يُفَرَّقُ بين قليلهِ وكثيرِه، وإما حَمْلًا للمفهوم على الجامِدِ كالكَبد والطِّحالِ، بدليلِ الأثرِ: "أُحِلَّتْ لنا مَيْتتَانِ ودَمانِ، أَمَّا المَيْتَتانِ: فالحَوتُ والجَرادُ، وأما الدَّمانِ: فالكَبِدُ والطَّحالُ" (¬3) (¬4). * ثم اختلفوا أيضًا: فمنهم من عمل بعمومِ اللفظ، فحكمَ بنجاسةِ الدمِ كله من الحيوانِ البرِّيِّ والبحريِّ (¬5). ¬
ومنهم من خَصَّهُ بغيرِ البحري، فأقاسَ دَم الصيدِ على ميتته، فخصَّصَ العمومَ بالقياسِ، وبهذا قالَ بعضُ الشافعيةِ، ومالكٌ في أحدِ قوليه (¬1)، والله أعلم. * وأما ما أُهِلَّ بهِ لغيرِ الله، فإنه حَرامٌ بإجماعِ المسلمين أيضًا، وقد حرمه اللهُ سبحانه في غير موضعين كتابه العزيز، وكرَّر تحريمهُ في أولِ هذهِ الآية، وفي وسطها، فقال: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]. * وأصلُ الإِهلال في اللسان: رفعُ الصوتِ عندَ رؤيةِ الهِلال، ثم أطلقَ على رفعِ الصوتِ مُطْلقًا (¬2)، قال النابغةُ: [البحر الكامل] أَوْ دُرَّةٍ صَدَفيَّةٍ غَوَّاصُها ... بَهِجٌ متى يرَها يُهِلَّ ويَسْجُدِ (¬3) ثم أُطلق على رفعِ الصوتِ باسمِ الصَّنَمِ عندَ الذَّبحِ، ثم أطلق على الذبحِ وحدَه؛ لملازمتِه رفعَ الصوتِ في عادتهم. وهو المرادُ في كتابِ الله تعالى حيث وردَ كما بينه اللهُ سبحانه هنا، فقال: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]. فإن قال قائل: فلعلَّ المرادَ بالذي في أولِ الآيةِ غيرُ الذي في آخرها، ¬
فالمراد بالذي في آخرها ما ذُبح على النُّصُب، والمُراد بالذي في أولها ما رُفع بهِ الصوتُ بغيرِ اسم الله، ولم يُذْبَحْ، فيجبُ تحريمهُ إهانةً لشِعار الشركِ؛ كما يجبُ تعظيمُ ما أهِلَّ به للهِ من البُدْنِ تَعظيمًا لِشعائِر اللهِ سبحانه. قلت: ما أظن أحدًا من أهل العلم قالَ بهذا، بل هو حلالٌ إذا وقع في أيدي المسلمين قبلَ الذبحِ على النُّصُبِ، وإنما كررهُ الله سبحانه تأكيدًا لتحريمِه، فذكَره بلفظَي الحقيقةِ والمَجاز. * إذا تقرر هذا: فيحتملُ أن يكونَ المرادُ بقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} [المائدة: 3] العُمومَ لكلِّ ما ذُبِحَ لغير اللهِ، إما لصنمٍ، أو غيرِه. ويحتمل أن يكونَ المرادُ به الخصوصَ، وهو ما ذُبح باسمِ النُّصبِ خاصّةً؛ بدليلِ قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]. * ولأجل هذا اختلفَ أهلُ العلمِ في الذي ذبحَهُ الكتابيُّ باسمِ الكنائسِ، واسمِ موسى وعيسى- عليهما الصلاة والسلام-. فمنهم من حَلَّلَهُ، وقصرَ التحريمَ على النُّصُبِ، وإليه ذهبَ مالكٌ وأصحابه (¬1). وذهبَ الشافعيُّ إلى التعميمِ (¬2)؛ عملًا باللفظِ والمعنى: ¬
أما اللفظُ فلعمومِه. وأما المعنى، فلوجودِ التعظيمِ الذي هو علَّةُ التحريمِ حتى أطلقَ أصحابُه التحريمَ على ما يُذْبَحُ للسلطانِ عندَ استقباله؛ إذ المقصودُ بذلكِ التعظيمُ لا التكريمُ. * ثم ذكر الله سبحانه خمسةَ أشياءَ، وعَقَّبها بالاستثنناءِ، فقال: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]. وبينَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تحريمَ ذلك؛ كما ذكره الله سبحانه، فقالَ لعديِّ بنِ حاتِمٍ -رضي الله تعالى عنه- لمّا سألَه عن صيدِ المِعْراضِ (¬1): "إذا أصابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وإذا أصاب بِعرضِه، فقتلَ، فإنه وَقيذٌ (¬2) فلا تأكلْ" (¬3). * ولما حرم الله سبحانه الدمَ، وحرمَ هذه الأشياءَ، عقبها بذكرِ الذَّكاةِ، وجعل الذكاةَ علَّةَ التحليل، علمنا أن عِلَّةَ التحليل خُروجُ الدمِ بالذَّكاةِ، وأن عدمَ خروجِ الدمِ علةٌ للتحريمِ. فاستدللنا بذلك على أن كل حيوانٍ حلالٌ لا دمَ فيه؛ كالجرادِ لا يحتاجُ إلى ذكاةٍ. ¬
وبهذا قال الشافعيُّ (¬1). وأوجب مالِكٌ الذكاة (¬2). وذكاتُه قتلُه، إما بقطعِ رأسِه، أو غيرِ ذلك. واستدللنا أيضًا بذلكَ على أنَّ كلَّ حيوانٍ تحلُّ ميتتُه لا يَحتاج إلى ذكاةٍ؛ كصيدِ البحرِ، وهذا إجماع بين (¬3) المسلمين أيضًا (¬4). فإن قال قائل: فهل هذا الاستثناءُ متصلٌ أو منفصلٌ؟ وهل هو راجعٌ إلى المُحَرَّماتِ كُلِّها، أو يختصُّ بالأخيرِ منها؟ قلت: رجوع الاستثناء على الجملة الأخيرة، وهي ما أكل السبع مُتَّصِلٌ؛ لصدقِ اسمِ الأكيلِ عليه عندَ حُصول التذكية، وإن لم يزهقْ روحَه. وأما الأمورُ الأربعةُ، فمن لاحظَ وقوعَ اسمِ المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة عليها قبل الموت مجازًا، كان الاستثناءُ عندهُ مُتَّصِلًا أيضًا، وهذا هو الأقربُ إن -شاء الله تعالى-. ومن لاحظَ صدقَ الأسماءِ حقيقةً؛ إذ لا تسُمى هذه المحرماتُ قبلَ الموتِ منخنقةً ولا موقوذة ولا مترديةً ولا نطيحةً إلا على سبيل التجوُّز، منعَ عودَ الاستثناء إلى هذه الجملِ الأربعِ، اللهمَّ إلا أن يجوزَ حملُ اللفظِ الواحدِ على معنيين مختلفين، فيحمل الاستثناءُ على الاتصال في أكيلِ السبعِ، وعلى الانفصال في الذي قبله، وفي ذلك خلاف عندَ أهلِ النظر. ¬
وأما عودُه إلى الخنزير، فلا يجوزُ قطعًا؛ لأن الذكاةَ لا تعمل فيه شيئًا، وكذا لا يجوز عودُه إلى ما أُهِل بهِ لغير الله؛ لأنه استثناءٌ منقطعٌ؛ لاختلاف الحكم فيه (¬1). * إذا تمَّ هذا، فقد اتفقوا على أن الأكيلةَ والمنخنقةَ والموقوذةَ والمترديةَ والنطيحةَ إذا رُجي حياتُها، حَلَّتْ بالذكاة. وإن انتهتْ إلى حالٍ لا تُرجى حياتُها. فقال قوم: تحل بالذكاة، ويروى عن عليِّ وابنِ عباسٍ (¬2). وبه قال أبو حنيفةَ (¬3). وقال قومٌ: لا يحلُّ، وإليه ذهبَ الشافعيُّ وأبو يوسفَ (¬4). وعن مالكٍ قولان، كالمذهبين (¬5). ¬
* ثم بين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صفةَ الذكاةِ والآلَةَ التي يجوزُ بها الذكاةُ، ونهى عن السِّنِّ والظُّفُر (¬1). * ونهانا الله سبحانَه عن الاستقسامِ بالأزلام، وسماه فِسْقًا؛ لما فيه من أكلِ المالِ بالباطلِ، وإيقاعِ العداوةِ والبغضاءِ، وقدْ عافانا الله الكريمُ منه، فله الحمدُ. والاستقسامُ هو استقسامُ لحمِ الجَزورِ بالمَيْسِرِ. والأزلامُ هي السهامُ التي كانتِ الجاهليةُ يستقسمون بها، وكانت عشرة. منها سبعةٌ ذواتُ الحَظِّ والنصيب، وأسماؤها: الفَذُّ، والتَّوْأَمُ، والرَّقَيبُ، والجلسُ، والنافسُ، والمسبلُ، والمُعَلى. ومنها ثلاثةٌ بلا حَظٍّ ولا غُرْمٍ، وأسماؤها: الوغدُ، والسفيحُ، والمنيح (¬2). وكانوا يجعلونها في خَريطةٍ، ويجعلونَ الجزورَ على ثمانيةَ عشَر سَهْمًا، ويخرجُها رجلٌ واحدًا واحدًا على أسمائهم، فللفذِّ سهمٌ، وللتوءَمِ سهمان، وللرقيبِ ثلاثةٌ، ومن بقيَ بلا سَهْمٍ، غرمَ ثمنَ الجَزورِ على قدر السهامِ. وقيل فيه من التأويل غيرُ ذلك، ولكن الظاهرَ ما ذكرتُه. * * * ¬
* قوله عَزَّ وجَلَّ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]. قد تقدم الكلامُ عليه. * * * 107 - (4) قوله عزَّ وجَلَّ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة: 4]. * أحل الله سبحانه بهذه الآية شيئين: الطيباتِ من الرزق، والصيدَ. * والمُراد بالطيبِ في هذه الآيةِ ما تَستطيبه نفوسُ العربِ. وعزاهُ الواحديُّ إلى عامَّةِ المفسرين، فقال: قال المفسرون: أحل الله للعرب ما استطابوا ممّا لم ينزلْ تحريمُه تلاوةً مثلَ الضبابِ، واليَرابيعِ (¬1)، والأرانب، وغيرها، فكلُّ حيوان استطابتهُ العربُ فهو حلالٌ، وكلُّ حيوانٍ استخبثتهُ العربُ، فهو حرامٌ (¬2). وهذا التفسيرُ ظاهرٌ من قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. * ثم أحل الله الكريمُ لنا في هذه الآية صيدَ البرّ بإمساكِ الجَوارح المُكَلَّبةِ فقال: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] أي: وصيدُ ما عَلَمْتُم من الجوارح، وأحله أيضًا لنا في غير هذه الآية بإصابةِ السلاح؛ حيث قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94]. ¬
وبين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلكَ كما أحلَّه الله تُعالى، فقال لأبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ لما سأله: "فَما أَصَبْتَ بقوسِكَ فاذْكُرِ اسمَ اللهِ -عزَّ وجَلَّ-، ثم كُلْ، وما أَصَبْتَ بكلبِك المُعَلَّمِ، فاذْكُرِ اسمَ اللهِ -عزَّ وجَلَّ-، ثم كلْ، وما أصبتَ بكَلْبكَ الذي ليسَ بمُعَلَّمٍ، فأدركْتَ ذكاتَه، فَكُلْ" (¬1). * وقد اتفق العلماءُ على أن التعليمَ المذكورَ في الآية والحديثِ للاشتراطِ والتقييدِ، فيحل صيدُ المُعَلَّمِ، ويحرمُ صيدُ غيرِ المعلم، إلا أن يدركَ ذكاتَه. والحكمة في ذلك أنه يصير (¬2) كسائرِ الآلاتِ التي لا اختيارَ لها، فيشترطُ فيه أن يُجيبَه إذا دعاه، وأن ينبعثَ إذا أشلاه (¬3)، وأن ينزخر (¬4) إذَا زجرهُ. * ثم لمّا خصصَ الله سبحانه تحليلَ صيدِها بكونِه مُمْسَكًا عَلينا، فهمنا تحريمَ ما أمسكتهُ الجائعة على غيرنا، وقد بينه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كذلك، فقال لعديِّ بنِ حاتِمٍ -رضي الله تعالى عنه- لما سأله: "إذا أَرْسَلْتَ كلْبَكَ، وذكرتَ اسمَ الله، فكلْ، فإن أكلَ منهُ، فلا تأكلْ منه (¬5)؛ فإنما أمسكَ على نفِسه" قلت: فإن وجدْتُ مع كلبي كَلْبًا آخَرَ، فلا أدري أَيُّهما أخذَ، قال: ¬
"فلا تأكلْ، فإنما سَمَّيْتَ على كلبِك، ولم تُسَمِّ على غيره" (¬1). وبهذا قال الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، وأحمدُ (¬2)، والثوريُّ (¬3)، وهو (¬4) قولُ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما (¬5) -، وبه نأخذُ. وذهب قومٌ إلى إباحةِ ما أكلَ منهُ الكلبُ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ثعلبة الخشني: "إذا أرسلتَ كلبكَ المُعلَّم، وذكرتَ اسمَ اللهِ فَكُلْ"، قال أبو ثعلبة: قلت: وإن أكلَ منهُ يا رسول الله؟ قال: "وإن أكلَ" (¬6)، رواه أبو داود. وبهذا قال مالكٌ والشافعيُّ في أضعفِ قوليه (¬7). ويروى عن ابنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما (¬8) -. قال أهلُ العلمِ بالترجيحِ (¬9): وحديثُ عديّ أرجحُ؛ لكونه ¬
مُتَّفَقًا عليه، ولهذا رواه البخاريُّ ومسلمٌ. قلت: ولكونه أحوطَ. * ثم اختلفَ أهلُ العلم في اختِصاص الجوارحِ بالكلابِ. فقال فريقٌ منهم بالتخصيص، ومنعوا الصيدَ بغيرِها من جوارحِ السباعِ والطيورِ. وبه قالَ مُجاهد (¬1). وتمسكوا بظاهرِ قوله تعالى: {مُكلَّبِينَ} [المائدة: 4]، واعتقدوه للتقييد لا للتعريف. وبعضُ هؤلاء استثنى البازِيَّ وحدَهُ (¬2)؛ لحديثٍ رواه الترمذيُّ عن عديِّ بنِ حاتِمٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيدِ البازي، فقال: "ما أَمْسَكَ عليكَ فَكُلْ" (¬3). وقال جمهورُ العلماء بالتعميمِ. ¬
وبه قالَ فقهاءُ الأمصارِ (¬1)، ويروى عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما (¬2) -. وتمسَّكوا: إما بالقياسِ على الكلابِ، فكل ما قَبِلَ التعليمَ فهو آلةٌ لذكاةِ الصيد، وإما بأنه مشتق من الكَلَبِ الذي هو الشدة، لا من اسمِ الكَلْب، فيكونُ معناه: مُغْرينَ للجوارحِ على الصيد، وبهذا فسرهُ ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-. * فإن قال قائل: فهل الإغراءُ أو الإرسالُ واجبٌ في الاصطيادِ، أولا؟. قلت: هو واجب في قولِ جمهور العلماء، فلا يَحِلُّ ما أمسكه الكلبُ باسترساله؛ لقوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، أي: مُغْرين؛ كما فسره ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أرسلتَ كلبكَ المُعَلَّمَ". فإن قال: فهل تجُدُ في الآية دليلًا غيرَ تفسير ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-؟ قلت: نعم، قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، أي: على الاصطياد؛ إذ لا يجوزُ عودُ الضَّميرِ على الأكل، ويكون المرادُ التسميةَ عندَ الأكل، وإذا تعيَّنَ ذلك، وتعين وجوبُ التسمية عند من يقول به، تعينَ القولُ عنده بوجوبِ الإرسال (¬3). ¬
فإن قال: ما دلَّك على ما قلتَ من أن المرادَ التسميةُ عندَ الإرسال، لا عند الأكل؟ قلت: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أرسلت كلبكَ المعلَّمَ وذكرتَ اسمَ اللهِ فَكُلْ" (¬1). * وقد أجمع المسلمون على مشروعية التسمية عندَ الإرسالِ على الصيد، وعند الرمي، وعند الذبح. وإنما اختلفوا هل ذلك على الوجوب، أو على الندب؟ فقال أهلُ الظاهرِ بوجوبِها مطلقًا (¬2)، وهو الصحيح عندَ أحمدَ في صيدِ الجوارحِ دونَ السهمِ (¬3)، ويروى عن ابنِ سيرينَ وأبي ثورٍ (¬4). وقال قومٌ باستحبابها مطلقًا، وبه قال الشافعيُّ ومالكٌ في إحدى الروايات عنه (¬5). وقال جمهورُ أهلِ العلم: إن ترَكها سهوًا، حَلَّتِ الذبيحةُ والصيدُ، وإن تركَها عمدًا، فلا، وبه قالَ مالكٌ، وأبو حنيفةَ (¬6)، والثوريُّ (¬7). ¬
وسيأتي الكلام على ذلك -إن شاء الله تعالى- في الآية التي تليها، وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]. قال ابنُ عباسِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-: طعامُهم: ذبائُحهم (¬1). * وقد أجمع العلماءُ على العملِ بهذه الآية، فأحلوا ذبائحَ أهلِ الكتاب كما أحلَّها الله تعالى، وإنما اختلفوا في بعضِ التفاصيل (¬2). * وأطلق اللهُ سبحانه حِلَّ ذبائِحِهم، ولم يقيدْهُ بذكرِ التسميةِ كما ذكرها في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118]. وهذا أيضًا مطلَق في أهل الكتاب وغيرِهم. فيحتمل أن يقيدَ إطلاقُه في المائدة بتقييده هناك، فلا تحل ذبائحُ أهل الكتابِ إلا إذا سمَّوا الله عليها. ويحتمل أن يقيدَ إطلاقُه في الأنعام بتقييده هنا، ويكون المعنى: فكلوا ممَّا ذُكِر اسمُ الله عليهِ من غيرِ ذبائحِ أهل الكتاب. فقال فريقٌ بالأول، فجعل آيةَ المائدةِ مقيدةً بآية الأنعامِ، فلا تحلُّ لنا ذبائحُ أهلِ الكتابِ إلا إذا علمْنا أنهم سَمَّوا اللهَ عليها، ذكر ذلك عنهم مَكَيُّ بنُ أبي طالب، ونسبه إلى عليٍّ وعائشةَ -رضي الله تعالى عنهما-، وهذا منه خطأٌ وغَفْلَةٌ، وإنما المرويُّ عن عليٍّ وعائشةَ وغيرِهما: أن ذبيحةَ ¬
الكتابيِّ لا تحل إذا سمعه يُسَمّي غيرَ الله، وهذا شيء قد قدمتُه (¬1) عندَ قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} [المائدة: 3]. والذي عليه جمهورُ أهلِ العلمِ العملُ بآيةِ المائدةِ، وأن ذبائحَهم حلالٌ مطلقا؛ كما أطلقه اللهُ سبحانه، سواءٌ سَمَّوا اللهَ عليها، أم لا (¬2). وادعى بعضُهم الاتفاقَ عليه (¬3)، ونسبه إلى عليٍّ رضي الله تعالى عنه (¬4). ثم اختلفت بهم (¬5) الطرقُ. فرويَ عن أبي الدرداءِ وعُبادة بنِ الصامتِ وعِكرمة (¬6): أنهم قالوا: آيةُ المائدةِ ناسخةٌ لآيةِ الأنعام (¬7). والذي عليه جُمهور السلفِ والخلفِ العملُ بآية المائدة، فمن يشترطُ التسميةَ يقولُ بالتخصيص، ومن لم يشترطْها يقولُ بالتأويل، وأما القولُ بالنسخِ فبعيدٌ؛ لإمكانِ الجمعِ بين الآيتين (¬8). ¬
والذي أختارهُ ما ذهبَ إليه أبو عبدِ الله الشافعيُّ -رحمه الله تعالى (¬1) -: أن (¬2) التسميةَ غيرُ واجبة؛ فإن آية الأنعام مَخْصوصَةٌ بما ذُبح للأصنامِ، وذلك أن الجاهليةَ كانتْ تعظِّم آلهتَها، فتُهدي إليها، وتتقربُ إليها بالذبحِ عليها، وفعلُها هذا يتضمَّن ثلاثةَ أمورٍ قبيحةٍ شنيعةٍ: أحدها: الإهلالُ لغير اللهِ تعالى. وثانيها: ذبحُها تعظيمًا لآلهتها. وثالثها: تركُ ذكرِ اسم اللهِ عليها، وتعويضُه باسمِ آلهتها. ولا شكَّ أن قربانَ الإسلامِ بعكسِ ذلك، في هذهِ الأمورِ كلِّها، فحرم الله سبحانه قُربانَ الجاهليةِ، وكرر ذلكَ علينا، وعلقَ التحريمَ بكلِّ فردٍ من هذهِ الأمورِ الثلاثة التي تضمَّنها فعلُهم القبيحُ؛ تنبيهًا على اشتمالها على أنواعِ القبائحِ، فعلقه تارةً بالإهلالِ لغيرِ الله تعالى، وتارةً علَّقه بحقيقةِ الذبحِ على النُّصُب، وتارةً علَّقه بعدمِ ذكرِ الله تعالى، فقال: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]. فإن قلت: فهلْ تجدُ في القرآن دليلًا على هذا؟ قلت: بل أدلةً: أحدها: الطلبُ من الله سبحانه لأهلِ الشركِ، وحَثُّه إياهُمْ على الأكلِ مِمَّا ذُكِرَ اسمُ الله عليه، فقال: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118] حتى جعلَ ذلكَ شرطًا في الإيمانِ. ثانيها: ذَمُّ الله سبحانه لهم على تركِ الأكلِ مما ذُكر اسمُ الله عليه، ¬
فقال: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 119] الآية، فاستدللنا بهذا (¬1) على أن المرادَ بقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ما ذُبح باسمِ النُّصُبِ، والدليل على ذلك أيضًا وصفُه له بكونه فِسْقًا، والفِسْقُ ما أُهِلَّ بهِ لغيرِ الله؛ بدليل قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 144، 145]، ولم يقل: أو فسقًا لم يُسَمَّ اللهُ عليه. فإن قلت: فإنا نجدُ في القرآنِ والسنةِ ظواهرَ تدلُّ على طلبِ التسمية؛ كقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ، وذَكَرْتَ اسمَ الله عليهِ، فَكُلْ" (¬2)، وغير ذلك من الآثار. قلت: هذه الظواهرُ محمولة عندنا على الاستِحباب، والخِطابُ جرى على غالب الوجودِ من أحوالِهم، بدليلِ ما قدمتهُ. فإن قلتَ: فهل تجدُ في السنةِ دليلًا على ما قلتَ من صرفِ هذهِ الظواهرِ إلى ما أُريد بها؟ قلت: نعم، روى البخاريُّ عن هشامِ بنِ عُروةَ عن أبيه (¬3) عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها-: أن قومًا قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن قومًا يأتونا باللَّحم لا ندري أَذَكَروا اسمَ اللهِ عليهِ، أم لا؟ فقال: "سَمُّوا عليهِ أنتم وكلوه" (¬4)، ¬
فهذه التسميةُ هيَ المندوب إليها عندَ الأكلِ، وليست هي التسيمةُ عندَ الذكاة، ولو كانَ حَرامًا، لم يأمرْهُم. * * * 108 - (5) قوله عَزَّ وجل {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5]. * إذا تَمَّ هذا، فهذه الإضافةُ للطَّعامِ الى أهلِ الكتابِ: يَحتمل أن يُرادَ بها عامَّةُ ذبائِحهم. ويحتملُ أن يُرادَ بها ما يَحِلُّ لهم مِمَّا يَطْعَمونه دونَ ما يحرم عليهم كذواتِ الظفرِ، وشحومِ الغنمِ والبقر. وبالمعنى الأولِ قالَ الشافعيُّ (¬1)، وابنُ وَهْبٍ، وابنُ عبدِ الحَكَمِ (¬2). وبالمنع قالَ ابنُ القاسمِ (¬3). وفرق أشهبُ بينَ ما كانَ مُحَرَّمًا بالتوراةِ، وما كانَ مُحرَّمًا من قِبَلِ أَنْفُسهم، فأباح ما ذبحوا مِمّا حَرَّموه على أنفسهم (¬4). وكذلك اختلفَ قولُ مالكٍ في الشحوم (¬5). ¬
وبالإباحةِ قالَ الشافعيُّ (¬1)، ويدلُّ له ما رُوي أنَّ عبدَ اللهِ بنَ مُغَفَّلٍ أصابَ جرابَ شَحْمٍ (¬2) يومَ خَيْبَر، ورآه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وأقرَّهُ على أخذه، ولم ينهَه (¬3). * واتفق عامةُ أهلِ العلمِ على أن المرادَ بأهلِ الكتاب اليهودُ والنصارى من بني إسرائيلَ والرومِ والحبشة، ومنهم السامرةُ (¬4)؛ لما روي (¬5): أن عاملًا لعمرَ كتبَ إليه: إن ناسًا من قِبَلِنا يُدْعَوْنَ السّامِرَةَ، يسبِتون يومَ ¬
السبتِ، ويقرؤون التوراةَ، ولا يؤمنون بيومِ البعثِ، فما ترى يا أمير المؤمنين في ذبائحهم؟ فكتبَ: هم طائفة من أهلِ الكتابِ، وذبائحُهم ذبائحُ أهلِ الكتاب (¬1) (¬2). * واختلفوا في نَصارى العربِ: فذهبَ الجُمهور إلى تحليلِ ذبائحِهم (¬3)؛ لعموم الكتاب، وهو قولُ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما (¬4) -. وذهبَ قومٌ إلى تحريمِها، فكان على وعمرُ -رضي الله تعالى عنهما- ينهيان عن ذبائحِ بني تغلِبٍ (¬5)، وبه قال الشافعيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعالى (¬6) -. * وكذلك اختلَفوا في الصابِئينَ: فمنَ الناس من أطلقَ عليهمُ اسمَ أهلِ الكتِاب، وبهِ قال جابرُ بنُ زيدٍ، فألحقَهُمْ بأهله (¬7). ومنهم من قالَ: لَيْسوا من أهلِ الكِتاب، وبه قالَ ابنُ عباسٍ ومُجاهِدٌ (¬8). ¬
* وكذلك اختلَفوا في المَجوسِ. فذهبَ الجمهورُ إلى أنه لا تَحِلُّ ذَبائِحُهم، كما لا يَحِلُّ نِكاحُ نِسائِهم (¬1)؛ لكونهم ليسوا من أهلِ الكتاب، وهو قولُ عليٍّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه (¬2) -. وذهب قومٌ إلى تَحْليِلها، وهو قولُ ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما (¬3) -؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتاب" (¬4). وخَصَّصَ الأَوَّلونَ الحديثَ ببعضِ الأحكامِ، وهو التقريرُ بِبَذْلِ الجِزْيَةِ، ¬
واستدلُوا بكونهم لا تَحِلُّ نِساؤُهم إجماعًا، فخرجوا بذلكَ من سُنَّةِ أَهْلِ الكتابِ في النكاح، فكذلكَ في الذبائحِ؛ لأن الأصلَ فيهما التحريمُ. وبقيةُ الآيةِ قد تقدَّم شرحُه في "سورةِ البقرةِ" و"النساءِ". * * *
من أحكام الطهارة
(من أحكام الطهارة) 109 - (6) قوله عزَّ وجلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]. * أوجبَ اللهُ سبحانَه بهذه الآية الوضوءَ على المُؤمنين، وَبيَّنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَما فرضَه اللهُ تعالى بفعله، وقال: "لا يقبلُ اللهُ صلاةَ مَنْ أحدَثَ حَتّى يَتَوَضَّأَ" (¬1). * وقد أجمعتِ الأمةُ على وُجوبه؛ كما فرضَهُ اللهُ سُبحانه. * وعَلَّق اللهُ سبحانَه فَرْضَه بالقيامِ إلى الصَّلاةِ. فيحتملُ أن يُرادَ به حقيقةُ التعليق، فيجبُ الوضوءُ عندَ كُلِّ قيامٍ إلى الصلاةِ. ¬
ويحتملُ أن يُرادَ به التعريفُ لوقتٍ خاصٍّ، وهو وقتُ الحَدَثِ، وبهذا المعنى خَصَّه عامَّةُ أهلِ العلمِ بالقرآنِ. فقال ابنُ عباسٍ -رضي اللهُ تعالى عنهما-: إذا قُمتم إلى الصَّلاةِ وأنتم مُحْدِثون (¬1). وقال زيدُ بنُ أَسْلَمَ: إذا قمتم إلى الصلاةِ من النومِ (¬2). وحكيَ عن عِكْرِمَةَ وابنِ سِيرينَ (¬3): أنهما حَمَلا الخِطاب على حقيقتِه في التعليقِ، فأوجبا الوضوءَ لكلِّ صلاة. قال ابنُ سيرينَ: كانَ الخُلَفاءُ يتوضَّؤونَ لكلِّ صلاةٍ (¬4). وهما مَحْجوجانِ باتفاقِ العامَّةِ من أهلِ العلمِ، وببيانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه كانَ يُصَلِّي الصَّلَواتِ بالوضوءِ الواحدِ، ولعلَّ الخلفاءَ فَعلوا ذلكَ للفَضْلِ، لا للحَتْم. * فأوجَب الله سبحانهُ غسلَ الوجهِ واليدين إلى المِرْفقين، اتَّفق (¬5) العلماءُ على وُجوبِ ذلكَ (¬6)، وإنَّما اختلَفوا في تفاصيلهِ، فاختلَفوا في البَياضِ الذي خَلْفَ العِذارِ (¬7)، ودونَ الأُذُنِ. ¬
- فذهبَ الشافعيُّ وأبو حَنيفةَ إلى أنهُ من الوَجْهِ (¬1). - وقال مالِكٌ: ليسَ من الوَجْهِ (¬2). والوَجْهُ مشتقٌّ من المُواجَهةِ: فمنهمُ من رَأى اسمَ الوَجْهِ صادقًا عليه، ومنهم مَنْ لم يَرَ ذلك. وهذا أيضًا سَبَبُ اختلافِهم فيما نزلَ من اللِّحْيَةِ عن منابِتِها. فأوجبَ مالكٌ غَسْلَهُ (¬3)، ولم يوجِبْه أبو حنيفةَ (¬4). واختلفَ قولُ الشافعيِّ في ذلك (¬5). * وأما اختلافهُم في اليدِ، ففي موضِعَينِ: أحدُهما: في الحكم. والثاني: في كيفيةِ الاستدِلالِ. أما الحكمُ: ¬
فقال جمهورُ أهلِ العلم: يجبُ إدخالُ المِرْفَقَيْنِ في الغَسْلِ (¬1). وقال زُفَرُ (¬2)، وأبو بكرِ بنُ داودَ (¬3)، ومالكٌ في راويةِ أشهبَ: لا يجبُ (¬4). وأما الاستِدْلالُ: فإنَّ زُفَرَ ومُوافقيهِ أخذوا بظاهِرِ المعنى المشهورِ الموضوعِ لـ (إلى)، وهو الغايةُ. وأما الجُمهورُ، فجعلوها بمعنى (مع)، وذلك شائعٌ في اللسانِ، جائزٌ عند كافَّةِ الكوفيينَ وبعضِ البَصْريِّين، قال امْرُؤ القيسِ: [البحر الطويل] لَهُ كفَلٌ كالدِّعْصِ لَبَّدَهُ النَّدَى ... إلى حاركٍ مثلِ الغَبيطِ المُذَأَبِ (¬5) واستدلَّ الشافعيةُ، أو بعضُهم، بما روى (¬6) جابرٌ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهُ-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضّأَ، أدارَ الماءَ على مِرْفَقَيه (¬7)، وقالوا: هذا بيان لِما وردَ في الآية مُجْمَلًا، وأفعالُه - صلى الله عليه وسلم - تُحْمَلُ على الوُجوبِ في بَيانِ المُجْمَلِ. ¬
وفي هذا ضَعْفٌ، فإن لفظَ الآيةِ ليسَ بِمُجْمَلٍ، بل هو في معنى الغايةِ أظهرُ من المَعِيّةِ؛ إذ هو المعنى الموضوعُ له، ولا تستعملُ في المعيةِ إلا تَجَوُّزًا. وبعضُ أهلِ البَصْرَةِ مَنَعَهُ. وحاولَ بعضُهم دلالَتَها مع بقائِها على أصلِ وَضْعِها، فقال: (إلى) هاهنا للإخراج، لا للإدخال؛ لأنَّ اسمَ اليدِ يُطْلَقُ (¬1) على العُضْوِ إلى المَنْكِبِ، فلو لم تردْ هذه الغايةُ، لوجبَ غَسْل اليدِ إلى المَنْكِبِ، فلما دخلتْ (إلى)، أخرجَتْ عن الغَسْلِ ما زادَ على المِرْفقَيْنِ، فانتهى الإخْراجُ إلى المِرْفقَيْنِ، فكأنه قالَ: واغْسِلُوا أيديَكُمْ، واتركوا من (¬2) المَناكِبَ إلى المرافقِ. وفي هذا بعدٌ ظاهرٌ؛ لما فيه من إيصالِ الغايةِ بمعنى غيرِ مذكورِ، وفصلِها عن مَعْنًى مذكورٍ مقصودٍ، واحتمالُ مجاز (¬3) الاستِعارةِ أهونُ من ارتكابِ هذا المَجازِ البعيد. ثم قال بعضُهم: وإن سَلَّمْنا أن (إلى) هنا معناها الغايةُ، فالمُغَيَّا يدخلُ في الغايةِ إذا كانت من جنِسه، والمِرْفَقُ من جنسِ اليدِ، ولا يدخلُ إن كانَ من غيرِ جنسه؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. وما قالهُ هذا غيرُ خالٍ من النِّزاع، بل الصحيحُ عدمُ الدخولِ مُطْلَقًا، ووجهُ الدَّلالَةِ عندي من حَديثِ جابِرٍ -رضي الله تعالى عنه- قوله: كانَ إذا توضّأَ أدارَ الماءَ على مِرْفَقَيهِ، وهذا يدلُّ على التكْرار، مع أنه لم يُنْقَلْ أَنَّ ¬
النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اقتصرَ على دونَ المِرْفَقِ، فدلَّ على دُخوله وُجوبًا. فإن قال قائل: كلمة (كان) لا تدلُّ على الاستغراقِ، على الصحيح عند الأصوليين. قلتُ: لا تدلُّ على الاستِغْراقِ في ذي الأقسامِ والأنواع، وأما إن لم يكنْ للفعلِ أقسامٌ وأنواعٌ، كالوضوء، فإنها تدلُّ على التكرارَ وَضْعًا وعُرْفًا، أو عُرْفًا لا وَضْعًا؛ كما اختارهُ بعضُ المحققين. فإن قال: لعلَّه - صلى الله عليه وسلم - فعلَ ذلكَ طَلَبًا لإطالةِ الغُرَّةِ، فهو محمولٌ على الاستِحْباب. قلت: لا يُحملُ مثلُ هذا على طلبِ الغُرَّةِ، وإنَّما يُحمل عليه مثلُ ما رُوي عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه-: أنه غسلَ يَدَه اليُمنى حتى شرعَ في العَضُدِ، ثم اليُسْرى كذلك، ثم غسلَ رِجْلَه اليُمنى حتى شرعَ في الساقِ، ثم اليُسْرى كذلك، ثم قال: هكذا رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ" (¬1) لإشعارِ الشُّروعِ في الأعضاءِ بطلبِ الفضيلةِ، وعدمِ إشعارِ الإرادة بذلك. وهذا كلهُّ إن صَحَّ حديثُ جابرِ، ولستُ أعلمُ صِحَّته (¬2)، أما إذا لم يَصحَّ، فحجَّتُهم أظهرُ وأقوى. * ثم أَمَرَهُم سُبْحانَه بِمَسحِ الرأسِ، وهو واجبٌ بإجماعِ العُلماء، لكنهمُ اختلفوا في مِقْدارِ الواجبِ منه. - فذهب مالكٌ، والمُزَني، وأحمدُ -في إحدى الروايتين- إلى مَسْحِ كُلِّهِ ¬
كسائرِ أعضاءِ الوضوء (¬1)؛ بدليلِ قولهِ تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6]. - وقَدَّرَهُ أبو حَنيفةَ بالرُّبُعِ (¬2). - وذهبَ الشافعيُّ وجماعةٌ إلى أن الفرضَ مسحُ بعضِه (¬3). واستدلَّ الحنفيةُ بما روى المغيرةُ بنُ شعبةَ -رضي الله تعالى عنه-: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مسحَ بِناصِيَتِهِ وعِمامَتِهِ (¬4). والشافعيُّ لما رأى تخصيصَ فعلِه - صلى الله عليه وسلم - بعضَ الرأسِ، ورأى الناصِيَةَ لا تتقدرُ بربعِ الرأس، اكتفى بما يقعُ عليه اسم المسحِ، وبما يقعُ عليه اسمُ الرأس. فإن قال: فحديثُ المغُيرةِ يدلُّ على وجوبِ مسحِ الجميعِ؛ لما فيه من التكميلِ بالعِمامَةِ، ولو لم يجبِ الجميعُ، لما كَمَّلَ بالعِمامة التي هي حائِلٌ. قلنا: إنما ينتهِضُ (¬5) دليلُها للذي يُجَوِّزُ المَسْحَ على العِمامة، وينزلُها منزلةَ الرأس، وهو أحمدُ، ووافقه على ذلك جماعةٌ (¬6). ¬
وأما عندَ من لا يُجَوِّزُهُ؛ كمالِكٍ والشافعيِّ وأبي حنيفةَ، فلا يدلُّ (¬1). وضُعِّفَ الاستدلالُ به على إيجابِ الجميعِ؛ لمخالفةِ القِياسِ؛ لما فيه من الجَمْعِ بينَ الأصلِ والبَدَلِ في فِعْلٍ واحِدٍ، وذلك لا يجوزُ. والذي يظهرُ لي قوةُ الاستدلالِ به، وأنه موافق للقياسِ، وذلك أنه عُضْوٌ تدعو الحاجَةُ إلى سَتْرِهِ، ولا مَشَقَّةَ في مَسْحِ بَعْضِهِ، فوجبَ مسحُ المَيْسور؛ والاكتفاءُ بالبدلِ عن المَعْسورِ كما يُفْعَلُ في الجَبيرَةِ، ويخالفُ الخُفَّينِ؛ فإن في كشفِ بعضِ مَحَلِّ الفَرْضِ مشقةً، وقد يدعو نزعُ البعضِ إلى نزعِ الجميع، بخِلافِ العِمامة. والعجبُ من الشافعيَّة كيف اعتمدوا هذا التَّضْعيفَ، وقالوا: يُسْتَحَبُّ (¬2) التكميلُ بالعِمامةِ، فجمعوا بين البَدَلِ والمُبْدَلِ، وتحكَّموا، وجعلوا الأصلَ فَرْضًا، والبَدَلَ نَفْلًا، فهو خِلافُ الأصول؛ فإنه ما جازَ أن يكونَ بَدَلًا في النَّفْلِ، جازَ أن يكونَ بَدَلًا في الفَرْضِ، ولم نجدْ شيئًا يكونُ بَدَلًا في النَّفْلِ، ولا يكونُ بَدَلًا في الفَرْضِ. ثم اختلفَ أصحابُهم وغيرُهم من أهلِ المعاني في معنى الباء. فذهبَ مَنْ قالَ بقولِ مالِكٍ إلى أن الباء إمّا زائدةٌ، وإما معناها الإلصاقُ الذي هُوَ موضوعٌ لها حقيقةً، أي: أَلْصِقوا المَسْحَ برؤوسِكُمْ (¬3). وقيل: إن معناها الاستعانة والاعتمادُ، وإن في الكلامِ حذفًا وقلبًا، فإنَّ (مَسَحَ) يتعدّى إلى المُزالِ عنه بنفِسه، وإلى المُزيلِ بالباء، فالأصلُ: ¬
امسحوا رؤوسَكُم بالماء، ونظيرُه قولُ الشاعرِ (¬1): [البحر الكامل] ومَسَحْتِ بِاللِّثَتَيْنِ عَضْفَ الإثْمِدِ يقولُ: إن لِثاتِك تضربُ إلى السُّمْرَةِ، فكأنكِ مَسَحْتِها بمسحوقِ الإثْمِدِ، فقلبَ مَعْمولَيْ مَسَحَ (¬2). وذهبَ بعضُ من قالَ بالتقدير إلى أنَّ معناها التبعيضُ (¬3)، أي: من رُؤوسِكُم، وهو معنًى صحيحٌ شائعٌ في اللسانِ، قال به الكوفيون وبعضُ البَصْريين، قال عَنْتَرَةُ: [البحر الكامل] شَرِبَتْ بِماءِ الدُّحْرُضَيْنِ فَأَصْبَحَتْ ... زَوْراءَ تَنفِرُ عنْ حِياض الدَّيْلَمِ (¬4) أي: من ماءِ الدّحرضين. وأجابَ الشافعيُّ عن احتجاجِه بقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6]، فقال بِمَسْحِ الوجهِ في التَّيَمُّمِ بدلًا من غَسْلِه، فلا بدَّ أن يأتيَ بالمَسْحِ على جميعِ مواضِع الغَسْلِ منه، ومسحُ الرأسِ أصلٌ، فهذا فرقُ ما بينهما. * ثم أمرهمُ اللهُ سبحانه بغسلِ الرِّجْلَيْنِ، أو مَسْحِهما، على اخْتِلافِ القراءتين. ¬
وقد أجمعَ المسلمون على فَرْضِيَّة ذلك، لكنهم اختلفوا في أنواعِ طهارتهما. فالذي عليهِ عَمَلُ الناسِ، وقال به الجُمهورُ: أنَّ طهارَتَهُما الغَسْلُ (¬1). أما على قراءةِ النَّصْبِ، فالدَّلالَةُ ظاهِرةٌ. وأما على قراءةِ الخَفْض، فقيلَ: المرادُ بالمَسْح الغَسْلُ. قال أبو زيدٍ: المسحُ خَفيفُ الغَسْلِ، يقولُ العربُ: مسحَ اللهُ ما بك، أي: غَسَلَكَ وطَهَّرَكَ من الذنوبِ، فكذلك المسحُ يكون في الرِّجْلِ (¬2) هو الغَسْلُ الخفيفُ (¬3). وقيل: إنه خَفْضٌ على الجِوار، فهو معطوف في اللفظِ دونَ المعنى (¬4)، وذلكَ جائزٌ موجودٌ في لسانِ العربِ؛ كقولهم: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ (¬5). قال الشاعر (¬6): [البحر الطويل] كَأَنَّ ثَبيرًا في عَرَانينِ وَبْلِهِ ... كبيرُ أناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ ¬
وقال آخَرُ (¬1): [البحر الطويل] فَهَلْ أَنْتَ إنْ ماتَتْ أَتانُكَ راحِلٌ ... إلى آلِ بِشطامِ بنِ قيسٍ فخاطب وقال آخَرُ (¬2): [البحر الكامل] لَعِبَ الزَّمانُ بِها وغَيَّرَها ... بَعْدي سوافي المُورِ والقَطْرِ بخفض القطر. ويدلُّ على أن المرادَ به (¬3) الغسلُ فعلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذلكَ في جميع الحالاتِ والمواطِنِ، ولم يُنْقَلْ إلينا قَطُّ أنه مَسَحَ القَدَمَيْنِ، ولو كانَ واجبًا أَو جائزًا، لَبَيَّنَهُ عن اللهِ سُبحانه كما أوجَب ذلك عليه. وذهبتِ (¬4) الشيعةُ إلى أن الواجبَ المسحُ دونَ الغسلِ (¬5)، واحتجُّوا بقراءةِ الخَفْضِ (¬6)، وأجابوا عن قراءةِ النَّصْبِ بأنها عَطْفٌ على المَوْضِعِ؛ ¬
كقولِ الشاعر (¬1): [البحر الوافر] مُعاوِيَ إِنَّنا بشر فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنا بالجِبال ولا الحَديدَا ويُروى هذا المذهبُ عن بعضِ الصَّحابةِ والتابعين (¬2). قال محمدُ بنُ جَريرِ الطَّبَرِيُّ (¬3)، والجُبَّائيُّ من المُعْتَزِلَة (¬4): الواجبُ أحد الأَمْرَيْنِ؛ كالكَفَّارَةِ المُخَيِّرَةِ؛ إذْ ليسَ إحدى القِراءتينِ أَوْلَى منَ الأُخْرى. وقال بعضُ أهلِ الظاهرِ: يجبُ الجمعُ بين الغَسْلِ والمَسْحِ (¬5). * واختلفوا في دُخولِ الكَعْبينِ، كَما اختلَفوا في دُخول المِرْفَقَيْنِ. * واختلفوا أيضًا في المُرادِ بالكَعْبَيْنِ. فقال الجُمهورُ من أهلِ العلمِ: هما العَظْمان النَّاشِزانِ عندَ مفصِلِ الساقِ والقَدَمِ (¬6). ¬
وقال محمدُ بنُ الحَسَنِ وبعضُ أصحابِ الحديثِ: هما العَظْمانِ النّاتِئانِ في ظَهْرِ القدمِ (¬1). والدليلُ للجُمهورِ ما رواه البخاريُّ عن محمدِ بنِ زيادٍ قال: سمعتُ أبا هريرةَ، وكان يَمُرُّ بنا والناسُ يتوضَّؤون من المطْهَرَةِ، فقال: أَسْبغوا الوُضوءَ؛ فإن أبا القاسِم - صلى الله عليه وسلم - قال: "وَيْلٌ للأَعْقابِ منَ النارِ" (¬2). * وكذلكَ اختلفوا في الترتيبِ لهذهِ الأفعالِ. فذهبَ الجُمهور من الصحابةِ والتابعين إلى أنه ليسَ بواجبٍ، وبه قالَ مالكٌ، وأبو حنيفة (¬3)، وداودُ (¬4)، والمُزنيُّ (¬5)؛ لأن الواو لا تَقْتَضي تَرْتيبًا، ولا نَسَقًا، وإنما تقتَضي مُطْلَقَ الجَمْعِ. وذهبَ الشافعيُّ، وأحمدُ (¬6)، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ إلى وجوبِ الترتيبِ (¬7). ¬
ويدلُّ لهم أن الفاءَ تقتضي الترتيبَ، وقد عُلِّقَتْ طَهارةُ الوجهِ بالقيام، فدلَّ على أنه لا يجوزُ أن يتقدمَ غيرُهُ عليه، ولأنَّ اللهَ سبحانه قطعَ النظيرَ عن النظيرِ، فأدخلَ مَمْسوحًا بينَ مغسولَيْنِ، وقَدَّمَ القريبَ على ما هو أقربُ منه، فقدَّمَ اليَدَيْنِ على الرأسِ، وهو محلُّ الوَجْهِ، فدلَّتْ هذه المقاصِدُ والأَماراتُ على وجوبِ الترتيبِ. وقولُ الأولينَ: إن الواوَ لا تقتضي نَسَقًا ولا تَرْتيبًا غيرُ مُسَلَّمٍ (¬1)، بلْ نُحاةُ الكوفةِ قائلونَ باقْتِضائِها الترتيبَ (¬2)، ولم يُنْقَلْ إلينا أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تركَ الترتيبَ في وضوئه، بل تَوَضَأَ مُرَتبًا، وقالَ: "هذا وُضوءٌ لا يقبلُ اللهُ الصلاةَ إلا بهِ" (¬3). وأحسنُ عندي من ذلكَ كلِّه في الاستِدْلالِ ما استدلَّ بهِ الشافعيُّ في الكتابِ القديمِ من قولهِ - صلى الله عليه وسلم - في الصَّفا: "نَبْدَأُ بما بَدَأَ اللهُ بهِ" (¬4)، فجعلَ بِدايةَ اللهِ سُبْحانهُ سَبَبًا للتقديم (¬5). * إذا تقرَّرَ هذا، فقد روى غير واحدِ من الصحابةِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ¬
أنّهُ مَسَحَ على الخُفَّيْنِ (¬1). قال الحسنُ البصريُّ -رضي الله تعالى عنه-: حَدَّثنَي سبعونَ من أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يمسحُ على الخُفَّيْنِ (¬2). فيحتملُ أن يكونَ هذا قبلَ نُزولِ هذهِ الآيةِ، فيكونَ منسوخًا؛ كما رُوي عن عليٍّ وابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم-: سبقَ الكتابُ المَسْحَ على الخُفَّيْنِ (¬3). ويحتملُ أن يكونَ بعدَ نزولِ هذه الآيةِ، فيكونَ: إمّا ناسِخًا لهذه الآية عندَ من يَجَوِّزُ النَّسْخَ للكتابِ بالسُّنَّةِ، وإما مُبيِّنًا لها أنَّ المرادَ بها غيرُ لابِسِ الخُفِّ، ولأجلِ هذا توقَّفَ قومٌ، وشَكُّوا في جوازه. وذهب ابنُ عباس -رضيَ اللهُ تَعالى عنهُما- إلى أنه كانَ قبلَ نُزولِ المائدةِ، وقالَ: واللهِ مَّاَ مَسَحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعدَ المائدةِ (¬4). ويروى مَنْعُ المَسْحِ عن عائِشَةَ، وعليٍّ، وابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهم (¬5) -. ¬
واستقرَّ على هذا مذهبُ الشيعةِ (¬1)، وهو روايةٌ عن مالِكٍ (¬2)، وأنكرها أصحابُه، وبعضُهم تأَوَّلَها على أنه كانَ يُؤثرُ الوُضوء على المَسْحِ. وذهبَ جمهورُ أهلِ العلمِ وعامَّتُهم منَ الصحابةِ والتابِعينَ إلى جوازِه (¬3)، وتمسَّكوا بروايةِ جَريرِ بنِ عَبْدِ اللهِ البَجَلِيِّ له عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان يعجبُهم حديثُه؛ لأنَّ إسلامَهُ بعدَ نزولِ المائدةِ في شهرِ رمضانَ سنةَ عَشْرٍ، وفي بعضِ رواياتِه التصريحُ بأنه رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يمسحُ على الخُفَّينِ بعدَ نُزولِ المائدةِ (¬4). روى البَيْهَقِيُّ في "سُنَنِهِ" عن إبراهيمَ بنِ داودَ -رضيَ الله تعالى عنه-: أنه قالَ: ما سمعتُ في المسحِ على الخُفيْنِ أَحْسَنَ من حديثِ جريرٍ (¬5) -رضيَ اللهُ تَعالى عنه-. وأما ما رُوي عنِ ابنِ عباسٍ من الإنكارِ، فإنه كانَ قبلَ أن يعلمَ ثبُوتَ المَسْحِ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما ثبتَ عندَهُ، قال به. قال أبو بكرِ بنُ المُنْذِرِ: وروي عن موسى بن سَلَمَةَ بإسنادٍ صحيح: أنه (¬6) رخص فيه (¬7). ¬
وأما عائشةُ، فإنها أحالَتْ على عَلِيٍّ، فقالت للسائِلِ: ائْتِ عَلِيًّا؛ فإنه أعلمُ بذلكَ مني، فأتيتُ عَليًّا وسألتهُ عن المسحِ على الخفين، فقال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرُنا أن نمسحَ على الخُفَّينِ يومًا وليلةً، وللمسافرِ ثلاثة أيامٍ، خرجه مسلم (¬1). وما رُويَ من قولِ عليٍّ: سبقَ الكتابُ المَسْحَ على الخُفَّين، قال ابنُ المنذر: فليسَ لهُ إسنادٌ موصولٌ صحيحٌ تقومُ به حُجَّةٌ (¬2). * ولما أحكمَ اللهُ سبحانَه فرضَ الوضوء، بيَّنَ لنا فَريضةَ الغُسْلِ، فقالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، وقال في موضعٍ آخَرَ: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]. * والتطهُّرُ والاغتسالُ يَقَعُ في اللسانِ على إفاضةِ الماءِ على البَدَنِ، معَ إِمرارِ اليدِ، وبدون إِمرارها؛ كما هو مذهبُ الجُمهور (¬3). وأوجبَ مالكٌ (¬4) والمُزنيُّ (¬5) إمرارَ اليَد. * وبين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ما فرضَهُ اللهُ سبحانَهُ بقولِه وفعلِهِ. روينا في "صحيح البُخاريِّ" و"مُسْلِمٍ" عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها-: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغْتَسَلَ من الجَنَابَةِ، غسلَ وجهَهُ ويَدَيْه، ثم توضَّأ وضُوءَهُ للصلاة، ثم اغتسل، ثم يُخَلِّلُ بيديه شَعْرَهُ، حتى إذا ظَنَّ أنه ¬
قَدْ أروى بَشَرَتَهُ، أفاضَ عليهِ الماءَ ثَلاثَ مَرّاتٍ، ثم غسلَ سائرَ جسده (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - لأمِّ سَلَمَةَ لَمّا قالَتْ: يا رسولَ الله! إني امرأةٌ أَشدُّ ضَفْرَ رَأْسي، أَفَأَنْقُضُهُ لغسلِ الجنابة؟ فقال: "لا، وإنَّما يكفيكِ أن تَحْثي على رأسِكِ الماءَ ثلاثَ حَثَياتٍ، ثم تُفيضي عليكِ الماءَ، فإذا أنتِ قَدْ طَهُرْتِ" (¬2). وليسَ بينَ الحديثينِ اختلافٌ، فحديثُ عائشةَ في بيانِ الأفضلِ، وحديثُ أمِّ سلمةَ في بيانِ الواجبِ. وقد تقدَّمَ الكلامُ على الجَنابَةِ وحَدِّ المرضِ والسَّفَر، وبيانِ المُلامَسَةِ، وبيانِ الصَّعيدِ، وغيرِ ذلكَ من المباحِثِ النفيسةِ في "سورةِ النساء". * وبيَّنَ اللهُ سُبْحانه هُنا، وفي "سور النِّساءِ" صِفَةَ التيمُّمِ فقال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]. * وقد قدمتُ قريبًا بيانَ الوَجْهِ، وأنه مشتقٌّ من المُواجَهَةِ. * وأما اليدُ فتقعُ لغةً على الكَفِّ معَ الساعدِ، وتقعُ عليهما مع العَضُدِ. ولأجلِ هذا الاشتراكِ وقعَ الاختلافُ بينَ أهلِ العلم. فحملَ كثيرٌ منهمْ مُطْلَقَ اليَدِ على المُقَيَّدِ في الوضوء. واستدلُّوا بحديثِ ابنِ الصِّمَّةِ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- قال: مررتُ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يبولُ، فمسح بجدارٍ، ثم يَمَّمَ وجْهَهُ وذِراعيه (¬3). ¬
وبما روى ابنُ عمرَ -رضي الله تعالى عنه-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "التيمُّمُ ضَرْبتان: ضَرْبةٌ للوجهِ، وضربةٌ لليدينِ إلى المرفقين" (¬1). وبهذا قال عليٌّ وابنُ عمرَ (¬2)، ومالِكٌ والشافِعيُّ وأبو حنيفةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم (¬3) -. وحملَهُ قومٌ على الكفينِ. واستدلوا بما رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ عن عمارِ بنِ ياسرٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- أنه قال: بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجَةٍ، فأَجْنَبْتُ، فلمْ: أجدِ الماءَ، فَتَمَرَّغْتُ في الصَّعيدِ كما تَمَرَّغُ الدابَّةُ، ثم أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكرتُ ذلكَ له، فقال: "إنما يكفيكَ أن تقولَ بيديكَ هكذا" ثم ضربَ الأرضَ ضربةً واحدةً، ثم مسحَ الشِّمالَ على اليمينِ، وظاهرَ كَفَّيْهِ ووَجْهَهُ (¬4). وبهذا قالَ الأوزاعيُّ، وأحمدُ، وإِسْحاقُ، وعامَّةُ أصحابِ الحديثِ (¬5). فيحتمل أنهم رَجَّحوا حديثَ عَمَّارٍ؛ لصِحَّته، وأنهم حَملوا غيرَه على الاستحباب، والآخرونَ إنما قَدَّموا حديَث ابنِ الصِّمَّةِ على حديثِ عَمّارِ؛ لاتفاقِهِ، واختلافِ حديثِ عمارٍ. فروى الزهريُّ عن عُبيدِ الله بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ عن أبيهِ: أن عَمّارَ بنَ ¬
ياسرٍ قال: تيمَّمْنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكِبِ (¬1). وروى الزهريُّ أيضًا عن عُبيد اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ عنْ أبيه: أن عمارَ بنَ ياسرٍ قال: كنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فنزلتْ آيةُ التيمم (¬2)، فتيممنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكِب (¬3). فهذا تصريحٌ بان هذا أولُ تَيمُّمٍ كان حينَ نزلتْ آيةُ التيمم. فلا تخلو روايتُه التي قَدَّمناها: إمّا أن تكونَ ناسِخَةً لهذه؛ لخلوِّها عن (¬4) هذا التاريخ بالأولية، أو تكونَ مخالفةً لها من غير نسخ، فالأخذُ بمَنْ لم تختلفْ روايتُه أولى ممَّنِ اختلفَتْ روايتُه، ولأنُه أشبهُ بالقرآن من روايتي عمار، وأشبهُ بالقياس؛ لأن التيمُّمَ بَدَلٌ من الوُضوء، وينبغي أن يكونَ البَدَلُ مِثْلَ المُبْدَلِ منه. ويظهرُ لي بَحْثٌ في الجَمْعِ بينَ حديثِ عَمَّارٍ وغيرِه من الأحاديثِ، وبينَ رواياتِ عمارٍ أيضًا، وهو أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قصدَ أن يردَّ على عَمَّارٍ فِعْلَهُ، ويبينَ له غلطَهُ، حيثُ عَمَّ بدنه بالتمرُّغِ، وتركَ الضربَ باليدينِ والمسحِ بهما، فبينَ له كيفيةَ العملِ، وأنه لا بدَّ من الضربِ باليدينِ، ولم يردْ بيان مقدارِ الواجب، فقال لهُ: "وأما أنت يا عَمَّارُ فلمْ يكُنْ ينبغي لكَ أن تَتَمَعَّكَ كما ¬
تَتَمَعَّكُ الدابَّةُ، إنَّما كان يُجزيك" وضربَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيدِه إلى الأرضِ إلى الترابِ، ثم قال هكذا، فنفخَ فيها، ومسحَ وجهَه ويديه إلى المفْصِلِ (¬1). وفي لفظٍ آخرَ: "إنما يكفيكَ أن تقولَ بيديكَ هكذا" (¬2)، ثم ضربَ الأرضَ، ولو كانَ مقصودُه بيانَ مقدارِ الواجبِ دونَ كَيْفِيَّتِهِ لقالَ له: إنه كانَ يكفيكَ هذا. فإن قلتَ: فقد وردَ في بعضِ ألفاظِه: قال عمارٌ لعمرَ: تَمَعَّكْتُ، فأتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: "يكفيكَ الوجه والكفين" (¬3). قلنا: يحتملُ أن عمارًا قصدَ الاحتجاجَ على عمرَ لمّا منعَ التيمُّمَ عنِ الجَنابة، فروى عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - جوازَ التيمُّم عن الجنابةِ، فنقلَ بالمعنى أصلَ الجَواز، ولم يقصِدْ بيانَ الكيفية، فاختصرَ في الكلامِ، وحذفَ لَفْظَةَ "إنما"؛ كما اختصرَ أبو موسى في بعضِ طرقِ هذا الحديث؛ حَيْثُ قصدَ الردَّ والاحتجاجَ على عبدِ الله لما قالَ بما قالَ عمرُ. روى شقيقُ بنُ سَلَمَةَ قال: كنتُ عندَ عبدِ اللهِ وأبي موسى، فقال أبو موسى: أرأيتَ يا أبا عبدِ الرحمن إذا أجنبْتَ فلم تجدْ ماءً، كيفَ تصنعُ؟ فقالَ عبدُ اللهِ: لا (¬4) نصلِّي حتى نجدَ الماءَ، فقال أبو موسى: فكيفَ تصنعُ ¬
بقولِ عَمَّارٍ حينَ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كان يكفيك" (¬1)، فاختصر، فدلَّ على أنهم لم يُريدوا حقيقةَ سِياقِ لفظِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ويحتملُ أن عَمَّارًا عَبَّرَ بالكَفَّينِ، وأراد بهما اليدين تَجَوُّزًا؛ بدليلِ ما رُوي في بعضِ طرقِ حديثِ عَمار "وأن تمسح بيدكَ إلى المِرْفقين" (¬2). فإن قلتَ: فقولُه: "ثم مسحَ الشِّمالَ على اليمين، وظاهرَ كَفيهِ ووجهَه"، يدلُّ على أنه قصدَ أن يبينَ له مقدارَ الواجبِ في التيمُّم. قلنا: مسحه بالشِّمال على اليمين يحملُ على طلب (¬3) تَخفيفِ الغُبار؛ كما وردَ في بعضِ ألفاظه: "ثم نَفَضَها" (¬4)، ثم بيَنَ لهُ مسحَ الوجهِ، وسكتَ عن اليدينِ، والسكوتُ يحتملُ أن يكونَ من عمارٍ، بدليلِ ما وردَ في بعضِ طرقِه: "وأن تَمْسَحَ بيديكَ إلى المِرْفَقَيْنِ"، والقضيةُ واحدةٌ. ولو حملنا بيانه - صلى الله عليه وسلم - على بيانِ مقدارِ الواجبِ في التيمُّم، لكان مقدِّمًا لفرضِ اليدِ على الوجهِ في التيمُّم؛ بدليل ما ورد في بعض رواياته: "ثم مسحَ وجهه" (¬5)، بلفظةِ (ثم) الموجبةِ للترتيب، ولم يردْ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تقديمُ اليدين على الوَجْهِ في وضوءٍ ولا تيمُّمٍ، لا قولًا ولا فعلًا. ¬
وهذا البحثُ يرفعُ الاختلافَ بين الأحاديثِ من طرقٍ كثيرة: أحدها: في مقدار الواجبِ، فيكونُ الواجبُ مسحَ الوجهِ والذراعين. ثانيها: في كيفيةِ المسحِ، ففي حديثِ عَمّارٍ ضربةٌ واحدةٌ، وفي غيره من الأحاديث الأمرُ بالضربتين، فيكون الواجبُ ضربتين، كما هو قول الجمهور. وثالثها: بطلانُ ترتيبِ الوجهِ على اليدين. ورابعها: الجمعُ بين روايتيه، فيكونُ مرةً ذكرَ الحديثَ مستوفًى، ومرةً ذكرَ بعضَه مختصرًا، فيزولُ بذلك الاختلافُ في روايته. وأما روايةُ المناكِب فتحمَلُ على أنهم فَعلوا ذلكَ طَلَبًا لإطالَةِ الغُرَّةِ كما يَفْعلون في الوُضوء، وأقرَّهُمْ عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإطالة الغرة مستحَبٌّ في التيمُّمِ على الأَصَحِّ عندَ الشافعية. فَلْيُنْظَرْ في هذا، فإن كانَ حَسنًا، فمنَ اللهِ، وله الحمدُ، وإن كان خَطَأً، فمنِّي، وأنا أستغفرُ اللهَ الكريمَ. وحُكيَ عن الزُّهْرِيِّ ومحمدِ بنِ سلمة (¬1): أنهما أوجبا التيمُّمَ إلى المَنْكِبين؛ لما قدمتهُ من حديثِ عمار. * إذا تمَّ هذا، فإن الباء في قولِه: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6] يجوزُ أن تكون للإلْصاقِ، أو للاعتِمادِ، أو للزيادَةِ والتوكيدِ؛ كما قدمتُ ذلكَ آنفًا، ولا يجوزُ أن تكونَ للتبعيضِ، وهذا مِمَّا يدلُّ لِمَنْ منعَ التبعيضَ في مَسْحِ الرأسِ، وأوجبَ تعميمَه بالمَسْحِ. ¬
* وفي الآيةِ دليل على أن الجُنُبَ يجوزُ له أن يتيمَّمَ (¬1). وعلى هذا استَقَّر الأمرُ بعدَ الخِلافِ في الصَّدْرِ الأَوَّلِ، فكان عمرُ وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ لا يجوزان التيمُّمَ للجُنُب (¬2). روى البخاريُّ عن شَقيقِ بنِ سَلَمَةَ قال: كنتُ عندَ عبدِ اللهِ وأبي موسى، فقال له أبو موسى: أرأيتَ يا أبا عبد الرحمن إذا أجنَبَ فلم يجْد ماءً كيفَ يصنع؟ فقال عبدُ الله (¬3): لا يصلي حتى يجدَ الماءَ، فقال أبو موسى: فكيف تصنعُ بقولِ عَمَّارٍ حينَ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كان يكفيك"؟ قال: ألم ترَ إلى عمرَ لم يقنعْ بذلكَ منه؟ فقال أبو موسى: فدعنا من قولِ عَمّارٍ، كيف تصنع بهذه الآية؟ فما دَرى عبدُ الله ما يقولُ، فقال: إنا لو رَخَّصْنا لهم في هذا، لأوشكَ إذا بردَ على أحدِهِمُ الماءُ أن يَدَعَهُ ويتيمَّمَ، فقلتُ لشقيقٍ: إنما كرهَ عبدُ الله لهذا؟ فقال: نعم (¬4). وقيل: إن عمرَ وابن مسعود رَجَعا عن ذلك (¬5)، والله أعلم. * وكنت قَدَّمْتُ أولاً أنَّ مفهوم قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] لا يوجبُ تكَرار الوضوءِ لكلِّ صلاةٍ (¬6)، خلافاً ¬
لابنِ سيرين (¬1)؛ لأجلِ فعلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالوضوءِ الواحد (¬2)، فهل يقتضي بمفهومه أنه يجبُ طلبُ الماءِ والتيمُّمُ لكلِّ صلاةٍ عندَ القيامِ، أو لا يجب كالوضوء (¬3)؟ فباقتضاء المفهومِ قالَ الشافعيُّ ومالِكٌ (¬4)، فأوجبا الطَّلَبَ والتيمُّمَ لكلِّ فريضةٍ. وبتركِ المفهومِ قال أبو حنيفةَ، فلم يوجبْ ذلك (¬5). * فإن قلتَ: فهل يدلُّ هذا المفهومُ عندَ مَنْ قالَ به على أنه لا يجوزُ فِعْلُ التيمُّمِ قبلَ دخولِ الوقت؟ قلتُ: يجوزُ أن يُقال: لا يَدُلُّ؛ لأن المُعَلَّقَ بالشَّرْطِ إنَّما هو الوجوبُ، والوجوبُ في وقتٍ لا يمنعُ الجَوازَ في غيرهِ. ويجوزُ أن يقال: فيه دلالةٌ على التقييدِ بالوقتِ وجُوباً وجوازاً؛ فإنه عبادةٌ، وقد وردَ توقيتُ وجوبِها بوقتِ الصلاةِ، فلا يجوزُ في غيرهِ؛ كسائرِ ¬
العبادات، وإنما خرج الوضوءُ بفعلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلَواتِ بوضوءٍ واحد، أو لأنه طهارةٌ لا عبادةٌ كما ذهبَ إليه أبو حنيفةَ والثوريُّ، ولهذا لم يوجبا النِّيَّةَ في الوضوء، وأوجباها في التيمُّم؛ لأنه عبادة (¬1). وأما أبو حنيفةَ، فعلى أصلهِ في هذهِ المسألة منْ بُطلانِ المفهومِ، وأنه يجوزُ التيمُّمُ قبلَ دخولِ الوقتِ؛ كالوضوء. ¬
من أحكام الحدود
(من أحكام الحدود) (الحرابة) 110 - (7) قوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]. * اتفقَ العلماءُ على أن حكمَ هذهِ الآيةِ واقعٌ على المحارِبين منَ المسلمين، وإن اختلفوا في سببِ نُزولِها. وبيانُها يَتَّضِحُ بذكرِ ثلاثةَ أقسام: القسم الأول: في حَدِّ المحاربة. وقد اتفقوا على أنها إشهارُ السلاحِ وقطعُ السبيلِ خارجَ المِصْرِ، وهذا هو الواقعُ على المحارَبَةِ في العُرْفِ (¬1). واختلفوا في مسائلَ وراءَ هذا: منها: إذا فعلَ المحارِبُ ذلكَ في المِصْر: ¬
فقال أبو حنيفة (¬1)، وعَطاءٌ، والثوريُّ (¬2): لا تتعلقُ به هذه الأحكامُ، إلا إذا كان بالبريَّة (¬3). وسَوّى مالِكٌ وأكثرُ الحنابِلَةِ بينَ المِصْرِ وغيرهِ (¬4)، ووافقه الشافعيُّ على ذلكَ، وخالفَهُ في اشتراطِ الشَّوْكَةِ. فاشترط الشافعيُّ الشَّوْكَةَ والقَهْر في مَحَلٍّ ينقطعُ فيه الغوثُ، فإن تصورَ ذلكَ في المِصْرِ، كان فاعلُه محارِباً (¬5). ولم يشترطْهُ مالِكٌ، فلو دخلَ إنسانٌ برجلٍ أو صبيٍّ موضِعاً، وأخذَ ما معه، كان محارباً، حتى جعل أصحابهُ من يسقي الناسَ المُسْكِرَ ليأخذَ ما معهُم محارباً (¬6). ومنها: اشتراطُ السلاحِ: فاشترطه أبو حنيفة (¬7)، ولم يشترطْه مالِكٌ والشافعيُّ (¬8). فلو خرجَ بالعَصا، أو بالحِجارة، أو باليدِ، كان محارِباً؛ كما يكون ¬
الكافرُ إذا حارب بهِ حربياً، والمسلمُ مجاهداً، وهذا القولُ متعيِّنٌ، والله أعلم. القسم الثاني: في جزاء هذه الجناية. وقد حَصَرَ (¬1) اللهُ سبحانه جزاءها في أربعة أنواع، ونَسَّقَها بلفظ (أو) الموضوعة للتخييرِ حقيقةً، وللتنويعِ مَجازاً. فمن أهلِ العلمِ من حَمَلَها على موضوعِها الحقيقيِّ، فقال: الإمامُ مُخَيَّرٌ في قتلهِ أوصلبهِ [أو نفيه] أو قطعِه من خِلافٍ. ويروى عن الحسنِ، وإبراهيمَ، وابنِ المسيِّبِ، والضَّحَّاك، وعَطاءٍ، ومُجاهِدٍ (¬2). ورواه الوالِبِيُّ عن ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما (¬3) -. وبه قالَ مالكٌ وأبو ثَوْرٍ (¬4). ومعنى التخييرِ عندَه: أن الأمرَ في ذلكَ منوطٌ باجتهادِ الإمامِ، فإن كانَ المحارِبُ من ذوي الرأي والتدبيرِ، فوجهُ الاجتهادِ قتلُه وصلُبه؛ لأن القطعَ ¬
لا يرفَعُ ضررَهُ، وإن كان من ذوي البَطْشِ دونَ الرأيِ، قَطَعَهُ من خلافٍ، وإن خَلا منَ الصفتين أخذَ بالضربِ والنفي. ومنهم: من جعلهَا للتنويعِ بِحَسَبِ أنواعِ الجرائمِ. فقال ابنُ عباسٍ: إذا قتلوا وأخذوا المالَ، قُتلوا وصُلِبوا، وإذا قَتَلوا ولم يأخذوا المالَ، قُتِلوا ولمْ يُصْلَبوا، وإذا أخذوا المالَ ولم يَقْتُلوا، قُطِعَتْ أيديهم وأرجلُهم من خلافٍ، ونفيُهم إذا هربوا أن يُطْلَبوا حتى يوجَدوا، فيقامَ عليهم الحَدُّ (¬1). وبه قال الحسنُ، وقتَادةُ، والأوزاعيُّ، وابنُ جُبَيْرٍ (¬2). وبه أخذَ الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، وأحمدُ، وإن اختلفوا في التنويع (¬3). ولكنَّ الشافعيَّ تبعَ تفسيرَ ابنِ عباسٍ، وخَرَّجَهُ في "مُسندِه" (¬4) وله من الدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلاّ بإحدى ثلاثٍ: كفرٌ بعدَ إيمانٍ، أو زِنًى بعدَ إِحْصانٍ، أو قَتْلُ نَفْسٍ بغير حَقٍّ" (¬5)، ولأن هذا أشبهُ باعتبارِ الشرعِ في العُقوبات. * واختلفوا في وقت الصَّلْبِ ومِقْدارهِ. فقال الشافعيُّ: وقتُه بعد القتلِ، ومقداره ثلاثةُ أيام، إلا أن يُخافَ عليه ¬
التغييرُ؛ لأن الله سبحانهَ بدأ بالقَتْلِ (¬1). وقال قومٌ: إنه يصلب حتى يموتَ جوعاً، وبه قالَ بعض (¬2) الشافعيَّةُ (¬3). وقال أبو يوسُفَ: يُصْلَبُ حَيًّا ثلاثةَ أيامٍ، فإن ماتَ، وإلا قُتِلَ (¬4)، وحكى ابنُ القاصِّ هذا عن الشافعيِّ أيضاً، وأنكره سائِرُ الشافعيةِ، بل قال الشافعيُّ: أكرهُ أن يُقْتَلَ مَصْلوباً؛ لنهيِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عن المُثْلَةِ (¬5) (¬6) (¬7). * وصفةُ قطعِ الأيدي والأرجُلِ من خِلافٍ: أن تُقطعَ يدُه اليُمنى من الكُوع، وتقطَعَ رجلُه اليسرى من مَفْصِلِ القَدَمِ، ثم إن عادَ قُطعت يدُه اليسرى ورجلُه اليُمنى (¬8). ¬
* واختلفوا في صفةِ النَّفْيِ من الأرضِ. فقال أبو حنيفةَ وأهلُ الكوفة: هو السجنُ، لأنه إذا حُبِسَ فقدْ نُفِيَ عن التَّقّلُّبِ في الأرضِ (¬1)، ويروى عن مالكٍ (¬2)، والشافعي (¬3). وقال آخرون: هو أن يُنْفى من بلدٍ إلى بلدٍ، فيحبسَ في البلدِ الثاني إلى أن تظهرَ توبتُه، ويكون بينَ البلدينِ أقل مسافَةِ القَصْرِ. ويروى عن مالِكٍ (¬4)، وخصَّ بالأرضِ مكانَ الجِناية، واستحسَنَهُ ابنُ سُرَيْجٍ من الشافعيةِ (¬5). وقيل: يُطلبون بالحَدِّ أبداً، فيهربون، وأما أنه يُنْفى بعدَ أن يُقْدَر عليه، فلا، قاله ابنُ عباسٍ، وأَنَسٌ (¬6)، والزُّهْرِيّ، وقَتادَةُ (¬7)، ومالِكٌ (¬8). ¬
وقال قومٌ: ينفى إلى بلدِ الشرك، قاله أنسٌ والزهريُّ (¬1): هكذا نُقِلَت هذه الأقاويلُ. ويظهر لي عدمُ الاختلافِ فيها، وأنها راجعةٌ إلى الاختلاف في التخيير والتنويع. فمن قال: يُسْجَنُ إذا أخاف السبيلَ، ولم يأخذْ مالاً ولا نفساً، وهو أبو حنيفة والشافعي، أرادَ (¬2) إذا قُدِرَ عليهِ. ومن اختارَ حَبْسَهُ في بلدٍ آخرَ، فإنما اختارَه لكونه أبلغَ في الزَّجْر والإيحاش، وليقطع عليه اسمُ النفي، وليس هو في الحقيقِة مُخالفاً للأولِ؛ لأنه ما عُوقِبَ إلا بالحَبْسِ حَتّى تظهرَ توبتُه. ومن قال: يطلَبُ بالحَدِّ أبداً، فمراده: إذا وجَب عليهمُ الحَدُّ، ولم يُقْدَرْ عليهم، فإنَّ الإمَام يطلُبُهم أبداً لإقامةِ فرضِ الله سبحانه الذي بهِ صلاحُ البلادِ والعِباد، وهو في الحقيقةِ طلبُ الجزاءِ, لا حقيقةُ الجزاءِ. ومن قال: ينفى إلى بلدِ الشِّرْكِ، فمراده: إذا وجبَ عليه الحَدُّ، ولم يُقْدَرْ عليه، فلا يجوزُ للإمام أن يُقِرَّهُ في البلاد التي في طاعَتِه - وهي بلادُ الإسلامِ - من غيرِ إقامةِ حَدٍّ، فيجبُ عليهَ طلبُهُ، ولو تعزَّزَ في الجبالِ، واحتاجَ تجهيزَ جيوشٍ كثيرةٍ، فإما أن يُظفر به في أطرافِ بلادِ الإسلامِ، أو لا يُقْدَرَ عليهِ لخروجهِ عن مَحَلِّ وِلايةِ الإمامِ التي هيَ دارُ الإسلام، وإذا خرج منها، دخلَ دارَ الشركِ، وقد رحمه اللهُ سبحانه، وجعلَ له مَخْلَصاً من هذه العُقوبةِ بالتوبةِ، ومن دخُولِ دارِ الشرك، ولا يظنّ به أنه يأمرُ بإدخالِ ¬
مسلمٍ داراً أوجبَ اللهُ على المسلم الخُروجَ منها، ولأنه ربَّما فتنَهُ المشركون عن دينه، وأوقعناه في مَفْسَدَةٍ أكبرَ من الأولى. * إذا علمتَ هذا، ففي الآيةِ إشارةٌ إلى أن هذا الجزاءَ حَدٌّ خالِصٌ للهِ تعالى عقوبةً لهم لأجلِ محاربةِ الله تعالى، والفساد في أرضه، وهو متفق عليه. ويؤخَذُ منه أن المحارِبَ إذا قَتَل، وعفا عنه وليُّ الدم أنه لا يفيده العفو، وأنه إذا قَتَلَ مَنْ ليسَ كُفُؤاً له، أنه يُقْتلُ، وهو كذلك، وللشافعيِّ قولٌ ضعيفٌ أنه يفيدُهُ العفوُ، وأنه لا يُقْتلُ بغيرِ المُكافِئ. * ويؤخذ منه أيضاً أنه يُقْطَعُ إذا أخذَ المالَ، وإن كانَ دونَ نِصابِ السرقةِ، وبهذا قال مالِكٌ (¬1). وذهب الشافعيُّ إلى تحديده بالنِّصاب؛ قياساً على السرقة (¬2). وليسَ هذا القياسُ بِمَرْضِيٍّ لفسادِ اعتبارِه، فإنَّ أمرَ المُحارَبَةِ أَغْلَظُ من السرقةِ، فلا يقاسُ المُغَلَّظُ على المُخَفَّفِ، كيفَ والحدودُ لا قياسِ فيها؟ ولأنه لم يُنقلْ في المالِ تحديدٌ من السُّنَةِ كما نُقِلَ في السرقة، ولا يَخْفى مثلُ هذا على أبي عبدِ الله، لكنَّهُ لما تردَّدَ عندَهُ القَتْلُ والقَطْعُ بينَ القِصاص والحَدِّ، جعلَهُ قِصاصاً في أحد القَوْلَيْن، ولم يجعلْه حَدًّا؛ لاعتبارِ الشارعِ (¬3) بِدَرْءِ الحُدودِ وإسقاطِها، ولأجلِ هذا المدرَكِ اعتبرَ النِّصابَ احْتِيَاطاً لحدودِ الله، والله أعلم. ¬
القسم الثالث: في التوبةِ من هذهِ الجنايةِ. وقد قالَ بقبولِ توبةِ المُحارِبِ قبلَ القُدْرَةِ عليهِ كافَّةُ أهلِ العِلْم. ثم اختلفوا في الذي تُسْقِطُهُ التوبةُ. فقال الليثُ: يسقطُ بها حقوقُ اللهِ تَعالى، وحقوقُ الآدَمِيِّينَ من مالٍ ودمٍ (¬1)، أما حقوقُ اللهِ تَعالى، فللآية، وأما حقوقُ الآدميين، فلِما رُويَ أن عليَّ بنْ أبي طالبٍ - كرم اللهُ وجهَهُ في الجَنَّةِ - قبلَ توبةَ حارثةَ بنِ بَدْرِ (¬2) التَّميميِّ، وأَمَّنَهُ، وكتبَ له كِتاباً (¬3). وقال مالِكٌ في روايةٍ نَحْوَه (¬4)، إلا أنه يُؤْخَذُ في المالِ بما وجد عينهُ في يده، ولا تتبع ذِمَّتَهُ؛ لأن إقرارَهُ في يده إقرارٌ على المُنْكَرِ، وكذا يؤخذُ بالدمِ إذا قام وليُّ المقتولِ بطلب دمه، وأما إذا لم يَطْلُبْهُ أحدٌ، فلا يؤخَذُ به. وقال الشافعيُّ، ومالِكٌ، وأبو ثَوْرٍ، وأحمدُ: تسقطُ عنهُ حقوقُ اللهِ تعالى فقط، وأما حقوقُ الآدميين، فلا تسقطُ، وبه قالَ الحنفيةُ (¬5). ¬
وهو أصحُّ الأقوالِ؛ لأنَّ الله - سبحانه وتعالى - لم يذكرْ إلا جزاءه، وحَظَّهُ من العقوبةِ فقط، ثم عقبه بذكرِ التوبةِ، وأما حقوقُ الآدميينَ فقد تظاهَرَتِ النُّصوصُ على أنها لا تَسْقُطُ إلا بإسقاطِ صاحبها، وليسَ في الآيةِ تَعَرُّضٌ لذكِرها. * وأطلقَ اللهُ سبحانَه التوبَةَ هنا، ولم يقيدْها كما قَيَّدَها في آيةِ السَّرِقَةِ بالإصلاح، وهي على إطلاقِها، ولا يجوز أن تُقَيَّدَ بآيةِ السرقةِ (¬1)؛ لاختلافِ السببين، ولوضوحِ الفرق بين الجِنايَتين. وذلك أن المحارِبَ مجاهِرٌ بفعلهِ، فإذا تابَ، فالظاهِرُ من حاله أنه لم يَتُبْ تَقِيَّةً، وإنما رجعَ عمَّا كان عليه، والسارِق مُسْتَخفٍ بفعلهِ، فإذا تابَ حُمِلَ على التَّقِيَّةِ، ولما في قَبولِ توبةِ المُحارِبِ من الصَّلاحِ وتركِ الفتنة، بخلافِ السارقِ، ولهذا لا تقبلُ توبتُه بعدَ القدرة عليه. * إذا تمَّ هذا، فقد روى الشيخان عن أَنسِ بنِ مالِكٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - قال: قدمَ ناسٌ من عُكْلٍ او عُرَيْنَةَ، فاجْتَوَوُا المدينةَ، فأمرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لهمْ بلِقاحٍ، وأَمَرَهُم أن يشربوا من أبوالِها وألبانِها، فلما صَحُّوا، قَتَلوا راعِيَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، واستاقوا النَّعَمَ، فجاءَ الخبرُ أولَ النَّهارِ، فبعثَ في آثارِهم، فلما ارتفعَ النَّهارُ، جيءَ بهم، فَأَمر بهم (¬2)، فَقُطِّعتْ أيديهم وأرجلُهم، وسُمِلَتْ أَعْيُنُهُمْ، وتُرِكوا في الحَرَّةِ يَسْتَسقونَ، فلا يُسْقَوْنَ (¬3). ¬
وقدِ اختلفَ أهلُ العلمِ في الجَمْعِ بين الحديثِ والآية. فقال بعضُهم: إنما سَمَلَ أَعْيُنَ أولئكَ؛ لأنهم سَمَلُوا أعينَ الراعي، فاقتصَّ منهم بمثلِ ما فعلوا، وهذا ما ذكرهُ مُسْلِمٌ في "صحيحه" (¬1). ورويَ عن الزُّهْرِيِّ أيضاً في قِصَّةِ العُرَنِيِّيْنَ أنه ذُكِرَ أنهم قَتلوا يَساراً مولى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم مَثَّلوا به (¬2) (¬3). وقال الليثُ وابنُ سيرين: الحديثُ منسوخ بالآية (¬4). وقال ابنُ شِهابٍ أيضاً بعدَ أن ذكرَ قِصَّتَهم: وذكروا - واللهُ أعلمُ - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نُهِىَ بعدَ ذلكَ عنِ المُثْلَةِ بالآية التي في سورة المائدة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية، والتي بعدها، ونهى عن المُثْلَةِ وقال: "لا تُمَثِّلُوا بشيءٍ" (¬5). ¬
السرقة
(من أحكام الحدود) (السرقة) 111 - (8) قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]. أوجبَ الله سبحانه علينا في هذهِ الآية قَطْعَ يَدِ السارقِ والسارقةِ، وأطلقَ ذلكَ في جَميع الأحوالِ والصِّفاتِ. وقد اتفقَ أهلُ العلمِ على وجوبِ قطعِهما، واتفقوا على تَخْصيصِ هذا الإطلاقِ والعُمومِ ببعضِ الأحوالِ، فاشترطوا أشياءَ تُعارِضُ هذا العمومَ: منها: ما إذا سرقَ ما لَهُ فيهِ شبهةٌ؛ كالغانِم إذا سرقَ من الغنيمةِ قبل القسمةِ، وكالأبِ إذا سرقَ مالَ ابنِه؛ لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ادرؤوا الحُدودَ بالشُّبُهاتِ" (¬1). ¬
واختلفوا في تفاصيلِ ذلك في فروعٍ كثيرةٍ يطولُ بنا ذكرُها، وليس هو من غرضنا. ومنها: اشتراطُ النِّصابِ. فلم يعتبرْهُ أهلُ الظاهِرِ، وأوجَبوا القَطْعَ في القليلِ والكَثيرِ. وبه قالَ الحسنُ البَصْرِيُّ، وابنُ بنتِ الشافعيِّ، وطائفةٌ من المتكلِّمين (¬1). واستدلوا بظاهرِ الآية، وربما احتجُّوا بما روى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله تعالى عنه- أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعنَ اللهُ السارقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ، فَتُقْطَعُ يدُه، ويسرقُ الحَبْلَ، فتقطعُ يدُه" (¬2). وقال سائرُ أهلِ العلمِ بِاشتراطِ النِّصابِ (¬3)، واستدلُوا بما رُويَ عن عائِشةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنها -: أنها قالت: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يقطعُ يدَ السارقِ إلا في رُبع دينارٍ فصاعِداً (¬4). وفي رواية: لا تقطَعُ اليدُ إلا في رُبع دينارٍ فما فوقهِ (¬5). ¬
وفي رواية: لم تقطَعْ يدُ السارقِ في عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في أقلَّ منْ ثَمَنِ المِجَنِّ (¬1). وقالت أيضاً: سِمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تقطع اليدُ في ربعِ دينارٍ فصاعداً" (¬2). وللظاهرية أن يقولوا: هذه الرواياتُ، وإن قويَ ظهورُها، فالحديثُ الأولُ الموافقُ لظاهرِ القرآنِ أقوى منها، فإنه يَحْتَمِلُ أن تكونَ قالتْ ذلكَ بالاجتهادِ في بعضِها، وبعضُها ليس فيه أكثرُ من دَلالةِ المفهومِ، وذلك لا يُقاوِمُ المَنْطوقَ. ولكنه يدلُّ للجماعةِ ما رُوي عن عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيهِ، عَنْ جَدِّهِ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقطع يدُ السارقِ في (¬3) دونِ ثمنِ المِجَنِّ" قال: وكان ثمنُ المِجَنِّ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عشرةَ دراهِمَ (¬4)، وروي في حديثِ ابنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنه- أن ثمنَ المِجَنِّ ثلاثةُ دراهمَ (¬5)، فإن صَحَّ هذا، أو حديثٌ مثلُه، ففيهِ التصريحُ بالدَّلالَةِ على المَقْصودِ بالنُّطقِ والمَفهومِ، فحينئذ ينقطعُ نزاعُهم، ولا تبقى لهم حُجَّةٌ. ¬
وأما الحديثُ الذي يدلُّ لهم، فالجوابُ عنه ممكنٌ، وهو أن يقال: إن هذا اللفظ للمبالغة كما بولِغَ بالقليلِ المحدودِ عن الكثيرِ في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بنى لله مسجِداً، ولو مثلَ مِفْحَصِ قَطَاةٍ (¬1)، بنى اللهُ له بيتاً في الجنة" (¬2). ثم اختلف القائلون باعتبار النِّصابِ في قدره على أقوال كثيرة، والمشهورُ منها ثلاثة أقوال. أحدها: قولُ مالِكٍ وأهلِ الحجاز (¬3): أنه ثلاثةُ دراهمَ من الفضة، وربعُ دينارٍ من الذهب، أو ما يساوي ثلاثةَ دراهمَ من سائِر الأشياء، فجعلَ الدراهمَ وربعَ الدينار أصلين في أنفسِهما، وجعلَ الدراهمَ أصلاً في غيرِهما. واستدلُّوا (¬4) بقولِ عائشةَ -رضي الله تعالى عنها - سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تُقْطَعُ اليدُ في ربعِ دينارٍ فصاعداً" (¬5)، وبما روى ابنُ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قطعَ في مِجَنٍّ قيمتُه ثلاثةُ دراهم (¬6). القول الثاني: ما ذهبَ إليه الشافعيُّ أنه ربعُ دينارٍ فقط (¬7)، وأنه أصلٌ ¬
للدراهِم ولسائرِ الأشياء، فلا تقطع يدُه في الثلاثَةِ الدراهمِ إلا أن تساويَ رُبْعَ دينارٍ، واعتذر عن حديثِ ابنِ عمرَ بأن صرفَ الدنانير (¬1) كان عندَهم يومئذٍ اثْنَي عَشَرَ دِرْهَماً، بدليلِ فعِلهم في الدِّيةِ، حيث جعلوا الديةَ من الدنانيرِ ألفَ دينارٍ، ومن الدراهِم اثْنَي عَشَرَ ألفَ درهمٍ، فالعبرةُ عندَه بربعِ الدينارِ كما وردَ في لفظِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: قول أبي حنيفةَ و (¬2) أهلِ العراق أنه عشرةُ دراهمَ (¬3)، وأنها أصلٌ لسائرِ الأشياءِ، واعتمدوا على حديثِ ابنِ عمرَ المتقدِّمِ في اعتبارِ الدراهمِ، وأما المقدارُ فإنهم لما رأوا جماعةً من الصحابة كابنِ عباسٍ وغيرِه خالفوا ابنَ عمرَ في قيمةِ المِجَنِّ فقالوا: كانَ ثمنُ المِجَنِّ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَشَرَةَ دَراهِمَ، وجَب أَلَّا تُقْطَعَ اليدُ إلا بيقينٍ. ومنها - أعني الشروطَ المعارضَةَ للعُموم -: الحِرْزُ. فاشترطه جميعُ فقهاءِ الأمصارِ (¬4)، وإنما اختلفوا في تفاصيلِ المسائلِ، وما الذي يجوز أن يكونَ حِرْزاً، وما لا يجوزُ. ولم يعتبْرهُ أهلُ الظاهرِ؛ لظاهرِ الآية (¬5). والذي يظهرُ لي أن الحِرْزَ ليسَ شَرْطاً لوجوبِ القَطْعِ، وإنما هو شرطٌ ¬
في تحقيقِ السرقةِ ووقوعِ اسمِ السارقِ على من أخذَ من هذا المكان؛ فإن السرقةَ أخذُ المالِ على حينِ خُفْيَةٍ (¬1) منَ الأعين، مع قيامِ ملاحَظَتِها، أو ما يقومُ مقامَها من الأحرازِ الموجِبَةِ للاستِخْفاء في العادة، ومنه قولهم: فلان يسارقُ النظرَ إلى فلان، إذا راقَبَ غَفْلَتَهُ لينظر إليه، فالحِرْزُ رُكْنٌ في السرقةِ لا تتصور إلَّا به، لا شرطٌ في وجوبِ القطعِ، ولهذا لا يقال لمن خان أمانته: سارق، وإن كانَ أخذه خفيةً؛ لعدمِ الحرزِ منه، ولا يقال لمن غصب أو اختلس: سارق، وإن أخذه من الحرز؛ لعدم الاستخفاء. ويدلُّ لما قلتُه ما روى أبو الزبير، عن جابرٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: أضافَ رجلٌ رجلاً، فأنزلَهُ في مشربةٍ له، فوجدَ متاعاً له، فاختانَهُ، فأتى به أبا بكرٍ، فقال: خَلِّ عنه، فليسَ بسارقٍ، وإنما هي أمانةٌ اختانَها (¬2). ولو كانَ الأمر على ما قالَ أهلُ الظاهرِ مُطْلَقاً، لوجبَ القَطْعُ على الخائِنِ، ولم يقلْ بهذا أحدٌ من أهلِ العلمِ، وإنَّما اختلفوا في فروعِ المسائل في تفاصيل الحرز. وذلك كما اختلفوا في النَّبَّاشِ. فقال مالكٌ والشافعيُّ: هو سارقٌ يجبُ عليهِ القَطْعُ (¬3)؛ لوجودِ معنى السرقة، وهو أخذُ المالِ خفيةً من حِرْزٍ له في العرف والعادة. وقال أبو حنيفةَ والثوريُّ: ليسَ بسارقٍ، فلا قطعَ عليه (¬4)؛ لأنه أخذَ ¬
المالَ من غيرِ حرزٍ؛ لأنه في موضعِ ليسَ فيه ساكنٌ، وإنما تكونُ السرقةُ حيثُ تتقى الأعين، ويُحفظ من الناس. وعلى نفي السرقةِ عَوَّلَ مُحَقِّقُو أصحابهِ فيما (¬1) وراء النهر (¬2). * فإن قلت: قال الله سبحانه وتعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وإنما هما يمينان. قلنا: قال الزَّجَّاجُ وأبو زكريا الفَرَّاءُ: كُلُّ مُوَحَّدٍ من خَلْقِ الإنسانِ إذا ذُكِر مضافاً إلى اثنين فصاعداً، جُمعَ، فقيل: قد هُشِمَتْ رُؤوسُهما، ومُلِئَتْ ظُهورُهما وبُطونُهما ضرباً، ومثله قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، وقوله تعالى: {مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 20]، وذلك لأن الإضافةَ تبينُ أنَّ المرادَ بالجَمْعِ التثنيةُ، فإذا قلتَ: اتَّسَعَتْ (¬3) بطونُهما، عُلِم أَنَّ للاثنينِ بطنين، والتثنيةُ فيهما أغنتْكَ عن التثنية في بطن (¬4). * وأجملَ اللهُ سبحانهَ ذِكْرَ اليدِ، وهي تقعُ على الكَفِّ وحدَهُ، وعليه معَ الساعدِ، وعليهما مع العَضُدِ، ولم يبيِّنْ أنها اليمينُ أو الشِّمالُ. فاستَدْلَلْنا على بيانِها (¬5)، فوجَدْنا المُرادَ بها اليمين. روي عن أبي بكرِ وعمرَ، ولا مُخالِفَ لهما (¬6). ¬
وأنَّ مَحَلَّ القَطْع مَفْصِلُ الكوع (¬1)؛ لما روي عن أبي بكرٍ وعمرَ أيضًا -رضي الله تعالى عنهما (¬2) -. وروي عن بعضِ السلفِ أنه قال: تُقْطَعُ الأصابِعُ دونَ الكَفِّ، وقيل: إنها إحدى الروايتينِ عن عليٍّ -رضي الله تعالى عنه (¬3) -. وقالتِ الخوارجُ: من المنكب (¬4). فإن قلتَ: ذكرَ اللهُ سبحانه في المحاربِينَ قطعَ أيديهم وأرجلِهم منْ خِلافٍ، ولم يذكرْ في السرقَةِ غيرَ قطعِ اليدِ، فما الحكمُ إذا قُطِعَ، ثم سرَقَ ثانياً، أيُقْطَعُ أم لا؟ وهَلْ تقطَعُ يدُه كما هي المذكورةُ في القرآن، أو رِجْلُه؟ قلت: من أجل هذا قال عطاءٌ: إذا قُطعت يُده اليمنى، فلا يعادُ عليه القطع (¬5). ¬
وهو مَحْجوج بالكافَّةِ من أهلِ العلم، فالذي عليه الناسُ أن تُقْطَعَ رجلُه اليسرى (¬1). لكن قالَ ابنُ المنذر: ثبتَ عن أبي بكرٍ وعمرَ أنهما قَطَعا اليدَ بعدَ اليدِ، والرِّجْلَ بعد الرِّجْل (¬2) (¬3). ثم إن عادَ. فذهبَ قومٌ منهمْ عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رضي الله تعالى عنه- والزهريُّ، وحمادُ بنُ أبي سليمان، وأحمدُ إلى أنه لا قطعَ (¬4). قال الزهريُّ: لم يبلغْنا في السُّنَّةِ إلا قطعُ اليدِ والرجلِ (¬5). والجمهورُ كأبي حنيفةَ (¬6)، ومالكٍ، والشافعيِّ، وأحمدَ - في إحدى الروايتين عنه - على أنه تُقطع يدُه اليسرى، ثم إن عاد فرجلُه اليمنى (¬7)، ثم ¬
إن عادَ فالتَّعْزيرُ عند مالكٍ والشافعيِّ (¬1)، وعن مالكٍ روايةٌ بقتلِه (¬2)؛ لحديثٍ ورد فيه (¬3)، لكنهم ضَعَّفوهُ (¬4)، والله أعلم. * * * 112 - (9) قوله عَزَّ وجَلَّ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39]. قد تقدمَ الكلامُ على التوبةِ في "سورة النساء"، والصحيحُ قبولُها كما جاء في القرآن العزيز؛ خلافاً للجمهور، وللشافعيِّ في قوله الجديد، وقد تقدم ذلك مستوفًى. ¬
من أحكام أهل الكتاب
(من أحكام أهل الكتاب) 113 - (10) قوله عَزَّ وجَلَّ في اليهود {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]. نزلت هذه الآيةُ في اليهودِ لمّا جاؤوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وحَكَّموهُ في أمرِ اللَّذَيْنِ زنَيا منهم. والقصة مشهورةٌ في "الصحيحين" وغيرهما من حديثِ عبدِ الله بنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما - قال: إنَّ اليهودَ جاؤوا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكروا له أن امرأةً منهم ورجلاً زنيا، فقال لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تَجدونُ في التوراة في شأنِ الرَّجْم؟ " فقالوا: نفضحُهم، ويُجلدون، فقال (¬1) عبدُ الله بنُ سَلامٍ: كذبتم، فيها آيةُ الرَّجْمِ (¬2)، فأتوا بالتوراة، فنشروها، فوضعَ أحدُهم يدَه على آية الرجم، فقرأ ما قبلَها، وما بعدَها، فقال له عبدُ الله بنُ سلامٍ: ارفعْ يَدكَ، فرفع يَدهُ، فإذا فيها آيةُ الرجمِ، فقال: صَدَقَ يا مُحَمَّدُ، فأمرَ ¬
بِهِما - صلى الله عليه وسلم -، فَرُجما، قال: فرأيتُ الرَّجُلَ يَجْنَأُ على (¬1) المرأة يَقيها الحِجارةَ (¬2). فخير اللهُ سبحانه نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بينَ الحُكم بينَهُم، والإعراضِ عنهم إذا جاؤوا. وأمر اللهُ سبحانَه نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بالحُكْمِ بينَهم في آيةٍ أخرى، فقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]. فحُكي عن جماعةٍ، منهم ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما -: أنهم قالوا: هذا الأمرُ ناسِخٌ لما تقدَّمَ من التخيير في موضع آخر (¬3)، فليس للإمام رَدُّهُمْ إلى أحكامهم (¬4). وقال قومٌ: بل الآيتان مُحْكَمتان، وإنما ذكرَ اللهُ التخيير في موضعٍ، وسكت عنهُ في موضعٍ آخرَ، والمعنى: فاحْكُمُ بينَهم بما أنزلَ اللهُ إن شئتَ (¬5). ¬
قال بعضُهم: الآيةُ معطوفةٌ على آية التخييرِ، والناسخُ والمنسوخُ لا رَبْطَ بينَهُما، ولا عَطْفَ (¬1). وهذا الاستدلالُ ضعيفٌ؛ لأن العطفَ بالواو لا يدلُّ على الرَّبْطِ، وإنما يدلُّ على التأخيرِ، أو الترتيبِ على قولِ بعضِ النحاةِ، والصوابُ أن يستدلَّ على عَدَمِ النَّسْخِ بعدَمِ التعارُض، إلا إن ثَبَتَ في ذلك (¬2) توقيفٌ، فيتَّبَعُ. * وقد اختلفَ الفقهاءُ في حكمِ هذه الآيةِ على ثلاثةِ أقوالٍ. - منهم من عَمِلَ بظاهِرِ هذه الآية، فقال: الإمامُ مخيرَّ في الحكمِ بينَهُم إنْ جاؤوه، وأما إذا لم يَجيئوهُ، فلا حكم له عليهم، وبهذا قالَ مالِكٌ (¬3). - ومنهم من قال: يجبُ عليه الحكمُ بينهم إن جاؤوه، وكأنهم رأَوُا التخييرَ مَنْسوخاً، وبهذا قال أبو حنيفة (¬4)، وللشافعي قولانِ كالمَذْهَبين (¬5). ومنهم من قال: يجبُ على الإمامِ الحكمُ بينَهُم، وإن لمْ يترافَعوا إليه، واحتجوا بإجماع المسلمين على وجوب قطعِ يدِ الذِّمِّيِّ إذا سرق، وكأنه رأى الآيةَ الثانيةَ ناسخةً للتخيير والتقييد. قال بعضُ الفقهاءِ: وإذا قلنا بالتخيير، فمتى حَكَمَ بينَهم، لَزِمَهُمُ الحُكْمُ، وليس لهم رَدُّهُ، بالإجماع؛ لفعلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك (¬6)، ولقوله تعالى ¬
في ذمهم: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41]. قال المفسِّرون: إنَّ رَجُلاً وامرأةً من أشرافِ أهلِ خَيْبَرَ زَنَيا، فكان حَدُّهُما الرَّجْمَ، فكرهتِ اليهودُ رَجْمَهُما؛ لشرفِهما، فبعثوا الزانيين إلى بني قُرَيْظَةَ ليسألوا مُحَمَّداً - صلى الله عليه وسلم - عن قضائِهِ في الزانيين إذا أَحْصَنا، ما حَدُّهُما؟ وقالوا: إن أفتاكُمْ بالجَلْدِ فَخُذوهُ، واجْلِدوا الزانيَيْنِ، وإن أفتاكُمْ بالرَّجْمِ، فلا تَعْمَلوا به، فذلكَ قولُه تعالى: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} (¬1) [المائدة: 41]. وهذا القولُ حَسَنٌ قَوِيٌّ، وهو يُبْطِلُ تَفْريعَ الشافعيَّةِ، فإنَّهم قالوا - على قول التخيير -: إنه إذا حكمَ بينَهم، لم يلزمْهُم حكمُه، وإن دعا أحدُهما الحاكمَ ليحكُمَ بينَهما، لم يجبْ على الآخَرِ الحُضورُ (¬2). وهذا التفريعُ ضعيفٌ بعيدٌ من تحقيقِ الشافعيةِ (¬3)؛ فإن التخييرَ من الله سبحانه للإمام، لا لَهُم، فما كانَ اللهُ -تبارك وتعالى- ليُخَيِّرَهُمْ في حكمٍ، ولِما ثبتَ من فعلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. * فإن قيل: بِمَ حكمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيهم؟ قلنا: اختلفتْ جواباتُ العلماءِ في ذلك، وهو مَبْنِيٌّ على الخِلاف الذي قدمتُه في سورةِ النساء، هل يُشْتَرَطُ الإسلامُ في الرَّجْمِ أو لا؟ ¬
فذهبَ الشافعيُّ إلى عدمِ اشتراطِه، وله من الدليل هذه الآيةُ، وحديثُ ابنِ عمَر المتقدمُ، ونُسِبَ إلى الشافعيِّ أنه قال (¬1): إنما حَكَم فيهم بشريعةِ الإسلام (¬2). وذهبَ مالِكٌ وأبو حنيفةَ إلى اشتراطِ الإسلامِ (¬3)، وأجابوا عن هذه الآيةِ بأنه حكمَ بشريعةِ موسى عليه الصلاةُ والسلامُ، وكان ذلك قبلَ نُزولِ الحُدود، ولهم من الدليل قولُه تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44]، معَ تقييدِ قوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15]. قالوا: وشريعَةُ مَنْ قبلَنا شريعةٌ لنا حتى يقومَ الدليلُ على تركِها. وفي هذا الجوابِ نظرٌ من وجهين: أحدهما: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]، فجعل الحكمَ لكتابنا المُنْزَلِ على نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - المُصَدِّقِ لما بينَ يديهِ منِ الكتاب والمهيمنِ عليه. وثانيهما: قوله في حديث ابن عمرِ: "ما تجدونَ في التوراة في شأن الرجم؟ "، وهذا يدلُّ على أن شريعتَه قد نزَلَتْ - عليهِ الصَّلاةُ والسلام (¬4) -. ¬
وأما قوله تعالى: {الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44]، فالمراد به (¬1): انْقادوا لحكم التوراة، وبهذا قال أبو هريرةَ وغيرُه، ومحمدٌ منهم (¬2). فإن قالوا: الأمرُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بأن يحكمَ بما أنزلَ اللهُ يجوزُ أن يكونَ إشارةً إلى ما كُتِبَ في التوراةِ من القِصاص، وذكرُهُ للرجْمِ يحتملُ أن يكونَ عَلِمَ عنهم ما كَتَموه من الرَّجْمِ. قلنا: الأصلُ عدمُ عِلْمه بشريعتِهم، واتباعُه ما أنزلَ اللهُ سبحانه إليه، واتباعُ السُّنَّةِ وتقريرها أولى من تأويلِها ونسخِها. * واستنبطَ بعضُ أهلِ العلم من قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} [المائدة: 43] على جواز التحكيمِ ولزومهِ لغيرِ الإمام، ولأن الحكمَ حَقُّ الخَصْمَيْن على الحاكمِ، لا حَقُّ الحاكِمِ على الناس. وإليه ذهبَ مالِكٌ والشافعيُّ في أحدِ قوليه. وقالَ في القول الآخر: التحكيمُ جائزٌ، وليسَ بلازمٍ، وإنما هو فتوى؛ لما فيه من تقدم آحاد الناسِ الولاة، وفي ذلك خَرْمُ قاعِدَةِ الوِلاية. ويمكن أن يُجابَ عن قوله تعالى: {يُحَكِّمُونَكَ} بأنَّ كلَّ حاكِمِ مُحَكَّمٌ، وإذا ترافَعَ خَصْمان إلى حاكمٍ، فقدْ حَكَّماهُ في أمرِهِما، وإن كان حاكماً، ويدلُّ عليهِ قولُه تَعالى في المسلمينَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]. * * * 114 - (11) قوله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ ¬
قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]. قد تقدم الحكمُ على هذه الآيةِ في "سورةِ البقرةِ"، وكيفيةُ الجمعِ بين الآيتين. * وقد تمسَّك أبو حنيفةَ بظاهرِ هذهِ الآيةِ في (¬1) قتلِ المُسلمِ بالذِّمِّيَ (¬2)، وفي قتلِ الحُرِّ بالعبدِ، وقد تقدَّمَ الجوابُ عنِ التَّمَسُّكِ بهذا العمُوم. * وذكر اللهُ سبحانَهُ في آيةِ البقرةِ القِصاصَ في القَتْلى، وذكر هنا القِصاصَ في الأَعْضَاءِ والجُروحِ، فَخَصَّ بالذِّكْرِ شيئاً، وعَمَّ بعدَ ذلكَ سائرَ الجُروحِ. * والقصاصُ هو المُساواةُ والمُماثَلَةُ، وذلك يوجبُ أن تُؤْخَذَ العينُ اليمينُ بالعينِ اليمينِ، واليُسرى باليُسرى، واليد اليمين باليدِ اليمين، واليُسرى باليُسرى، الكُلُّ بالكُلِّ، والبعضُ بالبعضِ، وضابطُه أن كلَّ جرحٍ أَمْكَنَ فيهِ القِصاصُ والمُماثَلَةُ، ولم يُخْشَ منه الموتُ، فقد وجبَ فيهِ القِصاصُ. وكذلكَ لفظُ القصاص يقتضي أن يُقْتَصَّ بالآلة التي جُنِيَ بِها. وقد بين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك بفعله، فشدخَ رأسَ يهوديٍّ، كما شدَخَ رأسَ جاريةٍ (¬3)، وتفصيل هذا يستدعي ذكرَ مسائلَ كثيرةٍ، وقد اتفقَ العلماءُ على وُجوبِ المُماثَلَةِ، وإنِ اخْتَلفوا في تفاصيلِها (¬4) (¬5). ¬
115 - (12) قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48]. قد قَدَّمْتُ قريباً ما قيلَ في هذه الآيةِ. * * * 116 - (13) قوله عَزَّ وجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]. * حَرَّمَ اللهُ سبحانَهُ في هذه الآيةِ على المؤمنين أن يَتَّخِذوا اليهودَ والنَّصارى أولياءَ، أي: أنصاراً وأَصْدِقاءَ أَخِلاَّءَ يُلْقون إليهِمْ بالمَوَدَّةِ، وبِسِرِّ المؤمنين، ومَنْ يَفْعَلُ ذلكَ فإنَّهُ منهُم؛ كعبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وأَصحابِه، الذي قال: يا رسول الله! إني امْرُؤٌ أَخْشى الدَّوائِرَ، وقِصَّتُهُ مشهورةٌ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما أرادَ أن يقتلَ بني النَّضيرِ، وكانوا حُلَفاءَهُ (¬1). وحرَّمَ اللهُ سبحانه في غيرِ هذه الآية مُوالاةَ الكافِرين تَحْريماً مُطْلَقاً كَهذهِ الآيةِ، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ ¬
أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]؛ والحُكْمُ في هذا على العُمومِ والإطلاق (¬1). وليس البِرُّ والإقْساطُ لهم والصدقةُ عليهم من الموالاة، فقد ندبَ اللهُ سبحانَه إليهما (¬2) فقال: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة: 8] الآية، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272]. وأما معاشرتُهم بالمجالَسَةِ، فلا شَكّ أنها مكروهةٌ غيرُ مُحَرَّمَةٍ؛ لما فيه من الإيناسِ لعدوِّ اللهِ ورسوله. رويَ عن أبي موسى -رضيَ اللهُ تَعالى عنه -: أنه قدمَ إلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-، فقال: إنَّ عندَنا كاتِباً نصرانِيًّا، من حالِه وحالِه، فقال: مالَكَ ولَهُ قاتَلَكَ الله! أما سمعتَ قولَ اللهِ تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51]؟ ألا اتَّخَذْتَ حنيفاً؟ قال: قلتُ: لهُ دينُه ولي كتابَتُهُ، قال: لا أُكرمُهُمْ إذْ أهانَهُمُ اللهُ، ولا أُعِزُّهُمْ إذْ أَذَلَّهُمُ اللهُ، ولا أُدنيهم إذْ أقْصاهُمُ الله (¬3). * وفي هذه الآيةِ دَلالةٌ على أن اليهوديَّ يَرِثُ النَّصْرانِيَّ، وبالعَكْس (¬4)؛ لقوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]. ¬
من أحكام الصلاة
(من أحكام الصلاة) (الأذان) 117 - (14) قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58]. أقول: قد أَعْلَمَنا اللهُ سبحانَه أنَّ النِّداءَ إلى الصَّلاةِ من شعارِ هذا الدينِ، وعملِ المؤمنين، فقال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 58]، وقال في "سورةِ الجُمُعَةِ": {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]. وقد علمنا من هذا الخطاب أيضًا أن المرادَ بالصَّلاةِ المَكْتوبةُ؛ لأنه ليسَ ثَمَّ صلاةٌ يجبُ السَّعْيُ إليها إلا فَريضَةَ الجُمعةِ. قال أبو عبدِ اللهِ الشافعيُّ بعدَ أن ذكرَ الآيتين: وكانَ بيِّناً (¬1) -والله أعلم- أنهُ أرادَ المكتوبةَ بالآيتينِ معاً، قال: وشرعَ (¬2) رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الأَذانَ للمكتوباتَ، ولم يَحْفَظْ عنه أحدٌ علمتُه أنه أمرَ بالأذان لغيرِ صلاة مكتوبة، بل حفظَ الزُّهريُّ عنه أنه كانَ يأمرُ في العيدين المؤذِّنَ يقولَ: الصلاةَ جامِعَةً (¬3). ¬
* وعلى مشروعيةِ الأذانِ أجمعَ المُسلمون، وتميز به المؤمنون، فكانَ (¬1) النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا غَزا قَوْماً، فإنْ سمعَ نِداءً, لم يَغزُ، وإن لم يسمعْ، أغارَ (¬2)، وفعلَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وأمرَ بهِ، حَضَراً وسَفَراً، فقال لمالِكِ بنِ الحُوَيْرِثِ ولصاحبه: "إذا كُنْتُما في سَفَرٍ، فَأَذِّنا، وأقيما، ولْيَؤُمَّكُما أَكْبَرُكُما" (¬3). * ثم اختلفوا في هذهِ المشروعية، هل هي على الوجوب، أو على الندب؟ فذهبَ الشافعيُّ وأبو حنيفةَ إلى أنه سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ للجماعة والمُنْفَرِدِ، وهو في حَقِّ الجَماعةِ آكَدُ؛ لأنه لم يكنْ في صدرِ الإسلامِ، وإنما شَرَعَهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لجمعِ الناسِ للصَّلاةِ، وإعلامِهم بها (¬4). وذهبُ (¬5) مالِكٌ وبعضُ الشافعيةِ إلى أنه فرضُ عَيْنٍ في مَساجدِ الجَماعاتِ، ولم يَرَهُ على المنفردِ فَرْضاً ولا سُنَّةً (¬6). ¬
وذهبَ بعضُ أهلِ الظاهرِ إلى أنه واجبٌ على الأعيانِ (¬1). وقال بعضُهم: بل على الجَماعة (¬2). وقال بعضُهم: في السَّفَرِ خاصَّةً، واستدلُّوا بفعل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأمرِه ودوامِه عليه (¬3). * إذا تقررَ هذا، فقد فَهِمْنا من الآية أن النِّداءَ للصَّلاة لا يكونُ إلا بعدَ دخُولِ وَقْتِها؛ لأنه لا يُنادى لفعلِ شَيْءٍ قبلَ جَوازِ فِعْلِه، وعلى هذا أجمعَ أهلُ العلمِ في جميعِ الصَّلَواتِ، إلا صلاةَ الصُّبْحِ. فذهبَ مالِكٌ والشافعيُّ إلى جَوازه قبلَ الفَجْرِ (¬4)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلوا واشربوا حتى تَسْمعوا أَذانَ ابنِ أُمِّ مَكْتومٍ" (¬5). قال الشافعيُّ في كتابِه القديمِ: أخبرنا بعضُ أصحابِنا عن الأعرج عن إبِراهيمَ بنِ محمدِ بنِ عمارةَ عن أبيهِ عن جَدِّهِ عنْ سعد القُرظيّ قال: أَذَّنَّا في زمانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وفي زَمَنِ عُمَرَ بالمدينة، فكان أذانُنا للصبحِ لوقتٍ واحدٍ في الشتاءِ لِسُبُعٍ ونصْفٍ يَبْقى، وفي الصَّيْفِ لِسُبُعٍ يبقى (¬6). قال: وأخبرَنا ابنُ أبي الحباب الخزاعيُّ، وكانَ قد زادَ على الثمانين، ¬
أو راهَقَها، قال: أدركْتُ منذُ كنتُ آلَ أبي مَحْذوَرَة يُؤَذِّنونَ قَبْلَ الفَجْرِ بِلَيْلٍ، وسمعتُ منهم مَنْ يحكي ذلك عن آبائه (¬1). وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يؤذَنُ لها إلا بعدَ الفَجْرِ؛ كسائرِ الصَّلَوات (¬2). واستدلَّ بما رُوي أنَّ بلالاً أذَّنَ قبلَ الفَجْرِ، فأمره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يرجع ينادي: ألا إنَّ العبدَ قَدْ نام (¬3). وأجاب الشافعيُّ فقال: قد سمعتَ تلكَ الرِّوايةَ، فرأينا أهلَ الحَديثِ منْ أَهْلِ ناحِيَتِكَ لا يُثْبِتونَها، يزعُمون أنها ضعيفةٌ، ولا تقومُ بمثلِها حُجَّةٌ على الانفِراد. واحتجَّ أيضاً في القديم بفِعْل أهلِ الحَرَمينِ، وساقَ الكلامَ فيه، إلى أن قال: هذا منَ الأُمور الظاهِرَةِ، ولا شَكَّ أنَّ أهلَ المَسْجِدَيْنِ، والمُؤَذِّنينَ والأَئِمَّةَ الذين أَقَرُّوهُمْ لم يُقيموا من هذا على غَلَطٍ، ولا أَقَرُّوه، ولا احتاجوا فيه إلى عِلْمِ غيرِهم، ولا لغيرِهم الدخولُ بهذا عليهم (¬4). وذهب قومٌ إلى أنه لا بُدَّ من أَذانَيْن: أذانٍ قبلَ الفَجْرِ، وأذانٍ بعدَه اتبِّاعاً لما كانَ في عَهْدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬
وبه قال محمدُ بنُ حزمٍ، إلا أنه يكونَ قبلَ الفجرِ بزمنٍ (¬1) يَسيرٍ بقَدْرِ ما يهبطُ هذا، ويصعَدُ هذا، فيجوز (¬2). * فإن قلت: فبيِّنْ لنا صفةَ النِّداءِ الذي ذكرَهُ اللهُ سبحانَه، وصفةَ الإقامَةِ التي سَنَّها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. قلنا: اختلفَتِ الرِّواياتُ في ذلك. أما الأذانُ: 1 - فقالَ الشافعيُّ: أنبأنا (¬3) مسلمُ بنُ خالدٍ، عن ابنِ جُريجٍ قال: أخبرني عبدُ العزيزِ بنُ عبدِ الملكِ بنِ أبي مَحْذورَةَ: أنَّ عبدَ الله بْنَ مُحَيْريزٍ أخبرَهُ، وكان يتيماً في حِجْر أبي مَحْذورَةَ حينَ جَهَّزَهُ إلى الشامِ، فقلتِ لأبي مَحْذورة: أيْ عَمِّ! إِنِّي خارجٌ إلى (¬4) الشامَ، وأنِّي أخشى أن أُسألَ عن تأذينِك، فأخبرْني أبا مَحْذورَةَ، قال: نعم، خرجْتُ في نَفَرٍ، فكنّا ببعضِ طريقِ حُنَيْنٍ، فَقَفَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من حنينٍ (¬5)، فلقينا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في بعضِ الطريق، فَأَذَّنَ مؤذِّنُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بالصَّلاةِ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فسمِعْنا صوتَ المُؤَذِّنِ ونحنُ مُتَّكِئون، فصرخنا نَحْكيهِ ونستهزئُ به، فسمعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فأرسلَ إلينا إلى أن وَقَفْنا بينَ يديه، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّكُمُ الَّذي سَمِعْتُ صَوْتَهَ قدِ ارتَفَعَ؟ "، فأشارَ القومُ كُلُّهم إليَّ، فصدَقوا، فأرسلَ كُلَّهُمْ وحَبَسني، فقال: "قمْ فأَذِّنْ بالصَّلاة"، فقمت، ولا شيءَ أكرهُ إليَّ منْ ¬
رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولا مِمَّا يأمرُني به، فقمتُ بينَ يَدَيْ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فألقى على رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - التَّأْذينَ هُوَ نَفْسُهُ فقال: قُل: "اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، أشهدُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، أشهدُ أنَّ مُحَمَّداً رسولُ الله، أشهدُ أن مُحَمَّداً رسولُ الله"، ثم قال: "ارجعْ وامدُدْ منْ صوتك، ثم قُلْ: أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، أشهدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسولُ الله، أشهدُ أنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللهِ، حَيَّ على الصَّلاةِ، حَيَّ على الصَّلاةِ، حَيَّ على الفَلاحِ، حَيَّ على الفَلاحِ، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، لا إلهَ إلا اللهُ" ثم قضيتُ التأذين، ثم دعاني وأعطاني صُرَّةً فيها شيءٌ من فِضَّةٍ، ثم وضَعَ يدَه على ناصِيَتِه (¬1)، ثم أَمَرَّها على وَجْهِهِ، ثُمَّ منْ بينِ يَدَيهِ إلى كَبدِهِ، ثم بَلَغَتْ يَدُهُ إلى سُرَّةِ أبي مَحْذورَةَ، ثم قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بارَكَ الله فيكَ، وبارَكَ عليكَ" فقلت: يا رسول الله! مُرْني بالتأذينِ بِمَكَّةَ، فقالَ: "قدْ أمرتُكَ بهِ"، وذهب كُلُّ شيءٍ كانَ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من كَراهِيَةٍ، وعادَ ذلكَ كُلُّهُ مَحَبَّةً لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَدِمْتُ على عَتَّابِ بْنِ أسيدٍ عامِلِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَذَّنْتُ بالصَّلاةِ عنْ أمرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابنُ جُرَيْجٍ: وأخبرني بذلك مَنْ أَدْرَكْتُ منْ آلِ أبي مَحْذورةَ على نحوِ ما أخبرَني ابنُ مُحَيْريزٍ. قال الشافعيُّ: وأَدْرَكْتُ إبراهيمَ بنَ عبدِ العزيزِ بنِ عبدِ الملكِ بنِ أبي مَحْذورَةَ يؤذِّنُ كما حكى (¬2) ابنُ مُحَيْريزٍ، وسمعتُه يُحَدِّثُ عن أبيهِ، عنِ ابنِ مُحَيْريزٍ، عنْ أبي مَحْذورَةَ، عنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَعْنى ما حَكى ابنُ جُرَيْج. قال: وسمعتهُ يقيمُ فيقولُ (¬3): اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، أشهدُ أن لا إله ¬
إلا الله، أشهدُ أن مُحَمَّداً رسولُ الله، حَيَّ على الصَّلاةِ، حَيَّ على الفَلاحِ، قدْ قامَتِ الصَّلاةُ، قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، لا إلهَ إلَّا الله. قال الشافعيُّ: وحَسِبْتُني سَمِعْتُه يَحْكي الإقامَةَ خَبَراً كما حَكى الأذانَ (¬1). وعلى هذا عَمَلُ أهلِ مَكَّةَ، وإيّاهُ اعتمَدَ الشافِعِيُّ -رحمه الله تعالى (¬2) - فَرَبَّعَ التكبيرَ، ثم رَجَّعَ بالشَّهادَتَينِ، وأَوْتَرَ الإقامة، إلا لفظَ الإقامة؛ لما سَمِعَهُ من آلِ أبي محذورة. ولما رَوى أنسُ بنُ مالِكٍ -رضيَ الله تعالى عنه - أَنَّ بِلالاً أُمِرَ أَنْ يَشْفَعَ الأَذان، ويُوترَ الإقامةَ، إِلَّا لَفْظَ الإقامَةِ (¬3). ولما روى عبدُ اللهِ بنُ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما - قال: كان الأذانُ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَثْنى مَثْنى، والإقامَةُ مَرَّةً مَرَّةً، غيرَ أنَّ المؤذِّنَ إذا قال: قد قامَتِ الصَّلاةُ، قال مَرَّتينِ (¬4). ¬
2 - وذهب مالِكٌ إلى ما عليهِ عَمَلُ أهلِ المدينة (¬1)، فَثَنَّى التكبيرَ، ورَبَعَّ الشهادتينِ، ولم يُرَجِّعْ، ثم باقي الأَذان مَثْنى. وقد رُوِيَ تَثْنِيَةُ التكبير في أَوَّلِ الأذانِ عنْ عبدِ اللهِ بنِ زَيْدٍ، وأبي مَحْذورةَ أيضاً. كما روي عنه التربيع في التكبير، وأوتر الإقامةَ كالشافعيِّ، إلا كلمةَ الإقامَةِ، فإنَّهُ لم يُثَنِّها. ويدلُّ لهُ ما رَوى أنسُ بنُ مالِكٍ - رضىَ اللهُ تعالى عنه - أَنَّ بِلالاً أُمِرَ أنْ يَشْفَعَ الأذانَ، ويُوتِرَ الإقامَةَ. ولم يرهُ الشافِعيُّ مخالِفاً تقَدَّمَ عن أنسٍ أيضاً، فقال: هذا ثابتٌ، وبه نقولُ، فنجعلُ الإقامَةَ وِتْراً، إلا في مَوْضِعَيْنِ: اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، في أولِ الأذان، وقَدْ قامَتِ الصَّلاةُ، قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ، فإنَّهما (¬2) شَفْعٌ (¬3). وحملَ المُطْلَقَ في روايةِ أنسٍ على المُقَيَّدِ. وهو جوابٌ حَسَنٌ، لكنَّ مالِكاً لم يعتَمِدْ إلا على عَمَلِ أهلِ المدينة. قال مالِكٌ: لم يَبْلُغْني في النِّداءِ والإقامَةِ إلَّا ما أَدْرَكُتْ الناسَ عليه، فأَمَّا الإقامَةُ، فإنَّها لا تُثَنَّى، وذلكَ الذي لم يَزَلْ عليهِ أهلُ العِلْمِ ببلدِنا (¬4). وهو معتمدٌ قويٌّ لأنَّ هذا شيءٌ طريقُه النقلُ، ولو كانَ حصلَ فيه نقصٌ أو زيادةٌ أو تغييرٌ، لَعُلِمَ عندَهم، بل ما عُلِم إلا أنهُ كانَ على هذا، فروى مالِكٌ عن عَمِّهِ أبي سُهَيْلِ بنِ مالِكٍ عن أبيهِ: أنه قال: ما أعرفُ شيئاً ممّا ¬
أدركْتُ عليهِ الناسَ إلا النِّداءَ بالصلاةِ (¬1). 3 - وذهبَ أبو حنيفةَ إلى ما عليهِ أهلُ الكوفةِ، فربَّعَ التَّكبيرَ، وثَنَّى بقيةَ الأذانِ، ولم يرجِّعْ (¬2). واحتجُّوا بحديثِ ابنِ أبي ليلى، وفيه أَنَّ عبدَ اللهِ بنَ زيدٍ رأى في النَّوْمِ رَجُلاً، فأقامَ على جِذْمِ (¬3) حائِطٍ، وعليه رِداءان أَخْضَرانِ، فَأَذَّنَ مَثْنى، وأقامَ مَثْنى، وأنه أخبرَ بذلكَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقامَ بلالٌ فأذَّنَ مَثْنى، وأقامَ مَثْنى (¬4). وأجابَ عنهُ الشافعيُّ فقال: لا يُعْلَمُ عبدُ الرَّحْمنِ بنُ أبي ليلى رأى بِلالاً قَطُّ، عبدُ الرحمنِ بالكوفةِ، وبلالٌ بالشام، وبعضُهم يُدخِلُ بينَه وبينَ عبدِ الرحمنِ رجلاً لا نعرفهُ، وليسَ يقبلُه أهلُ الحديث (¬5) (¬6). ¬
قال البَيْهَقِيُّ: وهو (¬1) حديثٌ مُخْتَلَفٌ فيه على عبدِ الرحمنِ، فرُوي عنهُ عن عبدِ الله بنِ زيد، ورُوي عنه قال: حدثنا أصحاب مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -: أن عبدَ اللهِ بنَ زيد. ورُوي عنه عن معاذِ بنِ جبلٍ في قصةِ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ. ثم قال: قال محمدُ بنُ إسْحاقَ بنِ خُزَيْمَةَ: عبدُ الرحمنِ بنُ أبي ليلى لم يَسْمَعْ من مُعاذِ بنِ جَبَلٍ، ولا منْ عبدِ اللهِ بنِ زَيْدٍ صاحِبِ الأذانِ، ثم قال: وكذلكَ لم يسمعْ من بِلال (¬2). وقد ذهبَ إلى إفرادِ الإقامَةِ من العراقِيِّينَ الحسنُ البَصْري، وابنُ سيرينَ (¬3). 4 - وذهب أحمدُ بنْ حَنبَلٍ وداودُ إلى أنَّ العملَ بهذهِ الرواياتِ على التَّخْييرِ، لا على الحَتْمِ كما قالَ في صَلاةِ الخَوْفِ (¬4). * ثم اختلفوا في التَّثْويبِ، وهو قولُ المؤذنِ في صَلاةِ الصُّبْحِ: الصلاةُ خيرٌ من النَّوْمِ، هل يُشْرَعُ أو لا؟ فذهبَ الجُمهورُ إلى مَشْروعِيَّتِهِ، وبه قالَ الشافِعِيُّ في القديم (¬5). ¬
وأباهُ آخَرون، وبه قالَ الشافِعيُّ في الجَديد؛ لكونِهِ لم يردْ في الحديث المُتَّصِلِ الثابِتِ عنِ ابنِ مُحَيريزٍ عنْ أبي مَحْذورة (¬1). ولكنه قد ثَبَتَ اتِّصالُهُ عن محمدِ بنِ عبدِ الملكِ بنِ أبي مَحْذورَةَ عن أبيهِ عن جَدِّهِ قال: قلت: يا رسولَ الله! عَلِّمْني سُنَّةَ الأَذانِ، فعلَّمَهُ إياها، وقال: "وإن كانَ صلاةُ الصبحِ قُلْتَ: الصلاةُ خيرٌ من النومِ، الصَّلاةُ خيرٌ من النوم، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، لا إله إلا اللهَ" (¬2). * إذا تمَّ هذا، فالنداءُ هو رَفْعُ الصَّوْتِ بالقول، وإذا لم يُرْفَعِ الصوتُ، فليسَ بنداءٍ. فحينئذٍ يُسْتَنْبَطُ من الآيةِ الكَريمَةِ أَنَّ من شَرْطِ الأذانِ رَفْعَ الصَّوْتِ، ولا تتَأَدَّى سُنَّتُه بأنْ تُفْعَلَ سِرًّا، ولهذا لم يُشْرَعْ للنِّساءِ أذانٌ، وكذا للمنفردِ عندَ مالِكٍ، وهو قولٌ للشافعيِّ أيضاً. ويستنبطُ منه أن المؤذنَ مهما اشتدَّ رَفْعُ صوتهِ، كانَ أفضلَ، ولهذا أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عبدَ اللهِ بنَ زيدٍ بالإلْقاءِ على بلالٍ، فقال: "قُمْ مع بِلالٍ، فَأَلْقِ عليهِ ما رأيتَ، فَلْيُؤَذِّنْ؛ فإنَّه أَنْدى صَوْتاً منكَ" (¬3). ¬
وَرَغَّبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في رَفْعِ الصوتِ بالأذان، فقالَ أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ: "فإنه لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ جِنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلا شَهِدَ لهُ يومَ القِيامة"، قال أبو سعيدٍ: سمعتهُ مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬
من أحكام الأيمان
(من أحكام الأيمان) 118 - 119) (15 - 16) قوله عَزَّ وجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 87 - 88]. * قالَ ابنُ عَبّاسٍ وغيرُه منَ المُفَسِّرينَ: نزلَتْ في قومٍ منْ أصحابِ النبيِّ أرادوا أن يَرْفُضوا الدنيا، ويُحَرِّموا على أَنْفُسِهِمُ المَطاعمَ الطَّيِّبَةَ والمَشارب اللَّذيذَةَ، وأن يَصوموا النَّهارَ، ويَقوموا اللَّيْل، ويُخْصوا أَنْفُسَهم، فأنزلَ اللهُ سبحانَه هذه الآيَة (¬1). وروى البخاريُّ نحوَهُ (¬2). ¬
* ونهى (¬1) اللهُ سبحانَه بهذهِ الآيةِ عَبْدَهُ المؤمنَ أن يُحَرِّمَ على نفِسه ما أَحَلَّهُ له. فإنْ فعلَ ذلكَ تشريعاً، فهو كُفْرٌ (¬2). وإن فَعَلَهُ تزَهُّداً كَفِعْلِ الصحابَةِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم - فهو مكروهٌ (¬3)؛ وفاقاً للشيخِ أبي حامدٍ (¬4)، والجُمهورِ من الشافعيةِ (¬5)، وخلافاً للقاضي أبي الطَّيِّبِ. وإن حَرَّمَهُ بلسانهِ دونَ اعتقادِه، فهو كَذِبٌ حَرامٌ يستغفرُ اللهَ سبحانَه منه، ولا يحرمُ عليهِ، ولا يجبُ عليه شيءٌ من الكَفَّارةِ. وقال أبو حَنيفةَ: هو يمينٌ تجبُ بهِ الكفَّارةُ، فهو كما لو قالَ: واللهِ لا فَعَلْتُ كَذا (¬6). * وهذا مُتَفَرِّعٌ عن مسألة أخرى، وهي هل اليمينُ تُحَرِّمُ فِعْلَ المَحْلوفِ عليهِ، أو لا؟ فقال الشافعيُّ ومالِكٌ: اليمينُ لا تُحَرِّمُ (¬7). ¬
وقال أبو حَنيفةَ: اليمينُ تُحَرِّمُ (¬1). واختارَهُ ابنُ العَرِبيِّ المالِكِيُّ (¬2)، قال: لأنَّ الحالِفَ إذا قالَ: واللهِ لا دَخَلْتُ الدَّارَ، فإنَّ هذا القولَ قَدْ مَنَعَهُ منَ الدُّخولِ حتى يُكَفِّرَ، فإنْ أقدمَ على الفعلِ قبلَ الكفارةِ، لزمَهُ أداؤها، والامتناعُ هو التحريمُ بعينهِ، والباري تَعالى هو المُحَرِّمُ، وهو المُحَلِّلُ، ولكنَّ تحريمَهُ قد يكونُ ابتداءً كمحرَّماتِ الشريعَةِ، وقد يكونُ بأسبابٍ يُعَلِّقُها بأفعالِ المُكَلَّفينِ؛ كتعليقِ التَّحريمِ بالطَّلاقِ، والتَّحريمِ باليَمين، ويرفعُ هذا التحريمَ الكفّارَةُ والنِّكاحُ بِحَسَبِ ما رَتَّبَ سبحانَه منَ الأحكامِ (¬3). ولكنه ضَعَّفَ إلحاقَ أبي حنيفةَ قولَه: حَرَّمْتُ على نَفْسي كذا بقولِه: واللهِ لا فَعَلْتُ كذا، قال: لأنهُ باليَمين حَرَّمَ، وأَكَّدَ التَّحريمَ بذكرِ اللهِ تعالى، وبغيرِ اليمينِ حَرَّمَهُ وحدَهُ دونَ ذكرِ الله تعالى، وكيفَ يُلْحَقُ ما لم يُقْرَنْ به ذكرُ اللهِ تعالى بما قُرِنَ بهِ ذكرُ اللهِ تعالى؟ ثم قال: وهذا الإلحاقُ لا يَخْفى تَهاتُرُهُ (¬4) على أحدٍ (¬5) (¬6). والذي أراهُ أنَّ الإلحاقَ صَحيحٌ؛ لأن اللهَ سبحانَه سَمَّى تحريَم المرأةِ على نَفْسِها يميناً، وأوجَبَ فيه الكَفَّارَةَ، وقال تعالى في سورة التحريم: ¬
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]. وإنَّما استثنى مالِكٌ والشافِعيُّ من تحريمِ الرجلِ على نفسِه ما خَلا الزَّوْجَةَ، فلم يُوجِبا فيها الكَفَّارَةَ، وسيأتي الكلامُ على هذا في "سورةِ التحريمِ" -إن شاء الله تعالى-. * * * 120 - (17) قوله تبارَكَ وتعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89] الآية. * ذكر اللهُ سبحانَهُ اليمينَ في آيتينِ من كتابهِ العزيز، وقَسمها إلى لَغْوٍ وغَيْرِه. - فأما اللَّغْوُ، فقد ذكرتُ اختلافَ العلماءِ فيه. وأما حقيقَتُه، فهو ما كانَ باطلاً وما لا يُعْتَدُّ بهِ منَ القول، ومنه قيلَ لولد الناقَةِ الذي لا يُعْتَدُّ بهِ في الدِّيَةِ: لَغْوٌ. وحقيقةُ هذا الاسمِ واقعةٌ على الأقوالِ جميعِها، إما وَضْعاً، وإمّا شَرْعاً، لكنه فيما اختارَهُ الشافِعيُّ أَظْهَرُ وقوعاً. - وأما غيرُ اللَّغْوِ، فذكرَها اللهُ سبحانَهُ بِوَصْفَيْنِ في الآيتينِ، فقال في إِحداهُما: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، وكَسْبُ القلب هو قَصْدُه للشيءِ، وعَزْمُهُ عليه، وبهذا أخذَ الشافعيُّ، وجعلَ الكَسْبَ مُفَسِّراً للوَصْفِ الآخَرِ الذي هُو العَقْدُ.
