توفيق الرحمن في دروس القرآن

فيصل المبارك

تَألِيفُ فَضَيلةِ الشَّيْخِ العَلاَّمةِ فَيْصَلَ بِنَ عَبدِ العَزِيزِ آل مُبَارَك ت 1376هـ رَحِمَهُ اللهُ الجزء الأول من سورة الفاتحة إلى سورة النساء آية 147

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله الذي أنزل على عبده لكتاب تبيانًا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، وفصّله قرآنًا عربيًا لقوم يعلمون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربَّ السماوات وربّ الأرض ربّ العالمين. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلَّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الأكرمين، وسلم تسليمًا. أمّا بعد: فإن تفسير القرآن أشرف علوم الدين، وقد صنف فيه الأئمة ما يشفي ويكفي، ما بين مختصر ومطول، ولكن لا بد من تفسيره للناس بلسانهم، وتبيين معانيه على قدر أفهامهم. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وأكثر ما في هذا الكتاب نقلته من تفسير ابن جرير، وابن كثير، والبغوي رحمهم الله تعالى، فما كان بلفظه عزوته، وما تصرفت فيه لم أعزه. اللهم اعصمنا من القول عليك بلا علم، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

قال صاحب (الفوز الكبير في أصول التفسير) رحمه الله تعالى: ... (معاني القرآن المنطوقة لا تخرج عن خمسة علوم: علم الأحكام، وعلم المخاصمة والرد على الفرق الضالة، وعلم التذكير بآلاء الله، وعلم التذكير بأيام الله، وعلم التذكير بالموت وما بعده، فوجود العقائد الباطلة سبب لنزول آيات لمخاصمة، ووجود الأعمال الفاسدة وجريان المظالم فيما بينهم سبب لنزول آيات الأحكام، وعدم تيقظهم بآلاء الله، وأيام الله، ووقائع الموت وما بعده سبب لنزول آيات التذكير. قال بعض العارفين: إن الناس لما حفظوا قواعد التجويد شغلوا عن الخشوع في التلاوة. ولما ساق المفسرون الوجوه البعيدة في التفسير، صار علم التفسير نادرًا كالمعدوم. ومن المواضع الصعبة في فن التفسير معرفة الناسخ والمنسوخ، فمعنى النسخ عند المتقدمين: إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى، إما بانتهاء مدة العمل، أو بصرف الكلام عن المعنى المتبادر، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقيًا، أو تخصيص عام، أو بيان الفارق بين المنصوص، وما قيس عليه ظاهرًا، أو إزالة عدة الجاهلية أو الشريعة السابقة، فاتسع باب النسخ عندهم، وكثر جولان العقل هنالك، واتسعت دائرة الاختلاف. والمنسوخ باصطلاح المتأخرين عدد قليل قريبًا من عشرين آية، وفي أكثرها نظر، ولا يتعين النسخ إلا في خمس آيات: الأولى، قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} منسوخة بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ) الآيات. الثانية: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً

إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} الآية منسوخة عند الجمهور بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} الثالثة: قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} الآية منسوخة بالآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} الرابعة: قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} منسوخة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} الآية. الخامسة: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} الآية منسوخة بالآية التي بعدها: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . انتهى ملخصًا مع تقديم وتأخير. قلت: والمتفق عليه من الخمس ثلاث آيات: آية الوصية، وآية القتال، وآية النجوى.

وقال ابن جرير على قوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} : (قال ابن زيد: ونسخ هذا لما أمر بالجهاد. قال ابن جرير: هذا قول لا وجه له؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يزل صابرًا على ما يلقى منهم حتى توفاه الله قبل أن يأذن الله بحربهم وبعده) انتهى ملخصًا. وقال صاحب الفوز أيضًا: (ومن المواضع الصعبة: معرفة أسباب النزول، والذي يظهر من استقراء كلام الصحابة والتابعين، أنهم لا يستعملون نزلت في كذا لمحض قصة في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وهي سبب نزول الآية، بل ربما يذكرون بعض ما صدقت عليه الآية مما كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - أو بعده، ويقولون نزلت في كذا، ولا يلزم هناك انطباق جميع القيود؛ بل يكفي انطباق أصل الحكم فقط، وقد يقررون حادثة تحققت في تلك الأيام المباركة، واستنبط - صلى الله عليه وسلم - حكمها من آية، وتلاها في ذلك الباب، ويقولون نزلت في كذا، وربما يقولون في هذه السورة. فأنزل الله قوله كذا فكأنه أشار إلى أن استنباطه - صلى الله عليه وسلم - وإلقاؤها في تلك الساعة بخاطره المبارك أيضًا نوع من الوحي، والمنفث في الروع، فلذلك يمكن أن يقال: فأنزلت. ويمكن أيضًا أن يعبر في هذه الصورة بتكرار النزول) . إلى أن قال: (ومما ينبغي أن يعلم أن قصص الأنبياء السابقين لا تذكر في الحديث، إلاّ على سبيل القلة، فالقصص الطويلة العريضة التي تكلّف المفسرون روايتها كلها منقولة عن علماء أهل الكتاب إلاّ ما شاء الله تعالى، وقد جاء في صحيح البخاري مرفوعًا: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» .)

إلى أن قال: (وسبب النزول على قسمين: القسم الأول: أن تقع حادثة يظهر منها إيمان المؤمنين، ونفاق المنافقين، كما وقع في أحد، والأحزاب، أنزل الله تعالى مدح هؤلاء وذم أولئك؛ ليكون فيصلاً بين الفريقين، وربما يقع في مثل هذا من التعريض بخصوصيات الحادثة ما يبلغ حد الكثرة، فيجب أن يذكر شرح الحادثة بكلام مختصر ليتضح سوق الكلام على القارئ. القسم الثاني: أن يتم معنى الآية بعمومها، ومن غير احتياج إلى العلم بالحادثة التي هي سبب النزول والحكم؛ لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وقد ذكر قدماء المفسرين تلك الحادثة بقصد الإحاطة بالآثار المناسبة للآية، أو بقصد بيان ما صدق عليه العموم، وليس ذكر هذا القسم من الضروريات، وقد تحققتُ أن الصحابة والتابعين كثيرًا ما كانوا يقولون: نزلت الآية في كذا، وكذا، وكان غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية، وذكر بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها سواء تقدمت القصة أو تأخرت، إسرائيليًا كان ذلك، أو جاهليًا، أو إسلاميًا، استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها، والله أعلم. فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلاً، وللقصص المتعددة هنالك سعة، فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية) . انتهى ملخصًا وبالله التوفيق. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: (فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب: إن أصح طريق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل فما كان فإنه قد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنّة؛ فإنها شارحة للقرآن موضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى: كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن.

قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} ، وقال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، وقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إلا إني أوتيت القرآن ومثله معه» ، يعني: السنّة) . إلى أن قال: (والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنّة؛ كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «فبم تحكم» ؟ قال: بكتاب الله. قال: «فإن لم تجد» ؟ قال: بسنة رسول الله. قال: «فإن لم تجد» ؟ قال: أجتهد رأيي. فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدره وقال: «الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله» . وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه. وحينئذٍ إذا لم نجد التفسير في القرآن، ولا في السنّة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، والعمل الصالح؛ لاسيما علماءهم وكبراءهم) . إلى أن قال: (فسل إذا لم تجد التفسير في القرآن، ولا في السنّة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين: كمجاهد بن

جبر، فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد ابن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها) . وقال ابن جرير: أنبأنا أبو كريب: أنبأنا طلق بن غنام، عن عثمان المكي، عن ابن مليكة، قال: رأيت مجاهدًا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه الواحة. قال: فيقول له ابن عباس: أكتب. حتى سأله عن التفسير كله. ولهذا كان سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وكسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد ابن المسيب، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين، وتابعيهم، ومن بعدهم فتذكر أقوالهم في الآية، فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافًا فيحكيها أقوالاً، وليس كذلك. فإن منهم من يعبّر عن الشيء بلازمه أو بنظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في أكثر الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي) . انتهى. وقال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: تفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعلمه إلاّ العلماء، وتفسير لا يعلمه إلاّ الله، من ادعى علمه فهو كاذب. تنبيه: لم أبيّن التفسير في بعض المواضع؛ لأنه يظهر للعالم من سياق الآيات وكلام العرب الموجودين، خصوصًا من نشأ في بلادهم، وتجول فيها، فإنه يكاد يفسر القرآن ولو لم يسمع الآثار {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} . وقد كنت في صغري أهاب سؤال العلماء في بعض ما يشكل عليّ من القرآن، فأسمع الكلمة

من بعض الأعراب، فتزيل عني ما أشكل، فكنت أسمع قول الله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فجاءني أعرابي وأنا مع الغلمان، فقال لي: أين عمك؟ قلت له: ما هو في البيت. فقال لي: إذا جاء فقل له يقول حمود القحطاني: إذا ما جاء بين العشاوين جيت. فعرفت معنى الآية. وسمعت أعرابيًا يقول: (طلعت عليّا الخيل تتبع الربْع تترا) . فعرفت معنى قول الله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} ، أي: يتبع بعضهم بعضًا. وقد نشأت - ولله الحمد - في أصل العرب، وسرت في بلادهم بنجد، والحجاز، وتهامة، واليمن، والبحرين، وسمعت كلام البادية والحاضرة، وكان بعضهم - وهو أبي - إذا سمع القرآن عرف معناه بمجرد التلاوة. وسمع أعرابي رجلاً يقرأ: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} فقال الأعرابي: الخيل الخيل. وسمعت أعرابية رجلاً يقرأ هذه الآية: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} فقالت: ويش الصلاة الوسطى؟ قال: صلاة العصر. فقالت: على شان وقتها ضيّق. وتجادل رجلان فيما يفعله الجهال عند القبور من دعاء الموتى، وطلب الحاجات منهم، فقال أحدهما: هذا شرك؛ لأن الله تعالى يقول: ... {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ

فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، فقال الآخر: ما يجوز لمثلي ومثلك أن يفسر القرآن. فسكت الرجل، وكان حليمًا وهو في بيت الآخر، فخرجت عليهم جارية جميلة فقال: يا فلان من هذه؟ قال: بنتي. فقال: لو تزوجتها. فضحك به وقال: أتزوج بنتي! فقال الرجل: هل في ذلك بأس. فقال: ما تسمع قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} فقال: إنك تقول ما يجوز لمثلي ومثلك أن يفسر القرآن. والمقصود: أن من كان لسانه عربيًا، وفطرته مستقيمة، يعرف معنى القرآن بمجرد سماعه وكثيرًا ما يسألني الأعراب، وغيرهم عن مسائل غامضة في الأيتام، فأتلوا عليهم قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} ، فيعرفون الجواب بمجرد التلاوة، ويقنعون، فإذا انضم إلى العربية والفطرة السليمة معرفة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ذلك نورًا على نور، والله الهادي والموافق للصواب. * * *

فصل في فضائل القرآن قال الله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} . وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلا خَسَاراً} . وقال تعالى: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى* تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} . وقال عز وجل: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . وقال جلَّ وعلا: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لا

يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} . وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ} . وقال تعالى: {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} . وقال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُوراً} . وقال تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} . وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} . وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وقال تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} .

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} . وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} . وقال تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُواْ الألْبَابِ} . وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ * وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ} . وقال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً *

يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} . وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} . وقال تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} . وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} . وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} . وقال تعالى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً} . وقال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} . وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ

وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} ، والآيات في الأبواب كثيرة. وعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» . رواه البخاري. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الصُّفَّة، فقال: «أيّكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو العقيق، فيأتي بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم» ؟ فقلنا: يا رسول الله كلنا نحب ذلك. قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد، فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل» . رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خَلِفات عظام سمان» ؟ قلنا: نعم. قال: «فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته، خير له من ثلاث خلفات عظام سمان» . رواه مسلم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الماهر بالقرآن مع

السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويَتَعْتَع فيه، وهو عليه شاق له أجران» . متفق عليه. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حسد إلا على اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار» متفق عليه. وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأُترجّة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر» . متفق عليه. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين» رواه مسلم. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (ثلاثة تحت العرش يوم القيامة: القرآن يحاج العباد له ظهر وبطن، والأمانة، والرحم تنادي: ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله) . رواه [البغوي] في شرح السنَّة.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها» . رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب» . رواه الترمذي والدرامي، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الربُّ تبارك وتعالى من شغله القرآن عن ذكري أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» . رواه الترمذي، والدرامي، والبيهقي، في (شعب الإيمان) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ... {آلم} حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» . رواه الترمذي، والدرامي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب إسنادًا.

وعن الحارث الأعور قال: (مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على عليّ رضي الله عنه فأخبرته فقال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ألا إنها ستكون فتنة» . قلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: ... «كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» . رواه الدرامي. وعن معاذ الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ القرآن وعمل بما فيه، ألبس والداه تاجًا يوم القيامة، ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا، لو كانت فيكم. فما ظنكم بالذي عمل بهذا» ؟ . رواه أحمد، وأبو داود.

وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ القرآن فاستظهره، فأحل حلاله وحرم حرامه، أدخله الله الجنة وشفّعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار» . رواه أحمد، وابن ماجة، والدرامي. قوله: فاستظهره، أي: حفظه عن ظهر قلبه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعلموا القرآن واقرؤوه، فإن مثل القرآن لمن تعلم فقرأ وقام به، كمثل جراب محشو مسكًا تفوح ريحه في كل مكان. ومثل من تعلمه فرقد وهو في جوفه، كمثل جراب أوكى على مسك» . رواه الترمذي، والنسائي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أعربوا القرآن وابتغوا غرائبه، وغرائبه فرائضه وحدوده» . وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة، وقراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من التسبيح

والتكبير، والتسبيح أفضل من الصدقة، والصدقة أفضل من الصوم، والصوم جُنَّة من النار» . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء. قيل يا رسول الله: وما جلاؤها؟ قال: «كثرة ذكر الموت، وتلاوة القرآن» . روى البيهقي الأحاديث الثلاثة في شعب الإيمان. وعن الحسن مرسلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قرأ في ليلة مائة آية لم يحاجه القرآن تك الليلة، ومن قرأ في ليلة مائتي آية كتب له قنوت ليلة، ومن قرأ في ليلة خمسمائة إلى الألف أصبح وله قنطار من الأجر» . قالوا: وما القنطار؟ قال: «اثنا عشر ألفًا» . رواه الدرامي. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيًا من الإِبل في عقلها» . متفق عليه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت، بل نُسِّي. واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم» . متفق عليه.

وعن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإِبل المعلقة إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت» . متفق عليه. وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقرؤوا القرآن ما ائتلف عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه» . متفق عليه. وعن قتادة قال: سئل أنس كيف كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: (كانت مدًا مدًا) . ثم قرأ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم. رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن» . متفق عليه. وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به» . متفق عليه. وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» . رواه البخاري. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: «اقرأ عليَّ» . قلت: (آأقرأ عليك وعليك أنزل!؟) قال: ... «إني أحب أن أسمعه من غيري» . (فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ

وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً} ) ، قال: «حسبك الآن» ؟ (فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان) . متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأُبيّ بن كعب: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن» . قال: الله سمّاني لك؟ قال: ... «نعم» . قال: وقد ذكرت عند ربّ العالمين؟ قال: «نعم» فذرفت عيناه. وفي رواية: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} » . قال: وسمّاني؟ قال: «نعم» . فبكى. متفق عليه. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين، وإن بعضهم ليستتر ببعض من العرى، وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام علينا، فلمّا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكت القارئ، فسلّم، ثم قال: «ما كنتم تصنعون» ؟ قلنا: كنا نستمع إلى كتاب الله. فقال: «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم» . قال: فجلس وسطنا ليعدل بنفسه فينا، ثم قال بيده هكذا، فتحلقوا وبرزت وجوههم له، فقال: «أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذلك خمسمائة عام» . رواه أبو داود. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «زينوا القرآن بأصواتكم» . رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والدرامي.

وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله يوم القيامة أجذم» . رواه أبو داود، والدرامي. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» . رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة» . رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما آمن بالقرآن من استحل محارمه» . رواه الترمذي. وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوي. وعن الليث بن سعد عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مملك: (أنه سأل أم سلمة عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفًا حرفًا) . رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. وعن جابر رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نقرأ القرآن،

وفينا الأعرابي والعجمي) ، فقال: «اقرؤوا فكل حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه» . رواه أبو داود، والبيهقي في شعب الإيمان. يتعجلونه: أي: يطلبون ثوابه في الدنيا، ولا يتأجلونه بطلب الأجر في الآخرة؛ بل يؤثرون العاجلة على الآجلة. وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل العشق، ولحون أهل الكتاب، وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذي يعجبهم شأنهم» . رواه البيهقي في شعب الإِيمان، ورزين في كتابه. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا» . رواه الدرامي. وعن طاووس مرسلاً قال: (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أي الناس أحسن صوتًا للقرآن وأحسن قراءة؟ قال: «من إذا سمعته يقرأ أريت أنه يخشى الله» . قال طاووس: وكان طلق كذلك. رواه الدرامي.

وعن عبيدة المليكي، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أهل القرآن لا تتوسدوا القرآن، واتلوه حق تلاوته، وأفشوه وتغنوه وتدبروا ما فيه لعلكم تفلحون، ولا تعجلوا ثوابه فإن له ثوابًا» . رواه البيهقي في شعب الإِيمان. وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه» . متفق عليه. وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «يا أُبيّ، أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هوّن على أمتي، فرد إليّ الثانية: اقرأه على حرفين، فرددت إليه أن هوّن على أمتي، فرد إليّ الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتكها مسألة تسألينها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه السلام» . رواه مسلم. وعنه قال: (لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبرائيل فقال: «يا جبرائيل إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابًا قط» . قال: (يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف) . رواه الترمذي، وفي رواية لأحمد، وأبي داود قال: (ليس منها إلا شافٍ كافٍ) .

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه مرّ على قاص يقرأ ثم يسأل فاسترجع ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به الناس» . رواه أحمد، والترمذي. وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ القرآن يتأكل به الناس، جاء يوم القيامة ووجهه عظيم ليس عليه لحم» . رواه البيهقي في شعب الإِيمان. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سَهل الله لديه طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه» . رواه مسلم. وما أحسن ما قاله الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى: فللعمل الإِخلاص شرط إذا أتى ... وقد وافقته سنة وكتاب وقد صين عن كل ابتداع وكيف ذا ... وقد طبق الآفاق منه عباب

إلى أن قال: فلم يبقى للراجي سلامة دينه ... سوى عزلة فيها الجليس كتاب كتاب حوى كل العلوم وكل ما ... حواه من العلم الشريف صواب فإن رمت تاريخًا رأيت عجائبًا ... ترى آدمًا إذ كان وهو تراب ولاقيت هابيلاً قتيل شقيقه ... يواريه لما أن أراه غراب وتنظر نوحًا وهو في الفلك إذ طغى ... على الأرض من ماء السحاب عباب وإن شئت كل الأنبياء وقومهم ... وما قال كل منهم وأجابوا ترى كل من تهوى من القوم مؤمن ... وأكثرهم قد كذبوه وخابوا وجنات عدن حورها ونعيمها ... وناد بها للمسرفين عذاب فتلك لأصحاب التقى ثم هذه ... لكل شقي قد حواه عقاب وإن ترد الوعظ الذي إن عقلته ... فإن دموع العين عنه جواب تجده وما تهواه من كل مشرب ... فللروح منه مطعم وشراب وإن رمت إبراز الأدلة في الذي ... تريد فما تدعو إليه تجاب تدل على التوحيد فيه قواطع ... بها قطعت للملحدين رقاب وفيه الدوا مكن كل داء فثق به ... فوالله ما عنه ينوب كتاب وما مطلب إلا وفيه دليله ... وليس عليه للذكي حجاب إلى أن قال: أطيلوا على السبع الطوال وقوفكم ... تدر عليكم بالعلوم سحاب وكم من ألوف في المئين فكن بها ... ألوفًا تجد ما ضاق عنه حساب وفي طي أثناء المثاني نفائس ... يطيب بها نشر ويفتح باب وكم من فصول في الفصل قد حوت ... أصولاً إليها للذكي إياب * * *

فصل

فصل ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤوا ولا حرج، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة» . وفي رواية: «أنزل القرآن على سبعة أحرف عليم، حكيم، غفور، رحيم» . رواه ابن جرير وغيره. وعن الأعمش قال: قرأ أنس هذه الآية: {إِن ناشِئَةَ اللَّيلِ هي أَشدُّ وَطْءاً وأصوب قِيلاً} ، فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة، إنما هي ... {أَقْوَمُ} فقال: أقوم وأصوب واحد. وعن ابن سيرين قال: (نبئت أن جبرائيل وميكائيل أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له جبرائيل: اقرأ القرآن على حرفين. فقال: له ميكائيل: استزده. فقال: اقرأ القرآن على ثلاثة أحرف. فقال له ميكائيل: استزده. قال حتى بلغ سبعة أحرف) . قال محمد: لا تختلف في حلال ولا حرام، وهو كقولك: تعال، وهلم، وأقبل. قال ابن جرير: (معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نزل القرآن على سبعة أحرف» . أي: سبع لغات، كقول القائل: هلم، وأقبل، وتعال، وإليّ، وقصدي، ونحوي، وقربي، ونحو ذلك مما تختلف فيه الألفاظ، وتتفق فيه المعاني) . انتهى ملخصًا. وعن أبي قلابة قال: لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتفون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان فقام خطيبًا، فقال: أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافًا وأشد لحنًا، اجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إمامًا. قال ابن

جرير: (فاستوثقت له الأمة بالطاعة فتركت القراءة بالأحرف الستة، فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها لدثورها وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها من غير جحود صحتها. فأما اختلاف القراءة في رفع حرف وجره، ونصبه وتسكين حرف وتحريكه، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصور فبمعزل من معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف» .) . انتهى ملخصًا. وقال بعض المفسرين: ذكر الحروف التي كتب بعضها على خلاف بعض في المصحف وهي في الأصل واحدة: فأول {بِسْمِ اللهِ} كتب بحذف الألف التي قبل السين، وكتب {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، و {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ} بالألف. والأصل في ذلك كله واحد، وهو أن يكتب الألف، وإنما حذفت من {بِسْمِ ... اللهِ} فقط لأنها ألف وصل ساقطة من اللفظ كثيرًا. قد كثر استعمال الناس إياها فأمنوا أن يجهل القارئ معناها. وكتب {فِيمَا} موصولاً في كل القرآن إلا في البقرة: {فِي مَا فَعَلْنَ} ، وفيها: {فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ} ، وفي الأنعام: {فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ ... مُحَرَّماً} ، وفيها: {لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} ، وفي الأنفال: {فِيمَا أَخَذْتُمْ} وفي الأنعام: {فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ} ، وفي النور: {فِي مَا أَفَضْتُمْ} ، وفي الشعراء: {فِي مَا هَاهُنَا} ، وفي الروم: {فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، وفي الزمر: {فِي مَا هُمْ فِيهِ} وفيها: {فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، وفي الواقعة: {فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، فذلكن اثنا عشر حرفًا وما سوى ذلك موصول) . إلى أن قال: (وكتب {لِكَيْ لاَ} مقطوعة في كل القرآن إلا في ثلاث مواضع: في الحج {لِكَيْلَا يَعْلَمَ} وفي الأحزاب: {ِلكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} ، وفي الحديد: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا} ، وكتب في هود: ... {فَإلمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} ، موصولاً مدغمًا، وفي القصص: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} مقطوعًا. وكتب {كُلَّمَا} موصولاً. إلا خمسة مواضع، وكتبت {الرَّحْمَةَ} بالهاء، إلا سبعة مواضع، و {النَّعْمَةِ} بالهاء إلا أحد

عشر موضعًا {وَامْرَأَةً} بالهاء إلا سبعة مواضع، ... و {سنة} بالهاء، إلا خمسة مواضع، و (معصية) بالهاء إلا في موضعين. وكتب {الْمَلأُ} بالألف إلا أربعة مواضع، فإنها تكتب بالواو. وكتب في الذاريات {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} بالألف، وما سواه بغير ألف. وكتب جميع ما في القرآن من ذكر الأيدي بياء واحدة إلا في الذاريات {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} فإنها كتبت بياءين والأصل كتبه بياء واحدة، وكتب في حم السجدة {سَمَاوَات} بالألف وما سواه كتبت ... {سموات} بغير ألف. وكتب {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} بغير واو، ... {يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ} بالواو والألف. وكتب {الربوا} بواو بعدها ألف في كل القرآن إلا قوله: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً} ، فإنه بغير واو، وكتب {إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ} و (يَتَفَيَّؤا ظِلاَلُهُ) و (تَفْتَؤا تَذْكُرُ) ... (وَيَدْرَؤا عَنْهَا) وما أشبهها بواو وألف، ولو كتب بالواو وحدها أو بالألف وحدها لجاز) . إلى أن قال: (وإنما كتبت هذه الحروف بعضها على خلاف بعض، وفي الأصل واحدة؛ لأن الكتابة بالوجهين كانت جائزة عندهم، فكتبوا بعضها على وجه، وبعضها على وجه آخر جمعًا بين المذهبين، على أنهم كتبوا أكثرها على الأصل، وكل ما كتب في المصحف على أصل لا يقاس عليه غيره من الكلام؛ لأن القرآن يلزمه لكثرة الاستعمال ما لا يلزم غيره، واتباع المصحف في هجائه واجب. وقال جماعة من الأئمة: إن الواجب على القرّاء، والعلماء، وأهل الكتاب أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف، فإنه رسم زيد بن ثابت، وكان أمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكاتب وحيه، وعلم من هذا العلم بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يعلم غيره، فما كتب شيئًا من ذلك إلا لِعِلَّةٍ لطيفة وحكمة بليغة وإن قصر عنه رأينا، ألا ترى أنه لو كتب على (صلوتهم) (وأن صلوتك) بالألف بعد الواو، وبالألف من غير واو لما دل ذلك إلا على وجه واحد، وقراءة واحدة، والله تعالى أعلم) . انتهى ملخصًا. وقال بعض العلماء: والخط فيه معجز للناس ... وحائد عن مقتضى القياس

لا تهتدي لسره الفحول ... ولا تحوم حوله العقول قد خصه الله بتلك المنزلة ... دون جميع الكتب المنزلة ليظهر الإِعجاز في المرسوم ... منه كما في لفظه المنظوم اللهم لك الحمد على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة، حيث أنزلت علينا خير كتبك، وأرسلت إلينا أفضل رسلك، وشرّعت لنا أفضل شرائع دينك، وجعلتنا من خير أمة أخرجت للناس، وهديتنا لمعالم دينك الذي ارتضيته لنفسك، وبنيته على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، ولك الحمد على ما يسّرته من تفسير كتابك العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وشفاء صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل والنهار على الوجه الذي يرضيك عنا، ... اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه، ويتلوه حق تلاوته، اللهم اجعلنا ممن يقيم حدوده، ولا تجعلنا ممن يقيم حروفه، ويضيع حدوده، اللهم اجعلنا ممن اتبع القرآن فقاده إلى رضوانك والجنة، ولا تجعلنا ممن اتبعه القرآن فزخ في قفاه إلى النار، واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقد فصلّته ثلاثمائة وثلاثة عشر درسًا، والله الموفق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. * * *

[سورة الفاتحة]

الدرس الأول [سورة الفاتحة] مكية، وهي سبع آيات أعوذ بالله السميع العليم من الشيْطان الرجِيم بسم الله الرحمن الرحيم ... {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7) } . * * *

سورة الفاتحة لها ثلاثة أسماء: فاتحة الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني.

سورة الفاتحة لها ثلاثة أسماء: فاتحة الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني. وروى البخاري وغيره عن سعيد بن المعلى رضي الله عنه، قال: كنت أصلي فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أجبه حتى صليت، قال: فأتيته، فقال: «ما منعك أن تأتيني» ؟ قال: قلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، قال: «ألم يقل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} ؟ ثم قال: «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد» . قال: فأخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت: لأعلمنَّك أعظم سورة في القرآن قال: «نعم، الحمد لله رب العالمين، هي: السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج - ثلاثًا - غير تمام» . فقيل لأبي هريرة: إنا نكون خلف الإمام فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله عز وجل: قسّمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ، قال الله: أثنى عليّ عبدي؛ فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجّدني عبدي - وقال مرة: فوّض إليَّ عبدي - فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ

وَلاَ الضَّالِّينَ} ، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» . رواه مسلم وغيره. قوله عز وجل: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) } . روى أبو داود وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يعرف فصل السورة حتى ينْزِلَ عليه (بسم الله الرحمن الرحيم) . وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إن أول ما نزل به جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: يا محمد قل: أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، قال: قال له جبريل: (بسم الله يا محمد، يقول: اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله تعالى) . واختلف العلماء في مشروعية قراءة البسملة في الصلاة. فقال بعضهم: لا يقرأ بها سرًا ولا جهرًا. وقال بعضهم: يقرأ بها جهرًا في الجهرية، وسرًا في السرية. وقال بعضهم: يقرأ بها سرًا في الجهرية. هذا القول هو الراجح وعليه تدل الأحاديث الصحيحة؛ ويشرع الجهر بها في بعض الأحيان، وتستحب البسملة في ابتداء كل عمل، تبركًا باسم الله تعالى واستعانة به، وفي الحديث: «كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم» ، قال ابن عباس: الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.

قوله عز وجل: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قال ابن جرير رحمه الله تعالى: (الحمد لله ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه) . انتهى، قال أبو نصر الجوهري: (والحمد أعم من الشكر، وأما المدح فهو أعم من الحمد، وقال ابن عباس: الحمد لله كلمة الشكر، وإذا قال العبد: الحمد لله، قال: شكرني عبدي) . قال البغوي: رحمه الله تعالى: (والحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة، ويكون بمعنى الثناء عليه بما فيه من الخصال الحميدة، والشكر لا يكون إلا على النعمة. وقوله تعالى: {للهِ} ، اللام للإستحقاق، والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد وأنواعه لله تعالى. وقوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، الرب: هو المالك المتصرف، والعالمين: جمع عالَم بفتح اللام، وهو كل موجود سوى الله عز وجل؛ والعوالم أصناف المخلوقات، وعن ابن عباس: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الحمد لله الذي له الخلق كله، السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن، مما نعلم ومما لا نعلم. وعن سعيد بن المسيب قال: لله ألف عالم: ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر. وقال كعب الأحبار: لا يحصي عدد العالمين أحدٌ إلا الله، قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} ، وقال الزجاج: العالم كل ما خلق الله في الدنيا والآخرة. قال القرطبي: والعالم مشتق من العلامة. قال ابن كثير: لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته، كما قال ابن المعتز:

فيا عجبًا كيف يعصي الإِله ... أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد تنبيه: المعروف عند بعض القراء أنه لا يقف على {الْعَالَمِينَ} ، ولا على {الرَّحِيمِ} ، لاتصال الصفة بالموصوف، ولا مانع من ذلك لأن المعنى ظاهر، والأصل هو الوقوف على رؤوس الآي، ويشهد لذلك ما رواه الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع قراءته يقول: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقف، ثم يقول: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ثم يقف، فالفصل والوصل جائزان: ويحسن الفصل مع الترتيل والوصل مع الهذ وفي الحديث: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ واصعد في درج الجنة، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر أية تقرؤها» ، فهو في صعود ما دام يقرأ، هذًّا كان أو ترتيلاً. قوله عز وجل: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} . قال ابن كثير: اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمن أشد مبالغة من رحيم، وفي الأثر عن عيسى عليه السلام أنه قال: ... (الرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة) ، وقال ابن عباس: (هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر) . وقال ابن جرير: (حدثنا السري بن يحيى التميمي، حدثنا عثمان بن زفر،

سمعت العزرمي يقول: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ، قال: الرحمن لجميع الخلق، الرحيم، قال: بالمؤمنين. قال القرطبي: إنما وصف نفسه بالرحمن الرحيم بعد قوله ... {الْعَالَمِينَ} ، ليكون من باب قرب الترغيب بعد الترهيب، كما قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} . قوله عز وجل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . قال ابن كثير: وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عاداه، لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين وذلك عام في الدنيا والآخرة. وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئًا، ولا يتكلم أحدًا إلا بإذنه كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} ، وقال تعالى: {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} ، وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} ، وقال الضحاك عن ابن عباس: ... {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يقول: لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكمًا كملكهم في الدنيا قال: و {يَوْمِ الدِّينِ} يوم الحساب للخلائق، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، إلا من عفا عنه.

قوله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالأول: تبرؤ من الشرك، والثاني: تبرؤ من الحول والقوة، وتفويض إلى الله عز وجل، وهذا كثير في القرآن، قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ، وقال تعالى: {هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} ، وقال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} ، قال ابن عباس: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، يعني إياك نوحد ونخاف، ونرجوك يا ربنا لا غيرك. {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، على طاعتك وعلى أمورنا كلها. قال البغوي: (والعبادة الطاعة مع التذلل والخضوع، وسمي العبد عبدًا لذلته وانقياده) . قوله عز وجل: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} . قال ابن كثير: لمّا تقدم الثناء على المسئول تبارك وتعالى، ناسب أن يعقب بالسؤال كما قال: (فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل) ، وهذا أكمل أحوال السؤال، أن يمدح مسئوله، ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين، والهداية ها هنا: الإرشاد والتوفيق. وقال البغوي: وهذا الدعاء من المؤمنين، مع كونهم على الهداية، بمعنى التثبيت، وبمعنى طلب مزيد الهداية، لأن الألطاف والهدايات من الله لا تتناهى.

وقال ابن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل، على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح، الذي لا اعوجاج فيه، وقال مجاهد: ... {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} ، قال: الحق. وروى الإِمام أحمد وغيره عن النواس بن سمعان، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ضرب الله مثلاً صراطًا مستقيمًا، وعلى جانبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجوا؛ وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإِنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه. فالصراط: الإِسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم» . قوله عز وجل: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} . أي: مننت عليهم بالهداية والتوفيق للإيمان، والاستقامة عليه من النبيين والمؤمنين، قال الضحاك عن ابن عباس: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} ، بطاعتك، وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك، والصديقين، والشهداء، والصالحين؛ وذلك نظير ما قال ربنا تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} .

قوله عز وجل: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} . قال ابن كثير: والمعنى: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره، غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق. انتهى. وروى الإمام أحمد وغيره عن عدي بن حاتم قال: جاءت خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذوا عمتي وناسًا، فلما أتوا بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفوا له، فقالت: يا رسول الله نأى الوافد، وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة فَمُنَّ عليّ مَنَّ الله عليك، قال: «ومن وافدك» ؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: «الذي فر من الله ورسوله» ؟ قالت: فمنّ عليّ. فلما رجع ورجل إلى جنبه ترى أنه عليّ، قال: سليه حملانًا، فسألته فأمر له، قال: فأتتني فقالت: إنك فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه، فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيّان - وذكر قربهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فعرفت إنه ليس بملك كسرى ولا قيصر، فقال: «يا عدي ما أَفَرَّكَ؟ أن يقال لا إله إلا الله؟ فهل من إله إلا الله؟ ما أفرَّك أن يقال الله أكبر؟ فهل شيء أكبر من الله عز وجل» قال: فأسلمت، فرأيت وجهه استبشر، وقال: «إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى» ... وذكر الحديث.

قال ابن كثير: مسألة، والصحيح من مذاهب العلماء، أنه يغتفر الإِخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما لمن لا يميز ذلك؛ وأما حديث: «أنا أفصح من نطق بالضاد» فلا أصل له، والله أعلم. انتهى ملخصًا، قال ابن مفلح في الفروع: (وإن قرأ: غير المغضوب عليهم ولا الضالين بظاء، فالوجه الثالث يصح مع الجهل) . قال في تصحيح الفروع: (أحدها لا تبطل الصلاة، اختاره القاضي، والشيخ تقي الدين، وقدمه في المغني والشرح وهو الصواب) انتهى. يعني: تصح الصلاة ولو كان يميز الضاد والظاء، والأحوط للإِمام القراءة بالضاد إذا كان يميز ذلك. وقال ابن كثير: اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات، على حمد الله وتمجيده والثناء عليه، بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو: يوم الدين، وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه، والتبرؤ من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الدين القويم، وتثبيتهم عليه حتى يفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة، المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين. واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة، ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون. انتهى.

ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: (آمين) في الصلاة وغيرها. ومعناها: اللهم استجب لنا. لما رواه الإمام أحمد وغيره عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} ، فقال: «آمين» مد بها صوته. ولأبي داود: (رفع بها صوته) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تلا ... {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} ، قال: «آمين» ، حتى يسمع من يليه من الصف الأول) . رواه أبو داود وابن ماجة وزاد فيه: ... (فيرتج بها المسجد) . وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أمنَّ الإمام فأمّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول آمين، فأكثروا من قول آمين» . رواه ابن ماجة. وعنه قال: (بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده جبرائيل، إذ سمع نقيقًا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفًا منها إلا أوتيته) . رواه مسلم، والنسائي وهذا لفظه.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا في مسير لنا فنزلنا فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم، وإنّ نَفَرَنا غُيِّبٌ فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقيه فرقاه فبرئ فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبنًا، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية، أو كنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئًا حتى نأتي أو نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قدمنا المدينة، ذكرناه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «وما كان يدريه أنها رقية؟ اقسموا واضربوا لي بسهم» . رواه البخاري ومسلم، والله أعلم. * * *

الدرس الثاني

الدرس الثاني [سورة البقرة] مدنية، وهي مائتان وثمانون وست أو سبع آيات ... عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكًا واستخرجت {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} من تحت العرش، فوصلت بها، أو فصلت بسورة البقرة. ويس قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له، واقرءوها على موتاكم» . رواه أحمد. وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، فإن البيت الذي لا تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة، لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة؛ أربع من أولها، وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث آيات من آخرها) . وفي رواية: (لم يقربه ولا أهله يومئذٍ

شيطان، ولا شيء يكرهه، ولا يقرآن على مجنون إلا أفاق) . رواه الدرامي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثًا، وهم ذوو عدد، فاستقرأهم كل واحد منهم ما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سنًا، فقال: «ما معك يا فلان» ، فقال معي كذا وكذا، وسورة البقرة فقال: «أمعك سورة البقرة» ، قال: نعم، قال: «اذهب فأنت أميرهم» . فقال رجل من أشرافهم: والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة، إلا إني خشيت ألا أقوم بها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعلموا القرآن واقرءوه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه، فقرأ وقام به، كمثل جراب محشو مسكًا يفوح ريحه في كل مكان، ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه، كمثل جراب أوكى على مسك» . رواه الترمذي وغيره. قال البخاري: وقال الليث حدثني يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: (بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس، فسكت فسكنت فقرأ فجالت الفرس، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف. وكان ابنه يحيى قريبًا منها، فأشفق أن تصيبه، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي فقال: «اقرأ يا ابن حضير» . قال: قد أشفقت يا رسول الله على يحيى، وكان منها قريبًا، فرفعت رأسي وانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها. قال: «وتدري ما ... ذاك» ؟ قال: لا. قال: «تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم» . ولمسلم: «عرجت في الجو» .

وذكر الحافظ ابن حجر أن في الحديث اختصارًا، أصله كما رواه أبو عبيد: (رفع رأسه إلى السماء، فإذا هو بمثل الظلة، فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها) . وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: كنت جالسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعته يقول: «تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» . قال: ثم سكت ساعة ثم قال: «تعلموا سورة البقرة وآل عمران، فإنهما الزهراوان، يظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان أو غيابتان، أو فرقان من طير صواف، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبر كالرجل الشاحب فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك. فيقول أنا صاحبك القرآن، الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك، وإن كل تجارة من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والديه حلتان لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان بم كُسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن. ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ، هذًّا كان أو ترتيلاً» . رواه الإِمام أحمد. قال ابن العربي في (أحكام القرآن) : (اعلموا وفقكم الله أن علماءنا قالوا: إن هذه السورة من أعظم سور القرآن. سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أمر، وألف نهي، وألف حكم، وألف خبر ولعظيم فقهها أقام عبد الله بن عمر ثمان سنين في تعلمها) .

بسم الله الرحمن الرحيم {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) } . * * *

قوله عز وجل: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) } . قال الشعبي وغيره: {آلم} . وسائر حروف الهجاء في أوائل القرآن، من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وهي سر القرآن، فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله تعالى. قال أبو بكر الصديق: في كل كتاب سر، وسر الله في القرآن، وأوائل السور. وعن ابن عباس أنه قال: معنى {آلم} : أنا الله أعلم، ومعنى {آلمص} : أنا الله أعلم وأفصل. ومعنى {آلمر} : أنا الله أرى. ومعنى {آلمر} : أنا الله أعلم وأرى. وقال مجاهد: هذه الحروف أسماء السور. وقال آخرون: إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور، بيانًا لإِعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله؛ وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية. قال الزمخشري: (ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت، كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي بالصريح في أماكن) . انتهى. والله أعلم. وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} ، يقول تعالى: هذا الكتاب وهو القرآن، لاشك فيه أنه من عند الله تعالى، وأنه الحق والصدق، كما قال تعالى: {آلم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} .

وقوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} ، أي: رشد وبيان لأهل التقوى خاصة، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} . وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلا خَسَاراً} . قال ابن عباس: التقيّ من يتقيّ الشرك والكبائر والفواحش. وأنشد أبو الدرداء: يريد المرء أن يؤتى مُناه ... ويأبى الله إلا ما أراد يقول المرء: فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا والتقوى: هي: طاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ، أي: الذين يصدقون بما غاب عنهم، مما أخبر الله به من أمور الآخرة والقدر وغير ذلك. قال أبو العالية: يؤمنون بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وجنته وناره، ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيبٌ كله. وعن أبي جمعة رضي الله عنه قال: تغدينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال: يا رسول الله هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك قال: «نعم قومٌ من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني» .

وقوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} ، أي: يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها، بحدودها وأركانها وهيآتها، والمراد بها الصلوات الخمس. قال ابن عباس: إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود، والتلاوة والخشوع والإِقبال عليه فيها. وقوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ، أي: في جميع ما يلزمهم من الزكاة وغيرها. قال قتادة: هذه الأموال عَوَارٍ وودائع عندك يا ابن آدم، يوشك أن تفارقها. وقوله تعالى: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} ، قال ابن عباس: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} ، أي: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} ، أي: بالبعث والقيامة، والجنة والنار، والحساب والميزان. قال البغوي: قوله: {وَبِالآخِرَةِ} ، أي: بالدار الآخرة. سميت الدنيا دنيا لدنوّها من الآخرة، وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا {هُمْ يُوقِنُونَ} ، أي: يستيقنون أنها كائنة. وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . يقول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ} ، أي: المتصفون بالإِيمان وإقام الصلاة والإِنفاق مما أعطاهم الله {عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} ، أي: على نور وبيان وبصيرة {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، أي: الناجون الفائزون، فازوا بالجنة ونجوا من النار. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ

تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7) } . يقول الله تعالى: إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، سواء عليهم إنذارك وعدمه، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} . قال البغوي: (والكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر عناد، وكفر نفاق) . وقوله تعالى: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} ، أي: طبع الله على قلوبهم، فلا تعي خيرًا ولا تفهمه، وعلى سمعهم فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، كما قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} . وقوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} . يقول تعالى: وعلى أبصارهم غطاء، فلا يرون الحق، ولهم عذاب عظيم في الآخرة، فالختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ

لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زادت زاد حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} » . رواه ابن جرير وغيره. وقال الترمذي: (حسن صحيح) . قال مجاهد: الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإِقفال، والإِقفال أشد من ذلك كله. قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ (12) } . هذه الآيات نزلت في المنافقين: عبد الله بن أبي، وأصحابه وغيرهم ممن أظهر كلمة الإِسلام واعتقد خلافها. قال ابن كثير: النفاق هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي وهو: الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي

وهو: من أكبر الذنوب. قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله، وسره علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه. وقوله تعالى: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} كذبهم الله تعالى في قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، لأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} . وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} ، يقول تعالى: يخادعون الله والذين آمنوا بإظهار الإِيمان وإبطانهم الكفر، ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كنفعهم عند بعض المؤمنين، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} . وقوله تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُم} ، أي: لأن وبال خداعهم راجع عليهم، بفضيحتهم في الدنيا وعقابهم في الآخرة، {وَمَا يَشْعُرُونَ} ، أي: لا يدرون أنهم يخدعون أنفسهم، وإن وبال خداعهم يعود عليهم. وقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} ، يقول تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ، أي: شك ونفاق، {فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً} ، أي: شكًا ونفاقًا، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ

فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} . وقوله تعالى: {وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} ، أي: ولهم عذاب مؤلم موجع، يخلص حده إلى قلوبهم، {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} ، أي: بكذبهم في دعواهم الإِيمان بالله وباليوم الآخر. وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ} ، يقول تعالى: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض بالكفر وتعويق الناس عن الإِيمان، {قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} ، أي: إنما نريد الإِصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب، {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ} بكونه فسادًا. قال أبو العالية: وكان فسادهم ذلك معصية الله، لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة. قوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (16) } . يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ} للمنافقين: آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به كما آمن الناس، قالوا: أنؤمن كما آمن السفهاء؟ يعنون أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء} الجهال في الدين الضعفاء الرأي، ... {وَلَكِن لا يَعْلَمُونَ} . ذلك.

وقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} يقول تعالى: وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنون قالوا: آمنا كإيمانكم مصانعة وتقية، وإذا خلوا انصرفوا {إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} رؤسائهم، قالوا: {إِنَّا مَعَكْمْ} ، أي: على دينكم {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} بمحمد وأصحابه نلعب بهم. قوله تعالى: {يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} قال ابن عباس في قوله تعالى: {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} قال: يسخر بهم للنقمة منهم. وقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، أي: يملي لهم في ضلالتهم يترددون متحيرين. وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} قال ابن عباس: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ} ، أي: ما ربحوا في تجارتهم لأنهم استبدلوا الكفر بالإيمان، {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} . قال قتادة: قد والله رأيتموهم، من خرجوا من الهدى إلى الضلال، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة. قوله عز وجل: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) } .

قال ابن عباس: نزلت في المنافقين، يقول: مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارًا في ليلة مظلمة في مفازة، فاستدفأ ورأى ما حوله، فاتقى مما يخاف، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فبقي في ظلمة خائفًا متحيرًا، فكذلك المنافقون بإظهار كلمة الإِيمان أمنوا على أموالهم وأولادهم، وناكحوا المؤمنين، ووارثوهم، وقاسموهم الغنائم، فلذلك نورهم، فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف. وقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} ، أي: هم صم عن الحق لا يقبلونه، بكم خرس عن الحق لا يقولونه، عمي لا بصائر لهم، فهم لا يرجعون عن الضلالة إلى الحق. وقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لصنف آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون أخرى. والصيّب: المطر، من صاب يصوب، أي: نزل من السماء، أي: من السحاب، {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} . قال ابن عباس: الرعد: اسم ملك يسوق السحاب، والبرق: لمعان سوط من نور يزجر به الملك السحاب. وعن أبي كثير قال: كنت عند أبي الخلد إذ جاء رسول ابن عباس بكتاب ... إليه، فكتب إليه: كثيرًا تسألني عن الرعد، فالرعد: الريح، والبرق من الماء. قال السخاوي: إن سبب الرعد اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا ساقها الريح من الارتعاد. قال بعض المفسرين: وإن أطلق الرعد على الملك أيضًا فهو مشترك بين الصوت المذكور والملك الثابت في الأحاديث. وقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} مخافة الهلاك؛ فهذا المثل ضربه الله للقرآن وصنيع المنافقين معه، فإن من شأنهم

الخوف الشديد والفزع، كما قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} . وقوله تعالى: {واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} ، أي: عالم بهم. قال مجاهد: يجمعهم فيعذبهم. وقوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} ، أي: وقفوا. قال ابن عباس: أي: يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا، أي: متحيرين. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} ، أي: لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة، كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة، {إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فصار الناس ثلاثة أقسام: مؤمنون، وكفار، ومنافقون، وكل سيجازى بعمله. قال الله تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ * يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ

نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . قال ابن مسعود: نورهم يسعى بين أيديهم على قدر أعمالهم، يمرون على الصراط، منهم مَنْ نورُه مثل الجبل، ومنهم مَنْ نوُره مثل النخلة، وأدناهم نورًا مَنْ نوُره في إبهامه يتّقد مرة ويُطفأ أخرى. قال ابن عباس: ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نورًا يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} . والله أعلم. * * *

الدرس الثالث

الدرس الثالث {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) } .