وقال في الأُخْرى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. والعَقْدُ هو ربطُ الشيءِ بشيءٍ، وهو (¬1) هاهنا رَبْطُكَ القَصْدَ القائِمَ بالقَلْبِ بالمَقْصود بواسِطَةِ القَسَمِ، وهذه الحقيقةُ موضوعةٌ لما تُصُوِّرَ حَلُّه. * وقد وصفَ اللهُ سبحانه رَفْعَ اليمينِ بالحِلِّ، فقالَ تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وهذا المعنى يَقْتضي أن يكونَ اليمينُ على ظَنِّ شَيْءٍ، والحقيقةُ بخلافِه لَغْوٌ؛ لأنه ليسَ بعقدٍ يُتَصَوَّرُ حَلُّه. وبهذا المعنى أخذَ مالكٌ، وأبو حنيفةَ، وسفيانُ، وأحمدُ، وجعلوا العَقْدَ المذكور هنا مفسِّراً للكَسْب المَذْكور في سورة البقرة (¬2). وقال الشافعيُّ: لا إِثْمَ فيه، وعليهِ الكَفَّارَةُ؛ لأنها يَمينٌ مُكْتَسَبَةٌ بالقَصْدِ إليها (¬3). * ومن أجل هذا أيضاً اختلَفوا في وجوبِ الكَفّارَةِ في اليَمينِ الغَموسِ، وهي اليمينُ على شيءٍ ماضٍ أَنَّهُ ما كان، وهو قَدْ كانَ، وتعمَّدَ الكذبَ على ذلك. فقال مالكٌ، والأوزاعِيُّ، وأبو حنيفةَ، والثوريُّ، وأحمدُ، وإسْحاقُ (¬4): ¬
لا كفَّارةَ لها (¬1)؛ لأنها ليستْ بمُنْعَقِدَةٍ؛ لعدمِ تصوُّرِ حَلِّها، وإنما هيَ مَكْرٌ وخديعة، واختارَهُ ابنُ المنذرِ (¬2). واحتجُّوا من السنَّةِ بقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "من حَلَفَ على يمينٍ يقْتَطعُ بها مالَ امْرِئً مُسْلِمٍ، وهو فيها فاجِرٌ، لقيَ الله وهوَ عليهِ غَضْبانُ" (¬3). وقال الشافعيُّ تجبُ الكفارةُ؛ لأنها مُكْتَسَبَةٌ بالقلبِ (¬4). وأجيبَ عن الحديثِ بأنه - صلى الله عليه وسلم - علَّقَ ذلكَ باليمينِ، وباقتطاعِ مالِ المسلمِ، والكفارةُ لا تهدمُ ظلمَ المُسلمِ، ولو كان حُجَّةً، لوجبَ أن تكونَ الكفارةُ في اليمينِ الغَموس التي لا اقْتِطاع فيها لمالِ مسلمٍ، وهم لا يقولون بذلك. وهذا الجوابُ ضعيف، فإن الظاهرَ أن التقييدَ بمالِ المُسلمِ للتَّعريفِ والتَّعظيمِ، لا للتَّقييدِ، بدليلِ قوله: "وهو فيها فاجر". فإن قلتَ: فما حقيقةُ اليمينِ التي عُلَّقَتْ بها هذهِ الأحكامُ؟ قلنا: هو تعليقُ القسمِ بالشيءِ العظيمِ على تركِ شيءٍ أو فعلِه. وسُمِّيَتِ اليمينُ يَميناً؛ لأن العربَ كانتْ إذا أعطتْ مواثيقَها، مَدَّتْ أَيْمانَها؛ تأكيداً للمواثيق، فأطلق لفظُ اليمينِ على القولِ المصاحِبِ ¬
لذلكَ تجَوُّزاً حتى صارَ حَقيقَةً فيه (¬1). وقد كانتِ العربُ تُعَظّمُ أشياءَ في الجاهِلِيَّةِ، وتقسِمُ بها، أبطلَها الشرعُ، وبقيت العظمةُ لله جَلَّ جلالُه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَخلفِوا بالطَّواغي، ولا بِآبائِكم، فَمَنْ كانَ حالِفاً، فَلْيَخلِفْ باللهِ، أو لِيَصُمْت" (¬2). * وقد اتفقَ أهلُ العلمِ على تحريمِ الحَلِفِ بالطَّواغي كاللَّاتِ والعُزَّى، فإن قصدَ تعظيمَها، فهو كافرٌ، وإن لم يقصدْ تعظيمَها، فليسَ بكافرْ (¬3)، وربَّما قالَ بعضُهم بكفرِه؛ لإِطْلاقِ الأحاديثِ في ذلك، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ منكُم، فقالَ في حلفه: باللاّتِ والعُزَّى، فليقلْ: لا إلهَ إلا اللهُ" (¬4). * واتفقوا أيضاً على مَنْعِ الحلفِ بالآباءِ والمُلوك وغيرِهم منَ العُلماءِ والصّالحين، واختلفوا هل ذلكَ على التَّحريم، أو التَّنزيهِ؟ والخِلافُ موجودٌ عند المالكيّة والشافعيَّةِ جَميعاً (¬5). ¬
* واتفقوا على صِحَّةِ اليمينِ باللهِ جَل جَلالُهُ، وبأسمائِهِ. * واختلفوا في الحَلِفِ بصِفاتِ الله، وجَوَّزَهُ الجُمهورُ، وخالفَ فيه أبو حَنيفةَ (¬1). * واختلفوا بالحلفِ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً منَ الأنبياءِ -صلواتُ اللهِ عليهم وسلامُه- فمنعَهُ الجُمهورُ (¬2)، وجَوَّزَهُ أحمدُ، وعَقَدَ بهِ اليمينَ؛ لأنهُ لا يَتِمُّ الإيمانُ إلا به، ولكن هذا ينتقضُ بسائرِ الأنبياءِ -صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين-؛ فإنه لا يتم الإيمانُ إلا بهم. * واختلفوا في الحَلِفِ بما أَقْسَمَ به اللهُ تعالى وعَظمَهُ، فجوَّزَهُ قومٌ، ومنعه آخرون، وبَسْطُ ذلكَ يطولُ (¬3). * فإن قلتَ: فما حكمُ الألفاظِ التي ليستْ بصِيَغِ القَسَمِ، وإنما تخرجُ مَخْرَجَ الإلزام المُعَلَّقِ بالشروطِ، مثل أن يقولَ: إن فعلتُ كذا فَعَلَيَّ صومُ يومٍ، وامرأتي طالِق، وغلامي حُرٌّ، هل هي أَيمان يلزمُه بها ما التزَمَهُ، ويجبُ بمخالَفَتِها الكَفارَةُ؛ لما فيها من الحَثِّ والامْتِناع أو لا؟ ¬
قلت (¬1): ليست بأَيْمانٍ (¬2) في عُرفِ اللغة، وأما في عُرْفِ الشَّرعِ، فاختلفوا: فقال الشافعيُّ وأحمدُ: ليست بأيمانٍ تجبُ بها الكفارةُ؛ وإنما هي نذورٌ يجبُ بها ما التزمَه (¬3). ويروى هذا عن عائشة -رضي الله تعالى عنها (¬4) -. وقال أبو ثَوْرٍ: يجبُ الكفارة في التعليقِ بالعتق وحدَه (¬5). وقال مالكٌ: هي أيمان تجبُ بها الكفارةُ (¬6)؛ لقوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، مع قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، فسماها الشرع يميناً؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كفارةُ النذرِ كفارةُ يمينٍ" (¬7)، حتى قال بعض المالكيةِ: النذرُ يمينٌ حقيقةً. وقال أهلُ الظاهرِ: ليست بأيمانٍ يلزمُ منها الإثمُ والكَفّارةُ، ولا بِنُذورٍ يلزم بها ما التَزَمَهُ، وإنما يجبُ بذلك ما أَلْزَمَهُ الشرعُ؛ كالطلاقِ، والعتق (¬8). وسيأتي الكلامُ على ذلك في النذر -إن شاء الله تعالى-. ¬
* ثم ذكرَ اللهُ سبحانه وتَعالى بعدَ اليمينِ الكَفارَةَ مُفَضَلَةً مُبَيَّنَةً، فخيَّرَ في أَوَّلِها، ورتَّبَ في آخرِها، فخيَّرَ بينَ الإطعامِ والكُسوةِ والتَّحريرِ. وعلى هذا اتفقَ العُلَماءُ من الخَلَفِ والسَّلَفِ (¬1)، إلا ما رُويَ عنِ ابنِ عُمَرَ -رضي اللهُ تعالى عنهما-: أنه كانَ إذا أَكَّدَ اليمينَ، أعتقَ، أو كَسا، وإذا لم يُؤَكِّدْها، أَطْعَمَ (¬2). قيلَ لنافعٍ: ما التأكيد؟ قال: أن يحلفَ على الشَّيْءِ مِراراً. ولو أرادَ الحالِفُ أن يطعمَ خَمْسَةَ مساكينَ، ويكسوَ خمسةً؛ لم يجزُ؛ لأن الله سبحانَهُ خَيَّرَ بينَ الأنواعِ، ولم يخيرَّ في تنويعِ الأنواعِ (¬3). ومطلقُ الخطابِ يقتضي وجودَ التكفيرِ بحصولِ الإطعام للمساكين في أيِّ صورةٍ كانت، فلو غَداهُم وعَشّاهُم، جاز، وبه قال أبو حنيفة (¬4). وقال مالكٌ والشافعيُّ: لا يُجزئ إلا التمليكُ التامُّ؛ قياساً على الفِطْرَةِ، فقيد هذا الإطلاق بالقياس (¬5). ¬
* وإضافةُ الإطعامِ إلى العشرةِ المساكينِ يوجبُ التَّخْصيصَ بهم، والملكَ لهم، ولا يصحُّ العدولُ عنهم. وبهذا قال الشافعيُّ ومالكٌ (¬1). وقال أبو حنيفةَ: إذا دفعَها إلى مسكينٍ واحدٍ في دَفَعاتٍ، جازَ، وجعلَ العددَ المذكورَ للتقدير، لا للتمليك له، وتقديرُ الخطابِ عنده: فإطعامُ طعامِ عشرةِ مساكينَ (¬2). وهذا ضعيفٌ؛ لِما فيه من الإضمارِ والتجويزِ، ولما فيه من حذفِ المفَعول، ولما فيه من تركِ البيان لمنْ تُصرَفُ إليه هذه الصدقةُ، والحقيقةُ خير من المَجازِ، والذكرُ خير من الإضمارِ، والبيانُ خير من الإجْمال، واتباعُ الظاهرِ أَوْلى من التأويلِ. * ثم بيَّنَ اللهُ سبحانه صِفَةَ هذا الطَّعامِ، فقال: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، والوسط يقع على الخيارِ، ويقع على الوَسَطِ بينَ الطَّرَفَيْن، وهو المقصودُ هنا بالاتفاق (¬3). قال ابنُ عَبّاسٍ -رضي الله تعالى عنهما- كان الرجلِ يقوتُ أهله قوتاً فيه سَعَة، وكانَ الرجلُ يقوتُ أهلَه قوتًا وَسَطاً، وقوتاً دُون ذلك (¬4)، فالواجبُ ¬
على الرجُلِ أن يُخْرِجَ من القوت الذي يُطْعِمُهُ أَهْلَه. فهل المُرادُ بالذي نطعمُه أهلَنا أهلَ المُكَفِّرِ خاصَّةً حتى يجبَ عليه أن يخرجَ من قوَّتِه، أو أهلِ الجميعِ منّا، حتى يجبَ غالبُ قوتِ أهل البلد؟ فيه احتمال. وقد اختلفَ في ذلكَ القولُ عندَ الشافعيةِ والمالكيةِ (¬1). * والوسطُ الذي ذكرهُ اللهُ سبحانه، وقَيَّدَ به إطلاقَ الإطعامِ مُطْلَقٌ غيرُ مُقَدَّرٍ. فقدَّرَهُ الشافعيُّ بالمُدِّ (¬2)؛ لأنه أقلُّ ما وُجِدَ، كَما في كَفارة المُفْطِرِ في شَهْرِ رَمَضانَ، وأخذ في تقديرِه بقولِ ابنِ عَبّاسٍ وزيِد بنِ ثابت -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم (¬3) -. وَقدَّرَهُ أبو حنيفةَ بِنِصْفِ صالح من حِنْطَةٍ، أو صاعٍ من تَمْرٍ أو شعيرٍ؛ كما قال في زكاةِ الفِطْر (¬4). ومالِكٌ -رحمه اللهُ تعالى- قَيَّدَ هذا الإطلاقَ بالعادَةِ؛ كما هو أصلُه (¬5)، فقال: يُعطي المِسكينَ مُدًّا منَ الحنطةِ إذا كانَ في المدينة؛ لضيقِ مَعاشِهم، ¬
وأما سائُر المُدُنِ، فيعطونَ الوسَطَ من نفقتهم. * هذا في الإطْعامِ، وأما الكُسْوَةُ، فإن الله سبحانه أَطْلَقَها، ولم يقيّدها بالوَسَطِ. فمن أهلِ العلمِ من أخذَ بإطلاقِه، فقال: يُجْزِئُ أقلُّ ما يقعُ عليه الاسمُ؛ من إزارٍ، أو قميص، أو سراويلَ، أو عِمامة. وإليه ذهبَ الشافعيُّ وأبو حنيفة (¬1). وقال مالكٌ: أقلُّ ما يُجزئ فيه الصلاة (¬2)، فإن كانَ المسكينُ رَجُلاً، كَساهُ ثوباً يسترُ العَوْرَةَ، وإن كانَتِ امرأةً، كساها دِرعاً (¬3) وخِماراً، فأوجبَ أقلَّ ما يقعُ عليه المعنى الشرعيُّ. * وأطلق اللهُ سبحانَهُ الرَّقبةَ هنا. فقال أبو حنيفةَ بإطلاقِها، فجوَّزَ الرقبةَ الكافرَة (¬4). وذهبَ مالِكٌ والشافعيُّ إلى تقييدِها بالإيمان؛ قياساً على كَفّارةِ القَتْل (¬5). ¬
وهذا الخِلافُ مُتَشَعِّبٌ من اختلافِهم في القضايا المُتَّفِقَةِ في الأحكام، المُخْتَلِفَةِ في الأسبابِ، هل يُحْمَلُ مُطْلَقُها على مُقَيدِها، أو لا؟ وموضعُ ذلكَ علمُ الأصولِ (¬1). * وقد اتفق فقهاءُ الأمصارِ على تقييدِ الرقبةِ بالسَّلامةِ من العُيوب (¬2)، إلا أهلَ الظاهرِ، فإنهم تمسَّكوا بظاهرِ الإطلاق (¬3). وقد ذكرتُ في مقدمةِ كتابي المَغنى المُوجِبَ للتقييد. * ثم فرضَ اللهُ -سبحانَهُ وتَعالى- صوم ثلاثةَ أَيام لمنْ لم يجدْ، وعلى هذا أجمعَ المُسلمون. * ثم اختلفَ المسلمون في وجُوبِ التتابُع. فأوجبه أبو حنيفةَ والشافعيُّ في أحدِ قوليه (¬4). واستحبهُ مالِكٌ والشافعيُّ في القولِ الآخرِ، ولم يوجباه (¬5). ¬
والخلافُ متشعبٌ من اختلافِهم في العملِ بالقِراءة الشاذَّةِ، وذلك أَنَّ ابنَ مسعودٍ وأُبَيًّا -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- كانا يقرأان: (ثلاثةَ أيامٍ مُتَتابِعات) (¬1). * فإن قيل: فما حَدُّ العَجْزِ المُبيحِ للصَّوْم في هذِه الكَفَّارَة المُخَيِّرةِ، وفي غيرِها من الكفاراتِ المُرَتّبِة؟ قلنا: يختلفُ باختلافِ الخِصال الثَّلاثٍ: - أما العجزُ عن الرقبةِ. فقالَ الشافعيُّ: كلُّ مَنْ جازَ له أَخْذُ الزَّكاةِ، فهو عاجز عنِ العتقِ، وإن كانَ له بيثٌ يسكنُه، وصنعةٌ يعيشُ منها، وعبدٌ يخدُمُه، وهو من ذَوي الأقدارِ، ولا يُكَلَّفُ بيعَ ذلكَ، ولا عتقَ الرَّقَبَةِ (¬2). وقالتِ المالكيةُ: إن لم يملكْ إلا رقبةً أو داراً، الأفضلُ فيهِ لم يُجْزهِ إلا العِتْقُ (¬3). - وأما العَجْزُ عن الكُسْوة والإطعامِ. فقال الشافعيُّ: إذا كانَ عندَهُ قوتُه وقوتُ عِيالِه يَوْمَهُ ولَيْلَتَهُ، ومعهُ من الفَضْلِ ما يُطْعِمَ عَشَرَةَ مساكينَ، أو يكسوهُم، لَزِمَتْهُ الكَفّارَةُ بالإطعامِ والكُسْوَةِ، وإن لم يكنْ عنده هذا القدرُ، فله الصِّيامُ (¬4). ¬
وهو قولُ مالِكٍ وأصحابِه، وأحمدَ (¬1)، وإسحاقَ، واختارَهُ محمدُ بنُ جريرٍ الطبَرِيُّ (¬2). وقال أبو عُبيدٍ: إذا كانَ عندَهُ قوتُ يومهِ وليلتِه وعِياله، وكسوةٌ تكونُ لِكفايتهم، فإن كانَ قادراً على الكفارة، فهو عندَنا واجِدٌ، وإلَّا فليسَ بواجِدٍ، وهو كقولِ الجَماعةِ، واستحسَنَهُ ابنُ المنذرِ (¬3). وقالَ أبو حَنيفة: إذا لم يكنْ عندَهُ نِصابٌ، فهو غيرُ واجِدٍ (¬4). وقال بعضُ أهلِ العلمِ: مَنْ لم يكنْ عندَهُ فَضْلٌ غير (¬5) رأسِ مالِه الذي يقومُ به، فهو عاجزٌ. * ولما أتم اللهُ سبحانه ذِكْرَ الكفارة، قال: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، فعلقَ وُجوبَ الكفارةِ على وقوع الحلفِ، علمنا أنه هو السبب للكفارة. وقد اتفقَ العلماءُ على أن الحلفَ سببٌ للكفارة. واختلفَ الشافعيَّةُ، هل هو بِمُجَرَّدهٍ سببٌ لوجوبِها، والحِنْثُ شرطٌ لتحققِ وُجوبِها، أو الحلفُ سببٌ، والحِنْثُ سَببٌ آخر؟ وبهذا قالَ جُمهورُهم، وبالأولِ قالَ الباقون (¬6). ¬
ولهم من الدليلِ أنَّ الحِنْثَ قد يكونُ بغيرِ فِغلِ الحالِفِ، كما لو قالَ: واللهِ لا دَخَلَ زَيدٌ الدارَ. وبظاهرِ الآيةِ تمسَّكَ مَنْ جَوَّزَ تقديمَ الكَفّارَةِ على الحِنْثِ، وهمُ الجمهورُ، ومنهمُ الشافعيّ ومالكٌ في أَحَدِ قولَيْه (¬1)، ويُروى عن أَرْبَعَةَ عَشَرَ صحابِيًّا (¬2). وقالَ المُخالفونَ لهم: معناهُ: إذا حَلَفْتُم وحَنِثْتُم؛ لأن الكفارةَ شُرِعَتْ لِدَفْعِ الإثمِ، ومعَ عَدَمِ الحِنْثِ لا إثْمَ، فَلا تكفير (¬3). وقدِ اختلفَتْ رواياتُ الحَديثِ في ذلك، فروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني واللهِ -إن شاءَ اللهُ- لا أَخلِفُ على يَمينٍ، ثُمَّ أَرى خَيْراً مِنْها، إلَّا كَفّرتُ عن يَميني، وأتيتَ الذي هُوَ خَيْرٌ" (¬4)، وقال: "مَنْ حَلَفَ على يَمينٍ، فرأى غيرَها خَيْراً منها، فَلْيَأتِ الذي هُو خَيْرٌ، ولْيُكَفّرْ عن يَمينِه" (¬5). والأخذُ بتقديمِ الحِنْثِ أَحْوَطُ، وبِتَقديمِ الكَفّارَةِ أحسَنُ؛ للعملٍ بالحديثين، وتركِ الإبطالِ لأَحَدِهِما؛ فإنَّ مَنْ جَوَّزَ تقديمَ الكّفارةِ، جَوَّز تأخيرَها، بل يَسْتَحِبُّهُ أيضاً، ومن أَوْجَبَ تأخيرَها، لا يُجَوِّزُ تقديمَها. ¬
* فإن قال: فهلِ الأفضلُ الحِنْثُ والتَّكفيرُ، أو البِرُّ بِمُقْتَضى اليمين؟ قلنا: في ذلك تفصيلٌ: فإن كانَ الحِلْفُ على فعلِ واجب، أو تركِ معصية، فالبرُّ واجبٌ، والحِنْثُ حَرامٌ، وعَكْسُهُ لا يَخْفى. وإن كان الحَلْفُ على فعلِ مُباح (¬1)، أو تركِ مكروهٍ، فالِبرّ مستحبّ، والحِنْثُ مكروهٌ، وعكسُه لا يَخْفى (¬2). وإن كانَ الحلفُ على فعلِ مباحٍ أو تركِه، فثلاثةُ أَوْجُهٍ للشافعيَّةِ، أصحُّها: البرُّ أفضلُ؛ لقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]، وقيل: عَكْسُه، وقيل: هُما سواء، هكذا فَصَّلوه (¬3). وقال بعضُ الفقهاءِ في المُباح: يجبُ النظرُ إليه، فإن كانَ فيه ضَرَرٌ وجبَ الحِنْثُ عليه، وحَرُمَ عليه البرّ، وإن كانَ فيه نفع استُحِبَّ له الحِنْثُ، وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ يلج أَحَدُكُمْ بيمينه في أهله، آثمُ له عِندَ اللهِ منْ أنْ يُعطِيَ كَفارَتَهُ التي فَرَضَ الله" (¬4)، وهذا عندَ التحقيقِ راجعٌ إلى قسمِ الواجِبِ المستحَب، والله أعلم. * ثم أمر اللهُ سبحانَهُ أن نحفَظَ أَيْماننا. فيحتمل أن يكونَ أرادَ الكَفَّ عن كثْرَةِ اليمينِ، حتى لا يعرضها للحِنْثِ. ¬
ويحتملُ أن يكونَ أرادَ البِرَّ وعَدَمَ الحِنْثِ، وهذانِ القَوْلان ظاهِران، وهما مَحْمودانِ عندَ العُقلاءِ والأُدَباء، قال الشاعرُ (¬1): [البحر الطويل] قَليلُ الأَلايا حافِظٌ لِيَمينِه ... وإن نَدَرَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ ويحتملُ أن يريدَ حِفْظَها عندَ الحِنْثِ، وذلكَ بالمبادَرَةِ إلى تَكْفيرِها، وهذا خِلافُ الظاهرِ من الخِطاب (¬2). ¬
من أحكام الأشربة
(من أحكام الأشربة) 121 - (18) قوله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. حَرَّمَ اللهُ سُبْحانَهُ في هذهِ الآيةِ الخَمرَ، وبَيَّنَ تَحْريمَها بياناً شافِياً، وبَيَّنَ عِلَّةَ تَحريمِها، وقَرَنَ تحريمَها بتحريمِ عبادةِ الأوثانِ، وأكلِ المَيْسِرِ؛ مُبالَغَةً في النَّهْيِ عن مُلابَسَتِها. قال ابنُ عَباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما-: لما حُرِّمَتِ الخَمرُ، مشى أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بعضُهم إلى بعضٍ، فقالوا: حُرِّمَتِ الخَمرُ، وجُعِلَتْ عِدْلاً للشرْكِ (¬1). * والخمرُ اسمٌ للشَرابِ المُتَّخَذِ من كلِّ عصيرٍ يَتَخَمَّرُ، سواءٌ كانَ من العِنَبِ، أو العَسَل. وسُميَتْ خَمراً؛ لِمُخامَرَيها العَقْلَ (¬2). ¬
* وقد أجمعَ المسلمونَ على تحريمِ قليلِها وكثيرِها، وأجمعوا على تحريمِ القَدرِ المُسْكِرِ من جميعِ الأنبِذَةِ (¬1). * واختلفوا في القَدْرِ الَذي لا يُسْكِرُ. فقالَ جُمهورُ فقهاءِ الحِجاز، وجُمهورُ المُحَدِّثينَ بالتسويَةِ بينَ قليلِها وكثيرِها، وأنهُ مُنْدَرِجٌ في اسمِ الخَمر (¬2). وذهبَ فقهاءُ العراقِ والكوفةِ وأكثرِ أهلِ البَصرَةِ إلى التَّفرِقَةِ بينَ المُسْكِرِ وغيرِه، وأنَّ اسمَ الخمر ليسَ بواقع عليه (¬3). فاحتجَّ الأَوَّلونَ للتَّحريمِ بما رواهُ أبو داودَ والترْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ عن جابر -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أَسْكَرَ كثيرُهُ، فقليلُهُ حَرام" (¬4)، وهذا نصٌّ في مَحَل الخِلاف. واحتجُّوا لوقوعِ اسمِ الخمرِ عليه باللُّغَةِ والشَّرعِ. - أما اللغةُ، فإنه شرابٌ يُخامِرُ العقلَ، ولهذا قالَ عمرُ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: والخمرُ ما خامَرَ العقل. ¬
- وأما الشَّرْعُ، فما رواه مسلمٌ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلُّ مُسْكِرٍ خَمرٌ، ومن الزبيبِ خمرٌ، ومنَ الحِنْطَةِ خمرٌ، وأنا أنهاكُم عن كل مُسْكِرٍ" (¬1)، وبِما روى أنسٌ -رضي اللهُ تعالى عنه- قال: كنتُ قائِماً على عُمومَتي أسقيهِم -وأنا أصغرُهُم- الفَضيخَ (¬2)، فقيل: حُرِّمَتِ الخَمرُ، فقالوا: اكْفَأها، فكفأتها، قيلَ لأَنسٍ: ما شرابُهُم؟ قالَ: رُطَبٌ وبُسْرٌ (¬3). وفي روايةٍ: قالَ أنسٌ: كانت خمرُهم يومئذٍ (¬4). وفي رواية: إن الخمرَ حُرِّمَتْ، والخمرُ يومئذٍ البُسْرُ والتَّمر (¬5). وقال ابنُ عمرَ: نزلَ تحريمُ الخمرِ، وإنَّ في المدينةِ أشربةً ما فيها شرابُ العِنَبِ (¬6). ¬
وقال أنسٌ: ما كانَ لنا خمرٌ غيرَ فَضيخِكِم هذا الذي تُسَمُّونَهُ الفَضيخَ (¬1). واحتجَ الآخرون بآثار رَوَوْها. فمن أشهرِها عندَهُم ما رويَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "حُرِّمَتِ الخَمرُ بِعَيْنِها، والمُسْكِرُ من غَيْرِها" (¬2). قالوا: وهذا نَصُّ لا يَحْتَملُ التأويل، وضَعَّفَهُ أهلُ الحِجاز. وبما روى ابنُ مسعودٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- أنه قالَ: شَهِدتُ تحريمَ النبيذِ كما شَهِدتُم، ثم شَهِدتُ تحليله، فَحَفِظْتُ، ونَسيتُم (¬3). وخَرَّجَ الطَّحاوِيُّ: أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنِّي كنْتُ نَهيْتكُم عنِ الشَّرابِ في الأَوْعِيَةِ، فاشْربَوا فيما بَدا لكم، ولا تَسْكروا" (¬4). وخَرَّجَ الطحاويُّ أيضًا عنْ أبي موسى قال: بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنا ¬
ومعاذٌ إلى اليَمَنِ، فقالَ: يا رسول الله! إن بِها شرابَيْنِ يُصنَعان من البُرِّ والشَّعيرِ، أَحَدُهما يُقالُ له: المِزْرُ، والآخرُ يُقالُ له: البِتْعُ، فما يشربُ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اشربا ولا تسكرا" (¬1). قالوا: ولأن الله سبحانَه نَصَّ على العِلَّةِ المُوجِبَةِ للتَّحْريمِ، وهي كَوْنُها تُوقعُ العَداوةَ والبَغْضاء وتَصُدُّ عن ذِكْرِ اللهِ وعَنِ الصَّلاةِ، وهذهِ العِلَّةُ لا تُوجَد إلا في القدرِ المُسْكِرِ منَ الخَمرِ والنَّبيذِ، ولكن الإجْماعَ انعقدَ على تحريمِ القليلِ منَ الخَمرِ، فبقيَ النَّبيذُ على مُقْتَضى العِلةِ (¬2). وقال الحِجازيُون: السَّبَبُ المُوجِبُ لِهذِهِ العِلَّةِ هو حُدوثُ الشدَّةِ المُطْرِبَةِ، وهي موجودةٌ في النبيذِ، فالواجبُ أن يُلْحَقَ بالخَمرِ ما وُجِدَتْ عِلَّتُه فيه، كما ذلكَ سنةُ القِياس (¬3). * ثم سَنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الحَدَّ على شارِبِها (¬4)، فجَلَدَ شاربَ الخَمرِ أربعينَ، أو نَحْوَها بالنِّعالِ وأطرافِ الثيابِ، وجلدَهُ أبو بَكْرِ وعُمَرُ، ثم استقرَّ تحديدُ جلدِه بثمانينَ جَلْدَةَ في زَمَنِ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه (¬5) -. * وأما المَيْسِرُ، وهو القِمار، فقد تقدَّمَ ذكرُه في أولِ "سورةِ المائِدَة"، وأنه من عَمَلِ الجاهليَّةِ، ويلحقُ به كُلُّ قِمار في مَعْناه. وما أقبحَ وأشنعَ قولَ صاحبِ "عين المعاني" حيث قال: وقريب منه ¬
قُرْعَةُ الشافِعِيِّ في إعتاقِ عبدٍ (¬1) وحِرْمانِ آخَرَ!. فالشافعيُّ لم يقلْ ذلكَ بدعواهُ، ولا ارْتَكَبَهُ بِهواه، وإنَّما اتّبَعَ فيه ما ثَبَتَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ونظرُ العَقْلِ باطِل عندَ وُجودِ سُنَّتِهِ - صلى الله عليه وسلم -، فما يَنْطِقُ عنِ الهوى، وللهِ سُبْحانه أن يَسُنَّ على لِسانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ما شاءَ، ويُوجِبَ ما شاءَ، ويُسْقِطَ ما شاءَ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وهُمْ يُسْأَلون، كيفَ وقد ظهرَ لنا من اعْتِناءِ الشارِع بتكميلِ الحُرِّيَّةِ وعَدَمِ تبعيضِها ما يفتحُ العقولَ لِما فيه من المَصالح الكُليَّةِ من شُهوده الجِهادَ، واستقلالِهِ بكَسْبِهِ، وقيامِه بالفرائِض التي هي دعائِمُ الإسلام، وتَطَوُّعِهِ بِنوافِلها أيضاً، ووجوبِ القِصاص على قاتِله، وتكميلِ دِيَتِهِ، وتكثيرِ نِسائه التي بِهِنَّ يَكْثُرُ نَسْلُه، وغيرِ ذلك مِمّا يخرجُ به من حَيِّزِ الأموالِ إلى حَيِّزِ المُكَلَّفينَ المُكَرَّمين؟! ولأجلِ هذا أوجبَ الشارعُ - صلى الله عليه وسلم - على من أَعْتَقَ شِرْكاً لهُ في عبدٍ قيمةَ الباقي، وكَمَّلَ عتقَ من حَرَّرَ بعضَ رقيقِه، وإن لم يقصِدْ ذلكَ مالكُه. وأيُّ نَظَرٍ يوجِبُ على الإنسان بَذْلَ مالِهِ بطاعةٍ عَمِلَها، وقرية أتاها؟ وأيُّ نظير يوجبُ على الشريكِ أخذَ قيمةِ مُلْكِهِ بغيرِ رضاه؛ ولقد ارتكبَ خَطَراً، وقالَ شَطَطًا؛ فإن القُرْعَةَ قُرْعَةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والأنبياءِ من قبلهِ - صلى الله عليه وسلم -. قال اللهُ سبحانه في يونس -عليه السلامُ-: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141]. وقال في زَكرِيّا وأصحابِه -عليهُمُ الصَّلاةُ والسَّلام-: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادَ سَفَراً، أَقْرَعَ بينَ نسائه (¬2). ¬
وروى عمرانُ بنُ الحُصَيْنِ أن رجلاً ماتَ، وقد أعتقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ له، لا مالَ له غيرُهم، فأقرعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بينَهُم، فأعتقَ اثنين، وأَرَقَّ أَرْبَعَةً (¬1). فنعوذ باللهِ من عَثْرَةِ اللَّسانِ، ولا سيَّما في علومِ القرآنِ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ العَلِيِّ العَظيِم. وأما الأنصابُ، فهي الأصنامُ التي تُعْبَدُ من دونِ اللهِ -جَلَّ جلالهُ-. وأما الأزلامُ، فواحِدُها زَلَمٌ -بالفَتْحِ والضَّمِّ- وهي قِداحٌ يكتبونَ على أَحَدِها: أَمَرَني ربِّي، وعلى الآخَرِ: نَهاني رَبِّي، كانت الجاهليةُ تَسْتَقْسِمُ بها عندَ إرادةِ الأمور، تَطْلَبُ بها عِلْمَ ما قُسِمَ لها، فإن خرجَ الأمرُ، مضى لأمرِه، وإن خرج النَّهْيُ، تركَ (¬2). * ويلحقُ بهذا كُلُّ ما في معناه، كالحُكْمِ بالنُّجومٍ والإسْطِرلابِ، وغيرِ ذلك من تنفيرِ الطُّيورِ، والتَّطيُّرِ بأصواتها، ومنهُ تطيُّرُ العامَّةِ وكثيرٍ من المُتَّفقةِ في زمانِنا بِعِدَّةِ أيامٍ من الشَّهْرِ، ويَروونَ ذلكَ عن جَعْفَرٍ الصادِقِ، وحاشا اللهِ، ومعاذَ اللهِ أن يكونَ هذا منه. وما أحسنَ قولَ بعضِ الفُضَلاءِ العُقلاءِ: [البحر الخفيف] طيرَةُ النَّاسِ لا تَرُدُّ قَضاءً ... فاعْذُرِ الدَّهْرَ لا تَشُبْهُ بِلَوْمِ أَيُّ يَوْمٍ نَخُصُّهُ بِسُعودٍ ... والمَنايا يَنْزِلْنَ في كُلِّ يَوْمِ ¬
ليسَ يومٌ إلا وفيهِ سُعودٌ ... ونُحوسٌ تَجْري لِقَوْمٍ فَقَوْمِ (¬1) وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يكرَهُ الطِّيَرَةَ، ويحبُّ الفَألَ (¬2). * فإن قلتَ: قد علمتُ تحريمَ هذهِ الأعيانِ الأربعةِ من أمرِ الله سبحانه باجتنابِها، وتعليلِها بأنّها رِجْسٌ فَهلْ هيَ رجس بوصف الله أم لا (¬3)؟ قلنا: الذي ذهبَ إليه جُمهورُ أهلِ العِلْمِ أَنَّ الخَمرَ نَجِسَةٌ بِوَصْفِ اللهِ سُبْحانَه لَها بأنها رِجْسٌ، والرِّجْسُ هو النَّجِسُ (¬4). ولكنْ لا دَلالةَ لهم في هذا على التَّنْجيسِ؛ لأن الرِّجْسَ اسم مُشْتَرَك يقعُ على مَعان سأذكرُها في "سورةِ الأنعامِ" -إن شاءَ اللهُ تعالى-. ولا يجوزُ بأن يُرادَ بهِ مَعْنى النَّجسِ؛ لأن الله تَعالى وصفَ بهِ الأعيان، ومعلومٌ قَطْعاً أن الميسرَ والأزلام والأنصابَ طاهرةُ الأعيان، فلا يكون صفة لموصوفاتٍ مختلِفَةٍ، وإن أريدَ به المَعْنى المتعلِّقُ بها؛ فإن المعانيَ (¬5) لا تُوصَفُ بالنَّجَسِ، فتعيَّنَ أن مَعْنى النَّجَسِ هنا المُسْتَقْذَرُ، وهذا أمرٌ لا يوجبُ التنجيسَ، ولهذا ذهبَ الليثُ بنُ سعدٍ، وربيعةُ إلى طهارَةِ الخَمرِ، واختارَهُ المُزَنيُّ وبعضُ المُتَأَخِّرينَ من المالكيةِ (¬6). ¬
* وفي أمرِ الله سبحانه باجتنابِهِ دليل على أنه لا يجوزُ الانتفاعُ به في شيء. وقد أجمعَ العلماءُ على أنه لا يجوزُ بيعُها، ولا إمساكُها، ولا تَخْليلُها (¬1)، وإنما اختلفوا في جوازِ التداوي وتَطْفِئَةِ العَطَشِ بها (¬2). 122 - (19) قوله تَبارَكَ وتَعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93]. * قال المفسرون: لما نزلَ تحريمُ الخَمرِ والمَيْسِرِ، قالوا: يا رسَول الله! ما نقولُ في إخْوانِنا الذينَ مَضَوْا وهم يشربونَ الخمرَ، ويأكلون الميسرَ، فأنزل الله هذه الآيةَ. روى البخاريُّ عن أنسٍ -رضي الله عنه-: لما حُرْمَتِ الخمرُ، قال بعضُ القوم: قُتِلَ قَوْمٌ وهي في بُطونهم، قال: فأنزلَ الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية، إلى قوله: {الْمُحْسِنِينَ} (¬3) [المائدة: 93]. وقد اتفقَ العلماءُ بالقرآنِ على أن هذهِ الآيةَ مقتد بسببها وبشَرْطِها الذي هو التقوى، وعلى تَخْطِئَةِ مَنْ تأَوَّلَها (¬4) على عُمومِها وإطلَاقِها. ¬
روى الدَّارَقُطْنِيُّ عن ابنِ عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: إن الشُّرّابَ كانوا يُضْربونَ على عَهْدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بالأيدي والنِّعالِ والعِصِيِّ حتى تُوُفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان في خِلافَةِ أبي بَكْبر أكثر منه في عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أبو بكبر يجلِدُهم أربعينَ جَلْدَة حتى تُوُفِّيَ، وكان عمرُ من بعدِه يجلِدُهم كذلك أربعين، ثم أتى رجل من المُهاجرينَ الأَوَّلينَ، وقد شربَ، فأمر به أن يُجْلَدَ، فقال: أتجلِدُني؟ بيني وبينَكَ كتابُ الله، فقالَ عمر: أفي كتابِ اللهِ تجدُ أَلَّا أجلِدَكَ؟ فقالَ: إن الله تعالى يقولُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة: 93]، شَهِدْتُ معِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بَدراً وأحُداً والخَنْدَقَ، والمشاهِدَ كُلَّها، فقال عمرُ: ألا ترُدُّونَ عليه ما يقولُ؟ فقال ابنُ عباسٍ: إنَّ هؤلاءِ الآياتِ أُنْزِلْنَ عُذْراً لِمَنْ صَبَرَ، وحُجَّةً على الناس، لأن الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية، ثم قرأ حتى أَنْفَدَ الآية الأخرى، فإنْ كانَ من الذينَ آمنوا وعَمِلوا الصالِحاتِ، فان الله سبحانَه قَدْ نهاهُ أن يَشْرَبَ الخَمْر. فقال عمرُ: صَدَقْتَ، فقالَ عمرُ -رضيَ اللهُ تعالى عنهُ-: ماذا تَرَوْنَ؟ فقال علي -رضيَ اللهُ تعالى عنه- إذا شَرِبَ سَكِرَ، وإذا سَكِرَ هذَى، وإذا هذَى افْتَرَى، وعلى المُفْتَري ثمانونَ جَلْدَةً، فأمرَ به، فجُلِدَ ثمانين (¬1). ¬
من أحكام الهدي
(من أحكام الهدي) 123 - (20) قوله تَبارَك وتَعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94] الآية. * نزلت هذه الآيةُ في غزوةِ الحُدَيْبِيَةِ، وكان الوَحشُ والطَّيْرُ يَغْشاهُم إلى رِحالِهِم ابتلاءً من اللهِ سبحانَه ليعلَمَ مَنْ يخافُهُ بالغيب (¬1)، فمن اعْتَدى بعدَ وُرودِ النَّهْي، فله العُقوبةُ بهذِه الآَيةِ، وعليهِ الجَزاءُ بالآَيةِ الثانيةِ، وهذا بَيَانُها -إنْ شاءَ اللَّه تعالى-. 124 - (21) قوله تَبارَكَ وتَعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95]. ¬
* واعلَموا أن هذهِ الآَيةَ مُنْتَشِرَةُ الأَحْكامِ، مُتَشَعِّبَةُ الأطْرافِ، كَثُرَتْ فيها أقوالُ العلماءِ، واختلفتْ فيها آراؤهم، وأنا أذكرُ من ذلك ما يَسَّرَهُ اللهُ سبحانه لي (¬1) على مُنْتَهى فهمي، فأقول: * نهانا اللهُ سبحانه في هذهِ الآيةِ عن قَتْلِ الصَّيْدِ ونَحْنُ حُرمٌ. والقتلُ معروفُ، وهو إزْهاقُ الرُّوح بأيِّ وَجْهٍ كانَ. فبينَ لنا تحريمَ القتلِ، ولم يبينْ لنا ما دونَه مِنْ تنفيرِ الصَّيْدِ، والإعانَةِ على قَتْلِهِ، والدّلاَلَةِ عليه. ثم حَرَّمَ علينا الصَّيْدَ (¬2) في آيةٍ أخرى تَحريماً مُجْمَلاً، فقال: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1]، وهذا التحريمُ هنا لا يَسْتَقِلُّ بكَشْفِ المُرادِ هلْ هو القَتْلُ المذكورُ في هذهِ الآيةِ أو غيرُه؟ فوجدنا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد بينَ لنا أن المرادَ ما هو أَعَمُّ من القتلِ، فَحَرَّمَ الإعانةَ والدِّلالَةَ على الصيد، والتنفيرَ له، وغيرَ ذلك؛ للسُّنَّةِ. ولولا ورودُ السُّنَةِ، لقضينا بهذه الآيةِ المفّسرة على الآَيةِ السابقةِ المُجْمَلَة؛ كما ذلكَ طريقةُ النَّظَرِ في حُكْمِ المُجْمَلِ على المُبيَّنِ، وسيأتي بيانُ الأحاديثِ وتعارضُها واختلاف العلماء فيها في الآيةِ التي تليها، -إن شاء الله تعالى-. * ولما أحل اللهُ سبحانه صيدَ البحرِ في الآيةِ الثانيةِ، علمنا أن المُرادَ بالصيد في هذه الآية هو صيدُ البرِّ، وأنه من العامِّ الذي أُريدَ به الخاصُّ، وعلى هذا أَجْمَعَ العلماءُ، لكنهم اختلفوا في حقيقةِ الصيد. فقال أبو حَنيفةَ: كلُّ حيوان صِيدَ، سواءٌ كانَ مأكولَ اللَّحْمِ، أو لا، ¬
مُؤْذِياً أو ساكِناً (¬1)، واستدلوا بقولِ عَلِيٍّ -رضيَ اللهُ تعالى عنهُ-: [البحر الكامل] صَيْدُ المُلوكِ أرانِبٌ وثَعالبٌ ... وإذا رَكِبْتُ فَصَيْدِيَ الأَبْطالُ (¬2) ولكنه استثنى الخَمسَ الفواسِقَ اللَّاتِي ذَكَرَهُنُّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "خَمْسُ فَواسِقَ يقتَلْنَ في الحِل والحَرَمِ: الغرابُ، والحِدَأَةُ، والعَقْرَبُ، والفَأرَةُ، والكَلْبُ العَقورُ" (¬3)، ولم يُلْحِقْ بهنَ من الشباعِ العادِيَةِ شَيْئًا سِوى الذِّئْبِ (¬4). وقال مالكٌ (¬5)، والشافعيُّ (¬6): الصيدُ هو ما حَلَّ أَكْلُهُ؛ فإن العربَ ¬
لا تُسَمِّي ما لا يُؤْكَلُ صَيْداً، وقد سألَ عبدُ الرحمنُ بْنُ عُمارَةَ جابِرَ بنَ عبدِ اللهِ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- عن الضَّبُعِ، فقالَ: أَصَيْدٌ هي؟ قال: نعم، قال: أفيها جزاءٌ؟ قال: نعم، كبشٌ، قلتُ: سمعتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالَ: نعم (¬1). فاكتفيا بذكرِ الصَّيْدِ عن ذكرِ الحلال؛ لتلازُمِهما. وأما البيتُ، فإن صَحَّ من قولِ عليٍّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-، فهو دليلٌ على أن الصَّيْدَ ما يُؤْكَل لَحْمُه؛ كالثعالِبِ والأرانِبِ، وإنما أطلقَهُ على الأبطال تَجَوُّزاً؛ لأخذِه لهم كأخذِ الصائدِ الصيدَ. ولكنِ الشافعيُّ ومالكٌ اختلَفا في تفصيلِ المأكولِ من غيره. فَجَوَّزَ مالِكٌ أكلَ السِّباعِ؛ كالفَهْدِ والنَّمِرِ والذِّئْبِ، وسَمّاهُ صَيْداً (¬2)، ولكنه جَوَّزَ قَتْلَها في الحَرَمِ والإحْرام؛ لوجودِ عِلَّةِ الفِسْقِ فيها، فتعارَضَ عندَهُ القِياسُ وعُمومُ الآية، فقَضى بالقياسِ على العُموم. فإن قلتَ: فالشافعيُّ هلْ يُجَوِّزُ للمُحرِمِ قتلَ ما عدا الصيدَ؛ مِمَّا ليسَ بِفاسِقٍ ولا في معناه؟ ¬
قلتُ: أطلقَ كثيرٌ من مُصَنِّفي الشافعيةِ القولَ عن الشافعي أنه يقولُ بإباحةِ قتلِها، وأنه ألحقَها بالفواسِقِ، وأنه جعلَ العِلَّةَ في إباحَةِ الخَمسِ الفواسِقِ تحريمَ أَكْلِها، فأباحِ للمُحْرِمِ قَتْلَ ما لا يَحِل أكلُه. وهذا لا يَصحُّ عن أبي عبدِ الله، ولا يُظَنُّ به أنه يترُكُ العِلَّةَ التي أشارَ إليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهيَ الفِسْقُ، ويتعلَّلُ (¬1) بِعِلَلٍ أخرى غيرِها، ولكنهم وَهِموا عليه لَمَّا أفتى بتحريم قتلِ الصيدِ المأكولِ، ظَنَّوا أنه يُبيحُ قتلَ غيرِ المأكول مُطْلَقاً، وربّما أوْهمَهُ كلامُه في كتاب "الأم" (¬2)، وليس كذلكَ. بلِ الآيةُ تقتضي تَحْريمَ قتلِ المأكولِ، ولا تَقْضي بتحليلِ قتلِ غيرِ المأكول. ولمّا بينَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الفواسِقَ يُقْتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ، ألحقَ بهنَّ ما كان في معناهُنَّ، ويبقى الباقي على مُقْتَضى الدليل. وربما أرشدَ كلامُ الشافعيِّ في مَوْضِعٍ آخرَ من "الأم" إلى مثلِ هذا (¬3). * فإن قلتَ: فما مَعْنى قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1]؟ قلنا: حُرُمٌ جَمعُ حَرام، يقال: رجلٌ حَرامٌ، ورِجالٌ حُرُمٌ، مثل قَذال (¬4) وقُذُل، والحَرامُ هو المُحْرِمُ الداخِلُ في حُرَمة لا تُهْتكُ، ويقعُ ذلك على الداخلِ في النُّسُكِ، وعلى الداخِلِ في الحَرَمِ، وعلى الداخلِ في الشهرِ ¬
الحرامِ (¬1)، قال الشاعِرُ (¬2): [البحر الكامل] قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الخَليفَةَ مُحْرِماً ... ودَعا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَخْذولا وكان قتلُه لِثماني عَشْرَةَ ليلة خلَتْ من ذي الحِجَّةِ. * وقد حصلَ الإجماعُ على عدمِ اعتبارِ الزمانِ في هذا الحُكْمِ، وأجمعوا على اعتبارِ الدُّخولِ في النُّسُكِ. واختلفوا في اعتبارِ الحَرَمِ. فقالَ فقهاءُ الأمصارِ باعتباره (¬3)، وقال داودُ: إذا (¬4) قتلَ الحَلالُ صَيْداً ¬
في الحَرَمِ، لا جَزاءَ عليه، وإنْ وإنَ مُخْطِئاً مأثوماً (¬1). فإن قلتَ: فما الوجهُ الذي من أجلِه أوجبَ فقهاءُ الأمصارِ الجزاءَ؟ قلت: من قالَ من الفقهاءِ بِحَمل اللفظِ المُشْتَرَكِ على معانيهِ، أوجبَ فيهِ الجزاءَ بالآية، ومن لم يقلْ بعمومِ المُشْتَرَكِ، أوجَبَهُ بالقِياس على المُحْرِم بجامِعِ النَّهْيِ عن القَتْلِ في حالتي حُرْمَةٍ. وقد تبيَّنَ بهذا مُسْتَنَدُ الإمامِ داود؛ فإنه لا يقولُ بعموم المشترك، ولا بالقياسِ، وظهر أن قول أبي حنيفة لا مستندَ لهُ من جهةِ النظرِ؛ لأنه لا يقولُ بعمومِ المشترك أيضاً، ولا بالقياس في الكفّارات. ولا مستندَ إلا فَتْوى الصَّحابِة بوجوب (¬2) الجزاء كما يروى عن عمرَ، وعثمانَ، وابنِ عباسٍ، وابن عمر -رضي الله تعالى عنهم-، وزعم أَنَّهم حَكَموا في حَمامِ مَكَّةَ بشاةٍ، ولم يُعلَمْ لهم مُخالِفٌ (¬3). * ثم بين اللهُ سبحانَه الجَزاء فقال: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، فَقَيَّدَ الجَزاء بذكرِ العَمدِ، فاقتضى بمفهومه أَنَّ من قتلَه ناسِياً أو خاطِئاً لا جزاءَ عليه. وبهذا قالَ أهلُ الظاهِرِ (¬4)، وإليهِ ذهبَ الشافعيُّ في القديم، وأحمد في إحدى روايتيه (¬5). ¬
وذهب الجمهورُ كابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ، والحسنِ، والنَّخَعِيِّ، والزُّهْرِيِّ (¬1)، ومالِكٍ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ في الجديد (¬2) إلى التسوية في الجزاء بين العامد والناسي والمخطئ (¬3)؛ لأن النسيانَ عذرٌ في رفعِ المَأْثَمِ، لا رَفْعِ المَغْرَمِ، وشهادةُ الأصولِ قاضِيَةٌ بذلك؛ كقتلِ الخَطَأ وسائِرِ المُتْلَفاتِ. وقال الزهريُّ: وجبَ الجزاءُ في العَمدِ بالقرآنِ، وفي الخَطَأ بِالسُّنَّةِ (¬4). وقال ابنُ جُرَيْجٍ: قلتُ لعطاء: من قتلهُ منكمُ مُتَعَمِّداً، فمن قتلَه خَطَأً كيف (¬5) يغرمُ، وإنما جُعِلَ الغُرْمُ على من قتلَهُ مُتَعَمِّداً؟ قال: تُعَظَّمُ بذلكَ حُرماتُ الله، ومضت به السُّنَّةُ (¬6). وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: وردَ القرآنُ بالعَمْدِ، وجُعِل الخَطَأُ تغليظاً (¬7). وأجابَ هؤلاءِ عنِ ذكرِ العَمدِ في هذهِ الآيةِ بأجوبةٍ: ¬
أحدها: أن ذكرَ العمدِ خرجَ مخرجَ الغالبِ، فهو للتغليبِ، لا للتقييد. ثانيها: إن وصفَ العمدِ ذُكِرَ لِتُعَلَّقَ بهِ بعضُ الأحكامِ المُخْتَصَّةِ به، وهو ذوق الوبَالِ المَذكورِ في آخِر الآيةِ. وهذا ضعيفٌ؛ لأن الوبَالَ المَذوق هُو الجزاءُ، وذلك لا يَخْتَصُّ به العمدُ. وأحسنُ من ذلكَ أنْ يُقال: ذُكِرَ ليعلَّقَ عليهِ العَفْوُ؛ إذِ العَفْوُ مُخْتَصٌّ بالعَمْدِ، بدليلِ قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]، والانتقامُ غيرُ العفوِ، وهذا أمرٌ زائدٌ على الجزاء، وهو مختصٌّ بالمُتَعَمَّدِ أيضاً، فكأنه أرادَ: مَنْ قتلَهُ منكم قَبْلَ ورُودِ النهي جاهِلاً بالتحريمِ، فعليهِ الجَزاءُ، وعَفا اللهُ عمَّا سَلَفَ؛ كما قال تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 23]. ولأجلِ تعارُضِ مفهومِ الخِطاب وتركِ إهدارِ الصيدِ قالَ بعضُ السَّلَفِ في الآيةِ قَوْلاً، وجعله مَذْهَبا وتأويلاً، وهو: إذا قتلَ الصيدَ مُتَعَمِّداً لقتلِهِ، ناسِياً لإحرامِه، فعليهِ الجزاءُ، فأما إذا قتلَهُ مُتَعَمِّداً ذاكراً لإحرامِه، فقد حَلَّ، ولا حَجَّ له؛ كما لو تكلَّمَ في الصلاة، أو أَحدَثَ فيها. قال مُجاهدة لقوله تعالى بعدَ ذلك: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]، ولو كان ذاكِراً لإحرامِه، لَوَجَبَتْ عليهِ العُقوبةُ لأولِ مرة (¬1). ونحوَ قوله قالَ سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ حين سُئِل عن ذلك، فقال: نعم، يُحْكَمُ ¬
عليه، فَيُخْلَع (¬1)، أي: يخرجُ عن حُكْم المُحْرِمين. وهذا المذهبُ فيه ضَعْفٌ؛ لما قدَّمتُه من الاحتمالِ الذي هو أحسنُ الأجوبةِ -إنْ شاء الله تعالى-. ولا يَصِحُّ اعتبارُه بالصّلاةِ؛ لما بينَهُما منَ الاخْتِلاف في الشرائِطِ والصِّفاتِ. * فإن قلت: فَبيَّنْ لنا ما حقيقةُ المِثْلِ الذي أوجَبَهُ اللهُ تعالى؟ فظاهِرُ الخِطابِ يَقْتَضي أن الجزاءَ مثلُ ما قَتلَ مِنَ النَّعَم لا ما قَتَلَ (¬2). قلتُ: اختلفُ القُرَّاءُ في هذهِ الكلمةِ، فقرأ أهلُ الحِجازِ والبصرةِ والشامِ بتنوينِ (جزاء)، ورفع (مثل) على الصِّفَةِ للجَزاء، وقرأ أهلُ الكوفةِ بخَفْضِه على الإضافةِ (¬3). فأما قراءةُ الرَّفْعِ فَسَليمَةٌ من الزيادَةِ والمَجاز. وأما قراءةُ الخَفْضِ، فإنَّ المِثْلَ تَزيدُهُ العربُ لتفخيمِ المُشَبَّهِ بهِ، كقولِ الشاعرِ: [البحر السريع] مِثْليَ لا تقْبلُ مِنْ مِثْلِكا (¬4) ¬
ومنه قولُه تعالى: {ليَس كَمِثلِه شَيْءٌ} [الشورى 11]. وحقيقةُ المِثْلِ في لسانِ العربِ الشبهُ في الصورَة، فأوجَبَ شِبْة الصَيْدِ من النَّعَمِ الذي هُوَ من (¬1) غَيْرِ جِنْسِه؛ لكونه يشبهُهُ من بعض الوجوه. وبهذا قالَ جمهورُ العلماءِ (¬2)، إلا أبا حنيفةَ (¬3)، فإنه تأولَ المِثْلَ بالمِثْل المَعنَوِيِّ، وحملَهُ على القيمةِ؛ لأن ذلك هو القياسُ في سائرِ المُتْلَفات، فالعبدُ يغرمُ بالقيمةِ، ولا يغرمُ بعبدٍ آخرَ منْ جنسِه، فكيف من غيرِ جِنْسِه؛ لأنها تعمُّ الصيدَ الذي لهُ مِثْلٌ في الصورةِ، والذي لا مِثْلَ له، ولأنها تعمُّ الصغيَر والكبيرَ، وعادَته اتباعُ القِياسِ، وتَركُ الظَّواهِرِ. وهذا القولُ محجوجٌ بخمسةِ أَوْجُهٍ لا تأويل لها: أحدُها: تقييدُ القرآنِ بكونهِ من النعَمِ، فبيَّنَ جنسَ المِثْلِ الذي هو الجَزاء، وحملُهُ على أن النَّعَمَ هو الصيدُ خلافُ المعروفِ من اللسانِ. ثانيها: القراءةُ بالرفعِ والتنوينِ مبيِّنَةٌ لقراءةِ الإضافةِ، ولو لم يُحْمَل عليها، أَدَّى إلى تعارُضِ القراءتين. ثالثُها: قوله تعالى: {هدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، والهدي يُطْلَقُ في عُرفِ اللُّغَةِ والشَّرعِ على ما ساقَهُ المُحْرِمُ إلى البيتِ. رابعُها: إجماعُ الصحابةِ -رضي الله تعالى عنهم- على الحكم بالنَّعَم في الجزاءِ، دونَ القيمةِ. ¬
خامسها: استعمالُ المِثْلِ في الصُّورَةِ حقيقةً، وفي القيمةِ مَجازاً، والحقيقةُ مقدَّمَةٌ على المجاز. ثم نقول (¬1): لا يخفى على ذي نَظَرٍ اعتناءُ الشرعِ بإراقَةِ الدماء على وَجْهِ النُّسُكِ، لما فيهِ من القربانِ والتعظيمِ لشعائرِ اللهِ جَلَّ جلالُه، قال الله سبحانه وتعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]، وإمساكُ الأدبِ معَ وُرودِ الشرع أَوْجَبُ على علماءِ الشريعةِ (¬2)، وأَلْيَقُ بهم، ولا سِيَّما في مناسكِ الحَجِّ، فَأكثَرُها مِمّا لا يُعقَلُ معناها. فإن قلتَ: فقد قالَ اللهُ سبحانه: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، والطعامُ والصِّيامُ ليسا بِمِثْل صُوَرِه، فدلَّ على اعتبارِ المِثْلِ المعنَوِيِّ. قلت: سبحانَ اللهِ! ما أَحسَنَ ما قُلْتَ؛ حيثُ أنطقَكَ اللهُ بالحُجَّةِ عليكَ، أما ترى الله سبحانه وصفَ الطعامَ والصِّيامَ بكونِهمِا كَفَّارَةً، ووصَفَ الجزاءَ مِنَ النَّعَمِ بكونه مِثْلاً، فَبَيَّنَ أنَّ هذا الجَزاءَ كَفَّارَةٌ كسائرِ الكَفّاراتِ، والكَفّاراتُ مَنْصوصاتٌ لا يجوزُ عندَكَ القِياسُ فيها. * وفي الآيةِ دَلالةٌ على أن الجَماعَةَ إذا قَتَلوا صَيْداً، ليسَ عليهِم إلَّا مثلُ ما قَتَلوا، وهو جزاءٌ واحدٌ؛ لأن الجزاءَ في مقابَلَةِ المقتولِ، لا في مُقابَلَةِ القَتْلِ. - وبهذا أخذَ الشافِعِيُّ (¬3)، ويدلُّ لهُ قضاءُ عُمَرَ، وعبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ ¬
الآتي قريباً، وما رُوي عنِ ابنِ عَبّاسٍ -رضي الله تعالى عنهم- في قومٍ أَصابوا ضَبُعاً، فقال: عليهم كَبْشٌ يَتَخارجونه بينهم (¬1)، وخَرَّجَ الدَّارَقُطْنيُّ مِثْلَهُ عنِ ابنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما (¬2) -. - وقال مالِكٌ وأبو حنيفةَ: على كُلِّ واحدٍ جَزاءٌ؛ لأنَّ كُل واحد منهما ارْتَكَبَ مَحْظوراً في إِحرامه (¬3). وعلى قياسِ هذا ما إذا قَتلَ الجَماعَةُ صَيْداً في الحَرَمِ، وبه قالَ أبو حَنيفةَ والشافِعِي (¬4) (¬5). كما تشتركُ الجماعةُ في غَرامَةِ الدَّابَّةِ إذا قتلوها. وقال مالكٌ: على كلِّ واحد جَزاءٌ؛ لأنهم إذا دخلوا الحَرَمَ صاروا مُحْرمين (¬6). ونرجعُ إلى المسألةِ الأولى. * فنقول: لمَّا كانَ معرفةُ المِثْل الخَلْقيِّ الصُّورِيِّ مما يَغْمُضُ إدراكُه، جعلَ اللهُ الحُكْمَ فيه إلى ذَوَيْ عَدلٍ منّا؛ ليتعاوَنا في النظرِ في دقائقِ الأشباه (¬7)، كما شَرَعَ بَعْثَ الحَكَمينِ عندَ شِقاقِ الزوجينِ، وجَعَلَهما من ¬
أهلِهِما؛ لقربِ اطِّلاعِهِما على باطنِ حالِهِما، وقُوَّةِ عِلْمِهِما بِمَصالِحِهما. روى بَكُرْ بنُ عبدِ اللهِ المُزنيُّ قال: كانَ رَجُلانِ من الأعرابِ مُحرِمَيْنِ، فحاشَ (¬1) أحدُهُما صيداً، فقتلَهُ الآخَرُ، فأَتيَا عُمَرَ وعَبْدَ الرَّحْمنِ بْنَ عَوْفٍ، فقالَ لهُ عُمَرُ: ما ترى؟ قال: شاةٌ، قال: وأنا أَرى ذلك، اذهبا واهدِيا شاةً، فلما مَضَيا قالَ أحدُهُما لصاحِبهِ: ما درى أميرُ المؤمنينَ ما يقولُ حتى سَأَلَ صاحِبَهُ! فسمعَهُ عُمَرُ، فردّهما، فقال: هل تقرأان "سورة المائدة"؟ فقالا: لا، فقرأ عليهما: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا} [المائدة: 95]، ثم قال: استعنْتُ بصاحِبي هذا (¬2). * وقد اتفقوا على أنه لا بُدَّ من ذوي العدلِ. * وإذا حكم ذوا عدل من الصحابة -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- في مِثْلٍ، فلا يُعاد فيهِ الحُكْمُ عندَ الشافِعِيِّ؛ لأنها قضيةٌ معقولةُ المعنى حَكَمَ فيها عَدْلانِ، فوجبَ علينا تنفيذُ حُكْمِهِما واتباعُه (¬3). وقال مالِكٌ: يستأنف الحكم، وكأنه اعتقده عِبارةً غيرَ مَعقولةِ المَعْنى، فوجبَ الإتيانُ بِها عندَ وجودِ سَبَبِها، وهذا في غيرِ مَحَلِّ الإجماعِ والنَّصّ، وأما الإجماعُ والنصُّ فلا يُعاد فيه الحكمُ، قولاً واحداً (¬4). ¬
* فإن قلت: فهل يجوزُ أن يكونَ الجاني أحدَ الحَكَمَيْن؟ قلت: يحتملُ أن يجوزَ؛ لأن الله سبحانه لم يشترطْ إلا ذَوَيْ عَدْلٌ، وهو عدلٌ. وبهذا قال الشافعيُّ في أحدِ قولَيْه (¬1). ويحتمل أَلَّا يجوزَ، وبه قالَ مالِكٌ وأبو حنيفةَ؛ لأن مضمونَ الخِطاب يَقْتَضي جانياً وحَكَمَيْنِ، والأصولُ تقضي أنه لا يجوزُ أن يَحكُمَ لِنَفْسِه (¬2). وللشافعيّ أن يقولَ: هو حاكمٌ على نفسه، لا لها، وأنه مُفْتٍ، لا حاكمٌ وقوله: {يَحْكُمُ بِهِ} [المائدة: 95]، أي: يفتي بحُكْم الله تعالى فيه. * واتفقوا على أنه لا بُدَّ من بُلوغِ الهديِ مَكَّةَ؛ لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. * واختلفوا في الاكتفاء بالحَرَمِ. فأقامَهُ الشافعيُّ وأبو حنيفةَ مقامَ مَكَّة (¬3). وأباه مالكٌ؛ لتَخْصيصه بالكَعْبَةِ (¬4)، واستثنى هديَ الفِنيَةِ، فأجازه بغيرِ ¬
مَكَّةَ، والذبْحَ للعمرَةِ، فأجازه بمنًى (¬1). * واختلفوا في اشتراطِ سَوْقِهِ منَ الحِلِّ. فقالَ مالِكٌ باشتراطِ سَوْقِهِ من الحِلِّ إلى مَكَّةَ، لِتَضَمُّنِ قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] أن يُهْدَى من مكانٍ يبلغُ منه إليها (¬2). وقال الشافعيُّ: لا يشترط الحِلُّ (¬3). ومن أجلِ هذا نَشَأَ الخِلافُ بينهما في جزاءِ الصَّغيرِ من الصَّيْدِ. فقالَ مالِكٌ: جزاؤه القيمةُ؛ لأن الهديَ الصَّغيرَ لا يُمْكِنُ سَوْقُه إلى الحَرَمِ (¬4). وقال الشافعيُّ: جزاؤه صَغير منِ النَّعَمِ؛ لأنه يبتاعُهُ في الحَرَمِ، ويهديه، ولأن الصحابةَ قَضَتْ في الصَّغيرِ بصغيرٍ، وفي الكبيرِ بكبير (¬5). وبهذا القضاءِ يظهرُ ضعفُ دَلالةِ الإشارةِ والتَّضَمُّنِ، وأن المُعتبَرَ إنما هو حصولُ الدَّمِ بالحرم لأجلِ مساكينِ مَكَّةَ، وأما السَّوْقُ، فلا فائدةَ فيه للمساكين. ¬
* ولما ذكر اللهُ سبحانَه الجزاءَ الذي هو الهديُ، وفَصَّلَ أحكامَهُ، ذكرَ الطعامَ والصيامَ بلفظ (أو) الموضوعةِ للتخييرِ، وسَمَّاها كفارةً. وبالتخييرِ أخذَ الشافِعيُّ، ومالك، وأبو حنيفةَ (¬1). ومن أهلِ العلمِ من قالَ بالترتيب؛ لما فيه من تقديمِ الأثقلِ فالأثقل؛ كما وردَ في حَدِّ المُحارَبَة. وهو مذهبُ ابنِ عباسٍ (¬2)، وبه قالَ زُفَرُ والشافِعيُّ في قوله القديم (¬3). * فإن قلت: فقد بينَ اللهُ سبحانُه مقدارَ الصَيامِ بأنهُ عَدلُ الطَّعامِ، ولم يبينْ مقدارَ الطَّعامِ، ولا مقدارَ المساكين. قلتُ: أما مقدارُ الصيامِ، فقدِ اتفَّقوا على أنه مُعادل بالطَّعامِ؛ كما ذكرَ اللهُ سبحانه. وإنما اختلفوا في صورة التعديل. فقال مالكٌ والشافعيُّ وأهلُ الحجاز: يصومُ عن كُلِّ مُدّ يوماً، وهو مقدارُ طعامِ المساكينِ عندهم (¬4). ¬
وقال أبو حنيَفةَ وأهلُ الكوفة: يصومُ لِكُلِّ مُدَّيْنِ يوماً، وهو مقدارُ طعامِ المساكينِ عندهم أيضاً (¬1). وعَدَلَهُ ابنُ عَبَّاسٍ أيضاً بالطعام؛ كما عَدَلَهُ اللهُ سبحانه، ولكنه قَدَّرَهُ كما قَدَّرَ الطعامَ، فروي عنه أنه قال: إذا قتلَ المُحْرِمُ ظَبْياً، أو نَحْوَهُ، فعليهِ شاةٌ تُذْبَحُ بمكة، فإن لم يجدْ، فإطعامُ ستةِ مساكينَ، فإن لم يجدْ، فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ، فإن قَتل أيلاً، أو نحوَه، فعليهِ بقرة، فإن لم يجدْ، أطعمَ عشرينَ مسكيناً، فإن لم يجدْ فصيامُ عشرينَ يوماً. وإن قَتلَ نَعامَةً أو حِمارَ وحْشٍ، فعليهِ بدنة، فإن لم يجد، فعليه بَدلُه مِنَ الطَّعامِ ثلاثين مِسْكيناً، فإن لم يجن فصيامُ ثلاثين يوماً (¬2). وقد تبين بِهذا مقدارُ طعامِ المساكينِ. وأما مقدارُهما: فقد اتَّفقوا على التقويمِ بالدَّراهِمِ، ثم الدراهم طعاماً، ويُطْعِمُ كلَّ مسكينٍ مُدًّا على قولِ أهل الحجاز، ومُدَّينِ على قولِ أهلِ العراق. واختلفوا في ماهِيَّةِ المُقَوَّمِ، هل هو الصَّيْدُ المجزى، أو جزاؤهُ من النَّعَمِ؟ فبالثاني قال الشافعيُّ (¬3)، وبالأول قالَ مالكٌ. قال ابنُ وَهْبٍ: قال مالِكٌ: أَحسَنُ ما سَمِعْتُ في الذي يَقْتل الصَّيْدَ، ¬
ويحكَم عليه فيه: أنه يُقَومُ الصيدُ الذي أصاب، فينْظَرُ كم ثمنُهُ من الطعامِ، فيُطْعِمُ كل مسكينٍ مُدًا، أو يصومُ مكانَ كُلِّ مُدٍّ يوماً (¬1). وقال ابنُ القاسِمِ عنه: إن قوّمَ الصيدَ دراهمَ، ثم قَوَّمَها طعامًا، أجزأهُ (¬2). وقولُ مالِكٍ أَلْيقُ بالتخيير، وأَقْوَمُ في المعنى؛ لأنه نظيرٌ لا بديل، ولو كانَ بَدَلاً، لكان ترتيباً. وقولُ الشافعي أَحْوَطُ؛ إذ قيمة البَدَنَةِ أكثرُ منَ النَّعامةِ، وقيمةُ البقرةِ الإنسيةِ أكثرُ من الوَحشِيةِ، وقيمةُ الشاةِ أكثرُ من الظَّبْيِ. * وقيد الله الهديَ ببلوغ الكعبة وأطلقَ الطعامَ والصيامَ. فاتفقَ العلماءُ على إطلاقِ الصَّوم، ولا يختصُ بمكانٍ؛ خلافاً لأبي حنيفةَ، حيثُ خَصَّصَهُ بِمَوْضِعِ الإصابةِ (¬3). واختلفوا في الإطعامِ. فحملَ الشافعيُّ إطلاقَه على تقييدِ الهديِ؛ بِجامِعِ الكَفارةِ، وانتفاعِ فقراءِ الحَرَمِ به؛ كالذبحِ، فأوجبَ إخراجَه بمكَّةَ، وهو قولُ طاوسٍ (¬4)، ¬
ولأنه إمَّا بَدلٌ لِلهديِ على قولِ الترتيبِ، أو نظيرٌ لهُ على قولِ التخييرِ، وكلاهُما يوجبُ تقييدَ أحدِهما بتقييدِ الآخر (¬1). وبهذا قالَ مالكٌ في إحدى رِوايتيه، وبها صَرَّحَ في "مُوَطَّئِهِ" (¬2)، وقالَ في الرواية الأخرى: يُكَفِّرُ بموضعِ الإصابة للصَّيدِ، وهو قولُ (¬3) مجاهدٍ (¬4). ومنهم من قال: يطعمُ حيثُ شاءَ؛ كسائرِ الإطعامات؛ فإنه يجوزُ بكلِّ مكاني، وهو قولُ عطاءٍ، ومحمدِ بنِ جَريرٍ الطَّبَرِيِّ (¬5). وقد قدمتُ ما قيل في قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]. * إذا تَمَّ هذا، فقد بَيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - أنه حَرَّمَ المدينةَ كما حَرَّمَ اللهُ مَكَّةَ، فلا يُصادُ صيدُها، ولا يُعضَدُ شَجَرُها (¬6). ¬
وخالفَ في ذلكَ أبو حنيفةَ، وقال: يجوزُ اصْطِيادُ صَيْدِها (¬1). والجمهورُ على خلافِهِ؛ للحديثِ الصَّحيح (¬2). * وإنما اختلفوا في جزاءِ صيدِها. فمنهم من أوجبه؛ كجزاءِ صيدِ مكة، ومنهم من أسقطَهُ، ومنهم من جَعَلَ الجَزاءَ سَلْبَ القاتلِ (¬3). 125 - (22) قوله تبارك وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96]. * أقولُ: لما بَيَّنَ اللهُ سبحانه في الآيةِ الأولى قتلَ الصيدِ وجَزاءهُ، بينَ في هذهِ الآيةِ حُكْمَ الأكلِ، وبينَ حُكْمَ صيدِ البحرِ، ومَيَّزَ بينَه وبينَ صيدِ البر. * أما صيدُ البَرِّ فَحُرِّمَ على المُحرِمِ أَكلُهُ؛ لقولهِ تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، وهذا مُطْلَقٌ في جميع الأحوال، سواءٌ صادَهُ مُحْرِم أو حَلالٌ. وقد حُكِي عن جماعةٍ من السَّلَفِ العَملُ بظاهرِ الإطلاقِ. ¬
ورُوي عن عَلِيٍّ أنه كانَ عندَ عثمانَ بنِ عفانَ -رضي الله تعالى عنهما- فَأُتِي عثمانُ بِلَحْمِ صَيْدٍ صادَهُ حَلالٌ، فأكلَ عثمانُ، وأبى عليٌّ أن يأكل، فقال: واللهِ ما صِدنا، ولا أَمَرنا، ولا أشَرنا، فقال عليٌّ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬1) [المائدة: 96]. ورويَ عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أنه كَرِهَ لَحمَ الصيدِ وهو مُحرِم، أُخِذَ لَهُ، أو لَمْ يُؤْخَذْ، وإن صادَهُ الحَلالُ (¬2). وعن أبي هريرةَ مثلُه، وكذا عنِ ابنِ عَمرٍو، وسَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وطاوسٍ مثلُه أيضاً (¬3). ولهم من الدَّليلِ حديثُ الصَّعْبِ بنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ الثابتِ في "الصحيحين": أنه أَهْدَى إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حِماراً وحْشياً، وهو بالأَبْواءِ، أو بِوَدّانَ، فردَّه عليهِ، فلما رأى ما في وَجْهِهِ قال: "إنَّا لم نَرُدَّهُ عليكَ إلَّا أنا حُرُمٌ" (¬4). وذهبَ أكثُر الناسِ إلى تقييدِ هذا الإطلاقِ، فقال بعضُهم -وأظنُّه أبا حنيفة (¬5): يحرُم عليهِ إن صادَهُ، أو صيدَ بإذنِه، أو دِلاَلتِه، وإن صيدَ بغيرِ ¬
إذنِه ودِلالته، حَلَّ (¬1)؛ بدَلالةِ حديثِ أبي قَتادَةَ الثابتِ في "الصحيحين": أنه كانَ في قومٍ مُحرِمينَ، وهو حَلالٌ، فبينما هُم يسيرونَ، إذْ رَأَوْا حِمارَ وَحشٍ، فحملَ أبو قَتادةَ على الحُمُرِ، فَعَقَرَ منها أتانًا، فنزلْنا فأكلْنا من لحمِها، ثم قلنا: أنأكلُ لحمَ صيدٍ ونحنُ مُحرِمون؟ فحملْنا ما بقيَ من لحمِها، فأدركْنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألْناه عن ذلكَ، فقال: "هل منكُم أحدٌ أمرَهُ أن يحمِلَ عليها، أو أَشار إليها؟ " فقالوا: لا، قال: "فكلوا ما (¬2) بقي من لحمها" (¬3). وقال بعضُهم: يحرُم عليهِ إن صادَه أو صِيْدَ لأجلِه، سواءٌ كان بإذنِه أو بغيرِ إذنه، وبه قالَ مالِكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاق (¬4)، واستدلُوا بما روى الترمِذِيُّ عن جابر -رضي الله عنه-؛ أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَحمُ الصيدِ لكمْ حَلالٌ ما لم تصيدوهُ، أو يُصادَ لكم" (¬5). قال أبو عيسى: هو أحسنُ حديثٍ في البابِ. وتأول الشافعيُّ حديثَ الصعبِ بنِ جَثّامَةَ بأنه - صلى الله عليه وسلم - ظَنَّ أنهُ صيدَ لأجلِه، ¬
وتأوَّلَ حديثَ أبي قَتادة بأنه لم يَصِده لأَجْلِهم؛ بدليلِ كراهتِهِم لفعله؛ حيثُ لم يناولوه سَوْطَهُ، فجعلَ حديثَ جابرٍ مُفَسِّراً للأحاديثِ (¬1). فإن قلت: كان الأَوْلى أن يُجْعَلَ حديثُ أبي قتادَةَ مُفَسِّراً لحديثِ جابر؛ لأن الغالبَ ألاّ يُصادَ للرجلِ إلا بإذنِه؛ بدليلِ حديثِ أبي قَتَادَةَ؛ حيثُ لم يعتبرْ فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلا (¬2) الأمرَ أو الإشارةَ. قلت: هذا لَعَمري حَسَنٌ كما تقولُ، ولكن تبقى المُعارَضَةُ بينَهُ وبينَ حديثِ الصَّعبِ بنِ جَثَّامة، وإذا جُعل حديثُ جابرِ مُفَسّراً لحديثِ أبي قتادَةَ، ولحديثِ الصَّعْبِ، أَمكَنَ الجمْعُ بينَ الأحاديثِ كُلِّها، وزالَ التعارُضُ والاختلافُ، وهذا أحسنُ من ذلكَ، ولهذا اختارَ هذا المسلكَ أبو عبدِ الله الشافعيُّ، -رحمه الله-. * فإن قلت: فهل جاءتِ الآيةُ بياناً لتحريمِ لحمِ الصيدِ، أو لتحريمِ الاصطيادِ؛ كما قاله بعضُ العلماء، أو كثير منهم؟ قلت: لا ينبغي أن يكونَ لبيانِ الاصطياد، لأن الخِطابَ مَسوقٌ لبيانِ الأكلِ، لا للاصطياد. فإن قلتَ: فما ذلك. قلت: وصفَ اللهُ صيدَ البحرِ وطعامَه بأنهُ متاعٌ لنا وللسَّيَّارَةِ، ثم عطفَ عليهِ صيدَ البَرّ، فلَهُ حُكْمُهُ، والاصطيادُ ليسَ بِمَتاعٍ. ولبيانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِعُموم هذهِ الآيةِ؛ حيثُ قال: "صيدُ البر لَكُم حَلال ¬
ما لَمْ تصيدوهُ، أو يُصَدْ لكم" (¬1)، ولأن كافةَ العلماءِ من الصَّحابةِ والتابعينَ منهم مَنْ تمسَّكَ به في تحريمِ الأكلِ مطلقاً؛ كما روينا عن على وغيرِه. ومنهم من استدلَّ بالسُّنَّةِ على تَخْصيصه، ولم يقولوا: المرادُ بهِ الاصطيادُ دونَ الأكلِ، وهذا تفسيرُ ابنِ عباس تَرجُمانِ القرآنِ يَشْهدُ بذلكَ في صيدِ البَحرِ الذي عُطِفَ عليه هذا، قال: يريد: ما أصبتَ من داخلِ البَحرِ، ولم يقلْ: يريدُ الإصابةَ. فإن قلتَ: فما قولُك في قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1]، هل المرادُ بهِ الصيدُ، أو الاصطياد؟ قلت: يحتملُ أن يرادَ بهِ الصيدُ؛ استدلالاً بهذه الآية، ويحتملُ أن يُرادَ به الاصطيادُ؛ استدلالاً بالآيةِ التي بعدها: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. * وأما صيدُ البحرِ، فإن الله سبحانَه أَحَلَّهُ للمُحْرِم، وأجمعَ عليهِ المُسلمون. * وأما طعامُ البحرِ. فقالَ قوم: طعامُه ما طَفا عليه مَيْتاً، قاله أبو بكرٍ وعمرُ وقتَادةُ. وقال قومٌ: طعامُه ما حَسَرَ عنهُ الماءُ، وأخذه الناسُ. وقد ذكرتُ أقوالَ العلماءِ في مَيْتة البَحْر فيما سلف (¬2)، والصحيحُ تحليلُها مُطْلَقاً (¬3)؛ للأحاديث التي ذكرتُها، ولقوله تعالى: {متاعًا لكُمْ ¬
وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]، فأحله في حالتِي الاختيارِ والاضطِرارِ، ولم يبحْ ميتَة البَرِّ إلا في حالِ الاضطرار، والله أعلم. 126 - (23) قولُه عَزَّ وجَلَّ: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97] الآية. أي: صَلاحاً للناس، قاله سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ (¬1)، ومثلُه عنِ ابنِ قُتيبة، وجعل ذلك لعلمِه بما فيهِ صلاحُ أمورهم، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك في أول السورة. ¬
من أحكام الشهادات
(من أحكام الشهادات) 127 - (24) قولُه عَزَّ وجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} [المائدة: 106]. * أقول: إن هذه الآيةَ استَعْصَتْ على أهلِ العلمِ، وصَعُبَتْ عليهم، وذهبوا في تقريرِ أحكامِها وتأويلِ ألفاظِها كُل مَذْهَبٍ، وربما أفردَها بعضُهم بالتَّصْنيفِ، وما ذاكَ إلا لمخالَفَةِ ظاهرِها القواعدَ المُتَقَرِّرَةَ في الشريعةِ من ثلاثةِ أَوْجُهِ: أحدُها: قبولُ شهادةِ غيرِ أهلِ مِلَّتِنا، واللهُ تعالى يقولُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، وقال: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15]. ثانيها: إيجابُ اليمينِ على الشاهِدَينِ، والشاهدُ لا يمنَ عليه إجماعًا، سواءٌ قامَتْ رِيْبَةٌ أو لم تقمْ. ثالثها: اشتراطُ اثنينِ في اليمينِ منَ الذينَ استَحَقَّ عليهما عندَ الاطلاعِ على إثم الشاهدين، واشتراطُ تَعَدُّدِ الحالِفِ في الشريعَةِ غيرُ مَعْهود، وأما تَعَدُّدُ الحَلِفِ، فهو معهودٌ؛ كما في القَسامَةِ، وأَيْمانِ اللِّعانِ، وها أنا أذكرُ
سببَ نُزولِ هذه الآيةِ، ثم أذكرُ أقوالَ العلماءِ وتأويلاتِهم، ثم أعقِّب ذلكَ بالقول الحَقِّ -إن شاء الله تعالى-. رويَ عن ابنِ عباس -رضي الله تعالى عنهما-: أنه قال: أما قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] بَلَغَنا -والله أعلمُ- أَنَّها نزلَتْ في مَوْلًى مِنْ موالي قُريشٍ، ثم لآلِ العاصِ بنِ وائلٍ السَّهْمِيِّ، انطلقَ في تجارةٍ نحوَ الشامِ، ومعه تَميمُ بنُ أوسٍ الداريُّ (¬1)، وعَدِيُّ بنُ بَداء، وهما نَصْرانِيّانِ يومئذ، فتوفيَ المَوْلى في مسيرهِ، فلما حَضَرَهُ المَوْتُ، كتبَ وَصِيَّتهُ، ثم جعلَها في مالِه ومتاعِه، ثم دفَعَها إليهِما، وقال لهما: أبلغا أَهْلي مالي ومَتاعي، فانطَلَقا لِوَجْهِهِما الذي تَوَجَّها إليه، فَفَتّشَا متاعَ المَوْلى المُتَوَفَّى بعدَ موته، فأخذا ما أعجَبَهما منه، ثم رَجَعا بالمالِ والمتاعِ الذي بقيَ إلى أهل الميتِ، فدفعوه إليهم، فلما فتشَ القومُ المالَ والمتاعَ الذي بقيَ، ففقدوا بعضَ ما خَرَجَ به صاحِبُهم معهُ من عندِهم، فنظروا إلى الوَصِيَّةِ، وهي في المَتاعِ، فوجدوا المالَ والمتاعَ فيهما مُسَمّى، فدعوا تميمًا وصاحبَه، فقالوا لهما: هل باعَ صاحِبنا شيئًا، أو اشْتُرِيَ ممّا كانَ عندَه (¬2)؟ فقالا: لا، قالوا: فهل مرضَ فطالَ مرضُه، فأنفقَ منهُ على نفسِه؟ قالا: لا، قالوا: فإنَّا نَفْقِدُ بعضَ الذي مضى بهِ صاحبُنا معه (¬3)، قالوا: ما لَنَا بما مَضى بهِ مِنْ علومٍ، ولا بما (¬4) كانَ في وَصِيَّتِه، ولكن دفعَ إلينا هذا المالَ والمَتاع، فَبَلَّغْناكُموهُ كما دَفَعَهُ إلينا، فرفعوا أمرَهُم إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وذكروا له الأمرَ، فنزلتْ هذه الآية إلى {الْآثِمِينَ} هو، فقاما فَحَلَفا على مِنْبَرِ ¬
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ (¬1) صلاةِ العَصْرِ، فَخَلَّوا سبيَلُهما، ثم اطُّلِعَ بعدَ ذلكَ على إناءٍ من فِضَّةٍ منقوشٍ مُمَوَّهٍ بالذَّهَبِ عندَ تَميمٍ الدَّارِيِّ، فقالوا: هذا من آنيةِ صاحبنا التي مَضى بها معه، وقدْ قُلْتُما: إنه لم يبعْ من متاعِه شيئًا، فقالا: إنا اشترينَا منه، فَنَسينا أن نخبرَكُم به، فرفعوا أمَرهُمْ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فنزل: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} إلى {الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 107 - 108]، فقامَ رجلانِ من أولياءِ السَّهْمِي، فحلفا باللهِ إنها في وَصِيَّتِهِ، وإنَّها لَحَقٌّ، ولقد خانَهُ تميمٌ وعَدِيٌّ، فأخذَ تميمٌ وعديٌّ بكلِّ ما وُجِدَ في الوَصِيّةِ لمّا اطُلِعَ على ما عِنْدَهُما منَ الخِيانة (¬2). * وأما أقوالُ العلماءِ. فإنهم اختلفوا في الضميرِ الذي في قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106]. فقال جُمهورُهم: أي: من غيرِ أهلِ مِلَّتِكُمْ، والخطابُ مع كافَّةِ المؤمنين. وقال قومٌ كالحَسَنِ وعِكْرِمَةَ: أي: من غيرِ أهلِ قبيلتِكم، والخطابُ معَ أولياءِ المَيِّتِ، فاستدلُوا لقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 106]، وأهلُ الصلاةِ هم أهلُ مِلَّتِنا دونَ غيرِهم، فدلَّ على كونهما مؤمِنَيْنِ (¬3). ¬
وهذا ضعيفٌ جِدًّا، وضَعْفُهُ أشهرُ من أن يُظْهَرَ. * ثم اختلفَ الجمهورُ. فمنهم مَنْ قال: الآيةُ منسوخَةٌ (¬1) بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وبقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، وروى هذا عَطِيَّةُ عنِ ابنِ عَبّاسٍ -رضي الله تعالى عنهما-. وهذا أضعفُ من الأولِ؛ فإن النسخَ لا يَصِحُّ إلا بتوقيفٍ، وعلمٍ بالمتأخِّر منهما، وليس قولُ هذا (¬2) القائل: هي منسوخة بِما ذُكِرَ بأولى من قولِ غيرهِ: هي ناسخةٌ لما ذُكِرَ، كيفَ والتعارُضُ بينَهما معدومٌ؛ فإنه يحتملُ أن تكونَ هذه الآيةُ مقيِّدَةً لإطلاقِ غيرِها ببعضِ الأحوال؛ كما قاله الآخرون، وهم قومٌ من السلف، قالوا: الآيةُ مُحْكَمَةٌ، ويجوزُ قبولُ شهادةِ الكِتابيِّ عندَ فَقْدِ المُسْلِمِ في السَّفَرِ خاصَّةً، وبه قالَ أبو حنيفة (¬3)، وأحمدُ (¬4) -رحمهما الله تعالى-. وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأنهم لا يوجبونَ اليمينَ على الشاهدِ الكِتابيِّ عند الارتيابِ كما وردَ في ظاهرِ الآية والحديث. ¬
وإذا بطلَ تحليفُه، بَطَلَ القولُ بقبولِ شهادتهِ كَما ذكر. فإن قلتم: فما قولُك الحَقُّ الذي وَعَدْتنَا به، فقد دَلَلْتَنا على فسادِ هذهِ الأقاويل؟ قلت: الآيةُ مُحْكَمَةٌ غيرُ منسوخةٍ واردة على سببٍ مشهورٍ من قصةِ تميمِ بنِ أوسٍ الداريِّ، وعديّ بنِ بَداء في حالِ تنَصُّرِهِما، وأنهما قَبَضا مال بُدَيْل، ليوصلاهُ إلى أهلِه، وسَمَّاهما اللهُ شاهِدَيْنِ لِمُشاهَدَتِهما أمرَ بديلٍ، وعِلْمِهِما بهِ، وهما وَصيّانِ في الحقيقةِ، وليسَ المقصودُ بشهادتِهما الشهادةَ الشرعيةَ المُتَعَبَّدَ بها؛ بدليل قوله تعالى: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107]، والوليّانِ ليسا بِشاهدَيْنِ شَرْعاً، وإنما هما شاهِدانِ عِلْماً، فالحكمُ مقصورٌ على سببهِ، لا يتعداهُ، فيجوزُ للمسلمِ أن يُوصِيَ إلى الذِّمِّيِّ عندَ عدمِ المُسْلِمِ، ولا يجوزُ عندَ وُجودِه، فلنْ يجعلَ اللهُ للكافرينَ على المُؤْمنين سبيلًا، وإنما شَرَطَ اللهُ سبحانه الضَّرْبَ في الأرضِ؛ لأنه مَظِنَّةُ عَدَمِ المُسْلِمِ، ومعلومٌ أن المسلمَ لا يُوصي إلى الذميِّ مع وجودِ المُسلم إلا نادرًا، ولو وجدَ بديلٌ مسلماً غيرَهما، ما وَصَّى إليهما، لكونه مُسْلِمًا مُهاجِراً. ثم نقولُ: فإذا أوصى المسلمُ إلى الذميِّ، فإنْ صَدَّقناهُ، فلا خِصام، ولا تَحْليفَ، وإن ارتبنا منه، حَلَّفْناه بعدَ صلاة العَصْرِ كما غَلَّظَ اللهُ سبحانَه عليه، فإذا حلفَ فقدِ استحق علينا الحُكْمَ بِعَدَمِ المُطالَبةِ، ثم إن عَثَرْنا عليهِ (¬1) بالخِيانة، واستحقاقِ الإثم، وقامت عليه الحُجَّةُ بإقراره، لكنه أظهرَ دَعْوى تخالِفُ إقرارَهُ كما فَعَلَ تميمٌ وصاحبُه؛ حيثُ ادَّعيَا الشراءَ من بديلٍ، ولم يُقيما بَيِّنَةً، قمْنا مقامَهما بعدَ صلاةِ العصرِ، وحلَفْنا لهما إن كانَ ¬
الأَوْلَيان مِنّا اثنينِ كأولياءِ بُديلٍ، وولِيّاهُ عَمْرُو بنُ العاصِ، والمُطَّلِبُ بنُ أبي وَداعَة، إما بطريقِ الإرثِ لبديلٍ، لكونِه مولاهُما، أو بطريقِ المُلْكِ لهما، أو (¬1) لعل بديلًا كان وكيلاً لهما. فقد وردَ في بعضِ رواياتِ هذا الحديث أن عمرَو بنَ العاصِ، والمُطَّلِبَ بنَ أبي وَداعَةَ السَّهْمِيّانِ بَعَثا معَ تميمٍ وعَدِيٍّ رَجُلاً يقال له بديلُ بنُ أبي مارية الرومي مولًى للعاصِ بنِ وائلٍ بِمَتاعٍ إلى أرضِ الشامِ فيه آنِيَة من ذَهَبٍ، وآنية من فِضَّةٍ، وآنية مُمَوَّهَة بالذَّهَبِ، فلما قدموا الشامَ، مرضَ بديلٌ، وكان مسلمًا، فكتب وصيتَهُ، ولم يعلمْ بها تميمٌ الداريُّ، ولا عَدِيٌّ، وأدخلَها في متاعِه، ثم توفُي، ولم يبعْ شيئًا من متاعِه، فقدمَ تميم الداريُّ وعديٌّ إلى المدينةِ، ودفعا المتاعَ إلى عمرِو بنِ العاصِ وإلى المُطَّلِب، وأخبراهما بموتِ بُديلٍ، فقال عَمْرو والمُطَّلِبُ: لقد مضى من عندنا بَأكثرَ من هذا، هل باعَ شيئًا؟ قالا: لا فمضوا إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وساق الحديثَ بنحوِ ما قدمتُه. وقد ظهرَ لكمْ بهذا التحقيقِ أن الخِطاب معَ المُؤْمنين، وأن الآيةَ جارية على قوانينِ القياسِ، غيرُ مُخالِفَةٍ لهُ في شيء (¬2). فَتُقْبَلُ شهادةُ الذميّ إذا كانَ وصِيًّا بهذِه الآيةِ، وأما إذا كانَ غيرَ وَصِيٍّ، فلا تقبَلُ شهادَتُه؛ بدليلِ قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، والشاهدانِ إذا كانا وَصِيَّيْنِ ذِمّيَّيْنِ، وشهدا على فعلِهما، ونَفيا ما يُدَّعَى عليهما نُحَلّفُهما بهذه الآية، وإذا كانا مسلمينِ، نُحَلّفُهما؛ بالقياسِ عليهما، وبغيرِ ذلكَ من الأدلة. ¬
وإذا شَهِدا ولم يكونا وَصِيَّيْنِ، وعلى غير فِعْلِهما، قبلناهُما، ولم نُحَلّفْهما، بالإجماع. وإذا قامَتِ الحُجَّةُ على خيانةِ الوَصِيّ، وادَّعى ما يُناقِضُها، حلفَ الوَليُّ إن كانا اثنين بهذه الآية. وإن كانَ واحِداً، أو جماعَةً، حَلفوا بالإجماع، وبالقياس على الاثنين، وظهرَ أن كلَّ ذلك جرى بحُكْم الاتفاقِ. وإذا اتفقَ ذلكَ في زمانِنا، قضينا فيه بقضاء الله، وقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد اتفقَ ذلكَ بعدَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ أبي موسى الأشعريِّ -رضي الله تعالى عنه-. روى الشعبيُّ: أنَّ رجلاً من خَثْعَمٍ خرجَ من الكوفَةِ إلى السَّوادِ، فماتَ بـ "دَقُوقا" (¬1)، فلم يجد أحداً يشهدُ على وصيتهِ، فأشهد رجلينِ من أهلِ الكتاب، فقدما الكوفةَ، فأتيا أبا موسى الأشعريُّ، وقَدِما بتركتهِ ووصِيَّتِه، فقال أبو موسى الأشعريُّ: هذا أمرٌ لم يكنْ بعدَ الذي كانَ في عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأَحْلَفَهما، وأمضى شهادَتَهما بعدَ صلاةِ العصرِ بمسجدِ الكوفة باللهِ الذي لا إلهَ إلا هو ما كَتَما ولا غَيَّرا (¬2). قال ابنُ عَبّاسٍ: كأني أنظرُ إلى العِلْجَيْنِ (¬3) حينَ انتهي بهما إلى ¬
أبي موسى الأشعريِّ، ففتحَ الصحيفةَ، فأنكرَ أهلُ الميتِ، وخَوَّنوهما، فأراد أبو موسى أن يَسْتَحْلِفَهُما بعدَ صلاة (¬1) العصرِ، فقلتُ: لا يُبالون بعدَ (¬2) العصرِ، ولكنِ استَحْلِفْهُما بعدَ صلاتِهما ودينهما (¬3). والحمدُ للهِ الذي هَدانا لِهذا، وما دَلَّنا على هذا التحقيقِ وسلوكِ سواءِ الطريقِ إلا الأحاديثُ المشهورةُ بسببِ هذهِ الآيةِ، ولولا الأسبابُ، ما عُرِفَتِ المُسَبَّباتُ، ولو نُقِلَتِ الأسبابُ بأحوالِها وقَرائِنِها ومقاصِدِها في واقعةٍ، ما اختلفَ فيها اثنان، إلا قليلًا. وبعدَ كتابي هذا المَوْضِع بأربعِ سنينَ، وجدْتُ كلاما للشافعيّ في كتاب "الجزية" يرشدُ إلى مثلِ هذا (¬4). * فإن قلتم: فهل يتعينُ اللفظُ الذي ذكرهُ اللهُ تَعالى في اليمينِ كَما في اللِّعان، أو يجوزُ بغيرِه مِمّا أَدّى معناه؟ قلت: لا يتعينُ، بل يجوزُ هو وما في معناه؛ كسائر الدعاوى، ألا ترى إلى ما قدمته من الحديثِ لفظَ اليمينِ فيه مُخالِفًا لِلَفْظِ اليمينِ في القرآن؟ فهذا بخلافِ اللِّعانِ، وسيأتي عليه الكلامُ -إن شاء الله تعالى-. * ووَقَّتَ اللهُ سبحانه ليمينِ الوَصِيَّيْنِ اللَّذين ارتيبَ منهما بعدَ الصلاةِ، وهي صلاةُ العصرِ عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ؛ لاتفاقِ أهلِ المِلَلِ على تعظيمِها، والتغليظُ بالوقتِ مشروعٌ، قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ على يمينٍ كاذِبةٍ بعدَ ¬
العَصْرِ، لقيَ اللهَ وهُوَ عليهِ غَضْبانُ" (¬1). واختلفوا في التغْليظِ بالمكان: فرآه الشافعيُّ ومالِكٌ، وقالا: يُجْلَبُ في أيمانِ القَسامَةِ إلى مَكَّةَ مَنْ كانَ منْ عَمَلِها، فيحلفُ بينَ الركنِ والمَقام، ويُجْلَبُ إلى المدينةِ مَنْ كانَ من عَمَلِها، فيحلفُ عندَ المنبرِ؛ لما روى جابر -رضي الله تعالى عنه-: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ حَلَفَ على مِنْبَري هذا بيمينِ آثِمَةٍ، تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ منَ النار" (¬2)، ولما رُوي: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لاعَنَ بينَ المَرْأَةِ والزوْجِ على المِنْبَرِ (¬3) (¬4). ¬
وأباه أبو حنيفةَ (¬1). * واختلفَ مالكٌ والشافِعيُّ في قَدْرِ المالِ المُغَلَّظِ، فاعتبرَ مالكٌ نِصابَ السرقةِ عنده (¬2)، واعتبرَ الشافعيُّ مقدارَ النّصاب (¬3). * * * ¬
سورة الأنعام
سُورَةُ الأَنْعَامِ
من أحكام الذبائح
(من أحكام الذبائح) 128 - 129 (1 - 2) قوله عزَّ وجَلَّ: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} [الأنعام: 118 - 119]. قد تقدَّم القولُ (¬1) عليهما في "سورة المائدة". * * * ¬
من أحكام الزكاة
(من أحكام الزكاة) 130 - (3) قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)} [الأنعام: 141]. أنشأ: أَبْدَعَ على غيرِ مِثال يُحْتَذَى. مَعْروشاتٍ: مَرْفوعاتٍ على الأعواد. * ذكر الله سبحانه في هذه الآية أنواعاً من المَطْعومات التي أنعم بها على عِباده وهي تُطْعَمُ قوتاً وتَفَكهاً وتَداوِياً، ويُنتفعُ بها قوتاً وتَفَكهاً واستِصْباحاً، ثم أمرنا بأكلِها، وإيتاءِ حَقِّها. * واتفق العلماءُ على أن الأمرَ بالأكل للإباحَةِ، أو للامْتِنان، وبالإيتاء وجوب، ولكن الحَق مُجْمَل، وقد بَيَّنَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "فيما سَقَتِ السَّماءُ العُشْرُ، وفيما سُقِيَ بِنَضْحٍ أو دالِيَةٍ نِصْفُ العُشْرِ" (¬1). * وقد اختلفَ الناسُ في هذهِ الآيةِ اختلافاً كثيراً، وسببُ اختلافِهم هو اتفاقُهم على أن سورة الأنعامِ نزلَتْ بمكَّةَ، وأنَّ الزكاةَ فُرِضَتْ بالمدينةِ، وعلى أَنَّهُ لا حَق في المالِ غيرُ الزكاةِ. ¬
روى ابنُ وَهْبٍ وابنُ القاسِمِ عن مالكٍ: أنه قال: إن الزَّكاةَ والصومَ فُرِضا في المدينة، فكيف نقولُ: إن قولَه تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} إن المرادَ بها الزكاة، والأنعامُ مَكِّيّةٌ؟. فذهبَ قومٌ إلى أنها منسوخة بآية الزكاة (¬1). ويروى عن عِكْرِمَةَ، والضحّاك، والنَّخَعِيِّ، وسعيدِ بنِ جُبَير (¬2)، قال سُفْيانُ: سألتُ السُّدِّيَّ عن هذه الآيةِ، فقالَ: نسخَها العُشْرُ، وَنصفُ العُشْرِ، فقلتُ عَمَّنْ؟ قال: عن العلماء (¬3). وذهبَ الجُمهور إلى أنها مُحْكَمَةٌ. ثم اختلفَ هؤلاءِ. فقال قومٌ: ليس المرادُ بالحَق الزكاةَ، وإنما المرادُ به تركَ شيءٍ للمساكين غيرِ الزكاة، وبه قالَ مجاهدٌ، والحَكَمُ، ومحمدُ بنُ كَعْبٍ، وأبو عُبيدَةَ (¬4). قال مُجاهدٌ: إذا حَصدْتَ، فَحَضَرَكَ المساكينُ، فاطْرَحْ لهِم من السُّنْبُلِ، فإذا جَذَذْت، فألقِ لهم منَ الشَّماريخ (¬5)، فإذا دستَهُ (¬6) وذرَّيْتَهُ، ¬
فاطرَحْ لهم منه، وإذا عرفْتَ كَيْلَهُ، فأخرجْ زكاتَهُ لهم (¬1) (¬2). وذهبَ الجُمهور إلى أن المرادَ بالحَقِّ الزكاةُ، أمر الثهُ سبحانه بِها أمراً مُجْمَلاً، ثم بيَنَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قَدَّمْتُ ذلك أَوَّلاً، وبه قالَ أنسٌ، وابنُ عَبّاسٍ، وطاوسٌ، والحسنُ، وابنُ المُسَيِّبِ، وعطاءٌ، وغيرهم (¬3). واعتُرِض على هذا بأن فرضَ الزكاةِ كانَ بالمدينةِ، والسورةُ مَكّيَّةٌ، وهذا مُتناقِضٌ كما قَدَّمْتُ ذلكَ عن مالِكٍ من روايةِ ابنِ وَهْبِ وابنِ القاسمِ. فمن المتأخِّرين مَنْ قالَ على طريقِ التَّنَزُّلِ: يجوزُ أن يُوجِبَ اللهُ سبحانهُ الزكاةَ بمكَّة بهذهِ الآيةِ إيجاباً مُجْمَلًا، فأوجبَ بمكَّةَ فرضَ اعتقادِ وُجوبِها، ووقفَ العملَ بها على بيانِ الجنسِ والقدرِ والوقتِ، فلم يُمْكِنِ الامتثالُ بِمَكَّةَ حتى تَمَهَّدَ الإسلامُ بالمدينة، فوقع البيانُ وتَعَيَّنَ الامتثالُ. ثم قال: وهذا لا يَفْقَهُهُ إلا العلماءُ بالأصول (¬4). وما قاله هذا القائلُ حَسَنٌ، إلا أنه غَفَلَ عن التحقيقِ، فقولُه غيرُ مستقيمٍ لأنَّ اللهَ سبحانه لم يفرضْ وُجوبَ الزكاةِ وحَدَّهُ، بل فرضَ أداءَ حَقِّ المالِ يومَ الحَصاد، وتأخيرُ البيانِ حينئذٍ لا يجوزُ؛ لأنه وقتُ الحاجَة، إلا أن يُقَدَّرَ أَنَّ نزولَ الآية كانَ قبلَ أن يَيْنَعَ في آخرِ عامٍ هاجرَ فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يَخْفى ما في هذا من البُعْدِ. ¬
والأحسنُ عندي أن يقالَ: الآيةُ بخُصوصِها مدنيةٌ -كما قالَ الزَّجَّاجُ-: قيل فيها: إنها نزلَتْ بالمدينةِ، وإن كانتِ السورةُ مكية (¬1). فليس ثَمَّ دليل سمعي على تعيينِ نُزولِ هذه الآيةِ بمكَّةَ، وقد يطلقون ذلكَ على جُمْلَةِ السورةِ، وقد عُلِم أن بَعْضَها غيرُ داخلٍ في ذلك الإطلاق، ألا تراهم يقولون: المائدةُ مدنية، وقد نزلَ قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] بِعَرَفَةَ؟ فإن قلت: لو أسمعتني دليلاً على ما قلتَ كانَ أوقعَ لقولكَ عندي، وإن كانَ الدليلُ على كون الآيةِ بخُصوصها مكيةً على غيرِك لا عليكَ. قلت: روى الكلبيُّ عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أن ثابتَ بنَ قيسٍ عَمَدَ فَصَرَمَ خَمْسَ مِئَةِ نخلةٍ، فَقَسَمها في يومٍ واحدٍ، ولم يتركْ لأهلهِ شيئاً، فكره اللهُ له ذلك، فأنزل: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (¬2) (¬3) [الأعراف: 31]. ونحوُ هذا رُوي عنِ ابنِ جُبير (¬4). ¬
والظاهرُ نُزولُ الآيةِ جملةً واحدةً، وإن كان بعضُها قد ينزلُ دونَ بعضٍ كما بينتُه في كتابي هذا، والله أعلم. * وأوجبَ اللهُ سبحانه إيتاء الحَقِّ يومَ الحَصاد، وجَعَلَهُ وقتَ الإيتاءِ، لا وقتَ لهُ غيره. فإن قلتَ: فهل وقتُ الإيتاءِ وقتٌ لتعلُّقِ هذا الوجوب، أو يتقدَّمُ الوجوبُ عليه؟ قلنا: قالَ محمدُ بنُ مَسْلَمَةَ المالِكيُّ: وقتُ وجوبِ الإيتاءِ وقتُ وجُوب التَّعَلُّقِ؛ لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. وحكاه صاحبُ "التقريب" (¬1) قولًا للشافعيِّ؛ لأنه لو وَجَبَ، لما جازَ تأخيرُه. ومذهبُ الشافعيّ ومالِكٍ وسائرِ المالكيةِ أنَّ وقتَ وجُوبِ التَّعَلُّقِ عندَ بُدُوِّ الصَّلاحِ (¬2)؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَخْرُصُ النَّخْلَ حينَ يَبْدو صلاحُها، ويُضَمِّنُها أربابَها (¬3)، ولأنه وقتُ اقْتياتِهِ الذي مَنَّ الله بهِ علينا، فهو واجِبٌ مُوَسَّعٌ كالصلاة، والإيتاءُ يومَ الحصادِ بيانٌ لما قد وَجَبَ يومَ الحَصاد. ¬
* إذا تمَّ هذا، فقدْ تَمَسَّكَ الحَنَفِيَّةُ بهذهِ الآيةِ في وُجوبِ الزكاةِ في كُلِّ ما أخرجتْهُ الأرضُ، ما خلا الحشيشَ والحَطَب والقَصَبَ (¬1)؛ لأن اللهَ سبحانه ذكرَ الزَّيتون والرُّمّانَ، ثم قال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. ولا دليلَ لهمْ في الآيةِ؛ لأن اللهَ سبحانه وتعالى قال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، والحصادُ مختصّ بالزرعِ، وفي معناه الجُذاذُ في النَّخْلِ، بل هذا يدلُّ على أن الزيتونَ والرمانَ غيرُ مُرادَيْنِ بالإيتاء. فإن قالوا: أصلُ الحَصادِ ذَهابُ الشيءِ عن مَوْضِعِهِ الذي هو فيه، بدليلِ قوله: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100]، وقوله: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24]، وقوله: {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 15]، وذلك غير مُخْتَصٍّ بالزرع. قلنا: عرفُ اللسانِ (¬2) قاضٍ باخْتِصاص الزرع به، ولهذا يقال: حصَادُ الزرع، وجُدادُ النخلِ -بالدال المُهْمَلَة-، وجُذاذُ البقل -بالمُعْجَمَة- فتخصيصُه بالزرعِ حقيقةٌ عرفيةٌ، وتعميمُه حقيقةٌ لغويةٌ، والعرفيةُ أولى من اللغوية. ثم تمسَّكوا أيضاً بعموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]. وهذا لا دليلَ فيه أيضاً، فعمومُه مخصوصٌ بتركِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الأخذَ من بعضِه؛ كالقِثَّاءِ والبِطِّيخِ، وكانَ بالمدينة، وبسكوته عن الأمرِ في الزَّيتونِ ¬
والرُّمّان، وكان بغيرِ المدينة، ولو كان زَكاتِيًّا، لأخذَ مِمَّا كانَ بالمدينة، وأمرَ بالأخذِ مِمّا كانَ في غيرِها؛ كما أخذَ في الإبِلِ والغنمِ، وأَمَرَ في البَقَرِ، ولو أخذَ هو أو أَحَدٌ من الخُلُفاءِ، لنقِلَ إلينا كما نُقِلَ أَخْذهُمْ مِنَ الدُّخْنِ (¬1) والسُّلْتِ (¬2) والعَلَسِ (¬3) والأَرُزّ، فلما لم يُنْقَلْ عنهم، عَلِمْنا أنهُ لا زكاةَ فيه، كما لم يُنقلْ عنهم أخذُ الزكاةِ في الياقوتِ واللُّؤلُؤِ، واستدلَلْنا على أن العِلَّةَ فيها هوَ القوتُ الذي تقومُ بهِ الأبدانُ؛ كما أن العِلَّةَ في النَّقْدَيْنِ كونُهما الثَّمَنِيَّةَ التي تُقَوَّمُ بها الأشياءُ. فإن قيل: لا حاجةَ إلى نقلِه؛ فإن القرآنَ يكفي عن النقل. قلنا: لا بدَّ من نقلِه ليتمَّ بيانُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِما أنزلَ اللهُ عليه، ولمّا لم يأمرْ بالأخذِ منها، ولم يأخذْ مع وجودِ الظاهرِ، علمْنا أنه واجبٌ فيها كسائرِ المتروكات. واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سَقَتِ السماءُ العُشْرُ، وفيما سُقِيَ بِنَضْحٍ أو ¬
دالِيَةٍ نِصْفُ العُشْرِ" (¬1)، واعتقدوا عمومَهُ. قلنا: هذا كلامٌ جاء سياقُه من الشارعِ لبيانِ مقدارِ الحَقِّ الذي أمرَ اللهُ سبحانَه بإيتائه، لا لبيان الشيء الذي يجبُ فيه، وليس فيه من قُوَّةِ الدلالَةِ ما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس فيما دونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ منْ حَبٍّ أو تَمْرٍ صَدَقَةٌ" (¬2)؛ لما في هذه الآية من الاعتناء بذكرِ المقدارِ الذي يجبُ فيه، والجنسِ الذي يجبُ فيه، وهو من أحسنِ أدلَّةِ الشافعيَّةِ في اعتبارِ النِّصابِ، واعتبار المُقْتاتِ. * * * ¬
من أحكام الذبائح
(من أحكام الذبائح) 131 - (4) قوله جَلَّ ثناؤه: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145]. * أقول: ظاهرُ هذه الآيةِ تقْتَضي أن كلَّ ما عدا المذكورَ المَحْصورَ فيها حلالٌ، وليسَ بحرام. وقد وردتِ السُّنَّةُ المُتَّفَقُ عليها بتحريمِ أشياءَ ليستْ مذكورةً فيها؛ كالسِّباعِ، والحُمُرِ الأَهْلِيَّة، فاختلفَ الناسُ لذلك. فأخذَ قومٌ بظاهرِ الآية، ورأوا أن السنةَ لا تنسخُ الكتابَ، ولا تُقاوِمُهُ، ولفظُ الكتابِ ليسَ بعامٍّ فيُخصُّ، ولا بمُطْلَقِ فَيُقَيَّدُ، بل هو نَصٌّ صريحٌ في الحَصْرِ، فَحَلَّلوا ما عدا المذكورَ في الآية، وبهذا قالَ مالكٌ في إحدى الروايات عنه (¬1). ¬
وهذا القولُ ضعيفٌ جِدًّا؛ لما فيه من تركِ السُّنَّةِ المتفَقِ عليها، مع تأخُّرِها وحدوثِها. ولمَّا رأى أكثرُ السَّلَفِ ذلكَ، ورأَوا أنه لا سبيلَ إلى تركِ السنَّةِ، اختلفوا على مَسْلَكَيْنِ: فقال قومٌ: الآيةُ منسوخَةٌ بالسنَّةِ (¬1)، فالآيةُ مَكِّيَّةٌ، والنَّهيُ عن الحُمُرِ الإنْسِيَّةِ كانَ بِخَيْبَرَ، رواهُ جابرُ بنُ عبدِ الله (¬2)، والنَّهْيُ عن كلِّ ذي نابٍ من السِّباعِ وذي مِخْلَبٍ من الطيرِ رواهُ أبو ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيُّ وأبو هريرةَ (¬3)، وهو متأخِّرُ الإسلام (¬4). وقال قومٌ: الآيةُ محكَمةٌ، ويضمُّ إليها بالسنَّةِ ما فيها من المُحَرَّمات، وبهذا المَسْلَكِ أخذَ جمهورُ أهلِ العلم (¬5). فإن قلتَ: فكيفَ تُضَمُّ السنَّةُ إلى الكِتاب معَ هذا التَّعارُضِ الصَّريحِ؟ قلنا (¬6): لا تعارُضَ بينَهُما؛ لأنَّ الآيةَ جاءَ سياقُها لقَصْدِ الرَّدِّ على المُشركين في تَحْليلِهم وتحريمِهم أشياءَ بِجَهْلِهِم، ولم يردْ لحَصرِ المُحَرَّماتِ. فإن قلتَ: فما دليلُك على هذا؟ قلتُ: قرأتُ من قبلهِ أربعَ آياتٍ، ونظرتُ كيفَ عاتَبَ اللهُ المشركينَ ¬
على فِعْلِهم من التحليلِ والتحريمِ، وبهذه الطريقِ أخذَ أبو عبدِ اللهِ الشافعي -رحمه الله (¬1) - فهؤلاءِ قومٌ لم يَنْبذوا الكِتاب ولا السنَّةَ وراءَ ظُهورهم، ولم يَنْسَخوا الكتابَ بما هو أضعفُ منه. فإن قلت: فهذا ابنُ عباسِ -رضي الله تعالى عنهما- البحرُ الحَبْرُ التَّرْجُمانُ يقولُ بتحليل الحُمُرِ الإنسية، قال عَمْرُو بنُ دينارِ: قلت لجابرِ بن زيد: إنهم يزعُمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهى عن لُحومِ الحُمُرِ الأهليةِ، قال: قد كانَ يقولُ ذلكَ الحَكَمُ بن عمرِو الغِفاريِّ عندَنا بالبَصْرَة، ولكن أبى ذلك الحَبْرُ، يعني: ابن عباس، وقرأ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الآية (¬2). وهذه أيضًا عائشةُ ذهبَتْ إلى تحليلِ الحُمُرِ الأهليةِ (¬3)، وقَرَأَتِ الآيةَ كما قرأها ابنُ عباسِ -رضي الله تعالى عنهما (¬4). قلت: إنما لم يحرماها؛ لأنهما تردَّدا في النَهْي هل هو على البَتِّ، أو لِعِلَّةٍ، وقدْ زالت العِلَّةُ (¬5)؟ فقد خَرَّجَ مسلم في "صحيحه" عن ابن عباسِ: أنه قال: لا أدري نَهى عنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من أجلِ أَنَّه كانَ حَمولةَ الناسِ، فكرهَ أن تذهبَ حَمولَتُهم (¬6). ¬
وأمّا قراءَتُهما للآيةِ، فقرأاها استدلالاً وتنبيهًا على أن أصلَ الأشياءِ الحِلُّ، لا التحريمُ حتى يردَ كتابٌ أو سُنَّةٌ صحيحةٌ صريحةٌ، ولو كانَ منهما اعتقاداً للحصر، وتقديماً للآيةِ على السنَّةِ، لأَباحا كُلَّ ذي نابٍ من السِّباع، وذي مِخْلَبٍ من الطير، ولم يفعلا ذلك (¬1). ويدلُّ على ما قلتُه ما روى عَمْرُو بنُ دينارٍ عن أبي الشَّعثاءِ عنِ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: كان أهلُ الجاهليةِ يأكلونَ أشياءَ، فبعث اللهُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل كتابَهُ، وأَحَلَّ حلالَه، وحَرَّمَ حَرامَهُ، فما أَحَلَّ فهو حَلالٌ، وما حَرَّمَ فهو حَرامٌ، وما سكتَ عنه فهوَ عَفْوٌ (¬2)، وتَلا هذهِ الآية (¬3). وقد قدَّمْتُ في "سورةِ البقرةِ" جُمَلاً نافِعَةً -إن شاء الله تعالى-. * وقوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]. والرِّجسُ: يقع على القبيح المستقذر؛ كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]. ويقع على العذابِ؛ كقوله تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100]. ويقع على النَّجِس؛ كقولهِ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا أُتِي بِحَجَرَيْنِ ورَوْثَةٍ، فأخذَ ¬
الحجرينِ، وألقى الروثةَ، وقال: "إنها رِكْسٌ" (¬1) أي: رَجيعٌ نَجِسٌ. والرِّكْسُ والنَّجِسُ بمعنًى. وهو يحتملُ هنا أن يُرادَ به القبيحُ المستقذر، فلا يدلُّ على نجاسةِ الخنزيرِ؛ كما ذهبَ إليه مالِكٌ في أحد قوليه (¬2). ويحتمل أن يرادَ بهِ النَّجِسُ، فيدلُّ على نَجاسَةِ الخِنْزيرِ؛ كما ذهب إليه الشافعي وغيرُه (¬3). ويحتملُ أن يُرادَ بهِ العقابُ؛ فإنه سببُ العِقاب. وقد يكونُ من بابِ تسميةِ السَّبَبِ بالمُسَبّب. وبقيةُ الآيةِ قد تقدمَ الكلامُ عليه. ¬
132 - (5) قوله جل ثناؤه: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151]. الآية أحكامُها ظاهرة معلومَةٌ منَ الدينِ ضَرورةً، وهي من المُحْكَماتِ أُمَّهاتِ الكتاب. * * *
من أحكام اليتامى
(من أحكام اليتامى) 133 - (6) قوله جل ثناؤه: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152]. قد مضى الكلام على اليتيم في "سورة البقرة" و"المائدة"، وباقيها ظاهرٌ. وعهدُ اللهِ سبحانَه يقعُ على أحكامِه من التحليلِ والتحريمِ، ويقع على النَّذْرِ، وعلى اليمينِ، وعلى غيرِ ذلك، والكُلُّ مأمورٌ بالوفاء به؛ بهذه الآية، وبغيرها، والله أعلم. * * *
سورة الأعراف
سُورَةُ الأَعْرَافِ
من أحكام اللباس والزينة
(من أحكام اللباس والزينة) 134 - 135 (1 - 2) قوله جل ثناؤه: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 27 - 28]. * في هاتين الآيتين دليلٌ على وُجوبِ سَتْرِ العَوْرَةِ في كلِّ حالٍ منَ الأحوالِ، في الصلاةِ وغيرِها؛ لأن اللهَ سبحانه وتعالى سَمَّاها سَوْءَةً، وسَمّاها فاحِشَةً، وعلى هذا أجمعَ المسلمون. * والخطابُ مُتناوِلٌ للذكورِ والإناثِ، والعبيدِ والأحرار. فأما الذكورُ. فذهبَ مالِكٌ، والشافِعيُّ، وأبو حَنيفةَ إلى أنها ما بين السُّرَّةِ والرُّكْبَةِ (¬1)، إلا أنَّ مالِكاً وأبا حنيفةَ قالا: هي عورةٌ مخففَّةٌ (¬2). ¬
والدليلُ لهم ما روى ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "الفَخِذُ عَوْرةٌ" (¬1)، وما رواه زُرْعَةُ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ جَرْهَدٍ الأسْلَميِّ، عن أبيه، عن جَدِّه، وكان من أهلِ الصُّفةِ قال: جلسَ عندَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وفَخِذي منكشفةٌ، فقال: "خَمِّرْ عليكَ، أما عَلِمْتَ أن الفَخِذَ عَوْرَةٌ؟ " (¬2). وقال قوم: العَوْرَةُ: السَّوْءَتانِ فقط؛ لما روى أنسٌ -رضيَ الله تعالى عنه-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَسَرَ عن فخذِه، وظهرَتْ فخِذُهُ يومَ أجرى في زُقاقِ خَيْبَر (¬3). قال البخاري: وحديثُ أنسٍ أَسْنَدُ، وحديثُ جَرهَدٍ أَحْوَطُ (¬4). وأما عورةُ المرأةِ، فسيأتي بيانُها في "سورة النور" -إن شاء الله تعالى-. وأما العبدُ فهو مثلُ الحُرِّ. وأما الأَمَةُ، ففيها اخْتِلاف، وسيأتي أيضًا -إن شاء الله تعالى-. * * * 136 - (3) قوله جل ثناؤه: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. * جاءت هذهِ الآيةُ لإبطالِ ما كانتْ عليه الجاهليةُ من طَوافِهِمْ بالبيتِ ¬
عُراةً، حتى قالَتِ امرأةٌ منهم: [بحر الرجز] اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُه أَوْ كُلُّهُ ... وما بَدا مِنْهُ فَلا أحِلُّهُ (¬1) فأمرنا اللهُ سبحانه في هذِه الآية بأَخْذِ الزينةِ عندَ كُلِّ مسجدٍ، والمرادُ بها الثيابُ التي سترُ العورةَ، وذلك واجبٌ في المسجدِ الحرامِ وفي غيرِه. أما المسجدُ الحَرامُ؛ فلما ثبتَ في الصحيح أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسلَ عَلِيًّا يُنادي في المَوْسِمِ: أَلا لا يَحُجَّنَّ بعدَ العامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطوفَنَّ بالبَيْتِ عُريان (¬2). وأما في غيرِه، فلعمومِ الخِطابِ، وهو وإنْ كانَ واردًا على سَبَبٍ، فالعِبْرَةُ بِعُمومِ اللفظِ، لا بخُصوصِ السَّبَبِ، ما لم يَصْرِفِ العُمومَ صارفٌ. * ثم الأمرُ بأخذِ الزينةِ عندَ المسجدِ الحَرام: يحتملُ أن يكونَ التَّخْصيصُ بذكرهِ إنَّما هو لأجلِ ما يُفْعَلُ في المسجدِ من العِبادَةِ التي شُرِّفَ من أجِلها، وهي الصلاةُ والطوافُ، فتدلّ الآية حينئذٍ بطريق الإيماءِ إلى التشريفِ أن سترَ العورة شرطٌ في الصلاةِ، وفرضٌ من فُروضِها، لا تَصِحُّ إلاّ به؛ لأن الأمرَ تنَاولٌ بخصوصها، وبه قالَ أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأحمدُ (¬3)، وبينه قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبلُ اللهُ صلاةَ حائِضٍ إلا بِخِمارٍ" (¬4) وما أَشْبَههُ من الآثار. ¬
وقال مالِكٌ في أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ: سترُ العورةِ فرضٌ إسلاميٌّ، لا يختصُّ بالصلاةِ (¬1)، واحتجَّ بما ثبتَ في الصحيح: أنه كانَ رجالٌ يُصَلُّونَ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عاقِدينَ أُزْرَهُمْ على أعناقهم كهيئةِ الصِّبيان، ويقال للنساء: لا تَرْفَعْنَ رُؤوسَكُنَ حتى يَسْتَوِيَ الرجالُ جلوسًا (¬2). وبما روى عَمْرُو بنُ سَلمَةَ قال: لما رَجَعَ قومي من عندِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال لهم: "ليَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قِراءَةً"، فدعَوْني، فعلَّموني الركوعَ والسُّجودَ، فكنتُ أُصَلِّي بهم، وكان عَلَى بُرْدَة مفتوقة، وكانوا يقولون لأبي: ألا تغطي عنا استَ ابْنِكَ (¬3)؟ * ولما كان أهلُ الجاهليةِ لا يأكلونَ في حَجِّهِمْ دَسَماً، ولا يأكلونَ إلا قوتاً؛ يُعَظِّمونَ بذلكَ حَجَّهُمْ، قالَ المسلمون: نحنُ أَحَقُّ أَنْ نفعلَ ذلكَ، فأَمَرَهُمُ اللهُ سبحانه أَنْ يأكلوا ويشربوا، ولا يُسْرِفوا بتحريمِ ما أحل اللهُ لهمْ منَ اللَّحْمِ والدَّسَم؛ إنه لا يُحِبُ المُسرفينَ المُشركين. ¬
137 - 138 (4 - 5) ثم أمرَ اللهُ سبحانه نبيَّهُ بِمعاتَبَتِهم، فقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32 - 33]. * وقد اشتملتْ هذهِ الآيةُ على ثلاثةِ أحكامٍ من قواعِدِ الشريعةِ: الحكم الأول: إحلالُ زينةِ الله التي مَنَّ بها على عِباده، وهي حَلالٌ بإجماعِ المسلمين، من أيِّ شيءٍ كانت، من صوفٍ أو شعرٍ أو جلدٍ أو شجر، إلا ما حَرَّمَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو الحريرُ، فقالَ مشيرًا إليه وإلى الذَّهَبِ: "إنَّ هذَيْنِ حَرامٌ على ذُكورِ أُمَّتِي، حَلالٌ لإِناثِها" (¬1)، ونَهى عن لُبْسِ القَسّيِّ (¬2) والمُعَصْفَرِ (¬3). ¬
وبينَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن اللهِ سبحانه كيفيةَ الأخذِ، فبينَ ما يَحِلُّ مِنْها، وما يَحْرُمُ، وما يُكْرَهُ. فَلَبِسَ القميصَ والسراويلَ والعِمامة، واتَّزرَ وارْتَدى. وحَرَّمَ إسْبالَ الثوبِ، فقال: "لا ينظرُ اللهُ يومَ القِيامَةِ إلى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ" (¬1). وكَرِهَ اشْتِمال الصَّمَّاءِ (¬2). وبيَّنَ مع كتابِ اللهِ سبحانه أن اللباس الحَلالَ (¬3) يَحْرُمُ في بعضِ الأحوالِ، فقال: "لا يَلْبَسُ المُحْرِمُ القَميصَ، ولا السَّراويلَ، ولا البُرْنُسَ، ولا العِمامَةَ، ولا الخُفَّ، إلَّا ألّا يجدَ نَعْلَيْنِ، فَيَقْطَعُهما أسفلَ منَ الكَعْبَيْنِ، ولا يلبسُ من الثيابِ ما مَسَّهُ وَرْسٌ زعفرانُ" (¬4). الحكم الثاني: إحلاُلهُ سبحانه الطيِّباتِ منَ الرزقِ، ثم بينه سبحانه في ¬
موضعٍ آخرَ فقال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، وكُلُّ طَيِّبٍ مُسْتَطابٍ فهو حَلالٌ، وكلُّ خَبيثٍ مُسْتَخْبَثٍ حرامٌ، فهو مِمَّا بيَّنَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جُملة وتفصيلًا. الحكم الثالث: الدَّلالَةُ على أَنَّ أصولَ الأشياء على الإباحَةِ. فكلُّ طعامٍ لم يوجدْ فيه نَصٌّ بَتْحليلٍ ولا تَحْريمٍ، فهو حَلالٌ، وبهذا قالَ طائفةٌ من الفقهاءِ والأصوليِّينَ (¬1). وقالت طائفةٌ: الأصلُ فيها التحريمُ. وقالت طائفةٌ بالوَقفِ (¬2). * * * ¬
من أحكام الصلاة
(من أحكام الصلاة) 139 - (6) قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]. * اختلف العلماءُ في سببِ نُزولها: فقيل: إنها نزلَتْ في تحريمِ الكَلام في الصَّلاةِ، وكانوا يتكلَّمونَ في الصَّلاة بِحَوائِجِهم (¬1). وقيل: إن فَتًى كانَ يقرأُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يَقْرَأُ فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل اللهُ سبحانَه الآية فيه (¬2). وكذا رُويَ عن أبي هُريرة قال: نزلتْ في رَفْع الصَّوتِ (¬3) وهُمْ خَلْفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬
فتمسَّكَ بهذهِ الآيةِ مَنْ منعَ القِراءَةَ خَلْفَ الإمامِ في الصَّلاةِ الجَهْرِيَّةِ، ويُروى عنِ ابنِ مَسْعودٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: أنه صَلَّى بأصحابِه، فقرأ قومٌ خَلْفَهُ، فقال: ما لكم لا تعقلون؟ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬1) [الأعراف: 204]. وبهذا قالَ مالِكٌ، والشافعيُّ في أحدِ قوليه (¬2). وفي المسألةِ اختلافٌ كبيرٌ بينَ الصحابةِ وغيرِهِمْ؛ لتعارُضِ الأحاديثِ في ذلكَ، وقد جَمَعَ الإمامُ محمدُ بنُ إسماعيلَ البخاريّ في ذلكَ جُزْءاً، وكان رأيُهُ قراءةَ الفاتِحَةِ خَلْفَ الإمامِ مُطْلَقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صَلاةَ لِمَنْ لاَ يَقْرأُ بفاتِحَةِ الكِتَابِ" متفق عليه (¬3)، وهو الصحيحُ من قولِ الشافعيِّ، وموضعُ المُجاراةِ في ذلكَ في غيرِ هذا المقامِ. * * * ¬
سورة الأنفال
سُورَةُ الأَنفَالِ
من أحكام الجهاد
(من أحكام الجهاد) 140 - (1) قوله تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]. الأنفالُ جَمْعُ نَفْلٍ -بالتحريكِ، والتسكين-، وهو في أصلِ الوَضْعِ الزيادةُ (¬1)، ومنهُ سُمِّيَتْ صَلاةُ التَّطَوُّعِ، وولَدُ الولدِ: نافلة. ويطلقُ ويراد به معنيان: أحدهما: جملةُ الغَنيمةِ؛ لأنها زائدةٌ على ما بأيدي الغانِمين منَ المال، قال الشاعر (¬2): [البحر الكامل] إنَّا إذا احْمَرَّ الوَغَى نَرْوي القَنا ... ونَعَفُّ عِنْدَ مَقاسِمِ الأَنْفالِ ومنه قولُ ابنِ عُمَرَ -رضي الله تعالى عنهما-: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَسَمَ في النَّفَلِ للفرسِ سَهْمَيْنِ، وللرَّاجِلِ سَهْمًا (¬3). ¬
والدليلُ على أنه المرادُ بالآية ما رواهُ مُصْعَبُ بنُ سَعْدٍ، عن أبيه: أنه قال: لَمَّا كانَ يومُ بَدْرِ، جئتُ بسيفٍ، فقلتُ: يا رسول الله! إن اللهَ قد شَفى صَدْري منَ المشركين، أو نحوَ هذا، هَبْ لي هذا السيفَ، فقالَ: "ليسَ هذا السيفُ لكَ ولا لي"، فقلتُ: عسى أن يعطى هذا من لا يُبْلي كبلائي (¬1)، فجاءني الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "إنكَ سألتَني، وليستْ لي، وقد صارَتْ لي، فهو لك"، فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال:1] الآية. قال الترمذيُّ: هو صحيحٌ (¬2). ورواهُ قريبًا من ذلك مُسْلِمٌ في "صحيحه" (¬3). وفي بعضِ الألفاظِ أنه أخذَهُ من الغَنيمةِ، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "رُدَّهُ من حَيْثُ أَخَذْتَهُ" (¬4)، فعلى هذا المعنى تكونُ كلمة (عن) صِلَةَ، كما قرأ عبد الله: (يسألونك الأنفالَ) (¬5). والمعنى الثاني، وعليه عُرْفُ الفقهاءِ: أنه ما يُرَغّبُ بهِ الإمامُ بعضَ ¬
الغُزاة على فِعْلٍ يفعلهُ زيادةً عن السهمِ المقسومِ له. ومنه قولُ ابنِ عُمر -رضي الله تعالى عنهما-: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُنَفِّلُ بعضَ من يبعثُ منَ السَّرايا لأنفُسِهم خاصَّةً، سوى قَسْمِ عامَّةِ الجيشِ (¬1). ومنه الآية على ما روي عنِ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ يومَ بدرٍ: "من فعلَ كَذا وكذا، فَلَهُ كذا وكذا"، فتسارع الناسُ إلى ذلكَ، الشُّبَّانُ منهم، وثبتَ الشيوخُ تحتَ الراياتِ، فلما فتحَ الله عليهم، جاؤوا يطلبونَ شَرْطَهُمْ، فقال الشيوخُ: لا تستأثِروا علينا به (¬2)، كنا رِدْءاً لكم، لو انْهَزَمْتُم، لانْحَزْتُمْ إلينا، وأتى الشبابُ وقالوا قد جَعَلَهُ رسولُ الله لنا، فتنازَعوا، فأنزل اللهُ عَزَّ وجَلَّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ} (¬3) [الأنفال:1]. وقيل: المرادُ بالأنفال هنا بعضُ مالِ الغنيمةِ، وهو الخُمُسُ، فرويَ عن مجاهِدٍ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن الخُمُسِ بعدَ الأربعةِ الأَخْماسِ، فقالَ المُهاجرون: لمن ندفعُ هذا الخمس، لمن لا يخرج منا؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} (¬4) [الأنفال: 1]. فإن قلتَ: فهذه الآيةُ يعارضُها قولُه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الأنفال: 41]، ¬
وقد جَعَلَ اللهُ سبحانَه الخُمُسَ لِمَنْ سَمَّى، ومعلومٌ أن الباقيَ للغانِمين، فهو وإن لم يُذْكَرْ صريحاً، فقد ذكر إيماءً؛ كقوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] وقد علمْنا أن للأبِ الثُّلُثينِ، فهلِ الجَمْعُ بينَهُما ممكِن، أو لا؟ قلت: إن قلْنا بالمَعْنى الثاني؛ كما روي عنِ ابنِ عَبّاسٍ، فظاهرٌ، وهو حكم ثابتٌ كان يفعلهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا، واتفق عليه أهلُ العِلْمِ، إلا مالِكًا؛ فإنه مَنَعَهُ، وقال: قتالٌ على الدنيا، وهو ضعيفٌ؛ لورودِ السنَّةِ بخلافه. وأما إذا قلنا بالمعنى الأول؛ كما رواهُ سَعْدٌ. فقد ذهبَ قومٌ إلى عدمِ التَّعارُضِ، وأن هذه الآيةَ حكمُها ثابِتٌ، فالغنيمةُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك لِمَنْ بعدَهُ من الأَئِمَّةِ، فإن شاءَ قَسَمَها بينَ الغانِمين، وإن شاءَ نفَّلَها مَنْ شاءَ منهم. قال إبراهيمُ النَّخَعِيُّ في الإمام يَبْعَثُ السَّرِيَّةَ، فيُصيبوا المَغْنَمَ: إنْ شاءَ الإمامُ خَمَّسَهُ، وإن شاءَ نَفلَهُ كُلَّهُ (¬1). ورُويَ عن مَكْحولٍ وعَطاءٍ (¬2)، وبهِ قالَ جماعةٌ منَ المالكيةِ (¬3)، وأظنه قولَ زُفَرَ. ولعلَّ تأويلهم: إن الثهَ سبحانه ذَكَرَها كُلَّها للهِ ولرسولهِ في هذهِ الآيةِ، ¬
وذكر في الآيةِ الأخرى خُمُسَها لله ولرسولهِ، ولذي القربى واليتامى والمساكينِ، وسكتَ عن الأربعةِ الأخْماسِ، وإضافَةُ الاغْتِنام إليهم لا تُوجِبُ المُلْكَ في هذا (¬1). واحتجّوا بأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فتحَ مكة عَنْوَةً، ومَنَّ على أهلِها، فردَّها عليهم، ولم يَقْسِمها، ولم يَجْعَلْها فيئًا (¬2)، وبفعل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في غنائِم حُنَيْنٍ حينَ أعطى الأَقْرَعَ بنَ حابِسٍ، وعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، والعَبّاسَ بنَ مِرْداسٍ مئةً مئةً (¬3). وذهبَ بعضُهم إلى تأويلٍ فاسدٍ رأيتُ ذِكْرَهُ؛ لكيلا يُغْتَرَّ به، فقالَ: اللامُ في هذهِ الآية ليست للمِلْك، وإنما المعنى قوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ولايةُ قَسْم وبيانُ حكم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لي مِمّا أفاءَ اللهُ عليكُمْ إلا الخُمُسَ، والخُمُسُ مَرْدودٌ فيكم" (¬4)، وهو باطل؛ لما قَدَّمْتُهُ من حديثِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ (¬5) -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-. وذهب الجُمهورُ إلى التعارُضِ، وأنَّ آيةَ الأنفالِ مَنْسوخَةٌ بالتي ¬
بعدَها (¬1)؛ لأنه لا خِلافَ بينَ أهلِ العلمِ بالقرآنِ أن آيةَ الغنيمةِ نزلتْ بعدَ آيةِ الأنفال. ويروى النسخُ عنِ ابنِ عَباسٍ، وعِكْرِمَةَ، والضَّحّاكِ، والشَعْبِيِّ (¬2)، وبه قالَ الشافِعيُّ (¬3)، وبه أقولُ. ويدلُّ على التعارُضِ والنسخ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لي مِمّا أفاءَ الله عليكُم إلا الخمسَ، والخمسَ مردودٌ فيكم" (¬4). ويدل له أيضًا: أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لمّا سأله هوازنُ الهِبَةَ لِذرارِيهِمْ، قال لهم: "أَمّا نصيبي ونصيبُ بني عَبْدِ المُطلِبِ، فَلَكُمْ، وأنا مُكَلِّمٌ لَكُمُ الناسَ"، فسأل الناسَ، فأعْطَوْهُ، إلا عيينة بنَ بدرٍ، فقال: لا أتركُ حِصَّتي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت على حِصَتِك"، فوقعت في سَهْمِه امرأَةٌ عوراءُ منهم (¬5). وأما الجوابُ عَمَّا احتجَّ بهِ الأولون، فإن مكَّةَ فُتِحَتْ صُلْحًا، وإن غنائِمَ حُنينٍ كثيرةٌ، ولعل ذلكَ من سهمهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ بدليلِ ما قَدَّمْتُه، وما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "للهِ خُمُسُها، وأربعةُ أَخْماسِها للجيش" قال: قلت: فما أَحَدٌ أَوْلى ¬
بهِ مِنْ أحدٍ؟ قال: "لا، ولا السَّهْمُ تستخرجُه من جَنْبِكَ، لست أنتَ أَحَقُّ بهِ منْ أخيكَ المسلم" (¬1). فإن قيل: لو كان من سهمِه، لما عَتَبَ الأنصارُ، ولما قالوا: أتعطي الغنائِمَ قريشاً وتتركُنا، وسيوفُنا تقطُرُ من دمائهم؟ ولما احتاجَ إلى استطابَةِ قُلوبهم بقوله: "أما تَرْضَوْنَ أنْ يذهبَ الناسُ بالشاءِ والبَعير، وتذهبونَ برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى مَنازِلكم؟ " (¬2). قلنا: أجابَ أبو عبدِ الله الشافعيُّ فقال: يجوزُ أن يقولوا: كيفَ تعطيهم خُمُسَ غنائِمِنا، وفينا (¬3) من يَسْتَحِقُّها؟ (¬4). قال: وقد يقولُ القائلُ في خمسِ الغنيمةِ إذا خُصَّ منها: ونحن غنمنا هذا، ويريدون أن سببَ ما ملك ذلك بهم. وقد أخبرنا بعضُ أصحابِنا عن محمدِ بنِ إسْحاقَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمَرَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعطى الأقرعَ بنَ حابِسٍ وأصحابَهُ من خُمُسِ الخُمُسِ (¬5). * فإن قلتَ: فأين مَحَلُّ النَّفَلِ، وكم قَدْرُه؟ ¬
قلنا: أما قدرُه؛ فقد قال قومٌ: لا يزيدُ على الرُّبُعِ والثُّلُثِ؛ لما روى حبيبُ بنُ مسلمةَ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُنَفِّلُ الرُّبُعَ للسرايا بعدَ الخُمُسِ في البَدْأَةِ، وينفِّلُهم الثلثَ بعدَ الخُمُسِ في الرِّجْعَةِ (¬1)، وبه قال أبو حنيفةَ (¬2). وقال الشافعيُّ: ليسَ في النفلِ حَدٌّ، بل هو إلى رأيِ الإمام (¬3). وأما مَحَلُّه: فمن عملَ بآية الأنفال، فمحلُّه جميعُ الغنيمةِ، ورويَ (¬4) عن الحسنِ، والأوزاعيِّ (¬5)، وأحمدَ (¬6). ومن قالَ بنسخِها، فمحلُّه بعضُ الغنيمة. ثم اختلفوا في ذلكَ البَعْضَ: فقالَ مالكٌ، والشافعيُّ، وأبو حنيفة في أحد قوليه: محلُّه الخمسُ (¬7). والصحيحُ من قوليهِ عندَ أصحابهِ أنَّ مَحلَّه خُمُسُ الخُمُس الواجبُ ¬
للإمام (¬1)، وهو قولُ ابنِ المُسَيِّب (¬2)، وروايةٌ عن مالِكٍ أيضاً (¬3)؛ لما روى عَمْرُو بنُ شُعَيْبٍ عن أبيهِ عن جَدِّهِ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُنَفِّلُ قبلَ أَنْ تنزلَ فريضةُ الخُمُسِ من المَغْنَم، فلما نزلتِ الآية: {أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41]، تركَ النَّفَلَ الذي كان يُنَفِّلُ، وصارَ ذلك إلى خُمُسِ الخُمُسِ من سَهْمِ الله عَزَّ وجَلَّ، وسهمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬4). والصحيحُ عندي أن محلَّه الخُمُسُ؛ لما خَرَّجَهُ مسلمٌ عنِ ابنِ عُمَر -رضيَ الله تعالى عنهما- قال: نَفَّلَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سِوى نصيبِنا منَ الخُمُسِ، فأصابني شارِفٌ (¬5). ولِما روي عن مالكِ بنِ أوسِ بنِ الحَدثانِ: أنه قال: ما أدركتُ الناسَ يُنَفِّلَونَ إِلَّا منَ الخُمُسِ (¬6). قال الشافعيُّ: وأخبرنا مالكٌ عن أبي الزِّنادِ: أنه سمعَ سعيدَ بنَ ¬
المُسَيِّبِ يقول: كانَ الناسُ يُعْطَوْنَ النَّفَلَ منَ الخُمُسِ (¬1)، قال الشافعيُّ: وقولُ سعيدٍ كما قالَ -إن شاءَ الله تعالى (¬2) -. * * * 141 - (2) قوله تَبارَكَ وتَعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15]. * أمرَنا اللهُ سبحانه وتعالى أن نَثْبُتَ في قِتال الكفارِ، ولا نُوَلِّيَهُم الأدبارَ، وتواعَدَ على ذلك بالغَضَبِ والنار، نعوذُ باللهِ الكريم منهما، وأباحَ لنا ذلك في حالتينِ: إحداهما: أن نتحرَّف القتال من مَضيقٍ لِمُتَّسَعٍ (¬3)، ومنْ وَعْرٍ إلى سَهْلٍ، ومن استقبالِ الشَّمْسِ والريحِ إلى استِدْبارهما، وغيرِ ذلكَ من مكائدِ الحرب. وثانيهما: أن نَتَحَيَّزَ إلى فِئَةٍ، سواءٌ كانت قريبةً، أو بعيدة. واشترطَ بعضُ الشافعية قربَ الفئة (¬4)، وهو غلطٌ؛ لظاهرِ الإطلاقِ في الآية (¬5). وهل يُشْتَرَطُ عَوْدُ المُوَلِّي مع الفئة المتحيِّزِ إليها؟ وجهانِ للشافعية. ¬
أصحُّهُما: لا يُشْتَرَطُ العَوْدُ في الانتهاءِ، وإنما يشترطُ العودُ (¬1) في الابتداء (¬2). وذهب جماعةٌ من السلفِ إلى أن الآية مختصَّةٌ بأصحابِ بَدْرٍ، وأن الفرارَ من الزَّحْفِ ليسَ بكبيرةٍ في حَقِّ غيرِهم. ويحكى عن ابنِ عباسٍ، وأبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، والحَسَنِ، وقَتادةَ، والضَّحاكِ؛ لأن الصحابَةَ وَلَّوْا يومَ أُحُدٍ وحُنَيْنٍ والإشارةُ بقولهِ تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] إلى يومِ بدرٍ (¬3). وأجابَ مخالِفوهم بأنَّ الإشارةَ إلى يومِ الزَّحْفِ، لا يومِ بدرٍ، وذكروا أن نزولَ الآية بعدَ بدرٍ، وأما الفرارُ يومَ حُنينٍ، فيمكنُهم أن يجيبوا بأنهم تَحَيَّزوا إلى فِئَةٍ، وهيَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأواخرُ المسلمين (¬4). يدلُّ على ذلك ما خَرَّجَهُ مسلمٌ قال: قال رجلٌ للبَراءِ بنِ عازِبٍ: يا أبا عُمارَةَ! فَرَرْتُمْ يومَ حُنين؟ قال: لا واللهِ ما وَلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه خَرَجَ بشبان أصحابه وأحفادهم حُسَّراً، ليسَ عليهم سِلاحٌ، أو كثيرُ سلاحٍ، فَلَقُوا قوماً رُماةً، لا يكادُ يسقطُ لهم سَهْمٌ، جَمْعُ هوازنَ وبني نَضْر، فرَشقوهم رَشْقاً، ما كادوا يُخْطِئون، فأقبلوا هناكَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ¬
على بَغْلَتِه البَيْضاءِ، وأبو سفيانَ بنُ الحارثِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ يقودُ (¬1) به، فنزل واستَنْصَرَ وقال: "أنا النبيُّ لا كَذِبْ، أنا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ" ثم صَفَّهُمْ (¬2). ويدل عليهِ أيضاً ما روى ابنُ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما-: أنه كانَ في سَرِيَّةٍ من سرايا رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فحاص الناسُ حَيْصَةً عظيمةً، وكنتُ فيمَنْ حاصَ، فلما برزنا، قلت: كيفَ نصنعُ وقد فَرَرْنا منَ الزَّحْفِ، وبُؤْنا بغَضَبِ رَبِّنا؟ فجلَسْنا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قبلَ صلاةِ الفَجْرِ، فلما خَرَجَ، قُمْنا فقلنا: نَحْنُ الفَرّارونَ، فقال: "لا، بل أنتمُ العَكّارون" (¬3) فدنونا، فقبَّلْنا يدَهُ، فقال: "إنَّا فِئَةُ المُسْلِمينَ" (¬4). وأما يوم أُحُدٍ، فإن الله قد عفا عنهم لما خالفوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعدَما أراهُمُ اللهُ ما يُحِبُّون. ¬
وبالجملة، فقد عفا اللهُ عن هؤلاء، وتابَ على هؤلاء، وذلك تَضَمَّنَ صُدورَ المَعْصِية. وقد أجمع المسلمون على قبولِ توبةِ الفارِّ منَ الزحف. * ثم بين اللهُ سبحانَه ما أطلقَهُ من الأمرِ بقتالِ الكفارِ الذين حَرَّمَ الفِرارَ منهم، بأن الرجلَ مِنّا يُصابِرُ العَشَرَةَ منهم، ثم نَسَخَ ذلك إلى اثنينِ (¬1) بقوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66] الآية. * ودلت الأدلةُ على أن هذهِ الآيةَ لم تُرَدْ بها جُمْلَةُ المؤمنين، وإنما أريدَ بها المؤمنون ذوو الطاقةِ، ما خلا النساءَ والعبيدَ والصِّبيانَ. * * * 142 - (3) قوله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]. * أمرنا اللهُ سبحانَهُ بالاسْتِجابَةِ للهِ ولِرسوله - صلى الله عليه وسلم - إذا دعانا لما فيه حياتُنا. وروى البخاريُّ عن أبي سعيدِ بنِ المُعَلَّى قال: كنت أُصَلِّي، فمرَّ بي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعاني، فلم أَجِبْهُ حتى صليتُ، ثم أتيتهُ، فقال: "ما مَنَعَكَ أن تُجيبَني؟ ألم يَقُلِ اللهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24]؟ -ثم قال:- ألا أُعَلِّمُكَ أعظمَ سورةٍ في القرآنِ قبلَ أنْ أَخْرُجَ؟ "، فذهب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليخرجَ، فذكرتُ له، فقال: "الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، ¬
هي السبعُ المثاني والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُهُ" (¬1). فاستدل بهذا الشافعيةُ في أن إجابةَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة واجبَةٌ، وأنها غيرُ مُبْطِلَةٍ للصلاة (¬2). أما الوجوبُ فظاهرٌ. وأما عدمُ إبطالِها للصلاةِ، فوجهُ الدَّلالَةِ دعاءُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - له، مع علمه بصلاته، ولو كانتْ إجابتُه تبطلُ صلاةَ ابنِ المُعَلَّى، ما رضيَ - صلى الله عليه وسلم - أن يُفْسِدَ عليهِ صَلاتَه، بل أنكرَ عليهِ عدمَ إجابتِه، واحتجَّ عليهِ بعُمومِ أمرِ اللهِ تعالى، ولم يقلْ له: لا علمَ لي بأنكَ في صَلاة. وقالت المالكيةُ: الإجابةُ واجبةٌ، ولكنها تبطلُ الصلاة (¬3). وهذا مُنابِذٌ لهذا الحديث الثابت، ومباينٌ لوجه القصة (¬4). * * * 143 - (4) قوله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38]. * مَنَّ اللهُ عَز وجَل في هذه الآيةِ وما أشبَهَها على عِبابٍ المُجرمين بقَبولِ إسلامِهم، ثم هَدَمَ جرائِمهمُ العظيمةِ؛ تأليفاً لهم، ورحمة بهم. * وقد اتفقَ المسلمونَ على إسقاطِ الحُقوقِ المُعلقة بالمشركِ الحَرْبيِّ ¬
بالإسلام مطلقًا، وإنما اختلفوا في المرتَدِّ إذا رجعَ إلى الإسلام: فقال أبو حنيفةَ ومالِكٌ: يسقطُ عنهُ كُلُّ حَقٍّ هو للهِ تعالى؛ لعموم الآية، وما كانَ من حقوقِ الآدميين، لا يسقطُ (¬1). وقالَ بعضُ المالكيةِ: هو كالكافرِ الأصليِّ يسقطُ عنهُ كلُّ شيء (¬2). وقال الشافعيُّ: لا يسقطُ عن المرتدِّ شيءٌ من حقوقِ الله تعالى؛ لالتزامه بها، فهي كحقوقِ الآدميين (¬3). وأما المستأمَنُ، فلا يسقطُ عنه بالإسلامِ ما وجبَ من حقوقِ الآدميين من حَدِّ قَذْفٍ، وغُرْمِ مالٍ، وقَطْعٍ في سرقة، وقِصاصٍ في عَمْدٍ (¬4). وأما الذِّمِّيُّ، فقالَ ابنُ المنذر: حُكِيَ عن الشافعيِّ إذْ هو بالعراقِ: أنه لا حَدَّ عليه، ولا تَغْريبَ (¬5)؛ لهذه الآية: قال: وهو موافقٌ لما رُوِيَ عن مالِكٍ (¬6). وقال أبو ثَوْرٍ: إذا أقرَّ أنه زَنى، وهو كافرٌ، أقيمَ عليه الحَدُّ (¬7) * * * ¬
144 - (5) قوله تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39]. * أمر اللهُ سبحانَه في هذه الآية وما أَشْبَهَها بقتال المشركين الذين أُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوتهم حتى لا تكون فتنة، أي: شِرْكٌ بالله تَعالى، ويكونَ الدينُ كلُّه لله تعالى. قال سعيدُ بنُ جُبَيْر: خرجَ علينا، أو إلينا ابنُ عمرَ، فقال رجلٌ: كيفَ ترى في قِتالِ الفِتْنَةِ؟ فقال: وهل تدري ما الفتنةُ؟ كانَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يقاتلُ المشركين، وكان الدخولُ عليهم فتنةً، وليس بقتالِكُم على المُلْكِ، خرجه البخاري (¬1)، فيجبُ علينا أن نقاتلَهم حتى يُسْلموا، ولا نقبل منهم إلا الإسلامَ، أو السيفَ. وروى أبو هريرةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا أزالُ أُقاتلُ الناسَ حتى يقولوا: لا إلهَ إلا اللهُ، فإذا قالوها، فقد عَصَموا مني دِماءَهُم وأموالَهم، إلا بِحَقِّها، وحسابُهُمْ على الله" (¬2). * فإن قلت: فقد وردَ في كتابِ الله سبحانهَ، وفي سُنَّةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - آيةٌ تُناقِضُ هذهِ الآيةَ، وسُنَّةُ تُناقض هذه السَّنَّةَ. أما الآيةُ، فقال اللهُ تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] الآية. وأما السنَّةُ فما روى عَلْقَمَةُ بنُ مَرْثَدٍ، عن سُلَيمانَ بنِ بُرَيْدَةَ، عن أبيه: ¬
أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا أَمَّرَ أَميراً على جيشٍ أو سَرِيَّةٍ، أوصاهُ في خاصته (¬1) بِتَقْوى الله، ومَنْ معهُ منَ المسلمينَ خيراً، ثم قال: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله" الحديث (¬2)، وقد تقدَّم في "سورة البقرة". قلنا: قد أجابَ زعيمُ الجَماعة وإمامُ هذه الصناعَةِ أبو عبدِ الله الشافعيُّ -رحمه الله تعالى-، فقال: ليسَ واحدةٌ من الآيتين ناسخةً للأخرى (¬3)، ولا واحدٌ من الحديثينِ ناسخاً للآخر، ولا مخالفاً، لكنَّ أحدَ الحديثين والآيتين من الكلام الذي مخرجُه عامٌّ يُرادُ به الخاصُّ، ومنَ المُجْمَلِ الذي يدلُّ عليه المُفَسَّرُ، فأمرَ اللهُ بقتالِ المشركينَ حتى يؤمنوا، والله أعلم. أمر بقتالِ المشركين من أهلِ الأوثان، وهم أكثرُ مَنْ قاتلَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-. وفرض الله تعالى قتالَ أهلِ الكتابِ حتى يُعطوا الجِزْيَةَ عن يَدٍ وهُمْ صاغرون، إن لم يؤمنوا، وكذلك حديثُ ابن بريدةَ في أهل الكتابِ خاصَّةً، كما كانَ حديثُ أبي هُريرةَ في أهلِ الأوثانِ خاصَّةً. قال: فالفرضُ في قتالِ من دانَ هو وآباؤه دينَ أهلِ الأوثانِ من المشركين أن يُقاتَلوا إذا قُدِرَ عليهم حتى يُسْلموا، ولا يجوزُ أن نقبلَ منهم جزيةً؛ لكتابِ اللهِ تعالى، وسنةِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -. قال: والفرضُ في أهلِ الكتابِ ومنْ دانَ قبلَ نزولِ الفرقانِ دينَهم أن يُقاتَلوا حتى يُعْطوا الجزيةَ، أو يُسلموا، سواءٌ كانوا عَرَباً، أو عجماً (¬4)، انتهى! ¬
فإن قلتَ: حديثُ ابنِ بُرَيْدَةَ كانَ قبلَ الفتح، بدليل قوله: "ثم ادعُهم إلى التَّحَوُّل مِن دارِهِم إلى دارِ المُهاجِرينَ"، وكان المشركون الذين يبعث إليهم السرايا أهلَ أوثانٍ، لا أهلَ كتابٍ يومئذٍ؛ بدليل قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]، والذين يلونَهُم أهلُ أوثانٍ، لا أهلُ كتابٍ، فالقولُ بالنسخِ فيه أقربُ؛ لتقدمه. قلتُ: هذا سؤالٌ قويٌّ؛ لأنه الظاهرُ يومئذ، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - قد غَزا أهلَ الكِتابِ وقاتَلَهُمْ قبلَ الفتحِ، فَغزا خيبرَ، واستفتَحَ حُصونَها، وغزا جيشُه مُؤْتةَ من أرضِ الشام، وهم أهلُ كتابٍ، ولأنه يحتملُ أن يكون إنما أَمَرَهُم بالتحوُّلِ من دارِهم إلى دارِ المُهاجرينَ دَعْوَةً لهم إلى الجِهاد؛ فإنها كانتْ مَوْطِنَ الإمامِ الأَكْبَرِ الذي يُجَهِّزُ الجيوشَ، ويبعثُ السرايا، ليصيبوا الحُسْنَيَيْن جميعاً، ولهذا أمرَ بإعلامِهم أنهم ليسَ لهم في الفَيْءِ شيءٌ، إلا أن يُجاهدوا معَ المسلمينَ، فيكونُ حديثُ بريدةَ موافقاً لحديثِ أبي هريرةَ في المَعْنى والتاريخ، إذ ليسَ على تقدُّم واحدٍ منهما أو تأخُّرِه دليلٌ صريح، وقد تقدَّم نَحْوُ هذا الكلامِ في "سورة البقرة". * * * 145 - (6) قوله عَز وجَل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41]. * قد قدمتُ ما قيلَ في حقيقةِ النَّفَلِ، ثم أذكرُ الآنَ ما قيلَ في الغَنيمَةِ والفَيْءِ. فأما الغنيمةُ. 1 - فذهبَ جمهورُ أهلِ العلمِ إلى أنهُ المأخوذُ من الكُفَّارِ قَهْراً وقَسْراً،
سواءٌ كانَ منقولاً، أو غيرَ منقولٍ، والَفْيءُ: ما أُخِذ بغيرِ قِتالٍ، ولا إيجافِ (¬1) خَيْلٍ ورِكابٍ (¬2). وبه أخذَ الشافعيُّ (¬3). وهو مُقْتَضى عُرْفِ اللسانِ. 2 - وقيل: الفيءُ يقعُ عليهما، والغنيمةُ لا تقع إلا على المأخوذ قَهْراً، وأحدُهما (¬4) أَخَصُّ من الآخر، وإلى هذا يرشدُ كلامُ الشافعيِّ أيضاً (¬5). 3 - وقال قومٌ: الفيءُ والغنيمةُ بمعنًى واحدٍ (¬6). 4 - وقال مجاهدٌ: الغنيمةُ تختَصُّ بالأموال المنقولةِ، والفَيْءُ بالأرَضين (¬7). وسيأتي الكلامُ على الفيءِ، -إن شاء الله تعالى-. * ثم أقولُ: إن اللهَ سبحانَهُ كَرَّمَ هذهِ الأُمَّةَ وشَرَّفَها، فَحَلَّلَ لها الغَنائِم، ¬
فقال: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69]. وقد ثبت أنها من خَصائصِ هذه الأمةِ (¬1). وتولى الله سُبحانه في هذهِ الآيةِ قِسْمَةَ الغنيمةِ، وَبيّنَ مصارفَها، كما تولّى ذلكَ في المَواريثِ، فأضافَ جُمْلَتَها إلى الغانِمين، واستثنى خُمُسَها، فجعله لهُ جلَّ وعلا، ولرسولهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولذَوي القُرْبى واليَتامى والمساكينِ وابنِ السبيل، فقسمَهُ على ستة أسماء. * وقد اتفقَ أهلُ العلمِ، أو أكثرُهم، على أن اسمَهُ جَلَّ جَلالُه جاءَ لاسْتِفْتاحِ الكلامِ به تشريفاً وتكريماً؛ كما جاءَ في قوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]، فله سبحانه ما في السمواتِ وما في الأرضِ (¬2)، إلا ما حُكيَ عن أبي العالِيَةِ الرِّياحِيِّ أنه قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُؤْتى بالغنيمةِ، فيقسمُها على خَمْسةٍ، يكون أربعةُ أخماسِها لمنْ شَهِدَها، ثم يأخذُ الخُمُسَ، فيضربُ بيدهِ ليأخذَ منه الذي قبض كفُّه فيجعلُهُ للكعبةِ، وهو سهمُ اللهِ تعالى، ثم يقسمُ ما بقيَ على خمسةِ أَسْهُم (¬3). * واختلفوا في اسمِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -. فقيل: هوَ أيضاً استفتاحُ كلامٍ، مثل اسم الله، ليس للهِ ولا لرسولهِ ¬
منه شيءٌ، ويقسمُ الخمسَ على أربعةِ أسهم. وحُكِي هذا عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما (¬1) -. والذي عليه أكثرُ العلماءِ: أنهُ للتقسيمِ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - يملكُ الخُمُسَ (¬2)، فقد خصَّ اللهُ تعالى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بذلكَ، وإن لم يَخُضِ الوقيعةَ، ويخصّهُ بالصَّفِيِّ (¬3) من المَغْنَمِ أيضاً، وقد اصطفى صفيَّة وذا الفقار (¬4)، (¬5). واختلفوا في سَهْمِه، فقال قومٌ: يسقُطُ بموتهِ (¬6) شَرَّفَهُ اللهُ تعالى بذلكَ، وأبطلَ به ما كانتِ العربُ في الجاهليةِ تَخُصُّ به رئيسَها، فكانوا يجعلونَ له الرُّبُعَ والصَّفِيَّ، ثم يتحكَّمُ بعدَ الصَّفِيِّ في أيِّ شي؛ أرادَ، ويجعلون له ما شذَّ من الغنيمةِ، وما فضلَ من مَتاعٍ، قال شاعرُهم (¬7): [البحر الوافر] لَكَ المِرْباعُ منها والصَّفايا * * * وحَكْمُكَ والنشيطةُ والفُضول ¬
وعلى هذا استقرَّ الحكمُ في حياتِه - صلى الله عليه وسلم - بعدَ أن كانَ جملةُ الغنيمةِ له. وأما بعدَ وفاته: فقد اتفقَ أهلُ العلمِ على أن الصَّفِيَّ ليسَ لأحدٍ بعدَه، إلا أبا ثَوْرٍ، فإنه قالَ: يجري مَجْرى سَهْمِه - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ثم اختلفَ هؤلاءِ فقال بعضهم: يُرَدُّ على أصحابِ الخُمُسِ، فيقسَمُ على أربعةِ أَسْهُم (¬2). وربما نُسِبَ إلى الشافعيِّ (¬3). وقيل: يُقْسَمُ على ثلاثةِ أَسْهُمٍ؛ لأنَّ سَهْمَ ذَوي القُربى عندَ هؤلاءِ يَسْقُطُ بموته أيضاً (¬4). واستدَلُّوا بما رَوى محمدُ بنُ السائِب الكَلْبِيُّ عن أبي صالِح عن أُمِّ هانئٍ: أن فاطمةَ -رضي اللهُ تعالى عنها- أتتْ أبا بكرٍ تسأله سهمَ ذوي القربى، فقال لها أبو بكر -رضي الله تعالى عنه-: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "سَهْمُ ذَوي القُزى لهم حَياتي، وليسَ لهمْ بعدَ موتي" (¬5). ¬
ونسبَ القولُ بهذا إلى أبي حنيفة وبعضِ أصحابهِ (¬1). والجمهورُ على عدمِ سقوطِه. قالوا: والحديثُ باطِلٌ لا أصلَ لهُ، فالكلبيُّ متروكٌ، وأبو صالِحٍ مولى أُمّ هانِئٍ ضعيفٌ، والصحيحُ الثابتُ أنها جاءتْ تطلُبه ميراثَها، فاعتذرَ منها أبو بكرٍ -رضيَ الله تعالى عنه- بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نحنُ معاشِرَ الأنبياءِ لا نُورثُ ما تركْنا صَدَقَةٌ" (¬2). ثم اختلفَ هؤلاءِ في مَصْرِفِهِ. فقال بعضهم: هو للإمامِ، وسهمُ ذوي القُرْبى لِقَرابةِ الإمامِ؛ لقولِ أبي بكرٍ لفاطمةَ -رضي الله تعالى عنها- لما جاءتْ تطلبُ ميراثَها: سمعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا أطعمَ اللهُ نبياً طُعْمَةً، فهيَ للخليفةِ بعدَهُ" (¬3). وبه قالَ بعضُ الشافعيةِ في الإمامِ وحدَه. وقال قومٌ: يجعلُ في باقي الخُمُسِ (¬4). ¬
وقال قومٌ: يجعلُ في السلاحِ والعُدَّةِ. وقال الشافعِيُّ: يضعُه الإمامُ في كل أمرٍ خُصَّ به الإسلامُ وأهلُه؛ من سَدِّ ثغرٍ، وإعْدادِ كُراعٍ أو سِلاحٍ، أو إعطائِه أهلَ البلاءِ في الإسلام نَفَلاً عندَ الحربِ وغيرِ الحرب إعداداً للزيادةِ في تعزيزِ الإسلامِ وأهلِه على ما صنعَ فيهِ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قدْ أعطى المْؤَلَّفَةَ، ونَفَّلَ في الحربِ، وأعطى عامَ خيبرَ نفراً من المُهاجرينَ والأنصار أهل حاجةٍ وفضلٍ، وأكثرُهم أهلُ فاقة، يَرى ذلك -والله أعلم- من سَهْمِه (¬1). * إذا علمت هذا: فقد ذهبَ جمهورُ أهلِ العلم إلى تَخْميس الخُمُس وتقسيمِهِ على ما قَسَّمَهُ اللهُ عز وجَلَّ (¬2). وقال مالِكٌ: الخمسُ كالفَيْءِ يُجْعَلان في بيتِ المالِ، ويعطي الإمامُ (¬3) قَرابةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - منها، فهو عندَهُ غيرُ مُخَمَّسٍ (¬4). واستدلَّ بأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد أعطى جميعَ الخُمُسِ، وأعطى بعضَه، وأعطى منهُ المُؤَلَّفَةَ قلوبُهم يومَ حُنينٍ، وليسوا مِمَّنْ ذكرَ اللهُ تعالى في التقسيم، وأَعْطى الأَقْرَعَ بْنَ حابِسٍ، وعُيَيْنَةَ بنَ حِصْنٍ، والعَبّاسَ بنَ مِرْداسٍ مِئةً من الإبل (¬5)، وأعطى أشرافَ العربِ، وآثَرَهُم، وردَّ الخمسَ أيضاً على المُهاجرين في بعضِ الأحوالِ، وليسوا مِمَّنْ ذُكر في التقسيم. ¬
روى ابنُ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَ سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ، فبلغَتْ سُهْمانُهُمُ اثني عَشر بَعيراً، ونُفِّلوا بعيراً بعيراً (¬1). وخَرَّجَ مسلمٌ عن الزُّهْرِيِّ، عن سالمٍ، عن أبيهِ قال: نَفَّلَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سِوى نصيبِنا من الخُمُسِ، فأصابَني شارِفٌ (¬2). فذكرُ التقسيمِ عندَهُ جاءَ لبيانِ المَصْرِف، لا لبيانِ الاستحقاقِ. وهذا هو المختارُ عندي -إن شاء الله تعالى- فإنَّ خُمُسَ الخُمُسِ لا يَتَّسِعُ لِلَّذي بذلَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - للأقرعِ بنِ حابسٍ وأصحابِه (¬3). وإنْ قالَ قائلٌ: إنه مُتَّسِعٌ؛ كما قالَهُ أبو عبدِ اللهِ الشافعيُّ (¬4)، رَدَدْناه بحديثِ ابنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنه- فإنه إذا أخرجَ السهمُ اثني عَشَرَ بعيراً، كان الخمسُ المضمومُ إلى هذا السهمِ ثلاثةَ أَبْعِرَةٍ، وقد نَفَّلَهُمْ بَعيراً بعيراً، والبعيرُ زائدٌ على نصيبه - صلى الله عليه وسلم - الذي هو خُمُسُ الخُمُسِ عندَ القائلِ به، فقدْ نَفَّلَهم ثلثَ الخُمسِ، لا خُمس الخمسِ (¬5). فإن قيل: يجوزُ أن يكونَ هناك شيءٌ غيرُ الإِبِلِ من العُروضِ؛ بدليلِ ما رُوي في بعضِ طرقِ هذا الحديث: فأصَبْنا إبِلاً وغَنَماً (¬6). ¬
قلنا: هذا التأويلُ بعيدٌ مردودٌ بِما سأذكرهُ في الفَيْءِ -إنْ شاءَ الله تعالى-. وأما ذَوو القُرْبى: فقال الشافعيُّ، وأحمدُ، وأبو ثَوْرٍ، وأكثرُ العلماءِ: هم بنَو هاشِمٍ، وبنو المُطَّلِبِ (¬1). لما روى جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ قال: مشيتُ أنا وعثمانُ بنُ عفانَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: أعطيتَ بَني المُطِّلِبِ منْ خُمُسِ خيبرَ، وتركتنا، ونحنُ بمنزلةٍ واحدةٍ منك! فقال: "إنما بنو هاشمِ وبنو المُطِّلِبِ شيء واحِدٌ"، وشَبَّكَ بينَ أصابِعِه. قال جُبَيْرٌ: ولم يَقْسمِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لبني عبدِ شَمْسٍ وبَني نَوْفَلٍ شيئاً، خَرَّجَهُ البُخارِيُّ (¬2). وقال قومٌ: هم عامَّةُ قريشٍ؛ لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (¬3) [الشورى: 23]. وقال مالِكٌ: هم بنو هاشم خاصَّة، ويُروى عن الثوريِّ، والأوزاعيِّ (¬4). وهذه الأقاويلُ غَلَطٌ مُنابِذَةٌ للحديث الصحيح. وقد قدمتُ ما قيلَ في بقاءِ سَهْمِهِم وسقوطه، فلا حاجةَ إلى إعادته. وظاهرُ الآيةِ استحقاقُ ذَوي القربى: ذَكَرِهم وأنثاهم، كبيرِهم وصغيرِهم، وغَنِيِّهم وفقيرِهم، وهو كذلكَ. ¬
ولكن هل يستوي الذكرُ والأنثى؛ لظاهر الإطلاقِ، أو يفضلُ الذكرُ على الأنثى، كالميراث؟ فيه خِلافٌ. وبالأولِ قالَ المزنيُّ (¬1)، وبالثاني قال الشافعيُّ (¬2)، وخصصه أبو حنيفة بذوي الفَقْرِ منهم بالقياسِ على اليتامى والمساكين (¬3). وبالإطلاقِ قالَ الشافِعيُّ، وهو الأولى؛ لظاهر الآية، ولأنهم أُعْطُوا لِفَضْلِ القرابةِ وشرفِها، ولو كان ذلك بالفقر، لاستُغْنِي عن ذكر ذوي القُرْبى بذكرِ المساكين؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعطى العباسَ، وكان من أغنياءِ بني هاشم يَعولُ فقراءَ بني المطلبِ، ويتكرمُ على غيرهم. وعن مالِكٍ قولانِ (¬4). وأما اليتامى، فهم أطفالُ المسلمينَ الذين لم يبلغوا الحُلُمَ مِمَّنْ هلكَ أبو ولا مالَ لهُ. وأما المساكينُ، فهم المُحْتاجون. ¬
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَرَكَ مالاً فَلأِهْلِهِ، ومن تَرَكَ دَيْناً أو ضَياعاً فَإِلَيَّ" (¬1). وأما ابنُ السبيلِ، فَمَنْ أخذتْهُ الطريق، واحتاجَ في سفرِه إلى مُؤْنَةٍ، فَيُعْطى، وإن كانَ ببلدِهِ غَنِيًّا. * وأضافَ الله بقيةَ الغنيمةِ إلى الغانِمين، وبينَ الفقهاءِ اختلافٌ في صفاتِ الغانمين، وفي مقدارِ سُهْمانهم، وفي شروطِ استحقاقِهم (¬2)، فلا نُطَوِّلُ بذكره. * وفي عُمومِ قولِه تعالى: {مِن شَيْءٍ}، مع الحصر في قوله تعالى: {أَنَّمَا} دَلالةٌ ظاهرةٌ تقاربُ النَّصَّ في أَنَّ للغانِمين أربعةَ الأَخْماسِ في كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَهَبٍ أو فِضةٍ أو عَقارٍ، وبهذا أخذَ الشافعيُّ (¬3). وقالَ مالِكٌ: لا تُخَمَّسُ الأرضُ (¬4). وقال أبو حنيفة: الأمرُ مَنوطٌ باختيارِ الإمام (¬5). وسيأتي الكلامُ على هذا في الفَيْءِ -إن شاء الله تعالى-. ¬
146 - (7) قوله جَلَّ ثَناؤه: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]. * أمرَ اللهُ سبحانَهُ نبيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - إذا عاهَدَ قَوْماً، وخافَ منهمُ الخِيانَةَ، فإنْ ظَهَرَ منهم أماراتُها أن يُعْلِمَهُمْ بِنَبْذِ عَهْدِهِم؛ ليكونوا معهُ على سَواءً عَدْلٍ، واستواءً منَ العلمِ. وعلى هذا نَصَّ الشافعيُّ، وحُكيَ عنهُ قولٌ شاذٌّ أَنَّهُ لا يَنْبذُهُ لخَوْفِ الخيانةِ حتى يَبْدَؤوا بنقضِه، كما لا يُنْقَضُ عَقْدُ الذمَّةِ لخوفِ الخيانةِ (¬1). وهذا لا يَصِحُّ عن أبي عبدِ اللهِ -رحمه اللهُ تعالى-؛ فإن هذا مُصادِمٌ لِنَصِّ كتابِ اللهِ تَعالى، وإنما قالهُ الأَبْهَرِيُّ من المالكية. وحملُ الخوفِ على العِلْمِ واليقينِ؛ كما في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] فهو خَطَأٌ. * ومفهومُ هذا الخطابِ أنه إذا لم يخف منهم خيانةً، لا ينبذُ إليهم عهدَه، وهو كذلكَ، وقد بينه اللهُ سبحانه في موضع آخرَ فقال: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 4] الآية، وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (¬2) [التوبة: 7]. * فإن قيل: فكيفَ يجوزُ نبذُ العَهْدِ المُتَيَقَّنِ صِحَّتُهُ بِظَنِّ الخِيانة منهم؟ ¬
قلنا: جازَ إسقاطُ اليقينِ هنا بالشَّكِّ؛ لئلاّ يوقعَ التمادي معهم في الهَلَكَة؛ لبُعْدِ استحكامِ خيانتَهم، فَيَتَّسعَ الخَرْقُ، ويَشُقَّ على المسلمين التدارُكُ، وأما الوَهْمُ المَحْضُ، فلا اعتبارَ به، نَصَّ عليهِ الشافعيُّ في "الأم" (¬1)، واحتسبَ هذه الأحكامَ مُتَّفَقاً عليها. ولكني رأيتُ في "جُزْءٍ" وقع عندي في هذا المَوْضِع منسوبٍ إلى ابن العربي: أنه عَقْدٌ جائزٌ ليسَ بلازم. قال: ويجوزُ للإمامَ أن يبعثَ إليهم، فيقول: نبذتُ إليكم عهدَكُمْ، فَخُذوا مِنِّي حِذْرَكُم، وادَّعى الاتفاقَ على ذلكَ (¬2). ودعواهُ الاتفاقَ ممنوعةٌ، بل الاتفاقُ واقعٌ -إن شاءَ الله تعالى- على خلافِه؛ كما هو موافق للكتابِ والسنَّةِ. فإن كانَ يريدُ أنه عقدٌ جائزٌ عندَ خوفِ الخِيانة، فهو مُتَّفَقٌ عليه كما قال، لكنه قالَ عقبَ هذا الكلام: وهذا عندي إذا كانوا همُ الذينَ طلبوا، فإن طلبَهُ المسلمون لمدَّةٍ، لم يجزْ تركُه فيها بالاتفاق. ودعواهُ بالاتفاقَ هنا أيضاً ممنوعةٌ، وذكرت هذا لكيلا يغترَّ به. * هذا في خوفِ الخِيانة، وأما إذا صدرتْ منهمُ الخِيانَةُ، فإن العهدَ يَنْتَقِضُ، لا أعلمُ في ذلكَ خلافاً؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} إلى قوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 12 - 13]، ولهذا قصدَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَ مَكَّةَ بالحربِ من غيرِ أن يَنْبِذَ إليهم، ولم يُعْلِمْهم، بل عَمَّى عليهم جِهَةَ غَزْوِهِ. ¬
147 - (8) قوله جل ثناؤه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61]. أي: إن مالوا إلى المُصالَحَةِ، فَمِلْ إليها. * أمر اللهُ سبحانَه نبيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - هنا بقَبول المُسالَمَةِ، وقال في موضع آخر: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد: 35]. فمن أهلِ العلمِ من رأى الآيتين مُختلفتين، فجعل آيةَ مُحَمَّدٍ ناسخةً (¬1) لهذه، وحُكي هذا عنِ ابنِ عباس -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-. وأكثرُ المفسرين على أن هذه الآيةَ منسوخةٌ. ثم اختلفَ هؤلاءِ في الذي نَسَخَها. فقال قومٌ: نسخها آيةُ السيفِ؛ قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وقال قومٌ: نسخها قولُه تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29]. والصوابُ عدمُ النسخ؛ لفقدان التعارُضِ، وإمكانِ الجمعِ بين الآيات كُلِّها (¬2)، فليسَ بينَها اختلافٌ، فهذهِ الآيةُ فيما إذا التمسَ المشركونَ مِنَّا الصلحَ، وبآيةِ "محمدٍ" نهانا الله تعالى أن نبتدئهم بالتماسِ الصُّلح، فكل ¬
واحدٍ منهما في حالٍ غيرِ حالِ الأخرى، وآية السيف (¬1) يُعْمَلُ بها إذا لم يَلْتَمسوا مِنَّا الصلحَ، فإذا التمسوهُ، ورأى الإمامُ فيه المصلحةَ، عَمِلْنا بهذه الآية، وأما آيةُ أهلِ الكتابِ فإنها موافِقَةٌ لهذهِ، ولهذا قالَ مجاهدٌ في تأويلِ هذه الآيةْ المرادُ بها قبولُ جِزْيَةِ أهلِ الذِّمَّةِ (¬2). والعجبُ من قائلِ هذا القولِ (¬3) كيفَ يَدَّعي نَسْخَ الشيءِ بما يُوافِقُهُ، وسيأتي في "سورة محمدٍ" مزيدُ بيانٍ -إن شاء الله تعالى-. * * * 148 - 149 (9 - 10) قوله جَلَّ ثناؤه {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:65 - 66]. * أمر الله سبحانَهُ المؤمنينَ بمُصابرَةِ الواحدِ للعَشَرَةِ، وخرجَ مخرجَ الشرطِ؛ لكي يعلق عليه النَّصْرَ والغَلبةَ عند الصبر. ثم خفف اللهُ ذلك عنا (¬4)؛ لِما علمَ مِنْ ضعفِنا، وأوجبَ المُصابَرَةَ للضِّعْفِ، ووَعَدَنا النصرَ على الصَّبْرِ أيضاً، وهذا أدنى مَراتبِ المُصابرةِ؛ فإن الواحدَ قد يَهْجُمُ في كَرَّتهِ على أَحَدِ الاثنينِ، فيقتلُه، أو يُثْخِنُهُ، ويبقى معهُ واحدٌ، فيحصل له النصر، وقد شاهدنا هذا كثيراً. ¬
* وعلى مُصابرةِ أهلِ الضعفِ أجمعَ أهلُ العلمِ، ولكن اختلفوا. فاعتبرَ الشافعيةُ بالعددِ كما هو ظاهرُ القرآنِ (¬1) (¬2)، واعتبرَ المالكيةُ بالقُوَّةِ (¬3)، فجوَّزوا للمسلمِ أن يفرَّ من الكافرِ الواحدِ إذا كان أقوى بَطْشاً، وأشكى سلاحاً، وأعنف جَواداً، وقد تقدم شيءٌ من أحكامِ هذه الآية قريباً. * * * 149 - 150 (11 - 12) قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67 - 68]. سيأتي بيانُهما في "سورةِ مُحَمَّدٍ" - صلى الله عليه وسلم -إن شاء الله تعالى-. * * * ¬
من أحكام الهجرة
(من أحكام الهجرة) 151 - 154 (13 - 16) قوله عَزَّ وجَلَّ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 72 - 75]. * قال المفسرون، أو أكثرهُم في قوله: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] في الميراث، فكانوا يتوارثون بالهِجْرَةِ والنُّصْرَةِ، وكان الذي آمنَ ولم يُهاجِرْ لا يرثُ قريبَهُ المهاجِرَ، فنسخ الله (¬1) ذلك بقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75]، ورواه عِكْرِمَةُ عن ابنِ عباسٍ (¬2). ¬
وقد ذكرتُ في "سورةِ النساءِ" كلاماً على أقسامِ الهجرةِ وأحكامِها بما لم أُسْبَقْ إلى مِثْلِهِ، والحمدُ للهِ رَبِّ العالمين، وسيأتي بيانُ الأَوْلَوِيَّةِ في أُولي الأرحامِ في "سورةِ الأحزابِ" -إن شاء الله تعالى-. * وقد أعلمَنا اللهُ سبحانهَ وتعالى بانقطاعِ المُوالاةِ بينَ المؤمنينَ والكافرينَ، فلا يرثُ الكافرُ المسلمَ، ولا المسلمُ الكافرَ، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73]. * وأعلمنا أن الدارَ معتبرةٌ معَ النَّسَبِ في الَّتوارُثِ، فقالَ تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، ولكنه سبحانَه أوجبَ علينا نُصْرَتَهُمْ إذا اسْتَنْصرونا على قومٍ ليس بَيْنَنا وبينَهُم ميثاقٌ. * * *
سورة التوبة
سُورَةُ التَّوْبَةِ
من أحكام الجهاد
(من أحكام الجهاد) 155 - 157 (1 - 3) قوله عز وجل: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:1 - 3]. روينا في "صحيح البُخاري" عن البَراءِ -رضي الله تعالى عنه-: آخرُ آيةٍ نزلَتْ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]، وآخرُ سورةٍ نزلتْ: براءة (¬1). وروينا فيه أيضاً عن حُمَيْدِ بنِ عبدِ الرحمن: أن أبا هريرةَ -رضي الله تعالى عنه- قال: بعثني أبو بكرٍ في تلك الحجَّةِ في المُؤَذِّنينَ الذين بعثَهُمْ يومَ النَّحْرِ يُؤَذِّنونَ بمِنًى: (¬2) ألا لا يَحُجُّ بعدَ العام مُشْرِكٌ، ولا يطوفُ بالبيت عُرْيانُ. قال حُمَيْدٌ: ثم أردفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَلِيٍّ، فأَمرهُ أن يُؤَذِّنَ ببراءة. قال أبو هريرةَ: فأذَنَ معنا عَلِيٌّ في أهلِ مِنًى يومَ النَّحْرِ ببراءة، وألاّ يَحُجَّ ¬
بعدَ العامِ مشركٌ، ولا يطوفَ بالبيتِ عُرْيانُ. وخَرَّجَهُ مُسلم أيضاً (¬1). وخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عنِ ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما- قال: بعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا بكرٍ، وأمرَهُ أن يُنادِيَ بهؤلاءِ الكلماتِ، وأتبعه عَليًّا -رضيَ اللهُ تعالى عنه-، فبينما أبو بكرٍ في بعضِ الطريقِ؛ إذ سمعَ رُغاءَ ناقَةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - القَصْواءِ، فخرج أبو بَكْرٍ فَزِعاً، فَظَنَّ أنهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هُو عَلِيٌّ -رضيَ الله تعالى عنه-، فدفعَ إليه كِتابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمرَ عَلِيًّا أن ينادِيَ بهؤلاءِ الكلماتِ، فقال: فنادى عَلِيٌّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- أيامَ التشريقِ: ذِمَّةُ اللهِ ورسولهِ بَرِيئَةٌ منْ كلّ مُشْرِكٍ، فَسيحوا في الأرضِ أربعةَ أَشْهُرٍ، ولا يَحُجَّنَّ بعدَ العامِ مُشْرِكٌ، ولا يطوفُ بالبيتِ عُريانُ، ولا يدخلُ الجنةَ إلا مؤمنٌ، فكان عليٌّ يُنادي بها، فإذا أعيا، قامَ أبو بكرٍ فَنادى بها (¬2). وخَرَّجَ أيضاً عن زيدِ بنِ يُثَيعٍ قال: سألتُ عَلِيَّ بنَ أبي طالبٍ -رضي الله تعالى عنه-: بأيِّ شيء بُعِثْتَ في الحَجَّةِ؟ قال: بُعِثْتُ بأربعٍ: ألا يطوفَ بالبيتِ عُرْيانُ، ومن كانَ بينَهُ وبينَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَهْدٌ، فعهدُهُ إلى مُدَّتِهِ، ومن لم يكنْ له عَهْدٌ، فَأَجَلُهُ أربعةُ أشهرٍ، ولا يدخلُ الجنةَ إلا نفسٌ مؤمنةٌ، ولا يجتمعُ المسلمون والمشركون بعدَ عامِهِمْ هذا. ¬
قال أبو عيسى التِّرْمِذِيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ (¬1). * إذا تقرَّرَ هذا، فقد كانَ لمشركي العربِ معَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحوالٌ. فمنهُمُ المُحارِبُ المُبايِنُ، ومنهمُ المُعاهِدُ المُوادِعُ، ثم المعاهِدون منهم: من نَقَضَ عَهْدَهُ، كقريشٍ وبني بكرٍ، ومنهم مَنِ استقامَ عليه؛ كبني ضَمْرَةَ وخُزاعة. فلما أظهرَ اللهُ سبحانَه رسولَهُ - صلى الله عليه وسلم -، وفتحَ له مكةَ، أمهلَ منْ نقضَ عهدَهُ أربعةَ أشهرٍ يَسيحُ في الأرضِ، سَواءٌ كانتْ مُدَّتُهُ دونَها، أو فوقَها، ولم يؤاخذْهُ بنقضِ عهده مُعاجَلَةً، إظهاراً لقدرتهِ عليهم، ولطفاً منهُ بهم، لكي يتدبَّروا، فينظروا في عاقِبَةِ أمرِهم، وقَدَّر اللهُ سبحانه لهم أربعةَ أشهرٍ؛ لأنها مدةٌ يعتبرُ فيها العاقلُ فيفيءُ إلى طاعةِ مولاه، ولهذا ضربَها اللهُ سبحانهُ مُدَّةً في الإيلاء. وأمر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - وسائرَ المؤمنين بالاستقامةِ على العهدِ لِمَنِ استقامَ لهم، ولم ينقضْ منهُ شيئاً، فإن كانتْ مُدَّةُ عهدِهم قبلَ انقضاءِ الأربعةِ الأشهرِ، فلهمُ الأمانُ أيضاً في بقيةِ الأشْهُرِ بالآيةِ الأُخْرى، وإن كانتَ فوقَ الأربعةِ الأشهرِ، فلهم الأمانُ إلى انقضائها بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ}، وهذا ظاهرٌ من خِطابِ الكتاب، ومن حديثِ عَلِيٍّ -رضي الله تعالى عنه-؛ حيث قال: ومن لم يكنْ بينَه وبينَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عهدٌ، فأجلُه أربعةُ أشهرٍ، ولكنه حَرَّمَ عليهمُ الطوافَ في حالِ التَّعَرِّي، ودخولِ المسجد الحرام. ¬
* فإن قلتَ: فقد أمرَ اللهُ سبحانه بقتلِ المشركينَ عندَ انقضاءِ الأشهُرِ الحُرُمِ، فقال: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وهذا عامٌّ فيمن له عهدٌ، ومَنْ لا عَهْدَ له، وسواءٌ صادَفَ انقضاءَ الأربعةِ الأشهرِ، أم لا. وحَرَّمَ قَتْلَهم في الأشهرِ الحُرُمِ، وهو يَقْتَضي تحريمَ قَتْلِهم، سواءٌ انقضى عَهْدُ المعاهدين وأربعةُ أشهرِ المُمْهَلين، أم لا، فكيف الجَمْعُ بينَ الآيتين؟ قلت: أما تحريمُ قتلهم قبلَ انسلاخ الأشهرِ الحُرُمِ، فلم يقلْ به إلا عَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، والحَكَمُ (¬1)، وهو قَوْلٌ قويُّ الدَّلالَةِ، وقد استوفيتُ بيانَه في "سورة البقرة". وأما عمومُ الأمرِ بالقتلِ بعد انسلاخِ الأَشْهُرِ الحُرُمِ، فإنه أُريدَ بهِ الخُصوصُ، والتقديرُ: فإذا انسلخَ الأشهرُ الحُرُمُ، فاقتلوا المشركينَ الذين لا عَهْدَ لهم، ولا مُدَّةَ مُقَدَّرَةً من اللهِ سبحانه، حيث وَجَدْتُموهم، ولهذا قالَ ابنُ عَبّاسٍ -رضيَ الله تَعالى عنه- في رواية الوالبي: حَدَّ اللهُ تَعالى للذين عاهَدوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أربعةَ أشهرٍ يَسيحون في الأرضِ حيثُ شاؤوا، وأَجَّلَ لِمَنْ ليسَ لهُ عهدٌ عندَ انسلاخِ الأشهرِ الحُرُمِ (¬2). وروي عنه أنه قال: من كان له عهدٌ فوقَ أربعةِ أشهرٍ، حُطَّ إليها، ومَنْ كان دونَها، رُفِعَ إليها، ومَنْ لا عَهْدَ له، جُعِلَ أمانُهُ خمسين يوماً، أولها يومُ النَّحْرِ؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬3) [التوبة: 5]. ¬
وهذه الروايةُ بمعنى الرواية الأولى، أو أَبْيَنُ منها. فإن قلتَ: فإنَّ قولَ عَلِيٍّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- في روايةِ زيدِ بنِ يُثَيْعٍ يَقْتضي أنَّ الأربعةَ الأشهُرَ أَجَلٌ لِمَنْ لا عهدَ له من مشركي العربِ؛ حيث قالَ قومٌ: من لا عَهْدَ له، فاجلُه أربعةُ أشهرٍ يخالف ما أَوَّلْتَ بهِ الآيةَ، وما رويَ عن ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما-. قلت: المرادُ: ومَنْ لا عَهْدَ لهُ، أي: مُعْتبَرٌ؛ لأنَّ من نقضَ عهدَه لا عَهْدَ له. والدليلُ عليه قولُه تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1]، فخص الخطابَ معهم، وأكثرُهم ناقِضون. وقولُ عَلِيِّ -رضي الله تعالى عنه-: ومن كانَ بينَهُ وبينَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عهدٌ، فعهدُه إلى مُدَّتِهِ، أي: عهدٌ معتبرٌ استقامَ عليهِ أهلُه، وإلاّ لمْ يكن لآيةِ النسخِ معنى، والدليلُ عليه قولهُ تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4]، وخصوا بهذا لأَجْلِ استقامَتِهم على عهدِهم، وتخصيصُ الذكرِ بالمسجدِ الحرامِ في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 7] جاءَ لتعريفِهم بهِ، لا للتقييد. ويمكنُ الجمعُ بين آيةِ السيفِ وآيةِ النسخِ من وجهٍ آخَرَ (¬1)، وذلكَ أنَّ انسلاخَ الأشهُرِ الحُرُمِ موافِقٌ لانقضاءِ الأربعَةِ الأشهرِ على ما رُوي عنِ الزُّهْرِيِّ وغيره مِنْ أن نزولَ آيةِ النسخِ في شَوّال، فيكونُ انتهاؤها انسلاخَ الأشهُرِ الحُرُمِ؛ والمشهورُ أن ابتداءَ الأربعةِ الأشهُرِ من يومِ النَّحْرِ؛ لأنه كان ¬
فيه التبليغُ والنداءُ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ في روايةِ أبي صالحٍ. وقيل: أولُها عاشرُ ذي القِعْدَةِ، وهو موسمُ حَجِّهم على حُكْمِ النَّساءِ، فاستقرَّتْ حِجَّةُ الوداعِ سنةَ عَشْرٍ في مَوْسِمِها. وقيل: من رابعِ يومٍ يبلُغُهم فيهِ العلم. وذهبَ قومٌ إلى الجمعِ بالتأويل، فقالوا: المرادُ بالأشْهُرِ الحُرُمِ هنا شهورُ العَهْدِ، وقيل لها: حُرُمٌ؛ لأن اللهَ تَعالى حَرَّمَ على المؤمنينَ فيها دماءَ المُشركين، والتعرُّضَ لهم، ويحكى هذا القولُ عن مُجاهِدٍ وابنِ إسحاقَ، وعَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ (¬1)، وهو بعيدٌ. ويمكنُ الجمعُ أيضاً بين آيةِ السيفِ وآيةِ النسخِ وأَثرِ ابنِ عباسِ وأَثَرِ عَلِيٍّ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- من وجهٍ آخرَ: وهو أن اللهَ سبحانَهُ أَجَّلَ في آيةِ السيفِ أربعةَ أشهُرٍ لمنْ عاهدَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ونقضَ عهدَه أو لم ينقضْه إذا لم يكنْ عندَ المسجدِ الحَرامِ، فيردُّ إلى الأربعةِ الأشهرِ، وهم المَعْنِيُّونَ بقولِ ابنِ عَبّاسٍ: ومنْ كانَ عهدُهُ فوقَ أربعةِ أشهرٍ، حُطَّ إليها. ومن لم يكنْ له عهدٌ أصلاً، فأَجَلُهُ انقضاءُ الأشهرِ الحُرُمِ لتحريمِ اللهِ سبحانَه القِتالَ فيها في غيرِ آيةٍ من كتابهِ العزيز. ومنْ له عهدٌ فوقَ الأربعةِ الأشهرِ، وهو عندَ المسجدِ الحرامِ، وهم خُزاعَةُ وبَنو ضَمْرَةَ، فأجلُه إلى مدَّتِهِ؛ كما قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ} [التوبة: 4]، ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]، وهمُ المَعْنِيُّونَ بقولِ ¬
عَلِيٍّ -رضيَ اللّ تعالى عنه-: ومن كانَ بينَهُ وبينَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عهدٌ، فعهدُه إلى مُدَّتِه (¬1). والدليلُ على هذا قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]، وخصوا بهذا إمَّا لأَجْلِ مجاوَرَتهم المسجدَ الحَرام، وإما لكونِ العهدِ وقعَ في المسجدِ الحرام، وكان العهدُ في الحُدَيْبِيَةِ، وهي من الحَرَمِ على قولِ بعضِهم، أو بعضُها من الحَرَمِ على قولِ بعضِهم. * واختلف الناسُ في يومِ الحَجِّ الأكبرِ: فقال قومٌ: هو يومُ عَرَفَةَ، ويروى عن عُمَرَ، وعُثمانَ، وابنِ عباسٍ، وابنِ الزبيرِ، وابنِ المُسَيِّبِ، وعطاءٍ، وطاوسٍ، ومجاهِدٍ، وابنِ سيرينَ (¬2)، ونقله المالكيةُ عن الشافعيِّ، وليس بمعروفٍ عنه (¬3). وقال قومٌ: هو يومُ النَّحْرِ، ويُروى عنِ ابنِ عباسٍ، وعَلِيٍّ، وابنِ عُمَرَ، وابنِ مَسْعودٍ، وابنِ أبي أوفى، والشَّعْبيّ، والنَّخَعِيِّ، وابن جُبَيْرٍ، وحُمَيْدِ بنِ عبدِ الرَّحْمنِ (¬4)، وبه قالَ مالِكٌ وَالشافعيُّ (¬5)؛ لما رواهُ أبو هريرةَ -رضي الله تعالى عنه- من تأذينِه وتأذينِ عَلِيٍّ في يومِ النَّحْرِ (¬6). ¬
وقال قومٌ: يومُ الحَجَّ حينَ الحَجَّ؛ كما يقال: يومُ صِفَّينَ، ويومُ الجَمَلِ، وكان ذلكَ أياماً (¬1). * واختلفوا أيضاً في الآياتِ اللاتي أُذِّنَ بِهِنَّ؛ لاختلافِ آياتٍ وَرَدْنَ في ذلك: فقيل: ثلاثُ آياتِ. وقيل: تسعُ آيات إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. وقيل: نحو أربعين إلى قوله: {يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. وقيل: أربع آيات إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]، وهو الصحيحُ؛ لصحةِ أثرِه عندهم (¬2)، والله أعلم. * * * 158 - (4) قول جل ثناؤه: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]. اشتملتْ هذهِ الآيةُ على جملتين: أما الجملةُ الأولى: فإنَّ اللهَ سبحانَهُ أمرَ أن نقتلَ المشركين حيثُ وَجَدْناهم، وهذه الآيةُ وما أَشْبَهَها تُسَمَّى آيةَ السيفِ، نَسَخَتْ (¬3) كُلَّ آيةٍ ¬
ذكرَ اللهُ سبحانَهُ فيها الصَّفْحَ والإعراضَ عن المشركين، وقد قدمْتُ فيه بَحْثاً لطيفاً في "سورة النساءِ" عندَ ذِكْرِ الزَّواني. ثم يحتملُ أن تكونَ هذه الآيةُ متناولةً لأهلِ الكتابِ بلفظِها؛ لأنهم مُشركون بقولهم: عُزَيْزٌ: ابنُ اللهِ، والمسيحُ: ابنُ الله، ويكونُ عمومُها مَخْصوصاً بقولهِ تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29]. ويُحتملُ أن تكونَ الآيةُ غيرَ مُتناوِلَةٍ لهمْ؛ لاختصاصِهِمْ باسمٍ يَخُصُّهُمْ، فلا يُحتاجُ إلى دليل يُخْرِجُهم من عمومِ هذه الآية. وقد بَيَّنْتُ في "سورةِ البقرةِ" أنَّ هذهِ عامَّةٌ في الأمكنةِ، ويجوزُ تخصيصُها بقوله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191]. * وقد اتفقوا على تخصيصِ عُمومها ببعضِ المُشركين، وأنه لا يجوزُ قَتْلُ بعضِهم، فنهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن قتلِ النِّساءِ والصِّبيان. ولكن هَلْ عِلَّةُ القَتْل هو الإشراكُ باللهِ تعالى، أو هو الإشراكُ مع القُدْرةِ على القتالِ؛ بدليلِ قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]؟ فيه خلافٌ، منهم من عَلَّلَ بالاسمِ، ومنهم من عَلَّلَ بالقدرةِ على القِتال واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - لمّا وَقَفَ على امرأةٍ مَقْتولَةٍ: "ما كانتْ هذهِ لتُقاتِلَ" (¬1) ويظهرُ أثر العِلَّتَيْنِ في قَتْلِ ¬
الراهبِ والأَعْمى والعَسيفِ (¬1) (¬2). * وبَيَّنَ اللهُ سُبْحانه في هذه الآيةِ لنا كيفيةَ القِتال والمصابرة معهم، من القتل والأخذ الذي هو الأَسْرُ والحَصْرُ. وبين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بفعله جوازَ رَمْيِهِمْ بالمَنْجَنيقِ، فرمى حِصْنَ الطائِف (¬3)، وذلك شيءٌ وراء الحَصْر، ولا بد من زيادة بحثِ هذا المعنى عندَ الوصولِ إلى "سورةِ مُحَمَّدٍ" - صلى الله عليه وسلم -. أما الجملة الثانية: فإن الله سبحانه شَرَطَ في تخليةِ سبيلِهم إقامةَ الصَّلاةِ، وإيتاءَ الزَّكاةِ، وشَرَطَ في أخُوَّتهِم في الدينِ وصحةِ توبِتهم إقامةَ الصلاةَ، وإيتاءَ الزكاةِ أيضاً، وها أنا أتكلم عليهما معاً؛ لاتفاقِ معنيَيْهِما، فأقول: * أما إقامُ الصَّلاةِ: فقد أخذَ بظاهرِ الكتابِ العزيز آخِذون، وجعلوا إقامَ الصلاةِ شرطاً في الإيمانِ، ومنهم أحمدُ، وإسحاقُ، وابنُ المباركِ، وبعضُ الشافعية؛ للآية (¬4)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بين الرَّجُلِ وبينَ الشركِ والكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ" (¬5). وذهبَ جمهورُ الفقهاءِ وبعضُ السَّلَفِ إلى أنه ليسَ بشرطٍ في الإيمانِ، ¬
والشرطُ في الآيةِ خرجَ مخرجَ الوَصْفِ بالغالِبِ؛ إذ المعهودُ مِمَّنْ أسلمَ منهمْ إقامُ الصلاةِ، ولا يتركُ الصلاةَ منهم -أعني: المُواجَهين بالخِطاب- إلا مُشْرِكٌ أو منافقٌ (¬1). ثم اختلفَ هؤلاءِ في عُقوبةِ تارِكِ الصلاةِ: فذهبَ الشافعيُّ، ومالكٌ، وأبو ثورٍ إلى أن عقوبَتهُ القَتْلُ حَدًّا (¬2). ويروى عن مكحولٍ، وحَمّادِ بنِ زيدٍ (¬3). وذهب أبو حنيفةَ والثورِيِّ والمُزنِيِّ إلى أنه يُحْبَسُ ويُضرَبُ، ولا يُقْتَلُ (¬4)؛ لقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ دمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأني رسولُ اللهِ إلَّا بإحْدى ثلاثٍ: الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفسِ، والتاركُ لدينِه المفارِقُ للَجماعة" (¬5). وهذا أقوى دليلاً، ولهذا اختارَهُ إمامُ الحَرَمين أبو المعالي. هذا في حُكمِ الإيمانِ وأُخُوَّةِ الدينِ، وأما حُكْمُ الكَفِّ عَنْهُمْ، فإنَّ إقامَ الصلاةِ وإيتاءَ الزكاةِ شَرْطٌ فيه، لا خلافَ في ذلك علمتُه بينَ أهلِ العلمِ. والدليلُ عليهِ مع الآيةِ ما رويناه في "صحيح مسلمٍ"، عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: لما تُوُفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، واستُخْلِفَ أبو بكرٍ - ¬
رضي الله تعالى عنه- بعدَهُ، وكَفَر مَنْ كَفَرَ من العربِ، قال عمرُ بنُ الخطابِ -رضي الله تعالى عنه- لأبي بكرٍ: كيف تقاتلُ الناسَ (¬1)، وقدْ قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أَنْ أقاتِلَ الناسَ حتى يقولوا: لا إلهَ إلا اللهُ، فمنْ قالَها، فقدْ عَصَمَ مِنِّي مالَهُ ونَفْسَهُ إلَّا بحَقِّهِ، وحسابُهم على الله"؟ فقال أبو بكرٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: واللهِ لأقَاتلنَّ من فَرَّقَ بينَ الصَّلاةِ والزكاةِ؛ فإنَّ الزكاةَ حَقُّ المالِ، والله لو مَنَعوني عِقالاً (¬2) مِمّا (¬3) كانوا يُؤَذُونَهُ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، لَقاتلتُهُمْ على مَنْعِهِ، فقال عمرُ بنُ الخَطّابِ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: فواللهِ ما هُو إلا أنْ رأيتُ اللهَ قدْ شَرَحَ صَدْرَ أبي بكرٍ للقتالِ، فعرفْتُ أنه الحَقُّ (¬4). وما رويناه في "صحيح مسلم" عنِ ابنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنه-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يَشْهدوا أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ محمداً رسولُ الله، ويُقيموا الصلاةَ، ويُؤْتوا الزكاةَ، فإذا فعلوهُ، فقد (¬5) عَصَموا مني دِماءَهُم وأموالَهُم، وحسابُهم على الله" (¬6). * فإن قلتَ: فما حُكْمُ الزكاةِ، هل إيتاؤها شرطٌ في الإيمانِ ¬
وأخوةِ الدينِ كالصلاةِ عندَ مَنْ يشترطُ ذلك؟ قلتُ: أجمعَ المسلمونَ على أن مانِعَها مسلمٌ، وليسَ بكافرٍ، فقد مَنَعَها وغَلَّها في عَصْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعَصْرِ أَصْحابه مانِعون، ولم يُكَفِّروهم (¬1). فإن قلت: فأبو بكرٍ -رضي اللهُ تعالى عنهُ- حكمَ في مانِعي الزكاةِ بِحُكْمِ المُرْتَدِّ بِقَتْلِهِمْ وسَبْيِ ذُرِّيَّتِهِم. قلتُ: لم يحكمْ فيهم بذلكَ لِمَنْعِ الزكاةِ وَحْدَهُ، بلْ لمنعِهم الزكاةَ، وبِجَحْدِهِمْ وُجوبَها (¬2)، وذلكَ أن العربَ افترقَتْ في زمنِه -رضيَ الله تعالى عنه- ثلاثَ فِرَقٍ. 1 - منهم من ارتدَّ عن المِلَّةِ الحَنيفيةِ، ودَعا إلى نُبُوَّةِ مُسَيْلَمَةَ والأَسْوَدِ العَنْسِيِّ. 2 - وقومٌ أنكروا الصلاةَ والزكاةَ وجميعَ الشرائع، وهؤلاءِ الذين سَبى أبو بكرٍ ذُرِّيَّتَهُمْ، وساعده على ذلكَ الصَّحابَةُ، واستولَدَ عَلِيٌّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- جارِيَةً مِنْ سَبْيِ بني حَنيفَةَ أمَّ مُحَمَّدٍ الذي يُدْعى ابنَ الحَنَفِيَّةِ. 3 - وقومُ أَقَرُّوا الصَّلاةَ، وأنكروا الزكاةَ، وهؤلاءِ الذين وَقَعَتْ فيهمُ الشبهةُ لِعُمَرَ، ثم رجعَ إلى وِفاق أبي بكرٍ -رضي الله تعالى عنهما- لما احتجَّ بأنها في مَعْنى الصلاةِ، فدلَّ على أنهم قد أجمعوا على كُفْرِ جاحِدِ الصلاةِ؛ للنصوصِ التي لا تأويلَ فيها. * ثم أجمعوا بعدَ ذلكَ على تكفيرِ جاحِدِ الزكاة، ولم يلتفتوا إلى تأويلِ الكافرينَ (¬3). ¬
* وأما مانعُ الزكاةِ بُخْلاً فيها، فلم يقلُ أحدٌ بكفرِهِ قديماً ولا حديثاً (¬1). وهذا تحقيقٌ حَسَنٌ بَيِّنٌ، فاعتمدْه، فقدْ حصلَ في ذلك تخبيطٌ لجماعةٍ من الفقهاءِ والمُحَدِّثين. * * * 159 - (5) قوله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]. أمر اللهُ سبحانَهُ في هذه الآيةِ بأَمانِ المُشْرِكِ، والكَفِّ عنهُ إذا دَخَلَ دارَ الإسلام لِيَسْمَعَ كلامَ اللهِ، وينظُرَ في الإسلامِ؛ لينقادَ للحقِّ إذا ظهرَ له حتى يسمَعَهُ ويَفْهَمَهُ، فإن قَبِلَ الحَقَّ، قَبِلناهُ، وإنْ أبى، رَدَدْناه إلى مَأْمَنَهِ. وهذا الحكمُ متفقٌ عليهِ، والأمرُ في هذا للوجوبِ؛ إذ يجبُ إقامةُ حُجَّةِ اللهِ وإزالةُ الشبهة عن عبادِه، وإعانةُ طالبِ الحقِّ (¬2). والخطابُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ بهِ جميعُ الأُمَّةِ، فيجوزُ لآحادِهم أن يُجيرَ آحادَ المشركينَ؛ لما رُوي عن عَلِيٍّ -رضي الله تعالى عنه-: أنه قال: ما عندي شيءٌ إلا كتابَ اللهِ، وهذهِ الصحيفةَ عن رسولِ الله: - صلى الله عليه وسلم - "إن ذِمَّةَ المُسلمينَ واحِدةٌ، فَمَنْ أَخْفَرَ (¬3) مُسْلِماً، فعليهِ لعنةُ اللهِ والملائِكَةِ والناسِ أجمعين" (¬4) ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمونَ تَتكاَفأْ دِماؤُهم، ويَسْعى بِذِمَّتِهِمْ ¬
أَدْناهُمْ، وهم يَدٌ على مَنْ سِواهُمْ" (¬1) إلا ما حُكِيَ عنِ ابنِ الماجشونِ أنه وقفَهُ على إذنِ الإمامِ (¬2)، وكذا وَقَفَهُ ابنُ حَبيبٍ على نَظَرِ الإمامِ (¬3)، وهذا ليسَ بِصَحيحٍ؛ لإطلاقِ الأحاديثِ، ولأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أجازَهُ وأَمْضاهُ، وقد فعلَه الصحابَةُ -رضي الله تعالى عنهم-، وأَمْضَوْهُ. نعم، اختلفَ أهلُ العِلْمِ في الصِّفاتِ المُخِلَّةِ لمنصبِ الأمانِ مثلَ الأنوثةِ والرِّقِّ والصِّبا، فاعتبرهُ أبو حنيفةَ (¬4)، ولم يعتبرْهُ مالِكٌ والشافِعِيُّ؛ لعمومِ الأحاديث (¬5). * وفي الآيةِ دَلالةٌ بطريقِ الإشارَةِ علي جَوازِ تَعْليمِ الكافِرِ القُرْآنَ إذا رَجَوْنا إسْلامَهُ، ولا يَجوزُ إذا خَشِينا استِخْفافهُ؛ فإنَّ السماعَ يلزَمُ منهُ الحِفْظُ لِكُلِّ ما سَمِعَ، ولا سِيَّما في حَقِّ بعضِ السامِعينَ الأذكياءِ (¬6). * * * ¬
160 - (6) قوله عَزَّ وجَلَّ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11]. تقدم بيانُه قريباً. * * * 161 - (7) قوله عَز وجَل: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12] الآية. * قد علمنا بالنصِّ اليقينِ أنَّ المُعاهَدين إذا نَكَثوا أَيْمانَهُمْ، ونَقَضوا عَهْدَهُمْ، وَجَبَ قِتالُهُمْ، وقد قَدَّمْتُ أَنَّهم إذا استقاموا لنا على عَهْدِهم، وجبَ علينا أن نستقيمَ لهم. * وأعلمنا اللهُ سبحانَهُ أنهم إذا طَعَنوا في ديننا؛ كَطَعْنهِم في القرآنِ العزيزِ، وسَبِّهِمُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، انتقضَ عهدُهم. والحكمُ مستقرٌّ على هذا كما ذَكَرَهُ اللهُ تعالى، حتى قالَ أبو الحَسَنِ الماوَرْدِيُّ من الشافعيةِ: يجبُ عليهمُ الكَفُّ عن قبيحِ القولِ والعَمَلِ في حَقِّ المسلمين، وبذلُ الجميل بينهما، فلو كانوا يكرمونَ المسلمينَ، فَصاروا يُهينونَهم، ويُضيفونهم فصاروا يَقْطَعونَهم، أو يُعَظِّمونَ كتابَ الإمام فصاروا يَسَخِفُّونَ به، أو نَقَضوا عَمَّا كانوا يُخاطبونَهُ به، سألَ الإمامُ عن سببِ فِعْلِهم، فإن أَظْهَروا عُذْراً، قَبلَهُ، وإلَّا أَمَرَهُمْ بالرُّجوعٍ إلى عادَتِهم، فإنْ فَعلوا، ثَبَّتَ عَهْدَهم، وإنِ امْتَنَعوَا، نقضَ عَهْدَهُمْ، وأَعْلمَهُمْ بِنَقْضِه (¬1). ¬
* فإن قلت: فان اللهَ سبحانَه إنَّما عَلَّقَ قَتْلَهم على أَمْرَيْنِ: نَكْثِ اليمينِ، والطَّعْنِ في الدينِ، وما عُلِّقَ على أمرين، لا يوجد إلَّا بهما، ولا يوجدُ بأحدهما. قلنا: لَمَّا قامَ الإجماعُ على أن المُعاهَدَ إذا نَكَثَ اليَمينَ بما عاهَدَ عليه، انتقضَ عهدُه، ولا يحتاجُ إلى اشتراطِ شيءٍ آخر، دَلَّنا على أن الطَّعْنَ في الدينِ بِمُجَرَّدِهِ كافٍ في نقضِ العهدِ؛ كالنَّكْثِ في اليمينِ، وأن التعليق بالأمرينِ على سبيلِ الانفرادِ، لا على سبيلِ الجَمْعِ، وذلكَ شائعٌ في اللسانِ (¬1). * فان قلتَ: فهل ينتقضُ عهدُ الذِّمِّيِّ بما ينتقضُ به عهدُ الحَرْبِيِّ؟ قلنا: عهدُ الحربيِّ أضعفُ من عهدِ الذميِّ، فعقد الذمَّةِ ينتقضُ بالنَّقْضِ، وهلْ ينتقضُ بالطَّعْنِ في ديننا؟ فيه خلافٌ منتشرٌ عندَ الشافعيةِ والمالكيةِ (¬2)، والصحيحُ عندَ الشافعيةِ عَدَمُ الانتقاضِ (¬3)، وبه قالَ أبو حَنيفةَ (¬4). * * * ¬
162 - (8) قوله عَزَّ وجَلَّ: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17]. أكثرُ المُفَسِّرينَ حَمَلوا العبارَةَ هنا على دُخولِ المَسْجِدِ الحَرامِ، والقُعودِ فيه، قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتادُ المَسْجِدَ، فاشْهَدوا لهُ بالإيمان" (¬1)، وإنَّ الله تعالى قال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18]، فنفى الله تعالى ذلك عنهم. قال الحَسَنُ: يقول: ما كانَ للمشركين أن يُتْرَكوا فيكونوا أهلَ المسجدِ الحرام (¬2). وهذا مَحْصورٌ على المشركِ، حتى لو أَوْصى بهِ لم تُقْبَلْ وصيتُه. * * * 163 - (9) قوله عَزَّ وجَلَّ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]. قد سبقَ الكلامُ على مثل هذهِ الآيةِ في هذهِ السورة، وإنما ذَكَرَ هذهِ الصِّفاتِ للبيانِ والمَدْحِ بها، كذلكَ صفاتُ عبادِه المؤمنين، لا للاشْتِراطِ ¬
والتعليق، وذكرتُ ما فيهِ من الاختلافِ. وقصدَ اللهُ سبحانَهُ بهذا الردِّ على المشركين افتخارَهُمْ بذلكَ. ثم قال: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 19] الآية. قال ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- في رواية الوالبي: قالَ العباسُ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ حينَ أُسِرَ يومَ بَدْرٍ: لَئِنْ كنتمْ سبقتمونا بالإسلامِ والهجرةِ والجِهاد، لقد كُنّا نَعْمُرُ المَسْجِدَ الحَرامَ، ونَسْقي الحاجَّ، ونَفُكُّ العانِيَ، فأنزلَ اللهُ تعالى هذهِ الآيةَ، يعني: (أجعلتمُ سِقايةَ الحاجِّ) (¬1). فأخبرَ أَنَّ عِمارتَهُمُ المَسْجِدَ، وقيامَهُمْ على السِّقايةِ لا يَنْفَعُهُمْ معَ الشِّرْكِ باللهِ، وأَنَّ الإيمانَ باللهِ والجهادَ معَ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْرٌ مِمّا هُمْ عليه. فإن قيلَ: خَرَّجَ مسلمٌ في "صحيحه" عن النُّعْمانِ بنِ بَشيرٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- قال: كنتُ عندَ مِنْبَرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ رَجُلٌ: ما أُبالي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلاً بعدَ الإِسلام إلَّا أَنْ أَسْقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلاً بعدَ الإسلامِ إلا أَنْ أَعْمُرَ المَسْجِدَ الحَرامَ، وقال آخَرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أَفْضَلُ مِمَّا قلتُمْ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ وقالَ: لا تَرْفَعوا أصواتَكُم عندَ مِنْبَرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهو يوم الجُمُعَةِ، ولكنْ إذا صليتُ الجمعة، دخلتُ فاستَفْتَيْتُهُ لكم فيما اختلفتُمْ فيه، فأنزلَ اللهُ تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 19] الآية (¬2). وهذا يدلُّ على أنها لم تنزِل رَدًّا على مُشْركيهم، وإنما نزلتْ في المؤمنين. ¬
قلنا: أجابَ بعضُ المفسرينَ أن بعضَ الرواةِ تسامَحَ في قولهِ: فأنزل اللهُ الآيةَ، وإنَّما المرادُ قراءةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الآيةَ على عُمَرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- حين سأله, فظنَّ الراوي أنها نزَلَتْ حينئذ، وإنما استدلَّ بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَتَلا على عُمَرَ ما قدْ أُنْزِلَ عليه، لا أَنَّها نزلتْ في هؤلاء (¬1). وهذا جوابٌ حَسَنٌ، ويدلُّ عليهِ قولُه تعالى {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] , والظالمون يومئذٍ أهلُ مكة. فإن قيل: يجوزُ الاستدلالُ على المؤمنينَ بما أُنزلَ على المشركين؟ قلنا: ليس ذلكَ ببعيدٍ؛ فقد قالَ عمرُ -رضيَ الله تعالى عنه- لو شِئْنا لاتَّخَذْنا سَلائِقَ (¬2) وشوى (¬3)، وتوضَعُ صَحْفَةٌ، وترفَعُ أُخرى، ولكِنّا سَمِعْنا قولَ الله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} (¬4) [الأحقاف: 20] , ¬
فاستدَلَّ بِما وردَ في المُشركين عندَ وجودِ الصِّفةِ، ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ. * * * 164 - 165 (10 - 11) قوله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [التوبة: 23 - 24] الآيتين. قيل: نزلَتْ فيمَنْ لم يهاجرْ مِمَّنْ أَسْلَمَ وآثَرَ حُبَّ أبيهِ وأخيهِ على حُبِّ اللهِ ورَسولهِ. ولا شَكَّ أن المرادَ بهذهِ الموالاةِ حُبُّهم وحُبُّ أفعالِهم منَ الشِّرْكِ كما بيَّنَها اللهُ تعالى في قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24] ومَنْ أَحَبَّ فِعْلَ مُشْرِكِ، فقدْ كَفَرَ، ومنْ أَحَبَّ مُشْركًا أَكْثَرَ منَ الله تبَارَك وتَعالى، ومِنْ رسولهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقد كَفَرَ؛ فإنه لو أبغضَ فعلَه الذي هو الكُفْرُ باللهِ حقيقةَ البُغْضِ لأَبْغَضَهُ. وليسَ المرادُ بهذهِ المُوالاةِ البّرَ والإحْسانَ، فقدْ أَوجبَ اللهُ سبحانَهُ ذلكَ في كتابِه العزيزِ فقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272] , ولو كانَ المرادُ ¬
بالولاية (¬1) هُنا هُوَ البِرَّ والإحسانَ، لما سَمَّاهُمْ ظالِمين، ولا فاسِقين (¬2). * * * 166 - (12) قوله تَبارَكَ وتَعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28]. * أمرنا اللهُ سبحانَهُ بحرمانِ المُشركينَ المسجدَ الحرام، ونَبَّهَنا على العِلَّةِ المُوجِبَةِ لِحِرْمانِهِم، وهي النَّجَسُ. والنَّجَسُ: الشيءٌ المُسْتَقْذَرُ مِنْ كُل شيءٍ، قاله اللَّيْثُ (¬3). وهو يقعُ على كل مُسْتَقْذَرٍ حِسًّا: كالمَيْتَةِ، والعَذِرَةِ، وعلى كُلِّ مُسْتَقْذَرٍ مَعْنًى: كالجنابَةِ، وسائِرِ الأَحْداثِ (¬4). فيحتملُ أن يكونَ وصفَهم بالنجسِ؛ استقذارًا لَهُمْ؛ لكفرِهم، ويدلُّ عليه قولُ مُقاتِلِ: أي: هم خُبَثاءُ نَجَسٌ (¬5) بالكُفْرِ ظاهِرًا، وبالعَداوَةِ باطنًا (¬6). ¬
ويحتملُ وصفُهم بذلكَ لعدمِ تَطَهُّرِهِمْ من النجاسَةِ، والمعنى: ذَوو نَجَسٍ، وإليه يرشدُ قولُ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: يريد: لا يَغْتَسِلونَ من الجَنابة، ولا يَتَوَضَّؤون للهِ، ولا يُصَلُّون لهَ. ويحتملُ أن يكونَ وصفَهم لنجاسةِ أعيانِهم، ويروى القولُ بنجاسَةِ أعيانِهم عن ابنِ عباسٍ، والحَسَنِ -رضي الله تعالى عنهم- (¬1). وأوجبَ الحَسَنُ على مَنْ صافَحَهُمُ الوُضوءَ (¬2). ويدلُّ عليه مفهومُ قولهِ - صلى الله عليه وسلم - لأبي هُريرةَ -رضي الله تعالى عنه-: "إنَّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ حَيًّا ولا مَيْتًا" (¬3). وهذان (¬4) الاحتمالانِ ضعيفانِ، وحديثُ أبي هريرة مُتَأَوَّل، ويدلُّ على ذلكَ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَبَطَ ثُمامَةَ بْنَ أُثالٍ في المسجدِ (¬5)، ودخلَ أبو سفيانَ ¬
مسجدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو مشركٌ عندَ إقبالِه لتجديدِ العهدِ حينَ خَشِيَ نَقْضَهُ بما أَحْدَثَهُ بنو بكرٍ على خُزاعَه (¬1). ورُوي أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنزلَ وَفْدَ ثَقيفٍ في المَسْجِدِ، فقيلَ: إنَّما هم قَوْمٌ أنجاسٌ، فقال: "ليسَ على وَجْهِ الأَرْضِ منْ أَنْجاسِ الناسِ شيءٌ, إنما أنجاسُهم على أَنْفُسِهِمْ" (¬2). والحقُّ أن مَنْعَهُمْ ذلكَ لتشريفِ البُقْعَةِ الطَّاهِرَة مِنَ النَّجَسِ مَعْنَّى؛ لأنهُ أعظمُ مَفْسَدَةً من النَّجَسِ حِسًّا, ولم يأمُرِ اللهُ سبحانَهُ بتطهير المَسْجِدِ الحَرام الذي هو المُرادُ في هذهِ الآيةِ، وهو الحَرَمُ، منَ النجاسَةِ الحِسّيَّةِ أبدًا. وقد بَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صِفَةَ هذا التَّنْزيهِ فيما بَعَثَ بهِ عَلِيًّا -رضي الله تعالى عنه- ليبلغ عنهُ: ألا يَحُجُّ بعدَ العامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطوفُ بالبيتِ عُرْيانُ (¬3). وجَوَّزَ أبو حنيفةَ للذِّمِّيِّ دُخولَ المَسْجِدِ الحَرامِ، حتى الكعبةِ (¬4). واستدلَّ بحديثِ ثُمامَةَ بنِ أُثالِ، ووَفْدِ ثَقيفِ، وخَصَّصَ الآيةَ بمُشْركي العَرَبِ؛ لأنه لا يُقْبَلُ منهم إلا الإِسلامُ، أو السيفُ. وتَخْصيصُهُ تَحَكُّمٌ لا دليلَ عليه؛ لأن اللهَ سبحانَهُ شَرَعَ ذلكَ تَنْزيهًا ¬
وتَقْديسًا لِمَسْجِدِهِ الحَرامِ، وبينَ أن العِلَّةَ في ذلكَ هيَ نَجَسُ المشركينَ، والحَرْبِيُّ والكتابِيُّ في هذا المَعْنى سَواءٌ، فلا يُمَكَّنُ من دُخولِ الحَرَمِ، فإن تَعَدَّى ودَخَلَ وماتَ، نُبِشَ قَبْرُهُ، وأُخْرِجَ، وإن تَغَيَّرَ واستَرَمَّ (¬1) (¬2). * ثم بَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ كتابِ الله تَعالى أَنَّ لحريمِ المَسْجِدِ الحَرام منَ التنزيهِ ما للمسجدِ؛ صيانَةً للحَرَمِ، فأجلى اليَهودَ منَ المدينةِ، وأوصى في مَرَضِ مَوْتهِ بإخْراجِ المُشْركينَ من جَزيرةِ العربِ (¬3). فأخذَ قومٌ بعُمومِ الإطْلاقِ في الجزيرةِ. وجزيرةُ العَرَبِ في قَوْلِ الأَصْمَعِيِّ من أَقْصى عَدَنٍ وما والاها منْ أرضِ اليَمَنِ كُلِّها إلى أطرافِ الشامِ طولًا، ومِنْ جُدَّةَ وما والاها منْ ساحِلِ البَحْرِ إلى أَقْصى العِراقِ عَرْضًا (¬4). وفي قولِ أبي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بنِ المُثَنَّى: ما بَيْنَ حفرِ أبي موسى إلى أقصى ¬
تِهامَةِ اليَمَنِ طولًا، وما يَبْرينَ إلى مُنْقَطَعِ السَّماوَةِ إلى ما وراءَ مَكَّةَ عرضًا. قال: وما كانَ دونَ ذلكَ إلى أرضِ العراقِ، فهو نَجْدٌ (¬1). وخَصَّهُ الشافِعيُّ بالحِجازِ، وهي مَكَّةُ والمَدينةُ واليَمامَةُ ومخاليفُها، أي: قُراها وأعمالُها (¬2). قال إمامُ الحَرَمَيْنِ: قال الأصحابُ: الطائِفُ ووَجٌّ (¬3) وما يُضاف إليها منسوبةٌ إلى مَكَّةَ، معدودةٌ من أعمالِها، وخَيْبَرُ من مخاليفِ المَدينة (¬4). وزادَ مالكٌ: اليَمَنَ ومَخاليفَها (¬5). واستدل الشافعيُّ على التَّخْصيصِ بأنه لم يُعْلَمْ أَحَدٌ من الخُلَفاء أَجْلى مَنْ في اليَمَنِ من أهلِ الذِّمَّةِ، وهيَ من جزيرةِ العربِ (¬6). * ثم اختلفوا أيضًا في إلْحاقِ هذه المواطِنِ الشريفَةِ ما كانَ في مَعْناها من سائرِ البِلاد. فألحقها مالِكٌ، وقال: يُمْنَعون منَ المساجِد كُلِّها (¬7). ولم يلحقْها الشافِعيُّ، وجَوَّزَ لهم دُخولَها بشرطِ اسْتِئذانِ أحدِ ¬
المسلمين، واستدلَّ بحديثِ ثُمامَةَ بنِ أُثالٍ وأبي سفيان (¬1). * * * 167 - (13) قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. قد قدمتُ في "سورةِ البقرةِ" و"الأنفالِ" كيفيةَ الجَمْع بِينَ هذهِ الآيةِ وبينَ ما يعارِضُها. ومن أجلِه قَصَرَ الشافِعِيُّ -رحمه الله تعالى- قَبولَ الجِزْيَةِ على أهلِ الكِتابِ؛ لمَفْهومِ هذه الآية، ولمفهومِ قوله - صلى الله عليه وسلم - في المَجوسِ: "سُنُّوا بهِم سُنَّةَ أهلِ الكِتابِ" (¬2)؛ وهذا يَقْتَضي تَخصيصَ سُنَّةِ الجِزْيَةِ بأهلِ الكتاب (¬3). وفي مذهبهِ اختلافٌ في إِلحاق السَّامِرَة (¬4)، والصَّابِئينَ (¬5)، والمُتَمَسِّكينَ بِصُحُفِ إبراهيمَ وزَبورِ داودَ بأهلِ الكِتاب (¬6). ¬
وذهب قومٌ إلى قَبولِ الجِزْيَةِ من كُلِّ مُشْرِكٍ، واعتمدوا حديثَ سُلَيْمانَ بنِ بُرَيْدَةَ الذي قَدَّمْتُهُ في "سورةِ البقرة"، وبهذا قالَ مالِكٌ (¬1). وذهبَ آخرون إلى استثناءِ مُشْرِكي العرب، وبهِ قالَ أبو حنيفة (¬2). ونقلَ بعضُ العلماءِ الاتفاقَ على استثناءِ القُرَشِيِّ، فلا يُقْبَلُ منه الجِزْيَةُ. واختلفوا في عِلَّتِهِ: فقيلَ: تشريفًا لهُ عن الذِّلَّةِ والهَوان؛ لمكانِهِ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: لأنَّ قُرَيْشًا كانَتْ آمَنَتْ بعدَ الفَتْحِ، فلا يُقْبَلُ منه إلا الإِسلام (¬3). ومُقْتَضى الخِطابِ أنهم إذا بَذَلوا الجِزْيَةَ، وَجَبَ الكَفُّ عن قتالِهم، وهو كذلكَ، إلا أن يُخاف غائِلَتُهم (¬4)، ويُخْشى منهمُ المَكْرُ والخَديعةُ. وإذا بذلوا الجزيةَ فلا يجُب عليهم إعطاؤها إلَّا بعدَ الحَوْلِ من وقتِ التزامِها، فالإعطاءُ هو الالتزامُ، لا حقيقةُ الإيتاء. * ومتى وَجَبَ قَبولُ الجِزْيَةِ، فلا بُدَّ من اقترانِها بالصَّغارِ والهَوانِ؛ كما أمرَ اللهُ سبحانه. والصغارُ عندَ الشافِعيُّ، هو: التزامُهُمْ لِجَريانِ أحكامِ الإِسلامِ عليهم في عَقْدِ الذِّمَّةِ (¬5). ¬
وقالَ بعضُهم: هو أن تُؤْخَذَ منهمُ الجزيةُ من قِيامٍ، والآخِذُ قاعدٌ، ويروى عن عكرمة (¬1). وزاد أبو حامدٍ الغزاليُّ: وأن يَضْرِبَ بيدِه في لَهْزَمَتِهِ (¬2)، وأنكرَهُ عليهِ أَبو زَكَرِيّا النَّوَوِيُّ، ومَنَعَهُ، وأَباهُ (¬3). وقالَ بعضُهم: أن تؤخذ منهمُ الجزيةُ من قِيامٍ باليَسار. وقال بعضهم: يمشون بها كارهين (¬4). وأمَّا اليَدُ: فتقعُ على القُدْرَةِ مِنّا عليهم مَجازًا. تقعُ على المِنَّةِ مِنّا عليهِم مَجازًا أيضًا (¬5)؛ حيث تَرَكْناهُم من القَتْل، وهو قولُ قتادةَ (¬6). وتقع على حقيقةِ اليَدِ، وهو أن يُعْطوها بأيديهم، ولا يَبْعَثون بها، وقد فَسَّرَ ابنُ عباس -رضي الله تعالى عنهما- ذلك، فقالَ: هو أن يُعْطوها بأيديهم يَمْشون بِها كارهين، ولا يجيئون بها رُكبانًا، ولا يُرْسِلون بها (¬7). ¬
وإن رأى الإمامُ المَصْلَحَةَ في وَضْع الصَّغارِ عن بعضِ أهلِ الكِتابِ على الخُصوص، جازَ؛ كما فعلَ عُمَرُ -رضي الله تعالى عنه- في نَصارى العرب، وهُمْ بَهْراءُ وتنَوخُ وَتغْلِبُ لَمّا امْتَنَعوا من بَذْلِ الجِزْيَةِ، وقالوا: نحنُ قومٌ عربٌ، لا نُؤَدِّي الجِزْيَةَ كما تُؤَدَّي العَجَمُ، ولكنْ خُذْ مِنّا بِاسْمِ الصَّدَقَةِ كما تَأْخُذُ من العربِ، فامتنعَ عمرُ من ذلك، فنفروا من ذلك، ولَحِقَ بعضُهُم بالرُّومِ، فقالَ النُّعْمانُ بنُ زُرْعَةَ، أو زُرْعَةُ بنُ النُّعْمانِ: يا أميرَ المؤمنين! إنَّ فيهم بأسًا وشِدَّةً، وإنهم عَرَبٌ يَأنَفونَ من الجِزْيَةِ، فلا تُعِنْ عَدُوَّكَ عليكَ، فخذ منهمُ الجزيةَ باسمِ الصَّدَقَةِ، فبعث إليهم عُمَرُ، ورَدَّهُمْ، وضاعَفَ عليهمُ الصَّدَقَةَ (¬1). * فإن قلتَ (¬2): فأهلُ الكِتابِ يُقِرُّونَ بالله واليَوْمِ الآخِرِ، فما وَجْهُ وَصْفِهم بأنَّهم لا يؤمنونَ باللهِ ولا باليومِ الآخِرِ؟ قلنا: قد بيَّنَ اللهُ -جَلَّ جَلالُهُ، وتقدَّسَتْ أسماؤه- وَجْهَ كُفْرِهِمْ بهِ، وعَدَمَ تقديسِهم لهُ، فقالَ حاكيًا عَنْهُمْ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] ثم قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون} [التوبة: 31] , وقالوا في اليوم الآخر بافترائهم على الله سبحانه: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] , وقالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] فهم لم يُؤْمِنوا بالله، ولا باليومِ الآخِرِ، ولم يَدينوا دِيْنَ الحَقِّ. * ولما أمرَ اللهُ سبحانَه وتَعالى بقتالِ أهلِ الكتابِ، وكانَ لا يقاتِلُنا منهم ¬
إلا الرجالُ البالِغونَ القائِمونَ بالقِتال، استدلَلْنا بهذا (¬1) على أنَّ من لا قِتال منه؛ كالنِّساءِ والصِّبيانِ والرُّهْبانِ لا جِزْيَةَ عليهم؛ لكونِهم في أمانٍ من قَتْلِنا إياهُم، فلا يحتاجون إلى بَذْلِ جزيةِ الكَفِّ عنهم، وعلى هذا المعنى الذي اسْتَنْبَطَهُ أهلُ العِلْمِ دَلَّتِ السنَّةُ على اعتبارهِ. فرُويَ أَنَّ عُمَرَ -رضيَ الله تعالى عنه- كتبَ إلى أمراءِ الأجناد: أَلاّ يَأْخُذوا الجِزْيَةَ من النِّساءِ والصِّبْيانِ (¬2). * ثم اختلفوا في تفصيلِ هذا الاستنباطِ، هلِ الجزيةُ بدلٌ عن الدمِ خاصَّةً، أو بدلٌ عن الدَّمِ وسُكنى الدار؟ فيه خلافٌ, وبالأولِ أخذَ مالِكٌ (¬3)، وبالثاني أخذَ الشافِعِيُّ (¬4)، وقولُ مالِكٍ هُنا هو الظاهِرُ. ويظهر أثرُ الخِلاف فيما إذا أسلمَ في أثناءِ الحَوْلِ، هل يجبُ عليهِ تسليمُ القِسْط؟ (¬5) * وأطلقَ اللهُ سبحانَهُ الجزيةَ، ولم يَحُدَّها بِحَدٍّ. وروي أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خُذْ منْ كُلِّ حالِمٍ دينارًا، أو عَدْلَهُ ثَوْبَ ¬
مَعافِرَ" (¬1)، وهي ثيابٌ منسوبةٌ إلى معافِرَ من أرضِ اليَمَنِ، وبهذا أخذ أحمدُ في تحديدِ الجزيةِ، فلا يُزادُ عليه ولا يُنْقَصُ منه. وجعله الشافعيُّ تحديدًا لأقلِّ الجزيةِ؛ لأنه لم يُنْقَلْ أَقَلُّ منها, ولا حَدَّ لأكثرِها، بل هو (¬2) ما يوافِقُهُمْ عليهِ الإمامُ (¬3). وأخذ مالكٌ بما فَرَضَه عُمَرُ -رضي الله تعالى عنه- (¬4)، ففرضَ على أهلِ الذَّهَبِ أربعةَ دنانير، وعلى أهل الوَرِقِ أربعين دِرْهَمًا، ومع ذلك أرزاقُ المسلمين، وضيافَةُ ثلاثةِ أيامِ، لا يُزادُ عليهِ، ولا يُنْقَصُ منه (¬5). وروي عنهُ أيضًا (¬6) أنه بَعَثَ عُثْمانَ بنَ حُنَيْفٍ، فوضعَ الجزيةَ على أهلِ السوادِ ثمانيةً وأربعينَ دِرْهَمًا (¬7)، وأربعةً وعشرينَ، واثني عَشَرَ (¬8)، وبهذا ¬
أخذَ أبو حنيفةَ، فخالَفَ بينَ الغَنِيِّ والفقيرِ، والمُعْتَمِلِ والمُتَوَسّطِ (¬1). ولما رأى قومٌ أن ليسَ في التقديرِ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حديثٌ متفق على صِحَّته، ورأوا هذا الاختلافَ في التقديرِ، استدل على أنه باجتهادِ عمرَ -رضي الله تعالى عنه-، فأخذوا بظاهِرِ الكتِابِ، وقالوا: لا حَدَّ فيه، بل الحَدُّ مَصروفٌ إلى اجتهادِ الإمامِ، وبهذا قال الثَّوْرِيُّ وهو مذهبٌ قَوِيُّ الذَّليلِ (¬2). * * * ¬
من أحكام الزكاة
(من أحكام الزكاة) 168 - (14) قوله عَزَ وجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]. * توعَّدَ الله سبحانه على تركِ النفقةِ منَ الذهبِ والفِضَّةِ بالعذابِ الأليم. والكَنْزُ في كَلامِ العَرَبِ: الجَمْعُ، ومنه لَحْمٌ مُكْتَنِزٌ، أي: مُجْتَمِعٌ (¬1). فأوجَبَ اللهُ علينا الإنفاقَ منها. ومعلومٌ أنه لم يُرِدْ إنفاقَ جَميعِها. قال ابنُ عباس -رضي الله تعالى عنهما-: لا يُؤَدُّونَ زَكاتَها، وما أُدِّيَ زَكاتُهُ فليسَ بِكَنْرٍ (¬2). واعتقدَ قومٌ عُمومَ الإنفاقِ في جميعِها، فادَّعوا نسخَها (¬3) بقولهِ تَعالى: ¬
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] , ورويَ ذلكَ عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ وعِراكِ بنِ مالِكٍ (¬1). وروى البخاريُّ، عن ابنِ عُمَرَ -رضيَ الله تعالى عنهما-: أنَّ هذا قبلَ أن تنزلَ الزكاةُ، فلما أُنزلتْ، جعلها اللهُ طُهْرًا للأمْوالِ (¬2). والصحيحُ عدمُ النسخِ، إذ لا تَعارُضَ بينَهُما. * وبيّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - القَدْرَ الذي يَجِبُ فيه الإنفاقُ. فقال: "ليس فيما دونَ خَمْسَةِ أَوْسقٍ صَدَقَةٌ" (¬3)، وفي رواية: "ليسَ فيما دونَ خَمْسِ أواقٍ من الوَرِقِ صَدَقَة" (¬4) والأُوقِيَّةُ أربعونَ دِرْهَمًا. وبيَّنَ القدرَ الواجبَ، فقال: "وفي الرَّقَةِ رُبُعُ العُشْرِ" (¬5). وعلى الحُكْمِ في الفِضَّةِ وقعَ الإجماعُ (¬6). * وأما الذَّهَبُ، فاختلفوا في نِصابِهِ: فذهبَ جُمهورُ أهلِ العلمِ؛ كمالِكٍ، والشافعيِّ، وأبي حنيفةَ، وعامَّةِ فُقهاءِ الأَمْصارِ إلى أنه عِشرْون دينارًا (¬7). ¬
واستدلوا بما رواهُ عَمْرو بنُ شُعَيْبِ، عن أبيهِ، عن جَذه عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "ولا في أقلَّ من عشرينَ مِثْقالًا مِنْ ذَهَبٍ شيِءٌ" (¬1)، وبما رواه الحسنُ بنُ عُمارَةَ عن أبي إسحاقَ، عن عاصمِ بنِ ضمْرَةَ، عَنْ علىٍّ -رضي الله تعالى عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَدْ عَفَوْتُ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ والرَّقيقِ، فهاتوا مِنَ الرِّقَةِ رُبُعَ العُشْرِ، مِنْ كُلِّ مِئَتَي درهمٍ خَمْسَةُ دَراهِمَ، ومن كُلِّ عِشرينَ دينارًا نصفُ دينارٍ، وليسَ فيِ مِئَتَي درهمٍ شيءٌ حتى يَحُولَ عليها الحَوْلُ، ففيها خمسةُ دَراهِمَ، وما زادَ فَفي كُلِّ أربعينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، وفي كُلِّ أربعةِ دَنانيرَ تزيدُ على العِشرين دينارًا دِرْهَمٌ حتى تبلغَ أربعينَ دينارًا، ففي كُلِّ أربعينَ دينارًا دينارٌ، وفي كُلٍّ أربعةٍ وعشرينَ نِصْفُ دينارٍ ودِرْهَمٌ" (¬2). واستدل مالِكٌ بعملِ أهلِ المدينةِ، فقال في "الموطأ": السنَّةُ التي لا اختلافَ فيها عندنا أن الزكاةَ تجبُ في عِشْرينَ دينارًا كما تَجِبُ في مئتي درهمٍ (¬3). ¬
وذهب قومٌ وأكثرُ أهلِ الظاهِرِ إلى أن نِصابَ الذهبِ أربعون دينارًا (¬1). واعتلُّوا بأنه لم يثبتْ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الذَّهَبِ كما ثَبَتَ في الفِضَّةِ، أما حديثُ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، ففي إسنادِه ضَعْفٌ، وأما حديثُ الحَسَنِ بنِ عُمارَةَ، فقالوا أيضًا: ليسَ مِمَّا يجبُ العملُ به؛ لانفرادِ الحَسَنِ به، واستَمْسَكوا بمَحَلِّ الإجماع، وهو أربعون دينارًا. وذهبَ قومٌ منهم عطاءٌ والزهريُّ إلى اعتبارِ الذهبِ بالفِضَّةِ، وجعلوها أصلًا للذَّهَبِ فيما دونَ أربعينَ دينارًا، فأوجبوا فيهِ الزكاة (¬2)، وإذا بلغَ صَرْفُهُ مئتي دِرْهَمٍ، وإن كانَ وزنُه دونَ العِشْرين دينارًا حتى يبلغَ أربعينَ دينارًا، فإذا بلغَتْها اعْتبُرَ بنفِسه، وتمسَّكوا فيما دون مَحَلِّ الإجماعِ بقولِه - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ فيما دونَ خَمْسِ أواقٍ من الرِّقَةَ صَدَقَةٌ" (¬3) وقالوا: إن الرِّقَةَ الذهَبُ والفِضَّةُ. ولكنهم لم يسلمْ لهم ذلكَ، بل قالَ أكثرُ الناسِ: الرِّقَةُ الفِضَّةُ خاصَّةً، وقال بعضُهم: الرِّقَةُ الدَّراهِمُ خاصَّةً، وهو ضعيفٌ. * وفي عُموم الآيةِ دَلالةٌ على وجوبِ الزكاة في الحُلِيِّ. وبهِ قالَ عمرُ بنُ الخطابِ، وابنُ عَبّاسٍ، وابنُ مسعودٍ، وابنُ عُمَرَ، والزُّهْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حَنيفَةَ، والشافِعيُّ في أَحَدِ قوليه (¬4). ¬
واستدلُّوا بما رُوي أنَّ امرأةً من اليَمَنِ أَتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ومَعَها ابْنَتُها، وفي يدِها مُسْكَتانِ غَليظَتانِ منْ ذهَبٍ، فقالَ رسولُ اللهِ عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ: "أَتُؤدِّينَ زكاةَ هذا؟ " فقالت: لا، فقالَ عليهِ الصَلاةُ والسلامُ: "أَيَسُرُّكِ أن يُسَوِّرَكِ اللهُ بسِوارَيْنِ منْ نارٍ؟ " فخلعَتْهما، وألقتهما، وقالت: هما للهِ ولرسوله (¬1). وقال قومٌ: لا تجبُ في الحُلِيِّ زكاةٌ؛ قياسًا على ثيابِ البَدَنِ وعَوامِلِ الإِبِلِ والبَقَرِ. وبهِ قالَ جابِرٌ، وعائشةُ، والحَسَنُ، وابنُ المُسَيِّبِ، والشَّعْبِيُّ، ومالِكٌ، واللَّيْثُ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، واختارَهُ الشافِعِيُّ بِمِصْرَ (¬2). * إذا تَمَّ هذا، فقد نقلَ أبو الحسنِ الواحِدِيُّ عن أكثرِ المفسرينَ: أَنَّ قولَه تَعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] مُسْتَأْنَفٌ نازِلٌ في هذهِ الأُمَّةِ. وعن قومٍ منهم أَنَّها فينا وفي أهلِ الكتابِ. وخَرَّجَ البخاريُّ عن زَيْدِ بن وَهْبٍ قالَ: مَرَرْتُ على أبي ذَرٍّ بالرَّبَذَةِ، فقلت: ما أنزلكَ بهذهِ الأرض؟ قال: كُنّا بالشامِ، فقرأتُ: {وَالَّذِينَ ¬
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] قال مُعاوِيَةُ: ما هذه (¬1) فينا، ما هذه إلا في أهلِ الكِتابِ، قال: قلت: إِنَّها لَفينا وفيهم (¬2). فإن قيل: فالكنايَةُ إلامَ ترجعُ؟ فالجوابُ: أنه يجوزُ أن ترجع إلى الكنوزِ، ويجوز أن ترجع إلى الفضة، إمّا لأنها أعَمُّ من الذهبِ، أو لأنَّها أقربُ في الذِّكْرِ كما قال الشاعرُ (¬3): [البحر الخفيف] إنَّ شَرْخَ الشَّبابِ والشَّعَرَ الأَسْـ ... ـــــــود ما لَمْ يُعاصَ كانَ جُنونا أو للاكتفاء بذكرِها عن ذكرِ الذهبِ؛ كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] وكقول الشاعِر (¬4): [البحر المنسرح] نَحْنُ بما عِنْدَنا وأَنْتَ بِما ... عِنْدَكَ راضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ * * * ¬
من أحكام الجهاد
(من أحكام الجهاد) 169 - (15) قوله عَزَّ وجلَّ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]. * أَعْلَم (¬1) اللهُ -سبحانَهُ وتَعالى- في غيرِ ما مَوْضِعٍ من كتابهِ العزيزِ تعظيمَهُ لشأنِ الأَشْهُرِ (¬2) الحُرُمِ. وقد قَدَّمْتُ ذكرَ ذلكَ في مواضِعَ من كتابي هذا. وكانَ تعظيمُها من دينِ إبراهيمَ وإسماعيلَ -عليهما السلامُ- وتَمَسَّكَتْ بهِ العربُ، ثم غَيَّرَتْهُ بِالنَّسيءِ، فَأحَلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ، فأبطلَ اللهُ سبحانَهُ كُفْرَهُمْ وقَبيحَ ابتداعِهم، وحَرَّمَ علينا الظُّلْمَ فيهِنَّ، وخَصَّهُنَّ بالذِّكْرِ تعظيمًا لشأنِهِنَّ، وتَغْليظًا للظُّلْمِ فيهنَّ، وإنْ كانَ الظلمُ حرامًا في كلِّ زمانٍ ومكانٍ. وقد رُوي عن الصَّحابةِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- التَّغْليظُ في الجنايَةِ فيهنَّ وفي البَلَدِ الحرام. ¬
فروى ابنُ جُبَيْرٍ أَنَّ رجلًا قتلَ رجُلًا في البلدِ الحَرام، وفي الشَّهْرِ الحَرام. فقال ابنُ عباسٍ: ديتُهُ اثْنا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وأربعةُ آلافٍ تغليظًا للحَرَمِ، وأربعةُ آلافٍ تغليظًا للشهر الحَرامِ (¬1)، فَكَمَّلَها عِشرين ألفًا. وروي عن عُمَرَ -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: من قتلَ في الحَرَمِ، أو في الأشهُرِ الحُرُم، أو ذا رَحِمٍ محرمٍ، فعليه دِيَةٌ وثُلُثٌ (¬2). وبهذا قال أكثرُ العلماءِ، فغلَّظُوا الدِّيَةَ بذلك؛ كابنِ المسيَّبِ، وابنِ جُبَيْرٍ، وعَطاءٍ، وطاوسٍ، ومُجاهدٍ، وسليمانَ بنِ يَسارٍ، وجابرِ بنِ زيدٍ، والزُّهْرِيِّ، وقتَادَةَ، وإليه ذهبَ الأوزاعيُّ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ (¬3). وأما الباقونَ، فلم يُغَلِّظُوا بالجنايةِ في هذهِ الحرماتِ، ومنهم الشعبيُّ، والنخعيُّ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، ومالكٌ، وأبو حنيفةَ (¬4). ثم اختلف القائلون بالتَّغْليظِ. ¬
فذهبَ أحمدُ إلى أن التغليظَ يكونُ بثلثِ الديةِ، وأنه (¬1) يُجْمَعُ بين تغليظَيْنِ؛ لما رويَ عن عمرَ وابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم (¬2) -. وذهبَ الشافعيُّ في الجديد إلى أن التغليظَ إنما يكونُ بأسنانِ الإبلِ؛ كقتلِ العَمْدِ، وأنه لا يُجمع بينَ تَغليظين؛ كما لو قتلَ المُحْرِمُ صَيْدًا في الحَرَمِ؛ فإنه لا يجبُ إلَّا جزاءٌ واحدٌ (¬3). * وأعلمنا اللهُ سبحانه أَن عِدَّتَها أربعةٌ، ولم يختلفِ الناسُ في أعيانِها، وإنما اختلفوا في ترتيبِها: فقال الكوفيون: أَوَّلُها المُحَرَّمُ، ثم رَجَبٌ، ثم ذو القَعْدَةِ، ثم ذو الحجَّةُ، وجعلوها من سنةٍ واحدةٍ. وجعلها أهلُ المدينةِ من سنتينِ. ثُمَّ اختلفوا أيضًا في ترتيبِها، فقال بعضُهم: أولُها ذو القَعْدَة، ثم ذو الحِجَّة، لمَّ المُحَرَّمُ، ثم رجبٌ. وقالَ بعضُهم: أولُها رجبٌ، ثم ذو القعدةِ، ثم ذو الحجة، ثم المحرمُ؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قدِمَ المدينةَ في ربيعٍ الآخِرِ، وأولُ شهرٍ كانَ بعدَ قدومِه رَجَبٌ. والذي أختارُه هو الثاني؛ اتِّباعًا لترتيبِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬
روينا في "صحيح البخاري" عن أبي بكرةَ، عن أبيهِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الزمانَ قدِ استدارَ كهيئتِه يومَ خلقَ اللهُ السماواتِ والأرضَ، السنةُ اثنا عشرَ شَهْرًا، مِنْها أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثٌ مُتَوالِياتٌ: ذو القَعْدَةِ، وذو الحِجَّةِ، والمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بينَ جُمادى وشَعْبان" (¬1). * ثم أمرنا اللهُ -تباركَ وتَعالى- بقتالِ المشركين كافَّةً كما يُقاتِلوننا كافَّةً، فيحتملُ أن يكونَ أرادَ أن نقاتِلَهُم بأجمَعِنا. ويحتملُ أن يكونَ أرادَ أن نقاتلَ جميعَهم. فإنْ قَدَّرْنا (كافة) حالًا مِنّا، فقد قالَ سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] وقدْ قررتُ في "سورةِ البقرةِ" أنَّ الجهادَ فرضٌ على الكِفايَةِ، فالأمرُ هُنا محمولٌ على النَّدْبِ، أو على وَقْتِ الحاجَةِ إلى الكافَّةِ. وإنْ قدرناهُ حالًا من المُشركين، فقدْ قالَ اللهُ سبحانهُ وتَعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} (¬2) [التوبة: 123]. فعلمنا بهذا أن الأمرَ يختلفُ بحسب اختلافِ الأحوالِ، فإنْ كانَ في المسلمينَ كَثْرَةٌ وقُوَّةٌ، فالأَوْلى للإمامِ أَن يبعثَ السَّرايا في كُلِّ ناحيةٍ من نواحي المشركينَ؛ ليعلمَهُمْ (¬3) بالجِهاد والنِّكايَةِ، فإنْ كانَ المسلمونَ دونَ ذلكَ، خَصَّ بِالقتال الذين يلونَهُ، وبدأ بالأَهَمِّ فالأَهَمِّ من قتالِهم؛ كما فعل ذلكَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والخلفاءُ من بعدِهِ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم-. * * * ¬
170 - 171 (16 - 17) قوله عَزَّ وجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38 - 39]. * اختلفَ الناسُ في هذهِ الآيةِ. فقالَ قومٌ: إنها منسوخةٌ (¬1) بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] , ونُسبَ إلى ابنِ عباسٍ، والحسنِ، وعِكْرِمَةَ -رضي الله تعالى عنهم- (¬2). وقالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا نزلتْ هذهِ الآيةُ، اشتدَّ شأنُها على الناسِ، فنسخها اللهُ سبحانه، وأنزل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} (¬3) [التوبة: 91]. وقيل: إنها محكمةٌ مخصوصةٌ بحالةِ الحاجةِ إلى كافَّتِهم، والمعنى: إلَّا تّنْفِروا إذا احْتِيجَ إلى كافَّتِكم، يُعَذِّبْكُمْ. ¬
ويأتي ها هنا (¬1) تأويلٌ يرتفعُ به التَّعارُضُ والإشكالُ، وهو أنْ يقولَ: إنّ النَّفْرَ واجبٌ على الكافَّةِ منَ المؤمنين إذا نَفَرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وواجِبٌ (¬2) على بعضِهم إذا لم ينفرْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ بدليلِ قولهِ تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِه} [التوبة: 120]. وقد قَدَّمْتُ أنَّ هذا مذهبُ جماعةٍ من السَّلَفِ. ولكنَّ التخصيصَ بحالةِ الحاجةِ أشَدُّ وأَقْوى، وهوَ وإنْ كانَ باستِنْفارٍ واستِدْعاءٍ، فإنَّ الغزوةَ، وهي غزوةُ تبوكَ، تَسْتَدعي نَفْرَ الكافَّةِ؛ لبعدِها، وكثرةِ عَدوِّها، وعلى هذا فاحملْ جميعَ ما يأتي منْ هذا الباب مثل قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] وما أشبهها. * * * ¬
من أحكام الصدقة
(من أحكام الصدقة) 172 - (18) قوله عَزَّ وجَل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. * أقول: خَصَّ اللهُ سبحانَهُ الصَّدقاتِ لهؤلاءِ الأصنافِ الثَّمانيةِ، فلا يجوزُ لغيرِهم. وقد بَيَّنَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بنحو هذا لَمَّا سأَلهُ رَجُلانِ الصدقَةَ، فَصَعَّدَ بصرَهُ إليهِما وصَوَّبَهُ، ثم قال: "أُعطيكُما بعدَ أَنْ أعْلِمَكُما أَنْ لا حَظَّ فيها لِغَنِيٍّ، ولا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ" (¬1)، أو كما قال. * واتفقَ (¬2) أهلُ العلمِ على بقاءِ الحَظِّ للأصنافِ كُلِّها، ما خلا ¬
المُؤَلَّفَةَ، فإنهم اختلفوا في بقاءِ سَهْمِهِمْ. فذهبَ مالكٌ والشافعيُّ إلى أنه لا مؤلفةَ اليومَ (¬1)، وقد قطعهم عمرُ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه-، وقال: أَمَّا اليومَ، فقدْ أعزَّ اللهُ الإِسلامَ، فلا نُعطي على الإِسلامِ شيئًا (¬2)، وكذا عثمانُ وعليٌّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم-. وقال أبو حنيفةَ ببقاءِ سَهْمِهِم (¬3). * ثم اختلفوا في حقيقةِ الإضافةِ إلى الأَصْنافِ: فرأى قومٌ، منهمُ: الحَسَنُ، وإبراهيمُ، وعَطاءٌ، والضَّحَّاكُ، وابنُ جُبَيْرٍ: أن مَعْناها بيانُ مَحَلِّ الصدقاتِ فقط، لا حقيقةُ الاستحقاقِ على التَّعيينِ. ويروى عن عمرَ، وعليّ، وابنِ عباس، وحذيفةَ -رضي الله تعالى عنهم- (¬4). ¬
وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ (¬1). كأنهم التفتوا إلى المعنى الذي شُرِعَتْ له، وهو أنَّ المقصودَ بها سَدُّ الخَلَّةِ، ودَفْعُ الحاجَة، وهذا المعنى موجودٌ في الصنفِ الواحد. ورأى قومٌ منهمْ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والزهريُّ، وعكرمةُ: أن معناها حقيقةُ الاستحقاقِ، وبه قالَ الشافعيُّ (¬2). فإن قيل: فإنه يترجَّحُ من ثلاثةِ أَوْجُهٍ: أحدها: اتِّباعُ موضوعِ الخِطابِ، فاللامُ موضوعةٌ للتمليكِ حقيقةً، والواوُ موضوعةٌ للتشريكِ حقيقةً، وحملُهما على التخصيصِ والتخييرِ مَجازٌ، والحقيقةُ خيرٌ من المَجاز. ثانيها: قوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 60]: والفرضُ هو التقديرُ، وهذا يدلُّ على التقديرِ (¬3) بينَ الأصنافِ. ثالثها: ما خرج (¬4) أبو داود عن زياد بن الحارث الصُّدائي: أنَّ رجلًا سألَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيَهُ من الصدقةِ، فقالَ لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ لم ¬
يَرْضَ بحكمِ نبيٍّ ولا غيرِه في الصَّدقات حتى حَكَمَ هو فيها، فَجَزَّأَها ثمانيةَ أجزاءٍ، فإنْ كنتَ من نلكَ الأجزاءِ، أعطيتُكَ (¬1) حَقَّكَ" (¬2)، فإن صَحَّ هذا الحديثُ فهوَ بمكانَةٍ من الظهورِ في الاستِحْقاق. قلنا: هو كما ذكرتَ، ولكنه يدخلُه التأويلُ، فلقائلٍ أن يقولَ: إنما أرادَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الله جَزَّأَ الصَّدَقاتِ إلى ثمانيةِ أجزاءٍ حتى يخرجَ من الصدقةِ مَنْ ليسَ من تلكَ الأجزاء، فيقطعَ طَمَعَهُم فيها كما قَطَعَ طَمَعَهُمْ رسولُ اللهُ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لا تَحِلُّ الصدقةُ لِغَنِيٍّ، ولا لِذي مِرَّةٍ سَوِي" (¬3). وكذا معنى قوله: {فَرِيضَةً} يجوز أن يكونَ فريضة تفسيرًا لِحَصْرِ الصَّدَقاتِ في المذكورين في الآيةِ دونَ غيرِهم، فقد حصرَها اللهُ سُبْحانه لهم، وفيهم، لا بينهم. وهذا هو الذي أُفْتي به، وأختارُه. فلم يُنْقَلْ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قسمَ الصدقةَ أقسامًا، فأعطى كُلَّ صنفٍ منها (¬4) قِسْمًا، كما قسمَ الغنيمةَ بينَهُ وبينَ الغانِمينَ، وإنّما كان - صلى الله عليه وسلم - يسدُّ منها ¬
خَلَّةَ المحتاجينَ على اختلافِ أنواعِهم. وقد قَدَّمْتُ ما اخترتُهُ في خُمُسِ الغنيمةِ أن اللامَ ليستْ للاستحقاقِ، وسيأتي -إن شاءَ اللهُ تعالى- مزيدُ بيانٍ في الفيء. ولأنه لو كانَ لحقيقةِ التمليكِ في السِّهام (¬1) كما قالَ هؤلاء، لوجبَ إذا فُقِدَ صنفٌ من هذهِ الأصنافِ أن يكونَ نصيبُه لبيتِ المالِ، ولا يُرَدُ على بقيةِ الأصنافِ؛ لأن لهم حَظًّا مَعْلومًا، فلا يُعْطَوْنَ شيئًا لا يَمْلِكونَه، ولَوَجَبَ إن (¬2) فَضَلَ على صِنْفِ (¬3) سهمُهم، ونَقَصَ على (¬4) الآخرين سَهْمُهُم أَلَّا يُرَدَّ عليهم، وهم لا يقولونَ بجميعِ ذلك. فإن قلتَ: فهلْ نجدُ في الكتابِ أو في السُّنَةِ ما يَدُلُ على هذا؟ قلتُ: نعم: أما الكتابُ فقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 215] أيْ: يختص بهن (¬5) هؤلاءِ المذكورونَ. وأما السنةُ، فقولُه - صلى الله عليه وسلم - لِمُعاذِ لَمّا بَعَثَهُ إلى اليمنِ: "وأعلمْهُمْ أنَّ عليهمْ صَدَقَةً تُؤخَذُ من أغنيائِهم، وتُرَدُّ على (¬6) فُقَرائِهم" (¬7)، فالآيةُ جاءتْ لبيانِ الاختصاصِ، لا لبيانِ الاستحقاق، وحديثُ مُعاذٍ قصرَها على بعضِ الأصنافِ. ¬
* إذا علمتَ هذا، فقد اختلفوا في صفاتِ بعضِ الأصنافِ، وهم الفقراءُ والمساكينُ والرقابُ وابنُ السبيلِ، واتَّفقوا في بعضٍ. فأما الفقراءُ والمساكينُ: فقالَ الشافعيُّ: الفقراءُ: الزَّمْنَى الضعفاءُ الذينَ لا حِرْفَةَ لهم، وأهلُ الحِرَفِ الضعيفةِ الذين لا تقعُ حرفتُهم من حاجتِهم موقعًا. والمساكينُ: الذين لهمْ حرفةٌ تقع (¬1) موقعًا من كِفايَتِهم (¬2)، فهمْ أحسنُ حالًا من الفُقَراء. وهذا قولُ قتَادَةَ وبعضِ أَهْلِ اللغةِ (¬3)، فكأَنَّ الحاجَةَ كَسَرَتْ فَقاره. واحتجَّ له بأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يَتَعَوَّذُ من الفَقْرِ (¬4)، ويسألُ الله المَسْكَنَةَ (¬5)، وبقولهِ تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] , ¬
وبقول الشاعر (¬1): [البحر البسيط] أَمَّا الفقيرُ الذي كانَتْ حلوبَتُهُ ... وَفْقَ العِيالِ، فَلَمْ تَتْرُكْ لَهُ سَبَدا (¬2) وذهبَ مالكٌ وأبو حنيفةَ وأكثرُ العلماءِ وأكثرُ أهلِ اللغةِ إلى أن المسكينَ أَمَسُّ حاجَةً من الفقيرِ (¬3)، واحتجُّوا بقولهِ تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] , أي: لَصِقَ بالتُّرابِ من الحاجَةِ، فلا بَيْتَ يُؤْويه، ولا شَيْءَ يَكْفيه، فكأنه قدِ استكانَ من الحاجة. وأجابوا عن الآيةِ الأولى بأنه ذكرَ المَسْكَنَةَ على سبيلِ التَّرَحُّمِ من خَطَرِ المَلِكِ الغاصِبِ؛ كقولِ الشاعر (¬4): [البحر الطويل] مساكينُ أَهْلُ الحُبِّ حَتَّى قُبورُهُمْ ... عَلَيْها تُرابُ الله الذُّلِّ بَيْنَ المَقابِرِ وعلى الجملةِ، فالفرقُ بينهما عسيرٌ ولا يَصْفى لأحدِهم دليلٌ, لوقوعِ كُلِّ واحدٍ من الاسمين على الآخَرِ عندَ الانفرادِ، ولهذا ذهبَ أبو يوسُفَ، وابنُ القاسمِ، وسائرُ أصحابِ (¬5) الشافعيِّ إلى التسويةِ بينهما. ¬
* فإنْ قلتَ: فقد عَلِمْتُ حَدَّ الفقيرِ الذي يستحقُّ الصدقةَ عندَ الشافعيِّ، فَما حَدُّهُ عندَ غيرِه؟ قلتُ: اختلفَ فيه أهلُ العلمِ اختلافًا كثيرًا: فجعلَهُ أبو حنيفةَ مَنْ لمْ يَمْلِكِ النِّصابَ (¬1)؛ استدلالًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أن آخذَ الصدقةَ (¬2) من أغنيائِكم، فَأَرُدَّها على فُقرائكم" (¬3). وقالَ أحمدُ، وإسحاقُ، والثوري: لا يأخُذُ مَنْ له خَمْسون دِرْهَما، أو قَدْرُها من الذهبِ، ولا يُعطى منها أكثرَ من ذلك، إلَّا أنْ يكونَ غارِمًا (¬4)؛ لما رُويَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمَنْ لَهُ خَمْسونَ دِرْهَمًا" (¬5)، ولكنه ضَعَّفَه الحُفّاظُ. ورُوي عن مالكٍ: أَنَّهُ اعتبرَ أربعينَ دِرْهَمًا (¬6)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ ولهُ أوقِيَّةٌ، أو عَدْلُها، فقدْ سَأَلَ إلْحافًا" (¬7)، والأوقيةُ أربعونَ دِرْهَمًا. ¬
ومنهُمْ مَنِ اعتبرَ كفايةَ السَّنَةِ؛ استِدْلالًا بادِّخارِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قوتَ سَنَةٍ، مع قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8]. * وأَمَّا الرِّقابُ: فيحتملُ بأن يكونَ المرادُ أن يُشترى رِقابٌ وتُعْتَقَ، ويكونَ ولاؤها للمسلمين. وبهذا أخذَ مالكٌ وأحمدُ، ويروى عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما (¬1) -. ويحتملُ أن يكونَ المرادُ عامَّةَ المُكاتبَين فيما يُؤَدُّونَ في كتابَتِهم، فيعتقونَ. وبهذا أخذ الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ (¬2)، والليثُ، ويُروى عن ابنِ عباسٍ، وعليٍّ، وابن جبير -رضي الله تعالى عنهم (¬3) -. وقال الزُّهْرِيُّ: يُقْسَمُ ذلك نِصفين، نصفٌ يُدْفعِ إلى المكاتبَين، ونصفٌ يُشْتَرى به عبيدٌ مِمن صَلَّى وصامَ وقَدُمُ إسلامُهم، فيُعتقونَ (¬4). ¬
* وأَمَّا سبيلُ اللهِ: فذهبَ الجمهورُ، ومالِكٌ، وأبو حنيفة، والشافعيُّ إلى أنه الجهادُ؛ لغلبةِ عُرْفِ الشرعِ في ذلكَ، فيُعطْى المجاهدون المُطَّوِّعون ما يَسْتعينون بهِ على غَزْوِهِمْ من رِزْقٍ وسِلاحٍ وكُراعٍ (¬1). وذهبَ أحمدُ وإسحاقُ إلى أنه الحَجُّ (¬2)؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 34] , ولأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَمَلَ على إِبِلِ الصَّدَقَةِ للحَجِّ (¬3). وإذا قلنا: المرادُ بِهِ الغُزاةُ في سبيلِ اللهِ، فهل يُعْطَوْنَ مُطْلقًا، أو بِتَقَيُّدٍ بحالةِ الفقر؟ فيه خلافٌ، وبالأولِ قالَ الشافعيُّ، وأحمدُ، والجمهورُ، وبالثاني قال أبو حنيفةَ. كلا واتفقوا على أن الغارمَ المديونُ، وعلى أن ابنَ السبيل المسافرُ المُجْتاز، واختلفوا في المُنْشِئِ سفرًا من بلدِه، فأعطاهُ الشافعيُّ (¬4)، ¬
ومنعه مالكٌ وأبو حنيفة (¬1). * وعمومُ الآيةِ وإطلاقُها يقتضي جوازَ نقلِ الزكاةِ عن بلدِ المالِ. وبه قال أبو حنيفةَ ومالكٌ؛ لأن المقصودَ من الصدقات سَدُّ خَلَّةِ الفقيرِ (¬2)، ولما روى الدارقطنيُّ أن مُعاذًا -رضي الله تعالى عنه- قال لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مَكانَ الذُّرةِ والشَّعير في الصَّدَقَةِ؛ فإنه أيسرُ عليكُمْ، وأنفعُ للمهاجرينَ بِالمدينة (¬3). ومنعَ الشافعيُّ وأكثرُ أصحابِ مالكٍ نَقْلَها (¬4)؛ استدلالًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ -رضي الله تعالى عنه- حين بعثَه إلى اليمنِ: "وأعلِمْهم أن عليهم صَدَقَةً تُؤْخَذُ من أَغْنيائِهم، وتُرَدُّ في فُقرائِهم" (¬5)، ولا دلالةَ فيه؛ لأن فُقراءَ المسلمين بكلِّ مكان فقراؤهم؛ لكونِهم منهم، وإنما الدَّلاَلَةُ لو قال: وتُرَدُّ في فُقراءِ بلدِهم. * وبينَ النبيُّ أَنَّ آلَهُ -رضي الله تعالى عنهم- لم يرُادوا؛ لعموم ¬
الخطاب، فقال: "إنَّ الصدقَةَ لا تَحِلُّ لمحمدٍ، ولا لآلِ محمدٍ" (¬1). ثم اختلف الفقهاءُ هل هذا العمومُ الذي خُصَّ به عُمومُ الكتاب مخصوصٌ، أو لا؟ فذهب مالكٌ إلى تَخْصيصهِ بغيرِ العاملِ، فَجَوَّزَ للعامِلِ أن يأخذَ من الصدقةِ أجرَ عملِه (¬2). وأَبى أبو حنيفةَ والشافعيُّ تخصيصَهُ؛ لوجودِ العِلَّةِ، وهي قَرابَتُهُ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). * فإن قلت: فقد ذكرَ اللهُ سبحانَهُ مَصارِفَ الصَّدَقاتِ (¬4)، ولم يذكرْ تفصيلَها, ولا محلّ وُجُوبها، فهل ذكرَ ذلك في موضعٍ آخرَ من كتابِه جملةً أو تفصيلًا؟ قلتُ: نعم، ذكرها الله تعالى جملة، ووَكَلَ تفصيلَها وبيانَ مقاديرِها وأَنْصِباءَها إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -. أما صدقةُ النباتِ والثمارِ، فقد تقدَّم ذكرُها في "سورة الأنعام" عند قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. وأما صدقة الذهبِ والفضةِ، فقد تقدَّم ذكرُها في هذه السورة. وأما صدقةُ الماشيةِ، فذكرها الله سبحانه في آخر هذه السورة، وسيأتي الكلامُ عليها عندَ قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ومعلوم أن جلَّ أموالهِم الماشية. ¬
وفرض النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر للصائمِ صاعًا من تمر، أو صاعًا من بُرّ، أو صاعًا من شعير (¬1). * * * ¬
من أحكام الجهاد
(من أحكام الجهاد) 173 - (19) قوله عزِّ وجلِّ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله سبحانه بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللَّسان (¬1). قلت: وعلى هذا أجمع المسلمون (¬2)، فلم يقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منافقًا. * * * ¬
من أحكام الصلاة
(من أحكام الصلاة) 174 - (20) قوله عزَّ وجلَّ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80]. * اختلف الناس في معنى هذه الآية، هل هو المنعُ أو التخيير؟ وهل هي منسوخة، أو لا؟ 1 - فذهب الجمهور إلى أن معناها التخييرُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاستغفار لهم، وأن تخييرها منسوخ (¬1). واختلف هؤلاء في الناسخ لها. فذهب الجمهور إلى أن قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (¬2) [التوبة: 84]. وقال مقاتلُ: الناسخُ لها قوله تعالى {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (¬3) [المنافقون: 6] , وهو ضعيف جدًا؛ لأنه تخيير ¬
مثل المنسوخِ، وليس فيه أكثر من أنه أخبرهُ الله تعالى بأنه لا يغفرُ لهم من غير ذكر عدد إلا أن يريد أنها ناسخة لمفهوم العدد، وكان قد علم أنه إذا استغفر لهم أكثر من سبعينَ مرة، غفر الله لهم فنسخ الله هذا المفهوم. بدليل ما روينا في "صحيح البخاري" عن ابنِ عمرَ -رضي الله تعالى عنه- قال: لما توفي عبد الله بن أُبي، جاء ابنه عبدُ الله بنُ عبدِ الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله أن يعطيه قميصًا يكفن فيه أباه، فأعطاه، وسأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما خيرني اللهُ فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80]، وسأزيده على السبعين"، قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (¬1) [التوبة: 84]. 2 - وذهب قوم إلى أن معناه (¬2) النهي، فلم يبح الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - الاستغفار لهم بهذا اللفظ، فلا نسخ لجواز الاستغفار (¬3). بدليل قوله تعالى: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] , وإنما قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 84] ناسخة لفعل الصلاة على عبد الله بنِ أُبي المنافقِ، هكذا نقل هذا القول واشتهر، ولكن يصادمه ويبطله ما قدمنا من حديث ابن عمر المخرج في "الصحيحين". * فإن قلت: قد نهى الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الاستغفار لأهل النار، ¬
فقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] , وكان سبب نزولها وفاة أبي طالب كما رويناه في "صحيح البخاري" (¬1)، فكيف يستغفر النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن أبي ولا شك أن وفاته بعد وفاة أبي طالب؟ قلت: قد أذن الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بما أنزل (¬2) في "سورة المنافقين"، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُم} إلى قوله {الْفَاسِقِينَ} [المنافقون: 5 - 6] , ثم خيره الله سبحانه وتعالى في هذه الآية. فيحتمل أن يكون النهي منسوخًا بهؤلاء الآيات، وهنَّ منسوخاتٌ بقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]. ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر الاستغفار لأبي طالب، ويكرره بعد الهجرة اقتداء بإبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، كما كان يستغفر لأبيه قبل أن يخبره الله بأن المغفرة لهم متعذرة، وأن استغفاره لهم غير نافع، وكذا استغفاره للمنافقين، ثم نهاه الله عن الاستغفار لهم وقال {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] وقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] الآية. وهذا عندي أصحُّ وأولى من الأَوَّلِ، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] أي: لا سبيلَ إلى الخُروجِ منها، ومفهومُ الخطابِ يَقْتضي أنه لا حَرَجَ في الاستغفارِ قبلَ التَّبَيُّنِ، ويَدُلُّ ¬
عليهِ أيضًا تَبْيينُ اللهِ تعالى لنبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجْهَ العِلَّةِ في استغفارِ إبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كانَ لِعِلَّةٍ، وقد زالَ استغفارُهُ عندَ عَدَمِها. * * * 175 - (21) قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]. * نهى الله سبحانه نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاةِ على المُنافقين، والقِيامِ على قُبورهم. * وقد أجمعَ المسلمونَ على مَنْعِ الصَّلاةِ على المُنافقينَ في زَمَنِه - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وذلك إمَّا لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ - عَرَّفَهُم نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - في لَحْنِ القَوْلِ، أو أَعلمَه أنهم ماتوا فاسِقين. * ثم كرهَ مالِكٌ لأهلِ الفضلِ الصَّلاةَ على أهلِ البِدَعِ؛ زَجْرًا لهم. * ومَنَع الإمامَ أَنْ يُصَلِّيَ على مَنْ قَتَلَهُ حَدًّا؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُصَلِّ على ماعِزٍ، ولم يَنْهَ عنِ الصَّلاةِ عليهِ (¬2)، خَرَّجَهُ أبو داودَ (¬3). * ومنعَ قومٌ من الصَّلاةِ على قاتِلِ نفسِه (¬4)؛ لما روى جابرُ بنُ سَمُرَةَ: أن ¬
رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أبي أن يصلِّيَ على رجلٍ قتلَ نفسَه (¬1). * ومُقْتَضى هذا الخطابِ أَنَّ الصَلاةَ جائزةٌ على المؤمنين، بل أجمعَ المسلمونَ على وُجوبِها, ولم يَزَلِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي على مَوْتى المسلمينَ، إلَّا مَنْ كانَ مَدْيونًا؛ فإنهُ كانَ يأمرُ بالصَّلاةِ عليه، ولا يُصَلِّي عليه، ثم نُسِخَ ذلكَ (¬2). * واخْتَلَفوا في الشهيدِ: فقال مالِكٌ والشافعيُّ: لا يُغَسَّلُ، ولا يصلى عليه (¬3)، واحتجُّوا بما رواهُ جابرٌ -رضي الله تعالى عنه-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بشُهداء أُحُدٍ، فَدُفِنوا بثيابِهم، ولم يُصَلِّ عليهم، ولم يُغَسَّلُوا (¬4). وقال أبو حنيفةَ: لا يُغَسَّلُ، ويُصَلَّى عليه (¬5)، واستدَل بما خَرَّجَهُ أبو داودَ عنِ ابنِ عباس -رضيَ اللهُ تَعالى عنهُما-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -صَلَّى على قَتْلى أُحُدٍ، وعَلَى حَمْزَةَ، ولَمْ يُغَسَّلْ، ولم يُيَمَّمْ (¬6)، واستدَلَّ أيضًا بأحاديثَ مُرْسَلَةٍ. ¬
وأجابوا بمنعِ الاحْتِجاجِ في المُرْسَل، وإن سلمَ، فهو لا يقاوِمُ المُسْنَدَ، وبأنَّ حديثَ ابنِ عَبَّاسٍ يرويه ابنُ أبي الزِّنادِ، وقد كانَ اخْتَلَّ في آخرِ عُمُرِهِ، وقد كانَ شُعْبَةُ لا يَطْعُنُ فيه. * فإن قلتَ: نهى الله سبحانَه نبيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - عن الصَّلاة على المُنافقين؛ لِما فيه من الاستِغْفار لهم، فما مَعْنى المَنْعُ منَ القِيام على قُبورِهم؟ قلنا: العِلَّةُ فيها واحدةٌ، والمَنْعُ لأجلِ الاستِغْفار لهم؛ فقدْ كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقفُ على القبرِ بعدَ الدَّفْنِ، ويدعو للميِّتِ بالتَّثْبيتِ (¬1). وأما القيامُ على قُبورِهم من غيرِ استغفارٍ، فلا حَرَجَ فيه؛ فقدْ كانَ مَوْضِعُ مَسْجِدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قُبورًا للمشركين. وفي هذا دَلالَةٌ على أَنَّ حكمَ القِيام على القبورِ بالصَّلاةِ والاستغفارِ كَحُكْمِ الصَّلاةِ على المَيِّتِ قبلَ الدَّفْنِ، وبهِ قالَ الشافعيُّ وأحمد (¬2) وأبو داودَ (¬3)، وجماعةٌ، ورُوي ذلكَ من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬
وقال أبو حنيفة: لا يُصَلِّي على القبرِ إلَّا الوَليُّ أَوِ الوالي إذا فاتَتْهُ الصَّلاةُ (¬1). وقال مالكٌ: لا يُصَلَّى على القبرِ بحالٍ، واحتجَّ بتركِ أهلِ المدينةِ ذلك (¬2). قال ابنُ القاسم: قلتُ لمالكٍ: فالحديثُ الذي جاءَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه صَلَّى على قبرِ امرأةٍ (¬3)؟ قالَ: قد جاءَ هذا الحديثُ، ولكنْ ليسَ عليهِ العملُ. * إذا عرفتَ هذا، عرفتَ أنَّ المرادَ بالصلاةِ هو موضوعُها اللُّغَوِيُّ الذي هو الدُّعاءُ، لا معناها الشرعيُّ الذي هو الرُّكوعُ والسجودُ، وقد بيَّنَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كذلك، وقد جُعِلَ التكبيرُ بمنزلةِ أَفْعالِها (¬4). * واختلفَ سَلَفٌ من الصَّحابَةِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- في عددِ التكبيرِ. فاتفقَ فقهاءُ الأمصارِ على أن التكبيرَ أربعٌ، إلا ابنَ أبي ليلى وجابرَ بنَ زيدٍ؛ فإنهما قالا: هو خمسٌ وسِتٌّ. ¬
وخَرَّجَ مسلمٌ في "صحيحه" عن عبدِ الرَّحْمنِ بنِ أبي ليلى قال: كانَ زيدُ بنُ أَرْقَمَ يُكَبِّرُ على الجِنازَةِ أَرْبَعًا وخمسًا، فسألناهُ، فقال: كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يكبرُ على الجِنازة أَرْبَعًا، وخَمْسًا، وسِتًّا، وسَبْعًا، وثَمانِيًا، حتى ماتَ النَّجاشِي، فصفَّ الناسَ وراءه، وكَبَّرَ أربعًا، ثم ثبتَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على الأَرْبَعِ حتى تَوَفَّاهُ الله (¬1). * ولَمّا لاحَظَ أبو حنيفةَ هذا المعنى، قال: ليسَ فيها قراءةٌ، وإنَّما هي دعاءٌ (¬2). وكذلكَ قالَ مالِكٌ: قراءةُ القرآنُ فيها ليسَ بمَعْمولٍ به في بلدِنا، وإِنَّما نَحْمَدُ الله، ونُثْني عليهِ بعدَ التكبيرةِ الأولى، ثم نكبرُ الثانيةَ، فنصلِّي على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم نكبرُ الثالثةَ، فنشفَعُ للمَيِّتِ، ثم نكبرُ الرابعةَ، ونسلمُ (¬3). قال الشافعيُّ: يقرأُ بعدَ التكبيرةِ الأولى بفاتحةِ الكِتاب، ثم يفعلُ في سائرِ التكبيراتِ مثلَ ذلك (¬4)؛ لما رُويَ عن ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما- أنه صَلَّى على جنازَةٍ، فقرأَ بفاتحةِ الكِتاب، ثم قال: إنَّما فعلتُ ذلكَ لتعلَموا (¬5) أَنَّها سُنَّةٌ (¬6)، وبِهذا قال أحمدُ وداودُ -رحمهما الله تعالى-. ¬
من أحكام الجهاد
(من أحكام الجهاد) 176 - 177 (22 - 23) قوله عَزَّ وجَلَّ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91 - 92]. * أحكامُهُما ظاهِرَةٌ، مُتَّفَقٌ عليها في سُقوط النَّفْرِ عن جَميعِهم، وفي سُقوطِ القِتال مُطْلَقًا عن بَعْضِهم، وإنْ وجبَ على العبيدِ والفُقراءِ الذين لا يَجِدون ما يُنْفِقون في بعضِ الأحوالِ، وهِيَ إذا وَطِئَ المشركونَ دارَ الإِسلام -صانها الله من ذلك-. * وبينَ اللهُ سبحانَه الضُّعفاءَ في "سورةِ الفَتح"، فقال: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] وبيَنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النساءَ والصِّبيانَ من الضُّعفاءِ. * فإن قلتَ (¬1): فما حَدُّ المرضِ المُسْقِطِ لِفَرْضِ الجِهاد؟ قلنا: هو المرضُ الذي لا يُقْدَرُ معهُ على القِتال، وأور، المَرَضُ الخفيفُ كالحُمّى الخَفيفة، والصُّداعِ القليلِ، فلا يُسْقِطُ الفرضَ؛ للقدرةِ معهُ على القِتال. ¬
من أحكام الزكاة
(من أحكام الزكاة) 178 - (24) قوله عَزَّ وجَلَّ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]. * قال ابنُ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: لما تخلَّفَ عَشَرَةٌ من المُسلمين بِلا نِفاقٍ، منهم أبو لُبابَةَ، ومِرْداسٌ، وأبو قَيْسٍ، واعتذَروا، فلم يُعْذَورا حَتَّى أَوْثَقوا أَنْفُسَهم بِسواري المسجد باكين مُتَضَرِّعينَ، وحلفَ أبو لبابَةَ لا يَحُلُّهُ إلا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، نزلَ قولُه تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] فلما نزلتِ الآيةُ، أَطْلَقَهُمْ، فقالوا: هذه أموالُنا التي خَلَّفَتْنا، فأبى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخْذَها، فنزلَتْ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] فأخذَ الثُّلُثَ (¬1). قال الحَسَنُ: هذهِ الصدقةُ هي كَفّارةُ الذُّنوبِ التي أَصابوها, وليسَ بالزكاةِ. قال عِكْرِمَةُ: هي صَدَقَةُ الفَرْضِ (¬2). ويجوزُ أن يرادَ بها الصَّدَقتانِ: صدقةُ الطَّهارةِ من الذنوب، وصدقةُ ¬
التزكيةِ؛ فإنَّ العبرةَ بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السبب؛ بدليلِ قولي تعالى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، فقوله تعالى: {تُطَهِّرُهُمْ} إشارةٌ إلى الصَّدَقَةِ المُطَهِّرَةِ من الذُّنوبِ، وقولُه: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} إشارةٌ إلى الصدقةِ الواجِبَةِ المُزَكِّيةِ، وبدليلِ قولي تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي على كُلِّ مَنْ أَدَّى صدقةَ مالِه، امتثالًا لأمرِ ربِّه. روينا في "الصحيحين" عن ابنِ أبي أَوْفى قال: كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا أَتى قومٌ بصدقتهم، قال: "اللهمَّ صَل على آلِ فُلانٍ"، فأتاه أبي بصدقتِه، فقالَ: "اللهمَّ صَلِّ على آل أبي أَوْفى" (¬1). * إذا تَمَّ هذا فقد علمنا أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذْ من كُل أموالِهم صدقةً، فقالَ: "ليسَ للمرءِ المُسْلِمِ في عَبْدِهِ، ولا في فَرَسِهِ صَدَقَةٌ" (¬2). وأخذَ من الإِبِلِ والغَنَم، وأَمَرَ بالأَخْذِ منَ البَقَر. * وأجمعوا على أنه لا زَكاةَ في العُروضِ التي لم يُقْصَدْ بها التِّجارَةُ (¬3). * واختلفوا فيما اتُّخِذَ للتِّجارةِ. فأوجبَ الزكاةَ فيها فُقهاءُ الأمصار؛ لما رُوِيَ عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: أنه قالَ: أما بَعْدُ، فإنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يأمُرنا أن نُخرجَ الصدقةَ منَ الذي يُعَدُّ للبيع (¬4). ¬
ولما ثبتَ عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ -رضي الله تعالى عنهما-: أنه قالَ: ليسَ في العُروض زَكاةٌ، إلا أن يُرادَ بها التجارةُ (¬1)، ويروى عن عُمَرَ وعائشةَ، وحكاهُ ابنُ المنذرِ عنِ ابنِ عَبّاسٍ. وذهبَ بعضُ العُلَماء إلى أَنَّه لا زَكاةَ فيها، وبهِ قالَ أهلُ الظاهرِ، ويُروى عن ابنِ عباسٍ (¬2). قال الشافعيُّ: وإسنادُ الحديثِ عن ابنِ عباسٍ ضعيفٌ، وكان اتباعُ حديثِ ابنِ عُمَرَ لصحَّتِهِ، والاحتياطُ في الزَّكاةِ أَحَبُّ إليَّ (¬3). * وها أنا أتكلمُ على جمل مختصَرَةٍ من فرائضِ الزكاة؛ لئلَّا يخلوَ كتابي عن مِثْلِها - إنْ شاءَ الله تعالى-، فأقول: * أما الإبلُ: فقد اتفق الناس على العملِ بكتابِ الصدقةِ الذي كتبه أبو بكرٍ لأنسٍ رضيَ اللهُ تعالى عنهما- لما وَجَّهَهُ إلى البَحْرَيْنِ، وهو: "بسم اللهِ الرحمنِ الرحيم، هذه فريضةُ الزكاةِ (¬4) التي فرضَ اللهُ على المسلمينَ التي أمرَ اللهُ، فمنْ سُئِلَها على وَجْهِها، فليْعطِها، ومن سُئِلَ فوقَها فلا يُعْطِه: في أربعٍ وعشرينَ فما دونَها: من الإِبِلِ (¬5): في كُلِّ خَمْسٍ شاةٌ، فإذا بلغتْ خمسًا ¬
وعشرينَ إلى خمسٍ وثلاثين، ففيها بنْتُ مَخاضٍ أنثى، فإن لم يكنْ فيها بنتُ مَخاضٍ، فابنُ لَبونٍ ذَكَرٌ، وليس معه شيءٌ، فإذا بلغتْ سِتًّا وثلاثينَ إلى خمسٍ وأربعينَ، ففيها بِنْتُ لَبونٍ، فإذا بلغتْ سِتًّا وأربعينَ إلى سِتَّينَ، ففيها حُقَّةٌ طَروقَةُ الفَحْلِ، فإذا بلغتْ أَحَدًا وسِتِّين إلى خَمسٍ وسَبْعين، ففيها جَذَعَةٌ، فإذا بلغتْ سِتًّا وسَبْعينَ إلى تسعينَ، ففيها بِنْتا لَبونٍ، فإذا بلغَتْ أَحَدًا وتِسْعينَ إلى عِشْرين ومِئَة، ففيها حُقَّتانِ طَرُوقَتا الفَحْلِ، فإذا زادَتْ على عِشرينَ ومِئَةٍ، ففي كل أربعينِ بِنْتُ لَبونٍ، وفي كُلِّ خَمسين حُقَّةٌ (¬1). ولم يختلفوا إلا في قوله: فإذا زادت على عشرينَ ومئةٍ، ففي كُلِّ أربعينَ بنتُ لَبونٍ، وفي كُلِّ خمسينَ حُقَّةٌ؛ فإنه يعارضُهُ حديثُ حَمّادِ بنِ سَلَمَةَ قال: قلت لقيسِ بنِ سعدٍ: اكتبْ لي كتابَ أبي بكرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ في ورقةٍ، فكتبها ثم جاء بها، وأخبرني أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كتبه لجدِّهِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ في ذكرِ ما يخرجُ من فرائضِ الإبلِ، وكانَ في ذلكَ أَنَّها "إذا بلغَتْ تِسعينَ، ففيها حُقَّتانِ إلى أن تبلغَ عشرينَ ومِئةٍ، فإذا كانتْ أكثرَ من ذلكَ، ففي كُلِّ خَمسينَ حُقَّةٌ، فما فَضَلَ، فإنه يُعاد إلى أولِ فريضةِ الإبل، فما كانَ أَقَلَّ من خَمْسٍ وعشرينَ، ففيه الغَنَمُ، ففي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شاةٌ" (¬2). وما رُوي عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: فإذا بلغَتْ عشرينَ ومئةٍ، استعيدت بالغنم، ففي كُلِّ خمْسٍ شاةٌ، فإذا بلغَتْ خَمْسًا وعشرينَ، ففرائضُ الإبلِ، فإذا كثرتِ الإبلُ، ففي كُلِّ خمسينَ حُقَّةٌ (¬3). وما روي عن على -رضيَ اللهُ تعالى عنه- في الإبل إذا زادَتْ على ¬
عشرينَ ومئةٍ قال: تُرَدُّ الفَرائِضُ إلى أَوَّلِها، فإذا كثرتِ الإبلُ، ففي كل خمسينَ حُقَّةٌ (¬1). وبقولِ عليٍّ وابنِ مسعودٍ أخذَ أبو حنيفةَ، والثوريُّ (¬2)، وبالأولِ أخذَ جمهورُ أهلِ العلمِ، وإليه ذهبَ الشافعيُّ ومالكٌ (¬3). وأجابوا عن هذه الأحاديث المعارضة: أما حديثُ حَمَّادٍ، فمنقطعٌ بين أبي بكرِ بنِ حزمٍ وبينَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: إنه مع ذلك غلطٌ. قالَ أحمدُ بنُ حنبلٍ: ضاعَ كتابُ حَمّادِ بنِ سلمةَ عن قيسِ بنِ سَعْدٍ، وكان يحدثُهم من حفِظه (¬4)، أي: هذا سببُ خطئه. وكذا قال عليُّ بنُ المدينيِّ: ضاعَ كتابُ حَمّادِ بنِ سلمةَ (¬5) عنْ قيسِ بنِ سعدٍ في طريق مَكَّةَ، فكتبَها من حفظه (¬6). قالوا: ويدلُّ على الغلطِ أنَّ الزُّهْرِيَّ روى كتابَ عمرِو بنِ حزمٍ عن ¬
أبي بكرِ بنِ محمدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ بمثلِ كتابِ أبي بكرٍ، وكذا رواهُ غيرُ الزُّهْرِيِّ. وأما حديثُ ابنِ مسعودٍ، فموقوفٌ، وقالوا: إنه منقطعٌ أيضًا، والراوي غيرُ مُحْتَجٍّ به. وأما حديثُ علي -رضي الله تعالى عنه-، فقالوا أيضًا: إنه غلطٌ عن عَلِيٍّ، فإنه ذكرَ فيهِ في الإبلِ إذا كانَتْ خَمْسًا وعشرين، ففيها خَمْسُ شياهٍ، وهذا بخلافِ روايةِ الناسِ، وبأنه رواهُ أبو إسحاقَ عن عاصمِ بنِ ضَمْرَةَ عن عَلِيٍّ، وروى شريكٌ عن أبي إسحاقَ عن عاصِمِ بنِ ضَمْرَةَ عن عَلِيٍّ: أنهُ قال: إذا زادت الإبِلُ على عشرينَ ومئةٍ، ففي كُلِّ خَمسين حُقَّةٌ، وفي كُلِّ أربعينَ بنتُ لَبونٍ، وروى شعبةُ أيضًا عن أبي إسحاقَ عن عاصمٍ مثلَه. وذهبَ محمدُ بنُ جريرٍ الطَّبَرِيُّ إلى أن ربِّ المالِ بالخِيار بينَ أن يأخذَ بما قالَ به أبو حنيفةَ، أو يأخذَ بما قالَ مالكٌ والشافعيُّ. ثم اختلفَ القائلونَ بحديثِ أنَسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه- فيما إذا زادَ على مئةٍ وعشرينَ واحدةً. فذهبَ الشافعيُّ إلى تعيين بَناتِ اللَّبونِ إلى أن تبلغَ ثلاثينَ ومئةً، فتكون فيها (¬1) حُقَّةٌ وابنتا لَبونٍ، وبه قال ابنُ القاسمِ من المالكية (¬2). وذهبَ ابنُ الماجشونِ إلى تعيينِ الحِقَّتينِ إلى أن تبلغَ مئةً وثلاثينَ. وذهبَ مالكٌ إلى تخييرِ الساعي بينَ بناتِ اللَّبونِ والحُقَّتينِ (¬3). ¬
فأما الشافعيُّ فتمسَّكَ بقولِ الزُّهْرِيِّ: أقرأني سالمٌ نسخةَ كتابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وفيها: "وإذا كانَتْ إحدى وتسعين، ففيها حِقَّتانِ حتى تبلُغَ عشرينَ ومئةً، وإذا (¬1) كانتْ إحدى وعشرينَ ومئةً، ففيها ثلاثُ بناتِ لَبونٍ، فإذا بلغتْ ثلاثينَ ومئةً، ففيها بنتا لَبونٍ وحُقَّةٌ (¬2) ". وتَمَسَّكَ ابنُ الماجشونِ بظاهرِ حديثِ أَنَسٍ؛ فإنهُ القدرُ الذي يستقيمُ ويجتمعُ فيه حسابُ الأربعينات والخمسينات. وأما مالكٌ، فحمل الأمرَ على التخييرِ عَمَلًا بالدليلين. * وأما الغنم: فأجمعوا أيضًا على العمل بكتابِ الصدقةِ (¬3)، وهو ما روى ابنُ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كتَب كتابَ الصدقةِ، وفيه: "في الغَنَمِ في كُلِّ أربعينَ شاةً شَاةٌ إلى عِشرينَ ومِئَةٍ، فإذا زادَتْ على ذلك واحدةً، ففيها شاتان إلى مِئَتين، فإذا زادَتْ واحدةً، ففيها ثلاثُ شياه إلى ثلاثِ مئةٍ، فإذا كانَتِ الغنمُ أكثرَ من ذلكَ، ففي كُلِّ مئةٍ شاةٌ" (¬4). ولم يختلفوا إلا في الفريضَةِ الأخيرةِ، فأخذَ الجمهورُ بظاهرِ القولِ (¬5)، ¬
وقالَ الحسنُ بنُ صالحٍ: إذا زادَتِ الغنمُ على ثلاثِ مئةِ شاةٍ شاةً واحدةً، ففيها أربعُ شياهٍ، وإذا بلغتْ أربعَ مئةِ شاةٍ وشاةً، ففيها خمسُ شياهٍ، وروي مثلُ قوله عن إبراهيمَ (¬1). * وأما البقرُ: فاتفقوا على وجوب التَّبيع في ثلاثينَ، وعلى وجوبِ المُسِنَّةِ في الأربعينَ؛ لما روى طاوسٌ: أنَّ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ أخذَ من ثلاثينَ بقرةً تبَيعًا، ومن أربعينَ بقرةً مُسِنَةً، وأُتي بما دونَ ذلكَ، فأبى أن يأخذَ منهُ شيئًا، وقالَ: لم أسمعْ من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فيه شيئًا حتى ألقاهُ فأسأَلَهُ، فتوفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قبلَ أنْ يقدمَ مُعاذٌ (¬2). واختلفوا في موضعين: أحدهما: ما دونَ الثلاثينَ، فذهبَ الجمهورُ إلى أنهُ عَفوٌ لا شَيْءَ فيهِ (¬3). وحكيَ عن ابنِ المسيِّبِ والزُّهْرِيِّ: أَنَّهما قالا: في كل خَمْسٍ من البقرِ شاةٌ؛ كالإبل (¬4). ¬
وروي عن سعيدِ بنِ المسيِّبِ: أَنّها إذا بلغتْ خَمْسًا وعشرينَ، ففيها بقرةٌ، إلى خمسٍ وسبعينَ، ففيها بَقَرتانِ، فإذا جاوزَتْ ذلك، فإذا بلغتْ مئةً وعشرينَ، ففي كل أربعينَ بقرةٌ (¬1). وقالَتْ طائفةٌ: في كُلِّ عشرينَ من البقرِ شاةٌ، إلى ثلاثين، ففيها تبَيعٌ. الثاني: ما بين الثلاثينَ إلى الأربعينَ (¬2). فذهبَ الجمهورُ، كمالكٍ، والثوريِّ، والشافعيِّ، وأحمدَ إلى أنه وَقْصٌ لا شيءَ فيه (¬3)؛ لما روى طاوسٌ: أن معاذَ بنَ جبلٍ أُتي بوقصِ (¬4) البقرِ، فقالَ: لم يأمرْني فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ (¬5). وذهبَ أبو حنيفةَ في أحدِ أقوالِه إلى أنهُ لا وَقْصَ (¬6)، فإذا (¬7) زاد على الأربعينَ يجبُ فيه بالقِسْطِ من المُسِنَّةِ، فيجبُ في خَمسينَ مُسِنَّةٌ ورُبُعُ مُسِنَّةٍ؛ ¬
لأنَّ الأَصْلَ في الأوقاصِ الزكاةُ، إلَّا ما أخرجَهُ الدليلُ، وهذا لمْ يقمْ دليلٌ على إخراجِه، وإنَّما توقَّفَ فيه معاذٌ حتى يسألَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. ولقائِلِ أن يقولَ: لا نسلمُ عدمَ الدليلِ، بلِ الدليلُ موجودٌ، وذلكَ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَهُ إلى اليمنِ، وقد علم أنهم أهلُ بقرٍ، وبَيَّنَ لهُ فرائضَ صدقَتِهم، وأنها تؤخَذُ من أغنيائِهم، وتُرَدُّ في فُقرائِهم؛ لأنه وقتُ الحاجةِ إلى البيانِ، ولو وجبَ الزكاةُ فيما دونَ الثلاثينَ، لَبَيَّنَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه وقتُ البيانِ، ولهذا لم يأخذْها معاذٌ باجتهادهِ، وقد قالَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما سألَهُ عن طريقِ حكمه، فقال: أجتهدُ رأيي، ولا آلو (¬1)، وإنما وعدَهُم بسؤالِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إما (¬2) طَلَبًا لليقين الذي هو خيرٌ من الاستدلال، وإما لعلمه أن الوحيَ يطرقُهُ كُلِّ حينٍ، فينسخُ اللهُ من أحكامِه ما يشاءُ، ويتركُ ما يشاءُ، والله أعلم. * وجعلَ اللهُ سبحانَهُ الأَخْذَ إلى نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، فكذلكَ يكونُ الأَخْذُ بعدَهُ إلى الإمامِ، فيجبُ على رَبِّ المالِ بذلُ الصدقةِ إذا طلبها الإمامُ. وقد اتفق الفقهاءُ على وجوبِ الدفعِ إلى الإمام (¬3) عندَ طلبِه في الأموالِ الظاهرةِ (¬4). ¬
وفي الأموالِ الباطنةِ خِلافٌ عندَ الشافعيةِ والمالكية (¬1). واختلفَ قولُ الشافعيِّ في وُجوبِ الدفعِ إلى الإمامِ من غيرِ طَلَبٍ، وتفصيلُه مذكور في كُتُبِ الفقهِ. * * * 179 - (25) قوله عَزَّ وجَلَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} [التوبة: 113]. * منع اللهُ سبحانَهُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - من الاستِغْفار للمشركينَ إذا ماتوا على شِرْكِهم؛ لأنهُ وقتُ التبيُّنِ لهم أَنَّهم من أصحابِ الجحيم. * ومفهومُ الآيةِ يدلُّ على أنهُ يجوزُ أن يستغفرَ لهم قبلَ التبيُّنِ، ولا خفاءَ في جوازه؛ إذ الغفرانُ لهم يستلزمُ إسلامَهم، وقدْ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ أُحُدٍ حين شُجَّ وكُسِرَتْ رَباعِيَتُهُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمي؛ فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمونَ" (¬2)، إلا ¬
أن يقصدَ بالدعاءِ غفرانَ كُفرِهم معَ الاستمرارِ عليه، فهذا غيرُ جائزٍ إجماعًا. * إذا علمتَ هذا، علمتَ أنَّ قولَ مَنْ قالَ: إنَّ الله سبحانه بعثَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَبوَيْهِ، فآمنا به، ثم ماتا على الإيمانِ، غُلُوٌّ في الدينِ بغيرِ الحَقِّ مُؤَدٍّ إلى الكفرِ والضلالِ، فمن ظَنَّ، أو شَكَّ أَنَّ مَنْ ماتَ على الكُفْرِ يَدْخُلُ الجنةَ، فقد كَفَرَ، ونعوذُ باللهِ من قولٍ يؤدِّي إلى ضلالٍ. أَلَمْ يرَ هذا القائِلُ إلى قَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَبي وأباكَ في النّار" (¬1)، وقولِه في أُمِّهِ: "اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أستغفرَ لَها، فلم يَأْذَنْ لي، واستأذَنْتُهُ في أن أزورَ قبرَها، فَأَذِنَ لي" (¬2)، أو كما قال، فلله سبحانه أن يفعلَ في خلقِه ما يشاءُ، ويقضيَ فيهم ما يريدُ، وإن كانَ نبيُّه - صلى الله عليه وسلم - كريمًا عندَهُ، وعزيزًا لديه، فلا يُسْأَلُ عَمَّا يفعلُ، وهم يسألون. * * * ¬
من أحكام الجهاد
(من أحكام الجهاد) 180 - (26) قوله جَلَّ جَلالَهُ: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)} [التوبة: 120]. * أوجبَ اللهُ سبحانَهُ في هذه الآية على الكافَّةِ النَّفْرَ مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وحَرَّمَ التَّخَلُّفَ عنهُ، واستئثارَهُم بالراحةِ دونَه، ورَغْبَتَهُمْ بأنفسِهِم عن نفسِه؛ كما عَلَّلَهُ اللهُ، وجَوَّزَ لَهُمُ التخلفَ عن النَّفْرِ إِذا قامَ بهِ مَنْ فيه الكفايةُ، ولم ينفرْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لِيَتَفَقَّهوا في الدينِ، ولِيُنْذِروا قومَهم إذا رَجَعوا من الغزوِ، ويُخْبروهم بما سَمِعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد قَدَّمْتُ في سورةِ البقرةِ أَنَّ هذا مذهبُ ابنِ عَبّاسٍ، والضَّحّاكِ، وقتادةَ. وقال قومٌ هذهِ الآيةُ منسوخةٌ بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122]، ورُوي عن زيدِ بنِ أسلمَ. والصحيحُ ما قدمتهُ؛ لعدمِ التعارُضِ، ولإرشادِ الخِطاب إلى ما قلتُه
بدليلِ قصةِ الثلاثةِ المُخَلَّفين (¬1) ,، وتَأْثيمِهِمْ بالتخلُّفِ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حينَ نزلتْ توبَتُهُمْ منَ اللهِ سُبْحانه. * * * ¬
سورة يوسف
سُوْرَةُ يُوسُفَ
من أحكام المعاملات
(من أحكام المعاملات) 181 - (1) قوله جَلَّ جَلالُهُ: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} [يوسف: 72]. أقولُ: اشتملتْ هذهِ الآيةُ على حكمين: الأولُ: جوازُ عَقْدِ الجَعالَةِ عندَ مَنْ كانَ قَبْلَنا، وكذا جاءتْ به شريعتُنا. روى أبو سَعيدٍ الخُدْرِيُّ -رضي الله تعالى عنه-: أَنَّ ناسًا من أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَتَوْا حَيًّا من أحياءِ العَرَبِ، فلم يَقْروهُمْ، فبينما هم كذلك، إِذْ لُدِع سَيِّدُ أولئكَ، فقالوا: هل فيكُمْ راقٍ؟ فَقالوا: لم تَقْرونا، فلا نفعلُ، أو تَجْعَلوا لنا جُعْلًا، فَجَعلُوا لهم قطعَ شاءٍ فجعلَ يقرأُ رجلٌ بأمِّ القرآن، ويجمعُ بُزَاقَهُ ويَتْفُلُ، فَبَرَأَ الرحلُ، فأَتوهم بالشاء، فقالوا: لا نأخُذُها حتى نسأَلَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فسألوا عن ذلكَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَضَحِكَ وقالَ: "ما أَدْراك أنها رُقْيَةٌ؟ خُذوها واضْرِبوا لي فيها بِسَهْمٍ" (¬1). ويندرج في الآيةِ مسائلُ منَ الجَعالةِ: ¬
الأولى: يشترطُ أن يكونَ الجُعْلُ معلومًا كما قَدَّرَهُ اللهُ سبحانَه بِحِمْلِ البعيرِ. الثانية: يجوزُ أن يكونَ العاملُ مجهولًا، ويجوز أن يكون واحدًا واثنينِ، أو أكثر؛ كما يقتضيه الخِطابُ. الثالثة: يجوز أن يكون العملُ مجهولًا، إذا كان المقصودُ به معلومًا. الحكم الثاني: جوازُ الضَّمانِ، وقد جاءَتْ بذلكَ شريعَتُنا أيضًا. روى أبو قَتادةَ -رضيَ الله تَعالى عنه- قال: أُقْبِلَ بجِنازَةٍ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "هَلْ على صاحِبِكُمْ مِنْ دَيْنٍ؟ "، فقالوا: عليه ديناران، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "صَلُّوا على صاحِبِكُمْ"، فقال أبو قَتادَةَ: هما عَلَىَّ يا رسول الله! فصلى عليهِ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، هذا في المَيِّتِ، وقِسْنا عليهِ الحَيَّ. * وفي الآية دليلٌ على جَوازِ الضَّمانِ بمالِ الجِعالة قَبْلَ العملِ، وهو كذلكَ على أحدِ الوَجْهينِ عندَ الشافعية (¬2). * * * ¬
سورة النحل
سُوْرَةُ النَّحْلِ
من أحكام الطهارة
(من أحكام الطهارة) 182 - (1) قولُه جَلَّ جَلالُهُ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)} [النحل: 80]. أقولُ: هذه الآيةُ تشتملُ على حكمينِ: الأول: في جلود الأنعام، أطلقَ اللهُ سبحانَهُ الانتفاعَ بجلودِها، ولمْ يُقَيِّدْه بالذَّكاةِ قبلَ المَوْتِ، ولا بالدِّباغِ بعدَ الموتِ، فأخذَ الزهريُّ والليثُ بجَواز (¬1) الانتفاعَ بجلد المَيْتَةِ قبلَ الدِّباغِ (¬2). فإن قلتَ: هذا الإطلاقُ يعارضُهُ عمومُ قولِه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، والواجبُ عندَ تعارُضِ العُمومَيْنِ أَلَّا يُقَدَّمُ أحَدُهما على الآخَرِ إِلَّا بدليلٍ. قلتُ: لهما أن يقولا: ليستْ آيةُ "البقرةِ" (¬3) عامَّةً مُعارِضَةً لهذهِ الآية، ¬
فإنما المقصودُ منها تحريمُ الأكل؛ بدليلِ قولهِ - صلى الله عليه وسلم - في شاةِ مَيْمونَةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنها-: "أَلا انْتَفَعْتُمْ بجلدِها" فقالوا: يا رسول الله إنها ميتةٌ، فقالَ: "إنَّما حرمَ أكلُها" (¬1). وأبى عامةُ أهلِ العلمِ إلَّا تقييدَ هذهِ الآيةِ بجلودِ الأنعام المُذَكَّاةِ أو بِما بعد الدِّباغِ، واستدلُّوا بقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّما إهابٍ دُبغَ فَقَدْ طَهُرَ" (¬2)، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في شاةِ مَيمونَة: "هَلّا أخذتُمْ إهابَها فَدَبَغْتَمُوهُ فانْتَفعْتُمْ بهِ" (¬3). وقد أفتى بطهارَتهِ عاقَةُ الفُقَهاءِ من أهلِ الحجازِ وغيرِهم (¬4)، إلا مالكًا؛ فإنَّه قالَ في روايةِ ابنِ عبدِ الحَكَمِ: لا يَطْهُرُ بالدِّباغِ، ولكنَّهُ ينتفع بهِ في الأشياءِ اليابسةِ، ولا يُصَلَّى عليه، ولا يؤكل فيه، والمشهورُ عنهُ مثلُ عامةِ الفقُهاء (¬5). وأبعدَ أحمدُ فمنعَ الانتفاعَ بالجُلودِ بعدَ الدِّباغِ (¬6)، واستدلَّ بما خَرَّجَهُ ¬
أبو داودَ عن عبدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ قال: قُرئ علينا كتابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بأرضِ جُهَيْنَةَ، وأنا غلامٌ شابٌّ: أَلَّا تسْتَمْتِعوا منَ المَيْتةِ بإهابٍ ولا عَصَبٍ (¬1). وفي بعض رواياتِه: قَبْلَ موتِه بشَهْرٍ (¬2). وهذا القول ضعيفٌ؛ لأنَّ يحيى بنَ معينٍ ضَعَّفَ هذا الحديثَ، وقال: ليسَ بشيءٍ، إنما يقولُ: حَدَّثَنا الأَشْياخُ، وإن كانَ ثابِتًا، فالإهابُ إنَّما يقعُ على ما لَمْ يُدْبَغْ، وإن أُطْلِقَ عليهِ وإطلاقُه مقيَّدٌ بقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّما إهابٍ دُبغَ فقدْ طَهُرَ" (¬3)، فهذا عمومٌ مُؤَكَّدٌ بـ (ما) الزائدةِ، مُقَيَّدٌ بالدِّباغِ، محكومٌ له بالطهارة، يكادُ يُشارِفُ النَّصَّ. * ولأجل هذا اختلفوا في جلدِ الكلبِ والخِنْزيِر هل يَطْهُرانِ بالدِّباغ أو لا؛ فذهبَ داودُ وسحنونٌ وابنُ عبدِ الحكمِ إلى طهارتهِ؛ عملًا بعُموم هذا الحديثِ (¬4). ومنعَهُ الشافعيُّ مُطْلَقًا؛ لأنه -وإنْ كانَ عامًا - فلا يتناولُ صورةً نادرةً؛ لأنَّ العربَ لم يعتادوا الانتفاعَ بجلد الكَلْبِ والخِنزير ودباغِه، ولأنه ليسَ ¬
دِباغُهُما بأقوى مِنْ ذكاتهما، والذكاةُ لا تفيدُ في حَقِّهِما طَهارةً (¬1). ومنعهُ مالِكٌ في الخِنزيِر وَحْدَهُ؛ لقولِه بطهارةِ الكَلْبِ (¬2). الحكم الثاني: الشُّعورُ: أحلَّها اللهُ سبحانَه مُطْلَقًا: فيحتمل أن يكونَ مقيَّدًا بما بعدَ الذكاةِ؛ كما تقدمَ تقييدُ الجُلودِ بِما بعد الذكاةِ، أو بعدَ الدِّباغِ. ويحتملُ أن يكونَ حلالًا مُطْلَقًا على كُلِّ حالٍ؛ لِخُلُوِّها عنِ الحياة، وبهذا قالَ الجمهورُ كأبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعىِّ في أحدِ أقواله (¬3). واستحَبَّ المالكيةُ غَسْلَهُ مخافَةَ أنَّ يكونَ عَلِقَ بهِ وَسَخٌ؛ لما رَوَتْ أَمُّ سَلَمَةَ -رضيَ الله تعالى عنها-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا بَأْسَ بِمَسْكِ المَيْتَةِ إذا دُبِغَ، وشَعْرِها وصوفِها إذا غُسِلَ" (¬4)، وتأويلُهم هذا أحسنُ من قولِ الحسنِ البصريِّ والليثِ والأوزاعي: إن الشعورَ نجسةٌ، ولكنها تطهُرُ بالغَسْلِ (¬5). وقالَ الشافعيُّ في أحدِ أقوالِه بنجاسَتِها إلا مِنْ مُذَكًّى، وهو الصحيحُ ¬
عندَ أصحابِه؛ لما فيها منَ النُّمُوِّ، فهي كسائرِ أجزائِهِ. والراجحُ عندي قولُه الآخَرُ الموافِقُ للجُمهورِ؛ لما قدمتُه، وأما النموُّ، فلا دَلالَةَ فيه على وجودِ الحياةِ وحلُولِ الروح؛ بدليلِ نُمُوِّ النباتِ والأشجار، والله أعلم. * * *
من أحكام الأيمان
(من أحكام الأيمان) 183 - (2) قوله جَلَّ جَلالُهُ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)} [النحل: 91]. * ذهب طائفةٌ من أهل العلم إلى أن هذهِ الآيةَ منسوخةٌ بقوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} [النور: 22] الآية، فكانَ نزولُها في أبي بكرٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- لَمّا حَلَف أَلَّا يُنْفِق على مِسْطَحٍ شيئًا أبدًا لَمَّا خاضَ في الإفكِ مع الخائضين، فَحَنِثَ أبو بكرٍ، وكَفَّر عن يمينهِ، وردَّ إلى مسطحٍ ما كان يعطيهِ، وقال: لا أقطعهُ عنهُ أبدًا (¬1)، وبقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا} [البقرة: 224]. وذهبَ أكثرُ الناسِ إلى أنها محكمةٌ مَخْصوصَةٌ في العُهودِ التي تكونُ بينَ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - وبينَ العربِ، أو تكونُ بين الناسِ. ¬
وهذا هو الصوابُ -إنْ شاءَ الله تعالى-، ويدلُّ عليهِ ذكرُ العَهْدِ في أول الآية، وقولُه تعالى في آخرها: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91]، وهذه الكفالَةُ لا تكونُ إلا في العهدِ بينَ الناس. * * *
من أحكام الصلاة
(من أحكام الصلاة) 184 - (3) قولهِ عَزَّ وَجلَّ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98]. * أمرَ اللهُ سبحانَه نبيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذَةِ عندَ قراءةِ القُرآنِ. فذهبَ بعضُ أهلِ العلمِ إلى أنُه كانَ فَرْضًا في حَقِّ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، فجعلَهُ من خَصائِصِه، وهذا باطلٌ لأمرين: أحدهما: عدمُ الدلالةِ على التَّخْصيصِ، وموُاجهتُهُ - صلى الله عليه وسلم - لا تدلُّ على التَّخْصيص، وإلا لاقْتَضى الأمرُ تخصيصَهُ بأكثرِ أَحْكامِ القرآن. والثاني: ما روى مالكٌ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن عطاءِ بن يَسارِ: أنَّ رجلًا قبَّلَ امرأَتُه وهو صائِمٌ، فوجدَ من ذلكَ وَجْدًا شديدًا، فأرسل امرأَتَهُ تسألُ عن ذلكَ، فدخلَتْ على أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ المؤمنين، فأخبرتْها، فقالَتْ أُمُّ سلمةَ -رضي الله تعالى عَنْها-: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ وهو صائمٌ، فرجعَتِ المرأةُ إلى زوجِها فأخبرتْهُ، فزادَهُ ذلكَ شَرًّا؛ وقال: لسنا مثلَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، يُحِلُّ اللهُ لرسوله ما شاءَ، فرجعتِ المرأةُ إلى أمِّ سلمَةَ، فوجدَتْ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عندَها، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بالُ هذِهِ المَرْأَةِ؟ "، فأخبرتهُ أُمُّ سلمةَ، فقالَ: "أَلا أَخْبَرْتيها أَنِّي أفْعلُ ذلك؟ " فقالَت أُمُّ سلمةَ: قد أخبرتُها، فذهبَتْ إلى زوجِها، فأخبرَتْهُ فزادَهُ ذلكَ شَرًّا، فغضبَ
رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثم قالَ: "والله إنِّي لأَتقاكُمْ للهِ، وأَعْلَمُكُمْ بحدودِهِ" (¬1). والذي إليه ذهبَ عامَّةُ أهلِ العلمِ بالقرآن من القُرَّاء والفُقَهاء إلى أنه على النَّدْبِ في حَقِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وفي حَقِّ أُمَّتِهِ (¬2). وإنَّما اختلفوا في الجَهْر والإِسرار، أَيُّهما أَفْضَلُ؟ * وحكي عن عَطاءٍ أن التعوذَ واجبٌ داخلَ الصَّلاةِ، غَيْرُ واجبٍ خارِجهَا. قال الزُّهْرِيُّ: نزلَتِ الآيةُ في الصَّلاةِ، ونُدِبْنا إلى الاستعاذةِ في غير الصلاة. * ثم اختلفوا في مَحَلِّ التَّعَوُّذِ: فذهبَ داودُ إلى أنَّ التعوذَ بعدَ القراءةِ، وأخذَ بظاهِرِ الترتيب، ويُروى عن أبي هُريرةَ -رضيَ اللهُ عنه-، ويحكى عن مالكٍ أيضًا (¬3). وذهبَ العامَّةُ منهم إلى أنَّ مَحَلَّهُ قَبْلَ القراءةِ، والمعنى: فإذا أَرَدْتَ أن تقرأَ القرآنَ، فاستعذْ باللهِ. وقيل: إنِ في الخِطاب تقديمًا وتأخيرًا؛ لأن كُلَّ فِعْلين تقاربا في المعنى، جاز لكَ تقديمُ أَيِّهِما شئتَ؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)} [النجم: 8]، المعنى: فتدَلَّى، ثم دَنا، وكقولهِ تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} [القمر: 1]، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152]. * * * ¬
من أحكام المعاملات
(من أحكام المعاملات) 185 - (4) قولِهِ جَلَّ جلالُهُ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل: 106]. * أقولُ: أجمعَ الفقهاءُ واتفقوا على أنَّ الإكراهَ مسقِطٌ لأثرِ القولِ (¬1)، وإن كان عَظيمًا كما ذكره الله سبحانَه. قال النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتي الخَطَأُ والنِّسيانُ وما اسْتكرِهوا عليهِ" (¬2). وسبب الآية ما رويناه في قصةِ عَمّارِ بن ياسرٍ أَنَّ المشركينَ أَخذوهُ، فلم يتركوه حَتَّى سَبَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، وذكرَ آلِهَتَهُمِ بِخيرٍ، ثم تركوهُ، فقالَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا عَمّارُ! ما وراءَكَ؟ " قال: شَرٌ، يا رسولَ الله ما تُرِكْتُ حتى نِلْتُ منكَ، وذكرْتُ آلهتَهُم بخيرٍ، فقال: "كيفَ تجدُ قلبَكَ؟ " قلت: مُطْمَئِنًا بالإيمان، قالَ: "إن عادُوا فَعُدْ"؛ فأنزلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} ذلك عمارُ بنُ ياسرٍ، {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} ذلكَ عبدُ اللهِ بنُ أبي سَرْحٍ (¬3). ¬
واختلف الشافعيةُ هلِ الأفضلُ الصبرُ على الإسلام، أو إعطاؤهم ما طلبوا، والتخلُّصُ من أيديهم؟ فقال بعضُهم: الأفضلُ الصبرُ؛ لما روى خَبَّابُ بن الأَرَتِّ -رضيَ الله تعالى عنه-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنْ كانَ الرجلُ مِمَّنْ كانَ قبلَكُم لَيُحْفَرُ لَهُ في الأرضِ، فَيُجْعَلُ فيها، فَيُؤْتَى بمِنْشار، فيوضَعُ على رأسِهِ، فَيُشَقُّ باثْنَينِ، فلا يَمْنَعُهُ ذلكَ عَنْ دينِه، ويُمَشَّطُ بِأَمْشاطِ الحديدِ ما دُونَ عَظْمِهِ منْ لَحْمٍ وعَصَبٍ، فما يَصُدُّه ذلكَ عَنْ دينِه" (¬1). وقال بعضُهم: إن كانَ ممَّنْ يَرْجو النِّكايةَ في العَدُوِّ أو القيامَ بأحكامِ الشرعِ، فالأفضلُ له أن يدفعَ القتلَ عن نفسِه؛ لما في بقائِه من صلاحِ المسلمينَ، وإلَّا فالصبرُ في حَقِّه أَفْضَل (¬2). * وقد أجمعوا على أنَّ الإسلامَ يصحُّ معَ الإكراهِ، كإسلامِ أهل مَكَّةَ وغيرهم منَ المُنافقين. * واختلفوا في سُقوط أَثَر الطَّلاقِ: فذهبَ جُمهورُ أهلِ العِلْمِ منَ الصَّحابةِ والتابعينَ إلى سُقوطِهِ، فلا يَقَعُ طلاقُ المُكْرَهِ. وذهب الزُّهْرِيُّ والكوفِيُّونَ إلى وُقوعِ طلاقِه؛ كالهازِل؛ فالرِّضا ليسَ بشرطٍ في الطلاق (¬3). ¬
* وأما أثَرُ الفِعْلِ: فأجْمَعوا على أنه يسقط أثرُه في المَأْثَم في جميعِ ما أُكْرِهَ عليه، إلا في القتلِ؛ فإنهم اتفقوا على أنه لا يرفع المَأْثَمَ. واختلفوا هل يسقُطُ ما يتعلقُ بالفِعل من الأحكامِ؛ كالقِصاص على المُكْرِه؟ وتفصيلُ ذلكَ وغيرِه في كتبِ الفقه (¬1). * وكذلك اختلفوا في حَدِّ الإكراه. ولا خَفاءَ بأنه يختلفُ بحسبِ الأَمْرِ المُكْرَهِ عليه، وهذا مهما بقيَ له من (¬2) تَمامِ عَقْلٍ واختيارِ فعلٍ، فأما أَداءُ الحَىِّ إلى حَدٍّ لا يبقى له فيهِ اختيارٌ؛ كما إذا أُلقِيَ من شاهِقِ جَبَلٍ، فَقَتلَ إنسانًا بثقلهِ، فغيرُ مُكَلَّف، ولا داخِلٌ في الخِطاب اتفاقًا. فإن قلتَ: فالآيةُ تدلُّ على أن المُكْرَهَ غيرُ مكلَّفٍ، ولا داخِلٌ في الخِطابِ، وهذهِ مقالَةُ المعتزلةِ، وربما نُسبت إلى الحَنفيةِ، والذي عليهِ الأشعريةُ، وقالَهُ جماعَةُ الشافعيةِ أَنَّهُ مكلَّفٌ داخلٌ في الخِطاب، فما الجوابُ؟. ¬
قلتُ: الفقهاءُ يتكلمونَ في الوقوع، ولم يقعْ في الشرعِ تكليفُ المُكْرَهِ، والمتكلمونَ يتكلمونَ في الجَوازِ والامتناعِ العَقْلِىِّ. فعندَ الأشعريَّةِ تكليفُه جائزٌ غيرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا، وإنْ لمْ يقعْ شرعًا. وعند المعتزلةِ تكليفُهُ غيرُ جائزٍ عَقْلًا ولا شَرْعًا. فإن قُلْتَ: هذا الخطابُ (¬1) يبطلُ باستدلالِهم على تكليفِه بانِعقادِ الإجماعِ على تَأْثيمِه عندَ الإكراه على القتل، وهذا يدلُّ على أنهم يريدونَ أَنَّ تكليفَه واقعٌ شرعًا، وأنهم يتكلمون في الوُقوع الشرعيِّ، لا في الجوازِ العقلىِّ. قلنا: قد أجابَ بعضُ المحققين من مُتَأَخِّري الأشعرية لمّا اختارَ مذهبَ المعتزلةِ هُنا، فقال: إنما أثم لأنه آثرَ نفسَه على غيرهِ، لا من حيثُ إنه مكرَهٌ، فهو إنما أُكْرِهَ على القَتْل، ولم يُكْرَهْ على إيثارِ نفسِه على غيرِها، فجهةُ الإيثارِ لا إكراهَ فيها، فيأثم من جِهَتِها، وجهةُ الإكراهِ لا إثمَ فيها، فهو إنَّما خُيِّرَ بين إزهاقِ روح غيرِه، وإلقاءِ نفسهِ في التَّهْلُكَةِ، فأصلُ القتلِ لا عقابَ فيه، والقَتْلُ المخصوصُ بغيره فيه العقابُ؛ لتضمُّنهِ وجودَ الاختيارِ وإيثارَ نفسِه على غيرِه. قال: وهذا تحقيقٌ حسنٌ، وهو كما قالَ؛ فإنه لو كان تأثيمُه لأجلِ القتلِ فقطْ، لما اختلفَ الفُقهاءُ في وُجوبِ القِصاص عليه، ولما طَلُقَتْ إحدى الزوجتين إذا عَيَّنَها بالطَّلاقِ عندَ الإكراهِ على طَلاقِ إحْدى الزوجتين. وقد أدركَ الفقهاءُ هذا المَدْرَكَ في مواضِعَ كثيرةٍ؛ كمثلِ ما حكموا بِعَدِمِ ¬
فطْرِ الصائِم إذا أُوجِرَ (¬1)، واختلفوا فيما إذا أكلَ بنفِسه (¬2). ولكنِّي أنكرُ على هذا المُجيب اختيارَهُ بمقالةِ (¬3) المعتزلة؛ فإنهم إنما بَنَوا عدمَ تكليفِه على قاعدةِ الحُسْنِ والقُبْحِ، والأشعريةُ إنما جَوَّزوا تكليَفه لصلاحِ الخطاب له، مع وجودِ عقلِه، وثبوتِ اختيارِه، فلينتبهْ لهذا؛ فإنه تحقيقٌ حسنٌ. والحَقُّ أنه داخلٌ في الخِطابِ، مُكَلَّفٌ بالشَّرائعِ، لكنَّهُ رَخَّصَ لهُ الشرعُ في فِعْلِ الأمرِ المُكْرَهِ عليه، ورَفَعَ عنهُ الإثمَ؛ كما رفعَ عنهُ الإثمَ في أكلِ المَيْتة، قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ عن أُمَّتي الخَطَأُ والنِّسْيانُ وما اسْتُكرِهوا عليه" (¬4). فإنْ قلتَ: فهلْ يوصَفُ فعلُ المكرَهِ بالحَلالِ، أو بالحرامِ، وإنما رُخِّصَ لهُ الفعلُ، ورُفِعَ عنهُ المَأْثَمُ؟ قلنا: قد مضى في "سورةِ البقرةِ" في أكلِ الميتَةِ خلافٌ يشبهُ أنْ يكونَ هذا مثلَه، والله أعلم. * * * ¬
سورة الإسراء
سُوْرَةُ الإسْراءِ
من أحكام البر والصلة
(من أحكام البر والصلة) 186 - (1) قوله جَلَّ جلالُهُ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)} [الإسراء: 23]. * عَظَّمَ اللهُ سبحانَهُ شأنَ الوالِدَيْنِ، فَقَرَنَ الإِحْسانَ إليهِما بعبادتِه جَلَّ وعَلا في هذهِ الآيةِ، وقَرَنَ شُكْرَهُ بشُكْرِهِما في مَوْضِعٍ آخَرَ، فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]. وورَدَ في السُّنَّةِ في بِرِّهِما أحاديثُ كثيرةٌ يطولُ بنا ذكرُها. * ثم بَيَّنَ اللهُ سبحانَهُ صِفَتَهُما: فأوجَبَ برَّهُما وإِنْ كانا كافِرَيْنِ، ثم بَيَّنَ ذلكَ في موضعٍ آخَرَ فقال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]. ثم فَصَّلَ الإحسانَ إليهما قَوْلًا وفِعْلًا: أمَّا القَوْلُ، فنهى اللهُ سبحانَهُ الولَدَ عن أنْ يقولَ لَهُما قَوْلًا قَبيحًا، وأَمَرَهُ أَنْ يقولَ لَهُما قَوْلًا كَريمًا، فقال: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)} [الإسراء: 23]. وأَمَّا الفِعْل، فأمَرَهُ أن يَخْفِضَ لَهُما جناحَ الذُّلِّ بسببِ الرَّحْمَةِ لَهُما،
فقال: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]، وذلكَ غايةُ ما ينتهي إليهِ الخضوعُ. * ثم أمرَهُ بالدُّعاءِ لهما مُطْلَقًا بعدَ المَمات وقبلَهُ؛ شكرًا لإحسانِهما إليهِ في صغرِه. فإن قلتَ: فهل يجبُ على الوَلَدِ الدُّعاءُ لِوالِديْهِ، أو يُسْتَحَبُّ؟ قلت: لا أعلمُ فيه شيئًا، والذي ينبغي أَنْ يكونَ واجِبًا لإِطلاقِ الأمرِ الذي أمرَ اللهُ بهِ، وبَيَّنَ عِلَّتَهُ، أَلا وهو تربيتُهما لهُ في صِغَرِهِ، وذلكَ من جُمْلَة الشكرِ الذي أمرَ اللهُ تعالى به جُمْلَةً. فإن قلت: هذه الآية تَقْتضي أن يدعوَ لَهُما وإنْ كانا كافِرَيْنِ؛ لعطفهِ ذلكَ على الإحسانِ الذي هوَ واجبٌ لهما مُطْلَقًا، وقَدْ نهى اللهُ سبحانَهُ عن الدُّعاءِ للمشركين، ولو كانوا أُولي قُرْبى، وقد استقرَّ الأمر على تحريمه. قلت: يحتمل أن تكونَ هذهِ الآيةُ عامَّةً مطلَقَةً، ثم نُسِخَ (¬1) منها الدُّعاءُ للوالِدَيْنِ الكافِرَيْنِ المَيِّتَيْنِ بآيةِ (براءة) (¬2)، وروي هذا عنِ ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-. ويحتملُ أن تكونَ عامَّةً مخصوصة بالوالدينِ إذا كانا حَيَّيْنِ، ويكونَ منَ اللفظِ الذي يردُ عاماً، ويُرادُ بهِ الخُصوصُ، وقد ثبتَ فيما مضَى جوازُ الاستِغْفار لهُما، وإنْ كانا كافِرَيْنِ. ويحتملُ أن تكونَ خاصَّةً في الوالدينِ المسلمين، ويكونَ من اللفظ ¬
الذي يكونُ عامًّا، ويُرادُ بهِ الخُصوص. والقولُ بهذينِ الاحْتِمالَيْنِ أَوْلى؛ إذْ لا يجوزُ النَّسْخُ مَعَ إمكانِ الجَمْعِ والتَّخْصيص. * * * 187 - (2) قوله جَلَّ جَلالُهُ: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)} [الإسراء: 26]. * يحتملُ أن تكونَ خاصَّةً بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لقرابَتِه، وبمَنْ قامَ مقامَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ويكونَ المرادُ بهذه الآية ما فُرِضَ لهم من الغَثيمةِ والفَيْءِ؛ فإن الحقَّ المختَصَّ بذوي القُرْبى مُخْتَصٌّ بهما. * ويحتملُ أن تكونَ عامَّةً في المُؤْمنين، وأنَّ الخطابَ معه خِطابٌ لأمته، ويكونَ المرادُ ما يصلُ بهِ الرجلُ ذَوي قَرابَتِهِ، وما يَصِلُ به المِسكينَ وابنَ السبيلِ، إمَّا تَطَوُّعًا، أو فرْضًا، كما هو حَقُّهُما في الصَّدَقات. * ولا خَفاءَ بأنَّ صِلَةَ ذَوي القُرْبى (¬1) واجبةٌ على الإطلاق، ولكنْ هلْ تَجِبُ الصِّلَةُ بالمالِ؟ والذي ذهبَ إليهِ الجُمهور أَنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ المالُ لَهُمْ، فَلِرَبِّ المالِ أن يصرفَ زَكاتَهُ وسائِرَ صدقاتِهِ إلى غَيْر ذَوي قَرابَتَه. وذهب بعضُهم إلى أنه يجبُ على الغَنِيِّ أَنْ يصلَ ذا (¬2) قرابتِه بِشَيْءٍ منْ مالِه، ولم يَحُدَّهُ بِحَدٍّ، وأحسبُ حَدَّهُ عندَه -والله أعلم- ما يُعَدُّ في العادَةِ صِلَةً بينَ ذوي القربى. * * * ¬
من أحكام القصاص
(من أحكام القصاص) 188 - (3) قولهُ عَزَّ وجَلَّ: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} [الإسراء: 33]. * جعل اللهُ سبحانَهُ في هذهِ الآيةِ لِوَلِيِّ المَقْتول ظُلْمًا سلطانًا، أَيْ: حُجَّةً وبُرهانًا على قَتْلِ القاتِلِ، وحَرَّمَ الله تَعالى عليهِ الإسرافَ في القَتْلِ، وهوَ أَنْ يأخذَ أكثرَ مِمَّا لهُ؛ بأنْ يقتلَ غيرَ القاتِل، أو يعذبَ القاتِلَ في القَتْلِ، أو يَقْتُلَهُ بما هو أغلظُ في القَتْلِ، أي: في الآلةِ التي قَتَلَ بِها. * وفي الآية دَلالَةٌ على أن للولي أن يقتلَ بنفسِهِ؛ لأنَّ بذلكَ يُتَصوَّرُ النَّهْيُ عنِ الإسرافِ، ويتمُّ بهِ السلطانُ. وقد اتفقَ الناسُ على ذلكَ في القتل (¬1). وأَمَّا في الجُروح، ففيهِ خِلافٌ عندَ الشافعية، منهم من جعلَهُ كالقتل، ¬
ومنهم من مَنَعَ الوَليَّ أن يَتَوَلَى القِصاص؛ خشيةَ التَّعَدِّي في الاستيفاءِ (¬1). * واختلفَ أهلُ العلمِ في حقيقةِ الوَلِيِّ: فذهب مالكٌ والزهْرِيُّ إلى أَنَّهُ العَصَبةُ من الرجالِ؛ لأنَّ القِصاصَ يُرادُ لدفعِ العارِ، فاختصَّ بهِ العَصباتُ؛ كولايةِ النِّكاحِ (¬2). وذهبَ ابنُ شُبْرُمَةَ إلى أنهُ من يَرِثُ بِنَسَبٍ دُونَ سَبَبٍ، فتخرجُ الزوجةُ والزوجُ؛ لانقطاعِ الزوجِيَّةَ بالموتِ. وذهبَ أبو حنيفةَ، والثوريُّ، والشافعيُّ، وأحمدُ إلى أنه جميعُ الورثةِ؛ اعتبارًا لهُ بالدِّيَةِ (¬3). وللشافعيةِ وَجْهان كالمذهبَيْنِ الأَوَّلَيْنِ. * وفي الآيةِ دَلَالةٌ على أَنَّه لا يُستوفى القصاصُ إذا كَانَ الوَلِيُّ صَغيرًا أو مَجْنونًا حتى يَبْلُغَ هذا، ويُفيقَ هذا؛ لأنه هو الوليُّ، والسُّلطانُ ثابتٌ لَهُ، فلا يُجْعَلُ لغيرهِ، سواءٌ كانَ منفردًا بالولاية، أو مشارِكًا. وبهِ قال الشافعيُّ، وأحمدُ، وأبو يوسُفَ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيز (¬4). وذهبَ مالكٌ، وأبو حنيفةَ، ومحمدٌ إلى أنه لا ينتظرُ، بل يجوزُ للأبِ ¬
والجَدِّ أن يستوفيا لَهُ القِصاصَ في صورَةِ الانفرادِ، ويجوزُ للأخِ الكبيرِ أن يستوفيَ القِصاص في صورَةِ المُشاركةِ (¬1). واختلفَ الحنفيةُ في الذي يستوفيهِ. فقالَ بعضُهم: يستوفي حَقَّهُ وحَقَّ الصغير. وقال بَعْضُهم: يستوفي حَقَّهُ، ويسقُطُ حَقُّ الصَّغيرِ. وأجمعوا على أن الأخَ الكبيرَ الغائبَ يُنْتَظَرُ في استيفاءِ القِصاص. * * * ¬
من أحكام البيوع
(من أحكام البيوع) 189 - (4) قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)} [الإسراء: 35]. * أمرَ الله سُبحانَهُ بإيفاءِ الكيلِ، وإقامَةِ الوزنِ، وتواعَدَ عليهِ في موضعٍ آخَرَ (¬1)، وذلكَ واجِبٌ إجماعًا؛ لأنَّ تركَ الإيفاءِ ظُلْمٌ، وتَرْكَ الظلمِ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تأويلًا، أي: عاقبةً. فإنْ قلتَ: فقولُه: {خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء: 35]، يقتضي أنَّ الإيفاءَ في الكيل والإقامَةَ في الوزنِ وتركَهُما مُشْتَرِكان في الخيرِ والحُسْنِ، وأن أَحَدَهُما خيرٌ وأَحْسَنُ. قلتُ: من أجلِ هذهِ الشُّبْهَةِ تَوَهَّمَ مَنْ لا خِبْرَةَ لَهُ أنَّ الآيةَ منسوخةٌ بسورة المُطَفِّفينَ، وليسَ الأمرُ كذلكَ، بل التَّفْضيلُ يُسْتَعْمَلُ بينَ المُشْتَرِكَيْن في الأمرِ حقيقةً، وقد يستعملُ في غيرِ المشتركينِ؛ كقولِ اللهِ: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، وكقوله: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا} [مريم: 75]، وكقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)} [الفرقان: 24]. * * * ¬
من أحكام الصلاة
(من أحكام الصلاة) 190 - (5) قوله عَزَّ وجَلَّ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء: 78] الآية. * أمرَ اللهُ سبحانَه نبيَّهُ - صلى الله عليه وسلم -، وكذا أُمَّته بإقامةِ الصَّلاةِ عندَ دُلوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل. ودُلوكُ الشَّمْسِ يقعُ على زَوالِها، وبِه فَسَّرَهُ ابنُ عَبّاسٍ، وعمرُ، وابنُ عمرَ -رضي الله تعالى عنهم- وهو قولُ الحَسَنِ، والشعبِّي، وعطاءٍ، ومجاهدٍ، وقتادةَ (¬1). وغَسَقُ اللَّيل: ظُلْمَةُ اللَّيلِ، قالَ الفَرَّاءُ: غَسَقَ اللَّيْلُ وأغسق (¬2): إذا أَقبلَ ظلامهُ (¬3). ثم استنبطَ قومٌ من هذا جوازَ تأخيرِ الظُّهْرِ إلى الغُروبِ في حالةِ الاخْتِيار؛ لتمادي الغايةِ. ¬
واستدَلُّوا بما خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ عنِ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- قال: جمعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بينَ الظُّهْرِ والعَصْرِ، والمَغْرِبِ والعِشاءِ بالمدينةِ من غير خَوْفٍ ولا مَطَرٍ. في حديثِ وكيعٍ، قال: قلتُ لابنِ عَبّاسٍ: لمَ فعلَ ذلكَ؛ قالَ: كيلا تُحْرَجَ أُمَّتُهُ (¬1). ولم (¬2) يُجَوِّزْهُ الشافِعيُّ ومالكٌ إلا في حالةِ الاضطرارِ (¬3)، وبهِ أقولُ، بدليلِ تحديده - صلى الله عليه وسلم - لأوقاتِ الصَّلاةِ، والحديثُ محمولٌ على أن الجمعَ جمعُ تأخيرٍ، وأَنَّهُ أَخَّرَ الأُولى إلى آخِرِ وَقْتِها؛ بحيثُ يفرغُ منها، ثم يدخلُ وقتُ الثانيةِ؛ بدليلِ مُداومتهِ - صلى الله عليه وسلم - على فعلِ الصَّلَواتِ في أوقِاتها. وعن ابن مسعودٍ: غَسَقُ الليلِ: إِظْلامُهُ (¬4)، وذلك يتحقَّقُ عندَ غُروبِ الشفقِ. وقرآنُ الفَجْرِ: هو صلاةُ الصُّبْحِ، فسره بذلك ابنُ عباسٍ وأبو هُريرةَ وسائرُ المفسرين -رضي الله تعالى عنهم (¬5). فيكونُ على هذا التفسيرِ في الآيةِ إشارةٌ إلى مواقيتِ الصَّلاةِ؛ لأنه دخلَ ¬
في الغايةِ، والمُغَيّا: صلاةُ الظهرِ والعصرِ والمغربِ والعشاءِ؛ كما أشار إليها في قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17، 18]، قدْ بَيَّنَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كذلك، كما بينَهُ اللهُ تعالى بصلاةِ جِبريلَ- عليه الصلاةُ والسلام-. روى ابنُ عَبّاسٍ رضيَ اللهُ تَعالى عنهما-: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أَمَّني جِبريلُ -عليه السلام- عندَ بابِ البَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ حينَ كانَ الفيءُ مثلَ الشِّراكِ (¬1)، ثم صَلَّى العَصْرَ حينَ كان ظِلُّ كُلِّ شيء بقدرِ ظِلِّه، وصَلَّى المَغْرِبَ حينَ أَفْطَرَ الصائِمُ، ثم صَلَّى العِشاءَ حينَ غابَ الشَّفَقُ، ثم صَلَّى الصُّبْحَ حينَ حَرُمَ الطعامُ والشرابُ على الصّائِمِ، ثم صَلَّى المَرَّةَ الأَخيرَةَ الظُّهْرَ حينَ كانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ قَدْرَ ظِلِّهِ قدر العَصْرِ بالأَمْسِ، ثم صَلَّى العَصْرَ حينَ كانَ ظِل كُلِّ شَيْءٍ مثْلَيْهِ، ثُمَّ صَلَّى المَغْرِبَ القدرَ الأولَ، ولم يُؤَخِّرْها، ثم صَلَّى العِشاءَ الآخِرَةَ حينَ ذهبَ ثُلُثُ الليلِ، ثم صَلَّى الصُّبْحَ حينَ أَسْفَرَ، ثمَّ التفَتَ فقالَ: يا مُحَمَّدُ! هذا وَقْتُ الأنبياءِ من قبلِكَ، والوَقْتُ بيَن هذين الوَقْتَين" (¬2). ¬
ويقعُ دلوكُها على غُروبِها، قالَ المُبَرِّدُ: دُلوكُ الشَّمْسِ: مِنْ لَدُنْ زَوالِها إلى غُروبها. وبالغُروبِ فَسَّرَهُ ابنُ مَسعودٍ وابنُ عَبّاسٍ في روايةِ سعيدِ بنِ جُبيرٍ (¬1)، ويُروى عن عَلِيٍّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه- وبهِ قالَ السُّدِّيُّ (¬2)، فتكونُ الآيةُ على هذا التفسيرِ تدلُّ على وَقْتِ الغُروبِ (¬3)، وعلى امتدادهِ إلى غسقِ الليلِ، وهو غُروبُ الشَّفَقِ، وعلى صَلاةِ الفَجْرِ، وبامتدادِ وقتِ المغربِ إلى غُروبِ الشفقِ. أقول: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَقْتُ صَلاةِ المَغْرِب ما لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ"، ولبيانِه - صلى الله عليه وسلم - للسائِل في حديثِ أبي موسى الآتي قريبًا. وبيانُ جبريلَ -عليه السلامُ- محمولٌ على الوقتِ المُختار؛ بدليل امتدادِ وقتِ العَصْرِ إلى الغُروبِ، ووَقْتِ العِشاء إلى طلوع الفَجْرِ، وهو لم يمدهما، فبيانُه ظاهرٌ، والظاهِرُ لا يعارِضُ النَّصَّ، وتكونُ الجملةُ الأولى من قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)} [الروم: 17] تدلُّ على مثلِ ما دَلَّتْ عليهِ هذهِ الآيةُ من بيانِ ميقاتِ صلاةِ المغرب وصَلاةِ الفَجْرِ، ثم يَدلُّ على صَلَاتَي العِشاءِ بقوله: {وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] تدلُّ على ميقاتِ الصَّلاةِ الخامِسَةِ، وهيَ صلاةُ العِشاءِ قوله تعالى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58]، وبهذا فَسَّرَ ابنُ عباسٍ الآيةَ الثانيةَ، ¬
فقال: حين تُمْسونَ: صلاةُ المَغْربِ (¬1)، وجَعَلَ ذِكْرَ العِشاءِ الآخِرَةِ في قوله عَزَّ وجَل: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58]. وبنحو ما جاء في القرآن من البيانِ جاءَ البيانُ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. روى مسلمٌ في "صحيحه" عن أبي موسى -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: أنَّ سائلًا أتى النبَّي - صلى الله عليه وسلم - يسألُهُ عن مَواقيتِ الصلاةِ، فلمْ يَرُدَّ عليهِ شَيْئًا، قال: فأمرَ بلالًا، فأقامَ الفَجْرَ حينَ انْشَقَّ الفَجْرُ، والناسُ لا يَكادُ يعرفُ بعضُهم بَعْضًا، ثم أمرَهُ فأقامَ الظُّهْرَ حين زالَتِ الشَّمْسُ، والقائِلُ يقول: قَد انتصفَ النَّهارُ، وهو كانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ، ثم أَمَرَهُ فأقامَ بالعَصْرِ والشَّمْسُ مرتفعةٌ، ثم أمرهُ فأقامَ المغربَ حينَ وقعتِ الشَّمْسُ، ثم أمرهُ فأقامَ العِشاءِ حينَ غابَ الشَّفَقُ، ثُم أَخرَ الفَجْرَ منَ الغَدِ حَتَّى فرغَ منها، والقائلُ يقولُ: قَدْ طلعَتِ الشمسُ، أو كادَتْ، ثم أَخرَ الظُّهْرَ حتى كانَ قريبًا من وَقْتِ العَصْرِ بالأَمْسِ، ثم أَخَّرَ العَصْرَ حتى انصَرفَ مِنْها والقائلُ يقول: قَدِ احْمَرَّتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَخَّرَ المغربَ حتى كانَ عندَ سقُوطِ الشفقِ، ثم أَخَّرَ العِشاءَ حتى كانَ ثلثُ الليلِ الأولُ، ثُمَّ أصَبْحَ فَدَعا السائِلَ وقالَ: "الوَقْتُ بَيْنَ هذَيْنِ" (¬2). * قال الزَّجَّاجُ: وفي قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] فائدةٌ عظيمةٌ تدلُّ على أَنَّ الصَّلاةَ لا تكونُ إلا بِقِراءَةٍ حينَ سُمِّيَتْ قرْآنًا. وعلى هذا اتفقَ الفُقهاء (¬3). ¬
وإنما اختلفوا هَلْ تَجِبُ في كُلَّ رَكْعَةٍ، أو في مُعْظَمِ الصَّلاةِ، أو في رَكْعَةٍ من الصلاةِ؟ وبالأولِ قالَ الشافعيُّ. وبالثاني والثالثِ روايتانِ عن مالكٍ. وكذا اختلفوا في تعيينِها. فقال الشافعيُّ تتعيَّنُ الفاتِحَةُ؛ لما رَوى أبو هُريرةَ -رضي اللهُ تَعالى عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فيها بأُمِّ القُرآنِ (¬1)، فَهِيَ خِداجٌ، فهي خِداجٌ غَيْرُ تَمامِ"، فقيل لأبي هريرةَ: إنّا نكونُ وراءَ الإمامِ، قالَ: اقرأْ بها في نَفَسِكَ؛ فإنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "قالَ اللهُ -عَزَّ وجَلَّ- قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْني وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدي ما سأَلَ، فإذا قالَ العَبْدَ: الحمدُ للهِ رَبِّ العالَمين، قالَ اللهُ: حَمِدَني عَبْدي، وإذا قالَ: الرَّحْمنِ الرحيمِ، قالَ اللهُ: أَثْنَى عَلَيِّ عَبْدِي، وإذا قالَ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قالَ اللهُ: مَجَّدَني عَبْدي -وقالَ مَرَّةً: فوَّضَ إليَّ عَبْدِي-، وإذا قالَ: إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعينُ، قال: هذا بَيْني وبَيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدي ما سأَلَ، وإذا قال: اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقيمَ صِراطَ الذَّينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضوبِ عَلَيْهِمِ وَلا الضَّالِّينَ، قال: هذا لعَبْدِي، ولعَبْدي ما سأَلَ" (¬2). وقال أبو حنيفةَ: لا يَتَعَّيُن، لِما رَوى أبو هُريرةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دخلَ المسجدَ، فدخلَ رجلٌ فَصَلَّى، ثم جاءَ فَسَلَّمَ على النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَدَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عليهِ السَّلامَ، فقالَ: "ارْجعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، فرجعَ الرجلُ فصلَّى كَما صَلَّى، ثم جاءَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَلَّمَ عليهِ، ¬
فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وعَلَيْكَ السَّلام"، ثم قالَ: "ارْجِعْ فَصَلِّ فإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، حتى فَعلَ ذلكَ ثلاثَ مَرَاتٍ فقالَ الرجلُ: والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ نِبَيًّا ما أُحْسِنُ غَيْرَ هذا، عَلِّمْني، قالَ: "إذا قُمْتَ إلى الصَّلاةِ، فَكَبِّرْ، ثمَّ اقْرَأْ ما تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ راكِعًا، ثم ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قائِمًا، ثم اسْجُدُ حَتَّى تَطْمَئِن ساجِدًا، ثم ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِن جالِسًا، ثم افْعَل ذلِكَ في صَلاِتكِ كُلِّها" (¬1). وقولُ الشافعيِّ أَسَدُّ وأَوْلى؛ لأنَّ الحديثَ الذي أخذ به مُقَيَّدٌ بالفاتِحَةِ. وأُطْلِقَ اسمُ الصَّلاةِ على الفاتِحَةِ لِكَوْنِها المَقْصودَ الأَعْظَم؛ كما أُطلقَ الحَجُّ في قوله: "الحَج عَرَفَةُ" (¬2)، والحديثُ الذي أَخَذَ به أبو حنيفةَ مُطْلَقٌ، والمقيَّدُ يقدَّمُ على المُطْلَقِ، فيلزمُ حينئذٍ أَنَّ المتيسِّرَ معَ الرجلِ إمَّا الفاتِحَةُ؛ كَما هوَ الغالِبُ على العامَّةِ، أو الواجبُ عليهِ أن يأتيَ بما تَيَسَّرَ معهُ في هذِه الحالَةِ، وذلكَ جائزٌ عندَ العَجْزِ عن الفاتِحَةِ، وهذا التأويلُ متعيِّنٌ؛ لِما روى أبو هُريرةَ -رضيَ اللهُ عنهُ-: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا تُجْزِىُء صَلاةٌ لا يُقْرَأُ فيها بِفاتِحَةِ الكتاب" (¬3). ومعنى قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] ما روينا في "صحيح البخاري" و"مسلم" أيضًا عن أبي هُريرةَ -رضي اللهُ تَعالى عنه- قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَفْضُلُ صلاةُ الجماعَةِ صلاةَ أحَدِكُمْ بِخَمْسٍ وعِشرينَ جُزْءًا، وتَجْتَمعُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ ومَلائِكَةُ النَّهارِ في صَلاةِ ¬
الفَجْرِ"، ثم يقولُ أبو هريرةَ: فاقرؤوا إنْ شِئْتُمْ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (¬1) [الإسراء: 78]. * * * 191 - (6) قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]. يحتملُ أنَّ معنى {نَافِلَةً لَكَ} أي: زيادةً على الفرضِ الذي أُمِرْتَ به، وأنه صارَ نافلةً بعدَ أنْ كانَ حَتْمًا، فعلى هذا تَدْخُلُ أُمَّتُه معهُ في الخِطاب، وإلى هذا ذهبتِ الشافعيةُ (¬2). ويحتملُ أن يكونَ الخطابُ خاصًّا به، وأن معنى {نَافِلَةً لَّكَ} أي: فُرِضَ عليكَ خاصَّةً زِيادةً على أُمَّتِك، وبهذا فسرَها ابنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما-، وإليه ذهب المالكية (¬3). وسيأتي -إن شاء الله تعالى- في آخرِ الكتابِ كلامٌ متعلق بهاتين الآيتين. * * * ¬
سورة الأنبياء
سُوْرَةُ الأَنْبيَاءِ
من أحكام المعاملات
(من أحكام المعاملات) 192 - (1) قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]. قال ابنُ السِّكِّيتِ: النَّفْشُ: أَنْ تنتَشِرَ الغَنَمُ باللَّيْل تَرْعى بلا راعٍ (¬1). قال أبو الحَسَنِ الواحديّ: قالَ المفسرون: دخلَ رجلانِ على داودَ، وعندَهُ ابنُهُ سُليمانُ -عليهما الصلاةُ والسلامُ- أحدُهما صاحِبُ حَرْب، والآخَرُ صاحِبُ غَنَم، فقالَ صاحبُ الحَرْثِ: إنَّ هذا انفلتَتْ غنمُه ليلاً، فوقعتْ في حَرْثي، فلم تبُقِ منه شيئاً، فقال: لكَ رِقابُ الغَنَمِ، فقال سليمانُ: أو غيرُ ذلك؛ ينطلقُ أصحابُ الكَرْمِ بالغَنَمِ، فَيُصيبون من ألبانِها ومنافِعها، ويقومُ أصحابُ الغنمِ على الكرمِ، حتى إذا كانَ كليلةِ نَفَشَتْ فيه، دفعَ هؤلاءِ إلى هؤلاءِ غَنَمَهُمْ، ودفعَ هؤلاءِ إلى هؤلاء كَرْمَهُمْ، فقالَ داودُ: القضاءُ ما قَضَيْتَ، وحَكَمَ بذلكَ (¬2). وجاءتْ شريعتُنا بمثلِ هذه الشريعةِ، فَضَمِنَتْ ما أفسدَتْهُ البهَائمُ باللَّيلِ دُونَ النهارِ. ¬
فقضى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في ناقَةٍ للبَراءِ بنِ عازب دخلَتْ حائِطَ قومِ، فأفسَدتْ: أَنَّ على أهلِ المَواشي حِفْظَها باللَّيلِ، وعلى أَهْل الأَموالِ حِفْظَها بالنَّهارِ (¬1). وكان شُرَيْحٌ القاضي يضمنُ ما أفسدَتْهُ الغَنَم باللَّيلِ، ولا يضمنُ ما أفسدَتْهُ بالنهارِ، ويَتأوَّلُ هذهِ الآيةَ: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78]، ويقولُ: كان النَّفْشُ بالليل (¬2). وبهذا أخذَ الشافعيّ ومالِكٌ (¬3). وذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابُه إلى إهدارِ ما أتلفَتُهْ (¬4)؛ لعمومِ قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "العَجْماءُ جَرْحُها جُبارٌ (¬5)، وفي رواية: "العَجْماءُ جُبارٌ" (¬6). ¬
قال الشافعيُّ: فأخَذْنا بحديثِ البَراءِ بنِ عازبٍ؛ لثبوتِه واتصالِه ومعرفةِ رجالِه، ولا يُخالفُ حديثَ العجماءِ، ولكنَّ "العجماء جرحُها جبارٌ" جملةٌ من الكَلامِ العامِّ المخرجِ الذي يُرادُ به الخاصُّ، فلما قضى فيما أفسدَتِ العجماءُ بشيءٍ (¬1) في حالٍ دونَ حالٍ، دَلَّ ذلك على أن ما أصابَتْ من جرح وغيرهِ في حالٍ جبارٌ، وفي حالٍ غيرُ جُبارٍ (¬2). وقال بعضُ أصحابِ الشافعيِّ: إن كان مَرْتعُ الماشيةِ مَواتاً حولَ البلدِ، لم يجبْ على مالكِها حفظُها بالنَّهارِ، وإن كان مَرْتَعُها في تلكَ البلدِ في حَريمِ المزارعِ، ويعلمُ صاحبُ الماشيةِ أنهُ متى أرسلَها وأطلقَها دخلَتْ زرعَ غيرهِ وأفسدَتْهُ، فعليهِ حفظُ ماشيتِه نَهاراً، هذا في النَّهارِ، وأما في (¬3) اللَّيلِ، فإنْ كانَ في بلدٍ ليسَ لِبَساتيِنها ومَزارِعِها حيطانٌ، فإنَّه يَجِبُ على مالِكِ الماشيةِ حفظُ ماشيتهِ، وإن كانَ لها حيطانٌ، فلا ضمانَ على صاحِبِ الماشيةِ؛ لتفريط صاحب البستان في تركِ الإغلاقِ، وقَيَّدَ حديثَ البراءِ بهذهِ الأحوالِ. وقال بعضُ أصحابهِ: يعتبرُ عُرْفُ البَلَدِ، فلو جَرَتْ عادتُهم ألا يُرْسِلوا الغَنَمَ (¬4) نَهاراً إلَّا مَعَ راعٍ يحفَظُها، وأَلاّ يحفظَ أصحابُ الزَّرْعِ زَرْعَهُمْ بالنهار، فعلى مالِكِ الغنمِ (¬5) الضَّمانُ فيما أتلفتْهُ بالنهار، فَخَصَّ عمومَ الحديثِ بالعادَةِ (¬6). ¬
وهذا الوَجْهُ بمذهَبِ مالكِ أَوْلى منهُ بمَذْهَبِ الشافعيِّ، فمذهبُ مالكٍ تخصيصُ العُمومِ بالعادةِ، دوُنَ الشافعىِّ. وقالَ بعضُ أهلِ (¬1) العلم: يضمَنُ رَبط الماشيةِ ما أتلفَتْ، إلا إذا انفلتَتْ لعدمِ قدرته عليها (¬2)، ويُروى هذا القولُ عن عمرَ بنِ الخَطَّابِ -رضيَ اللهُ تعَالى عنه-. وذهب الليثُ إلى أنه يضمَنُ بكُلِّ حالٍ، إلا أنه لا يضمنُ أكثرَ من قيمةِ الماشية (¬3). وهذا مخالفٌ للحديثِ، ولقياسِ شريعتِنا. * ولَمَّا دَلَّ حديثُ البراءِ على أن على أهلِ الماشيةِ ضمانَ ما أفسدَتْه (¬4) في بعضِ الأحوالِ، وهي الحالةُ التي يجبُ عليهم فيها حفظُها، دَلَّ على أنه يجبُ على رَبِّها ضمانُ ما أفسدَتْ إذا كانَ راكبًا أَوْ سائقاً أَوْ قائِدا؛ لأن عليهِ حِفْظَها في هذه الحالِ، سواءٌ أفسدت ليلاً، أو نهاراً، بفيها، أو بيدها، أو برجلها. وقال أبو حنيفة: لا يضمن الراكب والقائد إلا ما تتلفه بفيها أو يدها (¬5)، وأما (¬6) ما تتلفه برجلها، فلا يضمن (¬7). ¬
ووافق الشافعيُّ في تضمينِ الراكبِ بكلِّ حالٍ (¬1)، وكأنه استدلَّ بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من: "الرِّجل جبار" (¬2). وقال الحفاظُ: هو غلطٌ، ووَهْمٌ من سُفيانَ بنِ حُسينٍ، عن الزُّهْرِيِّ (¬3)، والله أعلم. * * * ¬
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَيْسِيْرُ البَيَانِ لِأَحْكَامِ القُرْآنِ [4]
جَمِيعُ الحقُوُقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1433 هـ - 2012 م ردمك: 3 - 41 - 459 - 9933 - 978: ISBN دَارُ النَّوادِرِ سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسة دَار النَّوادِرِ م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوادِر الكُوَيْتِيَة ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هَاتِف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هَاتِف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السَّحَاب - ص. ب: 4316 حَولي - الرَّمْز البريدي: 32046 هَاتِف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م نُورُ الدِّيْن طَالِب المُدِير العَام وَالرَّئيسْ التَّنفِيْذِي
سورة الحج
سُوْرَةُ الحَجِّ
من أحكام البيت الحرام
(من أحكام البيت الحرام) 194 - (1) قوله عَزَّ وجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]. اختلفَ أهلُ العلمِ بالقرآنِ في المرادِ بالمسجدِ الحَرام: فقال ابنُ عَبّاسٍ وابنُ جُبَيْر -رضيَ اللهُ تَعالى عنُهم-: المرادُ بهِ الحَرَمُ (¬1). وقالَ قتادَةُ: المرادُ بهِ مَكَّةُ، وهو قريبٌ من الأول. وقالَ الشافعيُّ في آخرينَ: المراد بِه عَيْنُ المسجدِ (¬2). وهو أولُ بيتٍ جعله اللهُ تَعالى للناس، قالَ الله تَعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96]. * واختلفوا أيضاً في معنى السَّواءِ، فقالَ قومٌ: سواء في الانتفاع بالنزول فيه، فليس (¬3) أحدٌ أَحَقَّ من غيره، إلا أنه لا يُخرج أحدٌ من بيته. ¬
وهذا قولُ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما (¬1) -. روى عليُّ بنُ أبي طَلْحَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ في قوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]، يقولُ: ينزلُ أهلُ مَكَّةَ وغيرُهم في المَسْجِدِ الحرام (¬2). وذهب قومٌ إلى التأويل: فقيل: سواءٌ في التَّفْضِيلِ والتَّعْظيمِ وإقامةِ النُّسُكِ فيه (¬3). وقيل: في القِبْلَة. وقيل: في الأَمْنِ. وسببُ هذا الاختلافِ وقوعُ الخلافِ في بَيْع دُورِ مَكَّةَ وكِرائِها: فمن أطلقَ المسجدَ الحَرامَ على الحَرَمِ، وحملَ اللفظَ على حقيقتِه في الاخْتِصاص بالمكانِ، منعَ بيعَ دُورِ مكةَ وكِراءَها، وتوريثَها (¬4). ومن قالَ بخلافِ ذلكَ، جَوَّزَ بيعَها وكِراءها (¬5). فإن قلتَ: فهل نجدُ دليلاً من الكتابِ والسُّنَّةِ يَصْرِفُ هذا اللَّفْظَ إلى أحدِ معانيه؟ ¬
قلتُ: نعم، وسأذكرُ لكَ مناظرةً مستوفيةَ الأدلَّة (¬1). قال إبراهيمُ بنُ محمدٍ الكوفيُّ: رأيتُ الشافعيَّ بمكةَ يفتي الناسَ، ورأيتُ إسحاقَ بنَ إبراهيمَ، وأحمدَ بنَ حنبلٍ حاضرَيْنِ، فقال أحمدُ لإسحاقَ: يا أبا يعقوب! تعالَ حتى أريكَ رجلاً لم تَرَ عيناكَ مثلَهُ، فقالَ له إسحاقُ: لم تَرَ عينايَ مثلَه؛ قالَ: نعم، فجاء به فأوقفه على الشافعيِّ، فذكر القصةَ إلى أن قالَ: ثم (¬2) تقدمَ إسحاقُ إلى مجلسِ الشافعيِّ، فسألَهُ عن سُكْنى بُيوتِ مَكَّةَ، أرادَ الكراءَ، فقالَ لهُ الشافعيُّ: عندنَا جائر، قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وهَلْ تركَ لنا عقَيل مِنْ دارٍ؟ " (¬3)، فقالَ لهُ إسحاقُ: أتأذنُ لي في الكلام؟ قال: تكلم، قالَ: ثنا يزيدُ بنُ هارونَ، عن هشامٍ، عنِ الحَسَنِ: أنه لم يكنْ يرى ذلك، وأنا أبو نُعَيْمٍ وغيرُه عن سُفيان، عن منصورٍ، عنْ إبراهيم: أنه لم يكنْ يرى ذلك، وعطاءٌ وطاوسٌ لم يكونا يريان ذلك. فقال الشافعيُّ لبعضِ مَنْ عَرَفَهُ: مَنْ هذا؟ فقال: هذا إسحاقُ بنُ إبراهيمَ الحنظليُّ بن راهويه الخراساني، فقال الشافعيُّ: أنت الذي (¬4) يزعمُ أهل خُراسانَ أنَّكَ عالِمُهُمْ؟ قال إسحاقُ: هكذا يَزْعُمون، قال الشافعيُّ: ما أَحْوَجَني أنْ يكونَ غيرُكَ في مَوْضِعِك، فكنتُ أمرتُ بغيرِك وَأَدَّبْتُه، أنا أقولُ: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأنتَ تقولُ: قالَ عطاءٌ وطاوسٌ وإبراهيمُ والحَسَنُ هؤلاءِ لا يرونَ ذلك، وهل لأحدٍ معَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ¬
حُجَّة؟ ثم قالَ الشافعيُّ: قالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}، فنسب الديارَ إلى المالكين، أو إلى غيرِ المالكين؟ قال إسحاقُ: إلى المالكين، فقال له الشافعيُّ: قولُ الله أصدقُ الأقاويلِ، وقد قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ دخلَ دارَ أَبي سُفيانَ فهوَ آمِن" (¬1)، نسبَ الدار إلى مالكه أو إلى غيرِ مالكه؟ قال إسحاقُ: إلى مالكه، قال له الشافعيُّ: وقد اشترى عمرُ بنُ الخَطَّابِ داراً، فأسكنها، وذكرَ له جَماعةً من أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال له إسحاقُ: قالَ اللهُ عَزَّ وجَل: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}، فقال لهُ الشافعيُّ: اقرأْ أولَ الآيةِ: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]، ولو كان كما تزعُمُ، لكانَ لا يجوزُ لأحدٍ أن ينشدَ فيها ضالَّةً، ولا يَنْحَرَ فيها بدنةً، ولا تجتمعَ فيها الأزواجُ، ولكن هذا في المسجِدِ خاضَةً. قال: فسكتَ إسحاقُ ولم يتكلمْ، فسكتَ عنهُ الشافعيُّ -رحمهما الله تعالى-. فإن قلتَ: فقد رُوي عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ مَرْفوعاً وموقوفاً مَنع بيعِ رباعِ مَكَّةَ ومُؤاجَرَيها (¬2). وروى عَلْقَمَةُ بن نَضْلَةَ الكِنانى: أنه قال: كانتْ بيوت مكةَ تُدْعى: السوائبَ، لم تبعْ رباعُها في زمانِ (¬3) رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أبي بكرٍ، ولا عمرَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما-، من احتاجَ سَكَنَ، ومن استغنى أَسْكَنَ (¬4). ¬
قلنا: أجابوا بأن الحديثَ لم يصحَّ، وأما قولُ نَضلَةَ، فإنه أخبرَ عن عادتهم الكريمةِ في إسكانِهم ما يستغنونَ عنهُ في بيوتهم، وقد اشترى عمرُ داراً بمكَّةَ بأربعةِ آلافِ درهم، واشترى معاويةُ بنُ أبي سفيانَ من حكيمِ بنِ حزامٍ بمئةِ ألفِ درهم (¬1). وللخلافِ سببٌ غيرُ هذا (¬2)، وهو هَلْ فتحَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مكةَ صُلْحاً أو عَنْوَةً؟ فذهب الشافعيّ إلى أنه فَتَحَها صُلْحاً (¬3). واستدلَّ بعقدِ الأَمانِ من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي سُفْيانَ، وهُوَ بمَرَّ الظَّهْران (¬4) قبلَ أنْ يدخُلَ مَكَّةَ، فقالَ: "مَنْ دَخَلَ دارَ أَبي سُفْيانَ فَهُوَ آمِنٌ، ومَنْ دخل المسجدَ فهو آمِنٌ، ومَنْ أَغْلَقَ عليهِ بابَهُ فهوَ آمِن" (¬5)، ولم يستثنِ إلا أربعةَ نَفَرٍ وقَيْنَتَيْنِ. واستدلَّ لهُ أيضاً بأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لخالِدِ بْنِ الوليدِ: "لمَ قاتَلْتَ وقَدْ نَهَيْتكَ عنِ القِتال؟ " قال: هم بَدَؤونا بالقتال، ووَضَعوا فينا السّلاحَ، ¬
وأَشْعَرونا بالنَّبْلِ، وقد كفَفْتُ يدي ما استطعتُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قضاءُ اللهِ خَيْرٌ" (¬1). وقال الجمهورُ من الفقهاءِ وأَهْلِ السِّيَرِ: فتحَها عَنْوَةً، حتى ادَّعى الماورديُّ انْفِرادَ الشافعىِّ بمقالتِه (¬2). والصحيحُ ما ذهبَ إليهِ أبو عبدِ اللهِ؛ فإنه لو دخلَها عَنْوَةً، لَقَسَمَ غَنائِمها بينَ المسلمينَ، ولم يُنْقَلْ أنه قَسَمَ شيئاً، لا مِنْ دُورِها وعَقارها، ولا مِنْ شيءِ من أموالِها. ويدلُّ للشافعيِّ أيضاً عَزْلُ النبيِّ سعدَ بنَ عبادَةَ لمَّا قال: اليومُ يوم المَلْحَمَة، اليومُ تُسْتَحَلُّ الحُرْمَةُ (¬3)، شكا أبو سفيانَ ذلكَ إلى رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وناشَدُه اللهَ في قومِه، فعزلَهُ وجعلَ مكانه الزبيرَ بنَ العَوَّامِ (¬4). * وفي الآية دليل على تعلُّقِ العِقاب على مجردِ إرادةِ المَعْصِيَةِ بمكةَ، وأن ذلكَ حكمٌ يختصُّ (¬5) بِها من دُونِ سائر البلادِ. ¬