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22) } . يقول تعالى: يا أيها الناس وحدوا ربكم الذي خلقكم، وخلق الذين من قبلكم، لعلكم تتقون: لكي تنجوا من العذاب. وقال بعض المفسرين: لعلكم تتقون: حال من الضمير في اعبدوا؛ كأنه قال: اعبدوا ربكم راجين أن تدخلوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح، المسترجين لجوار الله تعالى، ولعل في الأصل للترجي، وهي في كلام الله تعالى للتحقيق، وقيل: لعل هنا للأطماع كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} . وقال ابن جرير: معنى ذلك: اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم؛ لتتقوه بطاعته، وتوحيده، وإفراده بالربوبية والعبادة. وقال ابن عباس: كل ما ورد في القرآن من العبادة فمعناها التوحيد. وقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22) } .

يقول تعالى: اعبدوا ربكم خالقكم، وخالق من قبلكم، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً، أي: بساطًا وَالسَّمَاء بِنَاء، سَقْفاً مرفوعاً، وأنزل من السماء، أي: من السحاب، ماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم، طعامًا لكم وعلفًا لدوابكم، فلا تجعلوا لله أنداداً، أي: أمثالاً تعبدونها كعبادة الله، وأنتم تعلمون أنه واحد لا خالق معه. قال ابن عباس: فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون، أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعملون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد، هو الحق الذي لا شك فيه؟ قال ابن كثير: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة. قوله عز وجل: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) } . يقول تعالى: وإن كنتم في ريب، أي: شك مما نزلنا على عبدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فأتوا بسورة من مثله، أي: مثل القرآن، وادعوا شهداءكم واستعينوا بآلهتكم التي تعبدونها من دون الله إن كنتم صادقين أن محمداً تقوله من تلقاء نفسه. كما قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} ، وقال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} ، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ

قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} . ثم تحدّاهم بسورة واحدة فعجزوا. وقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} يقول تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} ، أي: فيما مضى، ولن تفعلوا أبداً، وهذه معجزة أخرى، {فَاتَّقُواْ النَّارَ} ، أي: فآمنوا واتركوا المعاصي لتنجوا من النار، {الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} . قال ابن عباس يعني: حجارة الكبريت؛ لأنها أكثر التهاباً، {أُعِدَّتْ} : هيئت، {لِلْكَافِرِينَ} : الذين هم أهلها كما قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} ، وقال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعنا وجبة فقلنا: ما هذه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة، الآن وصل إلى قعرها» . رواه مسلم. قوله عز وجل: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) } . لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه الكافرين عطف بذكر حال أوليائه المؤمنين، فقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ} بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} من الأفعال والأقوال. قال معاذ: العمل الصالح الذي فيه أربعة

أشياء: العلم، والنية، والصبر، والإخلاص، {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} جمع جنة والجنة البستان الذي فيه أشجار مثمرة، {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ، أي: من تحت أشجارها، ومساكنها. وفي الحديث: «إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود» ، {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} قال ابن عباس وغيره: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل الدنيا. وقال عكرمة: معناه، مثل الذي كان بالأمس. وقال مجاهد: يقولون: ما أشبهه به، وأتوا به متشابهًا. قال ابن عباس وغيره: متشابهًا في الألوان مختلفًا في الطعوم. وقال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي. وقال يحيى بن أبي كثير: عشب الجنة الزعفران، وكثبانها المسك، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها، ثم يؤتون بمثلها فيقول لهم أهل الجنة: هذا الذي آتيتمونا آنفًا به؟ فتقول لهم الولدان: كلوا، فاللون واحد والطعم مختلف. وهو قول الله تعالى: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} . وقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ} ، أي: من الحور والآدميات {مُّطَهَّرَةٌ} ، أي: من الغائط والبول، والحيض والنفاس، والبصاق والمخاط، والمني والولد، وكل قذر. قال الحسن: هنَّ عجائزكم الغمص العمش، طهرن من قذرات الدنيا. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... «إن أول زمرة تدخل الجنة يوم القيامة صورة وجوههم مثل صورة القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية على لون أحسن الكواكب في السماء لكل رجل منهم زوجتان، على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ سوقهن دون لحومها ودمائها وحللها» .

وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، أي: دائمون لا يموتون فيها ولا يخرجون منها: وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا هل من مشمر للجنة؟ وأن الجنة لا خطر لها، وهي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانه تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام أبد في دار سليمة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية» . قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها. قال: «قولوا إن شاء الله» . قال القوم: إن شاء الله. قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) } . قال قتادة: إن الله لا يستحي من الحق أن يذكر شيئًا ما قل أو كثر، وإن الله

حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت، قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ} بمحمد والقرآن، {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} يعني المثل هو {الْحَقُّ} الصدق {مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا} ، أي: شيء {أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا} المثل {مَثَلاً} وعن ابن عباس وغيره: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} ، وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ} الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال. فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى: {هُمُ الْخَاسِرُونَ} . وقوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} أجابهم الله في قولهم: ماذا أراد الله بهذا مثلاً، فقال: يضل به كثيرًا من الكفار، وذلك أنهم يكذبونه فيزدادون ضلالاً، ويهدي به كثيرًا من المؤمنين، فيصدقونه فيزيدهم هدى إلى هداهم، وإيمانًا إلى إيمانهم: كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} وكذلك قال ها هنا: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} . قال ابن عباس: يعني: المنافقين. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} هذا وصف من الله تعالى للفاسقين المذكورين ها هنا بأنهم الذين ينقضون، أي: يخالفون ويتركون عهد الله،

أمر الله الذي عهد إليهم في كتبه وعلى ألسنة رسله من بعد ميثاقه توكيده، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام وغيرها، ويفسدون في الأرض بالكفر والظلم والمعاصي أولئك هم الخاسرون بأعياضهم الفساد عن الصلاح والعقاب عن الثواب. كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} . قوله عز وجل: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) } . يقول تعالى: كيف تكفرون بالله وتعبدون معه غيره! وكنتم أمواتًا في أصلاب آبائكم، فأحياكم، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم للبعث، ثم إليه ترجعون، فيجازيكم بأعمالكم. وهذه الآية كقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} . وكقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيبَ ... فِيهِ} . وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يقول تعالى: هو الله ربكم الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا؛ لكي تنتفعوا، فاعبدوه وحده لا شريك له. كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} .

وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} قال ابن عباس وغيره: أي ارتفع، {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} : خلقهن مستويات لا فطور فيها، ولا صدوع، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، فإن بالعلم يصح الخلق، ويحكم الفعل. قال البغوي: قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، والكسائي، وقالون، ... (وهو، وهي) بسكون الهاء إذا كان قبل الهاء: واوٌ، أو فاء، أو لام. زاد الكسائي وقالون: (ثم هو) . وقالون: (أن يملَّ هو) . وهذه الآية كقوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، وقال مجاهد في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} قال: خلق الله الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان، فلذلك حين يقول: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} قال: بعضهن فوق بعض، وسبع أرضين، يعني: بعضها تحت بعض. والله أعلم. * * *

الدرس الرابع

الدرس الرابع ... {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) } . يقول تعالى: واذكر يا محمد: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} ، أي: قومًا يخلف بعضهم بعضًا، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} . {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} ، كما فعل الجن؟ {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} ، أي: نثني عليك وننزهك عما لا يليق بعظمتك وجلالك. {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} . قال قتادة: فكان في علم الله، أنه سيكون في تلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. وقال ابن عباس: إن أول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضًا، قال: فبعث الله إليهم إبليس، فقتلهم إبليس ومن معه، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} . وقال عبد الله بن عمر: وكان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة، فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء فيها، فبعث الله جندًا من الملائكة، فضربوهم حتى ألحقوا بجزائر البحور، فقال الله للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} ، {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} . وقال ابن عباس: يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره.

قوله عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) } . قال ابن عباس: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} ، قال: علمه أسماء ولده إنسانًا، إنسانًا، والدواب، فقيل: هذا الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس. وقال أيضًا: هي هذه الأسماء التي يتعارف الناس بها: إنسان، ودواب، وسماء، وأرض، وسهل، وبحر، وخيل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم، وغيرها. وقوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} ، أي: المسميات، {عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي} أخبروني، {بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أني لا أخلق خلقًا إلا وكنتم أفضل وأعلم منه، {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ} بخلقك، {الْحَكِيمُ} في أمرك، {قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ} فسمى آدم كل شيء، {فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ} ، قال الله تعالى: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الظاهر والخفي ما كان وما يكون كما قال تعالى: {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} . {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} . قال ابن عباس: مرَّ إبليس على جسد آدم وهو ملقى بين مكة والطائف لا روح فيه، فقال: لأمر ما خلق هذا! ثم دخل في فيه وخرج من دبره، وقال: إنه خلق لا يتماسك؛ لأنه أجوف. ثم قال للملائكة الذين معه: أرأيتم إن فضِّل هذا عليكم، وأمرتم بطاعته، ماذا تصنعون؟ قالوا: نطيع أمر ربنا. فقال إبليس في نفسه: والله لئن سلطت عليه

لأهلكته، ولئن سلط عليّ لأعينه، فقال الله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} ، يعني: ما يبديه الملائكة من الطاعة {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} يعني: ما يكتمه إبليس من المعصية. قوله عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) } . هذه كرامة عظيمة أيضًا لآدم وذريته، حيث أمر الله الملائكة أن يسجدوا له، فقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} ، أي: سجود تعظيم وتحية، كما سجد إخوة يوسف له، لا سجود عبادة، وقد كانت الأمم السالفة تفعل ذلك بدل التسليم، وحرّم ذلك في شريعتنا فسجدوا طاعة لله، وتعظيمًا لآدم، إلا إبليس أبى واستكبر عن السجود لآدم وكان من الكافرين في سابق علم الله. قال قتادة: حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه الله من الكرامة، وقال: أنا ناري وهذا طيني. وكان بدء الذنوب الكِبْر. استكبروا عدو الله أن يسجد لآدم عليه السلام. قوله عز وجل: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35) } . قال ابن إسحاق: لما فرغ الله من معاتبة إبليس أقبل على آدم وعلمه الأسماء كلها، فقال: {يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ} إلى قوله: {إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . قال: ثم أُلقيت السِّنة على آدم - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة، وغيرهم من أهل العلم، عن ابن عباس وغيره - ثم أخذ ضلعًا من أضلاعه من شقه الأيسر، ولأم مكانه لحمًا، وآدم نائم لم يهبّ من نومه، حتى خلق الله

من ضلعه تلك زوجته حواء، فسواها امرأة ليسكن إليها، فلما كُشف عنه السِّنة، وهبّ من نومه رآها امرأة إلى جنبه، فقال - فيما يزعمون، والله أعلم -: لحمي ودمي وزوجتي. فسكن إليها، فلما زوّجه الله وجعل له سكنًا من نفسه، قال له قبيلاً: {اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} . انتهى. وقوله تعالى: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً} ، أي: واسعًا كثيرًا {حَيْثُ شِئْتُمَا} كيف شئتما، ومتى شئتما، وأين شئتما، {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} أنفسكما بالمعصية. قوله عز وجل: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) } . قال البغوي: {فَأَزَلَّهُمَا} استزل الشيطان آدم وحواء، أي: دعاهما إلى الزلة، وقوله تعالى: {عَنْهَا} أي: عن الجنة {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} أي: من اللباس، والمنزل الرحب، والرزق الهني، والراحة، وعن أبيّ بن كعب مرفوعًا: «إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة، فأخذت شعره شجرة فنازعها، فناداه الرحمن: يا آدم مني تفر؟ فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب لا، ولكن استحياء» . وفي رواية: «لما ذاق آدم من الشجرة فرّ هاربًا، فتعلقت شجرة بشعره، فنودي: يا آدم أفرارًا مني؟ قال: بل حياء منك. قال: يا آدم اخرج من جواري، فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني، ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقًا، ثم

عصوني لأسكننهم دار العاصين» . رواه ابن أبي حاتم. {وَقُلْنَا اهْبِطُواْ} : انزلوا إلى الأرض {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} . قال البغوي: أراد العداوة التي بين ذرية آدم، والحية، وبين المؤمنين من ذرية آدم، وبين إبليس، قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ، وقال السدي: قال الله تعالى: {اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً} فهبطوا ونزل آدم بالهند، ونزل معه الحجر الأسود، وقبضة من ورق الجنة، فبثه بالهند فنبتت شجرة الطيب، فإنما أصل ما يجاء به من الطيب من الهند من قبضة الورق التي هبط بها آدم، وإنما قبضها أسفًا على الجنة حين أخرج منها.

وعن الحسن البصري قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدستميسان من البصرة على أميال، وأهبطت الحية بأصبهان، وعن أبي موسى قال: إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض، علمه صنعة كل شيء، وزوّده من أثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير، وتلك لا تتغير. وروى مسلم، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة. فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها» . قال بعض العارفين: كنا قومًا من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها، وقال الشاعر: يا ناظرًا يرنو بعيني راقد ... ومشاهدًا للأمر غير مشاهد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درج الجنان ونيل فوز العابد أنسيت ربك حين أخرج آدمًا ... منها إلى الدنيا بذنب واحد وقال بعضهم: ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} : مواضع قرار، ومتاع بلغة مستمتع {إِلَى حِينٍ} إلى انقضاء آجالكم. قوله عز وجل: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) } . قال سعيد بن جيبر وغيره: الكلمات هي قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقال مجاهد عن عبيد ابن عمير أنه قال: قال آدم: يا رب، خطيئتي التي أخطأت شيء كتبته علي قبل أن تخلقني؟ أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته عليّ فاغفر لي. قال: فذلك قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} ، وعن ابن عباس: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} . قال: قال آدم عليه السلام: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال له: بلى ونفخت فيّ من روحك؟ قيل له: بلى. قال: أرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم. وقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْهِ} تجاوز عنه، {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ} على عباده، {الرَّحِيمُ} بخلقه. كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ

السَّيِّئَاتِ} ، وقال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} . قوله عز وجل: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) } . قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة، والمراد الذرية: أنه سينزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرسل؛ كما قال أبو العالية: الهُدَى الأنبياء والرسل والبينات، والبيان. {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} ، من أقبل على ما أنزلت به الكتب، وأرسلت به الرسل {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي: فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم من أمور الدنيا. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} يوم القيامة، {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لا يخرجون منها، ولا يموتون، فيها فنعوذ بالله من حالهم. * * *

الدرس الخامس

الدرس الخامس {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) } . يقول تعالى آمرًا بني إسرائيل بالدخول في الإِسلام ومتابعة محمد - صلى الله عليه وسلم -: يا بني إسرائيل، يا أولاد يعقوب، اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم على أجدادكم وأسلافكم، وقال الحسن: ذكر النعمة شكرها، وقال قتادة: هي النعم التي خصت بها بنو إسرائيل: فلق البحر، وإنجاؤهم من فرعون بإغراقه، وتظليل الغمام عليهم في التيه، وإنزال المن والسلوى، وإنزال التوراة في نعم كثيرة لا تحصى {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي} بامتثال أمري {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بالقبول والثواب، وقال أبو العالية: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي} قال: عهده إلى عباده دين الإِسلام، وأن يتبعوه، وقال الضحاك، عن ابن عباس: {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} قال: أرضَى عنكم، وأدخلكم الجنة. وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي: خافون، قال ابن عباس: في قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} ، أي: أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم

من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وقوله تعالى: {وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} . يقول تعالى: {وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ} يعني: القرآن. {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} ، أي: موافقاً لما معكم من التوراة في التوحيد، والنبوة والأخبار، ونعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا تكونوا أول كافر به، أي: القرآن فتتابعكم اليهود على ذلك، قال أبو العالية: يقول: ولا تكونوا أول من كفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، يعني: من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه؟ وقوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} ، يقول: ولا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها؛ فإنها قليلة فانية، قال البغوي: وذلك أن رؤساء اليهود وعلماءهم كانت لهم مأكلة يصيبونها من سفلتهم وجهالهم، يأخذون كل عام منهم شيئًا معلومًا من ذروعهم وضروعهم ونقودهم، فخافوا إن هم بينوا صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - وتابعوه أن تفوتهم تلك المأكلة، فغيّروا نعته وكتموا اسمه فاختاروا الدنيا على الآخرة. وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} ، أي: فاخشون، لا فوات الرياسة، قال طلق بن حبيب: التقوى: أن تعمل بطاعة الله، رجاء رحمة الله، على نور من الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله. وقوله تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، يقول تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} ، أي: لا تخلطوا الحق بالباطل، والصدق بالكذب، وتكتموا الحق وأنتم تعملون، قال مقاتل: إن اليهود أقروا ببعض صفة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكتموا بعضها ليصدقوا في ذلك. قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} قال

البغوي: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} ، يعني: الصلوات الخمس بمواقيتها، وحدودها: {وَآتُواْ الزَّكَاةَ} ، وأدوا زكاة أموالكم المفروضة ... {وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} ، أي: صلوا مع المصلين محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وذكرها بلفظ الركوع لأن الركوع ركن من أركان الصلاة، قال ابن كثير: وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة. قوله عز وجل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) } . قال قتادة: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر، ويخالفون فعيّرهم الله عز وجل، وقال ابن عباس: يقول: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وغير ذلك مما أمرتم به وتنسون أنفسكم؟ أي: تتركون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب؟ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ، وهذا كما قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ، وفي الحديث: «مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه» . وفي الحديث الآخر: «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قال: قلت: من هؤلاء؟ قالوا: خطباء أمتك من أهل الدنيا،

ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون» ؟ . رواه أحمد وغيره، وعن أسامة ابن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي: فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه» . رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما. وقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} ، يقول تعالى: واستعينوا على أمور دينكم ودنياكم بالصبر والصلاة. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن، وأحسن منه الصبر عن محارم الله. وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر صلى) . رواه أبو داود. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه نُعي إليه أخوه قثم وهو في سفر، فاسترجع، ثم تنحى عن الطريق، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما السجود، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} ، وقال ابن جريج: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} ، قال: إنهما معينتان على رحمة الله. وقوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} ، أي: ثقيلة، {إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} ، أي: المتواضعين، قال مجاهد: المؤمنين حقاً.

وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} يستيقنون {أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ} : محشورون إليه يوم القيامة، معروضون عليه، {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فيجزيهم بأعمالهم؛ والظن من الأضداد، يكون شكاً، ويكون يقيناً، كما قال تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} ، قال مجاهد: كل ظن في القرآن يقين، أي: ظننت، وظنوا، يعني قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ} ، {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا} ونحو ذلك، وفي الصحيح: «أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. فيقول الله تعالى: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول الله تعالى: اليوم أنساك كما نسيتني» . والله أعلم. * * *

الدرس السادس

الدرس السادس {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُواْ يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُواْ يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (48) } . يُذكِّر تعالى بني إسرائيل بنعمه على آبائهم، وما كان فضلهم به على سائر الأمم من أهل زمانهم، من إرسال الرسل منهم، وإنزال الكتب عليهم، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ} . والمراد بقوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: عالمي زمانهم، فإن هذه الأمة أفضل منهم، كما قال تعالى: ... {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله» . رواه أهل السنن. وقد قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} . وقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} : يقول تعالى: ... {وَاتَّقُواْ يَوْماً} ، أي: اخشوا عقاب يوم {لا تَجْزِي} لا تقضي نفس عن نفس شيئاً، حقاً لزمها، ولا

ينفع فيه أحدٌ أحداً، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ، وقال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ ... وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} . وقوله تعالى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} ، يعني: من الكافرين، فلا يقبل من كافر شفاعة، ولا تقبل فيه شفاعة، قال تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} . وقوله تعالى: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} ، أي: فداء، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وقوله تعالى: {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} ، أي: لا ناصر لهم ولا مانع يمنعهم من عذاب الله. قوله عز وجل: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) } . يقول تعالى: واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم، أي: أسلافكم وأجدادكم، لأنهم نجوا بنجاتهم من آل فرعون أتباعه وأهل دينه. {يَسُومُونَكُمْ} يكلفونكم ويذيقونكم {سُوَءَ الْعَذَابِ} أشد العذاب وأسوأه، {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} . قال ابن إسحاق: كان فرعون يعذب بني إسرائيل فيجعلهم خدماً وخولاً، وصنفهم في أعماله: فصنف يبنون وصنف يزرعون له فهم في أعماله، ومن لم يكن منهم في صنعة من عمله فعليه الجزية

فسامهم، كما قال الله عز وجل: {سُوَءَ الْعَذَابِ} . وقال: الذي جعلهم في الأعمال القذرة وجعل يقتل أبناءهم، ويستحي نساءهم. وقال ابن عباس: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم خليله، أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، وائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولوداً ذكر إلا ذبحوه، ففعلوا، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، وأن الصغار يذبحون، قال: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر، فتقتل أبناؤهم، ودعوا عاماً، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية، حتى إذا كان القابل حملت بموسى. وقوله تعالى: {وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} ، أي: نعمة عظيمة، حيث أنجاكم منهم. وأصل البلاء الاختبار، وقد يكون بالخير والشر، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وقال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . قوله عز وجل: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (50) } . يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم يا بني إسرائيل إذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم من آل فرعون ومن الغرق، وأغرقنا آل فرعون {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} ليكون ذلك أشفى لصدوركم، وأبلغ في إهانة عدوكم. قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي

إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً} . قال عمرو بن ميمون: فلما أتى موسى البحر، قال له رجل من أصحابه، يقال له يوشع بن نون: أين أمر ربك؟ قال: أمامك يشير إلى البحر، فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغمر، فذهب به الغمر، ثم رجع، فقال: أين أمر ربك يا موسى؟ فوالله ما كذبت ولا كذبت، فعل ذلك ثلاث مرات. ثم أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم يقول: مثل الجبل ثم سار موسى ومن معه، وأتبعهم فرعون في طريقهم، حتى إذا تتاموا فيه، أطبقه الله عليهم، فلذلك قال: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} . قوله عز وجل: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) } . يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم، في عفوي عنكم، لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه، عند انقضاء أمد المواعدة، وكان ذلك بعد إنجائهم من البحر. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، أي: لكي تشكروا عفوي عنكم وصنيعي إليكم. وقوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الكتاب: هو التوراة، والفرقان: ما يفرق بين الحق والباطل. قال أبو العالية قوله: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ، قال: يعني: ذا القعدة وعشراً من ذي الحجة، وذلك حين خلف موسى أصحابه، واستخلف عليهم هارون، فمكث على الطور أربعين ليلة، وأنزل عليه التوراة في الألواح، وكانت الألواح من برد، فقرّبه الرب

إليه نجياً، وكلمه وسمع صرير القلم. وبلغنا أنه لم يُحْدث حدثاً في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور. قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) } . يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} : الذين عبدوا العجل {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} إلهاً {فَتُوبُواْ إِلَى ... بَارِئِكُمْ} : خالقكم. قالوا: كيف نتوب؟ قال: {فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} . قال ابن عباس: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل، أن يقتلوا أنفسهم، قال: وأخبر الذين عبدوا العجل، فجلسوا وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلمة عنهم، وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل كل من قتل منهم كانت له توبة وكل من بقي كانت له توبة. وقال قتادة: أمر القوم بتشديد من الأمر، فقاموا يتناحرون بالشفار، يقتل بعضهم بعضاً حتى بلغ الله فيهم نعمته فسقطت الشفار من أيديهم، فأمسك الله عنهم القتل، فجعل لحيهم توبة، وللمقتول شهادة. وقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} تجاوز عنكم {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ} : القابل التوبة {الرَّحِيمُ} : بعبادة المؤمنين. قوله عز وجل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) } . يقول تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} لن نقرُّ لك {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} : عيانًا. قال ابن عباس: علانية. وقال الربيع بن أنس: هم السبعون الذين

اختارهم موسى، فساروا معه، قال: فسمعوا كلاماً، فقالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} ، قال: فسمعوا صوتاً، فصعقوا، يقول: ماتوا. قال السدي: فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: ربي ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم، وقد أهلكت خيارهم؟ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا. فأوحى الله إلى موسى: أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إنه أحياهم فقاموا وعاشوا رجلاً رجلاً، ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . قوله عز وجل: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) } . لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم، شرع يذكرهم أيضاً بما أسبغ عليهم من النعم، فقال: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} ، أي: السحاب، في التيه يقيكم حر الشمس، {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} ، قال ابن عباس: كان المن ينزل عليهم على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا. وقال الشعبي: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءاً من المن. وفي الحديث الصحيح: «الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين» . وقال ابن عباس: السلوى طائر يشبه السمّان. وقوله تعالى: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} واشكرون ولا تكفرون فخالفوا فحل بهم عقابه. {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، كما قال تعالى: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} . * * *

الدرس السابع

الدرس السابع {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (66) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (59) } . قال ابن كثير: يقول تعالى لائماً لهم على نكولهم عن الجهاد، ودخولهم الأرض المقدسة، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل، وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا، واستحسروا، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم، كما ذكره تعالى في سورة المائدة. ولهذا كان أصح القولين: أن هذه البلدة هي بيت المقدس. وقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً} ، أي: هنيئاً واسعاً. {وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} : شكرًا لله تعالى. قال ابن عباس في قوله: {وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} قال: ركعاً من باب صغير. وقال مجاهد: وهو باب الحطة، من باب إيلياء بيت المقدس. {وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} قال ابن عباس: مغفرة، استغفروا. وقال

قتادة: حطّ عنا خطايانا، أمروا بالاستغفار. {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} ثواباً من فضلنا. وقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدًا، وقولوا حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعيرة» . أخرجه البخاري وغيره، وفي حديث البراء: «قيل لهم: ادخلوا الباب سجداً، قال: ركعاً وقولوا: حطة، أي: مغفرة فدخلوا على أستاههم وجعلوا يقولون: حنطة حمراء وفيها شعيرة. فأنزل الله: {فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم} » . وقال البغوي: وذلك أنهم بدلوا قول: الحطة بالحنطة، فقالوا بلسانهم: حطاناً سمقاناً، أي: حنطة حمراء، استخفافاً بأمر الله تعالى. وقوله تعالى: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} ، أي: يعصون ويخرجون عن أمر الله. قال ابن عباس: كل شيء في كتاب الله من الرجز، يعني به: العذاب. وقال سعيد بن جبير: هو الطاعون. قوله عز وجل: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) } . يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم، إذ استسقى موسى، أي: طلب

السقيل لقومه حين عطشوا في التيه {فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ} ، قال ابن عباس: وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع، وأمر موسى عليه السلام، فضربه بعصاه، {فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} ، في كل ناحية منه ثلاث عيون، وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها، لا يرتحلون من منقله إلا وجدوا ذلك معهم. وقوله تعالى: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ} ، أي: كلوا من المن والسلوى، واشربوا من الماء، فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم بلا مشقة. {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ، العثي: أشد الفساد. قال السدي: لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام: كيف لنا بما ها هنا، أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن، فكان ينزل على شجر الزنجبيل. والسلوى وهو: طائر يشبه السمّان أكبر منه، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن كان سمينًا ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه، فقالوا هذا الطعام فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر ... {فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} فشرب كل سبط من عين، فقالوا: هذا الشراب فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام، فقالوا: هذا الظل فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فلذلك قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} ، وقوله: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} . قوله عز وجل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ

كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (61) } . يقول تعالى: واذكروا إذا قلتم: {يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ} ، أي: مأكل واحد لا يتبدل: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} . اختلف المفسرون في قوله تعالى: {وَفُومِهَا} فقيل: الثوم، وقيل: الحنطة، وقيل: كل حب يختبز، وقيل: الحبوب التي تؤكل كلها فوم، والله أعلم. قال لهم موسى عليه السلام: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى} : أحسن، وأراد {بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} : أشرف وأفضل {اهْبِطُواْ مِصْراً} من الأمصار، {فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ} : فأيّ بلد دخلتموها وجدتم ذلك فيها. وقوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} يقول تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} ، أي: وضعت عليهم وألزموها شرعًا وقدرًا، أي: لا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الجزية. وقوله تعالى: {وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} ، قال أبو عبيدة: واحتملوا وأقروا به. وقال الضحاك: استحقوا الغضب من الله. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} ، أي: فيجاوزون أمر الله ويرتكبون محارمه، فغضب الله عليهم. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ

بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) } . يخبر تعالى أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع، فإن الله لا يضيع عمله، كما في حديث سلمان. سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أهل دين كنت معهم، فذكرت في صلاتهم وعبادتهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية. رواه ابن أبي حاتم. قال مجاهد: الصَّابِئِونَ قوم بين المجوس واليهود والنصارى، ليس لهم دين. وسئل وهب بن منبه عن الصابئين فقال: الذي يعرف الله وحده، وليست له شريعة يعمل بها، ولم يحدث كفرًا. وقال السدي: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً} ، الآية، نزلت في أصحاب سلمان الفارسي: (بينما هو يحدث النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ ذكر أصحابه، فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصلّون ويصومون، ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبيًا، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا سلمان هم من أهل النار» . فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الآية) . فكان إيمان اليهود، أنه من تمسك بالتوراة وسنَّة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى، فلما جاء عيسى، كان من تمسك بالتوراة، وأخذ بسنَّة موسى فلم يدعها، ولم يتبع عيسى، كان هالكًا وإيمان النصارى، أن من تمسك بالإِنجيل منهم وشرائع عيسى عليه السلام، كان مؤمنًا مقبولاً منه، حتى جاء محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن لم يتبع محمدًا - صلى الله عليه وسلم - منهم، ويدع ما كان عليه من سنَّة عيسى والإِنجيل كان هالكًا، عن ابن عباس: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ، الآية، قال: فأنزل الله بعد ذلك: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .

وقوله تعالى: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ، أي: لا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هم يحزنون على ما يتركونه، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} . قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (64) } . يقول تعالى: واذكروا يا معشر يهود، إذ أخذنا ميثاقكم: عهدكم، {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} : الجبل، {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} : بجد ومواظبة، {وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ} : ادرسوا واعملوا به {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لكي تنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة كما قال تعالى {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . قال السدي: فلما أبوا أن يسجدوا، أم الله الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجدًا، فسجدوا على شق ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله، فكشف عنهم، فقالوا: والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم فهم يسجدون كذلك وذلك قول الله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} . وقال ابن عباس: ثم سار بهم موسى عليه السلام إلى الأرض المقدسة وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب، وأمرهم بالذي أمر الله أن يبلغهم من الوظائف، فثقلت عليهم وأبوا أن يقرّوا بها، حتى نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة،

قال: رفعته الملائكة فوق رؤوسهم. وقوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} : أعرضتم من بعد ما قبلتم التوراة، {فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} : بتأخير العذاب عنكم، وإرسال النبيين إليكم، {َكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} بتعجيل عقوبتكم على نقضكم الميثاق. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (66) } . يقول تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} يا معشر اليهود {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ} حين عصوا أمر الله، فمسخهم وأخزاهم. قال البغوي: كانوا في زمن داود عليه السلام بأرض يقال لها أيلة. قال ابن كثير: يقول تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} يا معشر اليهود ما حل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله، وخالفوا عهده وميثاقه، فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت، والقيام بأمره، إذ كان مشروعًا لهم، فتحيّلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت، بما وضعوا لها من الحبائل والبرك، قبل يوم السبت، على عادتها في الكثرة، فنشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة، وهي أشبه شيء بالأناسيّ، في الشكل الظاهر، وليست بإنسان حقيقة، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم، لما كانت مشابهة للحق في الظاهر، ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم. وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف، حيث يقول تعالى: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ

شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} . القصة بكمالها. وقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} . قال ابن عباس: يعني: جَعَلْنَاهَا بما أحللنا بها من العقوبة، عبرة لما حولها من القرى، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . وقوله تعالى: {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} ، أي: الذين من بعدهم إلى يوم القيامة. والله المستعان. * * *

الدرس الثامن

الدرس الثامن {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ (68) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) } . يقول تعالى: واذكروا: إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، قال أبو العالية: كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنيًا، ولم يكن له ولد، وكان له قريب، وكان وارثه، فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، وأتى موسى عليه السلام، فقال له: إنه قريبي قتل، وإني إلى أمر عظيم، وإني لا أجد أحدًا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله. قال: فنادى موسى في الناس، فقال: أنشد الله، من كان عنده من هذا علم إلا يبيّنه لنا. فلم يكن عندهم علم، فأقبل القاتل على موسى عليه السلام، فقال له: أنت نبي الله، فسل لنا ربك أن يبيّن لنا. فسأل ربه، فأوحى الله: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} فعجبوا من ذلك، فقالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} ؟ {قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ} ، يعني: لا هرمة {وَلاَ بِكْرٌ} ، يعني: ولا صغيرة {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أي: نَصَفٌ بين البكر والهرمة. {فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} ، أي: صاف لونها، {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} ، أي: تعجب الناظرين. ... {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ} ، أي: لم يذللها العمل. {وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ} ، يعني: وليست بذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث، يعني: ولا تعمل في الحرث. {مُسَلَّمَةٌ} ، يعني: مسلمة من العيوب. {لا شِيَةَ فِيهَا} يقول: لا بياض فيها.

{قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} . قال: ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها، لكانت إياها، ولكن شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: {وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} ، لما هُدوا إليها أبدًا، فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم، إلا عند عجوز، وعندها يتامى وهي القيّمة عليهم، فلما علمت أنه لا يزكوا لهم غيرها، أضعفت عليهم الثمن، فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألت أضعاف ثمنها، فقال موسى: إن الله قد خفف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها، ففعلوا، واشتروها، فذبحوها، فأمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظمًا منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتًا كما كان، فأخذ قاتله، وهو الذي كان أتى موسى عليه السلام فشكا إليه فقتله الله على أسوأ عمله. قوله عز وجل: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ (68) } . يسألوه عن سنها فأخبرهم أنها نَصَفٌ بين الصغيرة والهرمة. قوله عز وجل: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) } . قال ابن عباس: {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} شديد الصفرة تكاد من صفرتها تَبْيَضُّ. قوله عز وجل: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (71) } .

قال مجاهد: لا شية فيها: لا بياض ولا سواد. وقوله تعالى: {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} . قال ابن عباس: كادوا ألا يفعلوا، ولم يكن ذلك الذي أرادوا، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها. قوله عز وجل: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) } . قال مجاهد: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} اختلفتم. وقال ابن جريج: قال بعضهم: أنتم قتلتموه. وقال آخرون: بل أنتم قتلتموه. وقوله تعالى: {وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} ، عن المسيب بن رافع، قال: ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وتصديق ذلك في كلام الله: {وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} . وقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، أي: فضربوه فحيى، وقال: قتلني فلان ثم مات. وفي ذلك دليل على كمال قدرته، قال الله تعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} . قوله عز وجل: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) } . يقول تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} كله، {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} التي لما تلين أبدًا، {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} أي: بل هي أشد قسوة من الحجارة. {وَإِنَّ مِنَ

الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء} وإن لم يكن جاريًا، {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله، {مِنْ خَشْيَةِ} وقلوبكم لا تلين ولا تخشع. وقوله تعالى: {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ، وعيد وتهديد. وقد قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} . وروى البزار عن أنس مرفوعًا: «أربع من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا» . والله المستعان. * * *

الدرس التاسع

الدرس التاسع {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (76) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ

وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ ... إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ ... الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (86) } . * * *

قوله عز وجل: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ ... مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ ... يَعْلَمُونَ (75) } . يقول تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ} أيها المؤمنون، {أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} يصدقوكم ويطيعوكم، {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون، ومع هذا يخالفونه عمدًا، كما قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} . قال ابن عباس: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ} هم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة. وقال السدي: هي التوراة حرّفوها. قال ابن كثير: وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس. وقال ابن زيد: {يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} . قال التوراة التي أنزلها الله عليهم، يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حرامًا، والحرام فيها حلالاً، والحق فيها باطلاً، والباطل فيها حقًا؛ إذا جاءهم المحق برشوة، أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برشوة، أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محق، وإذا جاءهم أحد يسألهم شيئًا، ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بالحق، فقال الله لهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} . قوله عز وجل: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ

تَعْقِلُونَ (76) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (78) } . قال ابن عباس: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا} ، أي: أن صاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة. {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ} : لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم، فأنزل الله: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ} ، أي: تقرّون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا، اجحدوه ولا تقرّوا به. يقول الله تعالى: {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} . وقال السدي: هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا. وقال أبو العالية: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} ، يعني: بما أنزل عليكم في كتابكم من بعث محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} ، يقول تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أي: من اليهود أميون، لا يحسنون القراءة والكتابة. قال مجاهد: الأمي الذي لا يحسن الكتابة. وقوله تعالى: {لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ} ، قال ابن عباس: يعني: غير عارفين بمعاني الكتاب. {وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} ، أي: ولا يدرون ما فيه. وقال مجاهد: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ} . قال: أناس من اليهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله. قوله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79) } .

قال الزجاج: {وَيْلٌ} كلمة تقولها العرب لكل واقع في هلكة. قال ابن كثير: هؤلاء صنف آخر من اليهود، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله، وأكل أموال الناس بالباطل. قال ابن عباس: {فَوَيْلٌ لَّهُم} ، يقول: فالعذاب عليهم من الذين كتبوا بأيديهم من ذلك الكتاب، {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} يقول: مما يأكلون به أموال الناس. قوله عز وجل: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) } . يقول تعالى: {وَقَالُواْ} ، أي: اليهود، {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} قال ابن عباس: اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة، وهي مدة عبادتهم العجل. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة فيها سم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجمعوا إليَّ من كان من اليهود ها هنا» ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أبوكم» ؟ قالوا: فلان. قال: «كذبتم، بل أبوكم فلان» فقالوا صدقت وبررت. ثم قال لهم: «هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه» ؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أهل النار» ؟ فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اخسئوا، والله لا نخلفكم فيها أبدًا» . ثم قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه» ؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم. قال: «هل جعلتم في هذه الشاة سمًا» ؟ فقالوا: نعم؟ قال: «فما حملكم

على ذلك» ؟ فقالوا: أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك، وإن كنت نبيًا لم يضرك) . رواه البخاري بنحو وغيره. وقوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً} ، أي: أن لا يعذبكم إلا هذه المدة، {فَلَن يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ} ؟ قال ابن مسعود: عهدًا بالتوحيد. {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ، أي: بل تكذبون على الله وتفترون؟ ثم قال: {بَلَى} : إثبات لما ذكر من خلود النار. {مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، أي: ليس الأمر كما تمنيتم، بل الأمر أنه: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً} ، يعني: الشرك. {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} مات ولم يتب، {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه» . وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب لهم مثلاً: «كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق، فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا وأججوا نارًا، فأنضجوا ما قذفوا فيها» . رواه الإمام أحمد.

قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ (83) } . يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلا اللهَ} أي: أخلصوا له العبادة، كما قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} ، {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ، أي: وصيناهم ببر الوالدين، والإحسان إليهما. {وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} ، قال ابن عباس: أمرهم أيضًا بعد هذا الخلق، أن يقولوا: {لِلنَّاسِ حُسْناً} : أن يأمروا بلا إله إلا الله، من يقلها ورغب عنها، حتى يقولوها كما قالوها، فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه. وقال الحسن البصري: فالحسنى من القول: أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويصلح ويعفوا ويصفح، وقال الحسن أيضًا: لين القول من الأدب الحسن الجميل، والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه. وقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} . قال ابن جرير: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل، أنهم نكثوا عهده، ونقضوا ميثاقه، بعد ما أخذ الله ميثاقهم على الوفاء له بأن لا يعبدوا غيره، وأن يحسنوا إلى الآباء والأمهات، ويصلوا الأرحام، ويتعطفوا على الأيتام، ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم، ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به، ويحثّوهم على طاعته، ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها، ويؤتوا زكاة أموالهم، فخالفوا أمره في ذلك كله، وتولوا عنه معرضين، إلا من عصمه الله منهم، فوفى الله بعهده وميثاقه.

قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (86) } . يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ} ، أي: لا يسفك بعضكم دم بعض، {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ} : لا يخرج بعضكم بعضًا من داره، {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بهذا العهد، {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} : على ذلك يا معشر اليهود. {ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء} يعني: يا هؤلاء، {تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} بالمعصية والظلم. {وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} . قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير، أو عكرمة عن ابن عباس: {ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ} الآية، قال: أنبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة وهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب، خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى تسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما

عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنةً ولا نارًا، ولا بعثًا ولا قيامةً، ولا كتابًا ولا حلالاً ولا حرامًا، فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم تصديقًا لما في التوراة، وأخذًا به بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى ذِكره، حيث أنبأهم بذلك: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ، أي: تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم؟ وفي حكم التوراة: ألا يقتل، ولا يخرج من داره، ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه، ابتغاء عرض الدنيا، ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج، فلما بلغني، نزلت هذه القصة. وقال مجاهد في قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك. ... {فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، فكان خزي بني قريظة القتل والسبي، وخزي بني النضير الجلاء والنفي من منازلهم. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} في النار. {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} السرمدي {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} نعوذ بالله من ذلك. * * *

الدرس العاشر

الدرس العاشر {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ (95)

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) } . يقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} أعطيناه التوراة {وَقَفَّيْنَا} أتبعنا، {مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} وهي: المعجزات، {وَأَيَّدْنَاهُ} قويناه، {بِرُوحِ الْقُدُسِ} وهو: جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} . قال البغوي: وتأييد عيسى بجبريل عليه السلام، أنه أمر أن يسير معه حيث سار، حتى صعد به إلى السماء. {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ} يا معشر اليهود، {رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} عن الإيمان به، {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ} مثل عيسى، ومحمد عليهما الصلاة والسلام، {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} مثل زكريا، ويحيى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام؟ وقد حاولوا قتل النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -.

قوله عز وجل: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ (88) } . يقول تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، أي: في أكنة، فلا تعي ولا تفقه ما جئت به يا محمد. {بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ} ، أي: طردهم وأبعدهم من كل خير، {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} ، قال قتادة: معناه لا يؤمن منهم إلا قليل. وقد قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً} . قوله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ (89) } . يقول: {وَلَمَّا جَاءهُمْ} يعني: اليهود، {كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ} وهو: القرآن، {مُصَدِّقٌ} موافق، {لِّمَا مَعَهُمْ} ، يعني: التوراة. {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} ، أي: وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب، يستنصرون بمجيئه على أعدائهم. قال محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم، قال: فينا والله وفيهم - يعني: في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم - نزلت هذه القصة، يعني: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} ، قالوا: كنا قد علوناهم قهرًا دهرًا في الجاهلية، ونحن أهل شرك، وهم أهل كتاب، وهم يقولون: إن نبيًا سيبعث الآن نتبعه، قد ظل زمانه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم،

فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه، كفروا به. يقول الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} . قوله عز وجل: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (90) } . قال مجاهد: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} ، يهود شروا الحق بالباطل، وكتمان ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن يبينوه. وقال السدي: ... {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} يقول: باعوا أنفسهم. يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم، فرضوا به، وعدلوا إليه، من الكفر بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -، عن تصديقه ومؤازرته ونصرته، وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية، {أَن يُنَزِّلُ اللهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ولا حسد أعظم من هذا. وقال ابن عباس في قوله: {فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} فغضب الله عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب الله عليهم بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم. وقوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} ، قال ابن كثير: لما كان كفرهم سببه البغي والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي: صاغرين ذليلين. قوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (91) } .

يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ} ، يعني: القرآن {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} ، يعني: التوراة، {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ} ، أي: بما سواه من الكتب {وَهُوَ الْحَقُّ} ، يعني: القرآن {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} ، من التوراة. {قُلْ} لهم يا محمد: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بالتوراة وقد نهيتم فيها عن قتل الأنبياء عليهم السلام؟ . قوله عز وجل: {وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (92) } . يقول تعالى: {وَلَقَدْ جَاءكُم} يا معشر اليهود {مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أي: بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات، {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} معبودًا من دون الله {مِن بَعْدِهِ} ، أي: من بعد ذهابه إلى الطور لمناجاة الله عزّ وجل، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ ... مُّؤْمِنِينَ (93) } . يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} الجبل، {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ} ، أي: استجيبوا وأطيعوا، {قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} ، قال قتادة: أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم.

{قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} أن تعبدوا العجل من دون الله، {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} بزعمكم، وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة، من نقضكم المواثيق، وكفركم بآيات الله، وقتلكم الأنبياء، وعبادتكم العجل. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حبك الشيء يعمي ويصمّ» . رواه أحمد. قوله عز وجل: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) } . يقول تعالى: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء اليهود: {إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ} يعني: الجنة، {عِندَ اللهِ خَالِصَةً} ، أي: خاصة ... {مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم. قال ابن عباس: لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} ، أي: من الأعمال السيئة. {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} وهذا كما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد نجران من النصارى إلى المباهلة، فقال علماؤهم: والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم ... عين تطرف , فعند ذلك جنحوا للسلم، وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} ، أي: وأحرص من الذين أشركوا، {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} ، قال الحسن البصري: المنافق أحرص الناس، وأحرص من المشرك على حياة. {وَمَا هُوَ

بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ} ، قال ابن عباس: أي: وما هو بمنجيه من العذاب، وذلك أن المشرك لا يرجوا بعثًا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي. وقال ابن زيد: يهود أحرص على الحياة من هؤلاء، وقد ودّ هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عُمِّر كما عُمِّر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرًا. قوله تعالى: {وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} ، أي: وسيجازي كل عامل بعمله، وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} . وبالله التوفيق. * * *

الدرس الحادي عشر

الدرس الحادي عشر {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (103) } . * * *

قوله عز وجل: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101) } . قال ابن عباس: (حضرت عصابة من اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سلوا ما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة، وما ... أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم عن شيء فعرفتموه لتتابعنني على الإسلام» ؟ فقالوا: لك ذلك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سلوا عما شئتم» . قالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن: أخبرنا أيّ الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة، وماء الرجل. وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة ومن وليه من الملائكة؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عهد الله لئن أنبأتكم لتتابعنني» ؟ فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق. فقال: ... «نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضًا شديدًا فطال سقمه، فنذر لله نذرًا لئن عافاه الله من مرضه ليحرّمنّ أحب الطعام والشراب إليه، فكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها» ؟ فقالوا: اللهم نعم!! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم اشهد عليهم، وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على

موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض، وأن ماء المرأة رقيق أصفر، فأيّهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله عز وجل؟ وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرًا بإذن الله؟ وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله عز وجل» ؟ قالوا: اللهم نعم!! قال: «اللهم اشهد. وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبي الأميّ تنام عيناه ولا ينام قلبه» ؟ قالوا: اللهم نعم!! قال: «اللهم اشهد» . قالوا: أنت الآن، فحدثنا من وليك من الملائكة؟ فعندها نجامعك أو نفارقك؟؟ قال: «فإن ولي جبريل، ولم يبعث الله نبيًا قط إلا وهو وليه» . قالوا: فعندها نفارقك، ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدّقناك. قال: «فما يمنعكم أن تصدقوه» ؟ قالو: إنه عدونا. فأنزل الله عز وجل: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} إلى قوله: {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} فعندها باءوا بغضب على غضب) . رواه ابن جرير. زاد ابن إسحاق: (قالوا: فأخبرنا عن الروح؟ قال: «فأنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل، وهو الذي يأتيني» ؟ قالوا: اللهم نعم، ولكنه عدو لنا، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء، فلولا ذلك اتبعناك. فأنزل الله تعالى فيهم: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} إلى قوله: {لاَ يَعْلَمُونَ} . وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} . يقول تعالى: ولقد أنزلنا إليك يا محمد آيات بينات واضحات، وما يكفر بها إلا الفاسقون الخارجون عن أمر الله، {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم} . قال البغوي: أو كلما واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام. وقال ابن

عباس: قال ابن صوريا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك، فأنزل الله في ذلك من قوله: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ} ، وقال أيضًا: (قال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر لهم ما أخذ الله عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم في محمد - صلى الله عليه وسلم -: والله ما عهد إلينا في محمد، وما أخذ علينًا ميثاقًا. فأنزل الله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم} . وقال الحسن البصري في قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} قال: نعم ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه، ونبذوه. يعاهدون اليوم وينقضون غدًا. وقال السدي: لا يؤمنون بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} يقول تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ} ، يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، {مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} من التوراة، {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ما فيها من صفة محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى في المؤمنين منهم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . قال قتادة في قوله: {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} قال: إن القوم كانوا يعلمون، لكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به. وقال الشعبي: كانوا يقرءون التوراة