قالَ ابنُ مسعودٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه- في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]: لو أن رجلاً هَمَّ بخطيئةٍ لم تكتَبْ عليهِ ما لم يَعْملْها، ولو أَنَّ رجلاً هَمَّ بقتلٍ عندَ البيتَ، وهو بِعَدَنِ أَبْيَنَ، لأذاقهُ اللهُ من عذابٍ أليم (¬1) * * * ¬
من أحكام الحج
(من أحكام الحج) 195 - (2) قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]. " فيه دَلالةٌ على تَفْضيلِ المَشْي على الرُّكوبِ في الحَجِّ؛ لتقديمِه عليهِ في الذّكْرِ. وبهِ قالَ أكثرُ أهلِ العلمِ؛ كمالكٍ، والشافعى في أحدِ قولَيْه، وهوَ المُختارُ عندي وِفاقاَ لأبي قاسمٍ الرافعىِّ (¬1). لتقديمِ اللهِ سبحانَهُ لهُ في الذِّكْرِ. ولما رَوى سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما- أنه قالَ لبنيه: يابني! اخرجوا من مَكَّةَ حاجّينَ مُشاةً؛ فإني سمعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول "إن للحاجِّ الراكبِ بكل خُطْوَةِ تَخْطوها راحلتُهُ سبعين حسنةَ، والماشي بكل خطوةٍ يَخْطوها سبعُ مئةِ حسنةٍ" (¬2). ¬
ولما فيه من العَناءِ والنَّصَبِ، وقد قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعائشةَ لما أَعْمَرَها مِنَ التَّنْعيمِ: "ولكنها على قَدْرِ عَنائِكِ ونَصَبِك" (¬1). ولكونه وردَ عن السلف الصالح -رحمَهُم اللهُ تَعالى- فعلُه والترغيبُ فيه، وحُكِيَ من فعلِ النبيّ إبراهيمَ وإسماعيلَ -عليهما الصلاةُ والسلامُ-. فإن قلتَ: فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَحُجَّ إلا راكباً، وقد قالَ: "خُذُوا عَنِّي مَناسِكَكُمْ" (¬2)، وهو يدلُّ على أن الركوبَ أفضلُ كما قالَ بهِ بعضُ العلماءِ، والشافعيُّ في القولِ الأخيرِ، واختارَهُ النَّواوِيُّ (¬3)، ولما فيهِ من بَذْلِ النفقةِ، وقد قالَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: "ولكنها على نَصَبِكِ، أو قال: نَفَقَتِكِ" (¬4). قلنا: إنما حجَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - راكبًا حتى يظهر ليقتدى (¬5) به ويستفتى، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "خُذوا عَنِّي مَناسِكَكُمْ" (¬6). فالركوبُ في حَقّهِ أَفْضَلُ منَ المَشْيِ (¬7)؛ لعُمومِ المصلحةِ بركوبه - صلى الله عليه وسلم -. ورُوي عنْ أبي حنيفةَ كراهَةُ المَشْيِ (¬8). ولَفا رأى بعضُ المتأخرينَ من أَصْحابِه ما فيه منَ البُعْدِ، حَمَلَهُ على مَنْ يسوءُ خُلُقُهُ بالمشيِ، ويُجادِلَ رفيقَه، أو يَجْمَعُ بينَ الصَّوْمِ والمَشْيِ. ¬
196 - 197 (3 - 4) قوله عَز وجَل: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 28 - 29]. أقول: اشتملتْ هاتانِ الآيتانِ على جُمَلٍ من الأَحْكامِ: الجملةُ الأولى: المنافعُ المشهودَةُ. قال الواحِدِيُّ: أكثرُ المفسرينَ جعلوها منافعَ الدنيا التي هي التجارةُ والأرزاقُ، وهو قولُ السُّدِّيُّ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وابنِ عَبّاسٍ في روايةِ أبي رَزينٍ (¬1)، فدلَّ على جَوازِ التجارةِ كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]. ومنهُمْ من خَصَّها بمنافعِ الآخِرَةِ، وهو قولُ سعيدِ بنِ المُسَيّبِ والعَوْفِيِّ، واختيارُ الزَّجَّاجِ. ومنهم مَنْ عَمَّمَها فيهما، وهو قولُ مجاهدٍ، وروايةُ عطاءٍ عنِ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهم- (¬2). الجملة الثانية: اختلفوا في الأيامِ المعلومات. فقال الحَسَنُ ومُجاهدٌ، وابنُ عباسٍ في روايةِ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ: هيَ الأيامُ العَشْرُ، وقيلَ لها: المعلوماتُ تَحْريضاً على عِلْمِها؛ لأنها وقتُ الحَجِّ، وآخرُها يومُ النَّحْرِ، وبه أخذَ أبو حنيفةَ والشافعيُّ (¬3). ¬
ويدلُّ له (¬1) قولهُ - صلى الله عليه وسلم -: "ما العَمَلُ في أيامٍ أَفْضَلَ منها في هذهِ" قالوا: ولا الجهادُ في سبيلِ الله؟ قال: "ولا الجهادُ، إلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخاطِر بِنَفْسِه ومالِهِ، فلم يَرْجِعْ بشيءٍ" (¬2). وقال ابنُ عباس في روايةِ عطاءٍ: يريدُ أيامَ الحَجِّ، وهوَ يومُ عَرَفَةَ والنَّحْرِ وأيامُ التشريقِ، واختارَ الزَّجّاجُ (¬3). وقال الضَّحّاكُ: يومُ الترويةِ وعرفةُ ويومُ النَّحْر. وقالَ مالِكٌ: يومُ النحرِ، ويومانِ بعدَهُ، فيومُ النحرِ معلومٌ عندَهُ، وليسَ بمعدودٍ، وثالثُ أيامِ التشريقِ معدود، وليس بمعلومٍ، واليومانِ اللَّذانِ بينَهُما معلومانِ مَعْدودان (¬4). الجملة الثالثة: خصَّ اللهُ سبحانَهُ الأيامَ المَعْلوماتِ بالذِّكْرِ، وجعلَها ظَرْفاً لذكرِه على بَهيمَةِ الأنعامِ، ومفهومُ التَّخْصيصِ أنّهُ لا يكونُ في غَيْرِها. ¬
وبهذا أخذَ كثيرونَ (¬1)، أَوِ الأَكْثَرونَ. فَمْن قال: هي العَشْرُ، وآخِرُها يومُ النَّحْرِ، أو يومُ التَّرْوِيَةِ وعرفةُ ويومُ النَّحْرِ، قالَ باختصاصِ التَّضْحِيةِ بِيومِ النَّحِر، وبه قالَ محمدُ بنُ سيرينَ (¬2). ومن هؤلاءِ مَنْ جَوَّزَ التَّضحِيَةَ في غيرِ يومِ النَّحْرِ لدليلٍ آخرَ يأتي ذكرُه يدلُّ على تَرْكِ التخصيصِ. ومن قالَ: يومُ النحرِ ويومانِ بعدَهُ، خَصَّصَ التضحِيَةَ بهذه الأَيام، وبهذا قال مالِكُ وأحمدُ، وروي عن عمرَ وابنِ عمرَ وأنَسٍ، وكَذا عن عَلِيٍّ في رِوايَةِ مُنْقَطِعَةِ -رضي الله تعالى عنهم- (¬3). وذهب الشافعيُّ، وأبو حنيفةَ، والأوزاعيُّ، وداودُ إلى جوازِ التضحيةِ في يومِ النحرِ، وفي أيامِ التشريقِ، وهو قولُ عَلِي، وابنِ عباسٍ، وجُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ، وعطاء، والحَسَنِ، ومكحولٍ، وطاوسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم- (¬4). فمنْ هؤلاءِ مَنْ ذهبَ إلى هذا؛ لأنَّ الأيامَ المعلوماتِ عندَهُ يومُ النحرِ وأيامُ التشريقِ. ومنهم مَنْ ذهبَ إلى هذا، وإن كانتِ المعلوماتُ عندَهُ هيَ العشرُ؛ لما ¬
رَوى جُبَيْرُ بنُ مُطْعِم -رضيَ اللهُ تَعالى عنه-: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال "كُلُّ فِجاجِ مَكَّةَ مَنْحرٌ، وكُلّ أَيامِ التشريقِ ذَبْحٌ" (¬1). قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ؛ يجوزُ لأهلِ الأمصارِ يومَ النَّحْرِ خاصَّةً، ولأهل القرى يَوْمَ النَّحْرِ وأيامَ التشريقِ (¬2). وقال جماعةٌ: يجوزُ في جميعِ ذي الحِجَّةِ، واستدلُوا بأحاديثَ مُنْقَطعةٍ لا تقومُ بمثلِها حُجَّةٌ. وأجمعوا على أَنَّهُ لا يجوزُ الذَّبْحُ في هذهِ الأيامِ حتى يكونَ يومُ النحرِ (¬3). * وذِكرُ اللهِ تَعالى في هذهِ الأيامِ على بَهيمَةِ الأنعامِ يكونُ بالتَّكبيرِ عندَ رؤيتها تُعْجِبُهُ (¬4)، وذكره في يوم النَّحْر النَّحْرُ والتسميةُ والتكبيرُ على الذبيحة. * وأجمعوا على أن الذبحَ قبلَ الصلاةِ من يومِ النحرِ لا يجوزُ؛ لقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فإنما هيَ شاةُ لَحْمٍ" (¬5). ¬
* واختلفوا في جوازِهِ بعدَ الصَّلاةِ وقبلَ ذَبْح الإمامِ. وسيأتي الكلامُ عليهِ في أَوَّلِ "سورةِ الحُجُراتِ" -إن شاءَ الله تَعالى-. ثم اختلفوا هَلْ يَخْتَصُّ الذبحُ بالنَّهارِ في الأيام المعلوماتِ، أو يجوزُ بالليل؟ فالمشهورُ عن مالكِ وأصحابِه أنه لا يجوز الذبحُ بالليلِ، وبه قالَ أحمد في روايةِ عنه (¬1)، لأنَّ اسمَ اليوم لا يتناولُ الليلَ؛ بدليلِ قولهِ تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7]. وخالفه الباقون كأبي حنيفةَ وأحمدَ والشافعي (¬2)، ولهم أن يقولوا: اسمُ اليومِ يتناولُ الليلَ؛ بدليلِ قولهِ تعالى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} (¬3) [هود: 65]. وإن سلموا، فدلالةُ الأيامِ على اختصاصِ النهارِ المتخلّلِ بينَ الليالي دُونَ الليالي دَلالةٌ (¬4) ضعيفة لم يعتبرْها من أهلِ الأُصولِ إلَّا الدَّقَّاقُ؛ لأنها مفهومُ لقبِ غير مشتق. وللمالكيةِ أن يقولوا: الأصلُ في هذهِ العباداتِ التي هيَ شعائرُ اللهِ تعالى التوقُّفُ، فَيُتَمَسَّكُ بمحَل الاتفاق حتى يقومَ الدليلُ على الجَواز، ثمَّ اشتقاقُ اسمِ الذبيحةِ منِ اسمِ الوقتِ الذي يفعلُ فيه يدلُّ على اختصاصهِا بالنهار، والله أعلم. ¬
الجملة الرابعة: خصَّ اللهُ سبحَانَهُ بَهيمَةَ الأنعام بالذِّكْرِ دونَ غَيْرِها منَ البهائِمِ. وقد أجمعَ المسلمونَ على ذلكَ، وحكى ابنُ المُنْذِر عن الحَسَنِ بنِ صاِلحٍ أنه جَوَّزَ التضحيةَ ببقرةِ الوَحْشِ عن سَبْعٍ (¬1)، والظَّبْيِ عن واحِدٍ، ووافقه داودُ في بقرِ الوَحْشِ (¬2). وأما ذكرُ اسمِ اللهِ تَعالى عليها: فقد قَدَّمْتُ اخْتِلافَ العُلَماء فيه، والمُخْتارُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لا واجِبٌ. وصِفَتُه هُنا عندَ الشافعيةِ وجماعةٍ من أهلِ العلمِ أن يقولَ: بسم الله، والله أكبر، اللهمَّ منكَ وإليكَ، اللهمَّ تقبلْ مني (¬3). وكرهَ أبو حنيفةَ الدُّعاءَ (¬4)، وكرهَ مالكٌ قولَ: اللهمَّ منكَ وإليك، وقال: هو بِدْعَهٌ (¬5). الجملة الخامسة: أمر اللهُ سبحانَهُ بالأَكلِ والإطعام منها، وكذلك أمرَ بهما رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في هذهِ الأُضْحِية، فقال؛ "إنَّما نهيَتكم منْ أجلِ الدَّافَّةِ التي دفَّت عليكُم، فكلوا وتصدَّقوا وادَّخِروا" أوجب (¬6) وأمرَ في هَدْيِهِ الذي ¬
أهداهُ أن يُؤْخَذَ من كُلِّ جزورِ بَضْعَةٌ، فطُبختْ، ثم أكلَ من لحمِها، وحسا من مَرَقِها (¬1). فأما الأكلُ، فحملَهُ جمهورُ أهلِ العلمِ على الاستحبابِ (¬2)، وحكي عن بعضِ السَّلَفِ أنهُ واجبٌ (¬3) الأَكْلُ منها حَمْلًا للأمرِ على حقيقتِه، واقتداءَ بفعلهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، والحِكْمَةُ فيه مُخالَفَةُ الجاهِلِيَّةِ في تَحَرُّجِهِم من أكلِ ذبائِحِهم، وبهذا قالَ أبو الطيبِ بنُ سلمةَ من الشافعيةِ (¬5). وأما الإطعامُ، فحمله ابنُ سريج من الشافعيةِ على الاستحبابِ، والصحيحُ عندَهم إطلاقُ الوُجوب، فيجبُ أن يتصدقَ بما يقعُ عليهِ اسمُ الصدقة (¬6). واختلفَ قولُ الشافعيِّ في القَدْرِ المُسْتَحَبِّ؛ لإطلاقِه في الكتاب والسُّنَةِ، فقالَ في أَحَدِ القولين: يتصدقُ بالنصفِ؛ استئناساً بقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]. [وقال في الآخر: يتصدق بالثلثين (¬7)، استئناسًا بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (¬8) [الحج: 36]، وهذا في هَدْيِ التَّطَوُّعِ، وأما ¬
الهَدْيُ الواجِبُ كَهَدْيِ الجُبْرانِ وهَدْيِ الكَفَّارَةِ والأُضْحِيَةِ المَنْذُورةِ، فَلا يجوزُ الأكلُ منها. وقد انتهى القولُ بنا في بيانِ حُكْم الأضحيةِ جِنْساً ووَقَتْاً، ابتداءً وانتهاءً، وأما بيانُ صِفَتِها، فسيأتي -إنْ شاء اللهُ تعالى-. الجملة السادسة: أَمَرَهُمُ الله سبحانه بقَضاءِ التَّفَثِ، وهو الوَسَخُ والقَذارَةُ من طولِ الشَّعْرِ والأَظْفارِ والشَّعَثِ (¬1)، قال الشاعرُ (¬2): [البحر البسيط] جَفَوا رُؤُوسَهُمُ لَمْ يَحْلِقُوا تَفَثاً ... ويَنْزِعُوا عَنْهُمُ قَمْلاً وصِئْبانا وقال مالِكُ -رحمه اللهُ-: التَّقَثُ: حَلْقُ (¬3) الشَّعْرِ، ولُبْسُ الثّيابِ، وما يَتْبَعُ ذلكَ (¬4). وقد اختلفَ العلماءُ في حقيقةِ هذا الأمرِ: فمنهم من حَمَلَهُ على حقيقتِه، وقال: الحِلاقُ نُسُكٌ، وبهِ قالَ مالِكٌ، وهو الصحيحُ من قَوْلَيِ الشافعيِّ. ومنهم من حَمَلهُ على الإباحَة؛ لتقدُّم الحَظْرِ، وبهِ قالَ الشافعيُّ في القولِ الآخرِ (¬5). ¬
وترتيبُ قضاءِ التفثِ على الذبحِ يحتملُ أن يكونَ للاستحبابِ، ويحتملُ أن يكونَ للوجوبِ. قال مالكٌ: الأمرُ الذي لا اختلافَ فيه عندَنا أن أَحَداً لا يَحْلِقُ رأسَهُ، ولا يأخذُ من شَعْرِهِ حتى ينحرَ هَدْياً إن كانَ معهُ، ولا يحلُّ من شيءٍ حَرُمَ عليهِ حتى (¬1) يَحِلَّ بمنًى يومَ النَّحْرِ، وذلكَ أنَّ اللهَ تبَارك وتَعالى قال: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬2) [البقرة: 196]، وقَد قَدَّمْتُ الكلامَ على هذا في "سورة البقرة" عند هذه الآية (¬3). الجملة السابعة: أَمَرَهُمُ اللهُ تعالى بإيفاءِ النُّذورِ، والأَمْرُ فيهِ للوجوبِ. وعلى وُجوبِ الوفاءِ بالنذرِ أجمعَ المُسلمونَ (¬4)، وبوَفائه مدَحِ اللهُ سبحانَه عبادَه الصالحينَ، فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، وذمَّ على ترْكِهِ المنافقينَ، فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} [التوبة: 75] الآيات. وذِكْرُ اللهِ سبحانَهُ لَهُ بلفظ الجَمْعِ: يحتملُ أن يكونَ تَعْظيماً لشأنه، ولهذا قالَتْ عائشةُ -رضيَ اللهُ تعالى عنها-: إن النذرَ شَأْنُهُ عظيمٌ. ويحتملُ أن يكونَ لكثرةِ أنواعِه وأقسامِه، فإنه ينقسمُ إلى مُطْلَقٍ وإلى مُعَلَّقٍ، فالمُطْلَق هو الخارِجُ مخرجَ الخَبَرِ ينقسمُ إلى مُصَرَّحٍ فيه بالمَنْذورِ، وإلى غيره. ¬
فالمصرَّحُ فيهِ بجهةِ النَّذْرِ كقوله: (عَلَيَّ للهِ نَذْرٌ أَنْ أَحُجَّ)، وهذا لازمٌ عندَ الجمهورِ، وللشافعيةِ وَجْهُ أنه لا يصحُّ (¬1)، وأظنُّه قولَ بعضِ السلف. والثاني كقوله: (للهِ عَلَيَّ نَذْرٌ). وقد اختلفوا في الواجبِ عليه، فقال الكثيرُ منهم: في ذلكَ كفارةُ يمينٍ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كفَّارةُ النَّذْرِ كفّارَةُ يمَينٍ" (¬2). ولما رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نَذَرَ وسَمَّى، فعليه ما سَمَّى، ومَنْ لَمْ يُسَمِّ، فعليهِ كفارةُ يَمينٍ" (¬3)، وبهذا قال مالكٌ (¬4). وقال قوم: فيه كفارةُ الظِّهارِ. وقال قومٌ: أقلُّ ما يقعُ عليه الاسمُ من القُرَبِ من صيامِ يومٍ أو صلاةِ رَكْعتينِ (¬5). ¬
وقال الشافعيُّ: لا يلزَمُهُ شيءٌ، فليسَ بنذرٍ (¬1). والمعلقُ قد يكونُ مُعَلَّقاً على فِعْلِ اللهِ سبحَانُه؛ كقولهِ: إن شفى الله مريضي، فلله عليَّ كذا، وهذا أجمعَ العلماءُ على صحته. وقد يكونُ مُعَلَّقاً على فِعْل العبدِ. ثم هذا ينقسمُ إلى ما يُقْصَدُ به التقَّرُبُ إلى اللهِ تعالى؛ كقولهِ: إن جاءَ زيدٌ من سفره، فلله عليَّ كذا وكذا، وهذا لازِمٌ أيضاً. وإلى ما يقصدُ به الحَثُّ على الفِعْلِ أو المَنع منه؛ كقوله: إن كَلَّمْت زيداً، فلله عليَّ كذا، وهذا الذي يُسَمَّى نَذْرَ اللِّجاج والغَضَب، ويسمِّيه المالكيةُ أيماناً. وهذا اختلفَ العلماءُ فيه، وللشافعيةِ فيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ: قيل: يلزمُ الوفاءُ بما نَذَرَ، وقيل: لا يلزم، وقيل: هو مُخَيَّرٌ بين الوفاءِ بما نَذَرَ، وبين كَفارةِ يمينٍ (¬2). وأما مالِكٌ، فأخذَ بعموم الآيةِ، وألزم النذرَ على أيِّ جهةٍ وقع (¬3). * فإن قلتَ: فأمرُ اللهِ سبحانَهُ الحَجيجَ بوفاءِ النذورِ مستلزِمٌ استحبابَ النَّذْرِ، أو إباحَتَهُ، ولا يستلزمُ أن يكونَ مكروهاً، ولكنه يعارضُه ما رواهُ ابنُ عمرَ -رضي الله تعالى عنهما- عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن النذر، قال "إنه لا يأتي بِخَيْرٍ، وإنما يُسْتَخْرَجُ بهِ مِنَ البَخيلِ (¬4) ". ¬
قلنا: قد أجاب الشيخُ تقيُّ الدين بنُ دقيقِ العيدِ، وبعضُ المالكية، وقالا: إن الحديثَ محمولٌ على النذرِ الذي يكونُ في مقابلة تحصيل غرضٍ، أو دفعِ مكروه (¬1)، وهو نذرُ المُجازاة، وما سواهُ على نَذْرِ التبرُّرِ؛ كالنذرِ الذي يكونُ شُكْراً في مقابلةِ النعمَةِ. الجملة الثامنة: أمرَ اللهُ سبحانَهُ بالطَّوافِ بالبيتِ العتيق، وقد أجمعَ أهلُ العلمِ على أن المرادَ به طوافُ الإفاضَةِ، وأجمعوا على أنه رُكْنٌ من أركانِ الحَجِّ، وعلى أن صِفَتهُ أن يجعلَ البيتَ عن يسارِهِ. وبيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن سِتَّةَ أَذْرُعٍ أو سبعةَ أَذْرُعٍ، أو نَحْواً منْ سبعةِ أذرعٍ منَ الحِجْرِ منَ البيتِ، وطافَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ وراءِ الحِجْرِ، فإن طافَ طائفٌ داخِلَ الحِجْرِ، لم يَصَحَّ طوافُهُ؛ لمخالفتهِ الكتابَ والسُّنَّةَ قَوْلاً وفِعْلاً. وقال أبو حنيفةَ وأصحابُه: يصحُّ طوافُهُ داخلَ الحِجْر (¬2)، وأطلقَ لفظَ البيتِ على القواعدِ الموجودَةِ يومَ نُزولِ الخِطابِ، وهيَ الموجودةُ الآن. * وأحسبُهُمْ أَجْمَعوا على أَنَّ من شرائِطِه سَتْرَ عَوْرَة الطائِف (¬3). ¬
* واختلفوا في طَهارتهِ منَ الحَدَثِ والخَبَثِ. فذهبَ مالكٌ والشافعى إلى اشتراطِ الطهارةِ من النَّجَسِ (¬1)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأسماءَ بنتِ عُمَيْس: "اصْنَعي ما يَصْنَعُ الحاجُّ غَيْرَ أَلاّ تَطوفي بالبَيْت" (¬2). وذهب الشافعيُّ إلى اشتراطِ الطهارةِ من الحَدَثِ (¬3)؛ لقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الطَّوافُ بالبيتِ صَلاةٌ، إلا أَدن اللهَ أباحَ فيهِ الكلام" (¬4). وذهبَ أبو حنيفةَ إلى أنه لا يشترطُ فيه شيء من ذلك؛ كالسَّعْيِ بينَ الصَّفا والمَرْوَةِ (¬5). * وبيهنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صِفَتَهُ مِنَ الرَّمَلِ والاضْطِباعِ والتقبيلِ والاستلامِ، وغيرِ ذلكَ من الأدعيةِ والأذكارِ، وأَنَّ من سُنَنِهِ رَكْعتين بعدَ الطَّوافِ خَلْفَ المَقامِ. * ولتسميةِ اللهِ سبحانَهُ لَهُ عَتيقاً معانٍ كثيرةٌ عندَ أهلِ العلمِ، وكُلُّها حَسَنَةٌ ¬
لائِقَة به موافقة في مَعْناه، زادَهُ اللهُ تشريفاً وتكريماً. فقيل: معناه كريماً؛ لأن العتقَ هو الكَرَمُ، ومنهُ عَتْقُ الرقبةِ (¬1) لخروجِه من ذُلِّ الرّقِّ إلى كَرَمِ الحُرِّيَّةِ. وقيل: لقدمِهِ لأنه أولُ بيتٍ وُضِعَ للناس. وقيل: إِنَّه أُعْتِقَ منَ الغَرَقِ. وقيل: لأنه عتقَ من الجبابرةِ، فلا تنالُهُ يَدُ جَبَّارٍ. وقيل: لأنه لا مُلْكَ فيهِ لأحدٍ، بل جعلَهُ اللهُ للناسِ سواءً. * * * 198 - (5) قوله عَزَّ وجَلَّ: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]. * المرادُ بالشعائِرِ هُنا البُدْنُ المُشْعَرَةُ، أي: المُعَلَّمَةُ بِجَرْحِ سَنامها؛ لِيُعْلَمَ أَنَّها هَدْي، والدليلُ على أنها المرادُ عَوْدُ الكناياتِ المُخْتَصَّةِ بالبُدْنِ عليها، وقد أَشْعَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هَدْيَهُ، وسَلَتَ عنهُ الدَّمَ (¬2). * وتعظيمُها اسْتِسْمانُها واسْتحْسانُها. وقَدْ أهدى عُمَرُ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- نَجيبَةً، فأُعْطِي بها ثلاثَ مئةِ دينارٍ (¬3)، وكان عُرْوَةُ بنُ الزُّبيرِ يقولُ لبنيه: يا بنيَّ! لا يُهْدِيَن أَحَدُكم من ¬
الهَدْيِ شَيْئاَ يَسْتَحْيي أنْ يُهديَه لِكَريم؛ فإنَ اللهَ أَكْرَمُ الكُرَماءِ وأَحَق مَنِ اختيرَ له (¬1). * وقد اتفقَ الناسُ على استحبابِ تعظيمِ الضحايا أبضاً كالهَدايا، واتفقوا على أن الأفضلَ في الهدايا الإبِلُ، ثُمَّ البَقَرُ، ثمَّ الغَنَمُ (¬2). * وأَمَّا في الضحايا: فَكَذلكَ قال الشافعيُّ (¬3)، وذهبَ مالكٌ إلى أنه بعكسِ الهَدايا، فالأَفْضَلُ عندهُ الكِباشُ، ثمَّ الغنمُ، ثمَّ البقرُ، ثمَّ الإبلُ (¬4). وقيل عنه بتقديمِ الإبلِ على البَّقَرِ. واحتجَّ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُضَحَّي بالكِباشِ، وبأنَّ إبراهيمَ الخَليل - صلى الله عليه وسلم - فَدَى ابنَهُ بكَبْشٍ، وبقيَ ذلك سُنةَ بعدَهُ؛ لقولهِ تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} [الصافات: 108]. وللشافعيِّ أن يَحْتَجَّ بانهُ قد ثبتَ أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَ النَّحْرَ والذبْحَ. روى البخاري عنِ ابنِ عمرِ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما- أنه - صلى الله عليه وسلم - كانَ يذبَحُ ¬
ويَنْحَرُ بالمُصَلَّى (¬1)، وبقوله: - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ راحَ في السَّاعَةِ الأُولى، فَكَأَنَّما قَرَّبَ بَدَنَةً، ومَنْ راحَ في الساعَةِ الثانيةِ، فَكَأَنَّما قَرَّبَ بَقَرةً، ومن راحَ في السّاعَةِ، الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّما قَرَّبَ كبْشاً" (¬2). * ومن تعظيمِ شعائرِ اللهِ تَعالى عندَ مالكٍ والشافِعيِّ وغيرهما ما اشتهرَ من عَمَلِ السلفِ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم- منْ تَجْليل البُدْنِ بالثِّيَابِ (¬3)، فكانَ بعضُ السَّلَفِ يُجَلِّلُها بالوَشْيِ، وبَعْضُهم بالحِبَرِ، وبعضُهم بالقَباطِي والمَلاحِفِ والأُزُرِ، وكانَ ابنُ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- يُجَلّلُها الأَجْلالَ المُرْتَفِعَةَ منَ الأَنْماطِ والبُرودِ والحِبَرِ (¬4)، وكان ابنُ عُمَرَ يَقِفُ بالهَدْيِ بعَرَفَةَ، ويَراهُ من تَعْظيمِها، وكانَ يقولُ: الهَدْي ما قُلِّدَ وأُشْعِرَ ووُقِفَ بِهِ بعرفَة (¬5). * وأباحَ اللهُ سبحانَهُ لنا الانتفاعَ بهِا إلى أَجَل مُسَمًّى، واختلفَ أهلُ العلمِ بالقرآنِ في هذا الأَجَلِ. فقالَ أكثرُ المُفَسِّرينَ: هُوَ وَقْتُ تَسْمِيَتِهِ لَها هَدْياً، فَلَهُ أنْ ينتفعَ بركوبِها ¬
ولبنِها ونَسْلِها وأَصْوافِها وأَوْبارِها، ما لَمْ يُسَمِّها هَدْياً، فإذا سَمّاها، انقطَعَتِ المنافِعُ (¬1). وقالَ عطاءُ بنُ أبي رَباحٍ: هو وَقْتُ نَحْرِها (¬2)، وبهِ قالَ عامَّةُ الفُقهاء (¬3)؛ لأنها قبلَ تسميتِها وإيجابها لا تُسَمَّى شَعائِرَ، ولِما روى أبو هريرةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً يسوقُ بَدَنَةً، فقالَ: "ارْكَبْها"، فقال: إنَّها بَدَنة، فقالَ في الثانيةِ أوِ الثالثة: "ارْكَبْها وَيْلَكَ" (¬4)، خَرَّجَه البخاريُّ ومسلمٌ. ولكنهم اختلفوا: فذهبَ بعضُ الظاهريةِ إلى جوازِ ركوبِها من غيرِ ضَرورةٍ ما لم يُضِرَّ بِها؛ لمطلق الأمرِ، ولمخالفةِ شعارِ الجاهليةِ من إكرامِ البَحيرَةِ والسَّائبة، وهو قولُ عروةَ بنِ الزبيرِ، ومالكٍ في روايةٍ عنه، وأحمدَ، وإسحاقَ. وذهبَ أبو حنيفةَ والشافعيُّ ومالِكٌ في الروايَةِ الصَّحيحةِ إلى جوازِ رُكوبِها عندَ الحاجةِ والضرورةِ دُونَ غيرِها (¬5)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ارْكَبْها ¬
بالمَعْروفِ إذا أُلْجِئْتَ إلَيْها (¬1) حَتَّى تَجِدَ ظَهْراً" (¬2). * وأما بيانُ المَحِلِّ، فقد تقدَّمَ ذِكْرُهُ في "سورةِ المائدة"، هَلْ هو مَكَّةُ، أو سائرُ الحَرَمِ؟! * * * 199 - (6) قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34]. المَنْسَكُ هاهنا -والله أعلمُ- هو المَصْدَرُ، من: نَسَكَ يَنْسُكُ إذا ذَبَحَ القُرْبانَ (¬3)، فأخبرَ اللهُ سبحانَهُ أَنَّهُ مشروعٌ لكلِّ أُمَّة، وليسَ من خصائصِ هذهِ الأمةِ. وقد أجمعَ المسلمونَ على مَشْروعِيَّةِ التَّقَرُّبِ بالهَدْيِ والأُضْحِية. فأَمّا الهَدْيُ، فقدْ تقدَّمَ ذكرُ انقسامهِ إلى واجبٍ ومُسْتَحَبٍّ، وأَمَّا الأضحِيَةُ، فاختلفَ أهلُ العلمِ فيها مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ. فذهبَ قومٌ إلى أنها مشروعَةٌ على الوُجوبِ، وبهِ قالَ أبو حنيفةَ (¬4). ¬
وذهبَ قومٌ إلى أنها على الاستحبابِ، وبه قالَ الشافعيُّ (¬1) وعنْ مالكٍ روايتانِ كالمَذْهبين (¬2). * * * 200 - (7) قوله عَز وجَل: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36]. البُدْنُ أَصْلُها الإِبِلُ المُبَدَّنة، ثمَّ صارَ اسمَ جِنْسٍ للإبِلِ. ثمَّ قيل: معنى صَوَافَّ: مُصَطَفَّة، وقيل: مَعْقولَة، وقرأَ ابْنُ مَسعودٍ: (صَوَافِنَ) (¬3) أي: معقولَةَ إِحْدى القوائم. * واستحبَّ جمهورُ أهلِ العلمِ نَحْرَها على هذهِ الصِّفَةِ (¬4). ¬
روينا في "صحيح مسلم" أَنَّ ابن عُمَرَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما- رأى قَوْما أَضْجَعوا بَدَنَة، فقال: قياما مُقَيَّدَة، سُنَّةَ نَبِيِّكُم -صلى الله عليه وسلم- (¬1). وقال أبو حنيفةَ والثوري: يستوي نَحْرُها قِياماً، وباركَةً (¬2). - ثمَّ أمرَ اللهُ سبحانَهُ بالأكلِ والإطعامِ منها: فمنَ الفقهاءِ من حملَ الأَمْرَيْنِ على الوُجوبِ، ومنْهم من حملهما على الاستحباب، ومنهم من استحبَّ الأكلَ وأوجبَ الإطعامَ، وقد تقدَّمَ ذكرُه قريبًا. وقد استدَلَّ مَنْ قالَ بتثليثِ لَحْمِ الأُضْحِيَةِ إمَّا وُجوبًا وإمّا استِحْبابًا بقوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]، ولا دليلَ فيه على التقدير، ولا سيما مع معارضَةِ قولهِ تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]. * وقد اختلفَ أهلُ العلمِ بالقرآنِ في حقيقةِ القانعِ والمُعْتَرِّ: فقيلَ: لقانعُ: الذي يسألُ، والمُعْتَرُّ: المُتَعَرِّضُ، قالَ الشاعرُ (¬3): [البحر الوافر] لَمالُ المَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي ... مفَاقِرَهُ أَعَفُّ منَ القُنوعِ وقيل: القانعُ: الذي يَقْنَعُ ولا يَسْأَلُ، والمُعْتَرُّ: الذي يَعْتَري بالسُّؤالِ، ¬
قال الشاعرُ (¬1): [البحر الطويل] عَلَى مُكْثِرِيهِمْ حَقُّ مَنْ يَعْتَرِيهِمُ ... وَعِنْدَ المُقِلِّينَ السَّماحَةُ وَالبَذْلُ * وقَيَّدَ اللهُ سبحانَهُ حالَ الأكلِ بوُجوبِ جُنوبها، وذلكَ وَقْتَ خُروجِ الرُّوحِ منها، ومَفْهومُهُ أنَّهُ لا يَحِلُّ الأَكْلُ مِنْها قَبْلَ ذلكَ، وهو كذلكَ، فلا يَحِل الأَكْلُ منها، ولا القَطْعُ مِنْها قبلَ خُروجِ الروحِ منها إجماعاً. * * * ¬
سورة النور
سُوْرَةُ النُّورِ
من أحكام الحدود
(من أحكام الحدود) 201 - (1) قوله عَزَّ وَجلَّ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]. أقول: قد بَيَّنْتُ فيما مضَى أَنَّ هذهِ الآيةَ مُبيِّنَةٌ لآيةِ الحَبْسِ والأَذى الَّذي أَمَرَ اللهُ سبحانَهُ به في أمرِ الزُّناة في صَدْرِ الإسلام، لا أَنَّها ناسِخَةٌ لهُ. وبيَنَ اللهُ سبحانَهُ في هذهِ الآية أَنَّ حَدَّ الزاني والزانية أَنْ يُجْلَدوا مئةَ جَلْدَةٍ، وهذا عَامٌ في كُلِّ زانٍ، مسلما كانَ أو كافِراً، مُحْصَنا أو غيرَ مُحْصَنٍ، حُرًّا أو غيْرَ حُرٍّ. لكنْ قد أجمعَ أهلُ العلم على تخصيصِ عُمومها بالبكْرَيْنِ الحُرَّيْنِ، وأَنَّ الزانيَ إذا كانَ مُحْصَناً، فَحَدُّهُ الرَّجْمُ؛ خلافاً لقومٍ من أَهلِ الأَهْواءِ؛ حيثُ زَعَموا أَنَّ حَدَّ كُلِّ زانٍ الجَلْدُ (¬1). ولا التفاتَ إليه؛ لثبوتِ الرَّجْمِ من فعلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وفعلِ أبي بكرٍ وعُمَرَ وعلي (¬2) -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- ولما روَى عُبادَةُ بنُ الصَّامِتِ -رضيَ الله ¬
تعالى عنه-: أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبيلاً، البِكْر بالبِكْرِ جَلْدُ مِئَةٍ وتَغْريبُ عامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثيِّبِ جَلْدُ مِئَةٍ والرَّجْمُ" (¬1)، ولما رَوى أبو هُريرةَ وزيدُ بنُ خالدٍ الجُهَنِيُّ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-: أَنَّ رجلاً منَ الأَعرابِ أتى رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! أَنْشُدُكَ اللهَ إلَّا ما قَضَيْتَ لي بِكتابِ اللهِ، فقال الخَصْمُ، وهو أَفْقَهُ منهُ: نعم، اقْضِ بيننا بكتابِ اللهِ، وإِيذَنْ لي أتكلم، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "قل"، قال: إن ابني كانَ عَسيفاً على هذا، فَزَنى بامرأتِه، وإني أُخْبِرْتُ أَنَّ على ابني الرَّجْمَ، فافْتَدَيْتُ بِمِئةِ شاةٍ ووَليدَةٍ، فسألتُ أهلَ العلمِ، فَأَخبروني أَنَّمَا على ابني جَلْدُ مِئَةٍ وتغرِيبُ عامٍ، وأَنَّ على امْرَأَةِ هذا الرَّجْمَ، فقالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذي نَفْسِي بيَدِهِ! لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكمُا بكِتابِ اللهِ تَعالى، الوَليدَةُ والغَنَمُ رَدٌّ عليكَ، وعلى ابنِكَ جَلْدُ مِئة وتَغْريبُ عَامٍ، واغْدُ يا أُنَيْسُ على امْرَأةِ هذا، فإِنِ اعترفَتْ، فارْجُمْها"، قال فَغَدا عليها، فاعترفَتْ، فأمرَ بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَرُجمَتْ (¬2). وقالَ ابنُ عباس: سمعتُ عمرَ بنَ الخَطَّابِ يقولُ: الرَّجْمُ في كتابِ اللهِ عَزَّ وجَل حَقّ عَلى مَنْ زنى إذا أحصن من الرجال والنِّساء إذا قامَتْ عليه البَيِّنَةُ، أو كانَ الحَبَلُ، أو الاعترافُ (¬3). وقال أيضاً: قالَ عمرُ: خشيتُ أن يطولَ بالناس زَمانٌ حَتَّى يقولَ قائِلٌ: ¬
ما نجدُ الرَّجْمَ في كِتابِ اللهِ، فَيَضِلُّونَ بتركِ فَريضةٍ أَنزلَها اللهُ، ألا إن الرَّجْمَ إذا أَحْصنَ الرجلُ، وقامَتِ البينةُ، أو كانَ الحَبَلُ أوِ الاعترافُ، وقد قرأناها: (الشيخُ والشَّيخَةُ إذا زَنيَا فارجُموهُما ألبَتَّةَ)، وقَدْ رَجَمَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ورَجَمْنا (¬1). ثمَّ اختلفَ أهلُ السنةِ. فقالَ قومٌ ببقاءِ عُموم الآيةِ، فأوجَبوا الجَلْدَ معَ الرَّجْمِ في حَقِّ المُحْصَنِ، وإليه ذهبَ الحَسَنُ وأَحْمَدُ وإسحاقُ وداودُ (¬2)، واحتجُّوا بحديثِ عُبادَةَ بنِ الصَّامِتِ (¬3)، ولما رُويَ: أَنَّ عَلِيًّا -رضي اللهُ تعالى عنه- جَلَدَ شُرَيْحَةَ الهَمْدانِيَّةَ يومَ الخَميسِ، ورجَمَها يومَ الجُمُعة، وقال: أَجْلِدُها بكتابِ اللهِ، وأرجُمُها بِسُنَّةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وقالَ جُمهورُهم: نُسِخَ الجَلْدُ عن المُحْصَنِ (¬5)؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجَمَ ماعِزاً، ولَمْ يَجْلِدْهُ (¬6)، وأَمَر أُنَيْساً أن يغدوَ على امرأةِ الرجلِ، فإن اعترفَتْ ¬
فليَرْجُمها (¬1)، ولم يأمرْهُ بجلدِها، ومعلومٌ أنَّ حديثَ عُبادَةَ قَبْلَهُما؛ لقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "خُذُوا عَني، خُذُوا عَني، قَدْ جعلَ اللهُ لَهُن سَبيلاً"، فيكونُ مَنْسوخاً. فإن قلتَ: لا يجوزُ نَسْخُ حديثِ عُبادة بما روي من فِعْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وبحديثِ أُنَيْسٍ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخبرَ عنِ اللهِ سُبْحانه أَنَّه قدْ جعلَ لهن سبيلاً، والسبَّيلُ الذي جَعَلَهُ في كتابِه الذي ثبَتَ رَسْمُهُ وحُكْمُهُ جَلْدُ مِئةٍ، والسَّبيلُ الذي جَعَلَهُ فيما نُسِخَ لفظُه وبقيَ حكمُه الرَّجْمُ للشيخ والشيخَةِ، فيجبُ حينئذِ جَلْدُ المُحْصَنِ ورَجْمُهُ بالآيتينِ، ويجبُ جلدُ غيرِ المُحْصَن بإحدى الآيتين، وقد تقرَّرَ عندَ المُحَقِّقين من أهلِ النظر أَن السُّنَةَ لا تنسَخُ الكِتابَ، فلو جازَ نسخُ حديثِ عُبادةَ، لجازَ نَسْخُ الكِتابِ؛ لأنه مُخْبِرٌ عنِ اللهِ سبحانه. قلنا: يجوز نسخه؛ لأنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُخْبِرْنا أنَّ اللهَ سبحانَهُ أنزلَ ذلكَ في كتابِه وجَعَلهُ سبيلاً للزُّناة في القرآنِ، وإنما أخبرَ أنَّ اللهَ تَعالى جعلَهُ سَبيلاً لهم، والظاهرُ أنه بِوَحْي منه سبحانَهُ، لا بقرآنِ أنزلَهُ؛ بدليلِ قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "خُذُوا عَني"، فأضاف الأَخْذَ إليه - صلى الله عليه وسلم -، وبدليلِ ذكرِهِ للتَّغْريب، ولمْ يكنْ فيما أنزلَ اللهُ من القرآنِ، فحينئذِ يكونُ القرآنُ نزل بعدما أعلمَهُ اللهُ بشرعهِ وَحْياً، وبعدَ أَنْ نسخَ ما تضمَّنَهُ حديثُ عُبادة، واستقرَّ الحُكْمُ والشرعُ على عمله - صلى الله عليه وسلم -. فإن قلتَ: لو تَمَّ هذا، أو صَحَّ (¬2)، لَزِمَكَ (¬3) أَنْ تجعلَ السُّنَةَ، وهيَ حديثُ عُبادَةَ، ناسِخَة للكتابِ من قوله تَعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ ¬
حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، فتكونَ فارًّا مِنْ نَسْخِ الكتابِ بالسنَّةِ إلى نَسْخِ الكتابِ بالسنَّةِ. قلتُ: قد بَيَّنْتُ في "سورةِ النساءِ" أَنَّ آيةَ الحَبْسِ لَيْسَتْ بمنسوخةٍ، لا بكتابٍ، ولا سُنَةٍ، وإنَّما هي مُبَيِّنَةٌ؛ خِلافاً لما تَوَهَّمهُ أبو عبدِ اللهِ الشافعيُّ وكثيرٌ من الناسِ معهُ، وهذا تحقيقٌ عزيزٌ، فاسْتَمْسِكِ به، هداك اللهُ الكريمُ وإيّانا، وللهِ الحَمْدُ رَبِّ العالمين. * إذا تَمَّ هذا، فقد أجمعوا على تَخْصيص عُمومِها بأنَّ حَدَّ الأَمَةِ خَمسونَ جلدةً؛ لقوله تعالى {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. * واختلفوا في تَخْصيصِ عُمومها بتقييدِ قولي تَعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: 16]، وقد تقدَّمَ الكلامُ عليه في "سورةِ النساء". * وكذلك اختلفوا في وُجوبِ التغريبِ مع الجَلْدِ: فأوجَبَهُ الشافعيُّ (¬1)؛ لحديث عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ وأَبي هُريرةَ وزَيْدِ بنِ خالدٍ الجُهَنِيِّ، ولثبوتِه عن أبي بكرٍ وعمرَ، وعُثمان، وعَليٍّ، وعبدِ الله، وأَبي الدَّرْداءِ -رضي الله تَعالى عنهم -. ومنعه أبو حنيفةَ وأصحابهُ بناءً على أصلِهم من أنَّ الزيادَةَ على النَّصِّ نَسْخٌ، والكتابُ لا يُنْسَخُ بخبرِ الواحِد (¬2)، وبأنَّ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - ¬
نَفَى رجلاً، وقالَ: لا أنفي بعدَهُ (¬1). ورُدَّ بأنَّ عمرَ نَفى في الخَمْرِ، ثم رأى أنه (¬2) بدعةٌ، فليسَ الخمر كالزنا (¬3). وقالَ مالكٌ: يغرَّبُ الرجلُ دُونَ المرأةِ؛ لأَنَّها تُعَرَّضُ بالغُرْبَةِ لأكبرَ مِنَ الزنى (¬4)؛ بناءً على أصلهِ من العملِ بالمَصالحِ المُرْسَلَةِ التي هيَ ضَرْبٌ منَ الاسْتِحْسان. * وأَمْرُ اللهِ سبحانَهُ بجلدِ الزُّناةِ مُطْلَقٌ في جميعِ الأحوالِ، ولا شَكَّ في أَنَّ حال الإنسان مختلفٌ بالصِّحَّةِ والمَرَضِ، والحَرِّ والبَرْدِ: فذهبَ قومٌ إلى حملِ الأمرِ على إطلاقِه، فأقاموا الحَدَّ في جَميعِ الأحوال؛ لأنه فريضةٌ واجبةٌ، فلا تُؤَخَّرُ عن وَقْتِها، ولأنَّ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - أقام الحَدَّ على قُدامَةَ وهو مريضٌ، ولأنه أبعدُ منَ الرأفَةِ بالزَّاني، واللهُ تَعالى يقول: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2]. وبه قالَ أحمدُ وإسحاقُ (¬5). وذهبَ الجمهورُ إلى تقييدِ هذا الإطلاقِ بالمعنى، فلا يُقامُ عليهِ إلا عندَ اعتدالِ الحالِ والهواءِ؛ لما فيه من خوفِ الهَلاكِ عليه، ولشهادَةِ الأُصولِ بتأخيرِ الفَرائِضِ عندَ خَوْفِ الهلاكِ (¬6). ¬
* ثم أمرَ اللهُ سبحانَه بأنْ يشهدَ عَذابَهُما طائِفَةٌ منَ المؤمنين، وهذا الأمرُ عندَ أهلِ العلمِ للاسْتِحباب، وإنَّما اختلفوا في أَقَلِّ الطَّائِفَةِ، فقيلَ: أربعةٌ، وقيل: ثلاثةٌ، وقيل: اثنان (¬1). * * * 202 - (2) قوله عَزَّ وجَلَّ: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]. أقول: مثلُ هذهِ الآيةِ في الحَصْرِ ما روى أبو هُريرةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه -: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَنْكِح الزَّاني المَجْلودُ إلَّا مِثْلَهُ" (¬2). * وقد اختلفَ الناسُ في هذهِ؛ لمخالفةِ ظاهِرِها القواعدَ المتقررَةَ في الشريعةِ المُجْمَعَ عليها: فذهبَ قومٌ إلى الأَخْذ بظاهرِها وظاهرِ الحديثِ، فَحَرَّموا نِكاحَ الزانيةِ المجلودةِ إلَّا على مِثْلِها زانٍ مَجْلودٍ، وحَرَّموا نِكاحَ الزاني إلا على زانيةٍ (¬3)، ورويَ عنِ ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنه-: أنه قال في الآية: هو حكمٌ ¬
بينَهُما. حتى قالَ قومٌ: طَرَآنُ الزنى يَفْسَخُ النكاحَ (¬1). والأخذُ بظاهرِ الآيةِ ضعيفٌ؛ للإجماعِ على أنه لا يجوزُ للمسلمةِ الزانيةِ أن تنكحَ مُشْرِكاً، وأنه لا يجوزُ للزاني المسلمِ أن ينكحَ مشركةً غيرَ كتابية، ولِما رُوي: أن رجلاً قال: يا رسولَ الله! إن زوجتي لا تَرُدُّ يدَ لامِسٍ، فقال لهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "طَلِّقْها"، فقال له: إني أريدُها، فقالَ له: "فَأَمْسِكْها" (¬2). ثم اختلفَ الآخرونَ: فمنهُم مَنِ ادَّعى أنها منسوخةٌ (¬3) بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]، فدخلَتِ الزانيةُ في أيامى المُسلِمين. وبه قالَ سعيدُ بنُ المُسَيِّبِ، واختارَهُ الشافعيُّ، قال: أنا سُفيانُ، عن يحيى بنِ سعيدِ، عن سعيد بنِ المسيِّبِ: أنه قالَ في قول الله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]: إنها منسوخةٌ، نسخَها قولُ اللهِ عَر وجَل: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]، فهي من أيامى المسلمين. ثم قال: والذي يشبه -والله أعلم- ما قالَ ابنُ المسيِّبِ (¬4). وهذا القولُ ضعيفٌ جِدًّا لوجهينِ: ¬
أحدهما: عدمُ التعارُضِ من وَجْهين أيضًا (¬1): أحدهما: أن الأمرَ بإنكاحِ الأيامى لا يُعارِضُ إنكاحَ الزانيةِ بالزاني؛ فإنا إذا أنكَحْنا الزانيةَ بالزاني، فقدِ امتثلْنا أمرَ اللهِ تعالى، وأنكحْنا أَيِّماً من أيامانا. وثانيهما: أن الآية الأولى نهيٌ عن النكاح، والآية الثانية أمرٌ بالإنكاحِ، والإنكاحُ غيرُ النكاح. والثاني: أن النسخَ لا يكونُ إلا بخبرٍ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعِلْم بالمتأخِّرِ منهما، أو بإجماعٍ من عامَّةِ أهلِ العلمِ يدلُّ على الناسخُ منهما، وليسَ هذا بواحدٍ منهما. ومنْ أهلِ العلمِ مَنْ وَقَفَها على سبَبِها، فقالَ: نزلتْ في قومٍ من فُقَراءِ المُهاجرين هَمُّوا أن يَتَزَوَّجوا بَغايا كُنَّ بالمدينة لَهُنَّ راياتٌ، فأنزلَ اللهُ تحريمَ ذلكَ (¬2)؛ لأنهنَّ كُنَّ زانياتٍ ومشركاتٍ، وبينَ أنه لا يتزوَّجُ بهنَّ إلا زانٍ أو مشركٌ، وأن ذلكَ حرامٌ على المؤمنين. ورُويَ أسبابٌ أُخَرُ في نُزولِها بمثلِ هذا المعنى (¬3). ومنهم مَنْ تَأَوَّلَها، وقالَ: خرج هذا النهيُ مخرجَ الذَّمِّ والتَّحقيرِ للزُّناةِ، والتشريفِ لذَوي العِفَّةِ، فهوَ كقولهِ تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26]، وهذا أحسنُ، وأَحْسَنُ منهُ ما رُوي عن ابن عباس (¬4) -رضي الله تعالى عنهما -: أنَّ المُرادَ ¬
بالنِّكاح في هذهِ الآيةِ الوطءُ، فقال: أما إنه ليسَ بالنِّكاح، ولكنْ لا يجامِعُها إلا زانٍ أو مشركٌ، وحُرِّمَ ذلكَ على المؤمنين (¬1)، أي: وحُرِّم الزنى على المؤمنين، ومعناه أَنَّ الزانيَ لا يَزْني إلا بزانيةٍ مثلِهِ منْ أهلِ القبلَةِ لا تستحِلُّ الزنى، أو مشركَةِ تستحلُّ الزنى، وكذلكَ الزانيةُ من المسلماتِ لا تزني إلَّا معَ زانٍ من المسلمينَ لا يَسْتَحِلُّ الزنى، أو مَعَ مشركٍ يستحلُّ الزنى. والقولُ بوقفِ الآيةِ على سببِها حسن متعيِّنٌ إن صَحَّ السببُ، ولكنه يحتاجُ إلى تأويل وتوضيحٍ. ومَعْناه: (الزاني) المشركُ (لا ينكحُ إلا زانيةً)، وهي مشركةٌ، (أو مشركةً)، وهي عفيفةٌ (¬2) -كما كانَ ذلكَ عادةَ المشركينَ في أنكحَتِهم- وهذه الجملةُ ليستْ محل السبب والنهي. (والزانيةُ) أي: المشركةُ - كما هي صفةُ البغايا اللاتي وَرَدَ فيهنَّ النهيُ - (لا يَنْكِحُها إلا زانِ أو مشركٌ)، وإن لمْ يكنْ زانياً، وهذهِ الجملةُ هي مَحَلُّ السببِ. وإنَّما احْتَجْنا إلى هذا التأويلِ؛ لأَنَّا لو أَطْلَقْنا الزانيَ في المسلمِ والكافرِ؛ لَجَوَّزْنا للمسلمِ نكاحَ المشركَةِ الوثنيةِ، ولو أطلقنا الزانيةَ في المسلمةِ والكافرةِ، لَجوَّزْنا للمسلمةِ الزانيةِ أن تنكحَ مُشْرِكاً، ولم تردْ شريعَتُنا بهذا قَط، قالَ اللهُ تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، وقد عُلِمَ بهذا التَّحقيقِ أَنَّ الآية وردَتْ لبيانِ أنكحةِ المُشركين وصِفَتِها. ثم قال الله تعالى بعد بيانه (¬3): {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]. ¬
203 - 204 (3 - 4) قوله جَلَّ ثَناؤُهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 4 - 5]. * أمرنا اللهُ سبحانَهُ أن نَجْلِدَ قاذِفَ المُحْصَناتِ ثَمانينَ جَلْدَةً؛ عقوبةً وزَجْراً. * واقْتَضى الخِطابُ بمَفْهومِهِ أَلَّا نجلِدَ قاذفَ غيرِ المُحْصَناتِ، وعلى العملِ بهذا المَفْهومِ أجمعَ أهلُ العِلْمِ (¬1). * وقد ذكرتُ فيما مضى أنَّ الإحْصانَ يقعُ على مَعانٍ: على الحُرِّيَّةِ، وعلى العِفَّةِ، وعلى الإسلام، وعلى النكاح. وقد اتفقَ أهلُ العلمِ على أَنَّ النكاحَ غيرُ مُرادٍ بهذهِ الآية، لأنه يلزمُ منه أَلَّا يُجْلَدَ مَنْ قَذَفَ مَنْ لَمْ تنكحْ، ولا قائلَ بذلك. وعلى أن العفةَ مُرادَةٌ؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4]، ومفهومُهُ أن مَنْ قامَتْ عليهِ الشهادةُ أن لا حَدَّ على قاذفِه، ولقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ} [النور: 23]. واختلفوا في الحريةِ والإسلامِ، هل هُما مُرادان، أو لا؟ فذهبَ الجمهورُ إلى أنهما مُرادان؛ لوقوعِ الإحصانِ عليهِما، وبهذا أخذَ الشافعيُّ -رحمه الله تعالى - (¬2). ¬
وذهبَ قومٌ إلى أَنَّ قاذفَ الأَمَة والكافرةِ غيرُ مَجْلودِ، وبهِ قالَ مالكٌ، وخَصَّصوا الإحصانَ بالعِفَّة (¬1). واستدلَّ الجُمهورُ بما رُوي عنِ ابنِ عُمَرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ أَشْرَكَ باللهِ، فَلَيْسَ بمُحْصَنٍ" (¬2)، وبأن العبدَ إذا قذفَ المُحْصَنَ لا يَجِبُ عليهِ الحَدُّ كامِلاً؛ لنقَصانهِ، فوجبَ أن يسقطَ الحَدُّ عن قاذفِه؛ كقاذف الصبيِّ. فإن قلتم: فهل نجدُ في القرآنِ دليلاً على أنهما غيرُ مراديْنِ؟ قلت: نعمِ، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ}، فوَصَفَهُنَّ بثلاثةِ أوصافٍ: الإيمانِ، والغَفْلَةِ عن الفاحِشَةِ، والإحْصانِ الذي هو الحريةُ، فإطلاقهُ هنا محمولٌ على هذا التقييد. * واتفقوا - فيما أَحْسِبُ - على اشتراطِ بُلوغِ المُحْصَنِ؛ لنقصانِ الصبيِّ (¬3)، لكن اعتبرَ مالكٌ في سِنِّ المرأة أن تطيق الوطْءَ (¬4). * وأوجبَ اللهُ سبحانَه هذهِ العُقوبَةَ على كُلِّ مَنْ يَصْلُحُ للخِطاب، ¬
ويدخُلُ في التكليف، وعلى هذا أجمعَ أهلُ العلم، فلم يوجبوا الحَدَّ على الصَّبيِّ (¬1). * واختلفوا في تَخْصيصِ هذا العُموم في تَنْصيفِ حَدِّ الأمة بقياسِه على تَنْصيفِ حَدِّ الزنى، فذهبَ جمهورُ فقهاء (¬2) الأمصارِ إلى تَنْصيفِهِ، وأنه يُجْلَدُ في القَذْفِ أَرْبعين، ورُويَ عن الخُلفاءِ الأربعةِ، وعنِ ابنِ عباس -رضي اللهُ تعالى عنهم - (¬3). وذهبَ قومٌ إلى أن حَدَّهُ كالحُرِّ، وبهِ قالَ ابنُ مسعودٍ -رضيَ اللهُ عنه - وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، والأوزاعيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأَهْلُ الظاهِرِ (¬4). * وكذلكَ اختلفوا في تخصيصِه بالوالدِ إذا قَذَفَ وَلَدَهُ. فقال الجُمْهورُ: لا يُحَدُّ لقذفِه؛ كما لا يُقْتَلُ بهِ إذا قَتَلَه. وقالَ أبو ثَوْرٍ بالعُمومِ، فَأَوْجَبَ عليه الحَدَّ (¬5). ¬
* واتفق أهلُ العلمِ على أن المرادَ برمي المحصناتِ هو الرميُ بصريح الفاحشة، واختلفوا في التَّعْريضِ بها، ووقع ذلكَ بينَ الصحابةِ في زمنِ عُمَرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه -، فاستشارَهُم، فاختلفوا عليه: فرأى عمرُ أنَّ عليهِ الحَدَّ، وبهِ قالَ مالكٌ (¬1). ورأى ابنُ مسعودٍ سقوطَ الحَدِّ، وبهِ قالَ عَطاءٌ، والثوريُّ، وابنُ أبي ليلى، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ (¬2)؛ لِما فيه من دَرْءِ الحَدِّ بالشُّبْهَةِ، ولأنَّ اللهَ سبحانَه أباحَ التعريضَ بالخِطْبَةِ في العِدَّةِ، فدلَّ على مُخالَفَةِ التَّعْريضِ للتصريحِ في الحُكْمِ. والقرآنُ وردَ في قذفِ المُحْصَناتِ من النساءِ، والمُحْصَنونَ من الرِّجالِ في مَعْناهم بإجماعِ أَهْلِ العلمِ بالقرآن (¬3). * ثم حكمَ اللهُ سبحانَهُ في القاذِفِ بأنه لا تُقْبَلُ شهادَتُه أبداً، وسَمَّاه فاسِقاً، ولعنَهُ في آيةٍ أخرى (¬4)، ثم رفع الله عنه سِمَةَ الفسقِ بالتوبةِ، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5]. * واتفقوا على أن الحَدَّ لا يسقطُ بالتوبة؛ لأنه حَقٌّ متعلِّقٌ بالآدميِّ. ¬
* واختلفوا في قَبولِ شهادتِه: فذهبَ أبو حنيفةَ إلى رَدِّ شَهادتِه أبداً (¬1). وذهبَ مالِكٌ والشافعيُّ إلى قَبولها إذا تابَ (¬2). قالَ جَماعةٌ منْ أهلِ العلمِ بالأُصول: والسببُ في اختلافِهم هذا هو اختلافُهم في الاستثناءِ إذا تعقبَ جُمَلاً، هل يعودُ إلى الجملَةِ الأخيرةِ، أو إلى الجميع، إلا ما أخرجه الدليل؟ وعندي أنَّ المُلجِئَ لأبي حنيفةَ إلى رَدِّ شهادته ذكرُ التأبيدِ الذي ذَكَرَهُ اللهُ سبحانَهُ، وجعلهُ عقوبةً للشهادةِ (¬3) المفتريةِ الكاذبةِ، فلا تقبلُ أَبَداً. ولكنَّ الجمهور من الأصوليين على أن النسخ يرفَعُ الحُكْمَ الذي قَبْلَهُ، وإنْ كانَ مَقْروناً بلفظِ التأبيدِ، وينبغي أن يكونَ مثلَهُ التخصيصُ؛ لأن النسخَ تخصيصُ الأزمانِ، وتَخْصيصُ العُمومِ تَخْصيصُ الأعيانِ. فإن قلتم: فقدِ استدلَّ أبو حنيفةَ بحديثِ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أبيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجوزُ شهادَةُ خائنٍ، ولا خائِنَةٍ، ولا مَحْدودٍ في الإسلام، ولا ذي غِمْرٍ على أخيهِ" (¬4)، فما الجواب عنُه، وما دليلُ الشافعيِّ من السنَّةِ؟ ¬
قلْنا: هذا حديثٌ لم يَرْوِهِ عَنْ عَمْرِو ثقةٌ، والَّذي رواهُ عن عَمْرٍو، وهو ثقةٌ، لم يذكرْ فيهِ المَحْدودَ، وإن صَحَّ، فالمرادُ بهِ قبلَ أن يتوبَ؛ كما هو المرادُ بسائرِ مَنْ ذكرَ معهُ من ذَوي الغِمْرِ والخِيانَةِ. وأمّا حُجَّةِ الشافعيِّ، فإنه قالَ: أنا سُفيانُ بنُ عيينة قال: سمعتُ الزُّهْرِيَّ يقولُ: زعمَ أهلُ العراقِ أَنَّ شهادَةَ القاذِفِ لا تجوزُ، أشهدُ لأَخْبَرَني سعيدُ بنُ المسيِّبِ أَنَّ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - قال لأبي بَكْرَةَ: تُبْ تُقْبَلْ شَهادَتُكَ، أو: إنْ تُبْتَ تقبلْ شَهادَتُكَ. قال: وأخبرني مَنْ أثقُ بهِ من أهلِ المدينةِ عنِ ابنِ شهابِ عن سعيدِ بنِ المسيِّبِ: أن عُمَرَ بنَ الخَطّابِ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - لَمَّا جَلَدَ الثلاثةَ، استتابهم، فرجع اثنان، فقبلَ شهادَتَهُما، وأبى أبو بكرةَ أنْ يرجعَ، فردَّ شهادَتَه. قال: وبلغَني عن ابن عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما -: أَنَّه كانَ يجيزُ شهادةَ القاذفِ إذا تابَ. وقال بقبولِ شهادتِه عطاءٌ، وطاوسٌ، ومجاهدٌ، والشعبيُّ (¬1). * فإن قلتُم: فهل هذا الحَدُّ حَقٌّ للهِ عَزَّ وجَلَّ وللمَقْذوفِ جَميعاً، أو للمقذوفِ وَحْدَهُ؟ قلنا: اختلفَ الفقهاءُ في ذلك: فذهبَ أبو حنيفةَ، والثوريُّ، والأوزاعيُّ إلى أنه حَقٌّ للهِ تَعالى، فلا يَسْقُطُ بِعَفْوِ المقذوفِ (¬2). ¬
وذهب الشافعيُّ إلى أنه حَقٌّ للمقذوف وَحْدَهُ، ويَسْقُطُ بعفوِه (¬1). وقال قومٌ: حَقٌّ لهما، لكنْ إن بلغَ الإمامَ، غلبَ حَقُّ، فلم يَجُزِ العفوُ، وإن لم يبلغْهُ، جازَ؛ كما وردَ ذلكَ في السرقةِ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وعن مالكٍ روايتان كالقولين الأخيرين (¬2)، والله أعلم. * * * 205 - 206 (5 - 6) قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 6 - 7]، الآيتان. روينا في "صحيحِ البخاري" عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ: أَنَّ عُوَيْمِراً أتى عاصمَ بنَ عَدِيٍّ، وكان سَيِّدَ بَني عَجْلانَ، فقال: كيفَ تقولونَ في رجلٍ وَجَدَ معَ امرأتِه رجلاً، أيقتُلُه فتقتلونَهُ، أمْ كيفَ يَصْنَعُ؟ سَلْ لي رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأتى عاصِمٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فسألَهُ، فكرهَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المسائِلَ، فسأله عويمرٌ، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَرِهَ المسائِلَ وعابَها، قالَ عُوَيْمِرٌ: واللهِ لا أَنتهي حَتَّى أسألَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلكَ، فجاء عويمرٌ فقالَ: يا رسولَ اللهِ! رجلٌ وجدَ مع امرأتِه رجلاً، أيقتُله ¬
فتقتلونَهُ، أم كيفَ يصنعُ؟ فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ أنزلَ اللهُ فيكَ وفي صاحِبَتِكَ"، فأمرَهما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالمُلاعَنَة بِما سَمَّى اللهُ في كتابِه، فلاعَنَها، ثم قال: يا رسولَ اللهِ! إن حبستُها فقد ظلمتُها، فطلَّقَها ثلاثاً، فكانتْ سُنَّةً لِمَنْ كانَ بعدَهما في المتلاعنين، ثم قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "انظُروا، فإنْ جاءَتْ بهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ العَيْنَينِ عَظيم الإلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ الساقَيْنِ، فَلا أَحْسَبُ عُوَيْمِراً إلّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْها، وإنْ جاءَتْ بهِ أَحْمَرَ كأنهُ وَحَرَةٌ، فلا أَحْسَبُ عُوَيْمِراً إلا قَدْ كَذَبَ عَلَيْها"، فجاءَتْ بهِ على النَّعْتِ الذي نعتَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من تصديقِ عويمرٍ، فكان بَعْدُ يُنْسَبُ إلى أمِّهِ (¬1). ورويناه فيه أيضاً عنِ ابنِ عَبّاسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما -: أَنَّ هلالَ بنَ أُمَيَّةَ قذفَ امرأتَهُ عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِشَريكِ بنِ سَحْماءَ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "البيَّنَةَ أو حَدٌّ في ظَهْرِكَ"، قال: يا رسولَ اللهِ! إذا رأى أحدُنا على امرأتِهِ رَجُلاً ينطلِقُ يَلْتَمِسُ البَيِّنَةَ؟! فجعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "البيَّنَةَ وإلاّ حَدٌّ في ظَهْرِكَ"، فقال هلالُ بنُ أميةَ: والذي بعثك بالحَقِّ! إني لصادقٌ، ولَيُنْزِلَنَّ اللهُ ما يُبَرِّئُ ظَهْري منَ الحَدِّ، فنزل جبريلُ، وأنزل اللهُ عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}، فقرأ حتى بلغ: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6 - 9]، فانصرفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فأرسلَ إليها، فجاءَ هلالٌ فشهدَ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ اللهَ يعلمُ أَنَّ أَحَدَكُما كاذبٌ، فهلْ منكما (¬2) تائِبٌ؟ "، ثم قامت فشهدَتْ، فلما كان عندَ الخامسةِ وَقَفُوها وقالوا: إنها مُوجِبَةٌ، قال ابنُ عباسٍ: فَتَلَكَّأَتْ ونَكَصَتْ حتى ظَنَنَّا أنها ترجعُ، ثم قالَتْ: لا أَفْضَحُ قومي سائرَ اليومِ، فمضت، وقال النبيُّ: - صلى الله عليه وسلم -: "انْظُروها، فإنْ جاءَتْ به أَكحَلَ العَيْنَيْنِ سابغَ ¬
الإلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ الساقَيْنِ، فهو لِشَريكِ بنِ سَحْماءَ"، فجاءَتْ به كذلك، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْلا ما مَضَى مِنْ كتابِ اللهِ، لَكانَ لِي وَلَها شَأْنٌ" (¬1). والظاهِرُ عندي - واللهُ أعلمُ - أنَّ هذه القصةَ (¬2) والتي قبلَها سببُ نُزولِ هذهِ الآية؛ كما هو مُصَرَّحٌ بهِ في القِصَّتينِ (¬3) من لَفْظِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ومن لَفْظِ الراوي في حَديثِ ابنِ عَبّاسٍ، فقد يتفقُد السؤالُ من رَجُلَيْنِ، ويُنزل اللهُ الحكمَ جواباً لهما، والتشبيهُ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في إحدى القصتين (¬4) بشَريكِ بْنِ سَحْماء، وفي الأُخْرى بِصِفَتِه يحتملُ أن يكونَ السائلانِ قذفا امرَأَتيهِما به، ويحتملُ أَنَّ أحدَهما قذفَ امرأتَهُ بهِ، والآخر قذفَ امرأتَهُ برجلٍ يشبههُ، ولست أعلم فيه شيئاً، واللهُ أعلمُ. فَبَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حُكْمَ المتلاعِنَيْنِ كما بينهُ اللهُ سبحانَه، وأجمعتِ الأمةُ عليهِ. واختلفوا في هذا البَيانِ، هلْ هوَ بطريقِ النَّسْخِ، أو بطريقِ التخصيصِ؟ فقال قومٌ: هو بطريقِ النَّسْخِ، فهذهِ الآيةُ ناسخةٌ (¬5) لوجوبِ الحَدِّ على الزوجِ بِقَذْفِ زَوْجَتِه. واحتجُّوا بحديثِ ابنِ عباس -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما -، فإنَّه يدلُّ دَلالةً بينةً على أن الحَدَّ كان واجِباً على القاذِفِ لزوجتِه، أو لغيرِها؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬
أوجبَ عليهِ الحَدَّ، ويدلُّ على أنَّ الآيةَ الأولى كانَتْ عامَّةً في القاذفِ لزوجتِه ولغيرِها، ثم أخرج منها القاذف لزوجته، وحكي هذا عن ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما -، وهذا القولُ لا يستقيمُ إلَّا على قولِ مَنْ يقولُ: إنَّ البيانَ لا يتأخَّرُ عنِ الخِطاب. وذهبَ قومٌ من المُحَقِّقين إلى أنه بطريقِ التَّخصيصِ، وأن هذهِ الآيةَ تدلُّ على أن المُرادَ بالآيةِ الأولى القاذفُ لغيرِ زوجَتِه، وأنها منَ الخِطاب الذي يردُ عامًّا، ويُرادُ به الخاصُّ، ولهذا قالَ الشافعيُّ -رحمه اللهُ تعالى -: فيفرقُ بينَهما كما فَرَّقَ اللهُ، ويجمعُ بينَهما حيثُ جمعَ اللهُ. ولهؤلاءِ أنْ يقولوا: إنما أوجبَ عليهِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الحَدَّ اتِّباعاً لِعُمومِ كتابِ اللهِ تعالى، لا أنه حكمٌ قدِ استقرَّ، وذلكَ باجتهادٍ واستدلالٍ منه - صلى الله عليه وسلم -، والاجتهادُ جائزٌ لهُ، وواجبٌ عليهِ عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ. * وعُمومُ هذهٍ الآيةِ كعُموم الآيةِ الأولى، فيدخلُ فيها كُلُّ مَنْ كانَ يصلُح لهُ الخِطابُ من ذوي التكليف، فَيَصِحُّ اللِّعانُ من كل زوجٍ يَصِحُّ طلاقُهُ ويمينُهُ، سواءٌ كانا حُرَّيْنِ، أو عَبْدَينِ، مُسلمين أو كافرين، أو أحدُهما حُرًّا والآخرُ عبداً، أو أحدُهُما كافراً، والآخرُ مسلماً، أو أحدُهما محدوداً، والآخرُ غيرَ محدود، وبهذا قالَ مالكٌ والشافعيُّ -رحمهما الله تعالى - (¬1). وذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابُه إلى تخصيص هذا العُموم، فلا يجوزُ اللِّعانُ إلا لمسلمينِ حُرَّينِ عَدْلَينِ (¬2)؛ لأن اللهَ سبحانَه وتعالى سَمّاهما شُهَداء، ¬
فاشترَطَ فيهما ما يشترطُ في الشهود، حتى منعَ لِعانَ الأخرسِ؛ كشهادته. ولقائلِ أن يقولَ للحنفيَّةِ: الحُرُّ العَدْلُ المسلمُ إذا قذفَ زوجتَهُ الأَمَةَ أو الكتابِيَّةَ، فلا لِعانَ عليهِ، والشهادَةُ مقبولةٌ، فإن قالوا: إنَّما لم يَجُزِ اللِّعانُ لأنه إنَّما وُضِعَ لِدَرْءِ الحَدِّ، والحُرُّ لو قذفَ عَبْداً، أو المسلمُ قذفَ كافِراً، فلا حَدَّ عليهِ، فكذلكَ لا لِعانَ عليهِ، أَبْطَلْنا قولَهم بأنَّ هذا زيادةٌ في النَّصِّ بالقِياس، والزيادةُ نسخٌ، والقياسُ لا ينسخُ الكتابَ، ولكنَّهم احتجُّوا بما رواه عَمْرو بنُ شُعَيْبٍ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو -رضيَ اللهُ تعالى عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربعةٌ لا لِعانَ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ أَزْواجِهِم: اليَهودِيَّةُ، والنَّصْرانِيَّةُ تَحْتَ المُسلِمِ، والحُرَّةُ تَحْتَ العَبْدِ، والأَمَةُ عندَ الحُرِّ، والنَّصْرانِيَّةُ عِنْدَ النَّصْرانِيِّ"، وفي بعضِ طرقِه: عَنْ عمرِو بنِ شعيبٍ عن أبيهِ، عن جَدِّهِ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وردَّهُ الشافعيةُ بأن عَمْرَو بنَ شعيبِ عن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو منقطعٌ، وبأنّ روايته عن رجلٍ مجهولٍ، وهو يَزيدُ بنُ زُرَيْعٍ، ورجلٍ مشهورٍ بالغلطِ، وهو عَطاءٌ الخراسانيُّ (¬2). وأمّا هذهِ الشهادةُ فهي أيمانٌ في الحَقيقةِ، وإنْ سَمَّى اللهُ سبحانَهُ الأزواجَ شُهَداءَ؛ بدليلِ قوله تَعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107]، وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ ¬
لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1]، ثم قال: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2]، وقد وردَ في بعضِ ألفاظِ حديثِ هلالِ بنِ أُميَّةَ: "لولا الأَيمانُ لكانَ لي ولَها شَأْنٌ" (¬1). * وجعل اللهُ سبحانَهُ شهادةَ الزوجِ لنفسِه أضعفَ من شهادةِ الشُّهداءِ، فإنه إذا شهدَ أربعةُ شهداءَ, وجبَ الحدُّ على المقذوفِ، وليسَ لَهُ دَرْؤُهُ ولا دَفْعُهُ بحالٍ، وإذا شَهِدَ الزوجُ خَمْسَ شَهاداتٍ بالله، وَجَبَ على الزوجةِ الحَدُّ، ولكنَّها يمكنُها دَرْؤُهُ بشهادتِها أيضاً، وعلى هذا أجمعَ أهلُ العلمِ. ولكنَّهم اختلفوا فيما إذا لم يأتِ الزوجُ بأربعةِ شُهَداء، أو لَمْ يشهدْ بنفسِه خَمْسَ شهاداتٍ، بل نَكَلَ عن اليمينِ. فقالَ الجمهورُ: يُحَدُّ كالقاذِفِ الأجنبيِّ إذا لم يأتِ بأربعةِ شُهَداءَ (¬2)، فيُجمعُ بين القاذفِ الأجنبيِّ وبينَ القاذفِ سِواهُ فيما جمعَ اللهُ، ويفرَّقُ بينَهما فيما فرَّقَ اللهُ تعالى، ويدلُّ عليه أيضًا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "البَيِّنَةَ أو حَدٌّ في ظَهْرِكَ" (¬3). وقال أبو حنيفةَ: لا يُحَدُّ، بلْ يُحْبَسُ (¬4)؛ لأنه لا ذِكْرَ لِحَدِّ الزَّوْجِ في ¬
الآية، والتعرُّضُ لإيجابِه زيادةٌ في النَّصِّ، والزيادةُ في النصِّ نَسْخٌ، والنسخُ غيرُ جائزٍ بالقياسِ، ولا بأخبارِ الآحادِ. ولقائلٍ أن يقولَ: قد ذكرَهُ اللهُ سبحانَهُ في كتابهِ، ودلَّ عليه بطريقِ التفهيم، فإنَّه لما أقامَ اللهُ سبحانَهُ شهادةَ الأزواجِ لأنفسِهم مقامَ الشهداءِ الأجانبِ، فهمْنا أنَّ عدمَ هذهِ الشهادةِ كعدمِ تلكَ الشهادةِ، وأن الحكمَ فيهما واحدٌ، وأن الله سبحانه قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8]، فدلَّ على أن هذا العذابَ قد وجبَ عليها، فكذلكَ الزوجُ إذا لم يَدْرَأْ عن نفسِه العذابَ، فقد وجبَ عليهِ. * وكذلكَ اختلفوا في العذابِ الواجِبِ عليها إذا لم تَشْهَدْ خَمْسَ شهاداتٍ. فقال مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وجمهورُ أهلِ العلمِ: هو حَدُّ الزنى (¬1). وقال أبو حنيفةَ: العذابُ هو الحبسُ حتى تُلاعِنَ (¬2)، واحتجَّ لهُ بقولِه - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلّ دَمُ امرئٍ مسلمٍ إلا بإحْدى ثلاثٍ: كفرٌ بعدَ إيمانٍ، أو زِنىً بعدَ إِحْصانٍ، أو قَتْلُ نَفْسِ بغيرِ حَقٍّ" (¬3)، وبأن القاعدةَ المقررةَ في الشريعةِ أنَّ الأموالَ لا توجبُ بالنُّكولِ، فبطريقِ الأَوْلى لا تُسْفَكُ بِها الدماءُ، وتزهقُ بها الأرواحُ. ¬
واختار قولَهُ إمامُ الحرمينِ من الشافعيَّةِ في كتابِه "البرهان"، وابنُ رُشْدٍ من المالكية (¬1). والقولُ بهذا ضعيفٌ، واختيارُه غَفْلَةٌ عن سِرِّ الشريعة؛ فإنَّ هذا ليسَ حُكْماً بالنُّكولِ؛ لأنَّ اللهَ سبحانَهُ جعلَ شهادةَ الزوجِ خَمْسَ مَرّاتٍ كشهادَةِ أربعةِ شُهداءَ في دَفْعِ حَدِّ القذفِ عنهُ، وفي إيجابِ الحَدِّ عليها، فلو شهدَ عليها أربعةُ شهداءَ, لسقطَ الحدُّ عن قاذِفها، وَلَوجَبَ الحَدُّ عليها، فكذلك شهادتُه تُسقطُ الحَدَّ عنهُ، وتوجبُ الحَدَّ عليها، فهو من القتلِ بالزنى بعدَ الإحصان، وإنما أوجبَ اللهُ سبحانه شهادةَ أربعةٍ على القاذفِ غيرِ الزوج؛ لعظمِ هذهِ الجريمةِ والافتراء، وهو في غُنْيَةٍ عن القَذْفِ، بخِلاف الزوج؛ فإن بهِ ضرورةً إلى ذكرِها بالفاحشةِ لهتكِ فراشِهِ وحفظِ نسبِه، فجعلَ اللهُ شهادتَه خمسَ مَرَّاتٍ كشهادَةِ أربعةِ شُهداءَ, ولم يوجبْ عليه شهادَةَ الأجانبِ؛ لعسرِ ذلك عليه، وعِظَمِه لديه، ألم يرو هؤلاءِ إلى قولِ هلالِ بنِ أميةَ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حيثُ قال: يا رسول الله! إذا رأى أحدُنا على امرأتِه رجلاً ينطلقُ يلتمسُ البينة (¬2)؟! ثم أتمَّ اللهُ لطفَه بالمرأةِ لاحتمالِ كذبِ الزوجِ عليها بأنْ جعلَ لها أن تدرأَ عنها العذابَ بخمسِ شَهاداتٍ بالله، وهذا من مَحاسِنِ هذه الشريعةِ، وعجائِب لطفِ الله تعالى بهذه الأمة في حفظِ أنسابِها، ولا يحسُنُ إطلاقُ العذابِ على الحَبْس؛ لأنه ليس هنا أمرٌ معهودٌ بالعذابِ للزاني إلا الحَدّ، فالألفُ واللامُ في العذابِ للعَهْدِ، لا للجِنْسِ، ألم يرَ هؤلاءِ إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
"لَوْلا ما مَضى من كتابِ اللهِ، لَكان لي ولَها شأنٌ" (¬1)، فهل يرى أن هذا الشأنَ الذي أشارَ إليهِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وَنوَّهَ بهِ هوَ الحبسُ؟ كَلاً بل هو أمرٌ فوقَهُ وأكبرُ منه. * وسَنَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مع كتابِ اللهِ تَعالى الفُرْقَةَ بينَ المُتَلاعِنَيْنِ، فقالَ للزوجِ: "لا سَبيلَ لكَ عليها" (¬2). وقد اختلَفَ أهلُ العلمِ في حقيقةِ تفريقِه - صلى الله عليه وسلم -. فقالَ أبو حنيفةَ: هو بطريقِ الحُكْمِ منُه - صلى الله عليه وسلم -، فلم تقعِ الفرقةُ إلا بحُكْمِهِ وأمرِه، فكذلكَ لا تقعُ الفرقةُ بعدَهُ إلا بحُكْمِ حاكِمٍ (¬3). وقال مالكٌ والشافعيُّ: هو شَرْعٌ، وليسَ بحكمٍ، فتقعُ الفرقةُ بنفسِ اللِّعانِ، ثم قالَ مالكٌ: تقعُ بعدَ الفَراغِ من لِعانِها؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يفرقْ بينَهما إلا بعدَ تمامِ اللِّعانِ، وقالَ الشافعيُّ: بعدَ الفراغِ من لِعانِ الزوجِ؛ لأنَّ لعانَها لدرءِ العذابِ عَنْها (¬4). * وقد بينَ اللهُ سبحانه اللِّعانَ، وأتم ترتيبَه وبيانَه، ولهذا لم ينقلْ في شيءٍ من رواياتِ الحديثِ لفظٌ لاعَنَ بهِ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بين المُتلاعنين، وإنَّما وردَ: فأمرَهُما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالمُلاعَنَةِ بما سَمَّى اللهُ في كتابِه، فلو بدأتِ ¬
المرأةُ قبلَ الرجلِ، لم يجزْ عندَ الشافعيةِ (¬1)، وفيهِ عند المالكية خِلافٌ (¬2)، ولو أبدلَ الزوجُ أو الزوجةُ ألفاظَهُ التي ذكرَها اللهُ تَعالى؛ كإبدالِ الشَّهادَةِ بالحلفِ، وإبدالِ اسمِ الله بالرَّبِّ، وإبدالِ اللَّعْنَةِ بالغَضَبِ، أو تركَ الترتيبَ، فقدم الشهادةَ باللَّعنةِ على غيرها، لم يَصِحَّ على الأَصَحِّ عندَ الشافعيةِ (¬3). * إذا تَمَّ هذا، فقد اتفقَ أهلُ العلمِ على أن الرَّمْيَ الذي شُرِعَ لهُ اللِّعانُ هو الرميُ بصريحِ الفاحشةِ، ثم هو لا يخلو إمّا أن يكونَ قذفاً مطلَقاً، أو قذفاً مقيَّداً بالمشاهدة لها تزني: فذهب مالكٌ إلى اشتراطِ التقييدِ في الدَّعوى، كما وردَ في القصةِ من قوله: الرجلُ يَجِدُ مع امرأتِه رَجُلاً (¬4). وذهبَ الجُمهورُ كأبي حنيفةَ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وداودَ، والثوريِّ إلى عدمِ اشتراطِ التقييدِ؛ لظاهرِ إطلاقِ القرآنِ (¬5). ¬
واختلفوا في نَفْيِ الحَمْلِ من غيرِ ذكرِ الفاحشةِ: فذهب الجُمهور إلى إلحاقِهِ بالتَّصريحِ بالفاحشة. وقال بعضُهم: لا يجوزُ نفيُه من غيرِ ذكرِ قذفٍ. ثم على قولِ الجُمهورِ لا يخلو إما أن ينفيَه نَفْياً مطلَقاً، أو نفياً مقيَّداً بالاستبراءِ، فأما النفيُ المقيَّدُ، فلا خلافَ فيه، وأما النفيُ المطلَقُ، فمنعَهُ مالكٌ، وجَوَّزه الشافعيُّ، وداودُ، وأحمدُ (¬1). * فإن قيلَ: فإذا كانَ للزوجِ شهداءُ، فهل لهُ اللِّعانُ، أو ليسَ لهُ؛ لأن اللهَ سبحانَه شرطَ عدمَهم؟ قلنا: ذهبَ إلى اعتبارِ الشرطِ أبو حنيفةَ وداودُ (¬2)، فلا يجوزُ اللِّعانُ عندَهما إذا قامتِ البينةُ بِزِناها. وذهبَ مالكٌ والشافعيُّ إلى أنَّ الشرطَ خرجَ على غالب الوُجود، وأنه يجوزُ له اللِّعانُ، وإن قامَتِ البينةُ (¬3). * فإن قيل: فالمرأةُ إذا قامتْ عليها البينةُ هل لها درءُ العذابِ عنها باللعان، وتكونُ البينةُ كشهادتِه باللهِ، أو ليسَ لَها؛ كما لو قامت عليها البينةُ بدعوى غير الزوج؟ قلت: أما مذهبُ الشافعيِّ، فلها، ولستُ أعلمُ في حالِ كتابي لهذا الكتابِ قولَ غيرِه، والله أعلمُ. ¬
من أحكام السلام والاستئذان
(من أحكام السلام والاستئذان) 207 - 208 (7 - 8) قوله عَزَّ وجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور: 27 - 28]. أقول: أَدَّبَ اللهُ سبحانَه عبادَه المؤمنين في هذهِ الآيةِ بأدبينِ: أحدهما: واجبٌ بالإجماعِ، وهو الاستئذانُ (¬1). والثاني: مستحبٌ، وهو السلام، وقد قدمتُ دَعْوى الإجماعِ على استحبابِه. * ثم بينَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ما أمرَ به فرويَ عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه كانَ إذا أتى بابَ قوم لم يستقبلِ البابَ من تِلقاءِ وَجْهِهِ، ولكنْ من رُكْنِهِ الأَيْمَنِ أو الأَيْسَرِ، ويقولُ: "السَّلامُ عليكُمْ"، وذلكَ أن الدُّوَر لم يكنْ عليها يومئذٍ سُتورٌ (¬2)، وقال: ¬
"إذا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاثاً، فلم يُؤذَنْ لَهُ، فَلْيَرْجِعْ" (¬1). * وبينَ - صلى الله عليه وسلم - علَّةَ الاستئذانِ: فروى البخاريُّ عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ قالَ: اطَّلَعَ رجلٌ من جُحْرٍ إلى حُجْرَة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ومعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِدْرًى (¬2) يحكُّ بهِ رأسَهُ، فقال: "لو أعلمُ أنكَ تنظرُ لَطَعَنْتُ بهِ في عَيْنِك، إنَّما جُعِلَ الاستِئْذانُ من أَجْلِ البَصَرِ" (¬3)، فكلُّ من يحرُم على الرجلِ أن ينظرَ إلى عورته يجبُ عليهِ الاستئذانُ، وإن كانَ أباهُ وأمَّهُ. * واختلف السَّلَفُ هَلْ يُقَدَّمُ الاستئذانُ على السَّلامِ، أو يقدَّمُ السلامُ على الاستئذان؟ فقال قومٌ: يقدمُ الاستئذانُ؛ كما وردَ في القرآنِ (¬4)، والاستئناسُ هو الاستئذانُ، وكان ابنُ عباسِ -رضيَ الله تعالى عنهما - يقرأ: (حَتّى تستأذنوا) (¬5)، وأما ما رُوي عنه أنه قالَ: أخطأَ الكاتبُ، إنما هو ¬
تستأذِنوا (¬1)، فخطأٌ مَحْضٌ؛ لإجماع الأمةِ على حفظِ كتاب اللهِ جَلَّ ثنَاؤهُ من الخَطَأ؛ كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وكما قال: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]، ومعاذَ اللهِ سبحانَهُ أن يصح هذا عن الحبْرِ الترجُمانِ. وقال قومٌ: يقدمُ السلامَ، فيقولُ: السلامُ عليكُم، أَأَدْخُلُ (¬2)؟ فقال بعضُ هؤلاءِ: معنى يستأنسوا: أي: يطلُبوا الاستئناسَ بالتَّنَحْنُحِ أو التسبيحِ أو التكبيرِ حَتَّى تنظُروا هلْ في الدارِ أحدٌ يأذنُ لكم؟ مُقْتَصٌّ هذا من قولِ الله تعالى: {آنَسْتُ نَارًا} [طه: 10]. وقال بعضُهم: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، أي: حَتَّى تسُلِّموا وتستأذنوا، واستدلُوا بما روى أبو داودَ في "سننه" عن رِبْعِيِّ بنِ حِراشٍ قال: حدثنا رجلٌ من بني عامرٍ استأذَنَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو في بيتٍ، فقال: أَأَلِجُ؟ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لخادمِه: "اخْرُجْ إلى هذا فَعَلِّمْهُ الاسْتِئْذانَ، فَقُلْ لَهُ: قُلْ: السَّلامُ عليكُمُ، أَأَدخلُ؟ "، فسمع الرجلُ، فقال: السلامُ عليكمُ، أأدخلُ؟ فأذنَ لهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فدخل (¬3)، قال النوويُّ: وإسنادُهُ جيدٌ (¬4). واستدلُّوا أيضًا بما خَرَّجَ أبو داودَ والترمذيُّ عن كَلَدَةَ بنِ حَنْبَلٍ: أَنَّ ¬
صَفْوانَ بنَ أُمَيَّةَ بعثَ (¬1) بِلِبَأ (¬2) وجِداية (¬3) وضَغابيسَ (¬4) إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -, والنبيُّ في أعلى الوادي، قال: فدخلتُ عليه، ولم أسلِّمْ، ولم أستأذنْ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ارْجِعْ فَقُلِ: السَّلامُ عليكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ " (¬5)، قال الترمذيُّ: حديثٌ حَسَنٌ. وقال بعضُهم: إن وقعَ نظرُ المستأذِن على صاحِبِ المنزلِ، قَدَّمَ السَّلامَ، وإنْ لم يقعْ، قَدَّمَ الاستئذانَ، وقدَّمَ هذا القولَ أَقْصَى القُضاة الماورديُّ من الشافعيةِ بعدَ أَنْ حَكى ثلاثةَ أَوْجُهٍ للشافعية (¬6)، واختارَ النوويُّ الثانيَ (¬7)، وهو كما اختارَ؛ لبيانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ونَصِّهِ عليه. * فإن قلتُم: فهلْ هذا الحكمُ عامُّ في الأَحرارِ والعبيدِ، أو خاصٌّ بالأحرارِ؟ قلتُ: هو خاصٌّ بالأحرارِ، وأما العبيدُ، فقد أفردَ اللهُ سبحانَه استِئْذانهم ¬
في آية أخرى، وسيأتي بيانُه -إن شاء الله تعالى -. * وسَن رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المُصافَحَةَ بفعلِه وقولِه وإقرارِه، وادَّعى النوويُّ الإجْماعَ على استِحْبابها (¬1). * ومفهومُ هذا الخطابِ أن الرجلَ إذا دخلَ بيتاً هو بيتُه أنه لا يستأذِنُ، ولا يسلِّمُ، فأما الاستئذانُ فالحكمُ فيه كذلكَ، وأما السلامُ فإنه يُسْتَحَبُّ للرجلِ أن يسلمَ على أهلِه إن كانَ ذا أهلٍ، وإن لم يكنْ له أهل، فيستحبُّ أن يقولَ: السلامُ علينا وعلى عِبادِ اللهِ الصالحين (¬2)؛ لإطلاقِ قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61]، وهذه الآيةُ تبينُ أن التقييدَ جيءَ به لأجلِ الاستئذانِ، لا لأجلِ السلام. ورويَ عن قتادَةَ ومجاهدٍ: أنهما قالا: إذا دخلتَ بيتاً ليسَ فيه أَحَدٌ، فقلِ: السلامُ علينا وعلى عبادِ اللهِ الصالحين (¬3). * وبينَ النبيُّ أنَّ الخارجَ المُفارق يُشْرَعُ لهُ السلامُ كالدَّاخلِ. خَرَّجَ أبو داودَ والترمذيُّ عن أبي هُريرةَ -رضي الله تعالى عنه- قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا انْتَهى أَحَدُكُمْ إلى المَجْلِسِ، فَلْيُسَلِّمْ، فإذا أَرادَ أن بقومَ، فيسلِّمُ، فليسَتِ الأُولى أَحَقَّ من الآخِرَةِ" (¬4)، قال الترمذيُّ: حديثٌ حسنٌ. ¬
* وبين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن سلامَنا الذي هو تحيةٌ من عندِ اللهِ مباركَةٌ طيبةٌ خاصٌّ بنا دُونَ غيرنا؛ كما قيدُه الله سبحانه. فروينا في "صحيح مسلم" عن أبي هُريرةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَبْدَؤوا اليهودَ ولا النَّصارى بالسَّلامِ، فإذا لَقِيتُمْ أحدَهُم في طَريقٍ، فاضْطَرُّوهُ إلى أَضْيَقِهِ" (¬1). واختلفَ الشافعيةُ هلْ هذا النهيُ على التحريمِ، أو الكراهةِ؟ والصحيحُ عندَ أكثرِهم التحريمُ (¬2). ولو سَلَّمَ على رجلٍ ظَنَّهُ مسلِماً، فبانَ كافِراً، استردَّ سلامَهُ؛ كما فعلَ ابنُ عمرَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما -، وبهذا عملتِ الشافعيةُ (¬3). وقالَ مالكٌ: لا يستقيله (¬4) (¬5). ¬
* ثم لما نزلتْ هذهِ الآيةُ قيلَ: يا رسول الله! أفرأيتَ الخاناتِ والمساكنَ في الطُّرقات ليسَ فيها مساكنُ؟ فأنزل الله سبحانَهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29]: منفعة لكم (¬1). ويؤخَذُ من هذا أن للرجلِ أن يأخذَ وينتفعَ بما تركَهُ الناسُ رغبةً عنهُ، أو بما يعلمُ أنهم يرضونَ بالانتفاعِ به في العادةِ، والله أعلمُ. ¬
من أحكام النظر
(من أحكام النظر) 209 - (9) قوله عَزَّ وجَلَّ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]. * أمر اللهُ سبحانه نبيَّه محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يأمرَ المؤمنينَ بِغَضِّ البصرِ عَمّا لا يَحِلُّ؛ لما في النظر من خشيةِ الوقوع في المَحْظور، فبينَ عن اللهِ سبحانَهُ ما أمرَهُ بهِ، فأخذ بذقَنِ الفَضْل بنِ العبّاسِ يُميل وَجْهَهُ عنِ النظرِ إلى الخَثْعَمِيَّةِ التي استَفْتَتْهُ لما نظرَ إليها (¬1). * وقد أجمعَ المسلمون على تحريمِ النظرِ إلى الحُرَّةِ الأجنبيةِ التي تُشْتَهى، فيما عدا الوجهَ والكفينِ، وعلى تحريمِ النظرِ إليهما عند خوفِ الفتنةِ، وعلى جوازِ النظرِ إليهما عندَ الحاجةِ، وعندَ إرادةِ نِكاحها (¬2)، بل قالَ قومٌ: يستحبُّ؛ لورودِ السُّنَّةِ بذلك. واختلفوا في تفصيلِ المنظورِ منها، وفي جوازِ النظرِ إلى الوجهِ والكفينِ في غير هاتينِ الحالتين وَجْهانِ للشافعية، أصحُّهما عندَ المتقدمينَ الجوازُ، ¬
والمختارُ عندَ متأخِّريهم التحريمُ (¬1)، وهو الصوابُ، وما سواهُ خطأٌ، وسيظهرُ لكَ بيانُ خَطَئِه في الآيةِ التي تليه. فأما المرأة إذا كانَتْ مَحْرَماً، فسيأتي الكلامُ عليها، وكذا التي لا تشتهى لِكِبَرٍ، وسيأتي الكلامُ عليها عند قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النور: 60]. وأَمَّا التي لا تُشْتهى لصغرٍ، فإنه لا يحرمُ النظرُ إليها فيما دُونَ سَبْعِ سنينَ. وفي تحريمِ النظرِ إلى فرجِ الصغيرةِ التي لا تَمييزَ لها خلافٌ عندَ الشافعيةِ أيضًا، والأَصَحٌّ التحريمُ (¬2). * * * 210 - (10) قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. أقولُ: أمرَ اللهُ سبحانه المؤمناتِ بغَضِّ أبصارِهن كالمُؤمنين، فلا ينظرْنَ إلى الرجالِ الأجانبِ، وهذا الأمرُ على الوجوبِ على الصَّحيحِ من الوَجْهين ¬
عندَ الشافعيةِ (¬1)، ويدلُّ عليهِ قولُه - صلى الله عليه وسلم - أزواجِهِ لَمَّا اعتذَرْنَ بأنَّ الرجلَ أعمى: "أَفَعَمْياوانِ أَنْتُما؟ أَلَسْتُما تُبْصِرانِهِ؟ " (¬2). وحملَ بعضُهم الأمرَ على الاستحبابِ (¬3)، واستدلَّ بما خَرَّجَه البخاري ومسلمٌ من حديثِ فاطمةَ بنْتِ قَيْسٍ؛ حَيْثُ أَمَرَها أن تَعْتَدَّ في بَيْتِ أُمِّ شَريكٍ، ثم قال: "تِلْكَ امرأَةٌ يَغْشاها أَصْحابي، اعْتَدِّي عندَ ابن أمِّ مكتومٍ؛ فإنُه رجلٌ أَعْمى، تَضَعينَ ثيابَكِ عندَهُ" (¬4)؛ وحمل الآية والحديث على النظر إلى ما لا يَحِلُّ من العَوْراتِ، أو على الاحتياطِ. والدلالة في حديثِ فاطمةَ ضعيفةٌ؛ فإنه لا يدلُّ على أنه أذِنَ لها أن تَنْظُرَ إليه، بَلْ عَلَّلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلكَ بأَمْنِها عندَ رؤيتِه عندَ تَكَشُّفِها؛ لكونه أعمى، فيزولُ عنها مَشَقَّةُ التَّحَرُّزِ. * ثم نهى اللهُ سبحانَه المؤمناتِ عن إبداءِ زينتهنَّ إلَّا ما ظهرَ منها: وذلك يحتملُ أن يريدَ بالزينةِ ما تَلْبَسُ من الحُلِيِّ تحتَ الثيابِ؛ ¬
كالقُرْطِ (¬1) والدُّمْلُجِ (¬2) والخَلْخالِ، وما يُلْبَسُ فوقَها من الثيابِ، وهو الذي يظهرُ من الزينةِ (¬3). وقد سَمَّى اللهُ سبحانَه الثيابَ زينة فقال: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، ويكون على هذا التأويلِ بدنُها عَوْرَةً. ويحتمل أن يريدَ بالزينةِ جملةَ البَدَنِ (¬4). ثم استثنى اللهُ سبحانَه أعضاءً مَخْصوصَةً، وقد فَسَّرَها ابنُ عباسٍ وعائشةُ بالوَجْهِ والكَفَّيْنِ (¬5). * فإن قلتَ: فمقتضى هذهِ الآيةِ على هذا التفسيرِ أنه يجوزُ للنِّساء كشْفُ وُجوهِهِنَّ وأيديهِنَّ، واللهُ تعالى يقول: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60]، وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوزُ للقواعِدِ أن يضعن ثيابَهُنَّ عَمّا عدا الوجه والكفين، وإنما رفعَ اللهُ الجُناحَ عنهنَّ في الوجهِ واليدين (¬6)، ¬
وهذا يدلُّ على أن الجُناحَ باقٍ في غيرِ القواعدِ (¬1). قلتُ: المرادُ بهذهِ الآيةِ النهيُ لهنَّ عن إبداءِ زينتِهِنَّ، وإباحةِ ما ظهرَ منها عندَ الحاجَةِ، فأباحَ اللهُ تَعالى لهنَّ كَشْفَها في هذهِ الحالِ للحاجةِ الداعيةِ إلى كَشْفِها؛ كما وردَ من كَشْفِها في حالةِ الإِحْرامِ والصَّلاةِ، وكما تكشفُ عندَ البيعِ والشِّراءِ وتَحَمُّلِ الشهادةِ وغيرِ ذلكَ من الأمورِ، والمرادُ بآيةِ القواعدِ كَشْفُها في حالةِ الاختيارِ، فرفعَ اللهُ سبحانَهُ الجُناحَ في هذهِ الحالةِ من القواعدِ، وأن يَسْتَعْفِفْنَ فلا يُبْدينَها خيرٌ لهنَّ، ولم يرفع الحرجَ في غيرِ القواعِدِ، ولم يزلْ عملُ الناسِ على ذلك قديماً وحديثاً في جميعِ الأمصارِ والأقطارِ، فيتسامحون للعجوزِ في كَشْفِ وَجْهِها، ولا يتسامَحون للشابَّةِ، ويرونَهُ عورة مُنْكَراً. وقد تبينَ لكَ وجهُ الجَمْعِ بين الآيتينِ، ووَجْهُ الغَلَطِ لمنْ أباحَ النظرَ إلى وَجْهِ المرأةِ لغيرِ حاجةٍ، والسَّلَفُ كَمالكٍ، والشافعيُّ، وأبي حنيفةَ، وغيرِهم لم يتكلَّموا إلا في عَوْرَةِ الصَّلاةِ، فقالَ الشافعيُّ ومالكٌ: ما عَدَا الوَجْهَ والكفينِ (¬2)، وزادَ أبو حنيفةَ القَدَمَيْن (¬3)، وما أَظُنُّ أحداً منهم يُبيحُ ¬
للشابَّةِ أن تكشِفَ وَجْهَها لغيرِ حاجَةٍ، ولا يُبيحُ للشابِّ أن ينظرَ إليها لغيرِ حاجَةٍ، والله أعلمُ. ولا بُدَّ من مزيدِ كلامٍ هناك -إن شاءَ اللهُ تعالى-. * فإن قلتَ: فهل تدخلُ الإماءُ معَ الحرائِرِ في هذا الحُكْمِ؛ لأنهنَّ من جُمْلَةِ المُؤمنات، أو لا؛ لأنهنَّ من أهلِ الحاجاتِ والخِدْمَةِ، فلا تكونُ عورتُهُنَّ كعورةِ الحرائرِ؟ قلنا: للشافعيةِ في الأَمَةِ ثلاثَةُ أوجُهٍ: أحدها: أَنَّها كمثِلها. والثاني، وهو مذهبُ عمرَ -رضي الله تعالى عنه-: أن عورتَها كعورةِ الرَّجُل. والثالث: عورتُها ما لا يبدو حالَ المِهْنَةِ (¬1). * ولما كانَ رأسُ المرأةِ وعُنقُها يظهرُ في حالِ المهنةِ، أمرَ اللهُ سبحانَه النساءَ بسَتْرِه، وبَيَّنَ أنه ليسَ مُراداً بالاستثناء، فقال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]. قالتْ عائشةُ -رضيَ اللهُ تَعالى عنها -: يرحَمُ اللهُ النساءَ المُهاجراتِ الأُوَلَ؛ لَمّا أنزلَ اللهُ تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى ¬
جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]، شَقَّقْنَ مُروطَهُنَّ فاخْتَمَرْنَ به (¬1). * ثم استثنى اللهُ سبحانَهُ أصنافاً منَ الناسِ: فاستَثْنى الزوجَ وكيرَهُ منَ المَحارمِ بالنَّسَبِ والمُصاهَرَةِ، وفَرَّقَ بينَهُم، وإن كانَ تفصيلُ الإبداءِ في حَقِّهِم مُخْتَلِفاً، فيجوزُ للزوجِ أن ينظرَ (¬2) إلى جميعِ بَدَنِها، ولا يَجوزُ للمَحْرَمِ إلَّا ما فوقَ السُرَّةِ وتَحْتَ الرُّكْبَةِ. واستثنى أيضاً نساءَهُنَّ، فاقتضى الخطابُ بِمَفْهومه أنه لا يجوزُ لهنَّ أنْ يبدينَ زينتَهُنَّ لغيرِ نِسائهنَّ، وهُنَّ المُشْركاتُ غيرُ المؤمناتِ، وهو كذلكَ على الأَصَحِّ منَ الوَجْهَيْنِ (¬3)، واختارَ الغزاليُّ أنهنَّ كالمُسلماتِ (¬4)، وهو ضعيفٌ مُخالِفٌ للمفهوم (¬5)، ولِما رويَ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّاب -رضيَ اللهُ تَعالى عنه - أنه كتبَ إلى أَبي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرَّاحِ: أَمَّا بَعْدُ، فإنه بَلَغَني أَنَّ نِساءً من نِساءِ المُسلمين يَدْخُلْنَ الحَمّاماتِ، ومعهنَّ نساءُ أهلِ الكتاب، فامنعْ ذلكَ، وحُلْ دُونَهُ (¬6). وفي روايةٍ أُخْرى: فإنَّه لا يَحِلُّ لامرأةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِر أنْ ينظُرَ إلى عَوْرَتها إلَّا أَهْلُ مِلَّتِها (¬7). ¬
ومرادُ عُمرَ العَوْرَةُ الصُّغْرى، ويدلُّ عليهِ ما رُويَ عن مجاهدٍ أنه قالَ: لا تَضَعُ المسلمةُ خمارَها عندَ مشركةٍ (¬1). واستثنى أيضاً ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُن، وهو عامٌّ في الإِماءِ والعَبيد، وهو كذلكَ على الأَصَحِّ المنصوص (¬2)، وخَصَّهُ بعضُهم بالإماءِ دُونَ العبيدِ، وحملَه على الإماءِ الكتابِيّات، وبه قالَ بعضُ الشافعيةِ (¬3)، وهو مردودٌ؛ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لفاطمةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنها- لمَّا سَتَرَتْ رأسَها: "إنَّهُ ليسَ عليكِ بَأْسٌ، إنَّما هُوَ أبوكِ أَوْ غُلامُكِ" (¬4). واستثنى التابعينَ غيرَ أولي الإِرْبَةِ منَ الرِّجالِ، قالَ ابنُ عباسٍ: هو الرجلُ يتبعُ القومَ، وهو مُغَفلٌ في عَقْلِهِ، لا يَكْتَرِثُ النساءَ، ولا يَشْتَهيهِنَّ (¬5). ¬
وعنِ الحَسَنِ نَحْوُ هذا (¬1). وفي معناهُ الشَّيْخُ المُسِنُّ الذي قَدْ فَقَدَ اللَّذَّةَ، والمَمْسوحُ، وهو كذلكَ على الصَّحيحِ منَ الوَجْهين، ومقابلُهُ ضعيفٌ لا وَجْهَ له (¬2). وأَمّا ذو الإِرْبَةِ كالخَصِيِّ والمَجْبوبِ الذي بَقي خُصْياهُ، والعِنِّينِ والمُخَنَّثِ، فإنهم كَفُحولِ الرجالِ (¬3). واستثنى الطِّفْلَ الذينَ لم يَظْهَروا على عَوْراتِ النساءِ، وعلى هذا أجمعَ المسلمونَ، ومَفْهومُ هذا الخطابِ أن المُراهِقَ الذي قَدْ ظَهَرَ على عوراتِ النساءِ، وتحرَّكَتْ شَهْوَتُهُ، واسْتَقْوَى عليها أَنَّه خارجٌ من المُسْتَثْنى، فلا يجوزُ للنساءِ الكَشْفُ عندَهُ، وهو كذلكَ عَلى أَصَحِّ الوَجْهين عندَ الشافعيةِ، والثاني يجوزُ التكشُّفُ عندَهُ (¬4)؛ كما يجوزُ له الدخولُ بغيرِ استِئْذان إلَّا في الأوقاتِ التي ذكرها (¬5) اللهُ تعالى. وهذا الاستدلالُ باطِلٌ؛ لأن الاستئذانَ في حَقِّه أَدَبٌ، وهو حكمٌ معلق بهِ، والسترُ واجبٌ، وهو حكمٌ معلقٌ بالنِّساء. ¬
* ثم نَهاهُنَّ اللهُ سبحانَه عن الإعلام بزينتهِنَّ الخَفِيَّةِ؛ لكَيْلا يُمِلْن الرجالَ، فيؤدِّي إلى الافتتان بهنَّ، فقال تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]؛ وهذا النهيُ للتحريم، ويدلُّ عليهِ قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "صنفانِ من أهلِ النارِ لم أَرَهُما: قومٌ معهمْ سِياطٌ كأَذنْابِ البَقَرِ يُعَذِّبونَ بِها الناسَ، ونساءٌ كاسِيات عارِياتٌ مُمِيلاتٌ مائِلاتٌ، رُؤوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المائِلَةِ (¬1)، لا يَدْخُلْنَ الجَنَّةَ، ولا يَجدْنَ رِيحَها، وإنَّ رِيحَها لَيوجَدُ من مَسيرةِ كَذا وكَذا" (¬2). ¬
من أحكام النكاح
(من أحكام النكاح) 211 - (11) قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32]. * أقول: أمرَ اللهُ سبحانَه أن نُنْكِحَ الأيامى إذا جاءنا خاطِبٌ لَهُنَّ، ورَغِبْنَ إليه إذا كان كُفُؤاً لهنَّ، والأمرُ في هذا على الحَتْمِ والوُجوبِ، فواجِبٌ علينا أن نُنْكِحَهُنَّ، فإنِ امتنعَ أَحَدٌ، أَجْبَرَهُ السُّلطانُ (¬1). رُويَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "إذا جاءكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دينه وأَمانَتَهُ، فَزَوِّجوهُ، إلَّا تَفْعَلُوا، تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأَرْضِ وفَسادٌ عريضُ" (¬2)، أو كَما قالَ. وبينَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الأَيِّمَ لا تُنْكَحُ حَتَّى تُسْتَأْمَر (¬3). ¬
* وفي الآيةِ دلالةٌ ظاهرةٌ على إثباتِ الولاية (¬1) للأَوْلياء؛ فإنَّ اللهَ سبحانَه لم يأمرهُمْ أن يفعلُوا شيئاً لا يستحقُّونه، ولو كانَتْ عُقْدَةُ النِّكاحِ بيدِ النساء، لما وردَ الأمرُ مضافاً إلا لهنَّ. * وفي الآيةِ دلالةٌ على أنه لا ولايةَ للمؤمن على الأَيِّم الكافِرَةِ؛ لمفهومِ التقييد بنا، ولقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73]. * وبينتِ السنَّةُ أيضاً أنه لا ولايةَ لِكافِرِ على مُسلمةٍ، فقد زَوَّجِ أبو سعيدِ بنُ العاصِ أُمَّ حبيبةَ بنتَ أبي سُفيانَ منَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبو سُفيان حَيٌّ؛ لأنها كانتْ مسلمةً يومئذٍ (¬2). ويحتملُ أن التقييدَ مختصٌّ بوصفِ الأحرارِ؛ بدليلِ ذكرِ اللهِ سبحانَهُ للعبيدِ والإماءِ بعدَ التقييد. * ثم أمرَنا اللهُ سبحانَهُ بإنكاحِ الصالحينَ منَ العبيدِ والإماءِ: فيحتمل أن يكونَ الأمرُ في هذا على الحَتْمِ، فيجبُ على الساداتِ تزويجُ العبيدِ الصالحين إذا طَلَبوا النكاحَ (¬3)؛ لما فيه من العِفَّةِ لهم، وتحصينِهم من الوقوعِ في الزنى، ودفعِ مَعَرَّةِ الشهوةِ عنهم. ويحتملُ أن يكونَ على الاختيارِ والنَّدْبِ، وبهذا قالَ مالكٌ والشافعيُّ في الصحيحِ من قوليهِ (¬4)؛ لقوَّةِ التصرفِ في المملوكاتِ، ولأنه لا فرقٌ بينَهُمْ ¬
وبَين الإماءِ، ولا يجبُ على الساداتِ إنكاحُ إمائِهم اتِّفاقاً، فكذلكَ العبيدُ. قالَ الشافعيُّ: ولم أعلمْ دليلاً على إيجابِ إنكاحِ صالحِ العبيدِ والإماءِ كَما وجدْتُ الدلالةَ على إنكاحِ الحرائرِ مطلقاً، فأَحَبُّ إليَّ أَنْ ينكحَ من العبيدِ والإماء صالِحوهم خاصَّةً، ولا يتبينُ لي أن يُجْبَرَ أحدٌ عليه، ولأنَّ الآيةَ محتملٌ أن تكونَ فيها الدلالةُ على الاختيار، لا على الإيجاب (¬1). * وتخصيصُ اللهِ سبحانه بهذا الحكم ذوي الصَّلاحِ يقتضي إخراجَ ذوي الفسادِ والمشركين، سواءٌ قلْنا بالوجوبِ أو الاستحبابِ (¬2)، وهذا بَيِّنٌ؛ إذ ليس للمشركِ على المسلمِ حقٌّ، ولا سيما المملوكِ، ولِما فيه من عدم اكتراثِه بالمعصيةِ، وعدم إلزامِه لأحكامِ الإسلام. * فإن قلتم: فهل يقتضي هذا التقييدُ أن المسلمَ لا يُنْكِحُ أَمَتَهُ الكافِرَةَ؟ قلنا: لا؛ لأن الخِطاب إنما سيقَ لبيانِ ما يتوجَّهُ على الساداتِ للعبيدِ، لا لبيانِ ما يتوجَّه للساداتِ على العبيد، وقد دَلَّتِ الآيةُ بطريق الإشارةِ على أنّه يمنع العبدُ أن ينكحَ بغيرِ إذنِ سيدِه، وإلا لَما أمرَ اللهُ سبحانَه السيدَ بإنكاحه. وقد بينَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكمَ عنِ اللهِ سبحانَهُ، فروى ابنُ عمرَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نَكَحَ العبدُ بغيرِ إذنِ سَيِّدِهِ فَنِكاحُهُ باطلٌ" (¬3)، وعن جابرٍ إما مرفوعاً أو موقوفاً: "أيُّما مملوكٍ تَزَوَّجَ بغيرِ إذنِ سَيِّدِهِ، فهو عاهِرٌ" (¬4). ¬
وعلى هذا الحكمِ أجمعَ المسلمونَ (¬1)، هذا إذا أطلَقْنا الأيامى على النِّساءِ, وحملْنا الإنكاحَ على إيجابِ النكاحِ عليهِنَّ، وعلى العبيدِ والإماءِ, وأما إذا أطلقنا الأيامى على الرجالِ والنِّساءِ, وحملْنا الإنكاحَ على إيجابِ النِّكاح؛ للخطاب، فإنه يدلُّ على وجوبِ إجابةِ الخاطبِ المؤمنِ، وإن كانَ عبداً، إذا كان صالحاً، وأنَّ الكفاءةَ غيرُ معتبرةٍ إلَّا في التقوى، وبهذا قالَ مالكٌ -رحمهُ اللهُ تَعالى - (¬2)، وسيأتي القولُ عليهِ في "سورةِ الحجراتِ" - إنْ شاءَ اللهُ تعالى -. * * * 212 - (12) قوله جَلَّ ثَناؤُهُ: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا ¬
عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33]. * أقول: يحتملُ أن تكونَ (حَتَّى) للتعليلِ، والمعنى: ولْيَطْلُبِ العِفَّةَ الذين لا يَجِدونَ نِكاحاً بالاكتسابِ؛ لكي يُغْنيهم اللهُ من فضلهِ، فحينئذٍ يحصلُ الوعدُ من اللهِ بالغنى في طَلَبِ النكاحِ للعفَّةِ، ويكون الأمرُ على الاسْتِحْباب. والظاهرُ أن الأمرَ للوُجوبِ، وأنَّ (حتى) للغايةِ، فأمرَ اللهُ سبحانَهُ عبادَه الذين لا يَجِدون نِكاحاً أَنْ يَسْتَعْفِفُوا، فيَحْفظوا فُروجَهم عن الزنى إلى أن يُغْنِيَهم اللهُ من فضلهِ، ويكون مفهومُ الغايةِ أنَّ اللهَ سبحانَهُ إذا أَغْناه، فلا يَسْتَعْفِفْ، بل يطلبُ النكاحَ. وقد بينَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك. روينا في "الصحيحين" عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه- قال: قالَ لنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يا مَعْشَرَ الشَّبابِ! منِ اسْتَطاعَ مِنْكُمُ الباءَةَ فَلْيتَزَوَّجْ؛ فإنَّهُ أَغَضُّ للبَصَرِ، وأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطعْ، فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فإنَّهُ لَهُ وِجاءٌ (¬1) " (¬2) ولهذا قالَ جماعةٌ: النكاحُ أفضلُ من التَّخَلِّي للعبادَةِ (¬3). ¬
* ثم أمرَ اللهُ سبحانَهُ وتَعالى الساداتِ بِمُكاتَبَةِ مَماليكِهِم إذا ابْتَغَوْها، وعلِموا فيهم خيراً، وقد اشتملَ أمرُ اللهِ تَعالى فيه على ثلاثةِ أحكامٍ: الحكم الأول: أمرُ اللهِ تَعالى بالكِتابة: من أهلِ العلمِ مَنْ أطلقَه على الوُجوبِ والحَتْمِ، وهو قولُ عَطاءٍ (¬1)، وأبي حنيفةَ، وبعضِ المالكيةِ (¬2)، وحَمَلهُ الجُمهورِ على النَدْب (¬3)؛ لأنَّه لا يجبُ على السيِّدِ أن يعتقَ مملوكَه، ولا أن يبيعَهُ، والكتابةُ عِتْقٌ أَو بَيْعٌ، وإلى هذا ذهبَ مالكٌ والشافعيُّ (¬4). الحكم الثاني: الخيرُ لفظٌ مشتركٌ يقع على الخِيار، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7]. ويقع على المال، قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180]، وقال اللهُ تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]. ويقع على الصَّلاح، قال اللهُ تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ ¬
تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]. ويقعُ على المنفعةِ، قال الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36]، أي: منفعةٌ وأجرٌ. * وقد اختلف أهلُ العلم بالقرآنِ في المرادِ بالخيرِ هنا: فقال قومٌ: هو الصَّلاحُ والدِّينُ (¬1). وقال جُمهورُهم: هو المالُ، قال عبدُ الملكِ بنُ جُرَيْجِ: قلتُ لعطاءٍ: ما الخيرُ، المالُ أو الصلاحُ أم كل ذلكَ؟ فقالَ: ما نراهُ إلَّا المالَ، قال: فإن لم يكنْ عندَهُ مالٌ، وكان رَجُلَ صِدْقٍ؟ قال: ما أحسِبُ خَيْراً إلا المالَ، كائنةً أخلاقُهم ما كانتْ (¬2). قال مجاهدٌ: إن علمتُم فيهم خيراً: المالُ، كائنةً أخلاقُهم وأديانُهم ما كانَتْ (¬3). وذهب الشافعيُّ إلى أنه الكَسْبُ والأَمانَةُ (¬4). ومفهومُ الشرطِ أَنَّا إذا لم نعلمْ فيهم خيراً، لا نكاتِبُهم وجُوباً ولا استِحْباباً، وأما مُكاتَبَتُهم جَوازاً، فلا حَجْرَ فيها، ولا مَنع منها، لكن كَرِهَ مالكٌ مُكاتبةَ الجاريةِ التي لا كَسْبَ لها؛ مخافة الزنى عليها، وهذا من بابِ عملِه بالمَصالحِ (¬5). ¬
نعمْ أنكرَ بعضُهم كتابةَ التي لا حِرْفَةَ لَها، ولا كَسْبَ؛ خشيةَ المَسْأَلةِ، وهذا استِحْسانٌ مردودٌ بإقرارِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِكِتابة بَرِيْرَةَ، وقد أَتَتْ عائشةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنها - تسألُها المُعاونةَ في كتابَتِها (¬1). الحكم الثالث: أمرَ اللهُ سبحانه بإيتائهم من مالِ اللهِ. فقالَ طائفةٌ من أهلِ العلم بإطلاقِهِ للوجوب، ثم اختلفوا: فقال بعضُهم: يتقدَّرُ بالربع، ويروى عَنْ عَلِيٍّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه - (¬2). وقالَ بعضُهم: لا يتقدَّرُ، بلِ الواجبُ أَقَلُّ مالٍ (¬3)، وهو الظاهِرُ من إطْلاقِ الخطاب. وقالَتْ طائفةٌ: لا يجبُ على الساداتِ للمكاتَبِ شَيْءٌ، فمنْ هؤلاءِ من حملَ الأمرَ على الاستحبابِ، ومنهم مَنْ جعلَ الخِطابَ لِذَوي الأموالِ غيرِ السادات، وحملَ الأمرَ على الوجُوب في إيتائهم من الصدقاتِ (¬4). وهذا التأويلُ بعيدٌ؛ لأن الصحابةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم -، وهم أعرفُ بموارِدِ التأويلُ وَضَعوا عنِ المكاتَبِ، فكاتَبَ ابنُ عمرَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما - عَبْداً بخمسةٍ وثلاثين ألفاً، ووضعَ عنهُ خمسةَ آلاف (¬5)، ووَضَع عمرُ ¬
وابنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما - عن المكاتَب. * إذا تَمَّ هذا، فظاهرُ إطلاقِ الخطاب يقتضي أنَّ كتابةَ العَبْدِ المراهِق إذا كان فيهِ خيرٌ جائزةٌ، وبهذا قالَ أبو حنيفةَ (¬1). واشترطَ الشافعيُّ البُلوغَ كسائِرِ العُقودِ (¬2). وعن مالكٌ قَوْلانِ كالمَذْهبين (¬3). ¬
من أحكام الاستئذان
(من أحكام الاستئذان) 213 - (13) قوله عَزَّ وجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58]. أقول: لَمَّا لطفَ اللهُ سبحانه بالمؤمنين، ورفعَ عنهم الحَرَجَ والجُناح، أباحَ لهم ولِمَنْ كان في تأديبهم من الصِّبيان والمَماليك أن يَلِجوا عليهم من غيرِ استئذانٍ؛ بخلافِ الأحرارِ البالغينِ؛ لِمَشَقَّةِ الاحترازِ منهم؛ لكثرةِ طوافِهم، ولم يحظرْ عليهم إلا في ثلاثةِ أوقاتٍ كما بَيَّنَها اللهُ تعالى، وأشار إلى علتها بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] الآية. وهذه الأوقاتُ تُكْشَفُ فيها العوراتُ غالباً، وتقلُّ الحاجةُ إلى تطوافِ الصِّبيانِ والخَدَمِ، وتعدمُ المشقةُ التي هي سببُ رفعِ الجُناح، وقد تقدَّم شيءٌ من الكلامِ على أحكامِ العبيدِ والصِّبيانِ. وقد اختلفَ أهلُ العلمِ بالقرآنِ في هذه الآيةِ لَمّا قَلَّ عَمَلُ الناسِ بها.