ولا يعملون بها، وقال سفيان بن عيينة: أدرجوها في الحرير، والديباج، وحلوها بالذهب والفضة، ولم يعملوا بها فلذلك نبذهم. قوله عز وجل: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (103) } . قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ} الآية، وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئام من الجن والإنس، واتبعوا الشهوات، فلما أرجع الله إلى سليمان ملكه، وقام الناس على الدين كما كان، وأن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان عليه السلام حدثان ذلك، فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخفاه عنا، فأخذوا به فجعلوه دينًا جديدًا، فقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} الآية، واتبعوا الشهوات التي كانت تتلوا الشياطين، وهي المعازف واللعب، وكل شيء يصد عن ذكر الله. وقال أيضًا: كان آصف كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء يأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها. قال: وكفره جهال الناس وسبوه، ووقف علماء الناس، فلم يزل جهال الناس

يسبونه حتى أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ} . وقوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} ، أي: ويعلمون الذي أنزل على الملكين، أي: إلهامًا وعلمًا، فالإنزال هنا بمعنى: الإِلهام والتعليم. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما وقع الناس من بعد آدم عليه السلام فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: يا رب هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، قد وقعوا فيما وقعوا فيه، وركبوا الكفر وقتل النفس، وأكل المال الحرام، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل: إنهم في غيب فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا من أفضلكم ملكين آمرهما وأنهاهما، فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئًا، ونهيا عن: قتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، وعن الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، فلبثا في الأرض زمانًا يحكمان بين الناس بالحق، وذلك في زمان إدريس عليه السلام، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة على سائر الكواكب، وأنهما أتي لها، فخضعا لها في القول، وأرادها على نفسها، فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها، فسألاها عن دينها، فأخرجت لها صنمًا، فقالت: هذا أعبده: فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا، فذهبا فعبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها فأرادها على نفسها، ففعلت مثل ذلك، فذهبت ثم أتيا عليها، فأرادها على نفسها، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم، قالت لهما: اختارا أحد الخلال الثلاث: إما أن تعبدا هذا الصنم، وإما أن تقتلا هذه النفس، وإما أن تشربا هذه الخمر، فقالا: كل هذا لا ينبغي، وأهون هذا شرب الخمر، فشربا الخمر فأخذت فيهما، فواقعا المرأة، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما، فقتلاه فلما

ذهب عنهما السكر، وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أراد أن يصعدا إلى السماء، فلم يستطيعا، وحيل بينهم وبين ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه، فعجبوا كل العجب، وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فنزل في ذلك: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ} ، فقيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فقالا: أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدنيا فجعلا ببابل فهما يعذبان) . قال ابن كثير: فهذا أقرب ما روي في شأن الزهرة. والله أعلم. وقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} قال ابن عباس: فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي، وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، وذلك أنهما علما الخير والشر، والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر. قال: فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه فإذا تعلمه خرج منه النور. وقوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ} . قال سفيان الثوري: معناه إلا بقضائه وقدرته ومشيئته. وقال الحسن: من شاء الله سلطهم عليه، ومن لم يشأ الله لم يسلط. وقوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} ، أي: يضرهم في دينهم، وليس له نفع يوزاي ضرره.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} . قال ابن عباس: من نصيب. وقال قتادة: ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم: أن الساحر لا خلاق له في الآخرة. وقوله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} ، قال ابن كثير: يقول تعالى: ولبئس البديل ما استبدلوا به من السحر عوضًا عن الإيمان ومتابعة الرسول، لو كان لهم علم بما وعظوا به {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ} ، أي: ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم لكانت مثوبة الله على ذلك خيرًا لهم مما اختاروا لأنفسهم، ورضوا به، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} ، وروي أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس سبحان الله يحي الموتى. ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه وذهب يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر، فقال: إن كان صادقًا فليحيي نفسه، وتلا قوله تعالى: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} ، فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك، فسجنه ثم أطلقه. وروى البزار عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدق بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -) .

الدرس الثاني عشر

الدرس الثاني عشر ... {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) } .

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) } . خاطب الله تعالى المؤمنين في ثمانية وثمانين موضعًا من القرآن، وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين أن يتشبهوا باليهود في قولهم: {رَاعِنَا} وذلك أن المسلمين كانوا يقولون: راعنا يا رسول الله، من المراعاة، أي: أرعنا سمعك، وكانت هذه اللفظة من الرعونة بلغة اليهود، يسبون بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً} وفي الحديث: «من تشبه بقوم فهو منهم» . وقوله تعالى: {وَاسْمَعُوا} ، أي: ما تؤمرون به، وأطيعوا ... {وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قوله عز وجل: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) } . يبين تعالى عداوة الكافرين وحسدهم للمؤمنين؛ ليقطع المودة بينه وبينهم.

وقوله تعالى: {وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} ، أي: ممن علم فيهم خيرًا. {وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . قوله عز وجل: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (108) } . قال ابن عباس: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} ، ما نبدل من آية. وقال قتادة: كان الله عز وجل يُنْسي نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما يشاء، وينسخ ما يشاء. وقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} قال ابن عباس: يقول: خير لكم في المنفعة وأرفق بكم، وقال قتادة: آية فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي. وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، أي: من النسخ وغيره، لا معقّب لحكمه ولا رادّ لقضائه. قال البغوي: ... (والنسخ على وجوه: أحدها: أن يثبت الخط وينسخ الحكم، مثل آية الوصية للأقارب، وآية عدة الوفاة بالحول، وآية التخفيف في القتل , وآية الممتحنة، ونحوها. ومنها: أن يرفع أصلاً عن المصحف وعن القلوب، ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه، كما أن القبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة، والوصية للأقارب نسخت بالميراث.

ومنها: ما يرفع ولا يقام غيره مقامه كامتحان النساء، والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي، دون الأخبار) . انتهى ملخصًا. وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} يخبر تعالى أن ملك السماوات والأرض ومن فيهما بيده، يفعل ما يشاء في ملكه، ويحكم ما يريد، ألا له الخلق والأمر لا يسئل عما يفعل، وهم يسألون، والله يحكم لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب، وقد قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} . وقوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} . قال ابن كثير: نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ} وعن ابن عباس قال: (قال رافع بن حريملة، ووهب بن زيد: يا محمد، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجِّر لنا أنهارًا نتبعك ونصدقك، فأنزل الله من قولهم: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} .

قوله عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) } . يقول تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم} يا معشر المؤمنين، {مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً} ، أي: يحسدونكم ... حسدًا، {مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم} ، أي: من تلقاء أنفسهم، {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} في التوراة، أن قول محمد صدق، ودينه حق، ... {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ} ، اتركوا وتجازوا، {حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} ، بعذابه، أي: القتل والسبي لبني قريظة، والجلاء والنفي لبني النضير. قال ابن عباس: {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، فإن شاء هداهم، وإن شاء انتقم منهم. وقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يحث تعالى عباده المؤمنين على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ويرغبهم في الأعمال الصالحة، ويخبرهم أنها مدخرة لهم عند ربهم، كما قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} وقال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} . قوله عز وجل: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112) } .

يقول تعالى: {وَقَالُواْ} ، أي: أهل الكتاب من اليهود والنصارى {لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} ادعت كل طائفة أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} قال أبو العالية: أماني تمنوها على الله بغير حق، وهذا المقام كقوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} . وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . قال تعالى: قل يا محمد: {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} : حجتكم {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فيما تدعون، ثم قال ردًا عليهم: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} أي: ليس كما قالوا، بل الحكم للإسلام، وإنما يدخل الجنة من أسلم وجهه لله، أي: أخلص دينه لله، {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله، {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} قال سعيد بن جبير: فلا خوف عليهم، يعني: في الآخرة، ولا هم يحزنون، يعني: لا يحزنون للموت. قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) } . قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شيء. وكفر بعيسى وبالإنجيل. وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما

أنتم على شيء. وجحد بنبوة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله في ذلك من قولهما: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} قال: إن كلا يتلوا في كتابه تصديق من كفر به، أن يكفر اليهود بعيسى؛ وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى، وما جاء من التوراة من عند الله، وكل يكفر بما في يد صاحبه. وقوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} ، أي: الجهال من الأمم، {مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يقضي بين المحق والمبطل، {فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وقال تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} . وبالله التوفيق. * * *

الدرس الثالث عشر

الدرس الثالث عشر ... {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلا خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُواْ يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (123) } . * * *

قوله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلا خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) } . قال قتادة: أولئك أعداء الله النصارى، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس. وقال ابن زيد: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يوم الحديبية، وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم، وقال لهم: ما كان أحد يصد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده، فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق. وفي قوله: {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} . قال: إذ قطعوا من يعمدها بذكره، ويأتيها للحج والعمرة. والآية عامة في كل من سعى في خراب المساجد بمنع العبادة فيها، أو بهدمها. وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلا خَآئِفِينَ} خبر معناه الطلب، أي: لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة، أو الجزية {لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} ، قال: قتادة هي: القتل للحربي والجزية للذمي. {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو: النار. وفي الدعاء المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة» . رواه أحمد.

قوله عز وجل: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) } . قال ابن عباس: أول ما نسخ من القرآن - فيما ذكر لنا، والله أعلم -، شأن القبلة. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ} فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق، ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها. فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ... شَطْرَهُ} ، وعن ابن عمر: (أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ويذكر أن رسول - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك) ويتأول هذه الآية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} . رواه مسلم وغيره، وهذا في التطوع. وعن ابن عباس قال: (خرج نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة، فتحروا القبلة وصلّوا، فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فنزلت هذه الآية. وقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} . قال الكلبي: فثمَّ الله يعلم ويرى {إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ، أي: واسع الرحمة، عليم بالأعمال والنيات، كما قالت الملائكة: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .

قوله عز وجل: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117) } . يقول تعالى: {وَقَالُواْ} ، أي: اليهود والنصارى غيره من الكفرة {اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً} ، كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} . وقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ} ، أي: تعالى وتنزه وتقدس عن ذلك علوًا كبيرًا، {بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ملكًا وعبيدًا {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} . كما قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} ، وقال تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: إن لي ولدًا، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدًا» . رواه البخاري، وللترمذي: «وأما شتمه إياي فقوله:

اتخذ الله، ولدًا، وأنا الله الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد» . وفي الصحيحين: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم» . وقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، أي: مبدعهما ومنشئهما من غير مثال سبق {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ، أي: إذا قدّر أمرًا وأراد كونه كان بكن، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وقال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} . قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) } . قال ابن عباس: قال رافع بن حريملة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد، إن كنت رسولاً من الله كما تقول، فقل لله فيكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله في ذلك من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} ، وقال أبو العالية وغيره: هذا قول كفار العرب. {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} . قال:

(هم اليهود والنصارى) . وقد قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً} . وقوله تعالى: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} ، أي: في الكفر والقسوة والعناد كما قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . وقوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، أي: قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل لمن أيقن وصدق، وأما من ختم الله على قلبه واتبع هواه، فلا تنفع فيه الموعظة. كما قال تعالى: {ِإنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} . قوله عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) } . يقول تعالى: إنا أرسلناك (يا محمد) بالحق، أي: بالصدق {بَشِيراً وَنَذِيراً} أي: مبشرًا للمؤمنين بالجنة، ومنذرًا للعاصين، أي: مخوفهم من النار. وقوله تعالى: {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} ، أي: لا نسألك عن كفر، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب. وقوله عز وجل: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (120) } .

قال ابن عباس: هذا في القبلة، وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كان يصلي إلى قبلتهم، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة أيسوا منه في أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ} إلا باليهودية، {وَلا النَّصَارَى} إلا بالنصرانية. والملة: الطريقة. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى} ، أي: إن هدى الله الذي بعثني به هو الدين الصحيح. وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} فيه تهديد ووعيد شديد لمن اتبع طرائق اليهود والنصارى من هذه الأمة. قال ابن كثير: وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله حتى تتبع ملتهم على أن الكفر كله ملة واحدة، فيرث كل منهم قريبه. والله أعلم. انتهى ملخصًا. قوله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) } . قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزل الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئًا على غير تأويله. وقال الحسن: يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} ، أي: من أقام كتابه آمن بالقرآن، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} .

وقوله تعالى: {وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، كما قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحدكم من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» . قوله عز وجل: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُواْ يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (123) } . قد تقدم نظير هذه الآية في أول السورة، وكررت ها هنا للتأكيد والحث على إتباع الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، والتحذير من الحسد وكتمان العلم. وبالله التوفيق. * * *

الدرس الرابع عشر

الدرس الرابع عشر {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) } . يقول تعالى: واذكر يا محمد: إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن أي: قام بجميع ما كلفه الله به من الأوامر والنواهي، كما قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} . قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} يقتدى بك في الخير جزاء على ما فعل، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} ، قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} ، أي: ومن أولادي أيضًا فاجعل منهم أئمة يقتدى بهم. قال الله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي: لا يصيب عهدي من كان منهم ظالمًَا، ومعنى الآية: لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإِمامة من كان ظالمًا من ولدك، وأنه سيكون في ذريتك ظالمون، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} . قوله عز وجل: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) } .

قال ابن عباس: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} ، يقول: لا يقضون منه وطرًا يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه. وقال قتادة: {مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} ، أي: مجمعًا للناس. وقال أبو العالية: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} ، يقول: وأمنا من العدو أن يحمل فيه السلاح، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلي خلاه» ، فقال العباس: يا رسول الله إلا الأذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إلا الأذخر» . وقوله تعالى: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، المقام: هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه في بناء الكعبة، وفي الحديث الصحيح عن عمر: (قلت: يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ) ، وفي حديث جابر: (استلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الركن، فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ: « {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} » فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين) . وقال قتادة: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، وروى البيهقي عن عائشة رضي الله عنها: أن المقام كان زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب.

وقوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} . قال الحسن: أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنجس، ولا يصيبه من ذلك شيء. وقال مجاهد: من الأوثان والرفث، وقول الزور والرجس، وقال ابن عباس: إذا كان جالسًا فهو من العاكفين. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي، أخبرنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت، قال: قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أراني إلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام، فإنهم يُجنبون ويحدثون، قال: لا تفعل، فإن ابن عمر سئل عنهم، فقال: هم العاكفون، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} . قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) } . روى البخاري وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن إبراهيم حرم مكة ودعوت لها، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت لها، في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة» . ولمسلم: «بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكة» .

قال ابن كثير: لا منافاة بين الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حرمها؛ لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها. وقوله تعالى: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ، عن أُبيّ بن كعب، قال: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ، قال هو قول الله تعالى. وقال ابن عباس: كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس، فأنزل الله: ومن كفر أيضًا أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقًا لا أرزقهم! ؟ أمتعهم قليلاً ثم اضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير ثم قرأ ابن عباس: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً} . وقوله تعالى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ، أي: ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه إلى عذاب النار , {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ، أي: المرجع يصير إليه كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} . قوله عز وجل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ

فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129) } . يقول تعالى: واذكر يا محمد بناء إبراهيم وإسماعيل البيت، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . والقواعد: الأساس. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان، خرج إسماعيل وأم إسماعيل، ومعهم شنة فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة، فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة، فوضعها تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء فنادته من ورائه: يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله: قالت: رضيت بالله، قال: فرجعت، فجعلت تشرب من الشنة ويدر لبنها على صبيها حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدًا، فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت هل تحس أحدًا، فلم تحس أحدًا، فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة، وفعلت ذلك أشواطًا حتى أتمت سبعًا، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله، كأنه ينشع الموت، فلم تقرها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدًا، فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت، فلم تحس أحدًا حتى أتمت سبعًا، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإذا هي بصوت، فقالت: أغثْ إن كان عندك خير، فإذا جبريل عليه السلام قال: فقال بعقبه هكذا، وغمز عقبه على الأرض، قال: فانبثق الماء، فدهشت أم إسماعيل، فجعلت تحفر. قال: فقال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: «لو تركته لكان الماء ظاهرًا» ، قال: فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها، قال: فمر ناس من جرهم ببطن الوادي، فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك، وقالوا: ما يكون هذا الطير إلا على ماء، فبعثوا رسولهم فنظر فإذا هو بالماء فأتاهم فأخبرهم فأتوا إليها، فقالوا: يا أم إسماعيل أتأذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك؟ قالت: نعم، فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة.

قال: ثم إنه بدا لإِبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، فقال لأهله: إني مطلع تركتي، قال: فجاء فسلّم، فقال: أين إسماعيل؟ قالت امرأته: ذهب يصيد، قال قولي له إذا جاء غيّر عتبة بابك، فلما أخبرته قال: أنت ذاك، فاذهبي إلى أهلك. قال: ثم إنه بدا لإِبراهيم، فقال: إني مطلع تركتي، قال: فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد، وقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب، فقال: ما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم، وشرابنا الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم. قال: فقال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: «بركة بدعوة إبراهيم» . قال: ثم إنه بدا لإِبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، فقال لأهله: إني مطلع تركتي، فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلاً له، فقال: يا إسماعيل، إن ربك عز وجل أمرني أن أبني له بيتًا، فقال: أطع ربك عز وجل، قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه، فقال: إذَن أفعل، أو كما قال: قال فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، قال: حتى ارتفع البناء، وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام، فجعل يناوله الحجارة ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . رواه البخاري في أحاديث الأنبياء كذلك، ورواه أيضًا من وجه آخر بسياق أبسط من هذا. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألم تري أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم» ؟ فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: «لولا حدثان قومك بالكفر» . فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك استلام الركنين اللذين

يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم عليه السلام. رواه البخاري وغيره. وفي رواية لمسلم: «لولا قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، ولجعلت لها بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة» . قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر ذراعًا، وكانت تكسي القباطيّ، ثم كسيت بعدُ البرود وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف. وقوله تعالى: حكاية لدعاء إبراهيم، وإسماعيل عليهما السلام: ... {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ، {مُسْلِمَيْنِ} ، مخلصين، قال سلام بن أبي مطيع: كانا مسلمين ولكنهما سألاه الثبات. وقال عكرمة: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} ، قال الله: قد فعلت. {وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} ، قال الله: قد فعلت. وقوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} ، قال عطاء: أخرجها لنا، علّمناها، وقال مجاهد: قال إبراهيم: ((أرنا مناسكنا)) ، فأتاه جبريل فأتى به البيت، فقال: ارفع القواعد، فرفع القواعد وأتم البنيان؛ ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا، قال: هذا من شعائر الله؛ ثم انطلق به إلى المروة، فقال: وهذا من شعائر الله؛ ثم انطلق به نحو منى، فلما كان عند العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة فقال: كبِّر وارمه، فكبّر ورماه، ثم انطلق إبليس، فقام عند الجمرة الوسطى، فلما جاز به جبريل وإبراهيم، قال له: كبّر وارمه، فكبّر ورماه، فذهب الخبيث إبليس، وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئًا فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات، قال قد عرفت ما أريتك؟ - قالها ثلاث مرات - قال: نعم.

وقوله: {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ، طلبًا من الله التوبة والرحمة؛ لأنه لا يدخل الجنة أحد بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته. وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} ، يقول تعالى إخبارًا عن تمام دعوة إبراهيم وإسماعيل أنهما قالا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ} ، أي: في الأمة المسلمة {رَسُولاً مِّنْهُمْ} ، أي: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وروى أحمد وغيره عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... «إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين» . وفي حديث أبي أمامة: «ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام» . وقوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ، قال الحسن وغيره: الكتاب: القرآن، والحكمة: السنة، وقيل: الحكمة الفهم في الدين، ولا منافاة. وقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} ، أي: {العَزِيزُ} ، الذي ليس مثله أحد ولا يعجزه شيء، {الحَكِيمُ} ، في أفعاله وأقواله فيضع، الأشياء في محلها. والله أعلم. * * *

الدرس الخامس عشر

الدرس الخامس عشر ... {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ (138) قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (141) } . * * *

قوله عز وجل: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) } . يقول تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} ، أي: ما يرغب عن ملة إبراهيم الحنيفية إلا سفيه ظالم لنفسه. قال الربيع: رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم، وابتدعوا اليهودية والنصرانية وليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم الإِسلام، ويشهد لهذا قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} . وقوله تعالى: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ} ، أي: اخترناه في الدنيا خليلاً {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} ، أي: مع الأنبياء في الجنة. وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أي: أمره الله تعالى بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك. وقوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} ، أي: وصى إبراهيم بنيه بكلمة الإِخلاص: لا إله إلا الله، وهي الملة الحنيفية، وكذلك وصى بها يعقوب بنيه، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً

فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} ، أي: اختار لكم دين الإسلام، {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، أي: استقيموا عليه حتى تموتوا، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} . وروى مسلم وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام يقول: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» . قوله عز وجل: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) } . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء} أكنتم؟ ولكنه استفهم بأم، إذ كان استفهامًا مستأنفًا على كلام قد سبقه، كما قال: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} ، وكذلك تفعل العرب في كل استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه، تستفهم فيه بأم. وقوله تعالى: {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} قيل: نزلت في اليهود حين قالوا

للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألست تعلم أن يعقوب يوم مات وصى بنيه باليهودية؟) وقال الكلبي: لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيران، فجمع ولده وخاف عليهم ذلك. وقوله تعالى: {قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ، إسماعيل عم يعقوب، والعرب تسمي العم أبًا. قال ابن زيد: يقال: بدأ بإسماعيل لأنه الأكبر، واستدل بالآية من جعل الجدّ أبًا وحجب به الأخوة، كما هو قول الصديق، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من السلف والخلف. وقوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ، أي: موحدون مطيعون خاضعون. قوله عز وجل: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) } . يقول تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} ، أي: مضت {لَهَا مَا كَسَبَتْ} من العمل {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ} من خير أو شر {وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . كما قال تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} وفي الحديث: «من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه» . قال قتادة: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} ، يعني: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط. قوله عز وجل: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) } . قال ابن عباس: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الهدى إلا

ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد. وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله عز وجل: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ} . وقوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، أي: قل يا محمد: لا نريد ما دعوتمونا إليه، بل نتبع: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} ، أي، مخلصًا مستقيمًا. قال ابن عباس: الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . قال ابن جرير: يقول لم يكن ممن يدين بعبادة الأوثان والأصنام، ولا كان من اليهود ولا النصارى، بل كان حنيفًا مسلمًا. قوله عز وجل: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) } . روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: {آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} » الآية. وروى مسلم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر ما يصلي الركعتين اللتين قبل الفجر بـ: {آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} الآية، والأخرى بـ: {آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ) . وفي رواية: (يقرأ في ركعتي

الفجر: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} ، والتي في آل عمران: {تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ) . قال قتادة: الأسباط: بنو يعقوب اثنا عشر رجلاً ولد كل رجل منهم أمة من الناس فسموا الأسباط. وقال البخاري: الأسباط: قبائل بني إسرائيل. قال القرطبي: والسبط: الجماعة. والقبيلة: الراجعون إلى أصل واحد. قال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به ويصدقوا بكتبه كلها ورسله. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «آمنوا بالتوراة، والزبور، والإنجيل، وليسعكم القرآن» . رواه ابن أبي حاتم. قوله عز وجل: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ (138) } . يقول تعالى: فإن آمن الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم {بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ} ، أي: بجميع كتب الله ورسله، ولم يفرقوا بين أحد منهم {فَقَدِ اهْتَدَوا} إلى الحق {وَّإِن تَوَلَّوْاْ} عن ذلك، {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} ، أي: في خلاف ومنازعة، قاله ابن عباس. {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ} ، أي: فسيكفيك شرهم وينصرك عليهم {وَهُوَ السَّمِيعُ ... الْعَلِيمُ} . وقوله تعالى: {صِبْغَةَ اللهِ} ، أي: دين الله، سماه صبغة لأنه يظهر أثر الدين على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ على الثوب. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} .

قال قتادة: إن اليهود تصبغ أبناءها يهودًا، والنصارى تصبغ أبناءها نصارى، وإن صبغة الله الإسلام، فلا صبغة أحسن من الإسلام ولا أطهر، وهو دين الله الذي بعث به نوحًا والأنبياء بعده. قوله عز وجل: {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (141) } . يقول تعالى: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المعاندين: {أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللهِ} ، أي: في توحيد الله؟ {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} ، أي: لكل جزاء عمله، فكيف تدعون أنكم أولى بالله {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} ، وأنتم به مشركون؟ قال سعيد بن جبير: الإخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله، فلا يشرك به في دينه. ولا يرائي بعمله. {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} ، أي: {قُلْ} يا محمد: أأنتم أعلم بدينهم أم الله؟ وقد أخبر الله تعالى: أن إبراهيم لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين، وإن أولى الناس به محمد والمؤمنون. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ} ، قال الحسن: كانوا يقرءون في كتاب الله الذي أتاهم: أن الدين الإسلام، وأن محمدًا رسول الله، وأن: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط كانوا برءاء من اليهودية والنصرانية، فشهدوا لله بذلك، وأقروا على أنفسهم، فكتموا شهادة الله عندهم

من ذلك. وعن قتادة: قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ} . قال: الشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - مكتوب عندهم، وهو الذي كتموا. وقوله تعالى: {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تهديد ووعيد. {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} ، أي: مضت {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ} ، أي: لهم أعمالهم ولكم أعمالكم {وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} . والله أعلم. * * *

الدرس السادس عشر

الدرس السادس عشر {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ

فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) } . * * *

قوله عز وجل: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142) } . يقول تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء} ، أي: الجهال وهم: اليهود والمنافقون {مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ} ، أيّ: شيء صرفهم وحوّلهم ... {عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا} يعني: بيت المقدس. قال ابن عباس: (لما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعة عشر شهرًا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعوا الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل: {فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: {مَا وَلاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا} ، فأنزل الله: {قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . وروى الإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني في أهل الكتاب: «إنهم لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين» .

قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143) } . يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ} كما هديناكم صراطًا مستقيمًا ... {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} ، أي: عدلاً خيارًا، كما قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} . وقوله تعالى: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} ، أي: على الأمم بتبليغ رسلهم. وروى الإمام أحمد وغيره عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلّغت؟ فيقول نعم، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلّغكم. فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال: والوسط العدل. فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم» . رواه البخاري وغيره. وفي رواية لأحمد: «يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان، وأكثر من ذلك، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلّغكم هذا؟ فيقولون: لا. فيقال له: هل بلّغت قومك؟ فيقول نعم، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد وأمته فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما أعلمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا، فذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال: عدلاً، {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى

النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} . وروى أحمد وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم» . قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: «بالثناء الحسن، والثناء السيِّء، أنتم شهداء الله في الأرض» . وفي الحديث الآخر: «أيما مسلم شهد له أربعة بخير، أدخله الله الجنة» قال: فقلنا: وثلاثة؟ قال: فقال: «وثلاثة» قال: فقلنا: واثنان؟ قال: «واثنان» . ثم لم نسأله عن الواحد. رواه البخاري وغيره. وقوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ، كما قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً} قال قتادة: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} أي: أن رسلهم قد بلغت قومها عن ربها {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} على أنه قد بلغ رسالات ربه إلى أمته. وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} قال ابن كثير: (يقول تعالى: إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولاً إلى بيت المقدس، ثم صرفناك

عنها إلى الكعبة، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك، ويستقبل معك حيثما توجهت {مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} ، أي: مرتدًا عن دينه، {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} أي: هذه الفعلة، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: وإن كان هذا الأمر عظيمًا في النفوس، {إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول، وإن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك) . انتهى. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس. كما في الصحيح عن البراء قال: (مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فقال الناس: ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ) . وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ، أي: فلا يضيع أجورهم، فإن الله أرحم بهم من والديهم. قوله عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) } . قال ابن إسحاق: حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق عن البراء قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء، ينظر أمر الله، فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فقال رجال من المسلمين: وددنا لو علمنا من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله: {وَمَا

كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} . وقال السفهاء من الناس، وهم من أهل الكتاب: {مَا وَلاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا} فأنزل الله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ} إلى آخر الآية. انتهى. وعن ابن عباس قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته إلى بيت المقدس، رفع رأسه إلى السماء، فأنزل الله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إلى الكعبة، إلى الميزاب، يؤم به جبريل عليه السلام) . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال: شطره قبله، وفي الحديث الصحيح: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» ، يعني: لأهل المدينة ومن في سمتها، فعلى من كان مشاهدًا للكعبة استقبالها، وغير الشاهد يستقبل الجهة بعد التحري. وقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} أي: استقبالكم الكعبة، ولكنهم يكتمون ذلك {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} تهديد ووعيد. قوله عز وجل: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145) } . يقول تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ} ، يعني: اليهود والنصارى {بِكُلِّ آيَةٍ} معجزة {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} ، يعني: الكعبة {وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} لأن اليهود تستقبل بيت المقدس وهو المغرب، والنصارى تستقبل المشرق، وقبلة المسلمين الكعبة.

وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} فيه: تحذير الأمة من مخالفة الحق واتباع الهوى. قوله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) } . يخبر الله تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم، وأن ما جاء به هو الحق، ولكنهم يكتمون ذلك، وهم يعلمون ثم قال تعالى: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} ، أي: هذا الحق من الله لا شك فيه {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشَّاكين. قال الربيع: لا تكن في شك فإنها قبلتك وقبلة الأنبياء قبلك. قال ابن جرير: هذا من الكلام الذي تخرجه العرب مخرج الأمر أو النهي للمخاطب به، والمراد به غيره. قوله عز وجل: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) } . قال ابن عباس: يعني بذلك: أهل الأديان، يقول: لكل قبيلة قبلة يرضونها، ووجهة الله حيث توجه المؤمنون. وقال مجاهد: لكن أمر كل قوم أن يصلوا إلى الكعبة. وقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} ، أي: بادروا بالطاعة أينما تكونوا أنتم وأهل الكتاب، {يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً} يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم، {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وهذه الآية كقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ

عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} . قوله عز وجل: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) } . قيل: إنما كرر الأمر باستقبال القبلة لتأكيد النسخ، لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام. وقوله تعالى: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} . قال ابن كثير: (وقوله: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ، أي: أهل الكتاب، فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين، ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس) . انتهى. وعن مجاهد، وقتادة في قوله: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} قال: هم مشركو العرب، قالوا حين صرفت القبلة إلى الكعبة: قد رجع إلى قبلتكم، فيوشك أن يرجع إلى دينكم. قال الله عز وجل: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} . وقوله تعالى: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} ، أي: بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (تمام النعمة الموت على الإسلام) .

وقوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، أي: لكي تهتدوا من الضلالة. ولعل وعسى من الله واجب. قوله عز وجل: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ (152) } . قيل معناه: ولأتم نعمتي عليكم {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ} . وقال مجاهد: يقول: كما فعلت {فَاذْكُرُونِي} . قال الحسن وغيره: إن الله يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويعذب من كفره. وقال سعيد بن جبير: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي. وفي الحديث الصحيح: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لا تَشْعُرُونَ (154) } . الصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله. قال ابن زيد: الصبر في بابين: الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء، فمن كان هكذا فهو من الصابرين. وقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ} ، نزلت في قتلى بدر من المسلمين {بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لا تَشْعُرُونَ} ، كما قال تعالى في شهداء أحد:

{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} . وفي صحيح مسلم: «إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يَسألوا، قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا، فنقاتل في سبيلك حتى نقتل مرة أخرى. لما يرون من ثواب الشهادة. فيقول الرب جل جلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون» . وروى الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» . قال ابن كثير: ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضًا. قوله عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) } .

يقول تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} ، أي: ولنختبرنكم، {بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} ، كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ} ، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} . وفي الحديث الصحيح: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له» . ولهذا قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} . وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها» . قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخلف الله خيرًا منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} ، أي: ثناء الله عليهم ورحمته. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نعم العدلان ونعمت العلاوة: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} ، فهذان العدلان {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} ، فهذه العلاوة.

وروى أحمد وغيره عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله: يا ملك الموت، قبضت ولد عبدي؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم. قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع. قال: ابنوا له بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد» . وبالله التوفيق. * * *

الدرس السابع عشر

الدرس السابع عشر ... {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) } .

قوله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) } . {شَعَآئِرِ اللهِ} : معالم دينه، والمراد به هنا: المناسك التي جعلها أعلامًا لطاعته وموضعًا لعبادته. روى البخاري عن أنس قال: كنا نرى أن الصفا والمروة من أمر الجاهلية، فلماجاء الإسلام أمسكنا عنها، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ} . وقال الشعبي: كان أساف على الصفا، وكانت نائلة على المروة، وكانوا يستلمونها، فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما، فنزلت هذه الآية. وذكر ابن إسحاق أن أسافًا ونائلة كانا بشرين فزينا داخل الكعبة فمسخا حجرين، فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس، فلما طال عهدهما عُبدا، ثم حولا إلى الصفا والمروة فنصبا هنالك، فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما. وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا وهو يقول: « {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ} - ثم قال -: ... «أبدأ بما بدأ الله به» . وفي رواية النسائي: «ابدءوا بما بدأ الله به» . وفي الحديث الآخر: «اسعوا فإن الله كتب

عليكم السعي» . رواه أحمد. وقوله تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} ، أي: من تطوع بالحج والعمرة بعد أداء الواجب فإن الله مجاز لعبده بجميع علمه عليم بنيته. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) } . قال قتادة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} ، أولئك: أهل الكتاب كتموا الإسلام وهو دين الله، وكتموا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» . وقوله تعالى: {أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} ، أصل اللعن الطرد، والإبعاد. قال مجاهد: إذا أجدبت الأرض قالت البهائم: هذا من أجل عصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم. وقوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} ، أي: رجعوا عما كانوا عليه من المعاصي وأصلحوا أعمالهم، وبينوا للناس ما كتموا {فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .

قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (162) } . قال قتادة: إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس أجمعون. وقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} ، أي: في نار جهنم، كما قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} . وقوله تعالى: {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} ، أي: لا يمهلون، كما قال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} . قال أبو العالية: لا ينظرون فيعتذروا، كقوله تعالى: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} . قوله عز وجل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) } .

قال البغوي: سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا: يا محمد صف لنا ربك وانسبه. فأنزل الله تعالى هذه الآية، وسورة الإِخلاص. والواحد: الذي لا نظير له ولا شريك له. وذكر حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد أنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن في هاتين الآيتين اسم الله الأعظم: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، و {الم * اللهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} » . قال أبو الضحى: (لما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن محمدًا يقول: إن إلهكم إله واحد، فليأتنا بآية إن كان من الصادقين، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية) . قال عطاء: نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} إلى قوله: ... {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، فبهذا يعلمون أنه إله واحد، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء. قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) } .

يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الآخرة، حيث جعلوا له {أَندَاداً} ، أي: أمثالاً ونظراء، يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو لا شريك له ولا ند له، فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} . قال الربيع: هي الآلهة التي تعبد من دون الله، يقول: يحبون أوثانهم كحب الله {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} ، أي: من الكفار لأوثانهم. وقال مجاهد: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد، {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} من الكفار لأوثانهم. قال ابن كثير: وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} ولحبهم لله وتمام معرفتهم به، وتوقيرهم وتوحيدهم له، لا يشركون به شيئًا، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه، ويلجأون في جميع أمورهم إليه. وقوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} ، أي: ولو يعلم الذين ظلموا باتخاذ الأنداد، {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} عاينوه يوم القيامة، {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} ، أي: لو يعلمون أن القدرة لله جميعًا، لا قدرة لأندادهم، {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} يوم القيامة لندموا أشد الندامة {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ} ، وهم: القادة {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ} ، أي: الأتباع، {وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} ، أي: أسباب الخلاص، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} ،

كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} ، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} ، وقال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} ، قال ابن كيسان: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} أنهم أشركوا بالله الأوثان، برجاء أن تقربهم إلى الله عز وجل، فلما عذبوا على ما كانوا يرجون ثوابه، تحسروا وندموا. وبالله التوفيق. * * *

الدرس الثامن عشر

الدرس الثامن عشر ... {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلا دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (169) } . قال البغوي: نزلت في: ثقيف، وخزاعة، وعامر بن صعصعة، وبني مدلج، فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام، والبحيرة والسائبة، والوصيلة، والحام. انتهى. وفي صحيح مسلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت ... لهم» . وفي الحديث الآخر: «الحلال ما أحل الله، والحرام ما حرم الله وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته» . وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ، أي: طرائقه وأوامره {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} بيّن العداوة، كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} ، وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ ... بَدَلاً} ، وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ

فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} . قال قتادة: كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان. وقال ابن عباس: ما كان من يمين أو نذر في غضب، فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين. وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ} ، أي: الأفعال السيئة والفحشاء. قال ابن عباس: الفحشاء من المعاصي ما يجب فيه الحد، والسوء من الذنوب ما لا حد فيه {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من اتخاذ الأنداد، وتحريم الحلال. قوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلا دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171) } . يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ} لهؤلاء الكفرة: {اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ} على رسوله واتركوا ما أنتم عليه من الضلال {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} ، أي: ما وجدناهم عليه في العقائد والأحكام {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} . قال البغوي: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} ، أي: كيف يتبعون آباءهم لا يعقلون شيئًا؟ الواو في {أَوَلَوْ} واو العطف، ويقال لها: واو التعجب، دخلت عليها ألف الاستفهام للتوبيخ. والمعنى: أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهالاً لا يعقلون شيئًا؟ لفظه عام ومعناه الخصوص، أي: لا يعقلون شيئًا من أمور الدين، لأنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا ولا يهتدون. ثم ضرب لهم مثلاً فقال جل ذكره: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ} . انتهى. قال ابن عباس: قوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلا

دُعَاء وَنِدَاء} ، كمثل: البعير، والحمار، والشاة. إن قلت لبعضها: كلٌ لا يعلم ما تقول، غير أنه يسمع صوتك، وكذلك الكافر إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وعظته، لم يعقل ما تقول، غير أنه يسمع صوتك. وقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} ، أي: صمٌ عن سماع الحق، بكمٌ لا يتكملون به، عميٌ عن رؤية طريقه ومسلكه {فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} . كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173) } . الطيبات: الحلال. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} . ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذّي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك» ؟ . رواه مسلم وغيره. وقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} ، وهذه الآية كقوله تعالى: {قُل لا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ

يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} . قال البغوي: ولحم الخنزير أراد به جميع أجزائه، فعبر عن ذلك باللحم لأنه معظمه {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} ، أي: ما ذبح للأصنام والطواغيت. وقال الربيع بن أنس: ما ذكر عليه اسم غير الله. وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، أي: في أكل ذلك في غير بغي ولا عدوان، وهو مجاوزة الحد. قال قتادة: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} . قال: غير باغ في الميتة، أي: في أكله أن يتعدى حلالاً إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة. وقال السدي: أما باغ فيبغي فيه شهوته، وأما العادي فيتعدى في أكله، يأكل حتى يشبع، ولكن ليأكل منه قوتًا ما يمسك به نفسه، حتى يبلغ به حاجته. وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ} ، أي: لمن أكل في حال الاضطرار {رَّحِيمٌ} حيث رخص للعباد في ذلك. وعن عباد بن شُرَحبيل الغُبَري قال: (أصابتنا عامًا مخمصة، فأتيت المدينة، فأتيت حائطًا فأخذت سنبلاً ففركته وأكلته، وجعلته منه في كسائي فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال للرجل: «ما أطعمته إذ كان جائعًا، ولا علمته إذ كان جاهلاً» . فأمره فرد إليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق) . رواه ابن ماجة. قال ابن كثير: إسناده صحيح قوي جيد، وله شواهد كثيرة، من ذلك

حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثمر المعلق فقال: «من أصاب منه من ذي حاجة بفيه، غير متخذ خبنة فلا شيء عليه» . الحديث. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) } . نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم، كتموا صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - الثابتة في كتبهم، لئلا تذهب برياستهم ومآكلهم، والآية عامة في كل من كتم العلم لأجل ذلك {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ} ، يعني: إلا ما يؤديهم إلى النار، وهو: الرشوة، والحرام، وثمن الدين، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} . وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون أبلغ بحجته من بعض، فأقضي له بنحوٍ مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار، فليأخذها أو يدعها» . وفي الحديث الآخر: «الذي يشرب في إناء الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» .

وقوله تعالى: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال ابن كثير: وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم، لأنهم كتموا وقد علموا، فاستحقوا الغضب، (فلا ينظر إليهم) ، {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} ، أي: يثني عليهم ويمدحهم، بل يعذبهم عذابًا أليمًا. ثم ذكر حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر» . وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} ، أي: اعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهي: كتمان ما أنزل الله، واعتاضوا عن المغفرة بالعذاب، وهو ما تعاطوه من أسبابه {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} ، قال الحسن، وقتادة: والله ما لهم عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار. وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} ، أي: إنما استحقوا هذا العذاب الشديد، لأن الله نزل الكتاب بتحقيق الحق، وإبطال الباطل، وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزوًا، واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ} فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، {لَفِي شِقَاقٍ} خلاف وضلال، {بَعِيدٍ} . وبالله التوفيق. * * *

الدرس التاسع عشر

الدرس التاسع عشر {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (182) } . * * *

قوله عز وجل: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) } . البر: كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة. قال أبو العالية: كانت اليهود تقبل قبل المغرب، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق، فقال الله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ ... وَالْمَغْرِبِ} . يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقة العمل. وقال مجاهد: ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عز وجل. وقال الثوري: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ، الآية، قال: هذه أنواع البر كلها. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ} ، أي: بأنه لا إله إلا هو ولا رب سواه، وآمن باليوم بالآخر: وهو يوم القيامة، وصدق بوجود الملائكة الذين هم عباد الرحمن، وصدق بالكتاب أي: القرآن، وجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، وآمن بالنبيين كلهم. ... {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ، أي: أعطاه وهو محب له {ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} ، أي: فكها من الرق، وهي عامة في المكاتبين وفي العتق وفي فداء الأسير {وَأَقَامَ الصَّلاةَ} ، أي: وأتمها في أوقاتها على الوجه المرضي {وَآتَى الزَّكَاةَ} أعطى زكاة ماله {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} فيما بينهم وبين الله عز وجل، وفيما بينهم وبين الناس {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ} أي: في حالة الفقر

والمرض وفي القتال، {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} في إيمانهم، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} بتركهم المحارم وفعلهم الطاعات. قوله: {وَالصَّابِرِينَ} . قال أبو عبيدة: نصبها على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن تغير الإعراب إذا طال الكلام، ومثله في سورة النساء: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ} ، وفي سورة المائدة: {وَالصَّابِؤُونَ} . وقال الخليل: نصب على المدح. وعن علي رضي الله عنه قال: (كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما يكون أحد منا أقرب إلى العدو منه، يعني: إذا اشتد الحرب) . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) } . قال الشعبي وغيره: نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب، اقتتلوا في الجاهلية قبيل الإسلام بقليل، وكانت بينهما قتلى وجراحات، لم يأخذها بعضهم من بعض، حتى جاء الإسلام، وكان لأحد الحيين على الآخر طول في الكثرة والشرف، وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور، فأقسموا: لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل ... منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك، فرفعوا أمرهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمر بالمساواة، فرضوا وأسلموا. وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، أي: فرض عليكم

القصاص وهو المساواة والمماثلة في الجراحات والديات: الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، قال قتادة: كان أهل الجاهلية فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيهم عدة ومنعة، فقتل عبد قوم آخرين عبدًا لهم قالوا: لا تقتل به إلا حرًا، تعزيزًا لفضلهم على غيرهم في أنفسهم، وإذا قتلت لهم امرأة، قتلتها امرأة قوم آخرين قالوا: لا نقتل بها إلا رجلاً، فأنزل الله هذه الآية، يخبرهم أن العبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي. ثم أنزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك فقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} . وقد اختلف العلماء في قتل الحر بالعبد، فذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة، وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل الحر بالعبد وقالوا: لا يقتل المسلم بالكافر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقتل مسلم بكافر» . رواه البخاري. وقال أبو حنيفة: يقتل لعموم الآية. وقال الحسن وعطاء: لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية. وخالفهم الجمهور لآية المائدة، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» . وذهب الأئمة الأربعة والجمهور إلى أن الجماعة يقتلون بالواحد.

قال البغوي: (ويجري القصاص في الأطراف كما يجري في النفوس، إلا في شيء واحد وهو: أن الصحيح السوي يقتل بالمريض والزمن، وفي الأطراف لو قطع يدًا شلاء أو ناقصة لا تقطع بها الصحيحة الكاملة) انتهى. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن الرّبيّع بنت النضر عمته، كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبوا إلا القصاص فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص فقال أنس بن النضر: يا رسول الله أتكسر ثنية الرّبيّع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: «يا أنس كتاب الله القصاص» . فرضي القوم فعفوا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» . وقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . قال ابن عباس: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ، يعني: فمن ترك له من أخيه شيء، يعني: أخذ الدية بعد استحقاق الدم، وذلك العفو. {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} ، يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية، {وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} ، يعني: من القاتل من غير ضرر ولا معك، يعني: المدافعة. وقوله تعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} ، يعني: أخذ الدية في العمد. قال قتادة: رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية، ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما هو والقصاص وعفو ليس بينهم أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل لهذه الأمة: القصاص، والعفو، والأرش. وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، أي: من قتل بعد أخذ الدية فله عذاب أليم. قال ابن جرير: يتحتم قتله حتى لا يقبل العفو. وقال

سعيد بن عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية» . وروى أحمد عن أبي شريح الخزاعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، وإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدًا فيها» . وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . يقول تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، أي: بقاء قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل. وقال قتادة: جعل الله هذا القصاص حياة ونكالاً وعظة لأهل السفه والجهل من الناس، وكم من جاهل قد هم بداهية لولا مخافة القصاص لوقع بها، ولكن الله حجز بالقصاص بعضهم عن بعض، وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة، ولا نهى عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين، والله كان أعلم بالذي يصلح خلقه. وقوله تعالى: {يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} ، أي: العقول والأفهام. ... {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . قال ابن زيد: لعلك تتقي أن تقتله فتقتل به. قال ابن كثير: والتقوى اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات. قوله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) } .