روي عن ابنِ عباسٍ، وسعيدِ بنِ جُبيرٍ، ويحيى بنِ يعمرَ: أنهم قالوا: ثلاثُ آياتٍ من كتاب اللهِ لا يرى أحدٌ العملَ بها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] الآية، وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} [النساء: 8] الآية، وقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬1) [الحجرات: 13]. فقال أبو قِلابَةَ: الأمرُ فيها على النَّدْبِ والاستحبابِ (¬2). وقال غيرُه: بل الأمرُ فيها للوجوب (¬3). ثم اختلفَ هؤلاء: فقال قومٌ: هي منسوخةٌ (¬4)، ويحكى عن ابن المسيِّبِ (¬5). وذهبَ أكثرُهم إلى أنها محكمةٌ (¬6). ثم اختلفَ هؤلاءِ أيضاً: فقال قومٌ شُرِعَ هذا الحكمُ لمعنَى، وقد زالَ ذلكَ المعنى، فزالَ هذا الحُكْمُ لِزوالِه. سئلَ ابنُ عباس -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما- عن هذه الآية، فقال: لا يُعْمَلُ ¬
بها اليومَ، وذلكَ أن الناس كانوا لا سُتِرَةَ لهم، ولا حِجابَ، فربما دخلَ عليهِمُ الخدمُ والولدُ وهم في حالِ الجِماع، فأمرَ اللهُ جَل ذِكْرُهُ بالاستئذانِ في هذه الأوقاتِ المذكورةِ، ثم جاءَ اللهُ سبحانه بالسَّتْرِ، وبسطَ الرزقَ، فاتخذَ الناس الأبوابَ والسُّتورَ، فرأى الناس ذلكَ كَفاهم عنِ الاستئذانِ الذي كانوا أمروا به (¬1). وكذا قالَ مالك لما سُئِلَ عن الآيةِ. وفالَ أكثرُهم: حكمُ هذهِ الآيةِ باقٍ لم يُنْسَخْ، ولم يزلْ (¬2). وقال الشعبيُّ: ليستْ هذهِ الآيةُ منسوخةَ، فقيلَ لَهُ: إن الناس لا يعملونَ بها، فقال: اللهُ المُستعانُ (¬3). * فإن قلتم: فالصبي ليسَ منْ أهلِ التكليفِ، فَلِمَ كَلَّفَهُ اللهُ سبحانَهُ الامتناعَ، وألزمَهُ الاستئذان؟ قلنا: التكليفُ والخطابُ مصادمٌ للأولياءِ، لا للصبيانِ والخَدَمِ، فيجبُ على الولي تأديبُ الصبيّ كما بيَّنَهُ اللهُ سبحانهٌ هنا، وبيَّنَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيثُ قالَ: "مُرُوهُم بالصَّلاةِ لسَبعٍ، واضرِبوهُم على تَركِها لِعَشْرٍ" (¬4)، فهو ¬
داخلٌ في خطابِ التأديبِ، خارجٌ من خطابِ التكليفِ والتأثيمِ. ثم بيَنَ اللهُ سبحانَهُ أحكامهم إذا بَلَغُوا الحُلُمَ، وأَنَّهم كالبالغين فيما تقدَّمَ منَ الأحكام. 214 - (14) قوله عَز وجَلَّ: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 60]. * اتفقَ أهلُ العلمِ بالقرآنِ على إِحكام هذهِ الآيةِ، حتى رُوي عنِ ابنِ عباسٍ أَنَّها ناسخةٌ للآيةِ الأخرى (¬1)، والذي يقتضيهِ النظرُ أنها غيرُ ناسخةٍ إلا أن يَثْبُتَ بتوقيفٍ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وقد قَدمتُ كيفيةَ الجَمع بينهما، وأن حكمَ هذه مختصٌّ بالقواعِد، مُخْتَصٌّ بحالةِ الاختيارِ، وأن تلكَ الآيةَ مختصَّةٌ بالشوابِّ، مختصَّةٌ بحالةِ الحاجةِ والاضْطِرار. وكذا ما رَوَتْهُ عائشةُ -رضيَ اللهُ تَعالى عنها-: أَنَّ أسماءَ بنتَ أبي بكرٍ دخلَتْ على النبى - صلى الله عليه وسلم -، وعليها ثيابٌ رِقاقٌ، فأعرضَ عنها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "يا أَسْمُاء! إنَّ المرأةَ إذا بلغَتِ المَحيضَ لَمْ يَصلُح أَنْ يُرَى مِنْها إلَّا هذا وهذا"، وأشارَ إلى وجهِهِ وكَفيْه (¬2)، مختصّ بحالةِ الحاجةِ إلى رُؤْيتها. ¬
فإنْ قلتَ: فهل نجدُ دليلاً على التفرقِة بينَ الشابَّة والعَجوزِ مُوافِقاً لهذهِ الآيةِ من كتابٍ أو سنَّةٍ؟ قلتُ: نعم: أما دلالةُ الكتابِ، فإن الله سبحانَهُ لَمَّا أَحَل للنساءِ الشواب أن يُبْدِيْنَ زينتهُنَّ لغيرِ ذَوي الإِرْبَةِ منَ الرجال؛ كالشيخِ المُسِن، والمَعتوهِ، والمُغَفَّلِ الذي قعدَ عن النكاحِ وَيئسَ منه، فكذلكَ العجوزُ مثلُ الشيوخِ في العَكْس، كما ذكرَ اللهُ سبحانه حُكْمَهُ هنا. وأما دلالةُ السنَّةِ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما أمرَ فاطمةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَنْ تعتدَّ عندَ أُمَّ شَريكٍ، وكانَتْ من القَواعِدِ، قالَ لها: "تلْكَ امرأةٌ يَغْشاها أَصحابي"، فأمرَها أن تعتدَّ عندَ ابنِ أُمّ مكتومٍ (¬1)، ففرَّقَ بينَ العَجوزِ والشابةِ، ولم يجعلْ عليها جُناحاً في غِشْيانِ أصحابِه إيّاها، ولو كانَتْ شابَّهً كفاطِمَةَ، لَمَا غَشِيَها أصحابُه، واللهُ أعلمُ. 215 - (15) قوله جَلَّ ثَناؤُهُ: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61]. ¬
* كان المسلمونَ يخرجون إلى الغزوِ، ويدفعونَ مفاتيحَ بُيوتهم إلى الزّمنَى الذين لا يخرُجونَ، ويقولون لهم: أَخلَلْنا لكم أن تأكُلوا مِمّا فيها، فكانوا يَتَوَقَّوْنَ ذلك، ويقولون: نَخْشى ألا تكون أَنْفُسُهم بذلك طَيِّبَة، فأنزلَ اللهُ تعالى هذهِ الآيةَ يُحِلُّ لهم ذلكَ، وهذا تفسير مرويٌّ عن عائشةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنها، وقالَهُ ابنُ المُسَيِّبِ (¬1). وأراد بقوله تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] أي: بيوتِ أولادِكُم، فجعلَ بيوتَ أولادِهم بيوتَهم؛ لأنَّ ولدَ الرجلِ من كَسْبِه، وبقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور: 61] الزمنَى الذين كانوا يَخْزُنون للغزاة، فيحلُّ للرجلِ أن يأكلَ من مالِ أخيهِ وقريبهِ وصديقهِ ما أُذِنَ له فيه، وما لم يُؤْذَنْ إذا علمَ أَنَّ نفسَهُ تطيبُ بذلك. وقيل: إن المسلمين لما تَحَرَّجوا من مُؤَاكَلَةِ الأعمى والأعرج والمريضِ عندَ نُزولِ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وقالوا: إنَّ الطعامَ من أفضلِ الأموال؛ لأنه به تقومُ الهياكلُ، وإن الأعمى لا يرى أطايبَ الطعامِ، وإن الأعرجَ لا يتمكَّنُ في المجلسِ، فيهنأ بأكلِه، وإن المريضَ لا يسهلُ لهُ الأكلُ والبَلْعُ، أنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ، ويكونُ التأويلُ: ليس على مُؤاكِلِ الأَعْمى حَرَجٌ، وهذا تفسيرٌ يُروى عنِ ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- (¬2). ¬
وأمرَ اللهُ سبحانَهُ المؤمنينَ بالسلامِ على أَنْفُسِهم: قيل: معناه: فليسلم بعضُكم على بَعْض (¬1)، فَبِهذا التقييدِ يخرجُ المشركُ، فلا يُسَلَّمُ عليه؛ كما في قولي تَعالى: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47]. وقيل: إذا دخلتُم بيوتًا خالية، فَلْيَقُلِ الداخلُ: السلامُ علينا وعلى عبادِ اللهِ الصالحين (¬2). ¬
سورة القصص
سُورَةُ القَصَصِ
من أحكام النكاح
(من أحكام النكاح) 216 - (1) قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)} [القصص: 27]. سيأتي الكلامُ على هذه الآيةِ عندَ الكلامِ على قِصَّةِ أيوبَ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-.
سورة الأحزاب
سُورَةُ الأَحْزَابِ
من أحكام المواريث والولاية
(من أحكام المواريث والولاية) 217 - (1) قوله جَلَّ جَلالُهُ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]. * اشتملتْ هذهِ الآيةُ على ثلاثِ جُمَلٍ: أما الجملة الأولى، فهي تكذيبٌ لِمَنْ قالَ من كُفّارِ قريشٍ (¬1): إنَّ لي قَلْبَيْن، أَفهمُ بكلِّ واحد منهما أكثرَ مِمَّا يَفهمُ مُحَمَّد. وأما الجملة الثانية، فهي رَدٌّ لِما كانوا عليه من طَلاق الجاهِلِيَّةِ بالظِّهار، وسيأتي حكمُ الظِّهار -إنْ شاءَ اللهُ تعالى-. وأما الجملة الثالثة، فهي رَدّ لِما كانوا عليه من التوارُثِ بالتَّبَنِّي، فأبطلَ اللهُ سبحانَه أَنْ يكونَ ابنُ التبني كابنِ النسبِ، فلا يرثُ واحدٌ منهما الآخَرَ، ولا يحرمُ عليه محارمَهُ، ولا منكوحَتَه؛ كما قالَ تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37]. * ثم أمرَ اللهُ سبحانَهُ بدعائِهم إلى آبائِهم، وجعلَ الجُناحَ في دُعائهم ¬
بأبِ التبنِّي، إلا أنْ يكونَ على وَجْهِ الخَطَأ، أو يقولَ الرجلُ للآخر: يا بني! على وَجْهِ اللُّطْفِ والشفقةِ، فقال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]. * وكما حَرَّمَ اللهُ تعالى أن يتبنَّى مَنْ ليسَ بولدٍ لهُ، حَرَّمَ على المَرء أن ينتسب لغير (¬1) أبيه. روى واثِلَةُ بنُ الأَسْقَع -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَفْرى الفِرى مَنْ قَوَّلَنِي ما لم أَقُلْ، ومَنْ أَرَى عَيْنَيْهِ ما لَمْ تَرَ، ومن ادَّعَى إلى غيرِ أبيهِ" (¬2). 218 - (2) قوله جَلَّ جَلالُهُ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6]. أقولُ: اشتملتْ هذهِ الآيةُ على ثلاثةِ أحكام: الحكم الأول: جعلَ اللهُ سبحانَه نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أَوْلى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهم، فإذا دَعاهُم إلى شيءٍ، ودَعَتْهم أَنْفُسُهم إلى شيءٍ آخرَ، كانَتْ طاعةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلى؛ كما قالَ تعالى في آيةٍ أخرى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، فكان نزولُها ¬
في عبدِ اللهِ بنِ جَحْشٍ وأُخْتِهِ زينبَ لَمّا خطبَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لمولاهُ زيدِ بنِ حارِثةَ، وكَرِها ذلك (¬1). * وبينَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الأَوْلَوِيَّةَ هذه (¬2)، وأنّها في البِرِّ والإحسانِ، لا في الميراثِ لأموالهم. روى أبو هُريرةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ما مِنْ مُؤمنٍ إلَّا وَأَنا أَوْلى النَّاس بهِ في الدُّنْيا والآخرة، اقْرَؤوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]، فَأَيُّما مُؤْمنٍ تَرَكَ مالاً، فَلْتَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كانوا، وإنْ تَرَكَ دَيْناً أو ضَياعاً، فَلْيَأتِني، وَأَنا مَوْلاهُ" (¬3). * وكما خَصَّهُ اللهُ الكريمُ بهذا المَقام الشَّريفِ الأَغلى؛ لكمالِ رحمتِه لهم، وتمامِ شفقتِه عليهم، جعلَ المؤمنينَ في بِرِّهم وإحسانِهم أَوْلى بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - منْ أنْفُسِهم؛ تعظيماً لحرمتِه، وإجلالاً لِقَدرِه؛ كما بينَهُ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا يُؤمنُ عَبْدٌ حَتَّى أكونَ أَحَبَّ إليهِ منْ أهلِه ومالِه ووَلَد والنَّاسِ أجمعين" (¬4). ويندرجُ في هذا الأصلِ فروع ذكرَها الشافعيةُ: الأول: يجب على كلِّ أحدٍ (¬5) بَذْلُ نفسِه دُونَهُ لِمَنْ قَصَدَهُ، وإن عَلِمَ أنهُ ¬
هالِكٌ، وقد فعلَ ذلكَ مَنْ حضرَ عندَه من أصحابِه يومَ أُحُدٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم-. الثاني: يجبُ على مالكِ الطعامِ بَذْلُه للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وإيثارُهُ به، وإنْ كانَ محتاجاً إليه. الثالث: يجبُ على المرأةِ إجابتهُ إلى نِكاحِها إذا رَغِبَ فيها. وفي وَجْهٍ: لا يجبُ، وهو ساقِط، لا ينبغي حكايَته، وهذا الفَرْعُ مندرج في الأَصلِ الأَوَّلِ أيضاً (¬1). الرابع: يحرمُ خِطْتةُ مرْغوبَتِهِ، وإنْ لم يَخْطِبْها. الخامس: يجِبُ على الزوجِ طلاقُ زوجَتِه إذا رَغِبَ فيها، على الصحيح. وفي وَجْهٍ: لا يجبُ، وهو ضعيفٌ باطل (¬2). الحكم الثاني: جعلَ اللهُ سبحانَه أزواجَه أمهاتِ المؤمنينَ، وسَمَّاهم بذلكَ تَشْريفاً وتكريماً لهنَّ، وتَعظيماً لحرمَتِهِن على المؤمنينَ، لا أنهُنَّ أمهات حقيقةً، فلا يُقال لبناتِهِن: إنهن أَخَواتُ المُؤْمنين، ولا يَحرمنَ على المُؤمنين؛ ولا يُقال لأزْواجِهَّن: إنهم آباءُ المؤمنين، ولا يقالُ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أبو المؤمنين؛ لقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 40]، ولأنَّ الله سبحانَهُ رَزَقَهُ شَرَفاً أكثرَ من ذلكَ، وهو كونه أَوْلى بالمؤمنينَ مِنْ أَنْفُسِهم. ¬
ونقل عن بعضِ الشافعيةِ (¬1) أنه يجوزُ أن يُقالَ: أبو المؤمنين، ومعنى الآيةِ ليسَ أحدٌ منْ رجالِكُم وَلَدَ صُلْبِه (¬2). * وهل يجوزُ أن يقالَ لهنَّ: أُمَّهاتُ المؤمنات؟ فيه خلافٌ حكاهُ الماورديُّ في "تفسيره" (¬3)، وقال البغويُّ: كُلُّهُنَّ أُمَّهاتُ المؤمنينَ منَ الرجالِ دُونَ النساءِ (¬4)، ورُوي ذلكَ عنْ عائشةَ -رضيَ الله تعالى عنها- (¬5)، وسار هذا الخلافُ في دخول النساءِ في خطابِ الرجال (¬6). الحكم الثالث: جعلَ اللهُ سبحانَهُ أُولي الأرحامِ بعضُهم أَوْلى ببعض من المهاجرين والأنصار، وهذا يبطل التوارُثَ (¬7) بالمهاجرةِ والمؤاخاةِ في الإسلامِ الذي ذكرهُ اللهُ تعالى في آخِرِ "سورةِ الأنفالِ" و"النساءِ"، إلا أَنْ يُوصوا لأوليائهم بشيء، فإنه معروفٌ وبِرٌّ. وبين اللهُ سبحانَهُ مراتبَ ذَوي الأرحامِ، ومقاديرَ أَنْصِبائِهم في "سورةِ النساء". ¬
* فإن قلتَ: أولو الأرحامِ لفظٌ يقع (¬1) على الأولادِ والوالدينِ والإخوةِ وغيرِهم من العَصَبات، ويقعُ على الخالِ والخالةِ والعمَّةِ وغيرِهم، وهذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ لهم حَقًّا، وأن مَرتبًتَهم بعدَ الأولادِ والوالدينِ والإخوة والعَصَبَةِ، فيكون الله سبحانه قد ذكر في سورة النساء مراتب ذوي الأرحام من الأولاد والوالدين والإخوة نصاً، وذكرَ غيرَهُم من ذوي الأرحام عُموماً. قلتُ: هذا سؤالٌ حسنٌ، واستدلالٌ قوي، ولأجلِ هذا ذهب الكوفيون إلى تَوْريثهم، وقالَ به أحمدُ، وإسحاقُ، والمُزَنيُّ، وابنُ سريج. وروي عن كثيرٍ من الصحابةِ كعمرَ، وعلى، وعائشةَ، وابن مسعود، ومُعاذٍ، وأبي الدَّرداءِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم-. وذهبَ الحجازيونَ إلى عدمِ توريثهِم، وبه قالَ مالكٌ والشافعيُّ، ويروى عن أبي بكرٍ، وزيدِ بنِ ثابت، وابنِ عمرَ، ورُوي عن عَلِيٍّ أيضاً -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- (¬2). وأجابوا عن الآيةِ بأنَ الرَّحِمَ مُجْمَلٌ، وليسَ ببيِّنٍ، فيرجعُ في بيانِه إلى غيرِه، وقد بيَنَهُ اللهُ سبحانَهُ، ورسولهُ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ المعنى: وأُولو الأرحامِ بعضُهم أولى ببعضِ على ما فَرَضَ اللهُ تَعالى، وبينَ رسولُه - صلى الله عليه وسلم -؛ بدليلِ الإجماعِ على توريثِ الزوجِ والزوجةِ والمَوْلى، وليسوا بِذَوي رحم. ¬
وهذا الجوابُ مدخولٌ، فلهم أن يقولوا: الرحم ليسَ بمجملٍ، بل هو عامّ بين في لسانِ العربِ، وإنما المُجْمَلُ المراتِبُ التي أرادَها اللهُ سبحانَه لَمّا عَلِموا أنَّ استحقاقَ الإرثِ يختصُّ به بعضُ الرحمِ دونَ بعضٍ، فَبيَنَ اللهُ سبحانه مَراتِبَ الأَقْربينَ، ومقاديرَ أَنْصِبائِهم أيضاً (¬1). وبَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - معَ كتابِ اللهِ سبحانه أَنَّ "ما أبْقَتِ الفرائضُ فَلأَولى عَصَبةٍ ذَكرٍ" (¬2). وأما توريثُ الزوجِ والزوجةِ، فإن الله سبحانه أدخلَهم وأَشْرَكَهم مع أُولي الأَرحام، وكذا المَوْلى بَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنه داخل في التوريثِ، وأنَّ الوَلاءَ لُحمَة كَلُحمَةِ النَّسَبِ، لا تبُاع ولا تُوَرَّثُ (¬3)، وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" (¬4)، فَخَصَّ الكتابُ والسنَّةُ عُمومَ الكتابِ، والمعنى: وأُولو الأرحامِ بعضُهم أَوْلى ببعضٍ ما لم يكنْ معهُم زوج ولا زوجة ولا مَوْلًى. وهذا الجوابُ في المَوْلى على رأيِ الكوفيين. وأما على مذهبِ الصَّحابةِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم-، فلا يلزمُ الاعتراضُ بالمَوْلى؛ لأن ذا الرَّحِمِ عندَهُم مُقَدَّمٌ على الوَلاء عَلى مُقْتَضى الخِطاب في التَّنْزيلِ، فعن إبراهيمَ قال: كانَ عمرُ وعبدُ الله يُوَرِّثانِ الأرحامَ دُونَ المَوالي، وكان عَلِيّ أشدَّهم في ذلكَ (¬5)، وأُتِي سُوَيْدُ بنُ غَفَلَةَ في ابنةٍ ¬
وامرأةٍ ومولًى، فقال: كان عليٌّ يعطي الابنةَ النصفَ، والمرأةَ الثمُنَ، ويردُّ ما بقيَ على الابنةِ (¬1). وأبو حنيفةَ وأصحابُه أحدَثوا قولاً ثالثاً. وأسَدُّ من هذا في الجواب، -والله أعلم- أن تقول: لَمَّا بَيَّنَ اللهُ سبحانَهُ الفرائضَ، بيَنَ أَهْلَها، وبينَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ما لم يذكُرْهُ اللهُ تعالى، فقالَ: "أَلْحِقُوا الفَرائِضَ بأَهْلِها، فَما تقِيَ فَلأَولَى عَصَبة ذَكر" (¬2)، ثم لم يقلْ بعد ذلكَ: فإن لم يكنْ عصبةٌ ذكرٌ، فذو (¬3) عصبةٍ أنثى، ولا لِذَوي رحمٍ، ولو كانَ ذلك مُراداً بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]، لَبينَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنِ اللهِ سُبحانهُ؛ لِما فرضَ عليهِ من بيانِ ما أنزلَ إليهِ. فإن قلت: فقد بَيَّنَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: توريثَهم، فروى واسعُ بنُ حَبّانَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنهُ سألَ عاصمَ بنَ عدي عن ثابتِ بنِ الدحداحِ، وتُوُفِّيَ: "هل تَعلَمُونَ لَهُ نَسَباً فيكُم؟ "، فقال: لا، إنما هو أَتِيٌّ فينا، فقضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بميراثِه لابنِ أختِه (¬4). وروى المِقْدادُ الكِنْدِيُّ عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وارِثُ مَنْ لا وارِثَ لَهُ، أَعْقِلُ عَنْهُ، وَأَرِثُهُ، والخالُ وارِثُ مَنْ لا وارِثَ لَهُ، يَعْقِلُ عنهُ ويَرِثُهُ" (¬5). ¬
وروي عن عمرَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه-: أنه كتبَ إلى أبي عُبَيْدَةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه- في غُلامٍ أصابَهُ سهمٌ فقتلَهُ: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ: "اللهُ ورَسُولُه مَوْلَى مَنْ لا مَوْلَى لَهُ، والخالُ وارِثُ مَنْ لا وارِثَ لَهُ" (¬1). ورويَ نحوُه عن عائشةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنها (¬2). قلنا: أما حديثُ واسعٍ، فقالَ الشافعيُّ -رحمه اللهُ تعالى-: ثابتُ بنُ الدّحْداحِ قُتِل يومَ أُحُدٍ قبلَ أَنْ تنزلَ الفرائِضُ، وإنما نزلتِ الفرائضُ فيما بينت أصحابنا في بنات محمودِ بنِ مَسْلَمَةَ، وقُتِلَ يومَ خَيْبَر، وقد قيل: نزلتْ بعدَ أُحُدٍ في بنات سعدِ بنِ الربيع، وهذا كلُّه بعدَ أمرِ ثابتٍ (¬3). وكذلكَ آيةُ الصَّيْفِ (¬4) نَزَلَتْ في جابرِ بنِ عبدِ الله لمّا قال: ¬
يا رسولَ الله! إنما يَرِثنُي كَلالَةٌ، وإنَّما قالَ هذا بعدَ أن قُتِلَ أبوه يومَ أُحُدٍ؛ بدليلِ قوله: وإنَّما يرثنُي كَلالَةٌ] (¬1) (¬2). وهذا الجوابُ لا شِفاءَ فيه؛ لأن آياتِ الفرائضِ لا تُعارِضَ قضاءَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حتى تنسَخَهُ؛ فإنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقضِ بميراثِه لابنِ أختِهِ إلَّا بعدَ أَنْ سألَ عَنْ نَسَبه، فَقَضاؤه لا يخالِف القرآنَ، ولا يُعارضُه، والأحسنُ أن يقال: إنه مرسَلٌ. وأما حديثُ المِقدادِ، فقدْ كانَ يَحيى بنُ معينٍ يُضعْفُه (¬3). وأما حديثُ عمرَ، فقد قيلَ: إنه من بابِ اختيارِ الإمامِ، فكأنه اختارَ وَضْعَ مالِه فيه إذا لم يكنْ له وارثٌ سِواهُ، ورآهُ من المصلحةِ، وإن كانَ لا يستحق إرثاً (¬4)؛ كما رويَ عن عائشةَ -رضي الله تعالى عنها-: أنَّ رجلاً وقعَ من نَخْلَةٍ، فماتَ وتركَ شيئا، ولم يَدَعْ ولداً ولا حَميماً، فقالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَعْطُوا ميراثَهُ رَجُلاً منْ أهلِ قَرابَتِهِ" (¬5). وهذا الجوابُ فاسِدٌ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعطاهُ، وجعلَهُ وارثَ مَنْ لا وارِثَ لَهُ، فسمَّاهُ وارِثاً، وجعله مستحِقًّا. ورواه عمرُ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- من قولِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ¬
وحديثُ عائشةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنها- قَضِيةٌ في عَيْن، ولعلَّ الرجلَ قد كانَ معلوماً عندهم، فيحملُ مطلقُ حديثِ عائشةَ على مُقَيَّدِ حديثِ عمرَ -رضيَ الله تعالى عنهم-، فإن صحَّ حديثُ عمرَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه-، تَعَيَّنَ المَصيرُ إليه. وقد أرخيتُ القولَ في هذهِ المسألة لِعِظَمِ مَوْقِعِها، وشِدَّةِ الحاجةِ إليها. وقد عَلِمتَ منَ الآيةِ وَجْهُ الدلالةِ على الردِّ على ذَوي الفروض عندَ منْ يقولُ به ما خلا الزوجَ والزوجةَ، وهذا البيانُ كافٍ، واللهُ أعلمُ.
من أحكام الطلاق
(من أحكام الطلاق) 219 - (3) قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28]. أقول (¬1): هذا الحكمُ خاصٌّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، أَوْجَبَ اللهُ سبحانَهُ عليه تخييرَ نِسائه بينَ اخْتِيارِه، وبينَ اختيارِ زينةِ الحياة (¬2) الدنيا؛ تشريفاً لهُ - صلى الله عليه وسلم - أن يتبرأ من منصبه العَلِيِّ، فإنْ أردْنَ الحياةَ الدنيا، وجبَ عليهِ طلاقُهُنَّ، وإن اختَرنه، فَلا يُطلَّقْنَ، بل يجب عليه إمساكُهن (¬3)؛ كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- عند قوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52]. وحكيَ وجهٌ ضعيفٌ لبعضِ الشافعية: أنه مستحَبٌّ (¬4)، وأن طلاقَ مَنْ كَرِهَتْ نِكاحَهُ تَكرُّمٌ (¬5). وقد خَيَّرَهُنَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كما أمرَهُ اللهُ تعالى. قالت عائشةُ -رضيَ اللهُ تعالى عنها-: جاءني رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ¬
أمرَهُ اللهُ أن يُخَيِّرَ أزواجَهُ، فبدأَ بي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إنِّي ذاكِرٌ لَكِ أَمْراً، فلا عَلَيْكِ أَنْ تَسْتعْجِلي حَتَّى تَسْتأمِرِي أبوَيْكِ"، وقد عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لم يكونا يأمُراني بِفراقِه، قالت: ثم قال: "إنَّ الله تَبارَكَ وتَعالى قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] "، إلى تمام الآيتين، فقلتُ: ففي أيَ شيءٍ أَستأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فما في أريدُ الله ورسولَهُ والدارَ الآخر (¬1). ولم يكنِ التخييرُ منه - صلى الله عليه وسلم - طلاقاً مُعَلَّقاً باختيارِهِنَّ (¬2). وهذا الحكمُ في النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأَمّا غيرُه فإنْ خَيَّرَ أَحدٌ منَ الناسِ زوجتَه، فقد اختلفَ السَّلَفُ فيه اخْتِلافاً كَثيراً (¬3). فذهبَ عمرُ، وابنُ عباسٍ، وابنُ مسعودٍ، وعائشةُ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم-: إلى أنها إنِ اختارتْ نفسَها، فواحدةٌ، كان اختارتْ زوجَها، فلا شيءَ. قالت عائشةُ -رضيَ اللهُ تَعالى عنها-: خَيَّرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فاخترناه، أفكانَ ذلكَ طلاقاً (¬4)، وبهذا قال الشافعيُّ. وذهبَ زيدُ بنُ ثابت إلى أنها إنِ اختارَتْ نَفْسَها، فثلاث، وإنِ اختارتْ زوجَها، فواحدةٌ، وهو أَحَقُّ بها، وجَعَلَ الطَّلاقَ مُعَلَّقاً باختيارِها، فإنِ ¬
اختارَتْهُ، بقيتِ الرجعةُ عليها من أجلِ اختيارِها له، وإن اختارَتْ نفسَها، فقد اختارَتْ حالةً لا سبيل لَهُ عليها، وهو قد جَعَل الخِيَرَةَ إليها، وهذهِ الحالةُ الثانيةُ التي تتمُّ بها اختيارَ نَفْسِها. ورويَ عنهُ: أَنَّها إنِ اختارَتْ نفسَها، فواحدةٌ أيضًا، وهو أحقُّ بها. وقالَ عَلِيٌّ: إنِ اختارَتْ زوجَها، فواحدةٌ، وهو أحق بها، وإن اختارَتْ نفسَها، فواحدةٌ بائِنَةٌ. ورويَ عنه: أَنَّها إنِ اختارَتْ نفسَها، فواحدةٌ بائنةٌ، وإن اختارَتْ زوجَها، فلا شيءَ، وكأنه لم يَجْعَلِ التخييرَ طلاقاً. ورُوي عنهُ مثلُ قولِ عمرَ وعائشة (¬1). * وقد ذكرتُ فبما تَقَدَّمَ اختلافَ الناسِ في وجوبِ المتعةِ للمَدخولِ بِها، ولا شَكَّ في أَنَّ أزواجَ النبى - صلى الله عليه وسلم - اللَّاتي خَيرَهُن رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كُنَّ مدخولاً بِهِنَّ، فيحتملُ أن يحملَ هذا الأمرُ على الاستِحبابِ، والظاهرُ أنه للوجوبِ؛ لأنَّ الله سبحانه أمرَهُ بالتخييرِ، وهو واجِبٌ، وأمرَهُ أن يُخَيرَهُنَّ بأنَّ ذلكَ جَزاؤُهُنَّ إنْ أَردنَ الحياةَ الدنيا. ثم يحتملُ أن يكونَ وجوبُ المتعةِ هُنا خاصّا به؛ لاقْتِرانها بخصائِصِه - صلى الله عليه وسلم -. ويحتملُ أن يكونَ الوجوبُ عامًّا لَهُ ولسائرِ الأُمَّةِ؛ لأنَّ الله تَعالى قد أوجَبَها في غيرِ هذا المقامِ على المُطَلقين، وهو الراجِحُ (¬2). ¬
220 - (4) قوله جَلَّ جَلالُهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49]. * أقولُ: قد (¬1) شرعَ اللهُ سبحانَه في هذهِ الآيةِ في المرأةِ غيرِ الممْسوسَةِ ثلاثَةَ أحكامٍ، فأوقعَ عليها الطلاقَ، ولم يوجِبْ عليها العِدَّةَ، وأوجَبَ لها المُتْعَةَ. * أما الطلاقُ، فقد أجمعَ المسلمون على وقُوعِ الطلاقِ عليها إذا قالَ لها: أنتِ طالقٌ، فتطلُقُ واحدةً، وإذا قالَ: أنتِ طالقٌ ثلاثاً، فتقع ثلاثٌ عندَ من أوقعَ الثَّلاثَ. لما روي أن محمدَ بنَ إياسِ بنِ البُكَيْر جاءَ إلى عبدِ اللهِ بنِ الزبيرِ وعاصمِ بنِ عمرَ، فقالَ: إن رَجُلاً من أهلِ الباديةِ طَلَّقَ امرأتَهُ ثلاثاً قبلَ أن يَدخُلَ بها، فماذا تريان؟ فقالَ ابنُ الزبيرِ: إن هذا الأمرَ ما لَنا فيهِ قولٌ، اذهبْ إلى ابنِ عباسٍ وأبي هريرةَ، فإني تَرَكْتُهما عندَ عائشةَ، فاسألْهما، ثم ائْتِنا فأَخْبِرْنا، فذهبَ فسألَهما، فقالَ ابنُ عباسٍ لأبي هُريرةَ؛ أَفْتِهِ يا أبا هريرة: فقد جاءَتْكَ مُعضِلَةٌ، فقالَ أبو هريرة: الواحدةُ تبُينها، والثلاثُ تُحَرِّمُها حتى تنكحَ زَوْجاً غيره، وقالَ ابنُ عباس مثلَ ذلكَ، وفي راويةٍ: وتابَعَتْهُما عائشةُ (¬2). ورويَ أيضًا عنْ علي، وزيدٍ، وابنِ مسعودٍ، وعبدِ اللهِ بنِ ¬
عَمرِو بنِ العاص، ولم أعلم لهمْ مُخالفاً (¬1). وأما إذا قالَ: أنتِ طالِقٌ، أنتِ طالِق، أنتِ طالِق، ثلاثاً، فقال قومٌ: تبينُ بالأُولى، ولا تلحقُها غيرُها، ويروى عن عُمَرَ، وعَليٍّ، وزيدٍ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ (¬2). وقد قدمتُ في "سورةِ البقرةِ" أَنَّ عمرَ قال: أَجيزُوهُن عليهنَّ، يعني: الثلاثَ (¬3). * وأما العدَّةُ منَ الطَّلاقِ، فلا تجبُ عليها، بإجماعِ المسلمين. وأَمَّا عِدَّةُ الوَفاةِ، فقد مَضَى بيانُها في "سورةِ البقرة". * وأما المُتْعَةُ، فقد تقدَّمَ أمرُ (¬4) بيانِها في "سورةِ البقرةِ". * ثمَّ استنبطَ ابنُ عباسٍ من هذهِ الآيةِ أنَّ الرجلَ إذا قالَ: إنْ تزوجْتُ فُلانةً، فهي طالِق، ثم تزوَّجَها، أَنَّها لا تَطْلُقُ، سواءٌ وَقَتَ وَقْتاً، أو لا، فقال: يرحمُ الله أبا عبدِ الرحمن -يعني: ابنَ مَسعودٍ- لو كانَ كَما قالَ، لقالَ: إذا طلقتُم النساءَ ثم نَكَحْتُموهُن. وفي روايةٍ عنهُ: إن يكنْ قالَها، فَزَلَّةٌ من عالم (¬5). وبمِثْل فَتْوى ابنِ عباسٍ قالَ علِيٌّ، وعائشةُ، وابنُ المسيِّبِ، والقاسمُ، وعُرْوَةُ، وأبو بَكْرِ بنُ عبدِ الرحمنِ، وعُبَيْدُ اللهِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، ¬
وأبانُ بنُ عُثمان، وشُريحٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرِ، وطاوسٌ، والحَسَنُ، وعَطاءٌ، ومالِكٌ، والشافعيُّ. وقال الكوفيون: يقعُ طلاقُه؛ كما قالَ ابنُ مسعودٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه (¬1). ¬
من أحكام النكاح
(من أحكام النكاح) 221 - (5) قولُه تَعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 50]. أقول: أحلَّ اللهُ لنبيّه - صلى الله عليه وسلم - نِكاحَ المَذْكوراتِ بِشَرطينِ: أحدهما: إذا آتاهُنَّ أجُورَهُن، وقد اتفقَ أهلُ العلمِ على أنَّ الصَّداقَ لا تَجوزُ المُواطَأَةُ على تَركِه، كان اتّفَقوا على جَوازِ تفويضِ المرأةِ لِبُضعِها، إلا أنَّ (¬1) الصَّداقَ لا بُذَ منهُ، فهو إما أن يَفْرِضَ لها، أو يَدخُلَ بها، ويستقرَّ عليهِ مَهْرُ نِسائها، ولها أنْ تَمْتَنِعَ منهُ إلى أن يَفْرِضَ لَها، وهذا الحكمُ شامِلٌ لهُ - صلى الله عليه وسلم - ولأُمتِه. ثم خصَّهُ اللهُ بإحلالِ الزواجِ لهُ بغيرِ صَداق حالاً ومالاً، فلا يجبُ عليهِ مهرٌ، لا بموتٍ، ولا بدُخولٍ، فقالَ تَعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، ¬
أي: أحلَلْنا لكَ المرأةَ الواهبةَ خالِصَةً لكَ من دُونِ المؤمنين، والعاملُ في الحال (أحللنا) لا (وهبت) (¬1). الثاني: أن يكُنَّ منَ المُهاجراتِ، فلا يحلُّ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا لأحدٍ من أصحابه نِكاحُ كافرةٍ لم تهاجرْ؛ لمفهومِ هذهِ الآيةِ، ولقولِه تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. فإن قلتَ: فإن كانتْ مؤمنةً لم تهاجِرْ، فهلْ يحلُّ نِكاحُها لمؤمن مُهاجِرٍ، أو لا يَحِلُّ له؟ قلتُ: لا أعلمُ فيهِ قولًا لأحدٍ من الفقهاءِ، والظاهرُ حلُّ نِكاحِها؛ لمفهوم قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وقوله: {ولَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، وقوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 98]، وقوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25]. * إذا تَمَّ هذا، فقد اختلفَ أهلُ العلم بالقرآنِ في هذهِ الآية، هلْ هيَ ناسخةٌ، أو منسوخةٌ؟ وسيأتي بيانُ ذلكَ قريَباً -إنْ شاءَ اللهُ تعالى-. 222 - (6) قولُه جَل جلالُهُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب: 51] الآية. اختلفَ أهلُ العلمِ في معنى هذهِ الآيةِ. ¬
فقال بعضُ أهلِ التفسيرِ: أباحَ اللهُ سبحانَهُ لَهُ أن يتركَ التَّسْوِيَةَ والقَسْمَ بَيْنَ أزواجِه، حَتَّى إنَّه لَيُؤَخرُ مَنْ شاءَ منهنَّ عنْ وقتِ نَوْبَتِها (¬1)، ويَطَأُ مَنْ شاءَ في غير نَوْبَتِها، وجعلَ ذلكَ من خصائِصِه - صلى الله عليه وسلم -، فيعودُ الضميرُ إلى أزواجِه اللاتي أمِرَ بِتَخْييرِهِنَّ، وبهذا قالَ أبو سعيدِ الإِصْطَخْرِيُّ من الشافعيةِ (¬2). وقالَ قومٌ: جعلَ اللهُ لهُ الخِيَرَةَ بينَ أنْ ينكِحَ، ويَتَّهِبَ مَنْ شاءَ، مِمَّنْ وَهبَتْ لهُ نفسَها، ويتركَ من شاءَ. ففي "صحيح البخاري" و"مسلم" عن عائشةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنها- قالت: كنتُ أَغار على اللَّاتي وَهبْنَ أَنْفُسَهُنَ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأقولُ: أتهبُ المرأةُ نفسَها؟ فلمَّا أنزلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51]، قلتُ: ما أرى رَبَّكَ إلا يُسارِعُ في هواكَ (¬3). وعنْ مُعاذٍ عن عائشةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنها-: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يستأذِنُ في اليوم المرأةَ مِنا بعد أن نزلت هذهِ الآية: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51]، قلت لها: ما كنتِ تقولين؟ قالتْ: كنت أقول له: إنْ كانَ ذلكَ إِليَّ، فإنِّي لا أُريد يا رسولَ اللهِ أَنْ أُوثِر عليكَ أحدًا (¬4). ¬
وقد أرجَأَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ففي "صحيحي البخاري ومسلم" عن سهل بنِ سعدٍ السَّاعِدِيَّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جاءَتهُ امرأةَ، فقالَتْ: إِنِّي وهبْتُ نَفْسي لَكَ، فقامَتْ، فقال رجلٌ: يا رسولَ الله! زَوِّجْنيها إن لم يكنْ لكَ بها حاجة، فَذَكَرَ أَنَّه زَوَّجَهُ إياها (¬1). واختارَ هذا التأويلَ أبو عبدِ اللهِ الشافعيٌّ، وكذا جماهيرُ أصحابِه، فاختاروا وُجوبَ القَسْمِ عليهِ (¬2). قالَ ابنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما-: تُوُفِّيَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ تِسْعٍ، وكانَ يقسِمُ لثمانٍ، ولا يقسِمُ لواحدةٍ (¬3). وعن عائشةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنها-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جِيْءَ به يحْمَلُ في كِساءٍ بينَ أربعةٍ، فَأُدخِلَ عَلَيَّ، فقال: "يا عائِشَةُ! أَرْسلي إلى النَّساءِ"، فلمَّا جِئْنَ، قال: "إنِّي لا أَسْتَطيعُ أَنْ أَخْتَلِفَ بَيْنَكُنَّ، فَأْذَنَّ لِي فَأَكونَ في بَيْتِ عائِشَةَ"، قُلْنَ: نَعم (¬4). * ثم إطلاقُ هذا التخييرِ يقْتَضي (¬5) أَنَّ له أن يتزوَّجَ ويَتَّهِبَ ويُؤْوِيَ مَنْ يشاءُ مِمَنْ أَحَل اللهُ لهُ منْ كيرِ حَضرٍ؛ إذ جعلَ الأمرَ إلى مَشيئتِه - صلى الله عليه وسلم -، وهو ¬
كذلكَ على الصحيحِ عندَ الشافعيَّةِ (¬1)، ورفع اللهُ سبحانَهُ عنهُ الجُناح في طَلَبِ مَنْ عَزَلَ مِنْهُنَّ، فيجوزُ أن يكونَ العَزْلُ عبارةً عن عدم الرغبةِ، فيجوز له أن يبتغيَ نِكاح مَنْ زَهِدَ في نِكاحِها، ورَغِبَ عنها، ويجوز أن تكونَ عِبارةً عن الطَّلاقِ، وهوَ الأقربُ -إنْ شاءَ اللهُ تعالى- (¬2). فتدكُ الآيةُ على أَنَّهُ لا جُناح عليهِ في طَلَبِ مَغزولَتِه ثلاثاً؛ إذِ الجُناحُ مرتفعٌ عَمَّنْ سِواه فيما دُونَ الثلاثِ، وهوَ الصحيحُ من الوجهينِ للشافعيةِ أيضاً (¬3). * إذا تَمَّ هذا، فقدِ اختلفَ أهلُ العلمِ بالقرآنِ في هذهِ الآيةِ، هلْ هيَ ناسخةٌ، أو منسوخَةٌ؟ وها أنا أُبيِّنُ ذلكَ في قولهِ تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] الآية، فأقولُ: اختلفَ أهلُ العلمِ بالقرآنِ في هذهِ الآيةِ. فرويَ عن مجاهدٍ وسعيدِ بنِ جُبيرٍ أَنَّهما قالا: إنما حَرَّمَ اللهُ سبحانَهُ على نبيِّهِ نِكاحَ الكوافِرِ منْ أهلِ الكِتابِ، ومَعْنى (من بعد) أي: من بعد المسلمات؛ لئلا تكونَ كافرةٌ أما للمؤمنين، فذهبَا (¬4) إلى التأويل (¬5). ¬
وقال جُمهورُهم: لما أمرَ اللهُ سبحانَهُ نبيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بتخييرِ نِسائه، وامتثلَ أَمْرَ رَبِّه، وخَيَّرَهُنَّ فاختَرْنه، جَعَلَ جَزاءَهُنَّ أنْ قَصَرَهُ عليهنَّ، وحرَّمَ عليهِ طلاقَهُنَّ بهذِهِ الآية، ومعنى (من بعد) أي: من بعدِ هؤلاءِ التسع (¬1). ثم اختلف هؤلاءِ: فقال قومٌ: الآيةُ باقية على أحكامها، غيرُ منسوخةٍ، ويروى هذا القولُ عنِ ابنِ عباسٍ، والحَسَنِ، وابْنِ سيرينَ، وقَتَادَةَ. ثم قالَ قومٌ: بلْ هي ناسخة أيضاً لِما أباحَ اللهُ سبحانَهُ لنبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ تزِوُّجِ مَنْ شاءَ منَ النساءِ؛ لقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51]، ولقوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50]. وحكي هذا القولُ عن محمدِ بنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ (¬2). وقالَ قومٌ: الآيةُ منسوخةٌ غيرُ مُحْكَمَةٍ، نسخَ اللهُ سبحانَهُ التحريمَ عَنْ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -؛ لتكونَ لهُ المِنَّةُ عليهِنَّ، وهذا ما اختارَهُ الشافعيُّ (¬3). والنسخُ: إمَّا بالسُّنَّةِ عندَ مَنْ أجازَ النسخَ بها، ففي "صحيح مسلم" عن زيدِ بنِ أرقمَ -رضي اللهُ تعالى عنه- قال: تزوَّجَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ نزولِ هذهِ الآيةِ مَيْمونَةَ، ومُلَيْكَةَ، وصَفِيَّةَ، وجُوَيْرِيَةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهن- (¬4). ¬
وإما بقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] وهو مرويّ عن على وابنِ عباسٍ أيضاً (¬1). وإمّا بقولهِ تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50]، كما قالَهُ بعضُ مُصَنِّفي الناسخِ والمنسوخ (¬2). وفي "صحيح مسلم" عن عائشةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنها- قالت: ما ماتَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَحَل اللهُ لَهُ المنّسوخ (¬3). قال الشافعيُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-: وأحسِبُ قولَ عائشةَ: حَّتى أحلَّ اللهُ لهُ النساءَ؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50]، فذكرَ اللهُ ما أحلَّ له، فذكر أزواجَهُ اللاتي آتى أُجورَهُنَّ، وذكرَ بناتِ عَمّه، وبَناتِ عَمَّاتِه، وبَناتِ خالِه، وبناتِ خالاتهِ، وامرأةً مؤمنةً إنْ وَهبْتَ نَفْسَها للنبيّ، فدلَّ ذلك على أنه أحلَّ له مع أزواجِه مَنْ ليسَ بزوجٍ يومَ أحلَّ لَهُ، وذلكَ أنه لم يكنْ عندَه من بَناتِ عَمِّه ولا بَناتِ عَمَّاته، ولا بَناتِ خالِه، ولا بَناتِ خالاته امرأةٌ، وكانَ عندَه عِدَّةُ نِسْوَةٍ (¬4). * فإنْ قلتَ: فهلْ تحريمُ طَلاقِهِنَّ باقٍ، أو نُسِخَ كما نُسِخَ تَحريمُ الزواجِ ¬
عليهِنَّ؟ وهل تجدُ دليلاً يدلُّ على النَّسْخِ أو عدِمه (¬1)؟ قلتُ: للشافعيةِ في ارتفاع تحريمِ طلاقِهِنَّ وجهانِ، والراجحُ منهُما، والصوابُ عندي بقاءُ التحريمِ (¬2)، إذْ لا دليلَ يدل على النَّسْخِ، فلا يجوزُ أن يتركَ كتابُ اللهِ ويتبعَ خلافُه. قال أُبَيُّ بْنُ كعبٍ: إن معنى: {ولَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52]: ليس لكَ أنْ تطلِّقَهُنَّ بعدما اخْتَرْنَ الله ورسولَهُ والدارَ الآخِرَةَ، ولكنْ لكَ أن تزَوَّجَ عليهِنَّ مَنْ شِئْت (¬3). * وقَدْ قَدَّمنا (¬4) أقوالَ أهلِ العِلْمِ في المُراد بالإرجاء، هل هو في القَسْمِ والتَّسْوِيَة، أو في النكّاحِ والاتِّهابِ؟ ولم أعلمْ أحداً قال: إنَّ المرادَ بهِ الطلاقُ، والله أعلمُ. ¬
من أحكام الاستئذان
(من أحكام الاستئذان) 224 - (7) قوله جَلَّ جَلالُهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)} [الأحزاب: 53]. * أنزلَ اللهُ سبحانَهُ في هذهِ الآيةِ أَمرَ الحِجابِ بعدَ أن كانَ النساءُ يَبْرُزْنَ على الرجال، وسببُ نزولِها مشهورٌ، وذكرَ سبحانَهُ فيها أحكاماً ثلاثةً: الأول: تحريمُ الدخولِ لبيوتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بإذنِه، وهذا أوضحُ منْ أن يُوَضَّحَ. وقد مَضى حكمُ الاستِئْذانِ وصِفَتُه. ومعنى {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53]، أَيْ: إدراكَهُ، وذلكَ أنه كانَ ناسٌ من المؤمنينَ يَتَحَيَّنُونَ} (¬1) طعامَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فيدخُلون عليهِ قبلَ الطعام، فيجلسون إلى أن يُدرَكَ، ثم يأكلونَ ولا يَخْرُجون، وكان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يتأَذى بهم (¬2). ¬
الثاني: أمرهم اللهُ سبحانَهُ إذا خاطبوهُنَّ في أمر أَنْ يُخاطِبوهُنَّ من وَراءِ حجاب، وإنْ كُنَّ منَ القواعِدِ، وهذا خاصٌّ بأزواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأما غيرُهُنَّ، فيجوزُ أن يُخَاطَبْنَ عندَ الحاجَةِ من دونِ حجابٍ إذا سَتَرْنَ ما سِوى الوَجْهِ والكفينِ، أو كُنَّ من القواعِدِ اللاتي لا يَرْجونَ نِكاحاً. الثالث: أعلمَهُمُ اللهُ سبحانَهُ أنه ليسَ لهمْ أن يَنْكِحوا أزواجَهُ من بعدهِ أَبَداً؛ لأنهنَّ أُمَّهاتُ المؤمنينَ، وقد أجمعَ المُسلمونَ على تحريمِ أزواجِه اللَّاتي تُوُفَيَ عنهنَّ - صلى الله عليه وسلم -. ثم اختلفَ الفقهاءُ في مسألتين: إحداهُما: المفارَقَةُ في حياتِه في تَحريمها خِلاف للشافعية، والصَّحيحُ المَنْصوصُ التَّحريمُ؛ لعمومِ قولي تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] (¬1). الثانية: أَمَتُهُ المَوْطوءَةُ إذا فارَقَها بمَوْت أو غيرِه، في تحريمِها وَجْهانِ أيضاً (¬2)، وأَصَحُّهُما (¬3) عندي عدمُ التَّحَريمِ؛ لأنَّ الله سبحانَهُ خَصَّ الحُكْمَ بالأزواجِ، والقياسُ لا مَدخَلَ لهُ في الخَصائصِ، معَ تفريقِ اللهِ سبحانه بينَ الحرائرِ والإِماء في أَكْثَرِ الأحْكام في حَقّ غيرِه، فاعتبارُ الإماءِ بالحرائرِ ضعيفٌ، أو فاسدٌ؛ كَيْلا تكون أَمَته أُمّا للمؤمنين، ولَوْ فَرَّقوا بيَن مُسْتَوْلَدَتِهِ وغيرِها، لَكانَ حَسَناً، والله أعلم. ¬
224 - (8) قولُه جَلَّ جَلالُهُ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب: 55]. * لما نزلتْ آيةُ الحِجاب (¬1)، قالَ الآَباءُ والأبناءُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ونحنُ أَيْضاً نُكَلَمُهُنَّ منْ وَراءِ حِجابٍ، فَأنزلَ اللهُ عَز وجَل: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55]، وقد مضى الكلام على مثل هذا. ¬
من أحكام الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -
(من أحكام الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -) 225 - (9) قولُه جَلَّ جَلالُهُ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56]. * أعلَمَنا اللهُ -جَلَّ جَلالُهُ- منزلةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فتولى الصَّلاةَ بِنَفْسِهِ عليهِ -تبارَكَ وتَعالى- وشَرَّفَ بها مَلائِكَتَهُ، كما قَرَنَ صَلاَتهُم بصلاتِه -جَلَّ ثناؤُه-، ثم أمرَنا بالصَّلاةِ والسَّلامِ عليهِ - صلى الله عليه وسلم -، وجعلَ ذلكَ منْ أشرفِ الطَّاعاتِ وأَفْضَلِها لدَيْه -جَلَّ ثناؤُه سُبْحانَهُ-. * وقد بيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كيفيةَ الصلاةِ عليه. روى عبدُ الرحمنِ بنُ أبي ليلى عَنْ كَعب بنِ عُجْرَةَ قال: لما نزلتْ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب:56]، قال: قُلْنا: يا رسول الله! قد علمنا السلامَ عليكَ، فكيفَ الصلاةُ عليك؟ قال: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَل على مُحَمَّدٍ وعَلى آلِ محَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلى إبْراهيمَ وعَلى آلِ إبْراهيمَ إنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ، وبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وعَلى آلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكْتَ على إبْراهيمَ وعَلى آلِ إبْراهيمَ إِنَّكَ حَميدٌ مجيدٌ" (¬1). ¬
* ثم ادَّعى بعضُ أهلِ العلمِ أن الصلاةَ عليهِ مُسْتَحبَّةٌ (¬1)، وهو خَطَأ، لا التفاتَ إليه، فلا دليلَ لهُ على دَعواه، بل هو مَحجوج بِما روى مالكُ بنُ الحَسَنِ بنِ مالِكِ بنِ الحُوَيْرِثِ عنْ أبيهِ عَنْ جَدِّهِ قال: صَعِدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المِنْبَرَ، فَلَما رَقا عَتبَةَ، قال: "آمين"، ثُمَ رَقا عتبةَ أخرى، فقال: "آمين"، ثم رَقا عتبةَ ثالثةَ، فقال: "آمين"، ثم قال: "أتاني جِبْريلُ فقالَ: يا مُحَمَّدُ! مَنْ أَدرَكَ رَمَضانَ فَلَم يُغْفر لَهُ فَأَبْعَدهُ اللهُ، قُلْتُ: آمين، قال: ومَنْ أدركَ والِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُما، فدخلَ النارَ، فَأبْعَدَه اللهُ، قُلْتُ: آمين، قال: ومَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهَ فَلَم يُصَل عَلَيَّ، فأبعدهُ اللهُ، قُلْتُ: آمين" (¬2). وبما روى أبو هريرةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نَسِيَ الصَّلاةَ عَلَى أَخْطأ طريقَ الله" (¬3). وبما رَوى عبدُ اللهِ بنُ عَلِي بنِ حُسَيْنِ بْنِ علي بن أبي طالِبِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم-، عن أبيه قال: قالَ عليُّ بنُ أبي طالِب: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ البَخيلَ الَّذي ذُكِرْتُ عِنْدَهُ وَلَم يُصَل عَلَيَّ" (¬4)، خَرَّجَهُ أبو عيسى التِّرمِذِيُّ، وقالَ: حَسَنٌ صحيحٌ. ¬
* ثم اختلفَ هؤلاءِ في الأمرِ هلْ هوَ على التَّكرارِ، أو لا؟ فذهبَ أبو إسحاقَ الإسفرايينيُّ إلى أَنَّهُ على التكْرارِ، فتجبُ الصَّلاةُ عليهِ كُلَّما ذُكر - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقالَ أبو بكرِ بنُ أحمدَ بنِ بكيرٍ القاضي: افترضَ اللهُ سبحانَهُ على خَلْقِه أنْ يُصلُوا على نَبيهِ ويُسَلِّموا تسليمًا، ولم يَجْعَلْ لذلكَ وقتًا معلوماً، فالواجبُ أن يُكْثِرَ المَرءُ منهما، ولا يغفُلَ عنهُما (¬2). وذهبَ بعضُهم إلى أَنَّه ليسَ على التكْرارِ، فلا يجبُ في العُمُرِ أكثرَ من مَرَةٍ (¬3). وكِلا القَوْلَين إمَّا تفريطٌ، أو إفراطٌ؛ فإنَّ الله سبحانَهُ لم يوجِبْ على عِباده ذِكْرَهُ إِلَّا في خَمسَةِ أوقاتٍ، فقالَ سبحانَهُ وتَعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، وقال تبارَكَ وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41، 42]، وقالَ تبارَكَ وتَعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17، 18]، وقال تَعالى يذكر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - مِنَّةً عليه: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، ¬
قال مجاهد: أي: لا أُذْكَرُ إلَّا وتُذْكَرُ مَعي (¬1). فإذا وَجَبَ على العِبادِ ذِكْرُ اللهِ سبحانه في أوقاتٍ مَخْصوصةٍ، وجبَ ذكرُ رَسولهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُ في تِلْكَ الأوقاتِ، فلا يُقْصَرُ بهِ عَنْها، بل يبلغُ بهِ من المنَّةِ التي مَنَّ اللهُ تعالى عليهِ نِهايَةَ المِنَّةِ وغايَةَ الرِّفْعَةِ، فَكما لا يَصِحُّ إسلامٌ، ولا يَتِمُّ إيمان إِلَّا بذكرِه - صلى الله عليه وسلم - مَعَ ذكرِ ربه، وكما لا يَكْمُلُ أَذان ودُعاءٌ إلى الصلاةِ إلا بذكرِه - صلى الله عليه وسلم -، كذلكَ لا تتمُّ صلاةٌ يَجِبُ فيها ذكرُ اللهِ تعالى إلا بذكرِه، فمن أوجَبَ الصلاةَ عليهِ مَرَّةً واحدةً، لم يَسْتَوْفِ لهُ تمامَ الرِّفْعَةِ، ومَنْ أَوْجَبَ تكرارَها مُطْلَقاً، فقد بالَغَ وغَلا، فلف يَجْعَلِ اللهُ ذلكَ لهُ تبارَكَ وتعالى. فإنْ قلتَ: فَقَدْ أوجَبَ اللهُ ذِكْرَهُ - صلى الله عليه وسلم - في التشهُّدِ، فإيجابُ الصَّلاةِ عليهِ أَمْر زائدٌ على ذكرِهِ. قلتُ: ذكرُه في التشهدِ جاءَ مُتابِعًا لذكرِ اللهِ سُبْحانَهُ الذي لا يَتِمُّ الإيمانُ إِلَّا بالإقرارٍ بهِ، وذكرُ الله سبحانه في الصَّلاةِ من التكبيرِ والتَّحْميدِ (¬2) أمرٌ زائدٌ على الشهادِة لهُ بالوحدانِيةِ، فوجَبَ علينا أن نذكرَ نبيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - معَ ذِكْرِهِ سبحانَهُ باللَّفْظِ الذي أَمَرَنا بهِ، وخَصَهُ بهِ، وشَرَّفَهُ ورَفَعَهُ. وإلى إيجابِ الصَّلاةِ على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصَّلَواتِ الخمس ذَهبَ الشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وبعضُ المالكيةِ (¬3). ¬
ويُروى عن الشعبيِّ وعمرَ بنِ الخطابِ وابنهِ -رضي الله تعالى عنهم-. فإن قلتَ: فهل نجدُ دليلاً من السنَّةِ يدلُّ على أنَّ الصلَواتِ مَحَلٌّ للصلاةِ على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - غيرَ ما ذكرتَ؟ قلتُ: نعم، رَوى أبو مسعودٍ الأنصاريُّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- قال: أقبلَ رَجُل حتى جَلَسَ بين يَدَيْ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحنُ عندَهُ، فقال: يا رسولَ اللهِ! أَمَّا السلامُ عليكَ، فَقَدْ عَرَفْناهُ، فكيفَ نُصَلِّي عليكَ إِذا نَحْنُ صَلَّيْنا عَلَيْكَ في صَلاتِنا صَلَّى اللهُ عليكَ؟ فَصَمَتَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتّى أحْبَبْنا أنَّ الرجلَ لم يسألْه، ثم قالَ: "إذا أنتمْ صَلَّيْتُمْ عَلَيَّ فَقُولوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمدٍ النَّبِيِّ الأمِّيِّ وعَلى آلِ مُحَمَّدٍ كما صَلَّيْتَ على إبْراهيمَ وعَلى آلِ إبْراهيمَ، وبَارِكْ على مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأميِّ وآلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكْتَ على إبْراهيمَ وعَلى آلِ إبْراهيمَ إنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ" (¬1)، فالسائِلُ إنَّما سألَه عن صِفَةِ الصَّلاةِ عليهِ، لا عَنْ مَشْروعِيَّتِها، وكلامُ الصَّحابِيِّ يدلُّ على أنَّ الصلاةَ عليهِ - صلى الله عليه وسلم - في الصَّلاةِ أَمْرٌ مشروعٌ مقررٌ معهودٌ، فافتقرَ إلى السُّؤالِ عنْ صِفَتِها الكامِلَة، ولم يفتقرْ إلى السُّؤالِ إلى أصلِ مشروعيتِها. فإن قلتَ: فهل نجدُ دَليلاً أَبْيَنَ من هذا؛ فإنه يحتملُ أن يكونَ معنى قولِ السائلِ: كيفَ نُصَلِّي عليكَ إذا نحنُ صَلَّيْنا عليكَ في صَلاتِنا باختيارِنا، لا بِعَزيمةٍ علينا؟ قلنا: روى عبدُ الرحمنِ بنُ أَبي لَيْلى، عَنْ كعْبِ بنِ عُجْرَةَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّه كانَ يقولُ في الصَّلاةِ: "اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحمد وآلِ مُحَمَّدٍ كَما صلَّيْتَ عَلى إبْراهيمَ وآلِ إبْراهيمَ، وبارِكَ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ كما بارَكْتَ ¬
على إبْراهيمَ وآلِ إبْراهيمَ إنكَ حَميدٌ مَجيدٌ" (¬1)، وهذا مَعَ قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "صَلُّوا كما رَأَيْتُموني أُصَلِّي (¬2) يَدُلُّ على الوُجوب. فإن قلتَ: الصلاةُ على آلِه، غيرُ واجبةٍ، وقدْ صَلَّى على آلِه فكذلك الصلاةُ عليه - صلى الله عليه وسلم -. قلتُ: من أهل العلمِ من أوجَبَها على آلِه؛ كأبي عبدِ اللهِ الشافعيِّ في أَحَدِ قولَيْه (¬3)، وإنَّما لم تجبْ؛ لأَنها خَرَجَتْ من الوجوبِ؛ بدليلٍ، فدليلُها مقصورٌ عليها، ويدلُّ لهُ (¬4) أيضاً وجوبُ الصَّلاةِ عليهِ - صلى الله عليه وسلم - في الصَّلاةِ الوفاقُ من المخالِف في وُجوبِ الصلاةِ عليه - صلى الله عليه وسلم - على إيجابِ التسليمِ الذي أَمَرَ اللهُ تَعالى به المؤمنينَ في الصَّلاةِ؛ حيثُ يقولُ كُل مُصَل من المؤمنينَ في تشَهُّدِهِ: السلامُ عليكَ أَيُّها النبي الكريمُ (¬5) ورحمةُ اللهِ وبركاتُه. فإنْ تَعسَّفَ مُتَعسفٌ وقالَ: السلامُ الذي أمرَ اللهُ بهِ المؤمنينَ هو قولُ القائلِ خارجَ الصَّلاةِ: صلى الله على النبيِّ وسلم. قلنا له: الصلاةُ والسلامُ أَمَرَ الله بهما المؤمنين أمراً واحِداً، وبدأ بالصلاةِ منهما، وقرنَ بينَهما، ولم يفرِّقْ بينَهما في أمرٍ، وأنتَ فَرَّقْتَ بينهما، فأوجبتَ السلامَ داخلَ الصلاةِ وخارجَها، ولم توجِبِ الصَّلاةَ إلا خارِجَها، وهلْ هذا إلا تَحَكُّمَ أو زيادةٌ على ما أمرَ اللهُ تعالى به؟ ألم ترَ إلى قولِ السائلِ: يا رسولَ الله! أما السَّلامُ عليكَ، فقد عرفناه، أي: في التّشَهُّدِ ¬
الذي عَلَّمتَنا كما تُعَلِّمُنا السورةَ من القرآنَ، فكيفَ نُصَلِّي عليك؟ فَهلْ تَرَى السَّلامَ الَّذي عَرَّفَهُ بلامِ العَهْدِ غيرَ السلام (¬1) الذي يكونُ مع الصلاةِ عليه - صلى الله عليه وسلم -. ولما انتهى بنا النظرُ والتحقيقُ إلى هذهِ الغايةِ التي هي سَواءُ الطريق، اخْتَرْنا موافقةَ أبي عبدِ اللهِ الشافعيِّ، وذهبنا إليه؛ خلافاً لمنْ نسبَهُ إلى الشذوذِ -رحمه الله تعالى- (¬2). * إذا تَمَّ هذا فقدْ علمتَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - شَرَعَ الصلاةَ على آلِه معَ الصَّلاةِ عليهِ تشريفاً لَهُم بشِرَفِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَجزاهُ عنّا أفضلَ الجَزاءِ، وآتاهُ الوسيلةَ والفَضيلةَ بِمَنِّه وكَرَمِه. وقد اختلفَ الناسُ في الآل على أقوالٍ، وأما في هذا المَقام، فالمرادُ بهمْ أزواجُهُ وأهلُ بَيْتِهِ وعِتْرَتُهُ (¬3). ¬
من أحكام اللباس
(من أحكام اللباس) 226 - (10) قوله جَلَّ جَلالُهُ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)} [الأحزاب: 59]. * أقول: هذهِ الآيةُ حكمُها مقصورٌ على سَبَبِها، وذلكَ أَنَّهُ كانَ قومٌ منَ الزُّناةِ يَتَّبِعونَ النِّساءَ إذا خَرَجْنَ لَيْلاً، ولَم يكونوا يطلُبون إِلَّا الإماءَ، ولم يكنْ يومئذٍ تُعْرَفُ الحُرَّةُ منَ الأَمَةِ؛ لأنَّ زينتهنَ كانت واحدةً، إنَّما يَخْرُجْنَ في دُروع وخِمارٍ، فأمرَ اللهُ سبحانَهُ الحرائرَ أَنْ يَتَمَيَّزْنَ عنِ الإماءِ، ولا يَتَشَبَّهْنَ بِهنَّ، حَتَّى يُعرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ. * وفي الآيةِ دليلٌ على جوازِ خروجِ نساءِ النبي - صلى الله عليه وسلم - مُتَجَلْبِباتٍ. روينا في "صحيح البخاري" عن عائشةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنها- قالت: خَرَجَتْ سَوْدَةُ بعدَما ضُرِبَ الحِجابُ لِحاجَتِها، وكانتِ امرأةً جَسيمة، لا تَخْفى على من يعرِفُها، فرآها عمرُ بنُ الخَطاب، فقال: يا سودة! أما واللهِ ما تَخْفَيْنَ، فانْظُري كيفَ تَخْرجين؟ قالتْ: فانكَفَأَتْ راجِعَةً، ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في بَيْتي، وإنَّه لَيتعَشَّى، في يدِه عَرقٌ، فدخلَتْ فقالَتْ: يا رسولَ الله! إني خرجْتُ لبعضِ حاجَتي، فقالَ في عُمَرُ كَذا وكَذا، فأوحى اللهُ إليه، ثم رفعَ عنهُ، وإن العَرْقَ في يدهِ ما وضَعَه، وقال: "إنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُن أَنْ تَخْرُجْنَ لِحاجَتِكُنَّ" (¬1). ¬
سورة ص
سُورَةُ ص
من أحكام النكاح
(من أحكام النكاح) 227 - (1) قولُه جَلَّ جَلالُهُ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44]. * أقول: أرشدَ اللهُ سُبحانَهُ نبيَّهَ أَيّوبَ - صلى الله عليه وسلم - إلى الحِيْلَةِ في دَفْعِ الحِنْثِ، وكان ذلكَ شريعةً له - صلى الله عليه وسلم -. واختلفَ علماءُ شريعتِنا هل يكونُ شريعةُ مَنْ مَضى مِنْ قبلِنا شَرعًا لنا إذا لمْ يوجدْ في شريعتِنا ما يُخالِفُها ولا ما يوافقُها؟ فذهب مالكٌ وطائفةٌ معه إلى أنها ليستْ بشرعٍ لنا، ولهذا قَالَ: لا يبرُّ الحالِفُ بمثلِ عَمَلِ أيوبَ -عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ-. وذهبَ الشافعيُّ وطائفة أخرى إلى أنَّه شَرعٌ لنا، ولهذا قَالَ: يَبَرُّ الحالِفُ بمثلِ عملِ أَيّوبَ النبيِّ -عليه السلام - (¬1). فإن قلتُم: فإنَّ الله سبحانَهُ قصَّ لنا عن شُعيبٍ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وكان أَعْمى أنَّه أَنْكَحَ إِحدى ابْنَتَيْهِ على عَمَلٍ لنفسِه من غيرِ استِئمارٍ لها، ولم يقلْ بهِ الشافعيُّ -رحمهُ اللهُ تعالى-. قلنا: أما التزويجُ على عَمَلٍ، فقدْ قَالَ بهِ الشافعي (¬2)؛ لِما روى سَهْلُ بنُ ¬
سعدٍ السّاعِدِيُّ قال: جاءَتِ امرأةٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالتْ: إنني وَهَبْتُ نَفْسي لَكَ، وقامَتْ، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ الله! زوِّجْنيها إنْ لمْ يكنْ لكَ بِها حاجةٌ، فقال: "هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شيْءٍ تُصدِقُها؟ "، قال: ما عندي إلا إِزاري هذا، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إزارُكَ إنْ أَعْطَيْتَها جَلَسْتَ وَلا إزارَ لَكَ، فالْتَمِسْ شيئًا"، قَالَ: ما أجدُ، قال: "فالتمسْ ولَوْ خاتَمًا منْ حَديدٍ"، فالتمسَ فلم يجد شيئًا، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "زَوَّجْتكها بِما مَعَكَ مِنَ القُرآن" (¬1). وأما الوِلايَةُ على المرأةِ، فإنَ الوليَّ المُجْبرَ لا يحتاجُ إلى استئمار البكرِ، فقدْ قَالَ بهِ الشافعي أيضًا (¬2). وأما العَمى، فلا يقدَحُ في الوِلايةِ على الأَصَحَّ عندَ أَصحابه -رحمهم الله تعالى- (¬3). وأما منعُه هو وغيرُه تزويجَ إحدى المرأتينِ، فإن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يُنْكِح إِحداهما مبهمةً، وإنما عَرَضَ على موسى - صلى الله عليه وسلم - إِحداهُما، وخَيَّرَهُ بينَهُما، فأخبرَهُ أنَّه يريدُ إنكاحَه إحدى ابنتيه، والظاهرُ أن موسى - صلى الله عليه وسلم - عَينَ إِحداهُما، وإن كان الإبهامُ جائزًا في شريعته، فقياسُ شريعتِنا أنه لا يجوز. وأما منعُه لكونِ الصَّداقِ للوَليِّ؛ فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- نَهى عن نِكاحِ الشِّغار (¬4). ¬
سورة محمد - صلى الله عليه وسلم -
سُورَةُ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -
من أحكام الجهاد
(من أحكام الجهاد) 228 - (1) قوله جَلَّ جلالُهُ: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4]. * أقولُ: لمَّا نصرَ اللهُ عبدَهُ ورسولَهُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر، وقُتلَ مَنْ قتلَ، وأسرَ من أسرَ منَ المشركين، وفاداهم قبلَ الإثخانِ فيهم، عاتَبَهُ اللهُ سبحانَه على فعلِه، فقال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]. * ثمَّ بينَ اللهُ سبحانَهُ في هذهِ الآية أيضًا صِفَةَ النِّكايةِ في عَدُوِّهِ، وبينَ مَقامَ المَن والفِداء، فقال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، أي: فافعلوا، حَتّى يضعَ المشركون أوزارَ حَربِهم من السلاحِ، فلا يقاتلونكم، إمّا بالدُّخول في الإسلام، أو ببذلِ الجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغرون (¬1). وقيل: حَتّى تَضَعَ آثامَها، فلا يَبْقى على الأرضِ مشركٌ، وذلكَ بخُروج عيسى -عليه السلام (¬2) -، روى ابنُ المُسَيّب عن أبي هُريرةَ -رضيَ اللهُ ¬
تعالى عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أَنَّه قَالَ: "والَّذي نَفْسي بيَدِهِ! لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فيكُمُ ابنُ مَريم حَكَمًا عَدلًا، فيكسرَ الصَّليبَ، ويقتل الخِنْزيرَ، وتَضَعَ الحربُ أوزارَها، ويَفيضَ المالُ حَتَّى لا تقْبَلَهُ أحدٌ" (¬1). * ثم يحتملُ أن تكونَ هذهِ الآيةُ واردةً لبيانِ صفةِ النِّكايةِ في العَدُوِّ، ولِحَصرِ ما يُفْعَلُ بالأَسيرِ، وإنهاء القتلُ حتى يكونَ الإثخانُ، ثُمَّ الأسرُ، ولا يجوزُ الأسرُ قَبْلَ الإِثخانِ، ثُمَّ المَنُّ والفِداءُ فقط. وبهذا المعنى يقولُ مَنْ منعَ قَتْلَ الأُسارى، ولكنْ يُمَنُّ عليهِم، أو يفادَوْا. قال الحَسَنُ البَصرِيُّ: دَفَعَ الحجاجُ أسيراً إلى ابنِ عُمَرَ ليقتلَهُ، فقالَ ابنُ عُمَرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه -: ليسَ بِهذا أَمَرَنا اللهُ عَز وجَل، فقرأ: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]. ويحكى عن عَطاءٍ والضَّحّاكِ (¬2). وادَّعى الحَسَنُ بنُ محمد التميميُّ أنَّه إجماعٌ منَ الصحابةِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- (¬3). وذهبَ قومٌ إلى تَخْصيصِ هذا الحُكمِ (¬4) بغيرِ العَرَب، وأَمّا العَرَبُ، فلا يجوزُ أن يُمَنَّ عليهم، ولا يُفادَوا، قالَهُ السُّدِّيُّ وغيرُه (¬5). ¬
وذهبَ قومٌ إلى أنها عامَّةٌ منسوخةٌ (¬1) بالأمرِ بالقتلِ في (براءة) (¬2)، وأنه لا يجوزُ أن يُمَنَّ على مُشْرِكٍ، ولا يُفادى إلا مَنْ لا يجوزُ قتلُهُ؛ كالصبيِّ والمرأةِ، ويُروى عنِ ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما- (¬3). قَالَ الشافعيُّ: لمَ يَبْلُغْني عن ابنِ عباسِ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه - بإسنادٍ صحيحٍ، وإنَّما هو عندي من تفسيرِ عَطِيَّةَ العَوْفِيِّ بروايةِ أولادِهِ عنهُ، وهو إسناد ضعيفٌ، والظاهرُ -واللهُ أعلم- أنَّها واردةٌ لبيانِ وقتِ الأَسْرِ، لا لحصر ما يفعلُ بالأسيرِ. قَالَ ابنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه -: خُيِّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الأَسْرى بَيْنَ المَنِّ والفِداءِ، والقَتْلِ والاستِعْباد (¬4)، يفعلُ ما يشاءُ، وعلى هذا أكثرُ أهلِ العلمِ، فقدْ قَتَلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الأَسْرى صَبْرًا في غيرِ مَوْطِنٍ. فإنْ قيلَ: إنَّ هذهِ الآيةَ نَسَخَتْ فِعْلَهُ. قلنا: لو كانَ كذلكَ، لَبَيَّنَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لِما فُرِضَ عليهِ منْ بيانِ كِتابِهِ، وقد استعبدَ النِّساءَ، وأجمعتِ الصَّحابَةُ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- على استِعْباد أهلِ الكتابِ؛ ذكورِهم وإناثِهم، ولو كانتْ لِحَصْرِ ما يُفْعَلُ بالأَسير، لما جازَ الاسْتِرقاق، ولما أَجْمَعَتْ عليهِ الصحابةُ. فإن قلتَ: فما الحكمُ في استرقاقِ العَرَبِ؟ قلنا: قال بعضُ العلماءِ: إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستعبدْ ذُكورَ العربِ، وكذا ¬
قَالَ الشافعيُّ في القديمِ: الحجازُ عندَنا ليس في أهلِه عربيٌّ علمتُهُ جَرى عليهِ سَبْيٌ في الإِسلامِ، ولا نعلمُ أنَّ أبا بكرِ سَبَى عَرَبِياً بَعْدَ أَهْلِ الرِّدَّةِ، ولكنْ أسرَهُم أبو بكرِ حتى خلاهم عمرُ. وقد رُويَ عن أبي بكرِ شيءٌ في سبيِ بعضِ العربِ، وليس بثابتٍ، إنمَّا كانَ أَسَرَهُم. وأحسبُ أَنَّ من قَالَ بِسِبائِهم (¬1) ذهبوا إلى هذا (¬2). ثم قال: أخبرنا محمدٌ، عن موسى بنِ محمدِ بنِ إبراهيمَ بنِ الحارثِ، عن أبيهِ، عن السَّلوليِّ، عن معاذِ بنِ جبلِ: أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ يومَ حُنَيْنِ: "لَوْ كانَ ثابِتًا على أَحَدٍ منَ العَرَبِ سِباءٌ بعدَ اليوم، لثبتَ على هؤلاء، ولكنْ إنما هو أَسارٌ وفِداءَ" (¬3). ثم قال: ومنْ ثبتَ عندَهُ الحديثُ، زعمَ أنَّ الرِّق لا يَجْري على عَرَبِيّ بحالٍ، وهوَ قولُ الزهْرِيِّ، وسعيدِ بنِ المُسَيبِ، والشعبي، ويُروى عن عمرَ بنِ الخَطابِ وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، ومَنْ لم يُثبتِ الحديثَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ذهبَ إلى أن العربَ والعَجَمَ سَواءٌ، وأنه يجري الرقُّ حيثُ جَرى على العَجَمِ. قال الربيعُ (¬4): وبهِ يأخذُ الشافعي، واحتجَّ بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سبى بَني ¬
المُصطَلِقِ، وهَوازِنَ، وقبائلَ من العربِ، وأجرى عليهم الرِّقَّ حَتَّى مَن عليهِم بَعْدُ (¬1). وأُجيبَ عن الأَوَّلِ بأنَّ هذا الحديثَ لم يوجدْ في شيءٍ من طرقِ حديثِ سَبْي هَوازن، وبأَنَّ في سندِه موسى بن محمَّد بنِ إبراهيمَ، وليسَ هو بالقوَيِّ، وبأنَّ الذي رَواه عن موسى بن محمَّد يشبهُ أن يكونَ محمدَ بنَ عمرَ الواقديَّ، وهو ضعيفٌ. * إذا تَمَّ هذا، فقد علمتَ أَنَّ الله سبحانَهُ عَلَّمَهم صفةَ القتلِ، وأنه ضَرْبُ العنقِ؛ لأنه أقوى في النكايةِ، وأقربُ إلى إِزْهاقِ الروحِ. وقد بيَّنَ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلكَ، ونهى عن المُثْلَةِ، قَالَ عِمْرانُ بنُ الحُصَيْنِ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه -: ما خطبَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا وأَمَرَنا (¬2) بالصَّدَقَةِ، ونَهى عنِ المُثْلَةِ (¬3). وروى ابنُ عباس -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما-: أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا بَعَثَ بِسَرِيَّةٍ قال: "لا تُمَثِّلُوا" (¬4). ¬
229 - (2) قوله جَلَّ جَلالُهُ: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]. وقد قَدَّمْتُ شيئًا من الكلامِ على هذهِ الآيةِ في "سورةِ الأنفالِ"، وسأزيدُ هنا ما يليقُ بهذا المَقام. فأقول: يحتملُ أن يكونَ معنى قوله سبحانَهُ: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} التعليلُ، ويحتملُ أن يكون معنى هذه الجملةِ الحالُ، أي: فلا تَدْعوا إلى السّلْمِ في حالِ علُوِّكُمْ عليهم. ولا بدَّ للمسلمينَ من ثلاثةِ أحوالٍ إذا التمسَ المشركونَ منهُمُ الصُّلْحَ: الحالة الأولى: أن يكونَ على المسلمينَ في السّلْمِ مَضَرَّةٌ، فلا خَفاءَ في عَدَمِ (¬1) إجابتِهم. الحالة الثانية: أن يكونَ للمسلمين فيهِ مصلحةٌ بأنْ يكونَ في المسلمينَ ضَعْفٌ وقِلَّةُ عددٍ لا خَفاءَ باستحبابِ الإجابةِ. وهل يجبُ؟ فيه وجهانِ عندَ الشافعيةِ: أحدهما: يجبُ؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]، ولما فيه من اتبِّاعِ الأصلح. وأصحهما عندَهُم عدمُ الوجوبِ؛ لأن ما يتعلقُ بنظَرِ الإمامِ لا يكون ¬
واجباً عليه، وإن وجبَ عليه مراعاةُ الأصلحِ، والآيةُ منزلةٌ على (¬1) نظرِ الإمامِ في اتِّباعِ الأصلح للمسلمين، وفي هذا الاستدلالِ نظر لا يَخْفى. الحالة الثالثة: أن يكون للمشركين فيهِ مصلحةٌ، وليس على المسلمين فيه مَضَرَّةٌ؛ بأنْ يكونَ المسلمونَ أَظْهَرَ منَ المشركين، وظاهرُ إطلاقِ الشافعيةِ أنهُ يجوزُ إجابتُهُم إذا رآهُ الإمامُ؛ لآيةِ الأنفالِ، وبه قَالَ فريقٌ من الناس (¬2). وقالت المالكيةُ بعدمِ الجوازِ (¬3)، ووافقهم فريقٌ من الناسِ، لهذه الآية، وبهِ أقولُ؛ لأن الجهادَ فرض لا يجوزُ تركُه من غير عذرٍ ولا مصلحةٍ كسائرِ الفروضِ. فإن قلتَ: هذا القولُ في إجابتهم إذا التَمَسوا الصُّلْحَ، فهلْ يجوزُ لنا ابتداؤهُم بطلبِ الصُّلْحِ؟ قلنا: ذهب قومٌ إلى أنه لا يجوزُ إلا في مَقامِ الضَّرورَةِ؛ لظاهرِ هذه الآيةِ، ولمفهومِ الخطابِ من آيةِ الأنفالِ. وذهبَ الجُمهورُ من الفقهاءِ إلى أنه حَيْثُ جازَ إجابتُهم، جازَ ابتداؤهم؛ لما تقررَ أن الحُكْمَ في هذا مَنوطٌ بنظرِ الإمامِ، وقدِ التمسَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصلحَ من أهلِ مَكَّةَ، إمّا تَصريحاً، أو تلويحاً، وبهذا قالتِ الشافعيةُ، ولكن (¬4) يلزمُ منهُ جوازُ طلبِ المسلمينَ للصلح (¬5)؛ إن كانَ الصلحُ يختصُّ بمصلَحَته ¬
المشركونَ (¬1)، وهذا غير جائزٍ؛ لما فيه من إبطالِ فريضةِ الجهادِ من غيرِ عذرٍ ولا مَصلَحَةٍ، ولأجلِ هذا (¬2) اخَتْرنا مقالةَ المالكيةِ. * إذا تَم هذا، فأكثرُ (¬3) مُدَةِ يصالح عليها المدَّةُ التي صالَحَ عليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أهلَ مَكَّةَ، وهي عَشْرُ سنينَ في قولِ الشافعيِّ، ومنعَ الزيادةَ عليها (¬4)، وجوزَ مالكٌ الزيادةَ عليها إذا رأى الإمامُ المصلحةَ في ذلك (¬5). ¬
سورة الفتح
سُورَةُ الفَتْحِ
من أحكام الجهاد
(من أحكام الجهاد) 230 - (1) قوله جَلَّ جلالُه: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25]. * دفعَ اللهُ سبحانَهُ القِتالَ والقَتْلَ عن المشركينَ لأجلِ المسلمينَ المَجْهولينَ الذينَ بَيْنَ ظَهْرانَيْهم، وأَمّا لو لمْ يكنْ فيهم مسلمونَ، لجازَ قتلُهم وقِتالُهم بما يَعُمُّ منْ آلةِ الحَربِ، إذْ لا مَعَرَّة (¬1) ولا كَفّارَةَ في قَتْلِ نَسائِهم وذَراريّهِم إذا وقعَ خَطَأً؛ فقدْ نصبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أهلِ الطائفِ مَنْجَنيقًا، أو عَرّادَةً (¬2)، ونحن نعلمُ أن فيهم النساءَ والصِّبيان (¬3) والوِلْدانَ (¬4)، ونصبَ عَمْرُو بنُ العاصِ المَنْجَنيقَ على أهلِ الإسْكَنْدَرِيَّةِ (¬5). ¬
* وقد استنبطَ الأوزاعيُّ من هذهِ الآيةِ وجوبَ كَفِّ القتالِ عن العَدُوُّ فيما إذا عَلَوُا الحُصونَ، وتَتَرَّسوا بالمُسلمين. وقالَ الأوزاعيُّ: يكفُّ المسلمونَ عَنْ رَمْيِهِم، وإن بَرَزَ واحدٌ منهم رَمَوْهُ؛ فإنَّ اللهَ تَعالى يقول: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ} [الفتح: 25] حتى فرغ الآية، فكيفَ يرمي المسلمونَ مَنْ لا يرميهم من المشركين؟ (¬1) قال الشافعيُّ: والذي تأَوَّلَ الأوزاعيُّ يحتملُ ما تَأَوَّلَهُ عليه، ويحتملُ أن يكونَ كَفُّهُ عنهم لِما سبق في عِلْمِه منْ أنَّه سَيُسْلِمُ منهم طائفةٌ، والذي قَالَ الأوزاعيُّ أَحَبَّ إلينا إذا لم يكنْ بنا ضرورةٌ إلى قِتالِ أهلِ الحِصنِ، ولكن لو اضْطُرِرنا إلى قِتالهم بأنْ نخافَهُم على أنفسِنا إنْ كَفَفْنا عن حَربِهم، قاتلناهم، ولم نتَعَمَّد قتلَ المسلمِ، فإن أَصَبْناه (¬2)، كَفرنا (¬3). ¬
سورة الحجرات
سورة الحجرات
من أحكام الأضحية
(من أحكام الأضحية) 231 - (1) قوله جلَّ جَلالُهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]. * قال مجاهدٌ: لا تفْتاتوا على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقيل: لا تَذْبَحوا قبلَ أن يذبحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). * إذا تقرَّرَ أنَّ هذهِ الآيةَ نازلةٌ في تَقْديمِ الأضحِيَّةِ، فقدْ بيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أولَ وَقْتِ الأضحية. روى أَنَس -رضيَ اللهُ تَعالى عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فإنَّما ذَبَحَ لِنَفْسِهِ، ومنْ ذَبَحَ بعدَ الصَّلاةِ، فَقَد تَمَّ نُسُكُهُ" (¬3). وروى البراءُ بنُ عازِبٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَوَّلَ ما نَبدَأ به (¬4) في يومنا هذا أَنْ نُصَلّيَ، ثمَّ نرجعُ فَنَنْحَرُ، فمنْ فعلَ ذلكَ، فقدْ أصابَ سنَّتَنا، ومَنْ ذَبَحَ قبلَ ذلكَ، فإنَّما هوَ ¬
لَحم لأهلِهِ، ليسَ منَ النسُكِ في شَيْءٍ" (¬1)، خَرَجَهُ مسلم في "صحيحه". وروى بشير (¬2) بنُ يسارِ: أَنَّ أبا بُردَةَ بنَ نِيارِ ذَبَحَ ضَحِيَتَهُ قبلَ أن يذبحَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الأَضْحى، فزعمَ أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَهُ أن يعودَ بضَحِيتِهِ، قال أبو بردةَ: يا رسولَ الله! لا أجدُ إلا جَذَعاً، قَالَ: "وإنْ لمْ تجد إلا جَذَعاً، فاذْبَح" (¬3)، خَرَّجَهُ مالِكٌ في "مُوَطئِهِ". وعلى هذا أجمعَ أهلُ العلمِ، فلا يجوزُ الذبحُ قبلَ الصَّلاةِ، لكنِ استثنى عطاء وأبو حنيفةَ أهلَ القُرى والبَوادي، فَجَوَّزا لهم الذبْحَ بعدَ طُلوعِ الفجرِ الثاني (¬4). ثم اختلفوا: فمنهم من اعتبرَ وقتَ الأُضْحيةِ بالزمانِ، وهم الشافعيُّ، وداودُ، وابنُ المنذرِ، وآخرون، وقالوا: يدخُل وقتُها إذا طلعتِ الشمسُ، ومَضى قدرُ صَلاةِ العيدِ والخُطْبتين، سواء صَلى المُضَحي أم لا، وسواءٌ صَلَّى الإمامُ أم لا، وسواءٌ ذبحَ الإمامُ أم لا (¬5). واعتبرَ الباقونُ وقتَها بفعلِ الإمام. ثم اختلفَ هؤلاءِ: ¬
فذهبَ الحَسَنُ، وعطاءٌ، والأوزاعيُّ، وأبو حنيفةَ، وأحمدُ، وإسحاقُ إلى أنه لا يدخُل وقتُها حتى يُصَلّيَ الإمامُ ويخطُبَ، وإن لم يذبحْ (¬1). وذهبَ مالكٌ إلى أنه لا يدخُل وقتُها إلا بذَبْحِ الإمامِ (¬2)، واستدلَّ بحديثِ أبي بُردَةَ بنِ نِيار. والاستدلالُ بهِ مدخولٌ؛ لأنه وردَ في بعضِ روايتِه أنهُ ذبحَ قبلَ الصَّلاةِ، فأمرهُ (¬3) رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يعيدَ الذبحَ، ولا شَك في أن القصةَ واحدةٌ، وأنه إذا ذبحَ قبلَ الصَّلاة، فقد ذبحَ قبلَ ذبحِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولا عكسَ، ولو جعلنا الذبحَ هو الوصفَ المؤثّرَ في عدم الإِجزاء؛ لتعارض الروايتان عنه في وقتٍ واحدٍ، وامتنعَ العملُ بهما جمَيعاً، وكان الرجوعُ إلى الحديثِ المعارِض لهما أَوْلى من العملِ بإحداهُما، ولو ترجَّحَتْ إحداهُما على الأخرى، فدلَّ على أن الوصفَ المؤثرَ في الحُكْمِ هو الصلاةُ كَما جاءَ في حديثِ أَنسٍ والبَراءِ، ولأنَّ التعليقَ بالصَّلاةِ عرفَ من قوله - صلى الله عليه وسلم -، والتعليقَ بالذبحِ عُرِفَ من قولِ الصَّحابِيِّ أو التابعيِّ؛ لأنه لو كانَ الذبحُ شرطَه، لَبَيَّنَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لِما فَرَضَ اللهُ عليهِ من البَيان عندَ الحاجَةِ؛ إذ صدورُ بيانِه - صلى الله عليه وسلم - كانَ في يومِ العيِد عندَ فعلِ هذهِ العبادةِ. وقد مضى الكلامُ على انتهاءِ مدةِ الذبْحِ في "سورةِ الحَجِّ". ¬
من أحكام الردة
(من أحكام الردة) 232 - (2) قوله جَل جلالُهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]. * سببُ نزولِها: قيلَ في أبي بكرٍ وعُمَرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-، تنازَعا عندَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى عَلَتْ أصواتُهما (¬1). وقيل (¬2): نزلت في ثابتِ بنِ قيسٍ، وكانَ جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ (¬3). وكانَ هذا خَصيصةً لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ تشريفاً لِقَدرِه، وتَعْظيماً لِحُرمَتِه - صلى الله عليه وسلم -، حتى تواعدَ اللهُ سبحانهُ على هذا بحَبْطِ العَمَلِ. ويؤخَذُ من هذا أن يقاسَ عليهِ ما هوَ أقبحُ منهُ في هَتْكِ حُرمَتِه - صلى الله عليه وسلم -؛ كالاستهزاءِ بهِ، وتركِ التوقيرِ لهُ؛ فإنهُ كُفْرٌ مُحبِطٌ للعمل، مُوجِبٌ للنارِ (¬4)، ¬
نعوذُ باللهِ من ذلكَ، ونسألُه أن يرزقَنا القيامَ بِحَقِّهِ، ويجزِيَهُ عَنّا أفضلَ ما جَزى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ، صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسَلَّمَ كما صَلَّى على إبراهيمَ (¬1) إنه حميدٌ مجيدٌ. ¬
من أحكام الشهادات
(من أحكام الشهادات) 233 - (3) قوله جَل جلالُهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. * أوجبَ اللهُ سبحانهُ على المؤمنينَ التَّبيُّنَ والتثبُّتَ عندَ إخبارِ الفاسقِ وشهادتِه؛ لما فيهِ من الصَّلاح ودفعِ المشقةِ عنهم، وهذا حكمٌ مُجْمَعٌ عليه بينَ المُسلمين، وإنِ اختلفوا في صِفَةِ العَدالةِ، وقدْ قَدَمْتُ في "سورةِ البقرةِ" ما فيهِ كفايَةِ.
من أحكام البغاة
(من أحكام البغاة) 234 - (4) قوله جَلَّ جَلالُهُ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]. * أوجبَ اللهُ سبحانَهُ على المؤمنينَ الصّلْحَ بينَ إخوانِهم منَ المُؤمنين، وهو أن يَدعُوهُم إلى حكمِ اللهِ -جَلَّ جَلالُهُ-، وأَلَّا يَبْدَؤوهم بقتالٍ إلا بعدَ الدُّعاءِ إلى حُكْمِ اللهِ سبحانَه، كما فعلَ أبو بكرِ في أهلِ الرِّدَّةِ، وعَلِيٌّ في أهلِ حَروراءَ، وغيرِهم -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-. فإن أصَرَّتْ إحداهُما على البَغْيِ، وَجَبَ على المؤمنينَ قِتالُها حتى ترجعَ إلى حُكْمِ اللهِ سبحانَهُ، فإن فاءَتْ ورَجَعَتْ، وَجَبَ عليهمْ أن يُصلِحوا بينَهم بالعدلِ والقسط؛ كما ذكرَه اللهُ سبحانَه. * وأطلقَ اللهُ سبحانَهُ الصُّلْحَ، ولم تُذْكَر تِباعَةٌ في دَمٍ ولا مالٍ. قَالَ الشافعيُّ: فأشبَه هذا -واللهُ أعلمُ- أن تكونَ التِّباعاتُ في الجِراحِ والدِّماءِ، وما كانَ من الأموالِ ساقطاً بينهم (¬1). ويحتملُ أن يصلح بينَهما بالحُكْم إذا كانوا قد فَعَلوا ما فيه حُكْمٌ، فيعطى ¬
بعضُهم من بعضِ ما وَجَبَ له (¬1)؛ لقوله تعالى: {بِالْعَدْلِ}، والعدلُ أخذُ الحَق لبعضِ الناس منْ بَعْضٍ. قال: وإنما ذَهَبْنا إلى أن القَوَدَ ساقِطٌ، والآيةُ تحتملُ المَعْنَيينِ؛ لما أخبَرَنا مُطَرّفُ بنُ مازِنٍ (¬2)، عن مَعْمَرِ بنِ راشِدِ، عن الزهْريِّ قال: أدركتُ الفِتْنَةَ الأُولى في أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وكانَتْ فيها دِماءٌ وأموالٌ، فلم يُقْتَصَّ فيها من دمِ ولا مالٍ ولا قَرحٍ أُصيبَ بوجهِ التأويل، إلا أَنْ يؤخَذَ مالُ رجلٍ فيدفَعَ إلى أصحابِه (¬3). وقال أيضًا في القديم: وقدْ ظهرَ عَلِيٌّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه - على بعضِ مَنْ قاتَلَ، وفي أصحابِه من قَتَلَ منهُم، ومنهُمْ مَنْ قَتلَ من أصحابِه، وجَرَحَ، فلم يُقَد واحِدٌ من الفريقين من صاحبه من دمِ ولا جُرحٍ، ولم يغرمْهُ شيئًا علمنا (¬4). * وأحكامُ هذه الآيةِ ظاهر متفقٌ على أكثرها، وقد بَيَنَها اللهُ سبحانَهُ على أن المقصودَ من قِتالِ البُغاة إنما هُوَ كَفُّهُمْ عن البَغْيِ حتى يفيئُوا إلى الله، وليسَ المرادُ بهِ الانتقامَ منهم، فإذا أمكَنَ كَفُّهُمْ بقتالِ، فلا يُعْدَلُ إلى ما هوَ أغلظُ منه، ولا يُقْتلُ أسيرُهم، ولا يُذَفَّفُ (¬5) على جَريحِهم، ولا تتلَفُ أموالُهم (¬6). ¬
وقدْ فعلَ ذلكَ عليٌّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه -، فقالَ يومَ الجَمَلِ: لا تتَّبعُوا مُدبِرًا، ولا تُجهزوا على جَريحٍ، ولا تغنَموا مالًا (¬1). وقال أبو أمامَةَ: شهدْتُ صِفِّيْنَ، فكانوا لا يُجهزونَ على جَريحٍ، ولا يَقْتُلون مُوَلَيًا، ولا يَسْلُبون قتيلًا (¬2). وبهذا قَالَ الشافِعيُّ (¬3). وقال أبو حنيفةَ: يتبعُ مُدبِرُهم؛ لأنه لا يَحصُلُ فَيْئُهُمُ بالإدبار (¬4). ورأى الشافعيُّ حُصولَ الفيئةِ؛ لانْكِفافِ بعضِهم، واستدلَّ بفعلِ عَلِيّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه -. ¬
آداب وفضائل
(آداب وفضائل) 235 - 236 (5 - 6) قوله جَل جَلالُهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 11]. * وأحكامهُما ظاهرةٌ، ولا شَك في أنها آدابٌ مفروضَةٌ، فرضَها الله سبحانَهُ على عِباده لِصَلاحِهم وفلاحِهِمْ.