كانت الوصية فريضة في ابتداء الإسلام للوالدين، والأقربين على من مات وله مال، ثم نسخت بآية الميراث. وفي السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب وهو يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» . وقال قتادة: قوله: ... {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} ، فجعلت الوصية للوالدين والأقربين، ثم نسخ ذلك بعد ذلك فجعل لهما نصيب مفروض، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون، وجعل للوالدين نصيب معلوم، ولا تجوز وصية لوارث. وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» . قال ابن عمر: ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك إلا ووصيتي عندي. وروى ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه أنه دخل على رجل من قومه يعوده، فقال له أوصني، فقال له علي: إنما قال الله: {إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} ، إنما تركت شيئًا يسيرًا فاتركه لولدك. وقوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} ، قال ابن جرير: (وهو ما أذن الله فيه وأجازه في الوصية، مما يجوز الثلث، ولم يتعمد الموصي ظلم ورثته) . انتهى. وعن حنظلة بن حِذْيَم بن حنيفة أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإِبل، فشق ذلك على بنيه، فارتفعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال حنيفة: إني

أوصيت ليتيم لي بمائة من الإِبل كنا نسميها المطية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا، لا، لا، الصدقة خمس، وإلا فعشر، وإلا فخمس عشرة، وإلا فعشرون، وإلا فخمس وعشرون، وإلا فثلاثون، وإلا فخمس وثلاثون، فإن كثرت فأربعون» . الحديث رواه أحمد. وقال ابن عباس: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الثلث، والثلث كثير» . وقال الشعبي: إنما كانوا يوصون بالخمس أو الربع. وقال الحسن البصري: يوصي بالسدس، أو الخمس، أو الربع. وعن نافع أن ابن عمر لم يوص، وقال: أما مالي فالله أعلم ما كنت أصنع فيه في الحياة، وأما رباعي فما أحب أن يشرك ولدي فيها أحد. رواه ابن جرير. قوله عز وجل: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (182) } . يقول تعالى: فمن بدل الوصية فزاد فيها أو نقص {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} ، والميت بريء منه، وقد وقع أجره على الله {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، أي: قد اطلع على ما أوصى به الميت وعلى ما غيره المبدل، لا تخفى عليه خافية. وقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً} ، أي: جورًا وعدولاً عن الحق، أي: ظلمًا. قال السدي وغيره: الجنف: الخطأ، والإثم: العمد {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ، قال مجاهد: معنى الآية: أن الرجل إذا حضر مريضًا وهو يوصي فرآه يميل إما بتقصير أو إسراف، أو وضع الوصية في غير موضعها، فلا حرج على من حضره أن يأمره بالعدل وينهاه عن الجنف، فينظر للموصى له والورثة. وقال ابن

عباس في قوله: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً} ، يعني: إثمًا، يقول: إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها، فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب. وقال قتادة في قوله: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} قال: هو الرجل يوصي فيحيف في وصيته، فيردها الوالي إلى الحق والعدل. وقال أيضًا: من أوصى بجور أو جنف في وصيته، فردها والي المتوفي إلى كتاب الله وإلى العدل، فذاك له، أو إمام من أئمة المسلمين. وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة» . قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} الآية، رواه عبد الرزاق. يشير إلى قوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ * تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} . وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيه: الحث على ترك الإثم والميل، وفعل الإصلاح، ليحصل الغفران والرحمة. وبالله التوفيق. * * *

الدرس العشرون

الدرس العشرون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) } . يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ، أي: فرض عليكم {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} من الأنبياء والأمم. قال سعيد بن جبير: كان صوم من قبلنا من العتمة إلى الليلة القابلة، كما كان في ابتداء الإسلام. وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، أي: لأن الصوم وسيلة إلى التقوى، لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات. كما ثبت في الصحيحين: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» . وقوله تعالى: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} ، أي: ثلاثين يومًا أو تسعة وعشرين يومًا. وقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، أي: إذا أفطر المريض في حال مرضه، والمسافر في حال سفره صاما عدد ما أفطراه بعد رمضان. وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} . روى ابن جرير عن معاذ بن جبل

قال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة فصام يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم إن الله عز وجل فرض شهر رمضان، فأنزل الله تعالى ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} حتى بلغ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا، ثم إن الله عز وجل أوجب الصيام على الصحيح المقيم، وثبت الإِطعام للكبير الذي لا يستطيع الصوم، فأنزل الله عز وجل: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى آخر الآية) . وقال ابن عباس في قوله تعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} ، {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} ، فزاد إطعام مسكين آخر {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} ، {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} ، وقال ابن شهاب: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} ، أي: أن الصيام خير لكم من الفدية. وعن الشعبي قال: نزلت هذه الآية للناس عامة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، وكان الرجل يفطر ويتصدق بطعامه على مسكين، ثم نزلت هذه الآية: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قال: فلم تنزل الرخصة إلا للمريض والمسافر. وقال قتادة في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، قال: كان فيها رخصة للشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يطعما مكان كل يوم مسكينًا ويفطرا، ثم نسخ ذلك بالآية التي بعدها فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ} إلى قوله: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فنسختها هذه الآية، فكان أهل العلم يرون ويرجون الرخصة تثبت للشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، إذا لم يطيقا الصوم أن يفطرا ويطعما كل يوم مسكينًا، وللحبلى إذا خشيت على ما في بطنها، وللمرضع إذا ما خشيت على ولدها. وقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} . قال ابن جرير: يعني: إن كنتم تعلمون

خير الأمرين لكم أيها الذين آمنوا من الإفطار والفدية والصوم على ما أمركم الله به. قوله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) } . يمدح تعالى هذا الشهر؛ لأنه أنزل فيه القرآن، وفرض صيامه على المسلمين. وروى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان» . وقال ابن عباس: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة، وكان الله يحدث لنبيه ما يشاء، ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه، وذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} . وقوله تعالى: {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} ، أي: إرشادًا للناس إلى سبيل الحق {وَبَيِّنَاتٍ} ، أي: واضحات من الهدى، يعني: من البينات الدالة على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه.

وقوله: {وَالْفُرْقَانِ} ، يعني: والفصل بين الحق والباطل. وقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قال ابن عباس في قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قال: هو إهلاله بالدار، يريد إذا هلّ وهو مقيم. وقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . قال البغوي: أباح الفطر لعذر المرض، والسفر، وأعاد هذا الكلام ليعلم أن هذا الحكم ثابت في النسخ ثبوته في المنسوخ. وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، عن أبي حمزة قال: سألت ابن عباس عن الصوم في السفر فقال: يسر وعسر، فخذ بيسر الله. وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه: (كنا نسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم) . وقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، أي: إنما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر، لإرادته بكم اليسر، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم. وقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، أي: ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم، كما قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} . قال البغوي: {وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ} ، ولتعظموا الله {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أرشدكم

إلى ما رضي به من صوم شهر رمضان، وخصكم به دون سائر أهل الملل. قال ابن عباس: هو تكبيرات ليلة الفطر {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على نعمه. قوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) } . قال البغوي: روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قالت يهود أهل المدينة: يا محمد كيف يسمع ربنا دعاءنا؟ وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام؟ وأن غلظ كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت هذه الآية. وقال الضحاك: سأل بعض الصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} . وفيه إضمار، كأنه قال: فقلت لهم: {إِنِّي قَرِيبٌ} منهم بالعلم لا يخفى عليّ شيء، كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} . ثم ساق سنده عن أبي موسى الأشعري قال: (لما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبرًا وتوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر، أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، وهو معكم» . وقوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ، روى الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مسلم يدعو الله عزّ وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الأخرى، وإما أن يصرف عنه من السوء

بمثلها» . قالوا: إذًا نكثر قال: «الله أكثر» . وقوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} ، أي: فليجيبوا لي بالطاعة أجبهم بالعطاء. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي» . وقوله تعالى: {وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أي: لكي يهتدوا. قوله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) } . الرفث: كناية عن جماع. قال ابن عباس: إن الله حيي كريم يكني كل ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة، والإفضاء والدخول والرفث، فإنما عنى به الجماع، وقال أيضًا: كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن أناسًا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الآية.

وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله إني أردت أهلي البارحة على ما يريد الرجل أهله، فقالت: إنها قد نامت. فظننتها تعتل، فواقعتها، فنزل في عمر {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} . وقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} ، أي: سكن لكم. {وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} . كما قال تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} ، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} ، وقال الربيع بن أنس: هنَّ فراش لكم وأنتم لحاف لهنَّ. وقوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} ، أي: جامعوهن. {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} . قال قتادة: وابتغوا الرخصة التي كتب الله كم بإباحة الأكل والشرب والجماع في اللوح المحفوظ. وقوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} ، في الصحيحين عن عدي بن حاتم قال: (لما نزلت هذه الآية: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} . عمدت إلى عقالين أحدهما أسود، والآخر أبيض، قال: فجعلتهما تحت وسادتي. قال: فجعلت أنظر إليهما فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بالذي صنعت، فقال: «إن وسادك إذًا لعريض. إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل» . وروى مسلم وغيره عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال،

ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطيل في الأفق» . ولأحمد، والترمذي عن طلق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كلوا واشربوا ولا يهدينكم الساطع المصعد، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر» . وقال ابن عباس: هما فجران، فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئًا، ولكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب. رواه عبد الرزاق. وقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} ، في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، فقد أفطر الصائم» . ولمسلم: «وغابت الشمس» . وقوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} . قال ابن عباس: هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان، أو في غير رمضان، فحرّم الله عليه أن ينكح النساء ليلاً أو نهارًا حتى يقضي اعتكافه. وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} ، أي: التي نهاكم عنها. {فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فينجو من العذاب، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} . قوله عز وجل: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188) } .

قال ابن عباس: هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بيّنة، فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام. وقال مجاهد: لا تخاصم وأنت ظالم. وقال قتادة: لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم؛ فإن قضاءه لا يحل حرامًا. وفي الصحيحين عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار، فليحملها أو يذرها» . قال قتادة: (اعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحل لك حرامًا، ولا يحق لك باطلاً وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى، وتشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ ويصيب، واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبطل للحق بأجود مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا) . والله أعلم.

الدرس الحادي والعشرين

الدرس الحادي والعشرين ... {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) } . * * *

قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) } . قال العوفي عن ابن عباس: (سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأهلة، فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم) . وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فعدوا ثلاثين يومًا» . رواه عبد الرزاق. وقوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} روى البخاري عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} . وقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه لتفوزوا غدًا إذا وقفتم بين يديه. قوله عز وجل: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ (190) } .

قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن ذلك في النساء والذرية، ومن لم ينصب لك الحرب منهم. وقال ابن عباس: يقول: لا تقتلوا النساء ولا الصبيان ولا الشيخ الكبير، ولا من ألقى إليكم السلام وكف يده، فإن فعلتم هذا فقد اعتديتم. وقال الربيع: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقاتل من يقاتله، ويكفّ عم كفّ عنه حتى نزلت براءة. قوله عز وجل: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (192) } . قال البغوي: أصل الثقافة الحذّ والبصر بالأمر، ومعناه: واقتلوهم حيث أبصرتم مقاتلتهم وتمكنتم من قتلهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، وذلك أنهم أخرجوا المسلمين من مكة. فقال: أخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم من دياركم. وقوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} قال مجاهد وغيره: يقول: الشرك أشد من القتل. وقوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . قال ابن كثير: وقوله: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} كما جاء في الصحيحين: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه حرام

بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره ، ولا يختلى خلاه، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم» ، يعني بذلك صلوات الله وسلامه عليه: قتاله أهله يوم فتح مكة، فإنه فتحها عنوة وقتلت رجال منهم عند الخندمة، وقيل: صلحًا؛ لقوله: «من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» . وقوله: {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} ، يقول تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إلا أن يبدءوكم بالقتال فيه، فلكم حينئذٍ قتالهم وقتلهم دفعًا للصائل، كما بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال؛ لما تألبت عليه بطون قريش، ومن والاهم من أحياء ثقيف، والأحابيش عامئذ، ثم كفّ الله القتال بينهم، فقال: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} . وقال: ... {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . وقوله: {فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، أي: فإن تركوا القتال في الحرام، وأنابوا إلى الإِسلام والتوبة؛ فإن الله يغفر ذنوبهم؛ ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله، فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه. انتهى.

قوله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) } . قال البغوي: وقاتلهم، يعني: المشركين، {حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: شرك، يعني: قاتلوهم حتى يسلموا، فلا يقبل من الوثني إلا الإِسلام، فإن أبى قُتل. {وَيَكُونَ الدِّينُ} ، أي: الطاعة والعبادة لله وحده، فلا يعبد شيء دونه. قال نافع: جاء رجل إلى ابن عمر في فتنة ابن الزبير، فقال: ما يمنعك أن تخرج؟ قال: يمنعني أن الله حرم دم أخي قال: ألا تسمع ما ذكره الله عز وجل: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فقال: ابن أخي، ولأن أعتبر بهذه الآية ولا أقاتل، أحبّ إليّ من أن أعتبر بالآية التي يقول الله عز وجل: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} قال: ألم يقل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} قال: قد فعلنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كان الإسلام قليلاً وكان الرجل يفتن في دينه إما يقتلونه أو يعذبونه، حتى كثر الإِسلام فلم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوهم حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله. انتهى. وقوله تعالى: {فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} ، قال الربيع: هم المشركون. وقال مجاهد: {فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} ، يقول: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم. قوله عز وجل: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) } .

قال ابن عباس وغيره: (لما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتمرًا في ست من الهجرة، وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة، وهو شهر حرام، حتى قاضهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان معه من المسلمين، وأقصه الله منهم، فنزلت في ذلك هذه الآية: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} وعن جابر بن عبد الله قال: (لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزي ونغزو، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ) . رواه أحمد. وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} سمي الجزاء باسم الابتداء، كما قال تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} قال ابن كثير: أمر تعالى بالعدل حتى في المشركين. وقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} ، أمر لهم بطاعة الله وتقواه، وإخبار بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة. قوله عز وجل: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) } . قال ابن عباس في قوله: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} : ليس ذلك في القتال إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله، ولا تلق بيدك إلى التهلكة. وروى أبو داود وغيره عن أسلم بن عمران قال: (حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صفّ العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاريّ، فقال ناس:

ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية منكم، إنما نزلت فينا. صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار نجيًا، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ونصره حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وكنا قد آثرنا على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهم، فنزل فينا: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد) . وروى ابن مردويه عن النعمان بن بشير في قوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، أن يذنب الرجل الذنب فيقول: لا يغفر لي، فأنزل الله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: والأول أظهر، لتصديره الآية بذكر النفقة، فهو المعتمد في نزولها. وأما قصرها عليه ففيه نظر؛ لأن العمدة بعموم اللفظ إلى أن قال: وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو، فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته، وظنه أنه يرهب العدو بذلك، أو يجرئ المسلمين عليهم، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة، فهو حسن. ومتى كان مجرد تهور فممنوع، ولاسيما إن ترتب على ذلك وهن في المسلمين والله أعلم. انتهى. * * *

الدرس الثاني والعشرون

الدرس الثاني والعشرون {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ (200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً

وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) } .

قوله عز وجل: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعطف بذكر الجهاد، شرع في بيان المناسك فقال: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} . قال ابن عباس: من أحرم بحج أو عمرة فليس له أن يحل حتى يتمها. تمام الحج يوم النحر، إذا رمى جمرة العقبة وزار البيت، فقد حل من إحرامه كله، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة، فقد حل. وقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . قال مجاهد: الحصر الحبس، كأنه يقول: أيما رجل اعترض له في حجته وعمرته فإنه يبعث بهديه من حيث يحبس. وقال قتادة: هو الخوف والمرض والحابس إذا أصابه ذلك بعث بهديه، فإذا بلغ الهدي محله حل. وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: كل شيء حبس المحرم فهو إحصار. وقال ابن عباس: مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شاة. وقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ، أي: الحرم. قال ابن كثير: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم. فأما في حال

الأمن والوصول إلى الحرم، فلا يجوز الحلق، حتى يبلغ الهدي محله، ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة، إن كان قارنًا، أو من فعل أحدهما إن كان مفردًا أو متمتعًا، كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس أحلّوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: «إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» . وقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ، عن كعب بن عجرة قال: (حملت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي فقال: «ما كنت أرى أن الجهل بلغ بك هذا، أما تجد شاة» ؟ قلت: لا. قال: «صم ثلاثة أيام، وأطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك» . فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة) . رواه البخاري وغيره. وفي رواية لأحمد وغيره: «يؤذيك هوام رأسك» ؟ قلت: نعم. قال: «فاحلقه وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة» . قوله عز وجل: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) } . قال ابن كثير: (وقوله: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، أي: فإذا تمكنتم من أداء المناسك، فمن كان منكم متمتعًا بالعمرة إلى الحج، وهو يشمل من أحرم بهما أو أحرم بالعمرة أولاً، فلما فرغ منها

أحرم بالحج، وهذا هو التمتع الخاص وهو المعروف في كلام الفقهاء. والتمتع العام يشمل القسمين كما دلت عليه الأحاديث الصحاح) . انتهى. وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، أي: فليذبح ما تيسر من الهدي وأقله شاة. {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} ، أي: في أيام المناسك. قال عطاء وغيره: الأولى أن يصومها قبل يوم عرفة في العشر، أو من حين يحرم، قاله ابن عباس وغيره. وقال العوفي عن ابن عباس: إذا لم يجد هديًا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإذا كان يوم عرفة الثالث فقد تمّ صومه، وسبعة إذا رجع إلى أهله. وهل يجوز صيامها أيام التشريق؟ فيه قولان للعلماء والراجح الجواز، لما روى البخاري عن ابن عمر وعائشة قالا: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) . وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال ابن عباس: هم أهل الحرم. وقال طاوس: المتعة للناس لا لأهل مكة، من لمن يكن أهله من الحرم. وقال مكحول في قوله ذلك: ... {لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . قال: من كان دون الميقات. واختار ابن جرير: أنهم أهل الحرم، ومن كان منه على مسافة لا يقصر فيها الصلاة. وقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ} ، أي: فيما أمركم ونهاكم، {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، لمن خالف أمره وارتكب نهيه. قوله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) } .

قال ابن عباس: لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في شهور الحج، من أجل قول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} . وقال ابن عمر: هي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. قال ابن جرير: وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب. وقوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} يقول: من أحرم بحج أو عمرة. وقوله: {فَلاَ رَفَثَ} ، أي: من أحرم بحج أو عمرة فليجتنب الرفث وهو الجماع. وكان ابن عمر يقول: الرفث: إتيان النساء، والتكلم بذلك للرجال والنساء، إذا ذكروا ذلك بأفواههم. وقال ابن عباس: الرفث: التعريض بذكر الجماع، وهي العرابة في كلام العرب، وهو أدنى الرفث. وقال عطاء: الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش. وقال طاوس: هو أن يقول للمرأة إذا حللت أصبتك. وقوله: {وَلاَ فُسُوقَ} . قال ابن عباس وغيره: هي المعاصي. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» . وقوله تعالى: {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال مجاهد: قد بين الله أشهر الحج، فليس فيه جدال بين الناس. وقال ابن عباس: {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: المراء في الحج. وقال ابن مسعود في قوله: {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: أن

تماري صاحبك حتى تغضبه، وكذا قال ابن عباس وغيره، وقال ابن عمر: الجدال في الحج السباب والمنازعة، وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده، غفر له ما تقد من ذنبه» . رواه أحمد. وقوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ} ، لمّا نهاهم عن إتيان القبيح حثهم على فعل الجميل، وأخبرهم أنه عالم به وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة. وقوله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوجون، ويقولون: نحن المتوكلون فأنزل الله: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ ... التَّقْوَى} . وقوله تعالى: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ، لمّا أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا، أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى، كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} . وقال مقاتل: لما نزلت هذه الآية: {وَتَزَوَّدُواْ} قام رجل من فقراء المسلمين فقال: يا رسول الله ما نجد ما نتزوده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تزود ما تكف به وجهك عن الناس، وخير ما تزودتم التقوى» . رواه ابن أبي حاتم. وقوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} ، أي: العقول، والأفهام، أي: احذروا عقابي وعذابي لمن خالفني وعصاني.

قوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199) } . روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال: (كانت عكاظ ومجنة وذوى المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأثموا أن يتّجروا في الموسم فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} في مواسم الحج) . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده. وروى أحمد وغيره عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا نكري فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون بالمعروف، وترمون الجمار، وتحلقون رءوسكم؟ قال: قلنا: بلى. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أنتم حجاج» . وقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} . روى أحمد وأهل السنن عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الحج عرفات، - ثلاثًا - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك» . الحديث.

وفي حديث جابر الطويل: (فلم يزل واقفًا - يعني: بعرفة - حتى غابت الشمس وبدت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه. ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: «أيها الناس السكينة السكينة» . كلما أتى جبلاً أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب الْقَصْوَاءَ حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا فدفع قبل أن تطلع الشمس) . الحديث رواه مسلم. وروى أحمد عن جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل عرفات موقف وادفعوا عن عرفة، وكل مزدلفة موقف وادفعوا عن محسر، وكل فجاج مكة منحر، وكل أيام التشريق ذبح» . وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} ، أي: واذكروه بالتوحيد والتعظيم كما هداكم لدينه، ومناسك حجه. {وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} ، أي: وقد كنتم من قبل هذا الهدى لمن الضالين الجاهلين بدينهم. وقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . قال أهل التفسير: كانت قريش وحلفاؤها ومن دان بدينها وهم الحمس، يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن أهل الله، وقطان حرمه، فلا نخلف الحرم، ولا نخرج منه، ويتعظمون أن يقفوا مع سائر العرب بعرفات، فإذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمس من المزذلفة، فأمرهم الله أن يقفوا بعرفات، ويفيضوا منها

إلى جمع مع سائر الناس. وقال الضحاك بن مزاحم: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ... النَّاسُ} ، قال: هو إبراهيم. وروى عن ابن عباس ما يقتضي أن المراد بالإفاضة ها هنا هي: الإِفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار. والله أعلم. وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، كثيرًا ما يأمر الله بذكره واستغفاره بعد قضاء العبادات، كما ورد ذلك في أدبار الصلوات وغيرها، ومن ذلك: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغور الرحيم» . وكان - صلى الله عليه وسلم - يستغفر بعد السلام ثلاثًا؛ وفائدة الاستغفار الذل والانكسار بين يدي الجبار، كما في سيد الاستغفار: «اللهم أنت ربي لا إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة، ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة» . رواه البخاري. قوله عز وجل: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ (200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ

مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) } . يأمر تعالى بذكره دائمًا والإكثار منه بعد قضاء المناسك. قال سعيد ابن جبير عن ابن عباس: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -: {فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} . وقوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} ، أي: حظ ونصيب، قال ابن عباس: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاد حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئًا، فأنزل الله فيهم: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} ، وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فأنزل الله: ... {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . وقوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} . قال ابن عباس: الأيام المعدودات: أيام التشريق، والأيام المعلومات: أيام العشر. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصوموا هذه الأيام - يعني: أيام منى - فإنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل» . رواه ابن جرير. وقال ابن عباس وغيره: الأيام المعدودات أربعة أيام: يوم النحر، وثلاثة بعده. وقوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} . قال قتادة: قوله: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} ، أي: من أيام التشريق

{فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ، ومن أدركه الليل بمنى من اليوم الثاني من قبل أن ينفر، فلا نفر له حتى تزول الشمس من الغد، {وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، يقول: ومن تأخر إلى اليوم الثالث من أيام التشريق {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال ابن مسعود: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ، أي: غفر له. {وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} قال: غفر له. وقال أبو العالية: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، قال: ذهب إثمه كله إن اتقى فيما بقي. وقال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: من اتقى في حجه غفر له ما تقدم من ذنبه , أو ما سلف من ذنوبه. وقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ، أي: اتقوا الله بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه، {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجزيكم بأعمالكم. والله أعلم. * * *

الدرس الثالث والعشرون

الدرس الثالث والعشرون {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208) فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم

مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (214) } . * * *

قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) } . قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، وهو حليف لبني زهرة وأقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة فأظهر له الإسلام، فأعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك منه وقال: إنما جئت أريد الإسلام والله يعلم أني صادق، وذلك قوله: {وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} ، ثم خرج من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع وعقر الحمر، فأنزل الله عزّ وجل: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} . وقال أبو معشر: سمعت سعيدًا المقبري يذاكر محمد بن كعب فقال سعيد: إن في بعض الكتب أن لله عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين، يجترون الدنيا بالدين. قال الله تبارك وتعالى: أعليّ يجترئون وبي يفترون؟ فبعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيرانًا. فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله جل ثناؤه. فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله؟ قال: قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} ، فقال سعيد: قد عرفت فيم أنزلت هذه الآية؟ فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد. وقال الضحاك: {وَإِذَا تَوَلَّى} ، أي: ملك الأمر وصار واليًا، {سَعَى فِي الأَرْضِ} ، قال مجاهد: إذا ولى يعمل بالعدوان والظلم، فأمسك الله المطر وأهلكم الحرث والنسل.

وقال قتادة: قوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} ، يقول: شديد القسوة في معصية الله، جدّال بالباطل، وإذا شئت رأيته عالم اللسان جاهل العمل، يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» . رواه البخاري وغيره. وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} ، أي: إذا وعظ هذا الفاجر حملته العزة والغضب على الفعل بالإِثم، {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} ، أي: كافية {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} الفراش. وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . قال ابن مسعود: إن من أكبر الذنب عند الله أن يقال للعبد: اتق الله، فيقول: عليك بنفسك. قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) } . قال ابن عباس وغيره: نزلت في صهيب بن سنان الرومي، وذلك وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل، فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل الله فيه هذه الآية، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له: ربح البيع، فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية. وعن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت لي قريش: يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك؟ والله لا يكون ذلك أبدًا فقلت: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا: نعم. فدفعت إليهم مالي

فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب» . مرتين. رواه ابن مردويه. وقال ابن عباس: نزلت في سرية الرجيع. وعن المغيرة قال: بعث عمر جيشًا فحاصروا أهل الحصن، فتقدم رجل من بجيلة فقاتل فقتل، فأكثر الناس يقولون فيه: ألقى بيده إلى التهلكة. قال: فبلغ ذلك ... عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كذبوا أليس الله عز وجل يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ ... بِالْعِبَادِ} ؟ . قال ابن كثير: وأما الأكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله، كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وقال ابن جرير: هي عامة في كل من باع نفسه في طاعة الله، وإن كان نزولها بسبب من الأسباب، هذا معنى كلامه. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208) فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) } . قال ابن عباس وغيره: {ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ} يعني: الإسلام. ... {كَآفَّةً} جميعًا.