من أحكام النكاح
(من أحكام النكاح) 237 - (7) قوله جَلَّ جَلالُهُ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. * تمسَّكَ بهذِهِ الآيةِ مالِكٌ -رحمَهُ اللهُ تَعالى- في تركِ اعتبارِ الكَفاءَةِ. قَالَ ابنُ القاسِمِ: سألتُ مالِكاً عن نِكاحِ المَوالي في العربِ، فقالَ: لا بأسَ بذلك، أَلا تَرى إلى ما في كتابِ الله جَلَّ جَلالُهُ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬1) [الحجرات: 13]. ويدلُّ له (¬2) أيضًا ما رُوي عن أبي هُريرةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه -: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يا بَني بَياضَةَ! أَنْكِحُوا أبا هِنْدٍ، وأَنْكِحوا إليه" (¬3)، وكانَ حَجّامًا. وزعمَ الزُّهْرِيُّ في هذهِ القِصَّةِ أَنَّهم قالوا: يا رسولَ اللهِ نزوجُ بناتِنا ¬
مَواليَنا؟ فأنزلَ اللهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬1) [الحجرات: 13]. وقد عَمِلَ الصَّحابَةُ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم- بذلك (¬2)، فتزوجَتْ أختُ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ من سَلْمانَ، وأُخْتُ أبي بكرٍ من بِلالٍ، وزَوَّجَ أبو حُذَيْفَةَ بْنُ عتبةَ بنِ رَبيعةَ بنتَ أخيه من سالم مولاهُ، وتزوجَ زيدُ بنُ حارثةَ بزينبَ بنتِ جَحشٍ، ثم ابنُه أسامةُ بنُ زيدٍ بفاطِمَةَ بنتِ قَيْسٍ (¬3). وفي تنزيلِ العَبْدِ القِنّ منزلةَ المَوْلى خِلافٌ عندَهُمْ. وذهبَ الشافعيُّ إلى اعتبارِ الكَفاءةِ (¬4)، وقال: أصلُ هذهِ (¬5) الكفاءةِ مستنبطٌ من حديثِ بَريرةَ، وكانَ زوجُها غيرَ كُفْءٍ فخَّيَرها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬6). ويدلُّ لهُ (¬7) ما رُوي عن عُمَر -رضيَ اللهُ تعالى عنه -: أنه قال: لأمنعنَّ ذواتِ الأَحسابِ أن يُزَوَّجْنَ إلَّا منَ الأَكْفاءِ (¬8). وما رُويَ عن عائشةَ وابنِ عُمَرَ: العَرَبُ بعضُها أكفاءُ بعضٍ قبيلةٌ بقبيلةٍ، ¬
ورجلٌ برجلٍ، والمَوالي بَعْضُها أكفاءٌ لبعضٍ، قبيلةٌ بقبيلةٍ، ورجلٌ برجلٍ، إلَّا حائِكًا أو حجاماً (¬1). وقولُ مالكٍ عندي أرجحُ وأَوْلى، فلهُ أن يقولَ: تخييرُهُ بَريرةَ لا يدلُّ على اعتِبارِ الكفاءَةِ، فإنَّما خَيَّرَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِعَجْزِ الزوجِ عن القِيام بِواجباتِ الأَحرار، ونُقصانِه عن كمال (¬2) الاستِمْتاعِ؛ لكوبه مَشْغولًا بخدمَةِ مولاهُ، وأما الأَثَرانِ، فَمَوقوفانِ، وقولُ الصَّحابَي ليسَ بِحُجَّةٍ، وإن سلم، فهما ضَعيفان، بل جاءتِ السنَّةُ بموافقةِ الكتابِ العزيز. ¬
سورة النجم
سورة النجم
من أحكام النيابة في العبادات
(من أحكام النيابة في العبادات) 238 - (1) قولُه جَلَّ جَلالُهُ: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 36 - 39]. أقولُ: اشتملتْ هاتانِ الآيَتان على جُملتين: أَمّا الجملَةُ الأولى، وهي قولُه تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38] وما أشبَهَها، فقد ثبتَ في السنَّةِ أنها مخصوصة في حَمْلِ العاقِلَةِ لِدِيَةِ الخَطأ؛ خلافًا للأَصَمِّ وابنِ عُلَيَّة (¬1). وأما الجملة الثانية، وهي قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، فقيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (¬2) [الطور: 21]، وضَعْفُ هذا القولِ لا يَخْفى، بل الصوابُ: أَنَّها محكمةٌ. ولكن اتفقَ أهلُ العلمِ على أنَّها مخصوصةٌ بالإِجْماعِ والسُّنَّةِ. ¬
أما الإجماعُ، فأجمعَ المسلمونَ على وُجوب الصَّلاةِ على المَيِّتِ، وانتفِاعِه بالدُّعاء (¬1). وأما السُّنَةُ، فما أخرجَه مسلم في "صحيحه" عن أبي هُريرة -رضيَ اللهُ تَعالى عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عملُه إلَّا من ثلاثةِ أشياءَ: صَدَقَةٍ جارِيةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بهِ، أَوْ وَلَدٍ صالحٍ يَدعو له" (¬2). * إذا تَمَّ هذا، فالذي يُفْعَلُ عن المَيِّتِ لا يَخْلو إمّا أنْ يكونَ شيئًا قد وجبَ عليهِ في حياتهِ، أو يكونَ تطوُعًا، وها أنا أبيّنُ ما خُصَّ من هذا العُموم، فأقول: * أما المُتَطَوَعُ بهِ: - فأجْمَعوا على وُصولِ الدُّعاءِ، وأجمعوا على وصُول الصَّدَقَةِ (¬3)؛ لِحَديثِ أبي هُريرةَ كما رَوَتْ عائِشَةُ -رضيَ اللهُ تَعالى عنها -: أَنَّ رجلًا قَالَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم: إنَّ أُمي افْتُلِتَتْ (¬4) نَفْسُها، وأُراها لَوْ تَكَلَمَتْ، تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْها؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَمْ"، فَتَصَدَّقْ عَنْها (¬5). - واختلفوا في وُصولِ العِتْقِ، فقالَ قومٌ: لا يُعتقُ عنهُ؛ إذ لا ولاءَ لهُ، وإنَّما الوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. ¬
وأحسِبُ الشافعيَّ قالَهُ (¬1) في الجَديد (¬2). وقالَ قومٌ: يعتَقُ عنهُ (¬3)، وبهِ أقولُ؛ لما رَوى عبدُ الرَّحمنِ بْنُ أبي عَمْرَةَ: قلتُ للقاسمِ بنِ مُحَمَّدٍ: أينفعها -يعني أُمَّهُ- أنْ أُعْتِقَ عَنْها؟ فقالَ القاسمُ: إنَّ سعدَ بنَ عُبادة قَالَ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أُمِّي هَلَكَتْ، فهلْ يَنْفَعُها أَنْ أُعْتِقَ عنها؟ فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "نعم" (¬4). وقد أعتقَتْ عائشةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنها - عَنْ أخيها، وقدْ ماتَ عَنْ (¬5) غيرِ وَصِيَّةِ (¬6). - وأجمعوا على أنه يصلُه ما ليسَ من عَمَلِه إذا كانَ أصلُ وجودِه من عَمَلِه، ثم انقطعَ بموته، فإنه لا ينقطعُ؛ كالصَّدَقَةِ الجاريةِ، وهي الوقفُ والتّحبيسُ والعِلْمُ المنتفَعُ بهِ بعدَ موتِه، وإجراءُ نَهْرِ، وحَفْرُ بئرِ، وغَرسُ شَجَرَةِ، وقد وردَ ذلكَ عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- (¬7). ¬
- وأجمَعُوا على أنَّ الحَي لا يصلي عنِ المَيتِ، ولا يصومُ عنهُ (¬1). وأما الحَجُّ، فَمَنْ جَوزَ النيابَةَ في حَجِّ التطوُّعِ، جَوزَ أن يحجَ عنهُ (¬2). ويدلُّ على انتفاعِ المَيتِ بهِ ما رَوى عَمْرُو بنُ شُعيبِ عن أبيهِ عن جَدِّهِ في وَصِيّهِ العاصِ بنِ وائلِ قال: فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّهُ لَوْ كانَ مُسْلِمًا، فَأَعْتَقْتُمْ، أو تَصَدَّقْتُمْ عنهُ، أو حَجَجْتُمْ عنهُ، بَلَغَهُ ذلكَ" (¬3). قال الشافعيُّ في القَديم: وبهذا أَخَذوا (¬4). * أَمّا ما وجَبَ عليهِ في حياتِه: - فأجْمَعوا على أنه يجوزُ أن يُؤَدَّى عنِ المَيِّتِ ما وَجَبَ عليهِ منْ كَفّارَةٍ ونَذْرِ ودَيْنِ وغُرمِ وأداءِ حَجّ وزَكاةِ؛ لما رَوى ابنُ عباس -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما- قال: أتتِ النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأةٌ، فقالَتْ: إنَّ أمي ماتتْ، وعليها حَجٌّ، قال: "حُجّي عن أُمّكِ" (¬5). - واختلفوا في الصومِ فذهبَ أحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثورِ، والليثُ، وأهلُ الظاهرِ إلى ¬
جوازِه (¬1)؛ لما روى ابنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما-: أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ ماتَ وعليهِ صِيامٌ، صامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" (¬2). ولكنهم خَصُّوه بالنَّذْرِ؛ لما روى ابنُ عباس -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- قال: جاءتِ امرأةٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسولَ اللهِ! إنَّ أُمِّي ماتَتْ وعليها صَوْمُ نَذْرِ، أَفأَصومُ عنها؟ فقال: "أَرأيتِ لو كانَ على أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكانَ يُؤَدِّي ذلكَ عَنها؟ " قالتْ: نعم، قَالَ: "فَصُومي عن أمِّكِ" (¬3). وجوَّزهُ الشافعيُّ في الكتابِ القديمِ مطلقًا، ولم يقيدُه بالنذرِ؛ إذ لا عِبْرَةَ بخصوصِ السببِ (¬4). واختاره النوويُّ من المتأخرينَ (¬5). ومنعَ النيابةَ في الصَّومِ في الكتابِ الجديدِ، لكنَّهُ يطعمُ عنه (¬6). وهو ضعيفٌ؛ لثبوتِ السنَّةِ بخِلافِه. وأما الصلاةُ: فذهبَ الجُمهور إلى أن الصَّلاةَ لا تجوزُ عنهُ، وحكيَ عن عَطاء بنِ ¬
أبي رباح، وأحمدَ، وإسحاقَ: أنهم قالوا: تجوزُ الصَلاةُ عن المَيِّتِ، واختارهُ ابنُ أبي عَصرون من الشافعيةِ (¬1)، ويدلُّ لهم ما رَوَينا في البُخاريِّ: أَنَّ ابنَ عُمَرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - أَمَرَ مَنْ ماتَتْ وعليها صَلاةٌ أَنْ يُصَلَّى عنها (¬2). وقالَ البغويُّ من الشافعيةِ: لا يبعُدُ أن يُطْعَمَ عن كُلّ صَلاةٍ مُدٌّ من طَعام (¬3). وهذا خَطَأٌ؛ فإنَّه لا مدخَلَ للقياسِ في هذا، والقياسُ أنه لا يَجِبُ شيءٌ من الطعام، وأنه لا مدخَلَ للطَّعام في الصَّلَواتِ بحالٍ، بخلافِ الصَوْم والحَجِّ (¬4). وهذا في المَيّتِ. وأما الحَيُّ فَلا ينوبُ عنه أحدٌ في شيءٍ من العِباداتِ إلَّا في الحَجِّ المفروضِ إذا كانَ معضوباً (¬5)، وفي حَجّ التطوُّعِ خِلافٌ، وقد تقدَّمَ ذكرُه في "سورةِ آلِ عمران". ¬
وبمنعِ النيابةِ في العِباداتِ البدنيَّةِ إلا ما خَصَّهُ الشرعُ أَخَذَ الشافعيُّ، ونصَّ عليهِ في "الأم" (¬1)، وبهِ قَالَ المعتزلةُ (¬2)، وإياها أَختارُ؛ لهذه الآيةِ. وقالَ قومٌ من الأصوليين: تجوزُ النيابةُ في جميعِ العباداتِ، إلَّا ما خرجَ بدليلٍ (¬3)، واللهُ أعلم. ¬
سورة الواقعة
سورة الواقعة
من أحكام مس المصحف
(من أحكام مس المصحف) 239 - 240 (1 - 3) قوله جَل جلالُهُ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 - 79]. * هذه الآيةُ اختلفَ فيها أهلُ التَّفْسيرِ: فقالَ ابنُ عباسِ، وأَنَسٌ، ومجاهِدٌ: المُطَهَّرونَ: هُمُ الملائكةُ المُطَهَّرونَ من الذّنوبِ، والكتابُ المَكْنونُ هو الَّذي في السَّماءِ (¬1)، وبهذا احتجَّ أهلُ الظاهرِ، فَجَوَّزوا للمُحدِثِ مَسَّ المُصحَفِ (¬2). وقال قومٌ: المُطَهَّرونَ أي: المُتَطَهِّرونَ بالماءِ (¬3). قَالَ سَلْمانُ الفارِسيُّ لقومٍ سألوهُ عَنْ آيِ القرآنِ، وأرادوا منهُ الوُضوءَ؛ لكونه حينئذٍ مُحدِثاً: سَلُوا؛ فإني لا أَمَسُّهُ، وإنه لا يَمَسّهُ إلا المُطَهَّرونَ (¬4). وإلى هذا ذهبَ جماعةٌ من الفُقهاء؛ كمالِكٍ، وأبي حنيفةَ، والشافعيِّ (¬5). ¬
قَالَ عبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي الزنادِ، عن أبيهِ، عَمَّنْ أدركَ من فُقهاء أهل (¬1) المدينةِ الذين ينتهى إلى قولهم قال: وكانوا يقولونَ: لا يمسُّ القرآن إلا طاهرٌ (¬2). ويدلُّ على هذا فِعلُ (¬3) أختِ عمرَ بنِ الخَطاب -رضي الله تعالى عنهما- لما دخلَ عليها، ومنعتْهُ أن يمسَّ القرآنَ حَتَّى يتطهرَ؛ كما هو مشهورٌ في قصةِ إسلامِ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - (¬4). ويدلُّ عليه -وإنْ كانَ إطلاق (¬5) لفظُ المَكْنونِ على ما في السَّماءِ، والمُطهَّرونَ على المُطّهرينَ من الذنوب، أظهر- ما رَوى الزهريُّ عن أبي بكرِ بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حَزْمٍ، عن أبيهِ، عن جدهِ: أنَّ في الكِتابِ الذي كتبَهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمْرِو بنِ حَزْمٍ: أَنَّهُ لا يَمسُّ القرآن إلا طاهِرٌ (¬6). ورواه أيضًا سليمانُ بنُ موسى، عن سالمٍ، عن أبيهِ، عنِ النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬7). ¬
وكذلك أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بحفظِه وكَنِّه، فنهانا أن نسافرَ بالقرآنِ إلى أرضِ العدوِّ (¬1). والواجبُ على كُلِّ أحدٍ أَلَّا يمسَّ القُرآنَ إلا مُتَطَهِّراً من الحَدَثِ والخَبَثِ؛ تعظيماً لحرمتِه، وتشريفاً وتكريماً لكرامتِه؛ فإنَّ الله -جلَّ جلالُه- وَصَفَهُ بأنهُ قرآنٌ كريمٌ، وأنه في كتابٍ مكنونٍ، وأنه لا يمُّسه إلا المُطَهَّرونَ، ثم أنزلَه على نَبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، وجعلَه بين ظَهْرانينا، فكرمُه باقٍ عندَنا، وكنُّه واجبٌ علينا، ولا يمسُّه إلا المُطَهَّرون مِنَّا، فحرمتُه وكرامتُه باقيةٌ لا تزولُ. ولا حُجَّةَ لِمَنْ أباحَ مَسَّهُ للمُحدِثِ؛ فإنَّ الله سبحانَهُ أعلمَنا أنَّه لا يمسُّه إلا المطهرونَ، فهلْ قال: ويمسُّه غيرُهم؟ فالآيةُ حجَّةٌ عليهم، لا لَهُم. فإن قالوا: معنى الآيةِ الخبرُ، لا النهيُ كما هو لفظُها، وهذا لا يقتضي التَّحريمَ، فيرجعُ إلى الأصلِ، وهو الإباحةُ وبراءةُ الذمة. قلنا: لفظُ الآيةِ الخبرُ، ومعناها النهيُ؛ بدليلِ قراءةِ مَنْ قرأَ: (لا يمسَّهُ) بفتح السين. فإن قالوا: ذلكَ الكتابُ لا تنالُه غيرُ أيديهم. قلنا: المرادُ بالكِتابِ هناكَ هو ما دلَّ على هذا القرآنِ المكتوبِ عندَنا، فالمكنونُ في ذاتِه شيءٌ واحدٌ، فالذي في السَّماءِ هوَ الذي في الأرض، ولا يجوزُ أن يكونَ مُحتَرَماً مكرَّماً في السَّماءِ، غيرَ محترَمٍ ولا مكرَّمٍ في الأرض (¬2). ¬
وبتحريمِ مَسِّهِ على المُحدِثِ أخذَ أبو عبدِ اللهِ الشافعي -رحمَهُ الله (¬1) - حتى قال كثيرٌ من أصحابه: يجبُ أَلَّا يمسَّه الصبي المُمَيِّزُ إلا مُتَطَهِّراً (¬2)، وحتى قَالَ بعضُ أصحابه: يجبُ أَلَّا يمسَهُ (¬3) إلا مَنْ كان متطهِّرًا مِنَ الخَبَثِ في جميعِ بَدَنِه، ولو كانَ العضوُ الماسُّ للقرآنِ طاهرًا، والنجاسةُ في سائرِ بدنهِ (¬4). وحَتى قال بعضُهم: لا يجوزُ لمنْ تنَجَّسَ فوهُ أن يقرأَ القرآنَ حَتَّى يطهِّرَه. وقد منعَ النبي -صلى الله عليه وسلم- الجنبَ والحائضَ من قراءةِ القُرآنِ (¬5). وكُلَّ ذلكَ أختارُ وأدينُ اللهَ تباركَ وتَعالى به، ولهذا كرهَ مالِكٌ ¬
رحمَهُ اللهُ- قراءةَ القرآن في الأَسواقِ والطُّرقاتِ (¬1). وإنَّما قلْنا: يجوزُ قراءةُ القرآن للمحدِثِ؛ لقولِ عَلِيُّ -رضيَ اللهُ تعالى عنه -: إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كانَ لا يَحجُزُهُ شيءٌ عن قراءةِ القرآن إلا الجنابةُ (¬2). * ويؤخذُ من الآيةِ أنَّ من تهاوَنَ بالقرآنِ بأنْ ألقاهُ على قارعَةِ الطريقِ (¬3)، أو قاذورةٍ، أو مزبلةٍ، أو استخفَّ به في كلامِه: أَنَّه كافِرٌ، نَعوذُ باللهِ العظيمِ من الاسْتِخفاف بهِ، أو بكتبه، أو بآياتِه (¬4). ¬
سورة المجادلة
سورة المجادلة
من أحكام الظهار
(من أحكام الظهار) 242 - (1) قولُه عَزَّ وجَلَّ: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2]. * سببُ نزولِ هذهِ الآيةِ ما روينا أَنَّ أوسَ بنَ الصَّامِتِ ظاهَرَ منِ امرأتِه خَوْلَةَ بنتِ مالكِ بنِ ثَعْلَبةَ، قالت: فجئتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَشْكو إليه، ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُجادِلُني فيه، ويقولُ: "اتَّقِ الله، فإنَّهُ ابْنُ عَمِّكِ"، فما برحْتُ حَتَّى نزلَ القرآنُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} (¬1) [المجادلة: 1]. قال الشافعيُّ - رحمَهُ اللهُ تَعالى-: سمعْتُ مَنْ أَرْضى منْ أهلِ العلمِ بالقُرآن يَذْكُرُ أَنَّ أهلَ الجاهليةِ كانوا (¬2) يُطَلقونَ بِثَلاثٍ: الظِّهارِ، والإيلاءِ، والطَّلاقِ، فأقرَّ اللهُ سبحانَه الطَّلاقَ طَلاقًا، وحَكَم في الإِيلاءِ أَنْ يُمْهَلَ المُؤْلي أربعةَ أَشْهُرٍ، ثم جَعَلَ عليهِ أن يَفيءَ، أو يطلقَ، وحَكَمَ في الظهارِ بالكَفَّارة. ¬
فإذا تظاهرَ الرجلُ من امرأتِه يريدُ طَلاقَها، أو يريدُ تحريمَها بلا طَلاق، فلا يقعُ بهِ طلاقٌ بحالٍ، وهو مُظاهِرٌ (¬1). * والظَّهارُ أن يقولَ لزوجته: أنتِ على كَظَهْرِ أُمِّي؛ كما ذكرَ اللهُ تَعالى، فيكونُ مشبَّهًا بالظَّهْر الذي هُوَ مَحَل الرُكوبِ، ويُشَبِّهونَ بهِ المرأةَ، كما أنَّ الزوجةَ موطوءة للزوج، فَكَنَّوا بالظّهارِ عَمَّا يُسْتَهْجَنُ ذِكْرُهُ، وأضافُوا الظَّهْرَ إلى الأُمِّ؛ لأَنَّها أُمُّ المُحَرماتِ. * فأبطلَ اللهُ سبحانَهُ الظَّهارَ، وحَرَّمَهُ تَحْريمًا مُغَلظاً؛ لما فيهِ من المُنْكَرِ والزورِ والكذبِ. * وعلى تحريمِ هذهِ الصفَةِ منَ الظَّهار أَجْمَعَ المسلمون (¬2). * واختلفوا فيما إذا شبه امرأته بغيرِ ظَهْر أمَّهِ: فقالَ مالكٌ (¬3)، وكذا الشافعيُّ في أَظْهَرِ قولَيْه: هو ظِهار. وقالَ في القول الآخرِ: لا يكونُ ظِهارًا (¬4). وقال أبو حنيفةَ: يكون الظهارُ بكل عُضْو يحرُمُ النظرُ إليه (¬5). ¬
* واختلفوا (¬1) فيما إذا شَبَّهَها بغيرِ الأمِّ منَ المَحارِمِ: فقالَ مالكٌ والشافعيُّ: هو ظِهارٌ (¬2). وقال قومٌ: لا ظِهارَ إِلَّا في الأُمِّ (¬3). فمالِكٌ ومَنْ وافَقَهُ في المسألتينِ نَظَروا إلى المعنى، ومخالِفُهم إلى إيماءِ الخِطابِ. * وعُمومُ الخِطاب يقْتَضي أن يَصِحَّ الظِّهارُ من كلِّ زوجٍ مكلَّفٍ (¬4)، فيصحُّ الظِّهارُ من الحُرِّ والعبدِ، ومن المُسلمِ والكافِر، ومن الخَصِيّ والمَجْبوب (¬5). وهو كذلك. * ويقتضي بعُمومه أنْ يصحَّ في الأَمَةِ؛ لأَنَّها من جماعَةِ النساءِ كالزوجة. وبهِ قالَ مالِكٌ (¬6)، والثوريُّ، وجماعةٌ (¬7). ¬
وبه قالَ عطاءٌ أيضًا، إلا أنَّه لم يوجِبْ إلَّا نِصْفَ الكَفارَةِ (¬1). وقالَ أبو حنيفةَ، والشافعي، وأحمدُ (¬2)، وأبو ثَوْرٍ (¬3): لا يصحُّ في الأمةِ، وأوقعوا النساءَ المُقيداتِ بالإضافةِ على الزوجاتِ (¬4)؛ اعتبارًا بالوِفاق في الإيلاءِ في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] فإنهن ذواتُ الأزواج اتفاقًا، وبه قالَ عكرمة (¬5). وقال الأوزاعي: إن كانَ يَطَأُ أَمَتَهُ، فهو مُظاهِر منها، وإنْ لم يَطَأ، فهو يمين، وفيه كفارةُ يمينٍ (¬6). * ثم اختلفوا في حقيقةِ هذهِ الإضافةِ، هل هيَ في المُزَوَّجاتِ، وهو الأقربُ، أو فيمَنْ يصحُّ للمظاهِر نكاحُهُن، وإن لم يكن في نِكاح؟ وبالأولِ قالَ الشافعيُّ (¬7)، وداود (¬8)، وأبو ثورٍ (¬9)، وهو قولُ ابنِ عَبّاسٍ (¬10) -رضيَ اللهُ تعالى عنه -. ¬
وبالثاني قالَ مالِكٌ، وأبو حنيفةَ (¬1)، والثوريُّ، والأوزاعيُّ (¬2)، وهو قولُ عُمَرَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم- (¬3). وفرقَ قومٌ بينَ أن يطلِّقَ بأنْ يقولَ: كُلُّ امرأةٍ أتزوجُها فهيَ عليَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فلا يَصِح، وبينَ أن يعيِّنَ أو يُقَيِّدَ بأنْ يقولَ: إن تزوجْتُ فلانَة، أو من قريةِ كَذا، أو قبيلةِ كذا، فيصحُّ. وبه قالَ ابنُ أبي ليلى (¬4). * إذا تَمَّ هذا، فقد اختلفوا في حقيقةِ الظّهارِ، هل هوَ كالطَلاقِ، أو كاليمين؟ ومن أجلِ هذا ثارَ بينَهُمُ اختلافٌ في تَظاهُرِ المرأةِ من زوجِها. فمن جعلَهُ كالطَّلاقِ قال: لا يَصِحُّ، ولا يلزمُ بهِ شيءٌ، وبهِ قالَ مالكٌ والشافعيُّ (¬5). ومن جعلَهُ كاليمينِ، أوجبَ عليها كَفَّارَةَ الظّهارِ (¬6). ومنَ العُلماء مَنْ أوجبَ عليها كفارةَ يَمينٍ (¬7). ¬
243 - (2) قوله عَز وجَل: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)} [المجادلة: 3]. * اختلفَ أهلُ العلمِ بالقرآنِ في حَقيقة العَوْدِ الذي ذَكَرَهُ اللهُ تَعالى: فقالَ مجاهدٌ وطاوسٌ: لَمّا كانَ الظّهارُ منْ طَلاقِ الجاهليةِ، وأبطلَهُ اللهُ سبحانَهُ، وحَرَّمَهُ؛ لما فيهِ من المُنْكَرِ والزورِ، أوجبَ فيهِ على الَّذين يعودونَ إلى فِعْلِهِ في الإِسلامِ الكفارةَ، فالموجبُ (¬1) للكَفَّارةِ هو الظِّهارُ الَّذي حَرَّمَهُ اللهُ سبحانَهُ، لا أمر زائد عليه، وحمل العودَ على هذا، وهو قولٌ منقاسٌ، واللفظُ يحتمِلُه (¬2). وخالَفَهُما جمهورُ أهلِ العلمِ، وقالوا: لا يجبُ الكَفَّارَةُ إلا بالظِّهارِ والعَوْدِ (¬3). ثمَّ اختلفَ هؤلاءِ: فقالَ داودُ وأصحابهُ: العَوْدُ أَنْ يذكُرَ (¬4) لفظَ الظّهارِ مَرَّة ثانية (¬5). وضُعفَ بأنه تأكيدٌ، والتأكيدُ لا يَصْلُحُ موجِبًا للكَفارة. قال البخاري في "جامِعِه": ولأن اللهَ سبحانه لم يدلَّ على المُنْكَرِ وقولِ الزورِ (¬6). ¬
* ولمّا رأى الباقونَ أَنَّ مُرادَ المُتَظاهِرِ بالظِّهارِ تحريمُ الزوجةِ على نَفْسِه وَطْئاً أَوْ إمْساكاً، وأَنَّه إذا حَقَّقَ ما أرادَهُ من تَحْريِمها بالطلاقِ عَقِبَ الظِّهارِ، فلا كَفَّارَةَ عليه، جَعَلوا عَوْدَ المُتَظاهِرِ نَقْضَ ما قالَ من التحريمِ (¬1). وتكونُ اللامُ بمعنى (في) أي: فيما قالوا؛ كما في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] أي: في يوم القيامة، وكما في قوله تعالى: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187]. واختلفوا في تعيينِ هذا النَّقْضِ: فقالَ مالكٌ -في رواية-: العودُ هُوَ الوطْءُ نفسُه (¬2)، تشبيها له بالحِنْثِ في اليمين، فكما لا تجبُ الكَفَّارَةُ إلا بالحِنْثِ، لا تجبُ الكَفَّارةُ في الظِّهار إِلاّ بالوطْءِ (¬3). وهذا القولُ باطلٌ؛ لأنَّ الله سبحانَهُ أوجبَ الكَفّارَةَ من قبلِ أَنْ يَتَماسَّا، فلو كانَ العَوْدُ هوَ الوطْءُ لوجبَ الشيءُ قبلَ وُجوبِهِ، فدلَّ على أن الَّذي تجبُ بهِ الكَفَّارَةُ أمرٌ غيرُ الوطْءُ. والروايةُ المشهورةُ الصحيحةُ أنَّ العَوْدَ هو إرادةُ الوطْءِ، لا الوطْء (¬4)، وبهذا قالَ أبو حنيفةَ، وأحمدُ؛ لأنه عادَ فيما قالَ من تحريمِ المرأة (¬5). وقال الشافعيُّ: العَوْدُ هو إمساكُ المرأةِ بعدَ الظِّهارِ زمانًا يمكِنُ فيه ¬
الطَّلاقُ، فهذا لم يُحَققْ ما أرادَ من تَحْريمِها بالطَّلاقِ، فإمساكُه يدلُّ على أنه عائدٌ فيما قالَ؛ بدليلِ أَنَّ رفعَ الإمساكِ يرفعُ الكَفارَةَ، وهو إذا طَلَّقَ عقيبَ الظهارِ، فبقاءُ الإمساكِ يدلُّ على بَقاءِ الكَفارَةِ (¬1). قالَ الشافعي - رحمَهُ اللهُ تَعالى-: الذي حَفِظْتُ مِمَّا سمعت في الذين يعودون لِما قالوا أَنَّ المُتَظاهِرَ حَرَّمَ امرأتهُ بالظهارِ، فإذا أتتْ عليهِ مدةٌ بعدَ القولِ بالظهار، لم يُحَرِّمْها بالطَّلاقِ الَّذي يحرمُ بهِ، ولا بشيءٍ يكونُ له مخرجٌ من أن يحرم به، فقد وجبتْ عليهِ كَفارَةُ الطهارِ، كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسَكَ ما حَرَّمَ على نَفْسِه أنه حَلالٌ، فقد عادَ لِما قالَ، فخالَفَهُ، فأَحَلَّ ما حَرَّمَ. قال: ولا أعلمُ مَعْنًى أَوْلى بهِ من هذا. قال: ولا أعلمُ مُخالفًا في أَنَّ عليهِ كفارةَ الظهارِ، وإنْ لمْ يتظاهَرْ ظِهاراً آخَرَ (¬2). ولما رأى مالكٌ -رحمَهُ اللهُ- عدمَ ظُهور مَعْنى العَوْدِ في الإمساكِ، جعلَ العَوْدَ إرادةَ الوطْءِ والإمساكَ جميعًا. وقولُ مالِكٍ أقربُ إلى المَعْنى، وقولُ الشافِعيِّ أَحْوَطُ في وجُوبِ (¬3) الكَفارَةِ، واللهُ أعلمُ. * ثمَّ بينَ اللهُ سبحانَهُ هذهِ الكَفارَةَ وخِصالَها، وأنها إِعْتاقٌ، فإن لمْ يجدْ، فصيامُ شهرينِ مُتَتابِعَيْنِ، فإن لم يَسْتَطعْ، فإطعامُ سِتينَ مسكيناً. ¬
وقد أجمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّها على التَّرتيبِ كما بيَنَها اللهُ تَعالى (¬1). وأطلقَ اللهُ سبحانَهُ الرَّقَبةَ، ولم يُقيِّدْها بالإِيمان كما قَيدَها في كَفّارَةِ القَتْلِ: فأخذ أبو حنيفةَ -رحمهُ اللهُ تَعالى- بالإطلاقِ، فأجازَ عتقَ الرقبةِ الكافرةِ ما لم تكنْ وثنيةً ولا مرتدة (¬2). والشافعي -رحمهُ اللهُ تَعالى- حملَ هذا الإطلاقَ على التقييدِ في القَتْل؛ كما هو مذهبُه، في حَمل المطلقِ على المقيدِ عندَ اختلافِ السبَبِ (¬3). ووافقَهُ مالكٌ على اشتراطِ الإيمانِ (¬4). فإن قلتَ: فهل تجدُ في السُّنَّةِ دليلاً على اشتراطِ الإيمانِ؟ قلت: نعم، رُوي عن معاويةَ بنِ الحَكَم قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: يا رسولَ الله! إنَّ جاريةً لي كانَتْ ترعى غَنَماً، فَجِئْتُها وفقدتُ شاةً من الغنمِ، فسألتُها عَنْها، فقالَتْ: أكلَها الذئبُ، فأسِفْتُ عليها، وكنتُ من بني آدمَ، فلطَمْتُ وَجْهَها، وعليَّ رقبة (¬5)، أَفَأُعْتِقُها؟ فقالَ لَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أينَ الله؟ "، قالت: في السَّماءِ، فقال: "مَنْ أَنا؟ " فقالت: أنتَ رسولُ اللهِ (¬6)، قالَ: "فَأَعْتِقْها؛ ¬
فإنَّها مُؤْمِنَةٌ" (¬1)، فسؤالُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لها عنِ الإيمانِ، وعدمُ سؤالِه عنْ صِفَةِ الكَفَّارَةِ وسَبَبِها، وتركُ الاستِفْصال معَ قيامِ الاحتمالِ يُنْزَلُ منزلَةَ العُموم في المقالِ. ثم إطلاقُ الرقبةِ تقْتَضي أن تُجْزِئَ المَعيبةُ. وبالإطلاقِ قالَ قوم من أهلِ العلمِ. والجُمهورُ ذهبوا إلى تقييدِ هذا الإطلاقِ بالقياسِ على الهَدايا والضَّحايا؛ لكونِ الجميعِ قربةَ لله تعالى. ثم اختلفَ هؤلاء في تفصيلِ العَيْبِ الذي يَضُرُّ، والَّذي لا يَضُرُّ، وتفصيلُ ذلكَ مذكورٌ في كتبِ الفقهِ (¬2). * وذكرُ الرقبةِ يقتضي أنه لا يجوزُ (¬3) أن يعتقَ نصفَ رقبةٍ: وبهذا قالَ مالكٌ (¬4). والأصَحُّ عندَ الشافعيةِ الإِجْزاء إذا كانَ الباقي حُرًّا؛ لأنه في مَعْنى الرقبةِ الواحدةِ (¬5). ¬
* ثمَّ بينَ اللهُ سبحانَهُ مَحَلَّ هذهِ الكَفّارةِ، وأنه من قَبْلِ أنْ يَتَماسّا: فحملَ مالك وأبو حنيفةَ والشافعيُّ -في أحد قوليه- المماسَّةَ على حَقيقَتِها منَ المُلامَسَةِ التي هيَ دُونَ الجِماع (¬1)، ومَعْلومٌ أنه إذا حَرَّمَ عليهِ المباشرةَ فيما دونَ الفرجِ، فتحريمُ الوَطْءِ في الفرج أَوْلى، فيحرمُ الجميعُ عندَهُ، إما لفَحْوى الخِطاب كما ذكَرْنا، وإما لحَمْلِ الاسمِ المشتركِ على جميعِ معانيهِ. وأَلْحَقَ مالكٌ التَّلَذُّذَ بالنَّظَرِ بالمُباشرةِ (¬2). وحَمَلَ الشافعيُّ -رحمهُ اللهُ تعالى- المُماسَّةَ في القَوْلِ الآخرِ، وهو الجديدُ، على الوطْءِ في الفَرْجِ (¬3)، وبهِ قالَ الثوريُّ (¬4)، وأحمدُ (¬5). فإن قيلَ: فإذا خالفَ المُتَظاهِرُ ومَسَّ امرأتَهُ قبلَ أن يُكَفرَ، فكيفَ الحكمُ؟ قلنا: ذهبَ قوم إلى أَنَّه لا يلزَمُه شيءٌ؛ لأنَّ وقتَ الكَفّارة قد فاتَ، ولا يجبُ قَضاؤُها إلَّا بأمرٍ جَديدٍ، وهو معدومٌ (¬6). وذهبَ الجمهورُ إلى وجوبِ الكفارةِ (¬7)، واستدلُوا بما رَوى ابنُ عباسٍ ¬
رضيَ اللهُ تَعالى عنهما-: أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ظاهَرَ منِ امرأتِهِ، فوقَعَ عليها، فقال: يا رسولَ الله! إني ظاهَرْتُ منِ امرأتي، فوقعتُ عليها من قبلِ أن أُكَفِّرَ، قالَ: "فما حَمَلَكَ على ذلكَ يَرْحَمُكُ الله؟ "، فقال: رأيتُ خَلخالَها في ضَوْءِ القَمَرِ، قال: "فلا تَقْرَبْها حتى تَفْعَلَ ما أَمَرَ الله" (¬1). ثم اختلفوا: فذهبَ قومٌ إلى أَنَّ عليهِ كَفارتينِ: كفارةً عن العَزْمِ على الوطْءِ، وكفارة عن الوطْءِ، ويُروى عن عَمْرِو بنِ العاصِ، وقبيصة (¬2) بنِ ذُؤيب، وسَعيدِ بنِ جبير، وابنِ شهابٍ (¬3). وذهب جمهورُ فقهاءِ الأمصارِ؛ كمالِكٍ، والشافِعي، وأبي حنيفَةَ، وأحمدَ (¬4)، والثوريِّ، والأوزاعيّ، وإسحاقَ، وأبي ثَوْرٍ (¬5)، وداودَ إلى أنَّ الواجبَ كفارةٌ واحدةٌ، واستدلُوا بأنَّ سَلَمَةَ بنَ صَخْرٍ البَياضِيَّ ظاهَرَ مِنِ ¬
امرأتِه، ثم وَقَعَ عليها قبلَ أن يكفِّرَ، فأتى رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وذكر لهُ ذلكَ، فأمرَهُ أن يُعْتِقَ رقبةً، فإنْ لمْ يجدِ الرقبةَ، فَلْيَصُمْ شَهرينِ مُتتابعين من قبلِ أن يتماسّا، فإن لم يستطعِ الصَّوْمَ، فليطعمْ ستينَ مِسكينًا (¬1). * وأطلقَ اللهُ سبحانَهُ وتَعالى الإطعامَ، ولم يقيدْ مَحَلَّهُ، وإطلاقُه محمولٌ على تقييدِ غيرِه منْ أنواعِ هذهِ الكَفَّارَةِ عندَ عامةِ أهلِ العلمِ (¬2)؛ خلافًا لابنِ حَزْمٍ؛ فإنه قالَ: من فَرْضُهُ الإطعامُ يجوزُ لهُ المَسُّ قبلَ التكفيرِ (¬3). * وأطلق اللهُ سبحانَهُ الإطعامَ، ولم يبينْ مقدارَ طعامِ كلِّ مسكينٍ: فقالَ الشافعيُّ: طعامُهُ مُدٌّ بِمُدِّ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬4): واستدلَّ عليهِ بما رُوي أن سَلَمَة بنَ صَخْرٍ البَياضِيَّ جَعَلَ امرأتَه عليهِ كظهرِ أُمِّه إِنْ غَشِيَها حَتَّى يَمْضيَ رَمضانُ، فَلمّا مَضى النصفُ منْ رمضانَ، سَمِنَتِ المَرْأَةُ وتَرَبَّعَتْ، فأعجبَتْهُ، فَغَشِيَها ليلاً، ثم أَتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكرَ ذلكَ لهُ، فقالَ لهُ: "أَعْتِقْ رَقَبَةً"، فقال: لا أجدُ، قال: "صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتابعَيْن"، قال: لا أستطيعُ، قال: "أطعمْ ستينَ مسكيناً"، قال: لا أجدُ، قال: فَأتِي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعَرَقٍ فيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صاعًا، أو سِتَّةَ عَشَرَ صاعًا، قال: "فَتَصَدَّقْ بِهذا على سِتِّينَ مِسكيناً" (¬5). ويستدلُّ عليه أيضًا بحديثِ الذي جامَعَ امرأتَه في شَهْرِ رمضانَ (¬6). ¬
وبهذا قالَ مالِكٌ في روايةٍ، والروايةُ المشهورةُ عنه أنهُ مُدٌّ بِمُدِّ هِشامٍ (¬1) (¬2)، ومُذُ هِشامٍ بِمُدٍّ ونصْفِ مُدٍّ بِمُدِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: مُدَّانِ، وقيل: مُدٌّ وثُلُثٌ؛ لأن به تحصل الكفاية في الغداءِ والعشاءِ (¬3). وأنكرَ الشافعيُّ هذا على مالكٍ، وقالَ: مَنْ شَرَعَ لكمْ مُدَّ هِشامٍ؟ وقد أنزلَ اللهُ تبَاركَ وتعالى الكفاراتِ على رسولهِ قبلَ أن يولَدُ هشام، وكيفَ ترى المسلمين كَفروا في زَمَنِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وبعدَه قبل أن يكونَ هشامٌ (¬4)؟ وقال أبو حنيفةَ: طعامُه مُدَّانِ؛ اعتبارًا بِفِدْيَةِ الأَذى، واستدلُوا بحديثِ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - (¬5). ولو اعتبروا هذهِ الكفارةَ بكفارةِ الفِطْر في رَمَضانَ، لكانَ أَحْرَى وأوْلى، فاعتبارُ الكَفَّارَةِ بِالكَفَّارَةِ أَشْبَهُ وأوْلى به، وأَمّا فِدْيَة الحَجِّ، فلا تشبهُ ما سِواها من الكفاراتِ في شيءٍ، واللهُ أعلم. * * * ¬
من أحكام الزكاة
(من أحكام الزكاة) 244 - 245 (3 - 4) قوله عَزَّ وجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة: 12، 13]. * أوجبَ اللهُ سبحانَهُ على المؤمنينَ الصدقةَ أمامَ مناجاةَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , وأسقطَ هذا الفرص عَمَّنْ لم يجدْ، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة: 12]. ثم نُسِخَ (¬1) الوجوبُ عن الموسرين بقوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13]. فقيل: نزلتْ حينَ غَلَبَ أهلُ الجدَةِ الفُقراءَ على مُجالسةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ومُناجاتِه، فكرهَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ذلك (¬2). ¬
وقيل: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُؤْذى بكثرةِ النَّجْوى؛ وكانَ الشيطانُ يوسوسُ في أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقولُ: يوحى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر كذا مما يَغُمُ المسلمين ذلك، وهو قوله: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10] فأمر اللهُ سبحانَه أَلَّا يناجيَ أحدٌ النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يُقَدّمَ صَدَقَةً، فتوقَّفَ الناسُ عن النَّجْوى، ثم شَقَّ ذلك عليهم، فنسخَهُ اللهُ سبحانَهُ وتَعالى بقوله: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13] الآية (¬1). قيل: وهذا مما نُسِخَ قبل العملِ به (¬2). وقيل: إن عَلِيًّا -رضيَ اللهُ تَعالى عنه - عملَ به. وروى ليثٌ عن مجاهدٍ قال: قالَ عَلِيُّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه -: إنَّ في كتابِ اللهِ لآيةً ما عملَ بها أحدٌ قَبْلي، ولا يعملُ بها أحدٌ بعدي، كان لي دينارٌ، فصرفته، فكنتُ إذا ناجيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تصدَّقْتُ بدرهمٍ حَتَّى نَفِدَ، ثم نُسِخَتْ (¬3). * * * ¬
سورة الحشر
سورة الحشر
من أحكام الجهاد
(من أحكام الجهاد) 246 - (1) قوله عَزَّ وجَلَّ: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5]. * روى البخاريّ في "صحيحه" عن ابنِ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حرقَ نخلَ بني النضير، وقطع، وهي البُوَيْرَةُ، فأنزلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} (¬1) [الحشر: 5]. فأخذ بالآيةِ في قطعِ الأشجار، وبما قبلَها في تَحْريقِ البيوت مالكٌ والشافعيُّ (¬2)؛ لبيانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك بفِعْلِه. وثبتَ عن أبي بكرٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه -: أنه قال: لا تقطعن شجراً ولا تخربن عامرًا (¬3). فذهبَ الليثُ بنُ سعدٍ، وأبو ثورٍ، وكذا الأوزاعيّ إلى منع ذلك (¬4)، وقال: أبو بكرٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه - كانَ أعلمَ بتأويلِ هذهِ الآيةِ، ¬
وقد نَهى عن ذلك، وعملَ بهِ أئمةُ المسلمين. قال الشافعي: لعل أمرَ أبي بكرِ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه - إنما هو لأنهُ سمعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُخْبرُ أَنَّ بلادَ الشامِ تفُتح على المسلمينَ، فلما كانَ مُباحًا له أن يقطع ويَترك، أجازَ التركَ نَظَرًا للمسلمين بالأصلحِ (¬1)، وقد قطعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يومَ بني النَّضير، فلما أشرع (¬2) في النخلِ قيل له: قدْ وعدَكَها اللهُ تَعالى، فلو استبقَيْتَها لنفسك (¬3)، فكف القطعَ استبقاءَ، لا أن القطعَ مُحرم، وقد قطعَ بِخَيْبَرِ، ثم قطعَ بالطائفِ. ثم قال: قال أبو يوسفُ: ثنا محمدُ بنُ إسحاقَ، عن يزيدَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ قسيطِ قال: لما بعثَ أبو بكرِ خالدَ بنَ الوليدِ إلى طُلَيْحَةَ وبَني تميمٍ، قالَ لهُ: وأَيُّما دارٍ غَشيتها، فَأمسِكْ عنها إنْ سمعْتَ أذانًا حتى تسأَلهُم ما يريدون، وما ينقمون، وأَيُّما دارٍ غَشيتَها فلم تسمعْ فيها أَذانا، فَشُنَّ عليها الغارةَ، واقتلْ، واحرق. قالَ أبو يوسف: ولا نرى أن أبا بكرِ نَهى عن ذلك بالشامِ إلَّا لعلمِه بأنَّ المسلمينَ سَيَظْهرون عليها، ويبقى ذلكَ لهمْ (¬4). وهذا التأويلُ الذي ذكرَهُ الشافعي وأبو يوسفَ متعين، فقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "زُوِيَتْ لِيَ الأَرْضُ، فَرَأَيْتُ مَشارِقَ الأَرْضِ ومَغارِبَها، وسَيَبْلُغُ مُلْكُ أمَّتي ما زُوِيَ لِي مِنْها" (¬5). ¬
247 - (2) قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]. * نزلتْ هذه السورةُ والآياتُ في بني النَّضيرِ حينَ أجلاهُم (¬1) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. خَرَّجَ البخاريُّ في "صحيحه" عن سعيدِ بنِ جبيرٍ قال: قلتُ لابن عباسٍ: سورةُ الحَشْرِ، قال: لا، بل سُورةُ النَّضيرِ (¬2). وخَرَّجَ عن الزُّهْرِيِّ عن عروةَ: كانَتْ على رأس ستةِ أشهُرٍ من وقعةِ بدرٍ قبلَ أُحُدٍ، ثم قالَ: جعلَه ابنُ إسحاقَ بعدَ بئرِ معونةَ (¬3). وقد قدمتُ في "سورةِ الأنفالِ" اختلافَ الناسِ في الغنيمةِ، وأنَّ منهم مَنْ زعمَ أن الفيءَ والغنيمةَ سَواءٌ، وبه قالَ قتادَةُ، حتى زعمَ أن هذهِ الآيةَ ناسخةٌ لآية الأنفالِ والذي عليهِ عامَّةُ أهلِ العلمِ أن الآيتينِ مُحْكمتان، وأن الفيءَ غيرُ الغَنيمة، فالفيءُ ما أصابَه المسلمون بغيرِ قِتال؛ كما إليهِ الإشارةُ بقوله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6]. وهو ينقسمُ إلى ضربين: ¬
الضربُ الأول: ما تركهُ المشركون خَوْفًا من المسلمين؛ كما فعلَ بنو النضير، فهذا كانَ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حياتِه. روينا في "صحيح البخاري" عن مالكِ بنِ أوسِ بنِ الحدثانِ: أن عمرَ بنَ الخَطَّابِ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - دعاه إذ جاءه حاجبه يرفأ، فقال: هل لكَ في عُثمانَ، وعبدِ الرحمنِ، والزبيرِ، وسعدٍ يستأذنون؟ قال: نعم، فأدخلهم، فلبثَ قليلاً، ثم جاءَ فقالَ: هل لكَ في عَبّاسٍ وعَلِيٍّ يستأذنان؟ قال: نعم، فلما دخلا، قال عباس: يا أميرَ المؤمنين! اقْضِ بيني وبينَ هذا، وهما يَخْتَصمان في التي أفاءَ اللهُ على رسولهِ من بني النضيرِ، فاسْتَبَّ عليٌّ وعباسٌ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما -، فقالَ الرهطُ: يا أميرَ المؤمنين! اقضِ بينَهما، وأَرِحْ أحدَهُما من الآخَرِ، فقالَ عمرُ: اتئدوا، وأَنْشُدُكُمْ (¬1) بالذي بِإذْنِه تقومُ السماواتُ، هل تعلمونَ أَن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نُورثُ ما تركنا صدقة" يريدُ بذلكَ نفسَه؟ قالوا: قدْ قال ذلكَ، فأقبلَ عمرُ على عليٍّ وعباسٍ، فقال: أنشدكم بالله هل تعلمانِ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قد قال ذلك؟ قالا: نعم، قال: فإني أحدثُكم عن هذا الأمرِ، إنَّ اللهَ كانَ خَصَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الفيءِ بشيءٍ لم يعطِهِ أحدًا غيرَه، فقال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} إلى قوله: {قَدِيرٌ} [الحشر: 6] , فكانت هذهِ خالصةً لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، واللهِ ما اختارَها دونَكُم، ولا استأثَرَ بِها عليكم، لقدْ أعطاكُموها، وقَسَمَها فيكم حتى بقيَ هذا المالُ منها، فكان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ينفقُ على أهلهِ نفقةَ سنتهِ من هذا المالِ، ثم يأخذُ ما بقي فيجعلُه مَجْعَلَ مالِ اللهِ، فعملَ بذلكَ عليهِ في حياتهِ، ثم تُوُفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو بكرٍ: فأنا وليُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقبضَه أبو بكرٍ فعملَ بهِ بما عَمِل رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأنتم حينئذ، وأقبل على علي وعباسٍ: ¬
تذكران أنَّ أبا بكرٍ عمل فيه كما تقولان، واللهُ أعلمُ إنه فيه لَصادقٌ بارٌّ راشدٌ تابعٌ للحَقِّ، ثم تَوَفَّى اللهُ أبا بكر، فقلتُ: أنا وليُّ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ، فَقَبَضْته سنتين من إمارتي، أعملُ فيه بما عملَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، واللهُ يعلم إني فيه لَصادقٌ بارٌّ راشدٌ تابع، ثم جِئْتُماني كلاكُما، وكلمتكُما واحدةٌ، وأمركما جميعًا، فجئتني -يعني عباسًا- فقلت لكما: إن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نورثُ ما تركناهُ صدقةٌ"، فلما بدا لي أنْ أدفعَه إليكما، قلتُ: إن شئْتَ دفعتُه إليكُما على أنَّ عليكُما عهدَ الله وميثاقَه لتعملانِ فيه بما عملَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكرٍ، وما عملتُ فيه منذ وليتُ، وإلَّا فَلا تُكَلِّماني، فقلتما: ادفعْه إلينا بذلكَ، فدفعتُه إليكما، أفَتَلْتَمِسانِ مني قضاءً غيرَ ذلكَ؟ فواللهِ الذي بإذنهِ تقومُ السماواتُ والأرضُ لا أقضي فيهِ بقضاءٍ غيرِ ذلكَ حتى تقومَ الساعَةُ، فإن عَجَزْتُما عَنْه، فادفعاه إليَّ؛ فإني أكفيكُماه (¬1). فإنْ قلتَ: فهل يدلُّ القرآنُ على أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يملكُ كلَّ الفيءِ، أو يملكُ أربعةَ أخماسِهِ وخُمُسَ خُمُسِهِ، أو يملكُ خُمُسَهُ فقطْ، وأربعةُ أخماسِه لمن سَمّى اللهُ تعالى من ذَوي القربى واليتامى والمساكينِ وابنِ السبيل؟ قلت: أما الاحتمالُ الثالثُ، فلم يقلْ به أحدٌ علمتُه، وإن كانَ لفظُ القرآن يحتملُه (¬2). ¬
وأما الاحتمالُ الثاني، فذهبَ أبو عبدِ اللهِ الشافعي إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يملكُ إلَّا بعضَ الفيءِ, فلهُ أربعةُ أخماسِه وخُمُسُ خُمُسِهِ، والباقي لمن سماه الله تعالى فقط (¬1). والغنيمةُ والفيءُ يجتمعان في أَنَّ فيهما الخُمُسَ في جميعِهما لمنْ سماهُ اللهُ تعالى له في الآيتين معًا، ثم يفترق الحكمُ في الأربعةِ الأخماس كما (¬2) بيَّنَ اللهُ تعالى على لسانِ نبيهِ - صلى الله عليه وسلم -، وفي فعله؛ فإنه قَسَمَ أربعةَ أخماسِ الغنيمةِ، والغنيمةُ هي المُوجَفَ عليهِ بالخيلِ والرِّكاب لِمَنْ حَضَرَ مِنْ غَنِيٍّ وفقيرٍ، والفيءُ هو ما لم يُوجَفْ عليه بخيلٍ ولا رِكابٍ، فكانَتْ سنةُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في القُرى التي أفاءَ اللهُ عليه أَنَّ أربعةَ أَخْماسها لرسولِ اللهِ دَونَ المسلمينَ، يضعُها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حيثُ أرادَ اللهُ عز وجَل (¬3). وهذا التقسيمُ لا يدلُّ عليهِ لفظُ القرآن، وإنما أخذَهُ الشافعي استدلالاً منَ الغنيمةِ، والذي يدلُّ عليه القرآنُ والسنةُ والاستنباطُ، وقالَ بهِ عامَّةُ أهلِ العلمِ أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يملكُ الكُل (¬4). فإن قلت: ما وجهُ الدليلِ من الكِتاب والسنةِ؟ قلتُ: أما دلالةُ الكِتاب، فإن الله سبحانَه مَنَّ بهِ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وجعلَهُ من فَيْئه عليه، لا من فَيْءِ أحدٍ منَ المقاتلين، بل جعلهُ اللهُ مما أخذَهُ بتسلُّطِه عليهم كما يتسلط الغانمون على عَدُوِّهم، فقالَ تباركَ وتعالى: ¬
{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6]. فإن قلتَ: فقد خصَّ اللهُ سبحانه ذوَي القُرْبى واليتامى والمساكينَ وابنَ السبيل بالذكْرِ، وأشرَكَهُمْ معهُ، وأضافَهُ إليهم بِلام التمليكِ في الآية التي تليها. قلت: الإضافةُ إليهم معناه بيانُ المَصْرِف، لا حقيقةُ التمليكِ والتشريكِ، وإنما خَصَّهم اللهُ بالذكرِ ليقطعَ طمعَ المقاتِلين. ألمْ تَرَ إلى كيفيةِ صدورِ الخِطابِ معهم كيفَ قالَ اللهُ تبَارك وتَعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6]. ثم أعلمهم بعدَ أَنْ مَنَّ بها عليهِ - صلى الله عليه وسلم - بوجوهِ البِرّ والإنفاقِ التي كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلُها، فقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7]. ثم بيَّنَ وجهَ العِفَةِ في حِرْمانِهم، وأَنهم ليس لهم في الفيءِ نصيبٌ؛ لئلاّ يملكوه ويتداولوه بينهم، فقال تَعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]. ثم أمرهُم بطاعتِه؛ لأن طاعته من طاعتِه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. ثم بيَّنَ القومَ المستحقينَ، وأنهم فقراءُ المهاجرينَ والأَنْصار، والذينَ مِنْ بعدِهم، فقالَ تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} الآيات إلى قوله: {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 8 - 10]. وكل هذا يدلُّ دلالةً صريحةً على أن الفيءَ ليسَ كالغنيمةِ.
وأما دلالةُ السنَّةِ فواضحةٌ من قولِ عمرَ وقَضائه الذي قَضى به، وقضى به أبو بكرٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- فجعلَه خاصًّا برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وجعلَهُ مالًا تَرَكَهُ وخَلَّفَهُ، وإنما احتج عليهم بكونهِ لا يورَثُ، وقال: إن الله تَعالى خَصهُ في هذا الفيء بشيءٍ لم يعطِه أحدًا غيرَه، واستدل بالآيةِ الأَوى كما استدلَلْتُ بها، وقال: كانَتْ (¬1) خالصةً لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ولم يقلْ علِيٌّ وعباسٌ ولا أحدٌ من الصحابةِ الذين حَضَروا، وهم من عُلماء أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم تكنْ خالصةً لهُ، بل ذوو قرابته واليتامى والمساكينُ مشاركونَ لهُ، ولو علمَ العباسُ وعَلِيٌّ لهم معه قسمًا ونصيبًا، لذكروه. وأمّا الاستنباطُ، فالذي يحيطُ بهِ العلمُ والنظرُ أنه لو كانَ أحدٌ مِمَّنْ سَمّاه الله سبحانه مُشاركاً لهُ، لكانَ لِذوي قرابته سَهْمٌ من خمسةٍ وعشرينَ سَهْماً يأخذونه من المالِ الذي كان بَيدِه وتركَه من مالِ الفيء - صلى الله عليه وسلم - يأخذونه مُلْكاً لا إرْثاً، واليتامى كذلك، وللمساكينِ وابنِ السبيل كذلك، ولم يقلْ بهذا قائلٌ، ولم يُعْرَفْ له أصلٌ. وأيضًا لو كانَ أحدٌ مشاركاً، لهُ لما فُضلَ سهمُ سبيلِ الله على غيرِه من السِّهام، ويدل على التفضيلِ قولُ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه -: وكانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ينفقُ منها على عِياله نفقَةَ سنتِه، وما فَضَلَ جعلَه في الكُراع والسِّلاحِ عُدَّةً في سبيل الله، وفي لفظٍ آخرَ: ثم يأخذُ ما بقيَ فيجعلُه مَجْعَلَ مالِ الله (¬3). ¬
وقد تبيَّنَ بهذا أن ما قلناهُ هو الحَقُّ، وقضى به الشيخانِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-، ولم يخالفْهما أحدٌ من أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وما قاله الشافِعِيُّ فغفلة من عالِمٍ، وقد أنكرَ أبو بكرِ بنُ المنذرِ على الشافعيِّ مقالَتهُ، قال: ولا نعلمُ أَحَداً قبلَ الشافعيِّ قالَ بالخمسِ في الفيء (¬1). الضرب الثاني من الفيء: ما أخِذَ من الكُفّارِ من غيرِ حربٍ، كالجِزْيةِ وعُشورِ تِجاراتهم: فقالَ الجُمهورُ: هو كالضَّرْبِ الأولِ (¬2). وقالَ الشافعيُّ في الجديدِ: يُخَمَّسُ كالغنيمة. وقالَ في القديم: يقسَمُ الجميعُ على خَمْسَةِ أَسْهُمٍ (¬3). فإن قلتَ: فقد حكيتَ عن مجاهدٍ أن الغنيمةَ تختصُّ بالأموالِ المنقولةِ، وأن الفَيْءَ يختصُّ بالأَرَضين، وإن أُخِذَتْ قَسْراً؛ لأن الله سبحانَهُ ذكر الفَيْءَ في القُرى، وذكرَ الغنيمةَ مُطْلَقا، ووعدْتَ بالكلام معه (¬4). قلت: لا حُجَّةَ له فيما ذَكَرَ، بلِ الحُجَّةُ في فِعْلِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثبتَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قسمَ خَيْبَرَ بينَ الغانِمين، ولم يجعلْها فيئًا (¬5)، وبهذا أخذَ الشافعيُّ (¬6). ¬
وذهبَ مالكٌ إلى أنَّ الأرضَ لم تُخَمَّسْ، بل تكونُ كما فعلَ عمرُ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - في أرضِ السَّوادِ (¬1)، وللإمام أن يَمُنَّ بها على أهلِها كَما فعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في أهلِ مَكَة (¬2). والجوابُ ما قدمتُه في "سورة الحَجِّ"، وأن المختارَ ما ذهبَ إليه الشافعيُّ أنها فُتِحَتْ صُلْحاً، فلم تغنَمْ. فإن قلتَ: فقد جعلَ عمرُ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - أرضَ السَّوادِ بين المسلمين، ولعل مصرفَ الأرضِ إلى اجتهادِ الإمامِ، فإمّا أن يقسِمَها، وإما أن يجعلَها فيئًا كما ذهبَ إليهِ أبو حنيفة (¬3). قلنا: قال الشافعي -رحمَهُ اللهُ تعالى-: لا أعرفُ ما أقولُ في أرضِ السوادِ إلا ظَنًّا مقروناً إلى علم، وذلك أني وجدتُ أصحَّ حديثٍ يرويه الكوفيونَ عندَهم في السَّوادِ ليسَ فيه بيان، ووجدْتُ أحاديثَ من مُحَدّثيهم تخالِفُه (¬4)، منْها أنهم يقولون: السوادُ صُلْحٌ، ويقولون: السوادُ عَنْوَةٌ، ويقولون: إن بعضَ السوادِ صلحٌ، وبعضه عَنْوَةٌ، ويقولون: إن حديثَ جريرٍ البَجَلِيِّ وهو أثبتُ حديثٍ عندهم: أخبرنا الثقةُ، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ، عن قيسِ بنِ أبي حازمٍ، عن جريرِ بنِ عبدِ اللهِ قال: كانت بَجيلَةُ ربعَ الناسِ، فقسمَ لهم ربعَ السوادِ، فاستغلوه ثلاثًا أو أربعَ سنين -أنا شككْتُ- ثم قدمتُ على عمرَ بنِ الخطابِ، ومعي فلانةُ بنتُ فُلانٍ منهم -وسماها- لا يحضرُني ذكرُ اسمِها الآنَ، فقالَ عمرُ بنُ الخطابِ: لولا أني ¬
قاسِمٌ، لتركتكم على ما قُسِمَ لكمْ، ولكنّي أرى أن تَرُدُّوا على الناس. قال: وكان في حديثه: فأعاضني من حَقِّي نَيِّفًا وثمانين دينارًا. وكانَ في حديثه: فقالتْ فلانةُ: شهدَ أبي القادسيةَ، وثبتَ سهمُه، ولا أُسلّمه حتى يُعْطِيَني كذا، ويعطيني كذا، فأعطاها إياه. قال الشافعيُّ: وفي الحديثِ دَلاَلةٌ إذْ أعطى جَريرًا عِوَضاً عن سَهْمِه، والمرأةَ عِوَضاً عن سهمِ أبيها أنه استطابَ أَنْفُسَ الباقين، وهذا حلالٌ للإمامِ إذا افتتحَ القومُ أرضا عَنْوَةً، فأحصى من افْتَتَحَها، فطابوا أَنْفُساً عنْ حقوقِهم مِنْها، أن يجعَلَها الإمامُ وَقْفًا، وحقوقُهم منها الأربعةُ الأخماسِ، ويوفي أهلَ الخُمُسِ حَقَّهم (¬1)، إلَّا أن يدعَ البالغونَ منهم حقوقَهم، فيكونَ ذلك لهمْ، والحكمُ في الأرضِ كالحُكْم في المالِ. قال: وهذا أولى الأمورِ بعمرَ بنِ الخطابِ -رضي الله تعالى عنه- عندنا في السَّواد وفُتوحِه، وإنما منعَنا أن نجعلَهُ يَقيناً بالدَّلالة؛ لأن الخبر الذي فيه متناقضٌ، واللهُ أعلمُ (¬2). * * * ¬
سورة الممتحنة
سورة الممتحنة
من أحكام الجهاد
(من أحكام الجهاد) 248 - (1) قوله عَزَّ وجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)} [الممتحنة: 1]ـ. خَرَّجَ البخاريُّ في "جامعه" عن سفيانَ قال: ثنا عمرُو بنُ دينارِ قال: حدثني الحسنُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيُّ: أنه سمعَ عبدَ اللهِ بنَ أبي رافعٍ كاتبَ عَلِيٍّ يقول: سمعتُ عَلِيًّا يقول: بَعَثَني رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنا والزبيرُ والمقدادُ، فقال: "انْطَلِقوا حَتَّى تَأتوا رَوْضَة خاخ، فإنَّ بها ظَعينَة مَعَها كِتابٌ، فَخُذُوه مِنْها"، فذهبنا تَعادَى بنا خَيْلُنا حَتَّى أتينا الروضةَ، فإذا نحنُ بالظَّعينَةِ، فقلْنا: أَخْرِجي الكتابَ، قالتْ: ما معي مِنْ كتابٍ، فقلْنا لَتُخْرِجِنَّ الكتابَ، أو لنلْقِبنَّ الثيابَ، فأخرجَتْهُ منْ عِقاصِها، فأتينا به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فإذا فيه: مِنْ حاطِبِ بنِ أَبي بَلْتَعَةَ إلى أناسٍ منَ المشركينَ مِمَّن بِمَكَّةَ يُخْبِرُهُم ببعضِ أمرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذا يا حاطِبُ؟ " قال: لا تعجَلْ عَلَيَّ يا رسولَ الله! قال: إني كنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قُريشٍ، ولم أكنْ من أَنْفُسِهم، وكان مَنْ معكَ منَ المهاجرينَ كانَ لهم قراباتٌ يَحْمونَ بِها أَهْلَهم وأَمْوالَهم بمكةَ، فأحببتُ إذْ فاتَني من النَّسَبِ فيهم أَنْ أَصْطَنِعَ إليهم يَداً يَحْمون بها قَرابتي، وما فَعَلْتُ ذلكَ كُفْرًا ولا ارْتداداً عنْ دِيني، فقالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّهُ قَدْ
صَدَقَكُمْ"، قال عمرُ: يا رسولَ الله! دَعْني فأضربَ عنقَهُ، قال: "فإنَّه قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْريكَ لَعَلَّ اللهَ اطلَعَ على أهلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لكُمْ" (¬1). قال عَمْرو: نزلتْ فيه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] , قال: لا أَدري الآيةُ في الحَديثِ (¬2)، أو في قولِ عُمرو. إذا علمتَ هذا، فنقول: حَرَّمَ اللهُ سبحانَهُ في هذه الآيةِ على المؤمنين أن يُوالوا المشركينَ بالمودةِ، وأن يَدُلُّوهُمْ على عورَةِ المسلمين، وأَنْ يُحَذروهم من كَيْدهِم، وجعلَ ذلكَ ضَلالا عنْ سواءِ السبيلِ، فقالَ تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)} [الممتحنة: 1] وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} [الممتحنة: 9] وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]. فإن قلتَ: فلمَ لمْ يخرجْ بذلك حاطِبٌ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه - عن الإيمان؟ قلتُ: لأنه فَعَلَ هذا بِجَهالَةٍ وتأويلٍ، وادَّعى بقاءَهُ على الإيمان، فَصَدَّقَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأنَّ اللهَ سبحانَهُ لعله قد غفرَ لأهلِ بدرٍ ما مَضى، وما يُستقبلُ من الذنوبِ، وحاطبٌ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - قد شَهِدَ بَدْرًا، والغفرانُ يستلزمُ الإيمانَ؛ فإنَّ اللهَ لا يغفرُ أن يُشْرَكَ به. ¬
وقد قَدَّمْتُ جُمَلاً في بيانِ حقيقةِ مُوالاةِ أعداءِ اللهِ -لَعَنَهُم اللهُ سبحانَه-. * وقد استنبطَ الشافعيُّ -رحمَهُ اللهُ تَعالى- من هذهِ القصةِ أَنَّ الرجلَ إذا كانَ من ذَوي الهَيْئات، فَلِلإمام أن يعفوَ عنه، وإن لم يكنْ منهُم، كانَ للإمامِ عقوبَتُه (¬1). * ثم بينَ اللهُ سبحانَه العِلَلَ المُنَفِّرَةَ للقُلوبِ عن موالاةِ المشركينَ، وحَثَّهم على الاقتداءِ بإبراهيمَ عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ، {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4]؛ فإنه لا يُقْتَدى بهِ في هذا، فاستثناهُ (¬2)، ولعلَّ هذا -واللهُ أعلمُ- كانَ من النبيِّ إبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم - قبلَ أن يُعْلِمَهُ اللهُ -تباركَ وتَعالى - أَنَّه لا يغفرُ الشِّرْكَ، أو لأمرٍ علمهُ من أبيهِ كَما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] , وقد تبيَّنَ بهذا أن استغفارَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالبٍ ولعبدِ اللهِ بنِ أبيِّ ابنِ سلولَ إنَّما كانَ قبلَ نزولِ هذهِ الآية. وهذه السورةُ نزلتْ في قصةِ حاطبِ بنِ أبي بلتعةَ (¬3)، وذلك حينَ توجَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى مكةَ غازياً غزوةَ الفَتْحِ، ولا شكَّ في أنَّ موتَ عبدِ اللهِ بنِ أبيٍّ قبلَ ذلكَ. * * * 249 - (2) ثم قالَ اللهُ تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة: 8]. * رويَ عن الحسنِ أنّها نزلتْ في قومٍ بينَهم وبينَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عهدٌ، وهم ¬
خُزاعَةُ، وبنو عبدِ الحارثِ بنِ عبدِ منافٍ (¬1). أمرَ اللهُ سبحانَهُ المؤمنينَ أن يُوفوا لهم بالعَدْلِ، وأَنْ يبرُّوهم. ورويَ عن مجاهدِ: إنما أريدَ بها الذين لم يُقاتلوا المؤمنين، وآمنوا، وأقاموا الصلاة بمكَّةَ، ولم يُهاجروا (¬2). وذهبَ قومٌ إلى أنها منسوخةٌ (¬3): فقيل: بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وقيل: بقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] الآية. وقيل: بقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الآية. والقولُ بالنسخِ ضعيفٌ؛ لعدمِ التعارُضِ في الآيتينِ. والصحيحُ ما رويَ عن الحسنِ ومجاهدِ، وأحسنُهما قولُ الحسنِ؛ بدليلِ قوله تَعالى بعدَ ذلك: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة: 9] وبدليل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] وبدليل ما روينا في "الصحيحين": أَنَّ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه - كسا ¬
أخاً له مُشْرِكاً بمكَّةً حُلَّةً أعطاهُ إياها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) , وغيرِ ذلك من أدلةِ الكتابِ والسُّنَّةِ. * * * 250 - 251 (3 - 4) قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الممتحنة: 10، 11]. * قال الشافعيُّ -رحمَهُ اللهُ تَعالى-: ذكرَ عدةٌ منْ أَهْلِ العلم بالمغازي: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - هادَنَ قُريشاً عامَ الحُدَيْبِيَة على أن يؤمِّنَ بعضهم بَعْضاً، وأَنَّ مَنْ جاءَ من المسلمين مرتدًّا، لم يردُّوه عليهم، ومنْ جاء النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينةِ منهم، رَدَّهُ عليهم، ولم يُعْطِهم أن يردَّ عليهم منْ خرجَ منهم مسلمًا إلى غيرِ المدينةِ من بلادِ الإِسلامِ أو الشركِ، وإن كانَ قادرًا عليه. قال: ولم يذكرْ أحدٌ منهم أنه أعطاهُم في مسلم غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ شيئًا منْ هذا الشَّرْط، فذكروا أنه أنزلَ عليه في مهادنتهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] , فتمَّ الصلحُ بينَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وبينَ أهلِ مكةَ على هذا، حتى جاءَتْهُ أُمُّ كُلثومٍ بنتُ عقبةَ بنِ أبي مُعَيْطٍ مسلمةً مهاجرةَ، فنسخَ اللهُ سبحانه وتعالى الصلحَ في النِّساء، وأنزل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}، الآية إلى قوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا ¬
أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] يعني: المهرَ إذا كانوا أَعْطَوْهُنَّ إياه. قال: وجاء أَخَواها يطلبانِها، فمنعَها - صلى الله عليه وسلم - منهُما، وأخبرَ أن الله -تَبارَكَ وتعالى- نقضَ الصُّلْحَ في النساء، وحكم فيهن غيرَ حكمِه في الرجال. قال: وإنما ذهبتُ إلى أن النساءَ كُنَّ في الصُّلحِ، وحكمَ فيهن بأنه لو لم يدخلْ رَدُّهُن في الصُّلح لم يُعْطَ أزواجُهن فيهن عِوَضًا. وزعمَ بعضُهم أن النساءَ لم يدخُلْنَ في الصُّلحِ، واحتجَّ بما رواهُ معمرٌ عنِ الزهريِّ أنه قالَ في هذهِ القصةِ: وقال سُهَيلٌ: على أَلاّ يأتِيَكَ مِنّا رجلٌ، وإن كانَ على دينِكَ إلَّا رَدَدَتْهَ علينا (¬1). فإن قلتُم: فهل يجوزُ للإمامِ اليومَ أن يعقدَ الصلحَ مع المشركينَ على ما عقدَ عليهِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عامَ الحديبيةِ منْ شرطِ رَدِّ المسلمينَ؟ قلتُ: أما شرطُ ردِّ المسلمات، فلا يجوزُ؛ لأنه منسوخٌ، والعملُ بالمنسوخِ غيرُ جائز (¬2). وأما رَدُّ الرجالِ، فإن شرطَ، رُدَّ من لهُ عشيرة تمنع منه. فقال الشافعي وأصحابُه: إنه يجوزُ شرطُ رَدّهِ؛ لأنه يأمن على إظهارِ دينه، وإن لم تكنْ لهُ عشيرةٌ، فلا يجوز شرطُ ردّه، وإن أطلقَ العَقْدُ فلا يجوزُ؛ لأنه دخلَ (¬3) فيه من يجوزُ رَدُّه ومَنْ لم (¬4) يجوز (¬5). وفي هذا التفصيلِ نظرٌ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلقَ العقدَ، ولاشكَّ أن بمكةَ كثيرًا مِمَنْ لا يقدرُ على إظهارِ دينه، ولأنه كانَ في قريشٍ من يُفْتَنُ عن دينهِ، ¬
ويمنع مِنْ إظهارِه، وله عشيرةٌ، فقد صاحَ أبو جَنْدَلٍ بأعلى صَوْتهِ، وهو يَرْسُفُ (¬1) في الحديدِ: يا معشرَ المسلمين! أُرَدُّ إلى المشركينَ يفتنوني عن دِيني؟! فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا جَنْدَلٍ اصبرْ واحتِسبْ؛ فإنَّ اللهَ جاعلٌ لكَ ولِمَنْ معكَ منَ المستضعفين فَرَجًا ومَخْرَجاً" (¬2)، وردَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أبا بصيرٍ، ولم يكنْ له عشيرةٌ تمنعهُ، وقتلَ أحدَ الرجلينِ اللذَيْنِ جاءا إليه، فقال: يا رسولَ الله! قد وَفَّيْتَ لَهُم، ونَجّاني اللهُ منهم، فأفهمَه أنه رادُّه إليهم مَرَّةً أخرى إِنْ جاؤوا في طَلَبه، والغالبُ على الظنِّ أنهم يقتلونه إن استَردُّوه وظَفِروه، فلحقَ بالساحلِ، وقصتهُ مشهورةٌ (¬3). ويحتمل أن يقالَ: لا يجوزُ؛ لأن الله سبحانَه جعلَ لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ما لَمْ يكنْ لغيرِه، وجعلَ صُلْحَ الحُديبية لهُ فتحاً مبينًا، أو لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما فعلَ ذلكَ تَعْظيماً للمسجدِ الحرامِ؛ بدليلِ قوله - صلى الله عليه وسلم - لَمّا حَبَسَ القَصْواءَ حابِسُ اللَّيلِ: "والله لا يَسْأَلونَني خِطَّةً يُعَظِّمونَ فيها حُرُماتِ اللهِ إلَّا أَجَبْتُهُمْ إليها" (¬4). وبهذا قال مالك وأصحابُه، فلا يجوزُ عندَهم رَدُّ المسلمِ بحالٍ (¬5). * ثم نَصَّ اللهُ سبحانَه على تحريمِهِنَّ على المشركينَ، وعلى تحريمِ المشركينَ عليهِنَّ، وهذا أَصرَحُ في التحريمِ من الذي في سورةِ البقرةِ. ¬
من أحكام الطلاق
(من أحكام الطلاق) 252 - (5) ثم حَرَّمَ اللهُ على المسلمين استدامَةَ نِكاح الكَوافِرِ، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)} [الممتحنة: 10]. * المُرادُ بهِ الكوافِرُ من نِساء مكةَ وما أَشْبَهَهُن من غيرِ أهلِ الكِتاب، فقيل: نزلتْ في عمرَ بنِ الخَطَّابِ، كانتْ له امرأتانِ بمكَّةَ، فطلقَهما يومئذٍ -يعني: حين نزلتْ هذه الآية-، وتزوجَ إحداهما معاويةُ، والأخرى صفوانُ بنُ أُمَيّة (¬1). فإن قلتَ: فمقتضى إطلاقِ النهي عنِ الإمساكِ أنَّ المرأةَ إذا كانتْ كافرة أن تقعَ فرقتُها على الفورِ كَما هو (¬2) مُقْتضى النهي، وأنها لا تقعُ فرقتُها بالكفرِ، وإنما تقعُ بالتسريح كما فعل عمرُ -رضيَ اللهُ تعالى عنه -، فما الحكمُ في ذلكَ عندَ أهلِ العلم؟ قلتُ: أما الفورُ، فهو معتبر بالإجماع في حَق من لم يدخلْ بها، فمتى ¬
ما أسلمَ زوجُ المرأةِ التي لم يدخُلْ بها زوجُها، أو ارتدَّتْ، تعجلَتِ الفرقةُ اتفاقاً، ولا يفتقرُ إلى طلاقٍ (¬1). وفي اشتراطِ عرضِ الإِسلامِ عليها قَوْلان للمالكية (¬2). وأَمَّا المدخولُ بها: فقال مالكٌ: إن لحقتْهُ في الإِسلامِ، دامَ نِكاحُها، وإن عرضَ عليها وأَبَتْ، وقعتِ الفرقةُ بينهما (¬3). وقال الشافعيُّ: تقفُ الفرقةُ على انقضاءِ العِدَّةِ (¬4)، وخَصَّصَ العُمومَ، واستدلَّ بأنَّ أبا سفيان بنَ حربٍ أسلمَ بِمَرِّ الظَّهرانِ، ورجعَ إلى مكةَ، وهندٌ بنتُ عتبةَ مقيمةٌ على الكُفر، فأخذتْ بلحيتِه، وقالَت: اقتُلوا الشيخَ الضالَّ، ثم أسلمتْ هندٌ بعدَ إسلامِ أبي سفيانَ بأيامٍ كثيرةٍ (¬5). وكذا إذا ارتدَّت وكانَتْ مَدْخولاً بها، وقَّتَ الفرقةَ على انقضاءِ العِدَّةِ، وأخذَ اعتبارَ العِدَّةِ من دَلالةِ السنَّةِ، على عكسِ هذا الأصلِ، وهو إذا أسلمَتْ قبلَهُ، فإنْ كانَ قبلَ الدُّخولِ، تَعَجَّلَتِ الفرقةُ بينَهما، وإن كانَ بعد الدخولِ، وقفت الفرقَةُ على انقضاء العِدَّة؛ لِما روى أهلُ العِلْم بالمغازي أَن ابنةَ الوليدِ بنِ المُغيرةِ أسلمَتْ قبلَ زوجِها صفوانَ بنِ أميةَ. ¬
قال ابنُ شهابٍ: وهربَ صفوانُ من الإِسلام، ثم جاءَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وشهدَ حُنينًا والطائفَ مُشْرِكًا. قال: وكان بينَ إسلامِ صفوانَ وبينَ امرأتِه نحو من شَهْرٍ (¬1). وكذلكَ أسلمَتْ أُمُّ حكيمٍ بنتُ الحارثِ بنِ هشامٍ، وكانتْ تحتَ عِكْرمَةَ بنِ أبي جَهْلٍ، وهربَ من بلادِ الإِسلام، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبايَعهُ، فثبتا على ذلك النكاحِ (¬2). وكذلك حكيمُ بنُ حِزامٍ سبقتْهُ امرأته بالإِسلام. وغيرُهم (¬3). قال ابنُ شهابٍ: ولم يبلغْنا أن امرأةً هاجرتْ إلى اللهِ ورسولهِ وزوجُها كافرٌ مقيم بدارِ الكفرِ إلا فَرَّقَتْ هجرتُها بينَها وبينَ زوجِها، إلا أن يقدمَ زوجُها مُهاجِراً قبلَ أن تنقضيَ عِدَّتُها (¬4). وبهذا قال مالكٌ، وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ (¬5). * وقد عُلِمَ بهذا أنَّ الفرقةَ لا تقفُ على الطلاقِ، وإنما هذا فسخٌ للنكاح، فلا يجتمعُ مسلم وكافرةٌ على نِكاح إلا ما أحلَّه اللهُ تعالى وخصَّه من نِكَاحِ أهل الكتاب، فالنهيُ معناهُ الإعلامُ بحُرْمتِهنَّ، وقمعُ النفوسِ عن التعلُّق بنكاحهنَّ؛ بدليلِ قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]. ¬
* وأوجب اللهُ سبحانَهُ على المسلمينَ أن يؤتوا المشركينَ ما أَنْفقوا من مُهورِ النساء، وجعلَ ذلكَ للمسلمينَ على المُشركين، كَما للمشركينَ على المسلمين، وجَعَلَ (¬1) ذلك حُكْمًا بينهم. قال الشافعيُّ -رحمَهُ الله تعالى-: وحكمَ لهم في مثل هذا المعنى حُكمًا ثابتاً، فقال: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ}، كأنه -واللهُ أعلمُ- يريدُ: فلم يَعْفوا عنهم إذا لم يعفوا عنكم مهور نسائكم، {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] يعني: من مهورهن، إذا فاتت امرأةٌ مشركةٌ أتتنا مسلمة قدْ أعطاها مئةً من مَهْرها، وفاتت امرأة مسلمة إلى الكُفَّارِ، وقد أعطاها مئة، حُسِبَتْ مئةُ المسلمِ بمئةِ المُشركِ، فقيل: تلك العقوبة، ونكتبُ بذلك إلى أصحابِ عهودِ المشركين، حَتىّ يعطيَ المشركُ ما قَصَصْناهُ من مَهْرِ امرأتِه بالمُسْلِمِ الذي فاتتهُ امرأتُهُ إليهم، ليسَ له غيرُ ذلك (¬2). واختلف قولُ الشافعيِّ هَلْ هذا الحكمُ عامٌّ أو خاصّ بصلحِ الحُدَيبية، فجعله في أَحَدِ قوليه عامّا؛ فإذا جاءتنا امرأة من دارِ الحربِ مهاجرةً قَدْ سَلَّمَ لها زوجُها مَهْرَها، وجبَ على الإمامِ أن يؤتيَ زوجَها ما أنفقَ إذا جاءنا طالباً ما أنفقَ. وجعلَه في القولِ الثاني خاصًّا بصلحِ الحُدَيبية؛ فإن الله سبحانَه جعلَه عِوَضاً لِما شُرِطَ من رَدِّ النِّساء، فلما رَدَّ اللهُ سبحانَهُ هذا، أوجب رَدَّ ما أَنْفَقوا في مهورهن (¬3). ¬
وأما في زمانِنا، فلا يجبُ أن يُدْفَعَ إليهم شيءٌ, ولا يجبُ عليهم أن يَدْفعوا إلينا شيئًا، وهذا ما اختارهُ المزني (¬1)، وقال به مالكٌ (¬2) - رحمَهُما اللهُ تعالى- * * * ¬
سورة الجمعة
سورة الجمعة
من أحكام صلاة الجمعة
(من أحكام صلاة الجمعة) 253 - (1) قوله جَلَّ جلالُهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]. أقولُ: اشتملتْ هذهِ الآيةُ على جملتين: الجملة الأولى: الأمرُ بالسَّعْي عندَ النِّداءِ، والمرادُ بهِ التسبُّبُ والعملُ، لا السَّعْيُ على الأقدام، قالَ اللهُ -تباركَ وتعالى-: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} (¬1) [الليل: 4]. وإن كانَ المشيُ على القدمينِ مستحباً، فالسعيُ عليهما مكروهٌ (¬2)، روى أبو هُريرةَ -رضيَ الله تَعَالى عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أُقُيمَتِ الصَّلاةُ، فَلا تَأتوها وأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتوها وَعَلَيْكُمُ السَّكينَةُ، فما أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وما فاتكمْ فَأَتِمُّوا؛ فإنَّ أَحَدَكمْ في صَلاةٍ ما دامَ يَعْمَدُ إلى الصَّلاةِ" (¬3). ¬
* وقد اتفقَ الناسُ أن الأمرَ للوجوب على أعيانِ المؤمنين. ويروى عن مالِكِ -رحمَهُ اللهُ تَعالى- روايةٌ شاذَّة: أنَّ الجمعةَ مستحبّهٌ، وأن الأَمرَ على الاستِحْباب؛ تشبيهًا لها بصلاةِ العيدِ (¬1). ويروى عن بعضِ أهلِ العلمِ أنها فرضٌ على الكِفَايةِ (¬2). * وقد اتفقَ أهلُ العلمِ على تَخْصيص هذا العُموِم، فأخرجَ منه المرأةُ والمريضُ. فأما المرأةُ؛ فإنا لأنها غيرُ داخلةِ في خِطابِ الذُّكورِ، أو لأنَّ النساءَ كُنَّ يتركْنَ الحضورَ في الصَّدْرِ الأولِ، ولم يُنْكَرْ عليهِنَّ. وأما المريضُ، فلكونهِ خارِجًا بعدَمِ استطاعةِ السعيِ (¬3). * واختلفوا في المُسافِرِ والعبدِ، فذهب داودُ إلى وجوبِ الجُمعة عليهما؛ لظاهرِ الآيةِ (¬4). وذهب الجمهورُ إلى عدمِ وجوبِها عليهما (¬5)، واستدلوا بما رُوي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه قالَ: "الجُمُعَةُ حَقٌ واجِبٌ على كُل مسلمٍ، إلَّا على أَرْبَعَةٍ: ¬
عبدٍ مَمْلوكٍ، أو امرأةٍ، أو صَبِيٍّ، أو مريضٍ" (¬1)، وفي رواية أخرى: "إلَّا على خَمْسَةٍ" وفيه: "أو مسافر" (¬2) ولكنَّ الحديثَ مرسَلٌ، قال البيهقيّ: ولكنه مرسلٌ جيدٌ، وله شواهِدُ يَقْوى بها (¬3). * فإن قلتُم: قد قدمت صفةَ النداءِ ووقته العام، فمتى وقتُ هذا النداء. قلنا: وقته إذا جلسَ الإمامُ على المنبر. روينا في "صحيح البُخاريّ" عن السائبِ بنِ يزيدَ: أنَّه قال: كان النداءُ يومَ الجُمُعَةِ إذا جلسَ الإمامُ على المنبرِ على عهدِ رَسولِ اللهِ -صَلَّى الله عليه وسلم -، وأبي بكرٍ، وعمر، فلما كانَ زمنُ عثمانَ، وكثرَ النَّاسُ، زادَ إليه الندا (¬4) الثالثَ (¬5). فإن قلتم: فإذا كانَ هذا وقتَ النداءِ الموجبِ للسعيِ، فيلزمُ ألاّ يجبَ السعيُ على منْ هوَ خارجَ البلدِ؛ إذ (¬6) لا فائدةَ لسعيِه حينئذٍ؛ لفواتِ الصلاةِ عليهِ، ولا يجبُ السعيُ قبلَه لمفهومِ خطابِ الشرعِ. قلنا: قد قالَ قومٌ بأنهُ لا يجبُ عليهِ السعيُ. وقالَ الجمهورُ بوجوبه (¬7). ¬
ثم اختلفَ هؤلاءِ: فمنهم من قال: يجب عليهِ إذا كانَ بحيثُ لو انصرفَ من الجمعةِ يؤُويه الليلُ إلى أهلِه، وبِه قِالَ الأوزاعيُّ عن معاويةَ (¬1). وروى ابنُ عمرَ أنَّه قال: إنَّما الغسلُ على من تجبُ عليهِ الجمعةُ، والجمعةُ على من يأتي أهلَهُ؛ أي: ليلاً (¬2) (¬3). واستدلُّوا بما رُوي: "الجُمُعَةُ على مَنْ آواهُ اللَّيْلُ إلى أَهْلِهِ" (¬4)، أو كما قال. والأثَرُ ضعيفٌ (¬5). ومنهم مَنْ قالَ: تجبُ عليهِ إذا كانَ على ثلاثَةِ أميالٍ، واستدلُّوا بأنَّ أصحابَ العَوالي كانوا يأتونَ الجُمُعَةَ في زَمَنِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وذلكَ على ثلاثَةِ أميالٍ (¬6). ومنهم من قال: تجبُ عليه إذا كانَ بحيثُ يسمعُ النِّداءَ، واستدلُّوا بما ¬
رُوي عن عَبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ: أنَّه قال: "إنَّما تجبُ الجُمُعَةُ عَلى مَنْ سَمِعَ النداءَ، فمن سمعَهُ، فلم يأتِه، فقد عَصى رَبَّهُ" (¬1) ورويَ عنهُ مرفوعاً إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "الجُمُعَةُ عَلى مَنْ يَسْمَعُ النِّداءَ" (¬2). وبالأخير قال الشافعيُّ (¬3). وعن مالكٍ قولانِ كالأخيرينِ (¬4). * ومفهومُ الخِطاب يقتضي أنَّه لا يَجِبُ السعيُ قبلَ النِّداءِ، وإذا لم يَجِبِ السعيُ، جازَ له أن يعملَ بما يُناقِضُ السَّعْيَ ويُبْطِلهُ مثلَ السفرِ إلى مَوْضِعٍ لا جُمُعَةَ فيه. وبهذا قالَ الشافعيُّ في أحدِ قولَيه (¬5)، وهو مذهبُ عمرَ -رضي الله تعالى عنه- رُويَ عنهُ أنَّه أبصرَ رَجُلاً عليهِ أُهْبَةُ السفرِ يقولُ: لولا أنَّ اليومَ يومُ جُمعةٍ، لخرجتُ، فقال: اخرجْ؛ فإن الجمعةَ لا تحبِسُ عن سَفَرٍ (¬6). وروى الزهريُّ مُرْسَلاً: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرجَ لسفرٍ يومَ الجمعةِ منْ أولِ النهار (¬7). ¬
ورويَ عن سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ وعمرَ بنِ عبدِ العزيز: أنهُ لا يُنْشِئُهُ يومَ الجمعةِ حتَّى يُصَلِّيَها (¬1). ورويَ عن معاذِ بنِ جبلِ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه- ما دلَّ على ذلك، وبهِ قالَ الشافعيِّ في قولهِ الآخر (¬2). فصل واعلموا -رحمكم اللهُ- أنَّ الجمعةَ وردَ بيانُ فعلِها من النَّبي - صلى الله عليه وسلم - على هيئةِ مخصوصةِ مخالفةٍ لسائرِ الصلواتِ، فصلاها ركعتينِ، وخَطب فيها خطبتين قائمًا، وقعدَ بينَهما، وفعلَها في جماعةٍ، وفي مَحَلِّ استيطانِ، وفي مسجدِ واحدِ، وكان يتطَهَّرُ لها بالاغتسالِ، ويقرأُ فيها بشيءِ مخصوصٍ، وهو: الجمعةُ، والمنافقون، وسَبِّحْ، والغاشِية. ولما رأى أهلُ العلمِ والاستنباطِ أنَّ هذهِ الأفعالَ والأحوالَ المقترنةَ بهذه العبادةِ التي ظهرَ بقصدِ الشارع الاعتناءُ بها لها مناسبة بهذهِ العبادة، اعتبروها، واشترطوها في خصوصِ هذه العبادة، ولم يختلفوا إلَّا بحسبِ اختلافِهم فيما ظهرَ لهمْ بالدليلِ على أن قصدَ الشارع لم ينهضْ في ذلكَ سبباً للوجوب، وها أنا أتكلمُ في هذه الأمورِ بحسبِ ما يليقُ بكتابي هذا، ولا أُخليهِ عن ذلكَ؛ لعظمِ موقعِ الجمعةِ من دينِ اللهِ تباركَ وتعالى، فأقول: * أما الصلاةُ، فقد اتفقَ المسلمون على أَنَّها رَكْعتانِ. وأمَّا الخُطْبة: فقدِ اتفقَ جُمهورُ العلماءِ على أنها واجبة. ¬
وقَال قَليلٌ منهم: الخطبةُ سُنَّةٌ، وليستْ بواجبةِ كسائرِ المواعظِ، وبه قالُ ابن الماجشون المالكيُّ (¬1). وهو ضعيفٌ؛ لنقلِ الخلفِ عن السلفِ، ولأنها تخالفُ سائرَ المواعظِ؛ لترتيبِها، ولأنها داخلة في ذكرِ اللهِ سبحانَهُ الذي أمرَ بالسعيِ إليه (¬2). ولهذا قال الشافعيُّ بوجوبِ الألفاظِ الراتبةِ في خطبةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ من حَمْدِ اللهِ تبارك وتعالى، والصَّلاةِ على نبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، والوصيةِ بتقوى اللهِ تعالى، وقراءةِ القرآنِ، وبوجوبِ الجلوسِ بينَ الخطبتين (¬3)، وإنْ خالفَهُ في ذلكَ مالكٌ (¬4). * وأمَّا الجماعةُ فقدِ: اتفقوا على اشتراطِها. ولكن اختلفوا في أَقَلِّ الجمعِ بحسبِ اختلافِ أهلِ اللسانِ في ذلك، هل هو اثنان، أو ثلاثة. ثم اختلف هؤلاء هل الإمامُ في الاثنينِ أو الثلاثةِ، أو لا؟ فمنهم من قال: يكفي واحدٌ مع الإمام (¬5). ¬
ومنهم من قال: لا بُدَّ من اثنين غيرِ الإمام (¬1). ومنهم من قالَ: لا بدَّ من ثلاثةٍ غيرِ الإمام، وهو قولُ أبي حنيفة (¬2)، وربَّما استدلَّ بما رُوي مرفوعاً: "الجمعةُ واجبةٌ على كلِّ قريةٍ فيها إمامٌ، وإن لم يكونوا إلَّا أرَبعةً" (¬3)، ولكنه ضعيفٌ لا يَصِحُّ (¬4). ولما رأى الشافعيُّ ضعفَ هذا الاستدلالِ، تَمَسَّكَ بأقلِّ ما سمع، فقال: سمعتُ عدداً من أصحابِنا يقولون: تجبُ الجمعةُ على كُلِّ أهلِ دارِ مقامٍ إذا كانوا أربعينَ رَجُلًا، وكانوا أهلَ قريةِ، فقلنا به، وكان أقل ما علمناه قيل به، ولم يجزْ عندي أن أدعَ القولَ به، وقد روي حديثٌ لا يثبتهُ أهلُ الحديثِ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَمَّعَ حينَ قدمَ المدينةَ بأربعينَ رجلًا (¬5)، ولكنه يشهدُ له ما روى عبدُ الرحمنِ بنُ كعبِ بنِ مالكٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- قال: كنتُ قائداً أبي حين ذهبَ بصره، فإذا خرجْتُ به إلى (¬6) الجُمعةِ، فسمع الأذانَ، صَلَّى على أبي أُمامَةَ أسعدَ بنِ زُرارةَ، واستغفرَ له، فقلتُ له: يا أبت! أَرَأَيتَ استغفارَكَ لأبي أُمامَةَ كلَّما سمعتَ الأَذانَ للجمعة، ما هو؟ فقال: أي بنيَّ! ¬
إنه كانَ أولَ من جَمَّعَ بنا في هَدْمٍ من حَرَّةِ بَني بياضَةَ يقالُ له: نقيع الخَضَمات، قال: قلت: كم كنتم يومئذٍ؟ قال: أربعون رجلًا (¬1). فإن قيلَ: هذا يعارضُه ما قالَ الزهريُّ: كانَ مُصْعَبٌ بن عمير (¬2) أولَ من جَمَّعَ الجمعةَ بالمدينةِ للمسلمينَ قبل أن يقدمَها رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عليه وسلم -، وأنه جَمَّعَ بهم وهم اثنا عَشَرَ رجلًا (¬3). قلنا: لا يعارضُه، فقولُ عبدِ الرِحمنِ مُتَّصِل، وقولُ الزهريِّ منقطعٌ، كيفَ والجمع بينهما ممكنٌ؟ وذلكَ أن النقباءَ الذين بايعوا رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عليه وسلم - البيعةَ الأولى كانوا اثني عَشَرَ نقيباً، منهم أسعدُ بنُ زُرارةَ، فطلبوا من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يبعثَ إليهم رجلًا من أصحابِه يُعَلِّمُهم القرآنَ، ويُفَقِّهُهم في الإسلام، ويَؤُمُّهم في صلاتِهم، فبعثَ إليهم مُصْعَباً، فالزهريُّ أضافَ التجميعَ إلى مُصْعَبٍ بمعونةِ النقباءِ، وكعب بنُ مالكٍ أضافَ التجميعَ إلى أسعدَ؛ لنزول مصعب عندَهُ أولاً، ولخروجِه إلى دُورِ الأنصارِ يدعوهم إلى الإسلام، فالزهري (¬4) يريد عددَ النقباءِ الذين كانوا له ظَهْراً، وكعبٌ يريدُ عددَ مَنْ صَلَّى معه مِمَّنْ أسلمَ من أهلِ المدينة مع النقباء (¬5). ¬
وبقولِ الشَّافعيِّ قالَ أحمدُ (¬1)، وهو قولُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ (¬2). وأمَّا مالِكٌ، فلاحظَ المعنى، فلم يكتفِ بالأربعةِ، ولم يوجبِ الأربعين، بل اشترط جَمْعاً يمكنُ أن يتقرب بهم قربة اعتبارًا بمكانِ يجوز فيه الجمعةُ، وبمحلِّ استيطانِها (¬3). * وأمَّا محلُّ الاستيطانِ: فقد اتفقَ عليه أهلُ العلمِ، والدليلُ عليه أنَّ النَّبي -صَلَّى الله عليه وسلم - جَمَّعَ بينَ الظُّهرِ والعَصْرِ يومَ عَرَفَةَ، ثم راح إلى الموقفِ، وكانَ ذلكَ يومَ جُمعة. قال الشَّافعي: وقد كانَتْ مِنًى ينزلُها الحاجُّ، ما علمتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولا أَحَداً من الأَئِمَّةِ صلَّى بها جمعةَ قطُّ، وعرفةُ هكذا أيضاً، ما علمنا أَحَداً صَلَّى بها جمعةَ قَطُّ (¬4). وزادَ أبو حنيفةَ فاشترطَ المِصْرَ والسُّلطانَ زيادةَ على الاستيطانِ (¬5)، واستدل بما رُوي عن عَلِي -رضيَ اللهُ تَعالى عنه-: أنَّه قالَ: لا تشريقَ ولا جمعةَ إلَّا في مِصْر جامعِ (¬6). * وأمَّا المسجدُ. ¬
فرآهُ مالِكٌ والشافعيُّ أشدَّ مناسبةً من المِصْرِ والسلطانِ (¬1)؛ لأنَّ المصرَ والسلطانَ غيرُ مناسبينِ لأحوالِ الصلاةِ؛ بخلافِ المسجِد، حتَّى اختلفَ أصحابُ مالكٍ في المسجدِ، هل يُشْتَرَطُ أن يكونَ راتِباً للجُمعة، وأن يكونَ مسقوفاً (¬2). * وأمَّا اتِّخاذُ الجمعة: فاشترطه مالكٌ والشافعيُّ، ولستُ أعلمُ -وقتَ كتابي لهذا الكتابِ- مَنْ خالفَهُمَا ووافَقَهما. * وأمَّا الاغتسالُ: فذهبَ أهلُ الظاهرِ إلى وُجوبه (¬3)، وهو مذهبٌ قويٌّ، وأحاديثُهُ صحيحةٌ، وتأويلُها صعبٌ، وما يُروى من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَوَضَّأ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَبِها ونِعْمَتْ، ومَنِ اغْتَسَلَ، فالغُسْلُ أَفضَلُ" (¬4)، فضعيفٌ (¬5). واستدلَّ الجمهورُ أيضاً بأنَّ عثمانَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه- دخلَ، وعمرُ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهُ- يخطُب، فقال له عمرُ: أَيَّةُ ساعةٍ هذه؟ فقال: واللهِ ¬
ما زدت حينَ سمعتُ النداءَ على أنِ انقلبت فَتَوضأْتُ، ثمَّ جئتُ، فقال: والوضوءُ أيضاً، وقد علمتَ أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى الله عليه وسلم - كانَ يأمرُ بالغُسْلِ (¬1)؟! وهذا لا دليلَ فيهِ أَيْضاً؛ لأنَّ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه- لم يُقِرَّهُ، بلْ أنكرَ عليهِ ولامَهُ، واحتجَّ عليهِ بأنَّ النَّبي -صَلَّى الله عليه وسلم - كانَ يأمرُ بالغُسْل. * وأمَّا القراءةُ: فتستحبُّ القراءةُ بما قرأَ بهِ رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عليه وسلم - عند مالكٍ والشافعيِّ (¬2). وجعلها أبو حنيفةَ كسائرِ الصَّلَواتِ (¬3). الجملة الثَّانية: الأمرُ بتركِ البيعِ. وتركهُ واجبٌ، قال ابنُ عباس: يَحْرُمُ البيعُ حينئذٍ. وقال عَطاءٌ: تحرمُ الصناعاتُ كلُّها (¬4). فإذا خالَفَ وباعَ، فقالَ قومٌ بفسخِ البيعِ (¬5)، وقالَ قومٌ: لا يفسخُ (¬6). ¬
ومستندُ القولَيْن أن النهيَ في الشيءِ الحلالِ هل يقتضي فَسادَ المنهيِّ عنه، أولاً؟ وفي ذلك خلافٌ بينَ أهلِ العلمِ بالنظرِ وشرائطِ الاستدلال. * * * 254 - (2) قوله جَلَّ جَلالهٌ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]. * أمرَ اللهُ سبحانَهُ بالانتشارِ، والأمرُ إمّا محمولٌ على الإباحةِ، أو على الاستِحباب (¬1)؛ لما فيهِ من فَصْلِ النافلةِ عن الفريضةِ، وذلك مستحبٌّ (¬2)؛ لمِا روينا في "صحيح مسلم" عن السائبِ بن يزيدَ قال: صليتُ معَ معاوية الجمعةَ في المَقْصورة، فلما سلمتُ قمتُ، من مَقامي فصليتُ، فلمَّا دخلَ، أرسلَ إليَّ فقالَ: لا تَعُدْ لِما فعلتَ، إذا صَلَّيْتَ الجمعةَ، فلا تَصِلْها بصلاةٍ حتَّى تتكلمَ أو تخرجَ؛ فإن نبيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أمرَنا بذلك أَلَّا نُوصِلَ صلاةً بصلاةٍ حتى نتكلمَ أو نخرجَ (¬3). ورويَ عن ابنِ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- في تطوُّعِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: وكانَ لا يصلِّي بعدَ الجمعةِ حتَّى ينصرفَ، فيصلي رَكْعتين في بيته (¬4). وأمَّا حملُه على الوجوبِ فلا يجوزُ؛ لِما رُوي: أن النبيَّ -صَلَّى الله عليه وسلم - جلسَ بعدَ الجمعةِ لوفدٍ قدموا عليه (¬5). ¬
* وأمر اللهُ سبحانَه بالابتغاءِ منْ فَضْلِه، وهو التجارةُ، والأمرُ للإرشادِ (¬1)، ولا يجوزُ أن يُحْمَلَ على الوجوب؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَ يَبْتع تِجارةً بعد مهاجَرِه إلى المدينة. * وأمرَ بذكرِه كثيرًا، فيحتملُ أن يكونَ أرادَ مطلقَ الذِّكْر (¬2). ويحتملُ أن يكونَ أرادَ النافِلَةَ بعدَها (¬3)، وقد بينَ ذلكَ النبيُّ -صَلَّى الله عليه وسلم - فقال: "إذا صَلَّى أَحَدُكُمُ الجُمُعَةَ، فَلْيصَل بَعْدَها أَرْبَعاً" (¬4)، وفي رواية: "مَنْ كانَ منكُمْ مُصَلِّياً، فَلْيصَلِّ، بَعْدَ الجُمُعِةَ أربعاً"، أخرجَهُ مسلم في "صحيحه". * * * 255 - (3) قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11]. * روينا في "صحيح مسلم": أنَّ النَّبي -صَلَّى الله عليه وسلم - كانَ يخطُبُ قائِماً يومَ الجمعةِ، فجاءت عِيرٌ منَ الشامِ، فانفتلَ النَّاسُ إليها حتَّى لم يبقَ إلَّا اثنا عَشَرَ رجلًا، فأنزلتْ هذه الآيةُ التي في الجُمعة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (¬5) [الجمعة: 11]. ¬
قال الشافعيِّ: ولم أعلمْ مُخالفاً أنها نزلت في خُطْبَةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فإن قلتَ: فقد روى البخاريُّ في "صحيحه" عن جابرِ بنِ عبد اللهِ -رضي الله تعالى عنهما- قالَ: بينما نحنُ نصلّي مع النَّبي -صَلَّى الله عليه وسلم -، إذ أقبلتْ عِيرٌ تحملُ طَعاماً، فالتفتوا إليها، حتَّى ما بقيَ معَ رسولِ الله -صَلَّى الله عليه وسلم - إلَّا اثنا عَشَرَ رجلًا، فنزلت هذه الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (¬2) [الجمعة: 11]. قلتُ: قولُ جابرٍ مُؤَوَّلٌ على أنَّه أرادَ بالصَّلاةِ الخُطْبَةَ، أو انقضاءَ الصلاةِ؛ بدليلِ قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فإن أَحَدَكُمْ في صَلاة ما دامَ يعمدُ إليها" (¬3)، وهذا هوَ اللائق بحالِ الصَّحابَةِ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم- فإنهم لا يقطعونَ الصّلاةَ بعدَ الدخولِ فيها. وقال الفاسي (¬4): ذَكَرَ أبو داودَ في "مراسيلِه": أنَّ خطبةَ النبيّ -صَلَّى الله عليه وسلم - هذه التي انْفَضُّوا منها إنَّما كانَتْ بعدَ صلاةِ الجمعةِ، وظنوا أنهم لا شيءَ عليهم في الانْفِضاضِ عن الخطبةِ، وأنه قبلَ هذهِ القصَّةِ إنَّما كان يُصَلِّي قبلَ الخُطبة (¬5). قال القاضي عِياضٌ: وهذا أشبهُ بحالِ الصّحابة -رضي اللهُ تَعالى عنهم- والمَظْنون بهمَ أنهم ما كانوا يدعونَ الصلاةَ مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولكنهم ظَنُّوا ¬
جوازَ الانصرافِ بعدَ انقضاءِ الصَّلاة، قال (¬1) وقد أنكرَ بعضُ العلماءِ كونَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خطبَ بعدَ صلاةِ الجُمعة لها (¬2). إذا علمتَ هذا ظهر لكَ من هذهِ القصة دلالة لمن يقولُ بانعِقاد الجمعةِ باثني عشرَ، وهي دلالةٌ قويَّةٌ، وجوابُ الشافعيِّ بأنه محمولٌ على أنهم رَجَعوا، أو رجعَ منهم تمامُ الأربعين دَعْوى لا برهانَ عليها. * وفي الآيةِ دلالة على أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يخطُبُ قائماً (¬3)، وهو كذلكَ؛ كما قدمتُهُ من تَخْريجِ "مسلم"، ولنقلِ الخَلَفِ عن السَّلَفِ، ولا خِلافَ فيه عندَ أهلِ العلمِ. دخل كَعْبُ بن عُجْرَةَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه- المسجدَ، وعبدُ الرحمن بنُ أُمِّ الحَكَمِ يخطُبُ قاعداً، فقال: انظروا إلى هذا الخبيثِ يخطبُ قاعِداً، وقد قالَ اللهُ عزَّ وجَل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (¬4) [الجمعة: 11]! * * * ¬
سورة الطلاق
سورة الطلاق
من أحكام الطلاق
(من أحكام الطلاق) 256 - (1) قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]. * أقولُ: خاطبَ اللهُ سبحانَهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم -، وأُمَّتُهُ مُرادةٌ معه، فأمرهم بطلاقِ النساءِ لِعِدَّتِهِنَّ، وبينَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أن عِدَّتَهنَّ هي الطهرُ (¬1). روينا في "الصحيحين" عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما-: أنَّه طَلَّقَ امرأَتَهُ وهي حائضٌ، فذكرَ ذلك عمرُ للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَتَغَيَّظَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "فَلْيُراجِعْها، ثم لْيُمْسِكْها حتَّى تَطْهُرَ، ثمَّ تَحيضَ فَتَطْهُرَ، فإن بَدا لَهُ أن يُطَلِّقَها، فَلْيُطَلِّقْها طاهِراً قَبْلَ أَنْ يَمَسَّها، فَتِلْكَ العِدَّةُ التي (¬2) أَمَرَ اللهُ" (¬3). ¬
* وقد أجمعَ أهلُ العلم على العملِ بهذا البيانِ، وقَسموا الطلاقَ إلى سُنَّةٍ وبِدْعَةٍ. فالسنَّةُ التي أمرَ اللهُ سبحانَهُ بها، وبيَّنَها رسولهُ -صَلَّى الله عليه وسلم - هو أن يُطَلِّقَها في طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّها فيه. والبدعةُ أن يطلقها في الحَيْض، أو في طُهْر مَسَّها فيه، وهو حرامٌ (¬1)؛ لمخالفةِ أمرِ اللهِ سبحانهَ، ولقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]. ثم اختلفَ أهلُ العلمِ في شرطينِ لطلاقِ السُّنة: أحدهما: هل من شَرْطِه أن يقع الطلاقُ بعدَ نِكاحٍ أو رَجْعَةٍ؟ فلو طَلَّق في الطهرِ الثَّاني طلقةً ثانيةً من غيرِ أن يتقدمَها رجعة، فهو طلاقٌ لغيرِ السنَّة، أو لا؟ والثاني: هل من شرطهِ أن تقعَ تطليقةٌ واحدةٌ، وأمَّا الثلاث جملة فطلاق بدعة أو لا؟. وباشتراطِهما قالَ مالكٌ (¬2)، وخالفَهُ في الأول أبو حنيفة (¬3)، وخالفه فيهما الشافعيُّ (¬4). ¬
فإن خالفَ الرجلُ وطلَّقَ امرأتَه لغيرِ عدَّتِها التي أمرَ اللهُ تَعالى أن يطلَّق لها النساءُ؛ بأن طَلَّقها في الحَيْض؛ كما فعلَ ابنُ عمرَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما-: فقالَ بعضُ أهل الظاهرِ: لا ينفذُ طلاقهُ (¬1)، وهو خَطَأٌ؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَهُ بالرَّجعة، ولا تكون الرجعةُ إلَّا بعدَ وقوعِ الطلاقِ. وفي بعض رواياتِ هذا الحديثِ عنِ ابنِ عمرَ -رضيَ الله تعالى عنهما- قال: حُسِبَتْ عليَّ بتطليقة (¬2). ثم قال سائرُ أهلِ العلم: يؤمَرُ بالرجعةِ كما أمرَ النبيّ -صَلَّى الله عليه وسلم - ابنَ عمرَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما- إمّا وُجوباً، فإذا امتنعَ أجبَرهُ السُّلطانُ كما رآهُ مالكٌ (¬3)، وإمّا استحباباً كما رآهُ أبو حنيفةَ، والشافعيّ، وأحمدُ (¬4)، والثوريُّ (¬5). وقولُ مالكٍ، أظهرُ، وقولُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ، أَقْيَسُ. ثم إذا امتثلَ وراجعَ فإلى مَتى يمتدُّ تحريم الطلاق؟ ذهب مالكٌ والشافعيُّ إلى أنَّه يمتدّ إلى أن تطهرَ ثم تحيضَ، ثم تطهرَ، ¬
ثم إن شاءَ طلَّق، وإن شاءَ أمسكَ؛ لحديثِ ابنِ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما - (¬1). وقال أبو حنيفةَ وسائرُ الكوفيين وبعضُ الشافعيةِ: إذا طَهُرَتْ من تلكَ الحيضةِ، فله أن يطلِّقَ إن شاء (¬2)؛ لما روى يونسُ بنُ جبير قال: قلت لابن عمرَ: رجلُ (¬3) طلقَ امرأتَه وهي حائض، قال: تعرفُ أنَّ ابن عمرَ طلقَ امرأتَه وهي حائضٌ، فأتى عمر (¬4) النَّبي -صَلَّى الله عليه وسلم -، فذكر له ذلكَ، وأمرَهُ أن يراجعَها، فإذا طَهُرَتُ، فأرادَ أْن يطلِّقَها، فَلْيُطَلِّقها (¬5). وكذا رواهُ أنسُ بن سيرينَ، وسعيدُ بنُ جُبيرِ، وزيدُ بنُ أسلمَ، وأبو الزُّبيرِ. فإن قلتَ: فإذا طلقها في طُهرِ مَسّها فيه، فهل يؤمَرُ بالرجعة؛ كما إذا طَلَّقها في الحيضِ؛ لأنَّه طلاقُ بدعة؟ قلت: لم يردْ فيه خبر، وأظنُّ مذهبَ مالكِ أنَّه لا يؤمرُ بالرجعة بالحيض (¬6) (¬7)، وظاهرُ مذهبِ الشَّافعي أنَّه يؤمرُ (¬8). ¬
* وقد استنبطَ الفقهاءُ من أمرِ اللهِ سبحانَهُ بطلاقِ النساءِ لعدَّتِهن أن المرأةَ التي لا عِدَّةَ عليها إذا طُلِّقَتْ أنَّه لا حَرَجَ في طَلاقِها في حالِ الحَيْضِ؛ لأنَّه لا عِدَّةَ عليها، فتطلَّقُ لَها، ولا تجبُ عليها عدَّةٌ فيطوَّل عليها (¬1)، والله أعلمُ. * وأمرنا اللهُ سبحانَهُ بإحصاءِ العِدَّةِ لِيُعْرَفَ الوقتُ الذي تجوزُ فيه الرجعةُ، والوقتُ الذي لا تَجوزُ فيه، وذلك حَتّى تنقضيَ عِدَّتُها (¬2). * ثم نهانا اللهُ سبحانَهُ أن نخرجَهُنَّ من بيوتهنَّ اللاتي طُلِّقْنَ فيها، ونَهاهُنَّ أن يخرجْنَ، إلَّا أن يَأتينَ بفاحشةٍ مُبيِّنَةٍ، ومن زنا (¬3) فإنَّها تخرجُ لإقامةِ الحَدِّ عليها (¬4). وقال الشافعيِّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-: الفاحشة أن تبدُوَ على أهلِ زَوْجِها، فيأتي من ذلكَ ما يُخاف منه الشِّقاقُ بينَها وبينَهم، فإذا فعلتْ، حَلَّ لهم إخراجُها (¬5)، وكانَ عليهم أن يُنْزِلوها منزلاً آخر (¬6)، وأسندَ ذلكَ إلى ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما (¬7) -، واستدلَّ له بحديثِ فاطمةَ بنتِ قَيْسٍ ¬
الآتي قريباً -إنْ شاءَ اللهُ تعالى-، وسيأتي الكلامُ عليه أيضاً -إنْ شاء الله تعالى-. * وأشارَ اللهُ سبحانَهُ إلى عِلَّةِ الحُكْم، وهو تَمامُ الِعشْرَةِ وبَقاءُ الزوجيَّةِ بينَهما بقوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] أي: رجعةً. فإن قلتَ: فإذا كانتِ الرجعةُ عِلَّةً لإيجابِ السُّكنى، فهلاّ كانْت علَّة لتحريمِ إيقاعِ الثلاثِ جملةً؛ لِما فيهِ من تركِ الرجعة. قلنا: قد ذكرَ الشافعيِّ -رحمهُ اللهُ تعالى- هذه الشُّبْهَةَ، فقال للقائِل بها: فما تقولُ في المدخولِ بِها إذا أرادَ زوجُها أن يطلقها اثنتينِ، وهو يملكُ الرجعةَ؟ قال: هذا ليس بِسُنَّةٍ، قال: فيلزمُكَ أن تقولَ: سنةٌ؛ لأنَّه يملكُ الرجعة، قال: فما تقولُ في رجلٍ لم يبق له إلَّا واحدةٌ، وفي رجلٍ لم يدخلْ بامرأته؛ أيوقعَ هذان الطلاقانِ سنةً؟ قال: نعم، قال: فكيفَ يوقعُ سُنَّةً، وهو لا يملكُ الرجعة؟ (¬1) * * * 257 - (2) قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]. * أي: فإذا شارَفْنَ انقضاءَ الِعدَّةِ، فأردتم إمساكَهُن، فأمسكوهُنَّ بمعروفٍ، وهو ألَّا يقصدوا بالرجعة ضرارَهُنَّ، كما قال تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]؛ أو {فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، ¬
وهو تركُهُنَّ على التسريحِ من غيرِ أخذِ شيءٍ من أموالهنَّ ضِراراً لهُنَّ (¬1). * وأمرَ الله سبحانَهُ بالإشهاد في الرَّجْعَةِ والفِراق. وقد اتفقَ النَّاسُ على أنَّ الطلاقَ من غيرِ إشهادٍ جائزٌ (¬2). وأمَّا الرجعةُ: فيحتملُ أن تكونَ في معنى الطلاق؛ لأنها قَرينَتُهُ، فلا يجبُ فيها الإشهادُ، ولأنها حَقٌّ للزوج، فلا يجبُ عليهِ الإشهادُ على قبضه. ويحتمل أن يجبَ الإشهادُ، وهو ظاهرُ الخِطاب. وبالأول قالَ مالكٌ، والشافعيُّ في الجديد (¬3). وبوجوبِ الإشهادِ قالَ في القديمِ (¬4)، وأجازه في روايةِ الربيعِ (¬5). فمن أوجبَ الإشهادَ لزَم عندَه ألا تجوزَ الرجعةُ إلَّا بالقولِ، ولا تجوزَ بالفعلِ، ولزمَ عنده ألا تصحَّ بالكنايةِ؛ لأنَّ الشهودَ لا يَطَّلعِون على النِّيَّةِ. والذين لم يُوجِبوا الإشهادَ اختلفوا في جَوازِ الإمساكِ بالفعلِ: فقال الشافعيُّ: لا تَجوزُ الرجعة بالفعل (¬6). ¬
وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: تجوزُ بالوَطْءِ. ثم اختلفا: فقالَ مالكٌ: لا تجوزُ الرجعةُ بالوَطْءِ إلَّا إذا نوى الرجعة (¬1). ولم يشترطْ أبو حنيفةَ ذلك (¬2)؛ كالمظاهِر والمُؤْلي. * والقول الذي تَحْصُلُ به الرجعةُ عندَ منِ اشترطَ القولَ كُلُّ لفظٍ يدلُّ على الارتجاعِ؛ كقولكَ: راجَعْتك، وارتَجَعْتك، وَرَدَدْتُكِ إليَّ. وفي قوله: أمْسَكْتك، وَجْهانِ عندَ الشَّافعية: أحدهما: أنَّه كنايةٌ، فلا تصحُّ به الرجعةُ إلَّا بالنيَّةِ؛ لأنهُ يُستعملُ في الاستدامَةِ والبقاءِ على الحالةِ الأولى. والثاني: يصحُّ؛ لأنَّه عُرْفٌ في الإمساكِ وردَ بهِ القرآنُ، قال اللهُ تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229]، وقال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬3) [الطلاق: 2]. * وقَدَّرَ اللهُ سبحانَهُ نِصابَ الشَّهادَةِ في الطَّلاقِ والرَّجْعَةِ بشاهِدَيْن، وقِسْنا عليه كُلَّ أَمْرٍ ليس بمالٍ، ولا يقصدُ بهِ المالُ (¬4). * * * ¬
258 - (3) قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]. معنى قوله تَعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي: شَكَكْتُمْ في حُكْمِهِنَّ، لم تَعْلَموا عِدَّتَهُنَّ. وذلك أنهم سألوا، وقالوا: عَرَفْنا عِدَّةَ التي تَحيضُ، فما عدةُ التي لا تَحيضُ، والتي لم تَحِضْ بَعْدُ؟ فبينَ اللهُ سبحانَهُ ذلكَ بهذهِ الآيةِ، فواجب على الآيسَةِ ثلاثةُ أشهُرٍ، وكذا الصغيرةُ التي لم تَحِضْ. وعلى هذا أجمعَ المسلمونَ، حتَّى استنبطَ السَّلَفُ كابنِ عباسٍ، وجابرِ بنِ زيدٍ، والحَسَنِ، والشعبيِّ من مفهومِ هذا أنها إذا اعتَّدتْ بالأشهرِ حَتىّ شارَفَتِ انقضاءَها، ثم حاضَتْ، أنها تعتدُّ ثلاثةَ أقراء، فليست من اللائي لم يحضن (¬1). وبهذا قال كثيرٌ من الشافعيةِ، والأصحُّ عندهم أن تحسُب ما مَضَى قرءاً (¬2). وهذا الحكمُ في حْقَّ الحُرَّةِ. وأمَّا الأَمَةُ: فمن يقولُ باندِراجِها في خِطاب الحُرَّةِ في عِدَّتِها، فهذا مثلُه (¬3). ¬
ومن يقولُ بالتشطير هناك، فقد اختلفوا هنا على (¬1) ثلاثة أقوالٍ: فقال بعضُ الصحابِة: تعتدُّ بثلاثةِ أشهرٍ، وإليهِ ذهبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ (¬2)، والشافعيُّ في القديم (¬3)؛ لأنَّ الحَمْلَ لا يَتبَيَّنُ في أَقَلَّ من ثلاثةِ أشهر. وقالَ بعضُهم: تعتدُّ بشهرٍ ونصْفِ؛ كتشطيرِ الطلاقِ والحَدِّ، وبهِ قالَ الشافعيُّ في الجديد، وقالَ: إنه أَقْيَسُ، وإن كانَ الأولُ أَحْوَطَ (¬4). وقالَ عمرُ: تعتدُّ بشهرينِ (¬5)، وكأنَّهما عوضٌ من الحيضتينِ. وهو قولٌ أو وَجْهٌ للشَّافعيةِ (¬6). وقد تقدمَ الكلامُ على ذواتِ الحَمْلِ، واللهُ أعلمُ. * * * 259 - (4) قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6]. ¬
* اتفقَ أهلُ العلمِ على أنَّ الرجعيَّة (¬1) مُرادةٌ بالآية، وأنَّ الله سبحانَهُ أوجبِ لَها السُّكنى، وإذا وَجَبَتِ السُّكنى، وَجَبَتِ النفقةُ؛ لأنها تابعة للسُّكنى، وقد اتَّفقوا على ذلكَ أيضاً (¬2). * وإنَّما اختلفوا في المَبْتُوتَةِ. فمنهم من لم يوجبْ لَها السُّكْنى، واستدلَّ بما رَوَتْ فاطمةُ بِنْتُ قيسٍ: أَنَّ أبا عَمْرِو بنَ حَفْصٍ طَلَّقَها أَلْبَتَّةَ، وهو غائبٌ، فأرسلَ إليها وكيلُه بشعير، فَسَخِطَتْهُ، فقال: واللهِ مالكِ علينا مِنْ شيءٍ، فجاءتْ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وذكرتْ له ذلكَ، فقالَ: "ليسَ لكِ عليهِ نَفَقَة"، وفي لفظ آخر: "ولا سُكْنى"، فأمرهَا أن تعتدَّ في بيتِ أُمِّ شَريكٍ، ثم قالَ: "تِلْكَ امرأةٌ يَغْشاها أَصْحابي، اعْتدِّي عندَ ابنِ أمِّ مكتومٍ؛ فإنهُ رَجُلٌ أعَمْى، تَضَعينَ ثِيابَكِ عنْدَهُ" (¬3). وإذا لم تجبْ لها السُّكْنى، لم تجبْ لها النفقةُ. وبهذا قالَ أحمدُ (¬4)، وداودُ (¬5)، وأبو ثورٍ، وإسحاقُ (¬6). وذهبَ أبو حنيفةَ وموافقوه من الكوفيين إلى أنَّه يجبُ لَها السُّكنى والنفقةُ (¬7). واستدلُّوا بِعُمومِ القرآنِ. ¬
وبما رُوي عَنْ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: أنَّه قالَ في حديثِ فاطمةَ هذا: لا نَدَع كِتابَ رَبِّنا، وفي بعضِ ألفاظِهِ: وسُنَّةَ نَبيِّنا لِقَوْلِ امرأةٍ جَهِلَتْ أو نَسِيْتَ (¬1)، ويريدُ بالسُّنَّةِ وجُوبَ النفقةِ حيثُ تَجِبُ السكنى. وبما رُوي عن عائشةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنها-: أنها قالت: ما لِفاطمةَ لا تتَّقي الله؟ يعني: في قولها: لا سُكْنى ولا نفقةَ (¬2). وقال عروةُ بنُ الزُّبير لعائشةَ: ألمْ تَرَيْ إلى فُلانةَ بنتِ الحَكَمِ طَلَّقَها زَوْجُها أَلْبَتَّةَ، فخرجَتْ؟ فقالَتْ: بئْسَما صَنَعَتْ، قال: ألمْ تسمعي قولَ فاطمةَ؟ قالتْ: أَما إِنَّه ليسَ لَها خيرٌ في ذِكْرِ هذا الحديث (¬3). ولما رأى مالِكٌ والشافعيُّ معارَضَةَ الصحابِة -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم- لحديثِ فاطمةَ بنتِ قَيْسٍ إِمَّا بالرَّد كَما فعلَ عمرُ، وإمَّا بالتأويل؛ فإنه إنَّما رَخَّصَ لها لاستطالتَها على حَماتها، وبذاءةِ لِسانِها كما قالَ ابنُ عباسٍ، أو أنَّه إنَّما رَخَّصَ لها في الخروج منْ منزلها؛ لأنها كانَتْ في مكانٍ وَحْشٍ، فخيفَ على ناحيتها كما قالَتْ عائشةُ، معَ معارَضَةِ عُمومِ الكتابِ لهُ، وقيامِ الاستدلالِ بأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَدَعْها تَذْهَبُ حَيْثُ شاءَتْ، وإنَّما نَقَلَها إلى منزلٍ آخرَ لأحدِ الأمرينِ، إما البذاءة، وإما الاستيحاش، فحينئذٍ عَمِلا بِدَلالةِ الكِتابِ نُطْقاً، ومفهومِه، فأوجبا لها السُّكنى؛ لعموم الآيةِ، ولم يوجِبا لها النفقة (¬4)؛ لمفهوم قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فلم يوجبِ النفقةَ إلَّا للحواملِ، فأفهمَ أن غيرَ ¬
الحواملِ لا نفقةَ لهنَّ، حتَّى الرجعيةُ، ولكنه خرجَ من عموم هذا المفهومِ الرجعيةُ بالإِجماع، وأكدَ دلالةَ قولِه -صَلَّى الله عليه وسلم -: "ليسَ لك عليهِ نَفَقَةٌ". وأجمعوا على أن الحاملَ تستحقُّ النفقة حتَّى تَضَعَ حَمْلَها على كلِّ حال، وإذا وجبتْ لها النفقةُ، فقدْ وجبتْ لها السُّكْنى؛ لأنَّ النفقةَ تابعةٌ للسُّكْنى، والتابعُ يستلزمُ وجودَ المَتْبوعِ (¬1). ثم اختلفَ قولُ الشافعيِّ هَلِ النفقةُ للحَمْلِ؛ لأنَّ المطلقةَ البائنَ لا تستحقُّ نفقةً، أو للحاملِ بسببِ الحَمْل؛ لإضافةِ الوجوبِ إليها؟ وهذا هو الراجحُ من قوله (¬2). * إذا تَمَّ هذا، وعلمتم أن عِدَّة الحوامِل أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، سواءٌ كُنَّ مُطَلَّقاتٍ، أو مُتَوَفى عنهن؛ كما تقدمَ بيان ذلكَ في "سورةِ البقرةِ"، وأنَّ الحوامِلَ يستحققْنَ النفقةَ، فهل استِحْقاقُهُنَّ على كُلِّ حالٍ، سواءٌ كُنَّ مُطَلَّقاتٍ أو مُتَوَفى عنهن، كَما أنَّ هذا حُكْمُهُنَّ في العِدَّةِ؛ تقديماً لعمومِ هذهِ الآيةِ على عُمومِ آيةِ البقرةِ، فكذلك يطلَقُ عُموم هذهِ الآيةِ في الحواملِ، فيجب في الحاملِ المُتَوَفَّى عنها النفقةُ حَتَّى تضعَ، أو أَنَّه خاصٌّ بالمطلقة؟ قلنا فيه للسلفِ مذهبان: أحدهما: التعميمُ؛ لهذهِ الآيةِ وإيجاب النفقةِ للحاملِ المتوفَّى عنها، ويروى عن عَلِيٍّ، وابنِ عمرَ، وشُرَيْحٍ، والشعبيِّ، والنَّخَعِيِّ، وابنِ سيرينَ، والثوريِّ (¬3). ¬
والثاني: التخصيصُ بالمطلقةِ، وتسقطُ نفقةُ الحاملِ المتوفَّى عنها كَما يسقطُ سائرُ النفقاتِ بالموت، ولأنَّ اللهَ سبحانَهُ قد نسخَ المَتاع إلى الحَوْل في حَقِّ الحائِل، فيتبعُها الحامِلُ، ويروى هذا القولُ عن جابرٍ، وابن عباسٍ، وابن المسيِّبِ، وعطاءٍ، وحَسَنٍ (¬1)، وبه قال الفقهاءُ الأربعةُ (¬2)، وإسحاقُ (¬3). * وجعل الله سبحانَهُ السُّكنى معتبرةً بوُجْدانِ الأزواجِ، فيجبُ على الأزواجِ أن يُسْكِنَّ المرأةَ على قَدْرِ سعته منزلاً يليقُ بِحالها؛ لأنَّه منَ الإمساكِ بالمعروفِ (¬4). * وأوجَبَ اللهُ للوالدات المطلقاتِ إيتاءَ الأجورِ على أبِ الطفلِ إذا أرضَعَتْ له الأمّ ولدَها، وإطلاقُ الآيةِ يتناولُ ما إذا كانَ معَ الأبِ مَنْ يرضِعُهُ لَهُ بغيرِ أجرةٍ، فالأجرةُ واجبةٌ للأمِّ، وهو كذلكَ (¬5). وفي وَجْهٍ للشَّافعيةِ لا تَجِبُ لَها على الأبِ في هذهِ الحالِ أجرةٌ (¬6)، وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ اللهَ سبحانَهُ أطلق لها الاستحقاقَ، ولم يُجَوِّزِ الانتقالَ إلى الأخرى إلَّا عندَ التَّعاسُرِ؛ بأنْ تطلُبَ أكثرَ منْ أُجْرَةِ المثل، ولأنَّ الأمَّ بطفلِها أرفقُ وأشفقُ. وقَدْ تقدَّم الكلام على قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} إلى آخر الآية. * * * ¬
سورة التحريم
سورة التحريم
من أحكام الأيمان
(من أحكام الأيمان) 260 - 261 (1 - 2) قوله تَعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)} [التحريم: 1 - 2]. * أقول: الكلامُ في هذهِ الآيةِ صَعْبٌ شديدٌ، ولهذا اختلفَ الصَّدْرُ الأولُ في هذهِ المسألةِ على بِضْعَةَ عَشَرَ قولاً، وهي تَتَّضِحُ -إنْ شاءَ اللهُ تَعالى- بالكلامِ في أمرينِ: الأمر الأول: سببُ نزولِ هذه الآية. فالذي ذهبَ إليهِ أهلُ التفسيرِ، واشْتُهِرَ عندَهُم أَنَّها نزلَتْ في مارِيَةَ جاريةِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. يروى أن النبيَّ -صَلَّى الله عليه وسلم - دخلَ على حَفْصَةَ في يومِ نَوْبَتِها، فخرجت لبعضِ شَأْنِها، فأرسلَ رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عليه وسلم - إلى ماريَةَ، وأدخَلَها بيتَ حَفْصَةَ، وواقَعَها، فلما رَجَعَتْ حَفْصَةُ، علمتْ بذلك، فغضبتْ، وبكتْ، وقالتْ: مالِي حُرْمَةٌ وحقٌّ عندكَ؟ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اسْكُتي، فَهِيَ حَرامٌ عَلَيَّ"، فأنزلَ اللهُ تَعالى هذهِ الآيةَ (¬1). والذي ذَهَبَ إليهِ أهلُ الحديثِ أَنَّها نَزَلَتْ في تركِه لِشُرْبِ العسل. ¬
روينا في "الصحيحين" عن عطاءٍ أَنَّه سمعَ عُبَيْدَ بنَ عُمَيْرٍ يقولُ: سَمِعْتُ عائشةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنها- تقولُ: إن النَّبي -صَلَّى الله عليه وسلم - كانَ يمكُثُ عندَ زينبَ بنتِ جَحْشٍ، ويشربُ عندَها عَسَلاً، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنا دخلَ عليها النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فَلْتَقُلْ: إنِّي أجدُ منكَ ريحَ مَغافيرَ، هلْ أكلتَ مغافيرَ؟ (¬1) فدخلَ على إحداهُما، فقالتْ له ذلكَ، فقالَ: "لا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَينبَ بنْتِ جَحْشٍ، ولَنْ أعودَ لَهُ"، فنزلَتْ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (¬2) [التحريم: 1]. وفي بعضِ ألفاظ البُخاريّ: "ولكنِّي شربْتُ عَسَلاً عندَ زينبَ بنتِ جَحْشٍ، ولَنْ أعودَ لَهُ، وقدْ حَلَفْتُ لا تُخْبري بِذلِكَ أحدًا" (¬3). قال بعضُ أهلِ العلمِ بالحديثِ: والصحيحُ في نزولِ هذهِ الآية أَنَّها في قِصَّةِ العَسَلِ، لا في قِصَّةِ مارِيَةَ، فلمْ تأتِ قِصَّةُ ماريةَ -رضيَ اللهُ تُعالى عنها - من طريقٍ صَحيح (¬4). الأمر الثَّاني: هل التحريمُ الذي فرضَ اللهُ سبحانَهُ تَحِلَّتَهُ يمين، أو ليسَ بيمينٍ، وإنَّما صدرَ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مطلَقُ التحريمِ؟ ¬
الظاهرُ مِنَ القرآن أَنَّه لمْ يصدُرْ منَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يمينٌ، وإنَّما جَعَلَه اللهُ سبحانَه يَميناً؛ لما فيهِ منَ الامتناعِ والحَثِّ على التَّرْكِ. روى سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عباس -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- أنهُ قالَ في الحَرام: يمينٌ يُكفِّرُها، لقدْ كانَ لكمْ في رسولِ اللهِ أُسوِةٌ حسنةٌ، يعني النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، كانَ حَرَّمَ جاريتَه، قال الله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2] فَكَفَّرَ عن يمينهِ، وَصَيَّرَ الحَرام يميناً (¬1). وروي عن عُمَرَ وعائِشَةَ أنهما قالا في الحَرامِ: يمينٌ يُكَفِّرُها (¬2). وقال قومٌ: آلى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وَحرَّمَ (¬3). قالَ قتادةُ: هو أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لحفصَةَ: "اسكُتي، فواللهِ لا أَقْرَبُها، وهيَ عَلَيَّ حَرامٌ (¬4). وكذا قالَ زيدُ بنُ أسلمَ من أنَّ النَّبي -صَلَّى الله عليه وسلم - حَرَّمَ أُمَّ إبراهيمَ، قال: "أنتِ عَلَيَّ حَرامٌ، والله، لا أَمَسُّكِ" (¬5)، (فأنزلَ اللهُ في ذلك). وقال مسروقٌ: آلى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وحَرَّمَ، فأنزلَ اللهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ ¬
تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، فجعلَ الحَرام حَلالاً، وجعلَ في اليمين كَفَّارَةً (¬1) (¬2). إذا تقررَ هذا، فالذين قالوا: إنَّ التحريمَ يمينٌ بكلِّ حالٍ، ولم يذكروا عن النَّبي -صَلَّى الله عليه وسلم - يميناً غيرَ التحريم، أَوْجَبوا فيه كفارةَ يمينٍ بكلِّ حالٍ، وإن نَوى الطلاقَ، أو الظِّهارَ أو التحريم، فلا شيءَ إلَّا كفارَةُ يمينٍ. وهو ظاهِرُ القرآنِ، وهذا مذهبُ ابنِ عباسٍ وجماعَةٍ من التّابعين. روينا في "صحيح البخاري" عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ أَنَّه سمعَ ابنَ عباسٍ يقولُ: إذا حَرَّمَ امرأته، ليسَ بشيء، وقالَ: لقدْ كانَ لكمْ في رَسولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (¬3). وفي "صحيحِ مسلم" عن ابن عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- قال: إذا حَرَّمَ الرجلُ امرأتهُ فهيَ يمين يُكَفِّرُها (¬4). والذين قالوا: صدرَ منهُ يمين كما وردَ في بعضِ ألفاظِ البُخاري، اختلفوا. فمنهم من رآه كَذِباً، فهو كتحريمِ الماءِ، فلا شيءَ عليهِ؛ لقوله تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]. ¬
وبهذا قالَ مسروقٌ، وأبو سَلَمَةَ بنُ عبدِ الرَّحمن، والشعبيُّ (¬1). ومن أهلِ العلمِ من شَبَّهَهُ بالظِّهارِ؛ لِما فيه من المُنْكَرِ وقولِ الزُّورِ والعَوْدِ إلى ما قالَ وهو قولُ إسحاقَ بنِ راهويه (¬2). وذهبَ الجُمهور من أهلِ العلمِ إلى أنَّه لفظٌ صريحٌ في التحريمِ مصروفٌ (¬3) بالنيةِ إلى وجوهِ التحريمِ من البَيْنونَةِ والطَّلاقِ الرَّجْعِيِّ والظِّهارِ والامتناعِ باليمين، فحينئذ اختلفَتْ بهمُ الطرقُ: فذهبَ مالكٌ إلى أنَّه يقعُ بهِ ثلاثُ طلقاتٍ، سواءٌ كانَتِ المرأةُ مَدْخولاً بها، أم لا، لكن إن نوى أقلَّ من الثلاثِ في غيرِ المَدْخولِ بها قُبِلَ؛ لحصولِ البينونة (¬4). ويروى هذا القولُ عن عَلِي، وزيدِ بنِ ثابتٍ، وبهِ قالَ الحَسَنُ، والحَكَمُ (¬5). وهذا من مالِكٍ على أصلهِ في الكناية الظاهرة؛ كقوله: حَبْلُكِ على غاِربِكِ، وأنتِ خَلِيَّةٌ؛ فإنَّه لا يقبلُ دعوى الزوجِ فيما دونَ الثلاثِ في المدخول بِها، ويقبلُ دعواهُ في غيرِ المدخول بها. وقيل: لا تقبلُ الدَّعوى سواءٌ كانتِ الزوجةُ مَدْخولاً بها، أم لا. وهو قولُ عبدِ الملكِ بنِ الماجشون، ويروى عنِ ابنِ أبي ليلى، ¬
ويروى عنهُ مثلُ قولِ مالِكٍ الأَوَّلِ (¬1). وقيل: يقعُ به في المدخولِ بها ثلاثٌ، وفي غيرِ المدخولِ بها واحدةٌ، وبه قال أبو مُصْعَبٍ، ومحمدُ بنُ الحَكَم المالكيان (¬2)، ونُقِلَ عن مالكٍ قولٌ أنَّه يقعُ به طلقة واحدةٌ بائنةٌ سواءٌ المدخولُ بها وغيرُها (¬3)، وهو ضعيفٌ مخُالِفٌ لقواعدِه؛ فإنَّه إنَّما ذهبَ إلى إيقاعِ الثلاثِ في الكناية الظاهرة، وإن كانَ لا يوقعُ الثلاثَ باللفظِ الصريحِ؛ لأنَّ الظاهرَ من هذهِ الألفاظِ البَيْنُونة، والبينونةُ لا تحصلُ إلَّا بالثلاثِ، أو بعِوَضٍ، ولم يكنْ هناك عِوَضٌ، فتعينَ الثلاثُ، وأمَّا البينونةُ بطلقةٍ واحدةٍ بغيرِ عِوَضٍ، فغيرُ معروفٍ في الشرع. وقال عبدُ العزيز بنُ سَلَمَةَ المالكي: تقعُ بهِ طلقة رجعيةُ (¬4)، وهو مخالفٌ لمذهبِ مالكٍ في الكنايةِ الظاهرة. وذهب أبو حنيفةَ إلى أَنَّه إن نَوى الطلاقَ، وقعتْ طلقة واحدةٌ، بائنةٌ، وكذا إن نَوى ثلاثاً أو اثنتين، فلا تقعُ إلَّا واحدةٌ (¬5)، وهذا على أصله أَنَّ الطلاقَ بالكِناية لا يقعُ إلَّا بالنيَّةِ، وأنه إذا نَوى العددَ بالطَّلْقَةِ الواحدةِ، فلا يفيد العدد. وأمَّا كونُها بائنةً، فلأنّ المرادَ بهذا اللفظ قطعُ العصمة، وقطعُها لا يحصُل إلَّا بالبينونة، ولم تكن ثلاثَ تطليقاتٍ، ولا اللفظُ يصلحُ للثلاثِ عنده، فجعله طلقةً بائنةً، وإن لم ينوِ شيئاً، فهو يمين، وإن نَوى الكَذِبَ، فَلَغْوٌ. ¬
وقالَ زُفَرُ مثلَ هذا القول، إلَّا أنَّه إنْ نَوى اثنتين، وقعتا (¬1). وذهبَ الشافعيُّ إلى أنَّه إن نوى الطلاقَ، كانَ طلاقاً، فإن نوى واحدةً، فواحدةً، وإن نَوى اثنتين أو ثَلاثاً، فما نوى، وإن نوى الظِّهارَ، كانَ ظهارًا؛ لانصراف الكنايات بالنية، ولأن أصلَه أنَّ اللفظَ في صريحِ الطلاقِ وكنايتهِ يقعُ للواحدةِ وللاثنتينِ وللثلاثِ بالنيَّة، بدليلِ حديثِ رُكانَةَ المشهورِ. وإن نوى تحريمَ عَيْنِها بغير طَلاقٍ ولا ظِهارٍ، لزمَهُ بنفسِ اللفظِ كفارةُ يميني كَما هو ظاهرُ القرآن، وإن لم يَنْوِ شيئًا، ففيه قولان: أظهرهما (¬2): أن عليه كَفَّارةَ يمين. والثاني: قولُه لغوٌ لا شيءَ فيهِ (¬3). ويروى مثلُ قوله عن أبي بكرٍ، وعمرَ، وغيرِهما من الصحابةِ والتابعينَ -رضيَ اللهُ تعالى عنهم- (¬4). وذهب الثوريُّ إلى أنَّه إن نَوى الطلاقَ، فطلاقٌ، وإن نوى واحدة أو عددًا، فما (¬5) نوى، أو يَميناً، فهو ما نوى (¬6)، وإلَّا، فلغوٌ؛ كأحدِ قولَي الشَّافعيِّ (¬7). وذهبَ الأوزاعيُّ إلى مثلِ قولِ الثوريِّ، إلَّا أنَّه قال: إذا لم ينوِ شيئًا، ¬
لزمَهُ كفارَةُ يمينٍ، وهو كأحدِ قولَي الشَّافعيِّ أيضاً -رحمهم اللهُ تعالى- (¬1). * فإن قلتَ: هذا الذي شرحتَه في الزوجة، فما حكمُ الأَمَةِ إذا قال: هيَ عَلَيَّ حَرامٌ كَما ورد ذلك في مارية. قلتُ: ذهبَ الشافعيِّ إلى أنَّه إن نوى عتقَها، عتقَتْ، وإن نوى تحريمَ عينها، لزمَهُ كفارَةُ يمينٍ، وإن لم ينوِ شيئًا، وجب كفارَةُ يمينٍ، على الصَّحيح (¬2). وقال مالك: هذا في الأَمَةِ لَغْوٌ لا يترتَّبُ عليه شيءٌ (¬3). وفي هذا ضَعْفٌ لإخراجِهِ السَّبَبَ عن الحُكْمِ، إلَّا أن يكونَ مذهبُه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - آلى كما قالَهُ بَعْضُ مَنْ قَدَّمْتُ ذكرَهُ. وقالَ عامَّةُ أهلِ العلمِ: عليه كفارةُ يمينٍ بنفسِ التحريمِ؛ لظاهرِ القرآنِ (¬4). ولكن قالَ أبو حنيفةَ: يحرُمُ عليهِ ما حَرَّمَهُ من أَمَةِ وطعامٍ وغيرِهِ، ولا شيءَ عليه حَتَّى يتناوله، فيلزمُهُ حينئذٍ كفارةُ يمينِ (¬5). وذهبَ مالكٌ والشافعيُّ والجُمهورُ إلى أنَّه لَغْوٌ في غيرِ الزَّوجةِ ¬
والأَمَةِ (¬1)، والدليلُ عليه ما رُوي أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بأبي إسرائيل وهو قائِمٌ في الشَّمسِ، فسألَ عنهُ، فقالوا: هذا أبو إسرائيلَ نذرَ أن يقومَ ولا يقعدَ، ولا يستظِلَّ ولا يتكلَّمَ، ويصومَ ولا يفطر، فقال: "مُروهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، ولْيَسْتَظِلَّ، ولْيَقْعُدْ، ولْيُتِمَّ صَوْمَهُ" (¬2)، ولم يأمرْهُ بكَفَّارَةٍ. * * * ¬
سورة المزمل
سورة المزمل
من أحكام قيام الليل
(من أحكام قيام الليل) 263 - 262 (1 - 4) قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 1 - 4]. * أمر اللهُ عزَّ وجَل نبيَّه مُحَمَّداً - صلى الله عليه وسلم - بقيامِ الليلِ إلَّا قليلاً منهُ، ثم بَيَّنَ القَدْرَ المأمورَ بهِ الذي اسْتبهَمَ لدخولِ الاستثناءِ، فقال: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 3 - 4] فيكونُ المأمورُ به إما النِّصْفُّ، أو الثلثُ، أو الثُّلُثانِ، على وَجْهِ التخيير لَه - صلى الله عليه وسلم -. فإن قلتَ: فهل المُبَيَّنُ المستثنى أو المستثنى منه؟ قلت: الحكمُ واحدٌ، سواءٌ جعلْنا التبيينَ للمستثنى منه، أو للمستثنى؛ للتلازمِ الذي بين المستثنى والمستثنى منه، ولكنه لا يجوز صرف البدلِ والبيانِ إلَّا إلى المستثنى منه؛ لأنَّه الفعل المأمورُ بهِ، وقد أمرَ اللهُ سبحانَهُ بالزيادةِ عليه، والنُّقصانِ منه، وأمَّا المستثنى، فإنه تركُ القيامِ، والتركُ ليسَ بمأمورٍ به؛ بدليل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20]. وهذا الأمرُ كانَ في صَدْرِ الإسلام، وكان رسولُ اللهِ -صَلَّى الله عليه وسلم - وأصحابُه يقومون الليلَ حتَّى انتفخَتْ أقدامُهُم (¬1). ¬
* والمتعلِّقُ بهذهِ الأُمَّةِ من الأحكامِ خمسةٌ: الأول: الأمرُ هل هو للوُجوبِ أو الندبِ؟ ذهبَ أكثرُ أهلِ العلمِ أو عامَّتُهم إلى أنهُ للوجوبِ والحَتْمِ. وقالَ مَنْ لا يُعْتَدُّ بقوله: إنه للندب. وهو باطلٌ لا دليلَ عليه، بل الدليل واجبٌ على أنَّه للوجوبِ، وهو قولُه تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، ولا تكونُ التوبةُ والتخفيفُ إلَّا مِنْ واجِبٍ (¬1). الحكم الثَّاني: هل هذا الحكمُ خاصٌّ بالنبيِّ -صَلَّى الله عليه وسلم -، أو شاملٌ لأمتَّهِ معه؟ فذهب أكثرُهُم أو عامَّتُهم إلى دخولِ أمتهِ في هذا الخِطاب (¬2)؛ بدليل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل: 20]، وبدليل قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]. وذهبَ مَنْ لا يُعْتَدُّ بقولهِ إلى خُروج أُمَّتِهِ منْ هذا الخِطاب (¬3)، وهو باطلٌ، لِما ذكرتُه. ¬
الحكم الثالث: أجمعَ أهلُ العلم على أنَّ هذا الحكمَ منسوخٌ (¬1) في حَقِّ أُمَّتِهِ - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]. قال ابنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما:- كانَ بينَ أَوَّلِ المُزَّمِّلِ وآخرِها قريبٌ من سنَةٍ (¬2). ثمّ يحتملُ أن يكونَ الناسخُ الذي أُمروا به، وهو ما تيَسَّرَ من القرآنِ أن يكونَ حَتْماً لازِماً. ويحتملُ أن يكون نَدْباً، ويكون هذا مِمَّا نسخَ الوجوبُ فيهِ بالندب (¬3). فإن كانَ نَدْباً، فقد أجمعتِ الأُمَّةُ على [استحبابِ التهجدِ بالليلِ لكلِّ أحدٍ من الأمَّةِ، وإن كان حتماً -وهو الظاهرُ- فقد أجمعتِ الأُمَّةُ على] (¬4) أنَّه لا يجبُ على أحدٍ من الأمةِ قيامُ شيءٍ من اللَّيل؛ لما روى طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ الله -رضيَ الله تعالى عنه- قال: جاءَ أعرابيٌّ من أهلِ نجدٍ ثائرَ الرأسَ يُسْمَعُ دَوِيُّ صوته ولا نَفْقَهُ ما يقولُ حتَّى دَنا من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو يسألُ عن الإِسلام، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسُ صَلَواتٍ في اليومِ واللَّيلَةِ"، قال: هلْ ¬
على غيرُها؟ قال: "لا، إلَّا أن تَطَوَّعَ" (¬1)، خَرَّجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ. ثم هذا الحكمُ منسوخٌ بغيرهِ كما نُسِخَ بهِ غيرُه، وعلى هذا أكثرُ النَّاسِ (¬2)؛ بدليل الإجماعِ على أنَّه لا يجبُ أكثرُ من خَمْسِ صلواتٍ، وبدليلِ حديثِ طلحةَ بنِ عبيدِ اللهِ. قال الشافعيُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-: ويقال: نُسِخَ ما في المُزَّمِّلِ بقولهِ عزَّ وجَلَّ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 78 - 79] فأعلمَه أنَّ صلاةَ الليلِ نافلة لا فريضة، وأن الفرائضَ فيما ذكرَ من ليلٍ أو نهارٍ (¬3). الحكم الرابع: دخولُ النَّبيِّ -صَلَّى الله عليه وسلم - معَ أُمَّتِهِ في النَّسخِ لقيامِ الليلِ. اختلفَ فيه أهلُ العلمِ: فالصحيحُ عندَ الشافعيةِ أنَّ الوجوبَ منسوخ في حَقِّه (¬4). وذهبتِ المالكيةُ إلى بقاءِ الوجوبِ عليه (¬5) - صلى الله عليه وسلم - (¬6)، قال ابنُ عباس -رضيَ اللهُ تَعالى عنهما-: {نَافِلَةً لَكَ} معناهُ: فرضٌ عليكَ خاصَّةً (¬7). ¬
الحكم الخامس: أمرَ اللهُ سبحانَه بترتيلِ القرآنِ، وهو أن يُبيِّنَ القارىُء القرآنَ، ويتبعَ بعضَه بَعْضاً في تُؤَدَةٍ؛ بحيثُ يكونُ مُصَحّحاً للحروفِ، مُقيماً لَها بإخراجها من مَخارِجِها، فلا يجوزُ للقارئِ أن يتركَ هذا الترتيلَ، فيدرجَ بعضَ كلماتِه أو بعضَ حروفِه في بعضٍ، فبالترتيل يتفقَّهُ القارئُ، ويفهمُ مرُادَ الله عز وجَلَّ (¬1). قالَ أبو الدَّرْداءِ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه-: إياكم والهَذَّاذين الذين يَهُذُّون القرآنَ، ويُسرعون بقراءته؛ فإنَّما مثلهُ كمثلِ الأَجَمَةِ (¬2) التي لا أَمْسَكَتْ ماءً، ولا أنبتَتْ كَلاً (¬3). وعن إبراهيمَ، عن (¬4) علقمة قال: قال ابنُ مسعودٍ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه-: لا تنثُروهُ نثرَ الدَّقَل (¬5)، ولا تَهُذوهُ هَذَّ الشِّعْر، قِفوا عندَ عجائِبِه، وحَرِّكوا بهِ القُلوبَ، ولا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورة (¬6). * * * وهذا ما يَسَّرَ اللهُ الكريُم تعليقَه من آياتِ الأحكامِ، وإنْ كانَ قدْ بقيَ في القرآنِ المجيدِ آياتٌ كثيرة تتعلَّقُ بالأَحْكام تركْتُ الكلامَ عليها طَلَباً للاختصار، وذلكَ إمَّا لاندراجِها في أحكامِ الناسِخِ، أو في أحكامِ المنسوخ، ¬
أو لذكرِ أحكامِها في غيرِها، أو لغيرِ ذلكَ. والحمدُ للهِ الذي هدَانا لهذا، وما كُنا لنهتَدِيَ لولا أن هدانا الله. وأسألُ اللهَ الكريمَ البَرِّ الرحيمَ أن ينفعَني بهِ والمسلمينَ في الآخِرَةِ والأولى، ويجعلَه سببًا وزُلْفى إليهِ ربِّ العالمين، إنه كريمٌ وَهَّابٌ، والحمدُ للهِ رَبِّ العالمين. وكانَ الفراغُ من تعليقهِ صبيحةَ يومِ الثلاثاءِ لخمسٍ بَقِيْنَ من شَهْرٍ جُمادى الأولى سنةَ ثمانٍ وثماني مئةٍ، وأرجو من فضلِ اللهِ الكريمِ وتمامِ نعمتِه أن يُيَسِّرَ لي وضعَ الكِتاب الذي أَهُمُّ بهِ في "أحكامِ القرآنِ المجيدِ المتعلقةِ بأصولِ الدِّياناتِ، وصَحيحِ الاعتقاداتِ" بطريقٍ قَدْ دَرَسَتْ، وآثارٍ قد طُمِسَتْ، ألا وهيَ طريقُ السَّلَفِ الصالحِ، والأَئِمَّةِ الناصحينَ، الخاليةِ من أضاليلِ الضالين، وزخرفةِ المُبْتَدِعين. ونسألك اللَّهُمَّ الهدايةَ والعِصْمَةَ وحُسْنَ الاتِّباعِ لكتابك، والاقتداءَ بسُنَّةِ رسولِكَ محمدٍ النَّبي الأميِّ (¬1)، اللهمَّ صَلِّ عليهِ وعلى آلَهِ كما صَلَّيْتَ عَلى إبْراهيمَ، وعَلى آلِ إبراهيمَ، إنَّكَ حَميدٌ مجيد، يا كريم. * * * ¬
تراجم الأعيان في تيسير البيان
تراجم الأعيان في تيسير البيان
تراجم الأعيان في تيسير البيان 1 - أبان بن عثمان بن عفان، الإمام الفقيه الأمير، أبو سعد بن أمير المؤمنين أبي عمرو الأموي المدني، سمع أباه، وزيد بن ثابت، حدث عنه عمرو بن دينار، والزهري، وأبو الزناد، وجماعة، له أحاديث قليلة، ووفادة على عبد الملك، قال عمرو بن شعيب: ما رأيت أحداً أعلم بحديثٍ ولا فقهٍ من أبان بن عثمان، مات سنة (105 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 151)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 353)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة: 141). 2 - إبراهيم بن السّري بن سهل، أبو إسحاق النحوي، أخذ عن ثعلب والمبرد، ولازم المبرد مدة طويلة، وكان يخدمه ويدفع له درهماً في اليوم مقابل تعليمه، وكان من أهل الدين والفضل، حسن الاعتقاد، جميل المذهب، وله مصنفات حسان في الأدب؛ كـ "النوادر"، و"معاني القرآن" وغيرهما. مات سنة (311 هـ). انظر: "معجم الأدباء" (1/ 130)، و"البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" (45)، و"بغية الوعاة" (1/ 411). 3 - إبراهيم بن خالد، أبو ثور، ويكنى -أيضاً- أبا عبد الله، الكلبي البغدادي الفقيه الحافظ الحجة المجتهد مفتي العراق، كان أحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وورعاً وفضلاً، صنف الكتب، وفرّع على السنن، وذبَّ عنها، مات سنة (240 هـ) وقد عاش سبعين سنة أو أكثر. انظر: "تاريخ بغداد" (6/ 65)، و"سير أعلام النبلاء" (12/ 72)، و"تذكرة الحفاظ" (2/ 512)، و"وفيات الأعيان" (1/ 26). 4 - إبراهيم بن علي بن يوسف، أبو إسحاق الفيروز أبادي الشيرازي الشافعي نزيل بغداد، الشيخ الإمام القدوة المجتهد، شيخ الإسلام، كان يضرب به المثل بفصاحته وقوة مناظرته، وكان ثقة فقيهاً زاهداً في الدنيا، ولم يتزوج، وبحسن نيته في العلم اشتهرت تصانيفه في الدنيا؛ كـ"المهذب"، و"التنبيه"، و"اللمع في أصول الفقه"، وغيرها. مات سنة (476 هـ) ببغداد. انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 172)،
و"سير أعلام النبلاء" (18/ 452)، و"العبر" (3/ 283)، و"طبقات السبكي" (4/ 215). 5 - إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الإسفراييني، الإمام العلامة الأوحد الأستاذ الأصولي الشافعي الملقب ركن الدين، أحد المجتهدين في عصره، وصاحب المصنفات الباهرة، كان فقيهاً متكلماً أصولياً، أقر له أهل العلم بالعراق وخراسان بالتقدم والفضل، بنى بـ"نيسابور" مدرسة لم يبن قبلها مثلها، ودرس فيها وحدَّث، ومن تصانيفه: "الرد على الملحدين" في خمس مجلدات. مات سنة (418 هـ). انظر: "تبيين كذب المفتري" لابن عساكر (178)، و "سير أعلام النبلاء" (17/ 353). 6 - إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود، أبو عمران النخعي الكوفي، فقيه العراق، روى عن علقمة ومسروق والأسود وطائفة، ودخل على أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وهو صبي، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان الفقيه، وسماك بن حرب، وخلق كثير، كان من العلماء ذوي الإخلاص، وكانت له هيبة كهيبة الأمراء، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، مات سنة (95 هـ) كهلاً، قال الشعبي: ما خلف بعده مثله. انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 270)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 520)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 73)، و"وفيات الأعيان" (1/ 25). 7 - أبو سعد بن أحمد بن أبي يوسف، تلميذ القاضي أبي عاصم العبّادي، وقاضي همذان، كان أحد الأئمة، له "شرح أدب القضاء" للعبادي، وهو المسمى "بالإشراف على غوامض الحكومات"، وكان له غرائب في الفقه والأصول، كان حياً في حدود الخمس مئة أو قبلها بيسير. انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي (5/ 365)، "وطبقات الإسنوي" (2/ 519). 8 - أبو سعيد بن المعلَّى الأنصاري المدني، يقال: اسمه رافع بن أوس، وقيل: الحارث، ويقال: نفيع، صحابي جليل، مات سنة (74 هـ) وله أربع وستون سنة. انظر: "الإصابة في تمييز الصحابة" (4/ 88)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة: 8122). 9 - أبو صالح: واسمه باذام، روى عن مولاته أم هانئ، وأخيها علي، وأبي هريرة، وعنه مالك بن مغول، والثوري، والكلبي، وغيرهم، كان عامة ما يرويه في التفسير، وقد ضعفه البخاري، ويحيى بن معين، والنسائي، وابن عدي، وعبد الحق الإشبيلي. وقال يحيى القطان: لم أر أحداً من أصحابنا تركه. مات سنة (120 هـ) تقريباً.
انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 302)، و"سير أعلام النبلاء" (5/ 37)، و"ميزان الاعتدال" (1/ 266). 10 - أبو عُبيد القاسم بن سلاّم الأزدي، مولى بني الأزد، الإمام في الفنون، كان مؤدباً، ولم يكتب الناس أصحَّ من كتبه ولا أكثر فائدة، قال إسحاق بن راهويه: يحبُّ الله الحق، أبو عبيد أعلم مني، ومن أحمد بن حنبل، ومن محمد بن إدريس الشافعي، من تصانيفه: "غريب الحديث"، و"الأموال"، و"الأمثال"، وغير ذلك. جاور بمكة إلى أن توفي سنة (224 هـ). انظر: "معجم الأدباء" (16/ 254)، و"إنباه الرواة" (3/ 12)، و"البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" (172)، و"بغية الوعاة" (2/ 253). 11 - أحمد بن أبي أحمد، أبو العباس الطبري ثم البغداي الشافعي، تلميذ أبي العباس بن سريج، الإمام الفقيه شيخ الشافعية، حدث عن أبي خليفة الجمحي وغيره، وكان من أئمة الشافعية، وصنف في المذهب "كتاب المفتاح"، و"كتاب أدب القاضي" وغيرهما. توفي مرابطاً بطرسوس سنة (335 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (15/ 371)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (3/ 59)، و"شذارت الذهب" (2/ 339). 12 - أحمد بن أبي طاهر بن محمد بن طاهر بن محمد بن أحمد، أبو حامد الإسفراييني، الأستاذ، العلامة، شيخ الإسلام، وشيخ الشافعية ببغداد، برع في المذهب، وأربى على المتقدمين، وعظم جاهه عند الملوك، انتهت إليه رئاسة الدين والدنيا ببغداد، وطبق الأرض بالأصحاب، وجمع مجلسه ثلاث مئة متفقه، وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعي، لفرح به. مات سنة (406 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" (4/ 368)، و"سير أعلام النبلاء" (17/ 193)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (4/ 61). 13 - أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوجردي، أبو بكر البيهقي الخراساني، -منسوب إلى "بيهق"، وهي: عدة قرى من أعمالَ نيسابور على يومين منها- الحافظ العلامة الثبت الفقيه شيخ الإسلام، كان على سيرة العلماء، قانعاً باليسير، متجملاً في زهده وورعه، بورك له في علمه، فصنف تصانيف عظيمة القدر، غزيرة الفوائد. قال إمام الحرمين: "ما من فقيه شافعي إلا وللشافعي عليه منة، إلا أبا بكر البيهقي، فإن المنة له على الشافعي"؛ لتصانيفه في نصرة مذهبه. مات سنة (458 هـ).
انظر: "تبيين كذب المفتري" لابن عساكر (265)، و"سير أعلام النبلاء" (18/ 163)،و"تذكرة الحفاظ" (2/ 1132)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (4/ 8). 14 - أحمد بن علي، أبو بكر الرازي الحنفي، صاحب التصانيف، وإمام أصحاب الرأي في وقته، كان مشهوراً بالزهد والورع، ورد بغداد ودرس الفقه على أبي الحسن الكرخي، ولم يزل حتى انتهت إليه الرياسة، ورحل إليه المتفقهة، وله تصانيف كثيرة مشهورة، يحتج بها بالأحاديث المتصلة بأسانيد، مات سنة (370 هـ) وله خمس وستون سنة. انظر: "تاريخ بغداد" (4/ 314)، و"سير أعلام النبلاء" (16/ 340). 15 - أحمد بن عمر بن سريج، أبو العباس البغدادي القاضي الشافعي، الإمام، شيخ الإسلام، فقيه العراقين، صاحب التصانيف، وبه انتشر مذهب الشافعي ببغداد، وتخرج به الأصحاب، وقد ولي القضاء بشيراز، وكان يفضل على جميع أصحاب الشافعي حتى على المزني، توفي سنة (306 هـ). 16 - أحمد بن فارس بن زكريا أبو الحسين اللغوي القزويني الرازي، كان إماماً في علوم شتى خصوصاً اللغة؛ فإنه أتقنها، وكان الصاحب بن عبَّاد يكرمه ويتتلمذ له، ويقول: شيخنا أبو الحسين ممن رزق حسن التصنيف وأمِنَ فيه من التصحيف، وقد كان فقيهاً شافعياً، فصار مالكياً، وقال: دخلتني الحميَّةُ لهذا البلد -يعني: الري-، كيف لا يكون فيه رجل على مذهب هذا الرجل. له كتاب: "المجمل"، و"مقاييس اللغة"، و"فقه اللغة"، و "غريب إعراب القرآن"، وغيرها. مات سنة (395 هـ). انظر: "معجم الأدباء" (4/ 80)، و "نزهة الألباء" (392)، و"إنباه الرواة" (1/ 92)، و "البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" (ص: 61)، و "بغية الوعاة" (1/ 352). 17 - أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس النحاس، أبو جعفر المصري النحوي، رحل إلى بغداد فأخذ عن المبرد والأخفش ونفطويه والزجاج وغيرهم، ثم عاد إلى مصر فأقام بها حتى موته، وقد روى عنه النسائي والطحاوي في الحديث، ومصنفاته تزيد على الخمسين منها: "إعراب القرآن"، و"معاني القرآن"، و"الناسخ والمنسوخ"، وغيرها. مات سنة (338 هـ) وسبب موته أنه كان يقطعُ بحراً من العَروض على شاطئ النيل، فسمعه بعض العامة فقال: هذا الشيخ يسحر النيل، فركله برجله، فذهب في النيل، فكان آخر العهد به. انظر: "معجم الأدباء" (4/ 224)، و"إنباه الرواة" (101)، و"البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" (62)، و"بغية الوعاة" (1/ 362).
18 - أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة، أبو جعفر الأزدي الحجري المصري الطحاوي الحنفي، (وطحا من قرى مصر)، ابن أخت المزني، الإمام العلامة الحافظ، صاحب التصانيف البديعة، صنف في اختلاف العلماء، وكتاب "معاني الآثار"، مات سنة (321 هـ) عن بضع وثمانين سنة. انظر: "سير أعلام النبلاء" (15/ 27)، و"تذكرة الحفاظ" (3/ 808). 19 - أحمد بن يحيى بن يسار أبو العباس الشيباني، المعروف بـ"ثعلب"، إمام الكوفيين في النحو واللغة والحديث، قال أبو بكر بن مجاهد: كنت عند أبي العباس، فقال: يا أبا بكر! اشتغل أهل القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أهل الحديث بالحديث ففازوا، واشتغل أهل الفقه بالفقه ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ماذا يكون حالي في الآخرة؟ فانصرفت من عنده تلك الليلة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: "أقرئ أبا العباس عني السلام، وقل له: أنت صاحب العلم المستطيل". رأى أحد عشر خليفةً، أولهم المأمون، وآخرهم المكتفي، وتوفي سنة (291 هـ) وقد بلغ تسعين سنة. انظر: "معجم الأدباء" (5/ 102)، و"نزهة الألباء" (293)، و"إنباه الرواة" (1/ 138)، و"البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" (65)، و"بغية الوعاة" (1/ 396). 20 - إسحاق بن إبراهيم، أبو يعقوب التميمي الحنظلي المروزي، نزيل نيسابور وعالمها، يعرف بابن راهويه، الإمام الحافظ الكبير، وشيخ أهل المشرق، كان أعلم الناس، وأخشى الناس لله، مع الثقة والحفظ، فما رئي أحد أحفظ منه، قال أبو حاتم: العجب من إتقانه وسلامته من الغلط مع ما رزق من الحفظ. مات سنة (238 هـ) وله سبع وسبعون سنة. انظر: "سير أعلام النبلاء" (11/ 358)، و "تذكرة الحفاظ" (2/ 433). 21 - إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، أبو محمد الحجازي ثم الكوفي، الأعور، السُّدِّيِّ، أحد موالي قريش، الإمام المفسر، وقيل: قد كان السدي أعلم بالقرآن من الشعبي، وكان عظيم اللحية جداً، وقد ضعفه بعضهم من جهة حفظه. مات سنة (127 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (5/ 264). 22 - إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر، أبو عبد الله الأصبحي المدني، الإمام الحافظ الصدوق، قرأ القرآن وجوّده على نافع، فكان آخر
تلامذته وفاة، تلا عليه أحمد بن صالح المصري وغيره، وحدث عن أبيه، وخاله مالك بن أنس، وحدث عنه الشيخان وغيرهما، وكان عالم أهل المدينة ومحدثهم في زمانه، على نقص في حفظه وإتقانه، مات سنة (226 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (10/ 391)، و "تذكرة الحفاظ" (1/ 409). 23 - إسماعيل بن علية بن مقسم الأسدي، أبو بشر، مولاهم البصري، وعلية هي أمه، الحافظ الثبت، أحد الأعلام وسيد المحدثين، كان ثقة ورعاً تقياً، مات سنة (193 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (9/ 107)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 322). 24 - إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن مسلم، أبو إبراهيم المزني المصري، الإمام العلامة، فقيه الملة، علم الزهاد، تلميذ الشافعي، كان قليل الرواية، لكنه كان رأساً في الفقه، وكان مجاب الدعوة، ذا تأله وزهد، وقد أخذ عنه خلق من العلماء، وبه انتشر مذهب الشافعي في الآفاق، قال الشافعي: "المزني ناصر مذهبي"، كان يغسل الموتى تعبداً واحتساباً، وهو الذي غسَّل الشافعي -رحمه الله- مات سنة (264 هـ) وله تسع وثمانون سنة. انظر: "سير أعلام النبلاء" (12/ 492)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (2/ 93)، و"وفيات الأعيان" (1/ 217)، و"شذرات الذهب" (2/ 148). 25 - أشهب بن عبد العزيز بن دواد، أبو عمر القيسي العامري المصري، يقال: اسمه مسكين، وأشهب لقب له، الإمام العلامة الفقية مفتي مصر، قال فيه الشافعي: ما أخرجت مصرُ أفقه من أشهب، لولا طيش فيه، وقد كان فقيهاً حسن النظر والرأي. مات سنة (204 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (9/ 500)، و"العبر" (1/ 345)، و"وفيات الأعيان" (1/ 238)، و "شذارت الذهب" (2/ 12). 26 - الإمام محيي الدين يحيى بن شرف بن مري أبو زكريا النووي الحزامي الحوراني الشافعي، شيخ الإسلام، الإمام الأوحد القدوة، علم الأولياء، صاحب التصانيف النافعة، كان لا يضيع له وقتاً في ليل ولا نهار حتى في الطرق، وقد دام على هذا ست سنين، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق، هذا مع ما هو عليه من المجاهدة لنفسه، والعمل بدقائق الورع والمراقبة، وقد كان حافظاً للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه وعليله، رأساً في معرفة المذهب الشافعي، مات سنة (676 هـ). انظر: "تذكرة الحفاظ" (4/ 1470)، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي (513).
27 - امرؤ القيس بن حُجْر بن الحارث بن عمرو بن حُجر، شاعر جاهلي، كان أبوه ملكاً، فعاش امرؤ القيس حياة مترفة، يشرب الخمر ويستمع للغناء، فنهاه أبوه؛ لأن هذه لم تكن من عادة أبناء الملوك، فلم ينته، فأبعده عنه، فخرج يطوف في أرض العرب، ولما جاء نبأ مصرع أبيه، أخذ يتأهب للأخذ بثأره، فأغار عدة مرات على بني أسد، تسانده قبيلتا تغلب وبكر، فأثخن في بني أسد، ثم هرب؛ لأن المنذر ملك الحيرة طلبه، فرحل إلى القسطنطينية، ثم عاد ومات في أنقرة، وهو من أصحاب المعلقات. انظر: "طبقات فحول الشعراء" (1/ 51)، و"الأغاني" (9/ 77). 28 - أنس بن سيرين، حدث عن جندب البجلي، وابن عمر، وابن عباس، وعنه شعبة، والحمادان، وخلق كثير، وهو أخو الإمام محمد بن سيرين، وقد وثقه يحيى بن معين وغيره، مات سنة (120 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 257)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 622). 29 - أيوب بن أبي تميمة كيسان الغزي، أبو بكر مولاهم البصري الأدمي، السختياني، الإمام الحافظ سيد العلماء، عداده في صغار التابعين، ولد عام توفي ابن عباس سنة (78 هـ)، وقد كان ثقة ثبتاً في الحديث جامعاً، كثير العلم، حجة عدلاً، إليه المنتهى في الإتقان، وقد حج أربعين حجة. مات سنة (131 هـ) بالبصرة زمن الطاعون وله ثلاث وستون سنة. انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 246)، و"حلية الأولياء" (3/ 3)، و"سير أعلام النبلاء" (6/ 15)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 130)، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي (1/ 59). 30 - بكر بن عبد الله بن عمرو، أبو عبد الله المزني البصري، الإمام القدوة الواعظ الحجة، أحد الأعلام، يذكر مع الحسن وابن سيرين، وأضرابهما، كان ثقة ثبتاً، كثير الحديث، حجة فقيهاً، وقد كان معروفاً بتواضعه وزهده، وكان مجاب الدعوة، مات سنة (108 هـ) على الأصح. انظر: "سير أعلام النبلاء" (4/ 532)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة: 743). 31 - تقي الدين عثمان بن المفتي صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان بن موسى، أبو عمرو الكردي الشهرزوري الموصلي الشافعي، المعروف بـ"ابن الصلاح" صاحب "علوم الحديث"، الإمام الحافظ العلامة شيخ الإسلام، أفتى وجمع وألّف، تخرج به الأصحاب وكان من كبار الأئمة، ذا جلالة عجيبة، ووقار وهيبة، غزير المادة من اللغة
والعربية، متفنناً في الحديث، متصوناً، مكباً على العلم، عديم النظير في زمانه، مات (643 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (23/ 140)، و"تذكرة الحفاظ"، (4/ 1430)، "طبقات الشافعية" (8/ 326)، و"وفيات الأعيان" (2/ 243). 32 - ثمامة بن أثال بن النعمان بن حنيفة، الحنفي أبو أمامة اليمامي، ثبت على إسلامه لما ارتد أهل اليمامة، وارتحل هو ومن أطاعة من قومه، فلحقوا بالعلاء بن الحضرمي، فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين، فلما ظفروا، اشترى ثمامة حلة كانت لكبيرهم، فرآها عليه ناس من بني قيس بن ثعلبة، فظنوا أنه هو الذي قتله وسلبه، فقتلوه، وقصة إسلامه مشهورة في كتب السير. انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 550)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (1/ 203). 33 - جابر بن زيد، أبو الشعثاء الأزدي اليحمدي مولاهم البصري الكوفي، كان عالم أهل البصرة في زمانه، يعد مع الحسن وابن سيرين، وهو من كبار تلامذة ابن عباس، وقد كانت له حلقة بجامع البصرة يفتي فيها قبل الحسن، وكان من المجتهدين في العبادة، لبيباً، عالماً بكتاب الله تعالى، قال فيه ابن عباس: تسألوني وفيكم جابر بن زيد! مات سنة (93 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 179)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 481). 34 - جعفر (الصادق) بن محمد بن علي بن الشهيد ريحانة النبي صلى الله عليه وسلم وسبطه ومحبوبه الحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أبو عبد الله القرشي الهاشمي المدني، الإمام الصادق، شيخ بني هاشم، وأحد الأعلام الثقات، رأى بعض الصحابة، وكانت غالب رواياته عن أبيه مراسيل، وقد حدث عنه الأئمة، مات سنة (148 هـ). انظر: "حلية الأولياء" (3/ 192)، و"سير أعلام النبلاء" (6/ 255)، و"وفيات الأعيان" (1/ 327). 35 - جعفر بن محمد بن أبي عثمان، أبو الفضل الطيالسي البغدادي، الإمام الحافظ المجود، سمع يحيى بن معين، وسليمان بن حرب، وخلقاً كثيراً، وكان ثقة ثبتاً، صعب الأخذ، حسن الحفظ، كما كان مشهوراً بالإتقان والحفظ والصدق. مات سنة (282 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" (7/ 188)، و"سير أعلام النبلاء" (13/ 346)، و"تذكرة الحفاظ" (2/ 626)، و"شذرات الذهب" (2/ 178). 36 - جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، ينتهي نسبه
إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه -، الشيخُ الإمام العلامة الحافظ المفسر شيخ الإسلام وعالم العراق وواعظ الآفاق، كان رأساً في التذكير بلا مدافعة، وكان بحراً في التفسير، علامة في السير والتاريخ، موصوفاً بحسن الحديث، ومعرفة فنونه، فقيهاً، عليماً بالإجماع والاختلاف، ذا تفنن وفهم وذكاء وحفظ واستحضار، كتب بخطه ما لا يوصف كثرة، وألف في مختلف الفنون، فمن مؤلفاته: "زاد المسير في علم التفسير"، و"الموضوعات"، و"المنتظم في تواريخ الأمم" وغيرها. مات سنة (597 هـ) وقد قارب التسعين. انظر: "ذيل طبقات الحنابلة" (1/ 401)، و"سير أعلام النبلاء" (21/ 365)، و"تذكرة الحفاظ" (4/ 1342)، و"أبجد العلوم" (3/ 91). 37 - الحارث بن أسد البغدادي، أبو عبد الله المحاسبي، الزاهد العارف، شيخ الصوفية، صاحب التصانيف الزهدية، له كتب كثيرة في الزهد، وأصول الديانة، والرد على المعتزلة والرافضة، تفقه وكتب الحديث، وعرف مذاهب النساك، وكان من العلم بموضع، وكان كبير القدر، مات سنة (243 هـ). انظر: "حلية الأولياء" (10/ 73)، و"تاريخ بغداد" (8/ 211)، و"سير أعلام النبلاء" (12/ 110). 38 - حبيبة بنت أبي تجراة الشيبية العبدرية المكية، قيل: اسمها حَبيبة -بفتح أوله -، وقيل بالتصغير، وقد اختلف في صحابيتها بهذا الحديث على صفية بنت شيبة، وقد روت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً واحداً. انظر: "الطبقات الكبرى" (8/ 247)، و"الاستيعاب" لابن عبد البرّ (4/ 1806)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (ترجمة:11019). 39 - الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد البصري، الإمام شيخ الإسلام، نشأ بالمدينة وحفظ كتاب الله في خلافة عثمان، ثم كبر ولازم الجهاد، ولازم العلم والعمل، وكان أحد الشجعان الموصوفين، وكان عالماً رفيعاً جامعاً ثقة حجة مأموناً عابداً ناسكاً كثير العلم فصيحاً، فقيه النفس، كبير الشأن، عديم النظير. 40 - الحسن بن القاسم، الإمام، شيخ الشافعية، صنف "المحرر في النظر" وهو أول كتاب صنف في الخلاف المجرّد، وصنف "الإفصاح" في المذهب، وألف في الجدل، ومات كهلاً سنة (350 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" (8/ 87)، و"سير أعلام النبلاء" (16/ 62)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (3/ 280). 41 - الحسن بن رشيق القيرواني، مولى الأزد، كان أبوه مملوكاً لرجل من الأزد،
وقد كان شاعراً أديباً نحوياً لغويًّا عروضياً حاذقاً، قال الشعر قبل الحُلُمِ، وكان كثير التصنيف، حسن التأليف، ومن كتبه: "كتاب الشذوذ في اللغة"، و"كتاب العمدة"، و"كتاب قراضة الذهب"، توفي سنة (463 هـ). انظر: "معجم الأدباء" (8/ 110)، و"إنباه الرواة" (1/ 298)، و"البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" (83)، و"بغية الوعاة" (1/ 504). 42 - الحسن بن صالح بن حي، أبو عبد الله الهمداني الثوري الكوفي، الفقيه العابد الإمام الكبير أحد أئمة الإسلام الأعلام، كان صائناً لنفسه في الحديث والورع، وكان إذا نظر إلى المقبرة يصرخ ويغشى عليه. مات سنة (169 هـ)، وقد عاش تسعاً وستين سنة. انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 375)، و"حلية الأولياء" (7/ 327)، و"سير أعلام النبلاء" (7/ 361). 43 - الحسن بن عمارة، مولى بجيلة، الكوفي الفقيه، حدث عن ابن أبي مليكة، وعمرو بن مرة، وعنه السفيانان، ويحيى القطان، قال ابن عيينة: كان له فضل، وغيره أحفظ منه، وقد تركه الإمام أحمد، وابن معين، وابن المديني، ومسلم، وأبو حاتم، والجوزجاني، والدارقطني، وغيرهم مات سنة (153 هـ). انظر: "الكامل في الضعفاء" لابن عدي (2/ 283)، و "ميزان الاعتدال" (2/ 265)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة: 1264). 44 - الحسن بن يزيد، أبو سعيد الإصطخْري الشافعي، الإمام القدوة، العلامة شيخ الإسلام فقيه العراق ورفيق ابن سريج، تفقه بأصحاب المزني والربيع، وكان ورعاً زاهداً متقللاً من الدنيا، له تصانيف مفيدة، منها: كتاب "أدب القضاء" ليس لأحد مثله، وكان قد ولي قضاء قُمَّر، وولي حسبة بغداد، فأحرق مكان الملاهي. مات سنة (328) وله نيف وثمانون سنة. انظر: "تاريخ بغداد" (7/ 268)، و"سير أعلام النبلاء" (15/ 250)، و"العبر" (2/ 212)، و"طبقات الشافعية" (3/ 230)، و"شذارت الذهب" (2/ 312). 45 - الحسين بن الفضل بن عمير، أبو علي البجلي الكوفي النيسابوري، العلامة المفسر الإمام اللغوي المحدث، عالم عصره، ولد قبل الثمانين ومئة، سمع يزيد بن هارون وشبابة بن سوار وغيرهما، وكان إمام عصره في معاني القرآن، أقدمه ابن طاهر معه نيسابور، فبقي يعلم الناس فيها ويفتي إلى أن توفي سنة (282 هـ) وهو ابن مئة
وأربع سنين. انظر: "سير أعلام النبلاء" (13/ 414)، و"جزء في أهل المئة" للذهبي (55)، و"طبقات المفسرين" للداودي (1/ 159). 46 - الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء أبو محمد البغوي، محيي السنة، الشيخ الإمام العلامة القدوة الحافظ، شيخ الإسلام، المفسر، صاحب التصانيف، كان سيداً إماماً عالماً علامة، زاهداً قانعاً باليسير، بورك له في تصانيفه، ورزق فيها القبول التام، لحسن قصده وصدق نيته، وتنافس العلماء في تحصيلها، وله القدم الراسخ في التفسير، والباع المديد في الفقه، من مصنفاته: "شرح السنة"، و"التفسير"، توفي بمرو سنة (516 هـ)، وعاش بضعاً وسبعين سنة. انظر: "سير أعلام النبلاء" (19/ 439)، و"تذكرة الحفاظ" (4/ 1257)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (7/ 75). 47 - حماد بن أبي سليمان إسماعيل بن مسلم الكوفي، مولى الأشعري، وأصله من أصبهان، العلامة الإمام فقيه العراق، روى عن أنس بن مالك، وتفقه بإبراهيم النخعي، وهو أنبل أصحابه وأفقههم، وأقيسهم وأبصرهم بالمناظرة والرأي، وليس هو بالمكثر من الرواية، وقد كان أحد العلماء الأذكياء، والكرام الأسخياء، له ثروة وحشمة وتجمل، مات سنة (120 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 332)، و"سير أعلام النبلاء" (5/ 231). 48 - حماد بن زيد بن دِرهم الأزدي الجهضمي، أبو إسماعيل الأزدي، مولاهم، البصري الضرير، الإمام الحافظ الثقة الثبت المجود الفقيه، شيخ العراق، قال أحمد بن حنبل: هو من أئمة المسلمين من أهل الدين، وقدَّمه الأئمة في الفقه على سفيان الثوري ومالك، مات سنة (179 هـ) وله إحدى وثمانون سنة. انظر: "تذكرة الحفاظ" (1/ 228)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة: 1498). 49 - حماد بن سلمة بن دينار، أبو سلمة الربعي مولاهم، البصري، الإمام الحافظ الثقة العابد شيخ الإسلام، أثبت الناس في ثابت البناني، وقد تغير حفظه بأخرة، وهو أول من صنف التصانيف مع ابن أبي عروبة، وكان بارعاً في العربية، فقيهاً فصيحاً مفوهاً، صاحب سنة واتباع، مات سنة (167 هـ) وقد قارب الثمانين. انظر: "تذكرة الحفاظ" (1/ 202)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة: 1499). 50 - حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، حدث عن أبويه وخاله عثمان بن عفان، وسعيد بن زيد، وجماعة، وروى عنه ابن أبي مليكة، والزهري، وقتادة،
وآخرون، كان فقيهاً نبيلاً شريفاً ثقة، مات سنة (95 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 153)، و"سير أعلام أعلام النبلاء" (4/ 293). 51 - خفاف بن ندبة بن عمير بن الحارث بن الشريد السلمي، أبو خراشة، من مضر، شاعر فارس، كان أسود اللون، عاش زمناً في الجاهلية، كان أكثر شعره مناقضات له مع ابن مرداس، وكانت قد ثارت بينهما حروب في الجاهلية، أدرك الإسلام فأسلم، وشهد فتح مكة، وكان معه لواء بني سليم، وشهد حنيناً والطائف، وثبت على إسلامه في الردة، ومدح أبا بكر، وبقي إلى أيام عمر، قال الأصمعي: خُفَاف ودُريدُ بن الصمة أشعر الفرسان. انظر: "الإصابة في تمييز الصحابة" (1/ 452)، و"الأغاني" (16/ 133)، و"خزانة الأدب" (1/ 81)، و"الشعر والشعراء" (1/ 341). 52 - الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم، أبو عبد الرحمن البصري الفراهيدي الأزدي، النحوي اللغوي الزاهد، كان أعلم الناس وأذكاهم، وأفضل الناس وأتقاهم، وأبدع بدائع لم يسبق إليها، فمن ذلك تأليفه كلام العرب على الحروف في الكتاب المسمى كتاب "العين"، واختراعه العروض. كان يمتنع عن قبول عطايا الملوك، وكان قُوتُه من بستان ورثه من أبيه، وكان يحج سنة، ويغزو سنة إلى أن مات سنة (175 هـ)، وقيل (175 هـ). انظر: "إنباه الرواة" (1/ 341)، و "البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" (99)، و"بغية الوعاة" (1/ 557). 53 - الربيع بن أنس بن زياد البكر الخراساني المروزي البصري، عالم زمانه، سمع أنس بن مالك وأبا العالية الرياحي وأكثر عنه، والحسن البصري، ولقيه سفيان الثوري، سجن بمرو ثلاثين سنة، وقد تحيَّل ابن المبارك حتى دخل إليه فسمع منه، توفي سنة (139 هـ)، وحديثه في السنن الأربعة. انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 102)، و"سير أعلام النبلاء" (6/ 169). 54 - الربيع بن خثيم بن عائذ، أبو يزيد الثوري الكوفي، الإمام القدوة العابد، أحد الأعلام، أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسل عنه، وروى عن عبد الله بن مسعود وأبي أيوب، وهو قليل الرواية إلا أنه كبير الشأن، حدث عنه الشعبي والنخعي وغيرهما، وكان يعد من عقلاء الرجال والزهاد العبَّاد، ومن معادن الصدق والأمناء. قال فيه ابن مسعود: يا أبا يزيد! والله لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك.
مات الربيع سنة (65 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 15)، و"حلية الأولياء" (2/ 105)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 258). 55 - الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل، أبو محمد المرادي مولاهم المصري المؤذن، صاحب الإمام الشافعي وناقل علمه، الإمام المحدث الفقيه الكبير، بقية الأعلام، وشيخ المؤذنين بجامع الفسطاط، ومستملي مشايخ وقته، ولد سنة (174 هـ)، وقد طال عمره، واشتهر اسمه، وازدحم عليه أصحاب الحديث، أفنى عمره في العلم ونشره. مات سنة (270 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (12/ 587)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة: 1894). 56 - الربيع بنت معوذ بن عقبة الأنصارية النجارية، وأبوها من كبار البدريين، قتل أبا جهل، كانت تخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات، وقد زارها صلى الله عليه وسلم صبيحة عرسها صلةً لرحمها، عمِّرت دهراً، وروت أحاديث، توفيت في خلافة عبد الملك سنة بضع وسبعين للهجرة. انظر: "الطبقات الكبرى" (8/ 447)، و"سير أعلام النبلاء" (3/ 198)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (4/ 300). 57 - ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ أبو عثمان التيمي المدني مولى آل المنكدر، الإمام الفقيه، كان إماماً حافظاً فقيهاً مجتهداً بصيراً بالرأي، ولذلك يقال له: ربيعة الرأي، مكث دهراً طويلاً عابداً يصلي الليل والنهار إلى أن جالس القوم، فنطق بلب وعقل، وقد كان من الأجواد، وكان صاحب الفتوى بالمدينة، وبه تفقه مالك. مات سنة (136 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (6/ 89)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 157). 58 - رفيع بن مهران، أبو العالية الرياحي البصري، الإمام المقرئ الحافظ المفسر، أحد الأعلام، أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم وهو شاب، وأسلم في خلافة أبي بكر، ودخل عليه، وحفظ القرآن وقرأه على أبي بن كعب، وتصدر لإفادة العلم، وبَعُد صيته، وقيل: إنه أول من أذّن بما وراء النهر، مات سنة (90 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 112)، و"حلية الأولياء" (2/ 217)، و"طبقات المفسرين" (1/ 172)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 207). 59 - ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبي، أسلم في الفتح، وقيل: أسلم عقب مصارعته للنبي صلى الله عليه وسلم، إذ قدم ركانة من سفر، فأُخبر خبرَ النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه في بعض جبال مكة، فقال: يا ابن أخي!
بلغني عنك شيء، فإن صرعتني، علمت أنك صادق، فصارعه، فصرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم، مات في خلافة عثمان، وقيل: عاش إلى سنة (41 هـ). انظر: "الإصابة في تمييز الصحابة" (1/ 520). 60 - زبّان بن العلاء بن عمار، أحد القراء السبعة، اختلف في اسمه على واحد وعشرين قولاً، أصحُّها زبّان، وسبب الاختلاف فيه أنه كان لجلالته لا يُسأل عن اسمه، ولد بالحجاز، وسكن البصرة، وأخذ القراءة عرضاً وسماعاً للحروف عن جماعة، ومن كلامه: "إنما نحن فيمن مضى كبقل في أصول نخل طوال"، مات بالكوفة سنة (154 هـ) وله ست وثمانون سنة. انظر: "نزهة الألباء" (29)، و"البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" (101)، و"بغية الوعاة" (2/ 231)، و"المزهر" (418)، و"شذرات الذهب" (1/ 237). 61 - زفر بن الهذيل بن قيس بن سلم، أبو الهذيل العنبري، الفقيه المجتهد الرباني، كان ثقة مأموناً، دفع إلى البصرة في ميراث له مع أخته، فتشبث به أهل البصرة فلم يتركوه يخرج من عندهم، تفقه بأبي حنيفة، وهو أكبر تلامذته، وكان من بحور الفقه، وأذكياء الوقت، وممن جمع بين العلم والعمل، وكان يدري الحديث ويتقنه، مات سنة (158 هـ). 62 - زهير بن أبي سلمى (ربيعة) بن رياح بن قرط بن الحارث، شاعر جاهلي من المقدمين، وهو شاعر الحكمة وداعية الخير، اشتهر بأنه من الشعراء الذي يُعنون بشعرهم ويعيدون النظر فيه، حتى إن القصيدة لتظل موضع نظره سنة كاملة، ولهذا سميت قصائده بالحوليات، وهو من أصحاب المعلقات. انظر: "طبقات فحول الشعراء" (1/ 51)، و "الأغاني" (10/ 288). 63 - زيد بن أسلم: العدوي، أبو عبد الله العمري المدني، الحافظ الإمام العالم الفقيه الثقة، كان من العلماء الأبرار، له حلقة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وله تفسير يرويه عنه ولده عبد الرحمن، وكان معروفاً بإرسال الحديث. مات سنة (136 هـ). انظر: "تذكرة الحفاظ" (1/ 132)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة:2117). 64 - زيد بن يُثَيْع: ويقال: أثيع، الهمداني الكوفي التابعي الثقة المخضرم، روى عن أبي بكر، وعلي، وحذيفة بن اليمان، وأبي ذر، وكان قليل الحديث، مات قبل
المئة. انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 222)، و"تهذيب التهذيب" (3/ 369). 65 - ساعدة بن جُؤَيَة بن كعب بن كاهل الهذلي، من سعد هذيل، شاعر من مخضرمي الجاهلية والإسلام، أسلم وليست له صحبة، قال الآمدي: شعره محشو بالغريب والمعاني الغامضة، له ديوان شعر مطبوع. انظر: "خزانة الأدب" (1/ 476)، و"المختلف والمؤتلف" للآمدي (83)، و"سمط اللآلي" (115). 66 - سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عمر، ويقال: أبو عبد الله، العدوي العمري المدني، الفقيه الحجة، أحد من جمع بين العلم والعمل والزهد والشرف، كان شديد الأدمة على الخلق، خشن العيش، يلبس الصوف تواضعاً، ولم يكن أحد في زمانه أشبه منه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل؛ فقد كان على سمت أبيه، وعدم رفاهيته، مات سنة (106 هـ) ومحاسنه كثيرة، رحمه الله. انظر: "سير أعلام النبلاء" (4/ 457)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 88). 67 - سعيد بن المسيب، أبو محمد المخزومي، الإمام، شيخ الإسلام، فقيه المدينة، وأجل التابعين، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، كان واسع العلم، وافر الحرمة، متين الديانة، قوّالاً بالحق، فقيه النفس، وكان لا يقبل جوائز السلطان، وكان الحسن إذا أشكل عليه شيء، كتب إلى سعيد بن المسيب يسأله، قال علي بن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علماً من سعيد، وهو عندي أجل التابعين، مات سنة (94 هـ) وقد حج أربعين حجة. انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 119) و"حلية الأولياء" (2/ 161)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 217)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 54). 68 - سعيد بن أوس بن ثابت بن بشير بن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبي زيد الأنصاري، البصري، النحوي، صاحب التصانيف، الإمام العلامة، حجة العرب، قال المبرد: الأصمعي، وأبو عبيدة، وأبو زيد، أعلم الثلاثة بالنحو أبو زيد. وكانت له حلقة بالبصرة، وله كتب تعتبر الأمهات في اللغة مثل كتاب "النوادر". مات سنة (215 هـ). انظر: "إنباه الرواة" (2/ 30)، و"نزهة الألباء" (173)، و"معجم الأدباء" (11/ 212). 69 - سعيد بن جبير، الوالبي مولاهم الكوفي، المقرئ الفقيه، أحد الأعلام، سمع ابن عباس وعدي بن حاتم وطائفة، وكان ابن عباس إذا حجَّ أهلُ الكوفة وسألوه يقول: أليس فيكم سعيد بن جبير؟، كان يقال لسعيد بن جبير: جهبذ العلماء، وكان لا يدع
أحداً يغتاب عنده، وقد بكى بالليل حتى عمي، قتله الحجاج سنة (95 هـ) وله تسع وأربعون سنة، قال ميمون بن مهران: مات سعيد بن جبير وما على الأرض رجل إلا وهو يحتاج إلى علمه. انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 256)، و"حلية الأولياء" (4/ 272)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 321). 70 - سعيد بن مسعدة المجاشعي، أبو الحسن، المعروف بالأخفش الأوسط البصري، مولى بني مجاشع بن دارم، أحد الأئمة النحاة من البصريين، أخذ عن سيبيويه، وهو أعلم من أخذ عنه، وكان قد أخذ عمن أخذ عنه سيبويه؛ لأنه أسنّ منه، طلب منه الكسائي أن يضع كتاباً في معاني القرآن، فوضع كتاباً، وصار الكسائي يحذو مثاله حتى وضع كتابه في المعاني، وله كتب كثيرة منها: "الاشتقاق"، و"الأوسط في النحو"، و"القوافي " وغير ذلك. مات سنة (215 هـ). انظر: "معجم الأدباء" (11/ 224)، و"إنباه الرواة" (2/ 36)، و"البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" (104)، و"بغية الوعاة" (/905). 71 - سفيان بن حسين بن الحسن، أبو محمد الواسطي، الحافظ الصدوق، حدث عن الحسن، وابن سيرين، والزهري، وروى عنه شعبة، وهشيم، ويزيد بن هارون، وجماعة، وقد وثقه جماعة في سوى ما يرويه عن الزهري، فإنه يضطرب فيه، يأتي بما ينكر، توفي في خلافة أبي جعفر سنة (150 هـ) تقريباً، ووقع له نحو ثلاث مئة حديث. انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 312)، و"تاريخ بغداد" (9/ 149)، و"سير أعلام النبلاء" (7/ 302). 72 - سفيان بن سعيد بن مسروق، أبو عبد الله الثوري، الكوفي الإمام الفقيه شيخ الإسلام وسيد الحفاظ وأمير المؤمنين في الحديث، اجتمعت عليه الأمة بالرضا والصحة، وأجمع الأئمة على تقديمه وتفضيله في العلم، قال مالك: إنما كانت العراق تجيش علينا بالدراهم والثياب، ثم صارت تجيش علينا بسفيان الثوري، مات سنة (161 هـ). 73 - سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون، مولى محمد بن مزاحم، أبو محمد الكوفي ثم المكي، الإمام الكبير، حافظ العصر شيخ الإسلام، طلب الحديث وهو غلام، ولقي الكبار، وحمل عنهم علماً جماً، أتقن وجوّد، وجمع وصنف، وعُمّر دهراً، وكان ربما دلّس، لكن على الثقات، مات سنة (198 هـ) وله إحدى وتسعون
سنة. انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 497)، و"سير أعلام النبلاء" (8/ 454)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة: 2451). 74 - سليمان بن بريدة، روى عن أبيه وعائشة وعمران بن حصين، وعنه علقمة ابن مرثد، ومحارب بن دثار، ومحمد بن جُحادة، وجماعة، وكان ثقة في الحديث، وكان ابن عيينة يفضله على عبد الله بن بريدة. مات سنة (105 هـ) وله تسعون سنة. انظر: "سير أعلام النبلاء" (5/ 52)، و"العبر" (1/ 129)، و"شذرات الذهب" (1/ 131). 75 - سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب التجيبي الأندلسي، أبو الوليد القرطبي، الإمام العلامة الحافظ، ذو الفنون، القاضي، صاحب التصانيف، ارتحل إلى بلدان كثيرة، وتفقه به أئمة، واشتهر اسمه، وصنف التصانيف النفيسة، وكان أديباً شاعراً، جليلاً رفيع القدر، مات سنة (474 هـ) وله إحدى وسبعون سنة. انظر: "ترتيب المدارك" (4/ 802)، و"الصلة" لابن بشكوال (1/ 200)، و"سير أعلام النبلاء" (15/ 535). 76 - سليمان بن مهران، أبو محمد الأسدي الكاهلي مولاهم، الكوفي، الأعمش، وأصله من نواحي الري، الإمام الحافظ شيخ الإسلام وشيخ المقرئين والمحدثين، كان صاحب ليل وتعبد، ومن النسّاك المحافظين على الصلاة في الجماعة وعلى الصف الأول، وعى علماً جماً، وكان صاحب ورع، لكنه يدلس في الحديث. مات سنة (147 هـ) أو (148 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 342)، و"تهذيب الكمال" (12/ 76)، و"سير أعلام النبلاء" (6/ 226). 77 - سليمان بن موسى، أبو أيوب الدمشقي الأشدق، مولى آل معاوية بن أبي سفيان، الإمام الكبير، مفتي دمشق وسيد علماء أهلها، الثقة الفقيه، كان عطاء يقول إذا جاء سليمان بن موسى: "كفوا عن المسألة؛ فقد جاءكم من يكفيكم المسألة"، عاش بعد مكحول سنتين، فكان يأخذ كل يوم في باب من العلم فلا يقطعه حتى يفرغ منه، ثم يأخذ في باب غيره، مات سنة (119 هـ)، وقد خلط قبل موته بقليل، فكان في حديثه بعض لين. انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 457)، و"حلية الأولياء" (6/ 87)، و"سير أعلام النبلاء" (5/ 437)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة:2616). 78 - سليمان بن يسار: أبو أيوب المدني، مولى أم المؤمنين ميمونة، وأخو
عطاء بن يسار، الفقيه الإمام، عالم المدينة وفقيهها، ولد في خلافة عثمان، وكان من أوعية العلم، ثقة، فاضلاً، مأموناً، عابداً، رفيعاً، فقيهاً، كثير الحديث، وقد قدمه بعض الأئمة على سعيد بن المسيب، مات سنة (107 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 174)، و "حلية الأولياء" (2/ 190)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 444). 79 - سهل بن محمد بن سليمان بن موسى العجلي، أبو الطيب الصعلوكي، الأستاذ الكبير، والبحر الواسع، والفقيه الأديب، مفتي نيسابور، جمع بين رياستي الدين والدنيا، واتفق علماء عصره على إمامته، وسيادته، وجمعه بين العلم والعمل، والأصالة والرياسة، ويضرب المثل باسمه، وكان يلقب شمس الإسلام، سمع أباه الأستاذ أبا سهل، وبه تفقه، وعليه تخرج، مات سنة (404 هـ). انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي (4/ 393)، و"سير أعلام النبلاء" (17/ 207)، و"تبيين كذب المفتري" لابن عساكر (211 - 214). 80 - شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم، أبو أمية، الفقيه الكندي قاضي الكوفة، يقال: له صحبة، ولم يصح، بل هو ممن أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وانتقل من اليمن زمن الصديق، وقد ولاّه عمر قضاء الكوفة، فأقام على قضائها ستين سنة، وقضى بالبصرة سنة، وكان نزر الحديث. مات سنة (78 هـ)، وكان يضرب المثل به في العدل، رحمه الله. انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 131)، و"حلية الأولياء" (4/ 132)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 100)، و"العبر" (1/ 89). 81 - شعيب بن أبي حمزة، أبو بشر الأموي مولاهم الحمصي الكاتب، الإمام الحجة المتقن، كان مليح الضبط، أنيق الخط، من كبار الناس، وكان ضنيناً بالحديث، وكان من صنف آخر في العبادة، حدث عن نافع، والزهري، وابن المنكدر، وطائفة، كانت كتبه نهاية في الحسن والإتقان والإعراب، مات سنة (162 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 468)، و"سير أعلام النبلاء" (7/ 187)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 221)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة: 2798). 82 - شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي، روى شعيب عن جده عبد الله بن عمرو، وروى عنه ابنه عمرو بن شعيب، فحديثه عن أبيه، وحديث أبيه عن جده، يعني: عبد الله بن عمرو، وهو صدوق، ثبت سماعه من جده. مات في حدود المئة، وقد أخرج له أرباب السنن الأربعة. انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 243)،
و"تقريب التهذيب" (ترجمة: 2806). 83 - شقيق بن سلمة، أبو وائل الأسدي الكوفي، الإمام الكبير شيخ الكوفة، مخضرم، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وما رآه، كان من أئمة الدين، رأساً في العلم والعمل، قال إبراهيم النخعي للأعمش: عليك بشقيق، فإني أدركت الناس وهم متوافرون، وإنهم ليعدونه من خيارهم، وكان ابن مسعود إذا رأى أبا وائل قال: التائب، مات في عشر المئة. انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 96)، و"حلية الأولياء" (4/ 101)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 161). 84 - ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب الهاشمية، بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المهاجرات، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو زوجها المقداد بن الأسود، وروى عنها ابن عباس وعائشة وغيرهما. انظر: "الطبقات الكبرى" (8/ 46)، و"سير أعلام النبلاء" (2/ 274)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (4/ 352). 85 - الضحاك بن مزاحم، أبو محمد، وقيل: أبو القاسم الهلالي، صاحب التفسير، كان من أوعية العلم في التفسير، وليس بالمجوّد لحديثه، وهو صدوق في نفسه، وقد حدث عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وطائفة، وثقه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وقد كان يعلِّم ولا يأخذ أجراً. مات سنة (102 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 300)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 598)، و"طبقات المفسرين" (1/ 216). 86 - طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، أبو الطيب الطبري، القاضي الشافعي، فقيه بغداد، الإمام العلامة شيخ الإسلام، استوطن بغداد، ودرّس وأفتى وأفاد، وكان ورعاً عاقلاً عارفاً بالأصول والفروع، محققاً، حسن الخلق، صحيح المذهب، مات سنة (450 هـ)، وله مئة وسنتان. انظر: "تاريخ بغداد" (9/ 358)، و"سير أعلام النبلاء" (17/ 668)، و"العبر" (3/ 222)، و"وفيات الأعيان" (2/ 512). 87 - طاوس بن كيسان، أبو عبد الرحمن الفارسي ثم اليمني الجنَدَي، الفقيه القدوة عالم اليمن الحافظ، كان من أبناء الفرس الذين جهّزهم كسرى لأخذ اليمن له، حجَّ مرات كثيرة، وكان من عباد أهل اليمن ومن سادات التابعين، وكان يعد الحديث حرفاً حرفاً، وقال عن نفسه: أدركت خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مات بمكة أيام الموسم سنة (106 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 537)، و"طبقات القراء" (1/ 341)، و"سير أعلام النبلاء" (5/ 38)، و"العبر" (1/ 130). 88 - طرفة بن العبد بن سفيان بن ثعلب، واسمه عمرو، ولكن غلب عليه لقب طرفة، كان مستهتراً، مسرفاً على نفسه في شرب الخمر، غير مبالٍ بشر، وقد هجا طرفة الملكَ عمرو بن هند، فاستدعاه وقتله، وهو من أصحاب المعلقات السبع، ومطلع معلقته: لخولةَ أطلال ببرقة ثَهْمَدِتلوحُ كباقي الوشمِ في ظاهر اليد. 89 - طلق بن علي بن عمرو، ويقال: ابن علي بن المنذر بن قيس بن عمرو، أبو علي، له صحبة ووفادة ورواية، ومن حديثه في "السنن" أنه بنى مع الصحابة في المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قربوا له الطين فإنه أعرف" روى عنه ابنه قيس وابنته خلدة، وغيرهما. انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 552)، و"تهذيب الكمال" (13/ 455)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (2/ 232). 90 - ظالم بن عمرو الدؤلي، أبو الأسود ويقال: الديلي، العلامة الفاضل، قاضي البصرة، ولد في أيام النبوة، وحدث عن عمر وعلي وأبي بن كعب وابن مسعود وطائفة، وكان قد قرأ القرآن على عثمان وعلي، وهو أول من تكلم في النحو، وقد كان معدوداً في الفقهاء والشعراء والنحاة والفرسان، مات في طاعون الجارف سنة (69 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 99)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 81). 91 - عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك، أبو عبد الله الغزي، من خلفاء عمر بن الخطاب، أسلم قبل عمر، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً، له أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما حدث عن أبي بكر وعمر وغيرهما، وروى عنه ولده عبد الله، وابن عمر، وابن الزبير، توفي قبل مقتل عثمان بيسير، قال ابنه عبد الله: لما طعنوا على عثمان، صلى أبي في الليل، ودعا فقال: "اللهم قني من الفتنة بما وقيت به الصالحين من عبادك"، فما خرج ولا دخل إلا بجنازته. انظر: "الطبقات الكبرى" (3/ 281)، و"سير أعلام النبلاء" (2/ 33)، و"العبر" (1/ 35). 92 - عامر بن شراحيل بن عبد ذي كِبار، أبو عمرو الهمداني ثم الشعبي، علامة التابعين، كان إماماً حافظاً فقيهاً مُتقِنًا ثبتاً، قال ابن سيرين: قدمت الكوفة وللشعبي حلقة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ كثير، وكان الشعبي يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء فنسيتها، قال مكحول: ما رأيت أفقه من الشعبي. مات بعد
المئة، وله نحو من ثمانين سنة. انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 246)، و"تهذيب الكمال " (14/ 28)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 294)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 79). 93 - عبد الرحمن بن (أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان، أبو محمد المدني، الإمام الفقيه الحافظ، كان من أوعية العلم، وكان فقيهاً مفتياً، وقد أخذ القراءة عرضاً عن أبي جعفر، وقد تحول من المدينة، فسكن بغداد، وقد ضعفه عبد الرحمن بن مهدي، واحتج به النسائي وأهل السنن، مات سنة (174 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 32)، و"سير أعلام النبلاء" (8/ 167)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 247). 94 - عبد الرحمن بن أبي ليلى، أبو عيسى الأنصاري المدني ثم الكوفي، الإمام الفقيه العلامة الحافظ، الثقة، اختلف في سماعه من عمر، وقد لقي وروى عن مئة وعشرين صحابياً، كان إذا صلى ودخل إليه أحد نام على فراشه، وكان عبد الرحمن من كبار من خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث من العلماء والصلحاء، وكان له وفادة على معاوية. مات بوقعة الجماجم سنة (83 هـ) قيل: إنه غرق، رحمه الله تعالى. انظر: "سير أعلام النبلاء" (4/ 262)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 58)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة: 3993). 95 - عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي، حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح على رأسه ودعا له بالبركة، فما رئي عبد الرحمن بن زيد قط في قوم إلا فاقهم طولاً، قيل: كان له عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ست سنين، ومات قبل ابن عمر، يعني في ولاية عبد الله بن الزبير. انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 49)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 834)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (5/ 36). 96 - عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار المكي، الملقب بالقَسّ، كان ثقة عابداً، وله أحاديث قليلة، وكان أبوه الذي روى عن عمر أنه رآه يصلي على عبقري، مات في حدود المئة. انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 484)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة:3921). 97 - عبد الرحمن بن عمرو بن محمد، أبو عمرو الأوزاعي الدمشقي، شيخ الإسلام، الحافظ الإمام، ربي يتيماً فقيراً في حجر أمه، وتعجز الملوك أن تؤدب أولادها أدبه في نفسه، وقد كان أفضل أهل زمانه، يحيي الليل صلاة وقرآناً وبكاء،
وكان أهل الشام ثم أهل الأندلس على مذهب الأوزاعي، وقد أجاب الأوزاعي في سبعين ألف مسألة، وكان يصلح للخلافة. مات سنة (157 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 488)، و"سير أعلام النبلاء" (7/ 107)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 178). 98 - عبد الرحمن بن مأمون بن علي النيسابوري، أبو سعد المتولي، العلامة شيخ الشافعية، درس ببغداد بالنظامية بعد الشيخ أبي إسحاق، تفقه بالقاضي حسين، وعلي الفوراني بمرو، وبرع وبذَّ الأقران، وله كتاب "التتمة" الذي تمم به "الإبانة" لشيخه أبي القاسم الفوراني، فعاجلته المنية عن تكميله، مات ببغداد كهلاً سنة (478 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (18/ 585)، و (19/ 178)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (5/ 105)، و"وفيات الأعيان" (3/ 133). 99 - عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله، كمال الدين، أبو البركات الأنباري، قرأ على الجواليقي وابن الشجري، وبرع، وله المصنفات المفيدة، منها: "شرح دواوين لشعراء"، و"أسرار العربية" و"نزهة الألباء طبقات الأدباء"، وغير ذلك كثير. مات سنة (577 هـ) ببغداد. انظر: "إنباه الرواة" (2/ 196)، و"وفيات الأعيان" (1/ 279)، و"البلغة" (133)، و"بغية الوعاة" (2/ 86). 100 - عبد السلام بن حبيب بن حسان بن هلال بن بكار التنوخي، أبو سعيد، الحمصي الأصل، المغربي القيرواني المالكي، الإمام، فقيه المغرب وقاضي القيروان، وصاحب "المدونة"، ويلقب بسحنون، ارتحل وحج، ولم يتوسع في الحديث كما توسع في الفروع، لازم ابن وهب وابن القاسم وأشهب حتى صار من نظرائهم، وساد أهل المغرب في تحرير المذهب، وانتهت إليه رئاسة العلم، وعلى قوله المعوّل بتلك الناحية، وكان موصوفاً بالعقل والديانة التامة والورع، مشهوراً بالجود والبذل، وافر الحرمة، عديم النظير، وقد تفقه به عدد كثير حتى قيل: إن الرواة عنه بلغوا تسع مئة، مات سنة (240 هـ) وله ثمانون سنة. انظر: "ترتيب المدارك" (2/ 585)، و"سير أعلام النبلاء" (12/ 63)، و"شجرة النور الزكية" (70)، و"وفيات الأعيان" (3/ 180). 101 - عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار، أبو تمام المدني، الإمام الفقيه العابد، سمع مالك بن أنس، وتفقه معه على ابن هرمز، يقال: لم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه، وحديثه في الصحاح، وهو محتج به، توفي وهو ساجد سنة (184 هـ)
وله سبع وسبعون سنة. انظر: "سير أعلام النبلاء" (8/ 363)، و"العبر" (1/ 289)، و"شذرات الذهب" (1/ 306). 102 - عبد الكريم ابن العلامة أبي الفضل محمد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسين، أبو القاسم الرافعي القزويني، إمام الدين، وشيح الشافعية، وعالم العجم والعرب، كان من العلماء العاملين، صاحب تعبد ونسك وأحوال وتواضع، وقد انتهت إليه معرفة المذهب، وقد كان ذا فنون، حسن السيرة، جميل الأمر، كما كان أوحد عصره في الأصول والفروع، مجتهد زمانه، وفريد وقته في تفسير القرآن والمذهب، مات سنة (623 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (22/ 252)، و"العبر" (5/ 94)، و"شذرات الذهب" (5/ 108). 103 - عبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن المروزي، العالم المجاهد، ثقة ثبت، فقيه مأمون، حجة، كثير الحديث، صنف كتباً كثيرة في أبواب العلم وصنوفه، وقال الشعرفي الزهد والحث على الجهاد، مات منصرفاً من الغزو سنة (181 هـ) وله ثلاث وستون سنة. انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 372)، و"سير أعلام النبلاء" (8/ 378)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة:2570). 104 - عبد الله بن زيد بن عمرو بن ناتل بن مالك، أبو قلابة الجرمي البصري، الإمام، فكان ثقة كثير الحديث، ومن الفقهاء ذوي الألباب، قدم الشام وانقطع بداريا، وقد روى عن عمر بن الخطاب ولم يدركه، فكان يرسل كثيراً، وأدرك خلافة عمر بن عبد العزيز ومات بالشام سنة (104 هـ) انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 138)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 468)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 88)، و"شذرات" وانظر هذه الآثار في: "الاستذكار" (3/ 385)، و"التمهيد" (8/ 325). 105 - عبد الله بن شُبْرُمة الضبي، أبو شبرمة، قاضي الكوفة وفقيه العراق، الإمام العلامة، حدث عن أنس بن مالك، وأبي الطفيل، والشعبي، وطائفة، وقد حدث عنه الثوري، وابن المبارك، وخلق سواهما، وكان عفيفاً صارماً عاقلاً خيراً يشبه النساك، وكان شاعراً كريماً جواداً، وكان من أئمة الفروع، وأما الحديث، فما هو بالمكثر منه، وقد وثقه غير واحد من الأئمة، وضعفه آخرون. مات سنة (144 هـ) بخراسان. انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 350)، و"سير أعلام النبلاء" (6/ 347)، و"ميزان الاعتدال" (4/ 118).
106 - عبد الله بن شداد بن الهاد، أبو الوليد المدني ثم الكوفي الليثي الفقيه، وأمه هي سلمى أخت أسماء بنت عميس، حدث عن أبيه، ومعاذ بن جبل، وعلي، وابن مسعود، وجماعة، وقد حدث عنه الحكم بن عيينة، وابن شبرمة، وآخرون، كان ثقة قليل الحديث، وحديثه مخرج في الكتب الستة، خرج مع ابن الأشعث فقتل ليلة دجيل سنة (82 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 61)، و"سير أعلام النبلاء" (3/ 489). 107 - عبد الله بن محمد بن هبة الله بن المطهر بن أبي عصرون بن أبي السري، أبو سعد التميمي الموصلي الشافعي الشيخ الإمام العلامة الفقيه البارع المقرئ الأوحد، شيخ الشافعية وقاضي القضاة، عالم أهل الشام، حصّل علماً جماً، وتفقه عليه أئمة، وصنف التصانيف، وأقرأ القراءات، واشتهر ذكره، وعظم قدره، مات سنة (585 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (21/ 125)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (7/ 132)، و"شذرات الذهب" (4/ 283). 108 - عبد الله بن مسلم بن قتيبة، أبو محمد الكوفي الدينوري، الإمام النحوي اللغوي صاحب التصانيف النافعة، كان ثقة فاضلاً، أخذ العلم عن إسحاق بن راهويه، وأبي حاتم، وابن أخي الأصمعي، له كتب كثيرة منها: "أدب الكاتب"، و"تأويل مشكل القرآن"، وغيرها. مات سنة (276 هـ). انظر: "إنباه الرواة" (2/ 143)، و"البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" (127)، و "بغية الوعاة" (2/ 63). 109 - عبد الله بن وهب بن مسلم، أبو محمد الفهري مولاهم المصري، الإمام شيخ الإسلام أمير الثغور، مولده سنة (125 هـ)، طلب العلم وله سبع عشرة سنة، لقي بعض صغار التابعين، وكان من أوعية العلم ومن كنوز العمل، وقد حدث عنه خلق كثير، وانتشر علمه، وبعد صيته، له كتاب "الجامع" و"الموطأ" و"المناسك" و"تفسير غريب موطأ مالك" وغير ذلك. وكان الإمام مالك يقدمه ويبجله، مات سنة (197 هـ)، وعاش اثنتين وسبعين سنة. انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 518)، و"سير أعلام النبلاء" (9/ 223). 110 - عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، صدوق مرجئ كأبيه، وقيل: هو الذي أدخل أباه في الإرجاء، وقال ابن حبان: يستحق الترك، منكر الحديث جداً، يقلب الأخبار، ويروي المناكير عن المشاهير. مات سنة (206 هـ). انظر: "ميزان الاعتدال" للذهبي (4/ 390)، "تقريب التهذيب" (ترجمة:4160).
111 - عبد الملك بن الإمام أبي محمد عبد الله بن يوسف بن حَيّويه، أبو المعالي الجويني ثم النيسابوري، الإمام الكبير شيخ الشافعية، وصاحب التصانيف، كان إمام الأئمة على الإطلاق، مجمعاً على إمامته شرقاً وغرباً، تفقه على والده، وتوفي أبوه وله عشرون سنة، فدرّس مكانه، مات سنة (478 هـ). انظر: "تبيين كذب المفتري" لابن عساكر (278)، و"سير أعلام النبلاء" (18/ 468)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (5/ 165)، و"وفيات الأعيان" (3/ 167). 112 - عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، أبو خالد وأبو الوليد القرشي الأموي المكي، الإمام العلامة الحافظ، شيخ الحرم، صاحب التصانيف، وأول من دوّن العلم بمكة، كان من بحور العلم، وصاحب تعبد وتهجد، وما زال يطلب العلم حتى كبر وشاخ، ورواياته وافرة في الكتب الستة وغيرها، مات سنة (150 هـ) وعاش سبعين سنة. انظر: "تاريخ بغداد" (10/ 400)، و"سير أعلام النبلاء" (6/ 325)، و"ميزان الاعتدال" (2/ 659). 113 - عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة بن الماجشون، أبو مروان التيمي، مولاهم، المدني المالكي، العلامة الفقيه، مفتي المدينة، وتلميذ الإمام مالك، كان فقيهاً فصيحاً، دارت عليه الفيتا في زمانه، وعلى أبيه قبله، قال يحيى بن أكثمٍ: كان عبد الملك بحراً لا تكدره الدلاء، مات سنة (213 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 442)، و"سير أعلام النبلاء" (10/ 359)، و"وفيات الأعيان" (3/ 166). 114 - عبد الملك بن قريب بن أصمع، أبو سعيد الباهلي، الأصمعي، إمام في النحو واللغة والأشعار والأخبار والملح، كان صادق اللهجة، شديد التأله، فكان لا يفسر شيئاً من القرآن، ولا شيئاً من اللغة له نظير واشتقاق في القرآن، وكذلك الحديث؛ تحرجاً، وكان لا يفسر شعراً فيه هجاء، مات سنة (215 هـ)، وقيل غير ذلك، وقد قيل: عجائب الدنيا معروفة معدودة: منها الأصمعي. انظر: "إنباه الرواة" (2/ 197)، و"نزهة الألباء" (112)، و"البلغة" (136)، و"بغية الوعاة" (12/ 112). 115 - عبيد الله بن الحسن العنبري البصري التميمي، الفقيه، كان قاضي البصرة بعد سوار بن عبد الله، وقد سمع داود بن أبي هند، وخالد الحذاء، وغيرهما، وروى عنه
عبد الرحمن بن مهدي، ومعاذ بن معاذ، وغيرهما، كان محموداً ثقة عاقلاً، روى له مسلم في "صحيحه"، له عدة غرائب، منها: أنه يجوز التقليد في العقائد والعقليات، وخالف في ذلك العلماء كافة. انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 312)، و"الثقات" لابن حبان (7/ 143)، و"تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 289). 116 - عَبيدة بن عمرو السَّلْماني -وسلمان جدهم- المرادي الكوفي، الفقيه، أحد الأعلام، أسلَم في عام فتح مكة بأرض اليمن، ولا صحبة له، وقد برع في الفقه، وكان ثبتاً في الحديث، وكان أحد أصحاب عبد الله بن مسعود الذين يُقرئون ويفتون، وكان أعور، قال الشعبي: كان عبيدة يوازي شريحاً في القضاء. مات سنة (72 هـ) على الصحيح. انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 93)، و"تاريخ بغداد" (11/ 117)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 40). 117 - عثمان بن جني، أبو الفتح الموصلي النحوي، الإمام الأوحد البارع، من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف، قرأ على الشيخ أبي علي الفارسي، ولازمه أربعين سنة سفراً وحضراً، وقد صنّف كتباً جليلة، من أجلها "الخصائص"، وكان المتنبي يقول: "ابن جني أعرف بشعري مني"، مات سنة (382 هـ). انظر: "معجم الأدباء" (12/ 81)، و"إنباه الرواة" (2/ 335)، و"يتيمة الدهر" (1/ 89)، و"البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" (141)، و "بغية الوعاة" (2/ 132). 118 - عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن قصي بن كلاب، أبو عبد الله القرشي الأسدي المدني، الإمام، عالم المدينة، روى عن أبيه يسيراً، وعن غيره من الصحابة، وتفقه بخالته عائشة، وكان عالماً بالسيرة، حافظاً ثبتاً، وكان يقرأ ربع القرآن كل يوم في المصحف، ويقوم به في الليل، فما تركه إلا ليلة قطعت رجله، وقع فيها الآكلة فنشرها. مات سنة (94 هـ). انظر: "حلية الأولياء" (2/ 176)،و"تهذيب الكمال" (20/ 11)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 62). 119 - عطاء بن أبي رباح، أبو محمد بن أسلم القرشي مولاهم، المكي الأسود، مفتي أهل مكة ومحدثهم، القدوة العلم، ولد في خلافة عثمان، وقيل في خلافة عمر، وهو أشبه، وقد كان أسود مفلفلاً، فصيحاً كثير العلم، وكان المسجد فراشه عشرين سنة، وكان من أحسن الناس صلاة، قال فيه ابن عباس: يا أهل! مكة تجتمعون عليَّ وعندكم عطاء؟!، مات سنة (114 هـ) على الأصح بمكة، ومناقبه في العلم والزهد
والتأله كثيرة. انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 467)، و"سير أعلام النبلاء" (5/ 78)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 98). 125 - عطية بن سعد بن جنادة، أبو الحسن العوفي الكوفي، من مشاهير التابعين، كان ضعيف الحديث، يخطئ كثيراً، وكان شيعياً مدلساً، روى عن ابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيدٍ الخدري، وابن عمر، وعنه ابنه الحسن، وحجاج بن أرطاة، ومسعر، وخلق، مات سنة (111 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 304)، و"سير أعلام النبلاء" (5/ 325)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة: 4616). 121 - عكرمة -مولى ابن عباس- أبو عبد الله البربري ثم المدني الهاشمي، الإمام الحبر العالم، قال عكرمة: طلبت العلم أربعين سنة، وكان ابن عباس يضع الكبل في رجلي على تعليم القرآن والسنن، وكان علامة، قد أفتى في حياة ابن عباس، وكان الحسن البصري إذا قَدِمَ عكرمةُ البصرةَ أمسك عن التفسير والفتيا ما دام عكرمة فيها. مات سنة (107 هـ) بالمدينة. انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 287)، و"سير أعلام النبلاء" (5/ 12)، و"الرواة الثقات" للذهبي (138). 122 - علقمة بن قيس بن كهل، أبو شبل النخعي الكوفي، الإمام الحافظ المجود المجتهد الكبير، فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها، ولد في أيام الرسالة المحمدية، وعداده في المخضرمين، هاجر في طلب العلوم والجهاد، ونزل الكوفة، ولازم ابن مسعود حتى رأس في العلم والعمل، وتفقه به العلماء، وبعُد صيته، وجوّد القرآن على ابن مسعود، وتفقه به أئمة كإبراهيم النخعي والشعبي، وكان قد تصدى للإمامة والفتيا بعد ابن مسعود، وكان طلبته يسألونه، ويتفقهون به والصحابة متوافرون، مات سنة (62 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 86)، و"تاريخ بغداد" (12/ 296)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 53)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 45). 123 - علقمة بن مرثد، أبو الحارث الحضرمي الكوفي، الإمام الفقيه الحجة، عداده في صغار التابعين، ولكنه قديم الموت، حدث عنه أبو حنيفة، والأوزاعي، وشعبة، والثوري، وآخرون، وهو ثبت في الحديث. مات سنة (120 هـ). انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 41)، و"سير أعلام النبلاء" (5/ 206)، و"شذرات الذهب" (1/ 157). 124 - علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، أبو محمد الأموي اليزيدي القرطبي
الظاهري، الإمام العلامة الحافظ الفقيه المجتهد صاحب التصانيف، كان إليه المنتهى في الذكاء والحفظ وسعة الدائرة في العلوم، وكان شافعياً، ثم انتقل إلى القول بالظاهر، ونفى القول بالقياس، وتمسك بالعموم والبراءة الأصلية، وكان صاحب فنون، فيه دين وتورع وتزهد وصدق. مات سنة (457 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (18/ 184)، و"تذكرة الحفاظ" (3/ 1146). 125 - علي بن أحمد بن محمد بن علي، أبو الحسن الواحدي النيسابوري الشافعي، صاحب "التفسير"، وإمام علماء التأويل، كان طويل الباع في العربية، وله شعر رائق، وكان من أبرع أهل زمانه في لطائف النحو وغوامضه، تصدّر للتدريس، وعظم شأنه، وكان حقيقاً بكل احترام وإعظام، مات بنيسابور سنة (468 هـ)، وقد شاخ. انظر: "سير أعلام النبلاء" (18/ 339)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (5/ 240)، و"طبقات المفسرين" للداودي (1/ 387). 126 - علي بن المديني بن عبد الله بن جعفر بن نجيح، أبو الحسن السعدي مولاهم المديني، ثم البصري، حافظ العصر وقدوة أرباب هذا الشأن، وصاحب التصانيف الماتعة، كان علماً في الناس في معرفة الحديث والعلل، قال النسائي: كأن علي بن المديني خلق لهذا الشأن، له نحو من مئتي مصنف، مات سنة (234 هـ) ومناقبه جمة. انظر: "سير أعلام النبلاء" (11/ 41)، و"تذكرة الحفاظ" (2/ 428). 127 - علي بن حمزة بن عبد الله بن عثمان، أبو الحسن الكسائي النحوي، مولى بني أسد، أحد الأئمة في القراءة والنحو واللغة، وأحد السبعة القراء المشهورين، أصله من الكوفة، واستوطن بغداد، وكان مؤدباً لولد الرشيد، وكان أثيراً لدى الخليفة حتى أخرجه من طبقة المؤدبين إلى طبقة الجلساء والمؤانسين، وقد سمي الكسائي لكونه أحرم في كساء، أو لكونه كان يبيع الأكسية في حداثته، توفي بـ"طوس" سنة (189 هـ). انظر: "معجم الأدباء" (3/ 167)، و"إنباه الرواة" (2/ 256)، و"نزهة الألباء" (67)، و"البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" (152)، و"بغية الوعاة" (2/ 162). 128 - علي بن عمر بن أحمد بن مهدي، أبو الحسن الدارقطني البغدادي الشهير، صاحب السنن، الإمام شيخ الإسلام، حافظ الزمان، ارتحل في كهولته إلى مصر والشام، وصنف التصانيف الفائقة، وقد كان أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع،
وانتهى إليه علم الأثر والمعرفة بالعلل وأسماء الرجال، مع الصدق والثقة وصحة الاعتقاد، والاضطلاع من العلوم؛ كالقراءات، فقد كان إماماً في القرّاء والنحويين. مات سنة (385 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (16/ 449)، و"تذكرة الحفاظ" (3/ 991). 129 - علي بن عمر بن أحمد، أبو الحسن البغدادي، القاضي، شيخ المالكية، كان إماماً فقيهاً أصولياً، وكان ثقة، قليل الحديث، قال أبو ذر الهروي: هو أفقه من رأيت من المالكيين. انظر: "تاريخ بغداد" (12/ 41)، و"ترتيب المدارك" (4/ 652)، و"سير أعلام النبلاء" (17/ 107). 130 - علي بن محمد بن حبيب، أبو الحسن البصري الماوردي الشافعي، الإمام العلامة أقضى القضاة، صاحب التصانيف الحسان في الفقه والتفسير وأصول الفقه والأدب، قال ابن خلكان: من طالع كتاب: "الحاوي" له، يشهد له بالتبحر ومعرفة المذهب، وقد كان رجلاً عظيماً حافظاً للمذهب، ولي القضاء ببلدان شتى، ثم سكن بغداد ومات بها سنة (450 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" (12/ 102)، و"سير أعلام النبلاء" (18/ 64)، و"العبر" (3/ 223). 131 - عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، أبو حفص، الأموي القرشي، أمير المؤمنين، كان إماماً فقيهاً مجتهداً عارفاً بالسنن، كبير الشأن، ثبتاً حجة حافظاً، قانتاً لله أواهاً منيباً، قال الشافعي: الخلفاء الراشدون خمسة: -فعدَّ منهم عمر بن عبد العزيز-، وقال مجاهد: أتيناه لنعلِّمه، فما برحنا حتى تعلمنا منه، مات سنة (101 هـ)، وكان قد عاش أربعين سنة، وبعدله صار يضرب المثل، رضي الله عنه. انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 330)، و"حلية الأولياء" (5/ 253)، و"سير أعلام النبلاء" (5/ 114). 132 - عمران بن ملحان، أبو رجاء العطاردي التميمي البصري، الإمام الكبير، شيخ الإسلام، من كبار المخضرمين، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد فتح مكة، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم، كان خيِّراً عابداً كثير الصلاة تلاّء لكتاب الله، وقد عُمِّر عمراً طويلاً أزيد من مئة وعشرين سنة، ومات سنة (105 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 138)، و"حلية الأولياء" (2/ 304)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 253). 133 - عمرو بن دينار، أبو محمد الجمحي، مولاهم، المكي الأثرم، الإمام الكبير الحافظ، أحد الأعلام، وشيخ الحرم في زمانه، ولد سنة خمس أو ست وأربعين، وقد
روى عن ابن عباس وابن عمر وجابر وغيرهم من الصحابة، أفتى بمكة ثلاثين سنة، وكان من التابعين الكبار في الفضل والجلالة، كان قد جزأ الليل، فثلثاً ينام، وثلثاً يدرس حديثه، وثلثاً يصلي. مات سنة (126 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (5/ 300)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 113)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة: 5024). 134 - عمرو بن شعيب بن محمد بن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص، أبو إبراهيم وأبو عبد الله القرشي السهمي الحجازي، الإمام المحدث فقيه أهل العراق ومحدثهم، كان يتردد كثيراً إلى مكة وينشر العلم، وله مال بالطائف، حدث عن أبيه فأكثر، وعن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، احتج به أرباب السنن الأربعة، وابن خزيمة وابن حبان في بعض الصور، وقد احتج به -أيضاً- أئمة كبار، ووثقوه في الجملة، وتوقف فيه آخرون، مات سنة (118 هـ) بالطائف. انظر: "سير أعلام النبلاء" (5/ 165)، و"العبر" (1/ 148)، و"لسان الميزان" (7/ 325). 135 - عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتّاب، أبو الأسود، من بني تغلب، شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، كان من أعز الناس نفساً، وأكثر العرب ترفعاً، ساد قومه وهو فتى، وهو من الفتيان الشجعان، وهو الذي قتل الملك عمرو بن هند، وأشهر شعره معلقته التي مطلعها: (ألاهبي بصحنك فاصبحينا ...)، وفيها من الفخر والحماسة العجب، مات في الجزيرة الفراتية. انظر: "خزانة الأدب" (1/ 517)، و"الشعر والشعراء" (1/ 235)، و"طبقات فحول الشعراء" (1/ 151)، و"الأغاني" (9/ 175). 136 - عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد العبسي، أبو المغلِّس، أشهر فرسان العرب في الجاهلية، ومن شعراء الطبقة الأولى، من أهل نجد، كان من أحسن العرب شيمة، ومن أعزهم نفساً، يوصف بالحكمة على شدة بطشه، وفي شعره رقة وعذوبة، كان مغرماً بابنة عمه عبلة، فقلَّ أن تخلو له قصيدة من ذكرها، عاش طويلاً، وقتله الأسد الرهيص، وهو من أصحاب المعلقات. انظر: "طبقات فحول الشعراء" (1/ 152)، "خزانة الأدب" (1/ 59)، و"الأغاني" (7/ 141). 137 - عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أبو عبد الله الهذلي الكوفي، الإمام القدوة العابد، كان من آدب أهل المدينة وأفقههم، حدث عن أبيه وأخيه وابن عباس،
وابن المسيب وطائفة، وكان ثقة، وفي بعض رواياته إرسال، مات سنة بضع عشرة ومئة. انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 313)، و"سير أعلام النبلاء" (5/ 103)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة: 5223). 138 - عويمر بن أبي أبيض العجلاني، أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، له حديث واحد في نزول آية اللعان عند الشيخين. انظر: "الإصابة في تمييز الصحابة" (3/ 45). 139 - عيسى بن دينار، أبو محمد الغافقي القرطبي، الإمام فقيه الأندلس ومفتيها، ارتحل ولزم ابن القاسم مدة، وعوّل عليه، وكان من أوعية الفقه، لكنه قليل الحديث، وهو الذي علم أهل الأندلس الفقه، وكان صالحاً خيِّراً ورعاً يذكر بإجابة الدعاء. مات سنة (212 هـ) في سن الكهولة. انظر: "ترتيب المدارك" (3/ 16)، و"سير أعلام النبلاء" (10/ 439)، و"العبر" (1/ 363)، و"شذارت الذهب" (2/ 28). 140 - غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن تمام بن عطية، أبو بكر المحازي الأندلسي الغرناطي المالكي، الإمام الحافظ الناقد المجود، كان حافظاً للحديث وطرقه وعلله، عارفاً بالرجال، ذاكراً لمتونه ومعانيه، وكان أديباً شاعراً لغوياً، ديّناً فاضلاً، كُفَّ بصره في آخر عمره، ومات سنة (518 هـ) وله سبع وسبعون سنة. انظر: "الصلة" لابن بشكوال (2/ 457)، و"شجرة النور الزكية" (1/ 129)، و"سير أعلام النبلاء" (19/ 586)، و"تذكرة الحفاظ" (4/ 1269). 141 - غيلان بن عقبة بن بهيش بن مسعود العدوي، من مضر، شاعر من شعراء العصر الأموي، ومن عشاق العرب المشهورين، كان معروفاً بحبه لـ"مَيّ"، وقد اشتهر بها، فصار يقال: غيلان ميّ، وأكثر شعره تشبيب وبكاء أطلال، كان مقيماً بالبادية، ويختلف إلى اليمامة والبصرة كثيراً، وقد امتاز بإجادة التشبيه، قال جرير: لو خرس ذو الرمة بعد قصيدته: (ما بال عينك منها الماء ينسكب)، لكان أشعر الناس. مات سنة (117 هـ). انظر: "خزانة الأدب" (1/ 50)، و"الشعر والشعراء" (524)، و"طبقات فحول الشعراء" (2/ 534)، و"الأغاني" (16/ 106). 142 - القاضي أبو الفتوح عبد الله بن محمد بن علي بن أبي عقامة، من فضلاء أصحابنا المتأخرين، له مصنفات حسنة، من أغربها وأنفسها كتاب "الخناثي" مجلد لطيف، فيه نفائس حسنة، ولم يسبق إلى تصنيف مثله، وقد انتخبت مقاصده مختصرة،
وذكرتها في أواخر باب ما ينقض الوضوء من "شرح المهذب". 143 - القاضي حسين بن محمد بن أحمد، أبو علي المروزي، العلامة شيخ الشافعية بخراسان، تفقه بأبي بكر القفال المروزي، وكان من أوعية العلم، وكان يلقب بحبر الأمة، وهو من أصحاب الوجوه في لمذهب، مات بمرو سنة (462 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (18/ 260)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (4/ 356)، و"وفيات الأعيان" (2/ 134). 144 - القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمروبن موسى بن عياض، العلامة، عالم المغرب، أبو الفضل اليحصبي السبتي، مولده سنة (476 هـ)، وأصله أندلسي، تحول جده إلى "فاس"، ثم سكن "سبتة"، صنف التصانيف التي سارت بها الركبان، واشتهر اسمه وبعد صيته، وكان من أهل العلم والتفنن والذكاء والفهم، ولي القضاء وله خمس وثلاثون سنة، فسار بأحسن سيرة، ولم يكن أحد بـ "سبتة" في عصره أفضل منه، وله تآليف منها كتاب: "الشفا في شرف المصطفى"، و"مشارق الأنوار في اقتفاء صحيح الآثار من الموطأ والصحيحين"، و"ترتيب المدارك"، وغيرها. مات سنة (544 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (20/ 213، و"تذكرة الحفاظ" (4/ 1304)، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي (1/ 470). 145 - القاضي محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن قاسم البصري، أبو بكر الباقلاني البغدادي، الإمام العلامة، أوحد المتكلمين، مقدم الأصوليين، صاحب التصانيف، كان يضرب المثل بفهمه وذكائه، وكان ثقة إماماً بارعاً، انتصر لطريقة الإمام أبي الحسن الأشعري، وإليه انتهت رياسة المالكية في وقته، وكان له بجامع البصرة حلقة عظيمة، مات سنة (403 هـ)، وكانت جنازته مشهودة. انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (5/ 379)، و"تبيين كذب المفتري" لابن عساكر (169)، و"سير أعلام النبلاء" (17/ 190). 146 - قبيصة بن ذؤيب أبو سعيد الخزاعي المدني ثم الدمشقي، مولده عام الفتح سنة ثمان، الإمام الكبير الفقيه الوزير، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وهو صبي لم يعِ، وقد صار على الختم والبريد للخليفة عبد الملك، وله دار مقبلة بباب البريد، وكان ثقَة مأموناً كثير الحديث، قال الزهري: كان قبيصة بن ذؤيب من علماء هذه الأمة، مات سنة (86 هـ)، وقد أصيبت عينه يوم الحرة. انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 176)،
و"سير أعلام النبلاء" (4/ 282)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 57). 147 - قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز، أبو الخطاب، السدوسي البصري الضرير الأكمه، حافظ العصر وقدوة المفسرين والمحدثين، وقد كان مع حفظه وعلمه بالحديث رأساً في العربية واللغة وأيام العرب والنسب، وهو حجة بالإجماع إذا بيَّن السماع؛ فإنه مدلس معروف بذلك، ولد سنة (60 هـ)، مات بواسط في الطاعون سنة (118 هـ) انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 229)، و"سير أعلام النبلاء" (5/ 269)، و"العبر" (1/ 146)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 122)، و"طبقات المفسرين" (2/ 43). 148 - قيس بن خويلد بن كاهل بن الحارث بن تميم بن هذيل بن مدركة، والعيزارة أمه، شاعر جاهلي، أَسَرَتْهُ (فَهْم)، وأخذ تأبط شراً سلاحَه، ثم أفلت قيس منه، ورثى أخاه الحارث بن خويلد لما أصابه حَبَنٌ -وهو داء في البطن- بمكة فمات. انظر: "الحيوان" للجاحظ (4/ 469)، و"معجم الشعراء" للمرزباني (326)، و"ديوان الهذليين (3/ 28). 149 - كعب بن عجرة بن أمية بن عدي البلوي، حليف الأنصار، شهد عمرة الحديبية، ونزلت فيه قصة الفدية، وهو من أهل بيعة الرضوان، قطعت يده في بعض المغازي، ثم سكن الكوفة، ومات بالمدينة سنة (71 هـ)، وقيل غير ذلك. انظر: "سير أعلام النبلاء" (3/ 52)، و"العبر" (1/ 57)، و"الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 297). 150 - الكميت بن معروف بن الكميت الأكبر بن ثعلبة بن نوفل الأسدي، أبو أيوب، شاعر مخضرم، عاش أكثر حياته في الإسلام، وعرف بميله إلى آل البيت، وله فيهم قصائد مشهورة سميت بالهاشميات، مات سنة (60 هـ). انظر: "طبقات فحول الشعراء" (1/ 190)، و"خزانة الأدب" (3/ 366)، و"الأغاني" (19/ 109). 151 - لقيط بن يعمر بن خارجة الإيادي، شاعر جاهلي فحل، من أهل الحيرة، كان يحسن الفارسية، واتصل بكسرى "سابور" ذي الأكتاف، فكان من كتابه والمطلعين على أسرار دولته، ومن مقدَّمي تراجمته، وهو صاحب القصيدة التي مطلعها: يا دار عمرة من محتلها الجرعا 152 - الليث بن سعد، أبو الحارث الفهمي مولاهم، الأصبهاني الأصل المصري، شيخ الديار المصرية وعالمها ورئيسها، الإمام الحافظ، كان الشافعي يتأسف على فراقه وكان يقول: هو أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وقد كان الليث فقيه البدن،
عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الشعر والحديث، حسن المذاكرة، إماماً حجةً، كثيرَ التصانيف، مات سنة (175 هـ) وله إحدى وثمانون سنة. انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 517)، و"حلية الأولياء" (7/ 318) و"سير أعلام النبلاء" (8/ 136)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 224). 153 - مالك بن مِغْول بن عاصم بن عزيَّة بن خرشة، أبو عبد الله البجلي الكوفي، الإمام الثقة المحدث الثبت، كان رجلاً صالحاً مبرزاً في الفضل، وكان من سادة العلماء، مات سنة (159 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (6/ 365)، و"سير أعلام النبلاء" (7/ 174)، و"العبر" (1/ 233). 154 - مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي الأسود، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، الإمام، شيخ القراء والمفسرين، الثقة الفقيه العالم، روى عن ابن عباس فأكثر وأطاب، وعنه أخذ القرآن، وقد عرضه عليه ثلاثين مرة، كما أخذ عنه التفسير والفقه، وكان كثير الأسفار والتنقل، سكن الكوفة بأخرة، ومات بها سنة (102 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 466)، و"حلية الأولياء" (3/ 279)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 449). 155 - محمد بن إبراهيم بن المنذر، أبو بكر النيسابوري، الحافظ العلامة الفقيه الأوحد شيخ الحرم، وصاحب الكتب التي لم يصنف مثلها؛ ككتاب "المبسوط" في الفقه، كان غاية في معرفة الاختلاف والدليل، وكان مجتهداً لا يقلد أحداً، وقد صنف في اختلاف العلماء كتباً لم يصنف مثلها. مات بمكة سنة (309 هـ) أو (310 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (17/ 338)، و"تذكرة الحفاظ" (3/ 782). 156 - محمد بن أبي القاسم أحمد بن شيخ المالكية أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد، أبو الوليد القرطبي، العلامة فيلسوف الوقت، كان أوحد زمانه في الفقه والخلاف، لم ينشأ في الأندلس مثله كمالاً وعلماً وفضلاً، وكان متواضعاً، منخفض الجناح، ويقال عنه: إنه ما ترك الاشتغال بالعلم مذ عَقَل سوى ليلتين: ليلة موت أبيه، وليلة عرسه، وإنه سود في ما ألّف وقيَّد نحواً من عشرة آلاف ورقة، له تصانيف عدة من أجلها: "بداية المجتهد". مات سنة (605 هـ). انظر: "التكملة" لابن الأبار (2/ 553)، و"سير أعلام النبلاء" (21/ 307)، و"العبر" (4/ 320). 157 - محمد بن أحمد الأزهر بن طلحة، أبو منصور الأزهري الهروي، اللغوي
الأديب، الشافعي المذهب، ورد بغداد وأدرك ابن دريد ولم يرو عنه، وقد أخذ في بغداد عن نفطويه وابن السراج، ويذكر أنه رأى الزّجّاج وأبا بكر بن الأنباري ولم يأخذ عنهما شيئاً، وقع في أسر القرامطة فكان في سهم عرب نشؤوا بالبادية، فبقي في أسرهم دهراً طويلاً، فاستفاد من مخاطباتهم ومحاورة بعضهم بعضاً ألفاظاً جمّة ونوادر كثيرة، وقد صنف كتباً كثيرة منها: "التهذيب في اللغة"، و"الصحاح"، و"علل القراءات" وغيرها. مات سنة (370 هـ). انظر: "معجم الأدباء" (17/ 164)، و"نزهة الألباء" (323)، "سير أعلام النبلاء" (16/ 315)، و"البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" (186)، و"بغية الوعاة" (1/ 19). 158 - محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر، أبو بكر، فخر الإسلام، الشاشي التركي، الإمام العلامة، شيخ الشافعية، فقيه العصر، مصنف "المستظهري" في المذهب وغير ذلك، انتهت إليه رياسة المذهب، تخرّج به الأصحاب ببغداد، وكان يسمى الجنيد؛ لدينه وورعه وزهده. مات سنة (507 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (19/ 393)، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (6/ 70)، و"وفيات الأعيان" (4/ 219)، و"شذرات الذهب" (4/ 16). 159 - محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار، أبو بكر، وقيل: أبو عبد الله القرشي المطلبي، مولاهم، المدني، العلامة الحافظ الأخباري صاحب "السيرة النبوية"، رأى أنس بن مالك بالمدينة، وسعيد بن المسيب، وهو أول من دوّن العلم بالمدينة، وذلك قبل مالك وذويه، وكان في العلم بحراً عجَّاجاً، ولكنه ليس بالمجوّد كما ينبغي، فحديثه يأتي في أدنى مراتب الصحيح. مات سنة (150 هـ) وقيل غير ذلك. انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 321)، و"تاريخ بغداد" (1/ 214)، و"سير أعلام النبلاء" (7/ 33)، و"ميزان الاعتدال" (3/ 468). 160 - محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه، أبو عبد الله الجعفي مولاهم، البخاري، شيخ الإسلام وإمام الحفاظ، صاحب "الصحيح" والتصانيف، حفظ تصانيف ابن المبارك وهو صبي، نشأ يتيماً، ورحل مع أمه وأخيه بعد أن سمع مرويات بلده، وكان رأساً في الذكاء، رأساً في العلم، ورأساً في الورع والعبادة، وكان يقول: أحفظ مئة ألف حديث صحيح، وأحفظ مئتي ألف حديث غير صحيح، قال ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من البخاري. مات سنة (256 هـ). انظر:
"تاريخ بغداد" (2/ 4)، و"سير أعلام النبلاء" (12/ 391)، و"تذكرة الحفاظ" (2/ 555). 161 - محمد بن الإمام علي بن أبي طالب، أبو القاسم، وأبو عبد الله القرشي الهاشمي المدني، السيد الإمام، ولد في العام الذي مات فيه أبو بكر الصديق، كان ورعاً كثير العلم، وقد أسند عن سيدنا علي كثيراً، مات سنة (80 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 91)، و"حلية الأولياء" (3/ 174)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 110). 162 - محمد بن السائب بن بشر الكلبي، أبو النضر، العلامة الأخباري المفسر، كان رأساً في الأنساب، إلا أنه متروك الحديث، يروي عنه ولده هشام وطائفة، وكان الثوري يروي عنه ويدلسه فيقول: حدثنا أبو النضر. مات سنة (146 هـ). 163 - محمد بن جرير بن يزيد بن كثير، أبو جعفر الطبري، من أهل آمُل طبرستان، الإمام المعلم المجتهد، عالم العصر، صاحب التصانيف البديعة، أكثر الترحال، ولقي النبلاء من الرجال، وكان من أفراد الدهر علماً وذكاء وكثرة تصانيف، كان من كبار أئمة الاجتهاد، وصنف تصانيف حسنة تدل على سعة علمه، مع الثقة والصدق والحفظ، كان رأساً في التفسير، إماماً في الفقه والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفاً بالقراءات وباللغة، وغير ذلك. مات سنة (311 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" (2/ 162)، و"طبقات المفسرين" للداودي (2/ 106)، و"سير أعلام النبلاء" (14/ 267)، و"طبقات القراء" للذهبي (1/ 212). وانظر اختيار ابن جرير الطبري بأن الوارث هو الطفل المولود: "التفسير" له (2/ 505). 164 - محمد بن داود بن علي، أبو بكر الظاهري، العلامة البارع، ذو الفنون، كان أحد من يضرب المثل بذكائه، وله بصر تام بالحديث وبأقوال الصحابة، وكان يجتهد ولا يقلد أحداً، تصدّر للفتيا بعد والده، وكان يناظر أبا العباس بن سريج، ولا يكاد ينقطع عنه، وقد كان ذا سيرةٍ محمودة، محبباً إلى الناس، مات سنة (297 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" (5/ 256)، و"المنتظم" لابن الجوزي (6/ 93)، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 259)، و"سير أعلام النبلاء" (13/ 109). 165 - محمد بن زياد، أبو عبد الله المعروف بابن الأعرابي، مولى بني هاشم، وكان أبوه زياد عبداً سندياً، كان ابن الأعرابي ربيباً للمفضل الضبي، قرأ عليه "العين"، وسمع دواوين الأشعار وصححها، وأخذ عن الكسائي، وأبي معاوية الضرير، وروى
عنه ابن السكيت وثعلب وغيرهما، وكان أحول أعرج، وله عدة كتب منها "النوادر"، و"تاريخ القبائل"، وغيرهما. مات سنة (231 هـ). انظر: "معجم الأدباء" (18/ 189)، و"إنباه الرواة" (3/ 128)، و"البلغة" (196)، و"بغية الوعاة" (1/ 105). 166 - محمد بن سالم، أبو سهل الهمداني صاحب الشعبي، ضعفوه جداً، وقال ابن المبارك: أضربوا على حديثه، وقال يحيى القطان: ليس بشيء، وكان أحمد لا يروي حديثه، وقال السعدي: غير ثقة، وقال ابن معين: ضعيف، ويقال: له مؤلف في الفرائض، توفي سنة (150 هـ) تقريباً. انظر: "ميزان الاعتدال" للذهبي (6/ 158)، و"لسان الميزان" (7/ 359)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة: 5898). 167 - محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان بن هارون، أبو سهل الحنفي العجلي الصعلوكلي النيسابوري، الإمام العلامة ذو الفنون، الفقيه الشافعي المتكلم، والنحوي المفسر، اللغوي الصوفي، شيخ خراسان، أفتى ودرس بنيسابور نيفاً وثلاثين سنة، وهو صاحب وجه في المذهب، وله غرائب، ومناقبة جمة. مات سنة (369 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (16/ 235)، و"تبيين كذب المفتري" لابن عساكر (183 - 188)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (3/ 167). 168 - محمد بن سيرين، أبو بكر، مولى أنس بن مالك، الإمام الرباني، كان فقيهاً إماماً غزير العلم ثقة ثبتاً، علامة في التعبير، رأساً في الورع، قال مورق العجلي: ما رأيت أحداً أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه من ابن سيرين، وقد كان ابن سيرين صاحب ضحك ومزاح. مات سنة (110 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 193)، و"تاريخ بغداد" (5/ 331) و"سير أعلام النبلاء" (4/ 606). 169 - محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح، أبو بكر التميمي الأبهري المالكي، الإمام العلامة، القاضي المحدث، شيخ المالكية، نزيل بغداد وعالمها، ولد في حدود التسعين ومئتين، كان ثقة مأموناً زاهداً ورعاً، شُدَّت إليه الرحلة من أقطار الدنيا، وكان معظماً عند سائر العلماء، وله في شرح المذهب تصانيف، وردٌ على المخالفين، حدث عنه كثير من الناس، وانتشر عنه المذهب في البلاد. مات سنة (375 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" (5/ 462)، و"ترتيب المدارك" (4/ 466)، و"سير أعلام النبلاء" (16/ 332). 170 - محمد بن عبد الوهاب البصري، أبو علي الجبائي، شيخ المعتزلة، وقد كان
على بدعته متوسعاً في العلم، سيال الذهن، وهو الذي ذلل الكلام وسهله، ويسر ما صعب منه، له عدة مصنفات، مات بالبصرة (303 هـ) وله ثمان وستون سنة. انظر: "سير أعلام النبلاء" (14/ 183)، و"لسان الميزان" (5/ 271). 171 - محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي، أبو بكر القَفَّال الشافعي الكبير، الإمام العلامة الفقيه الأصولي اللغوي، عالم خراسان وإمام وقته بما وراء النهر، وصاحب التصانيف، كان أعلم أهل ما وراء النهر بالأصول، وأكثرهم رحلة في طلب الحديث، سمع ابن خزيمة، وابن جرير الطبري، وطبقتهما. مات سنة (336 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (16/ 283). 172 - محمد بن علي بن حسن، أبو بكر النقاش المصري نزيل تنيس، الحافظ الإمام الجوال، كان من علماء الحديث، ارتحل إليه الدارقطني إلى تنيس، وكان منزويا لله بها، فلهذا لم ينتشر حديثه، مات بـ"تنيس" سنة (368 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (16/ 234)، و"تذكرة الحفاظ" (3/ 958). 173 - محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري، ابن دقيق العيد، أبو الفتح المنفلوطي الصعيدي المالكي والشافعي، الإمام المجتهد المحدث الحافظ العلامة، شيخ الإسلام، وصاحب التصانيف النافعة، كان من أذكياء زمانه، واسع العلم، كثير الكتب، مكباً على الاشتغال، وقوراً ورعاً، قل أن ترى العيون مثله، وله يد طولى في الأصول والمعقول، وخبرة بعلل المنقول، ولي قضاء الديار المصرية إلى أن مات سنة (702 هـ). انظر: "تذكرة الحفاظ" (4/ 1481)، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي (ترجمة: 1134). 174 - محمد بن عيسى بن سورة السلمي، أبو عيسى الترمذي، الإمام الحافظ مصنف "الجامع" وكتاب "العلل"، طاف البلاد، وسمع خلقاً من الخراسانيين والعراقيين والحجازيين، وكان يضرب به المثل في الحفظ، مات سنة (279 هـ). قال عمران بن علاّن: مات محمد بن إسماعيل البخاري، ولم يخلف بخراسان مثل أبي عيسى في العلم والورع، بكى حتى عَمِيَ، رحمه الله تعالى. انظر: "سير أعلام النبلاء" (13/ 270)، و"تذكرة الحفاظ" (2/ 633)، و "طبقات الحفاظ" للسيوطي (282). 175 - محمد بن كعب بن سليم، أبو حمزة القرظي، الإمام العلامة الصادق، كان
من أوعية العلم، ومن أئمة التفسير، وكان ثقة عالماً بالحديث ورعاً، يرسل كثيراً، ويروي عمن لم يلقهم، سكن الكوفة، ثم المدينة، وقيل إنه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصح ذلك، مات سنة (108 هـ). انظر: "حلية الأولياء" (3/ 212)، و"سير أعلام النبلاء" (5/ 65)، و"شذارت الذهب" (1/ 136). 176 - محمد بن مسلم بن تدرس، مولى حكيم بن حزام، أبو الزبير المكي القرشي الأسدي، الحافظ المكثر الصدوق، كان من أكمل الناس عقلاً وأحفظهم، قال غير واحد: هو مدلس، فإذا صرح بالسماع، فهو حجة، وقد أخرج له البخاري مقروناً. مات سنة (128 هـ). انظر: "تذكرة الحفاظ" (1/ 126)، و"ميزان الاعتدال" (6/ 333 - 332)، و"تقريب التهذيب" (ترجمة:6291). 177 - محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن كلاب، أبو بكر القرشي الزهري المدني، الإمام، أعلم الحفاظ، ومن حفظه أنه حفظ القرآن في ثمانين ليلة، قال عمر بن عبد العزيز: لم يبق أحد أعلم بسنة ماضية من الزهري، وقال مالك: بقي ابن شهاب وماله في الدنيا نظير، وكان زاهداً متقنعاً متعففاً، قال فيه عمرو بن دينار: ما رأيت الدينار والدرهم عند أحد أهون منه عند الزهري، كأنها بمنزلة البعر، مات سنة (124 هـ). انظر: "حلية الأولياء" (3/ 360)، و"سير أعلام النبلاء" (5/ 326)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 108)، و"وفيات الأعيان" (4/ 177). 178 - محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي، أبو العباس، المبرد، إمام أهل العربية، كان غزير الحفظ والمادة، قرأ كتاب سيبويه على الجرمي ثم على المازني، فلم يكن في وقته ولا بعده مثله، وعنه أخذ الزجاج، وأبو بكر بن السراج، وتصانيفه كثيرة مشهورة، ومن أهمها كتاب "الكامل" في الأدب، ومن أمثال أهل المغرب: "من لم يقرأ (الكامل) فليس بكامل". مات سنة (285 هـ). انظر: "إنباه الرواة" (3/ 241)، و"معجم الأدباء" (19/ 111)، و"البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" (216)، و"بغية الوعاة" (1/ 269). 179 - محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان، أبو العباس الأموي، مولاهم، السناني المعقلي النيسابوري الأصم، ولدُ المحدثِ الحافظ أبي الفضل الورّاق، الإمام المحدث مسند العصر، رحلة الوقت، كان أبوه من أصحاب إسحاق بن راهويه، وقد ارتحل بابنه أبي العباس إلى الآفاق، وسمَّعه الكتب الكبار، وقد لحقه
الصمم وهو شاب له بضع وعشرون سنة، حدث بكتاب "الأم" للشافعي عن الربيع، وطال عمره، وبعد صيته، وتزاحم عليه الطلبة، وكان حسن الخلق، سخي النفس، وربما كان يحتاج إلى الشيء لمعاشه فيورّق ويأكل من كسب يده. مات سنة (346 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (15/ 452)، و"تذكرة الحفاظ" (3/ 760)، و"شذارت الذهب" (2/ 373). 180 - مسروق بن الأجدع، أبو عائشة الهمداني الكوفي، الإمام الفقيه أحد الأعلام، كان أبوه فارس أهل اليمن في زمانه، وكانت عائشة -رضي الله عنها- قد تبنته، قال الشعبي: ما علمت أحداً كان أطلب للعلم منه، وكان أعلم بالفتوى من شريح، وكان شريح يستشيره، وكان مسروق يصلي حتى تتورم قدماه. مات سنة (63 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (4/ 63)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 49). 181 - مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار، أبو مصعب اليساري الهلالي، ابن أخت الإمام مالك، وقد تفقه به، وبابن الماجشون، وابن أبي حازم، كان فقيهاً مبرزاً، روى عن مالك بن أنس -الموطأ وغيره- وكانوا يقدمونه على أصحاب مالك، مات سنة (220 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (5/ 438)، و"ترتيب المدارك" (3/ 133). 182 - معمر بن المثنى، أبو عبيدة البصري، مولى بني تيم قريش، النحوي اللغوي، كان من أعلم الناس باللغة وأنساب العرب وأخبارها، وهو أول من صنف في غريب الحديث، وكان عالماً بالشعر، وله عدة كتب، منها: "غريب الحديث"، و"الديباج"، و"الجمع والتثنية"، وغيرها، حتى قيل: إن تصانيفه تقارب المئتين. مات سنة (208 هـ) وعمره ثمان وتسعون سنة. انظر: "معجم الأدباء" (9/ 154)، و"إنباه الرواة" (3/ 276)، و"البلغة" (224)، و"بغية الوعاة" (2/ 294). 183 - مقاتل بن حيان بن دَوَال دُوْر، أبو بسطام النبطي البلخي، الخراز الثقة، طوّف وجال، وكان من العلماء العاملين، ذا نسك وفضل، وصاحب سنة، هرب من خراسان أيام أبي مسلم صاحب الدولة إلى بلاد كابل، فدعاهم إلى الله، فأسلم على يديه خلق. مات في حدود (150 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (2/ 329)، و"سير أعلام النبلاء" (6/ 340)، و"ميزان الاعتدال" (4/ 171). 184 - مكحول بن أبي مسلم، أبو عبد الله الهذلي، الفقيه الحافظ، عالم أهل
الشام، كان يقول عن نفسه: طفت الأرض في طلب العلم، وكان يرسل ويدلس عن أبي بن كعب، وعبادة بن الصامت، وعائشة، والكبار، قال سعيد بن عبد العزيز: كان مكحول أفقه من الزهري، وكان بريئاً من القدر. مات سنة (113 هـ)، وقيل غير ذلك. انظر: "سير أعلام النبلاء" (5/ 155)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 107). 185 - مكي بن أبي طالب (حموش) بن محمد بن مختار، أبو محمد القيسي القيرواني ثم القرطبي، العلامة المقرئ صاحب التصانيف، ولد بالقيروان سنة (355 هـ)، كان من أوعية العلم، مع الدين والسكينة والفهم، دخل الأندلس وأقرأ بجامع قرطبة، وعظم اسمه، وبعد صيته، وكان خيراً مشهوراً بإجابة الدعاء، وله ثمانون مصنفاً. مات سنة (437 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (17/ 591)، و"ترتيب المدارك" (4/ 737)، و"الصلة" لابن بشكوال (2/ 631). 186 - ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن ثعلبة، ويكنى أبا بصير، صنَّاجة العرب، كان ممن يحسنون المدح والذم، يضعهما حيثما اتفق له، فإن أرضاه هذا مدحه، وإن تجاهله ذاك أو أساء إليه قليلاً شتمه وذمَّه وهجاه، فكانت حياته مليئة بالخصومات بسبب هجائه وسلاطة لسانه، أدرك الإسلام ولم يسلم. انظر: "الأغاني" (9/ 108)، و"طبقات فحول الشعراء" (1/ 52). 187 - نافع، أبو عبد الله القرشي ثم العدوي العمري، مولى ابن عمر وراويته، الإمام المفتي الثبت عالم المدينة، روى عن ابن عمر وعائشة وأبي هريرة وطائفة، بعثه عمر بن عبد العزيز إلى أهل مصر يعلمهم السنن، كما ولاّه صدقات اليمن. مات سنة (117 هـ)، وكان ثقة نبيلاً. انظر: "سير أعلام النبلاء" (5/ 95)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 99)، و"وفيات الأعيان" (5/ 367)، و"شذرات الذهب" (1/ 154). 188 - هشام بن عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن قصي بن كلاب، أبو المنذر الأسدي، الزبيري المدني، الإمام الثقة، شيخ الإسلام، كان ثبتاً ثقة كثير الحديث، حجة، وله نحو من أربع مئة حديث، توفي ببغداد سنة (146 هـ) وله ثمانون سنة. انظر: "تاريخ بغداد" (14/ 47)، و"سير أعلام النبلاء" (6/ 34)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 144). 189 - همّام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي، أبو فراس، لُقِّبَ بالفرزدق لجهامة وجهه وغلظه، شاعر من النبلاء، من أهل البصرة، عظيم الأثر في اللغة، كان
شريفاً في قومه، عزيز الجانب، ويحمي من يستجير بقبر أبيه، وهو من أقطاب العصر الأموي في الشعر، وهو صاحب الأخبار مع جرير والأخطل، ومهاجاته لهما أشهر من أن تذكر، مات في بادية البصرة سنة (110 هـ) وقد قارب المئة. انظر: "طبقات فحول الشعراء" (2/ 398)، و"الشعر والشعراء" (1/ 471)، و"الأغاني" (8/ 5). 190 - يحيى بن زياد بن مروان الأسلمي الديلمي الكوفي مولى بني أسد، أبو زكريا المعروف بالفرَّاء، أخذ عن الكسائي، وكان أعلم الكوفيين بالنحو من بعده، وكان فقيهاً عالماً بالخلاف وبأيام العرب وأخبارها وأشعارها، عارفاً بالطب والنجوم، متكلماً، يميل إلى الاعتزال، كان يقال: الفراء أمير المؤمنين في النحو، من مصنفاته: "معاني القرآن"، و"كتاب اللغات"، و"كتاب الوقف والابتداء"، و"كتاب النوادر" وغيرها، توفي وهو في طريقه إلى مكة سنة (207 هـ) وقد بلغ ثلاثاً وستين سنة. انظر: "معجم الأدباء" (20/ 9)، و"نزهة الألباء" (98)، و"البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" (238)، و"بغية الوعاة" (2/ 333). 191 - يحيى بن سعيد بن فروخ القطان، أبو سعيد التميمي، مولاهم البصري، الإمام الكبير، الحافظ، أمير المؤمنين في الحديث، عُني بهذا الشأن أتم عناية، ورحل فيه، وساد الأقران، وانتهى إليه الحفظ، وتكلم في العلل والرجال، وتخرج به الحفاظ؛ كمسدّد، وكان ثقة مأموناً رفيعاً حجة، وكان في الفروع على مذهب أبي حنيفة إذا لم يجد النص، مات سنة (198 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 293)، و"حلية الأولياء" (8/ 380)، و"سير أعلام النبلاء" (9/ 175)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 298). 192 - يحيى بن معين، أبو زكريا المري، مولاهم البغدادي، الإمام الفرد سيد الحفاظ، وأحد الأئمة في الحديث، الثقة المأمون، قال ابن المديني: لا نعلم أحداً من لدن آدم -عليه السلام- كتب من الحديث ما كتب يحيى بن معين، وقد قال ابن معين: كتبت بيدي ألف ألف حديث، مات بالمدينة سنة (233 هـ)، وقد انتهى إليه علم الناس -رحمه الله تعالى- كما قال علي بن المديني. انظر: "تاريخ بغداد" (14/ 178)، و"سير أعلام النبلاء" (11/ 71)، و"تذكرة الحفاظ" (2/ 429). 193 - يحيى بن يعمر، أبو سليمان العدواني البصري، ويكنى أبا عدي، قاضي مرو، الفقيه العلامة المقرئ، حدث عن أبي ذر، وعائشة، وابن عباس، وعدة، وقرأ
القرآن على أبي الأسود الدؤلي، كان من أوعية العلم، وحملة الحجة، وكان ذا لسن وفصاحة، وقيل: إنه كان أول من نقط المصاحف، وقد توفي قبل سنة (90 هـ). انظر: "الطبقات الكبرى" (7/ 368)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 441)، و"معجم الأدباء" (20/ 42). 194 - يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن حبيش بن بُجير، أبو يوسف الأنصاري الكوفي، الإمام المجتهد، العلامة المحدث، قاضي القضاة، صاحب أبي حنيفة، كان يحفظ التفسير والمغازي وأيام العرب، وكان أحد علومه الفقه، وقد بلغ من رئاسة العلم ما لا مزيد عليه، وكان الرشيد يبالغ في إجلاله. مات سنة (182 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" (14/ 242)، و"سير أعلام النبلاء" (8/ 535)، و"الجواهر المضية" (2/ 220)، و"الفؤاد البهية" (225). 195 - يعقوب بن إسحاق، أبو يوسف المعروف بابن السكيت، إمام اللغة والنحو والأدب، ومن أهل الدين والخير، لقي فصحاء العرب وأخذ عنهم، كان مؤدباً لولد المتوكل على الله والمعتز بالله، وكان سبب موته: أن المتوكل قال له: من أعزّ عندك؟ ولداي أم الحسن والحسين؟ فقال: منبر خادم عليّ خيرٌ منك ومن ابنيك، فأمر الأتراك فداسوا بطنه إلى أن مات، وذلك سنة (243 هـ). وله كتاب: "إصلاح المنطق". انظر: "معجم الأدباء" (20/ 50)، و"نزهة الألباء" (178)، و"البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة" (243)، و"بغية الوعاة" (2/ 349). 196 - يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم، أبو عمر النمري القرطبي، الإمام شيخ الإسلام، حافظ المغرب، ساد أهل الزمان في الحفظ والإتقان، ودأب في طلب الحديث، وافتن به، وبرع براعة فاق بها من تقدمه من رجال الأندلس، وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصره بالفقه والمعاني، له بسطة كبيرة في علم النسب والأخبار، وله تآليف لا مثيل لها في جمع معانيها مثل: كتاب "الاستذكار"، وكتاب "التمهيد" وهما من أعظم كتب الإسلام. مات سنة (463 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (18/ 153)، و"تذكرة الحفاظ" (30/ 1128). 197 - يوسف بن يحيى، أبو يعقوب المصري البويطي، الإمام العلامة سيد الفقهاء، صاحب الإمام الشافعي، لازمه مدة، وتخرج به، وفاق الأقران، كان إماماً في العلم، قدوة في العمل، زاهداً ربانياً، متهجداً دائم الذكر والعكوف على الفقه، قال
الشافعي: ليس في أصحابي أحد أعلم من البويطي، مات في قيده مسجوناً بالعراق سنة (231 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (12/ 58)، و"العبر" (1/ 411)، و"وفيات الأعيان" (7/ 61)، و"شذرات الذهب" (20/ 71). 198 - يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة بن حفص بن حيان، أبو موسى الصدفي المصري، المقرئ الحافظ الإمام شيخ الإسلام، قرأ القرآن على ورش صاحب نافع، وكان من كبار المعدّلين والعلماء في زمانه، قال الشافعي: ما يدخل من هذا الباب -يعني الباب الأول من أبواب المسجد الجامع- أحدٌ أعقل من يونس بن عبد الأعلى. مات سنة (264 هـ)، وقد عاش أربعاً وتسعين سنة. انظر: "سير أعلام النبلاء" (12/ 348)، و"تذكرة الحفاظ" (2/ 527)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (2/ 170)،و"شذرات الذهب" (2/ 149). * * *