وقال مجاهد: أي: اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر، {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} فيما يأمركم به، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} . وقوله تعالى: {فَإِن زَلَلْتُمْ} ، أي: ضللتم {مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} أي: الدلالات الواضحات {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} قال قتادة: عزيز في نقمته، حكيم في أمره. قوله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (210) } . يقول تعالى مهددًا للكافرين: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ} يوم القيامة {فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} لفصل القضاء والملائكة، كما قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} ، وقال تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} . وفي حديث الصور: «وينزل الجبار عز وجل في ظلل من الغمام والملائكة، ولهم زجل من تسبيحهم يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سبوح قدوس، سبحان ربنا الأعلى، سبحان ذي السلطان والعظمة، سبحانه سبحانه أبدًا أبدًا» . رواه ابن جرير. قال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره:

قراءته والسكوت عليه، ليس لأحد أن يفسره إلا الله تعالى ورسوله. وقوله تعالى: {وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} ، أي: فصل الله القضاء بين الخلق، وجزي كلٌ بعمله، ودخل كلٌ منزله: فريق في الجنة وفريق في السعير، كما قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

قوله عز وجل: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) } . يقول تعالى: {سَلْ} يا محمد، {بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} ، أي: حجة قاطعة بصدق موسى فيما جاءهم به، كاليد، والعصا، وفلق البحر، وضرب الحجر، وتظليل الغمام، وغير ذلك من الآيات، ومع هذا أعرض كثير منهم وبدلوا وكذبوا الأنبياء، ولهذا قال: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} . قوله عز وجل: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) } . يقول تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} فآثروها على الآخرة، {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ} حيث آثروا الآخرة وأعرضوا عما يشغلهم عنها. {وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} . وقوله تعالى: {وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، أي: يعطي من يشاء من خلقه عطاء كثيرًا بلا حصر في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} .

قوله عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213) } . قال ابن عباس: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} ، أي: الكتب بالحق، أي: الصدق والعدل، {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} من أمور دينهم ودنياهم. {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} ، أي: الكتاب، {إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} ، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . قال الربيع بن أنس في قوله: {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} ، أي: عند الاختلاف، أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف، أقاموا على الإخلاص لله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة. وقوله تعالى: {وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . قال أبو العالية في هذه الآية المخرج من الشبهات، والضلالات، والفتن. وعن عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل يقول: «اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك

فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» . رواه البخاري، ومسلم. قوله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (214) } . قال عطاء: لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المدينة، اشتد عليهم الضر لأنهم خرجوا بلا مال، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا مرضاة الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسرّ قوم النفاق، فأنزل الله تعالى تطييبًا لقلوبهم: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ} . قال مجاهد وغيره: {الْبَأْسَاء} : الفقر، ... {وَالضَّرَّاء} : السقم، {وَزُلْزِلُواْ} : خوفوا من الأعداء. {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ} ، أي: ما زال البلاء بهم حتى استبطئوا النصر. قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} ، وهذه الآية كقوله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} . وفي الحديث الصحيح: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا» . والله أعلم. * * *

الدرس الرابع والعشرون

الدرس الرابع والعشرون {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) } . * * *

قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) } . قال مقاتل: هذه الآية في نفقة التطوع، ومعنى الآية: يسألونك كيف ينفقون؟ فبين لهم تعالى ذلك قال: {قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ، أي: اصرفوا نفقتكم في هذه الوجوه، كما في الحديث: «أمك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك» ، قال ميمون بن مهران: هذه مواضع النفقة، ما ذكر فيها طبل ولا مزمار، ولا تصاوير الخشب ولا كسوة الحيطان. وقوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} ، أي: فيجازيكم عليه. قوله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216) } . قال الزهري: الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد، فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين، وإذا استغيث أن يغيث، وإذا استنفر أن ينفر، وإن لم يحتج إليه قعد.

وقوله تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} ، أي: شديد عليكم، {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ، لأن في الغزو إحدى الحسنيين: إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة. {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} ، فإن الذل في القعود، {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ، أي: هو أعلم بعواقب الأمور منكم، وأخبر بما فيه صلاحكم. قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218) } . سبب نزول هذه الآية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن جحش في جمادي الآخرة، قبل وقعة بدر، ونفرًا معه سرية، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة، من جمادي، وكانت أول رجب، ولم يشعروا، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه) . قال ابن عباس: وإن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك، فقال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ} ، إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، والشرك أشد منه. وقال ابن إسحاق: {الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} ، أي: قد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل، {وَلاَ يَزَالُونَ

يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} أي: ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين. قال البغوي: قوله تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} عظيم، تم الكلام ها هنا، ثم ابتدأ فقال: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ} . قال ابن جرير في قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ... الْقَتْلِ} ، (وتأويل الكلام: وصد عن سبيل الله وكفر به وعن المسجد الحرام، وإخراج أهل المسجد الحرام، وهم أهله وولاته، أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، فالصد عن سبيل الله مرفوع بقوله: {أَكْبَرُ عِندَ اللهِ} ، وقوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} ، عطف على الصد، ثم ابتدأ الخبر عن الفتنة فقال: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} ، يعني: الشرك أعظم وأكبر من القتل، يعني: مِنْ قَتْلِ ابن الحضرمي الذي استنكرتم قتله في الشهر الحرام) . انتهى. قال ابن هشام: وقال عبد الله بن جحش: تعدون قتلي في الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشد راشد صدودكم عما يقول محمد ... وكفر به ولله راء وشاهد وإخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى لله في البيت ساجد وروى ابن جرير عن جندب بن عبد الله قال: لما كان من أمر عبد الله بن جحش وأصحابه، وأمر ابن الحضرمي ما كان، قال بعض المسلمين: إن لم يكن أصابوا في سفرهم، أظنه قال: وزرًا، فليس لهم فيه أجر، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ

آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، قال قتادة: أثنى الله على أصحاب نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أحسن الثناء، هؤلاء خيار هذه الأمة، ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون، وأنه من رجا طلب، ومن خاف هرب. قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} . الخمر: ما خامر العقل، والميسر: القمار. وقال القاسم بن محمد: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن صلاته فهو ميسر. وقوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} . قال ابن كثير: (أما إثمهما فهو في الدين، وأما المنافع فدنيوية. وقوله تعالى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} ، قال ابن جرير: يعني بذلك عز ذكره: والإثم بشرب هذه، والقمار بهذا، أَعظم وأكبر مضرة عليهم من النفع الذي يتناولون بهما؛ وإنما كان ذلك كذلك لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتل بعضهم بعضًا، وإذا ياسروا وقع بينهم فيه بسببه الشر، فأداهم ذلك إلى ما يأثمون به، ونزلت هذه الآية في الخمر قبل أن يصرح بتحريمها) . انتهى. وروى الإمام أحمد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزلت تحريم الخمر قال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت هذه الآية التي في البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فدعي عمر، فقرئت عليه فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} ، فكان منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أقام

الصلاة نادى: أن لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} ، قال عمر: انتهينا انتهينا، وزاد ابن أبي حاتم: (أنها تذهب المال وتذهب العقل) . قوله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} . قال ابن عباس وغيره: العفو ما يفضل عن أهلك، وفي الحديث الصحيح: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» ، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} ، أي: كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده. {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} ، أي: في زوال الدنيا وبقاء الآخرة فتعملوا لها. قوله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) } . قال ابن عباس: لما نزلت: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ

سَعِيراً} ، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} ، رواه ابن جرير وغيره. وقال الربيع: للولي الذي يلي أمرهم فلا بأس عليه في ركوب الدابة أو شرب اللبن أو يخدمه الخادم، وقال السدي: كان العرب يشددون في اليتيم، حتى لا يأكلوا معه في قصعة واحدة، ولا يركبوا له بعيرًا، ولا يستخدموا له خادمًا، فجاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عنه فقال: {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} ، يصلح له ماله وأمره له خير، وأن يخالطه فيأكل معه ويطعمه، ويركب راحلته ويحمله، ويستخدم خادمه ويخدمه، فهو أجود. {وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} ، فقال ابن زيد: والله يعلم حين تخلط مالك بماله، أتريد أن تصلح ماله أو تفسده فتأكله بغير حق. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللهُ لأعْنَتَكُمْ} ، قال ابن عباس: لأخرجكم فضيّق عليكم ولكنه وسّع ويسّر، فقال: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، أي: عزيز في سلطانه، حكيم فيما صنع من تدبيره وترك الأعنات. قال ابن كثير: وقوله {وَلَوْ شَاء اللهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي: ولو شاء الله لضيَّق عليكم وأحرجكم، ولكنه وسَّع عليكم وخفف عنكم، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن. والله أعلم.

الدرس الخامس والعشرون

الدرس الخامس والعشرون ... {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) } . قال علي بن أبي طلحة في قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} : استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب. وقوله تعالى: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} ، قال السدي: نزلت في عبد الله بن رواحة، كانت له أمة سوداء فغضب عليها فلطمها، ثم فزع فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره خبرهما، فقال له: «ما هي» ؟ قال: تصوم وتصلي وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «يا عبد الله هذه مؤمنة» ، فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمته، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنزل الله: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} . وقوله تعالى: {وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ} . قال البغوي: هذا إجماع لا يجوز للمسلمة أن تنكح المشرك. وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} ، أي: معاشرتهم ومخالطتهم تبعث على إيثار الدنيا على الآخرة، وهو موجب للنار. {وَاللهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ

بِإِذْنِهِ} ، أي: بأمره، {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» . قوله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) } روى مسلم وغيره عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» . وقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} ، يعني: الفرج، قاله ابن عباس وغيره، وروى الإِمام أحمد وغيره عن عبد الله بن سعد الأنصاري أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: «ما فوق الإِزار» . وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ ... يَطْهُرْنَ} ، أي: لا تجامعوهن حتى يطهرن من الحيض {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: اغتسلن، {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} . قال ابن عباس: طؤهن في الفروج ولا تعدوه إلى غيره. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} ، من الذنب، {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ، أي: المتنزهين عن الأقذار والأذى، ومن ذلك إتيان الحائض، والوطء في الدبر.

قوله عز وجل: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) } . قال ابن عباس: الحرث موضع الولد {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، أي: كيف شئتم مقبلة ومدبرة في صمام واحد. وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول: إذا جامع الرجل امرأته في دبرها في قبلها كان الولد أحول. فنزلت: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أناس من الأنصار، أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ائتها على كل حال، إذا كان في الفرج» ، وفي حديث آخر: «أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة» ، وروى الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ملعون من أتى امرأته في دبرها» . وقوله تعالى: {وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ} ، قال السدي: يعني: الخير والعمل الصالح. وقال مجاهد: يعني: إذا أتى أهله فليدْعُ، وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدًا» .

وقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ} ، أي: خافوا الله فلا ترتكبوا ما نهاكم عنه. {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ} ، فيجازيكم بأعمالكم. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} ، المطيعين بجزيل ثواب الله لهم. قوله عز وجل: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) } . قال ابن عباس في قوله تعالى {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} : لا تجعلن الله عرضة ليمينك ألا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير، وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها» . وقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} ، عن عائشة مرفوعًا: «اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله» . رواه أبو داود، وعنها قالت: (هم القوم يتدارءون في الأمر فيقول هذا لا والله، وبلى والله، وكلا والله يتدارءون في الأمر، لا تعقد عليه قلوبهم) ، وقالت أيضًا: (إنما اللغو في المزاحة والهزل، وهو قول الرجل: لا والله، وبلى والله. فذاك لا كفارة فيه، إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله) . وعن الحسن بن أبي الحسن: (مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم ينتضلون، يعني: يرمون، ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من أصحابه، فقام رجل من القوم فقال: أصبت والله، وأخطأت والله، فقال الذي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: حنث

الرجل يا رسول الله، قال: «كلا، أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة» . رواه ابن جرير. قال ابن كثير: وهذا مرسل حسن. عن الحسن وعن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني عن القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة، فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك، كفّر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب عز وجل، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك» . وقوله تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ، أي: عزمتم عليه، وقصدتم به اليمين كما قال تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} ، {وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} ، أي: غفور لذلات عباده حليم عليهم. قوله عز وجل: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) } . الإيلاء هو: أن يحلف من جميع نسائه أو بعضهن لا يقربهن، فإن وقّت بدون أربعة أشهر اعتزل حتى ينقضي ما وقّت به، وإن وقّت بأكثر منها خيّر بعد مضيها بين أن يفيء أو يطلق. وقوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} ، أي: يحلفون على ترك جماعهن. وقوله: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} ، أي: ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف، ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق، فإن أبي طلق عليه الحاكم.

وقوله تعالى: {فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، استدل بذلك على أنه لا كفارة عليه إذا فاء بعد الأربعة الأشهر، والجمهور أن عليه التكفير. وقوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، قال سعيد بن المسيب: إذا مضت أربعة أشهر فإما أن يفيء، وإما أن يطلق، فإن جاوز فقد عصى الله. والله أعلم. * * *

الدرس السادس والعشرون

الدرس السادس والعشرون {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ (228) الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلا أَن يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ

بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) } . * * *

قوله عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ (228) } . القرء: يطلق في اللغة على الحيض والطهر، وقد اختلف أهل العلم في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} . فذهب جماعة إلى أنها الأطهار، وهو قول: الفقهاء السبعة، ومالك والشافعي، وذهب جماعة إلى أنها الحيض، وهو قول: الخلفاء الأربعة، وابن عباس، ومجاهد، وأبي حنيفة، والإمام أحمد، وأكثر أئمة الحديث وهو الراجح. وقوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ، أي: لا يحل للمرأة كتمان ما خلق الله في رحمها من الحيض والحمل، لتبطل حق الزوج من الرجعة والولد، أو استعجالاً لانقضاء عدتها، أو رغبة في تطويلها، بل تخبر بالحق من غير زيادة ولا نقصان. وقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً} أي: أزواجهن أحق برجعتهن في حال العدة، {إِنْ أَرَادُواْ} بالرجعة الصلاح وحسن العشرة لا الإضرار بالمرأة. وقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، أي: ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في خطبته في حجة الوداع: «فاتقوا الله في

النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف» . رواه مسلم. وقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} كما قال تعالى: ... {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» . وقوله تعالى: {وَاللهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} ، أي: عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، حكيم فيما شرع وقدر. قوله عز وجل: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلا أَن يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) } . روى ابن أبي حاتم وغيره عن عروة بن الزبير: (أن رجلاً قال لامرأته لا أطلقك أبدًا، ولا آويك أبدًا، قالت: وكيف ذاك؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له، فأنزل الله عز وجل: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} . قال ابن عباس: إذا

طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في ذلك، أي: في الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئًا. وقوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلا أَن يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} ، أي: لا يحل لكم أن تأخذوا شيئًا مما أعطيتموهن إلا في حال الشقاق، {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} . وعن ابن عباس: (أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتردين عليه حديقته» ؟ قالت: نعم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة» . وفي رواية: (قالت: لا أطيقه، يعني: بغضًا) . رواه البخاري. وعند الإمام أحمد: (فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ ما ساق ولا يزداد) وعند ابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (فردت عليه حديقته. قال: ففرق بينهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) . وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، أي: هذه أوامر الله ونواهيه، فلا تتجاوزوها. واستدل بهذه الآية على أن جمع الثلاث التطليقات بكلمة واحدة حرام. وروى النسائي عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبانًا فقال: «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم» ؟ الحديث. قوله عز وجل: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن

طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) } . يقول تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا} ، يعني: الطلقة الثالثة، {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ} ، أي: من بعد الطلقة الثالثة، {حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ، أي: غير المطلق فيجامعها، {فَإِن طَلَّقَهَا} ، أي الزوج الثاني بعد الجماع، {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا} أي: المرأة والزوج الأول، {إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} ، أي: يكون بينهما الصلاح وحسن الصحبة. وعن ابن عمر قال: (سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يطلق امرأته فيتزوجها آخر، فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، هل تحل للأول؟ قال: «حتى تذوق العسيلة» . رواه أحمد وغيره. وروى البخاري ومسلم عن عائشة: (أن رجلاً طلق امرأته ثلاثًا، فتزوجت زوجًا فطلقها قبل أن يمسها، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتحل للأول؟ فقال: «لا حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق الأول» . وروى الإمام أحمد وغيره عن ابن مسعود قال: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواشمة والمستوشمة، والواصلة والمستوصلة، والمحلِّل والمحلَّل له، وآكل الربا وموكله) . قوله عز وجل: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) } .

قال ابن عباس وغيره: كان الرجل يطلق المرأة، فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارًا، لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها فتعتد، فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة، فنهاهم الله عن ذلك وتوعدهم عليه فقال: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللهِ هُزُواً} ، روى ابن جرير عن أبي موسى: (أن رسول الله غضب على الأشعريين، فأتاه أبو موسى فقال: يا رسول الله غضبت على الأشعريين؟ فقال: «يقول أحدكم: قد طلقت، قد راجعت، ليس هذا طلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قُبُل عدتها» . وقال الحسن وغيره: هو الرجل يطلق ويقول: كنت لاعبًا، أو يعتق أو ينكح ويقول: كنت لاعبًا فأنزل الله: {وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللهِ هُزُواً} فألزم الله بذلك. وروى أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث جدّهن جدّ، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة» . وقوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ} ، أي: في إرساله الرسول إليكم {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} ، أي: السنة {يَعِظُكُم بِهِ} يأمركم وينهاكم، {وَاتَّقُواْ اللهَ} فيما تأتون وما تذرون، {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، أي: فلا يخفى عليه شيء من أموركم وسيجازيكم على أعمالكم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. قوله عز وجل: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن

يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (232) } . روى أبو داود وغيره عن الحسن: (أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها، فتركها حتى انقضت عدتها، فخطبها فأبى معقل، فنزلت: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} . وقوله تعالى: {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ} ، أي: بعقد حلال ومهر جائز، {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} ، أي: ردهن إلى أزواجهن. {أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} ، أي: ردهن إلى أزواجهن خير لكم وأطهر لقلوبكم {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ، أي: يعلم من حب كل واحد منهما لصاحبه ما لا تعلمون أنتم، فاتبعوا أمر الله واتركوا الحمية، فإنه تعالى أعلم بمصالح خلقه من أنفسهم. قوله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) } . قال البغوي: (قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} أي: المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن، {يُرْضِعْنَ} ، خبر بمعنى الأمر، وهو أمر استحباب لا أمر إيجاب، لأنه لا يجب عليهن الإرضاع إذا كان يوجد من يرضع الولد، لقوله

تعالى في سورة الطلاق: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، فإن رغبت الأم في الإرضاع فهي أولى من غيرها) . انتهى. وعن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام» . رواه الترمذي. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين» . رواه الدارقطني وغيره. قيل: إن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت الولد، إما في بدنه أو عقله. وقوله تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا} ، أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن، بما جرت به عادة أمثالهن بحسب قدرته، كما قال تعالى {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} . قال الضحاك: إذا طلق زوجته وله منها ولد فأرضعت له ولده، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف. وقوله تعالى: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} . قال مجاهد: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} لا تأبى أن ترضعه ليشق ذلك على أبيه (ولا يضار) الوالد بولده فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها. وقال ابن زيد: لا ينتزعه منها وهي تحب أن ترضعه فيضارها، ولا تطرحه عليه وهو لا يجد من يرضعه ولا يجد ما يسترضعه به.

وقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} ، أي: وارث الصبي. قال الحسن: إذا توفي الرجل وامرأته حامل فنفقتها من نصيبها، ونفقة ولدها من نصيبه من ماله، إن كان له مال، فإن لم يكن له مال فنفقته على عصبته. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن نفقة الحامل من مال الحمل. وقوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} . قال مجاهد: التشاور فيما دون الحولين، ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى، فإن لم يجتمعا فليس لها أن تفطمه دون الحولين. وقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ} . قال مجاهد: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ} خيفة الضيعة على الصبي، {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ} ، قال: حساب ما أرضع به الصبي، وهذه الآية كقوله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} . وقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، أي: واتقوا الله في جميع أحوالكم وأقوالكم، {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يخفى عليه شيء. والله أعلم. * * *

الدرس السابع والعشرون

الدرس السابع والعشرون {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلا أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ (238) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) } . * * *

قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) } . قال ابن عباس: هذه عدة المتوفي عنها زوجها إلا أن تكون حاملاً، فعدتها أن تضع ما في بطنها. وفي الصحيحين عن أم سلمة: (أن امرأة توفي عنها زوجها واشتكت عينها، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - تستفتيه في الكحل فقال: «لقد كانت إحداكن تكون في الجاهلية في شر أحلاسها، فتمكث في بيتها حولاً إذا توفي عنها زوجها، فيمر عليها الكلب فترميه بالبعرة، أفلا أربعة أشهر وعشرًا» ؟ . وقال الربيع عن أبي العالية في قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} . قال: قلت: لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال: لأنه ينفخ فيه الروح في العشر. وقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . قال مجاهد: هو النكاح الحلال الطيب. وقال ابن عباس: إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها، فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج، فذلك المعروف. وقوله تعالى: {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ، أي: فلا تعضلوهن ممن أردن نكاحه بالمعروف، فإنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم. قوله عز وجل: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلا

أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) } . قال ابن عباس وغيره التعريض: أن يقول إن أريد التزويج، وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها، يعرض لها بالقول المعروف، وقال مجاهد: يعرض للمرأة في عدتها فيقول: والله إنك لجميلة، وإن النساء لمن حاجتي، وإنك إلى خير إن شاء الله. وقوله: {أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ} ، أي: أضمرتم نكاحهن بعد العدة. {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} ، أي: في أنفسكم وبألسنتكم {وَلَكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} . قال ابن عباس: يقول: لا تقل لها: إني عاشق وعاهديني ألا تتزوجي غيري. وقال مجاهد: لا يأخذ ميثاقها في عدتها أن لا تتزوج غيره. وقوله تعالى: {إِلا أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} ، أي: التعريض بالخطبة. وقوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} . قال مجاهد: حتى تنقضي العدة. وقوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} ، قال مجاهد: حتى تنقضي العدة. وقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} ، أي: فخافوا الله ولا تضمروا إلا الخير {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} ، لا يعجل بالعقوبة. قوله عز وجل: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) } . قال ابن عباس: المس: الجماع، ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء، والفريضة الصداق.

وقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} . قال ابن عباس: فهذا الرجل يتزوج المرأة ولم يسم لها صداقًا، ثم يطلقها من قبل أن ينكحها، فأمر الله سبحانه أن يمتعها على قدر عسره ويسره، فإن كان موسرًا متّعها بخادم أو شبه ذلك، وإن كان معسرًا متعها بثلاثة أثواب أو نحو ذلك. قوله عز وجل: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) } . قال ابن عباس في قوله: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ، فهذا الرجل يتزوج المرأة وقد سمى لها صداقًا ثم يطلقها من قبل أن يمسها، فلها نصف صداقها ليس لها أكثر من ذلك. وقال عكرمة: إذا طلقها قبل أن يمسها وقد فرض لها، فنصف الفريضة لها عليه، إلا أن تعفو عنه فتتركه. وقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} قال ابن عباس: هو أبو الجارية البكر جعل الله سبحانه العفو إليه، ليس لها معه أمر، إذا طلقت ما كانت في حجره. وفي رواية: هو الزوج. وكذا قال مجاهد. قوله عز وجل: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، قال ابن عباس: أقربهما للتقوى الذي يعفوا: وقال الشعبي: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ ... لِلتَّقْوَى} ، وأن يعفوا هو أقرب للتقوى. وقوله تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . قال مجاهد: ولا تنسوا الفضل بينكم في هذا وفي غيره. وعن سعيد بن جبير بن مطعم، عن أبيه أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه ابنة له فتزوجها،

فلما خرج طلقها، وبعث إليها بالصداق، قال: قيل: له: فلم تزوجتها؟ قال: عرضها عليّ فكرهت ردها، قال: فلم تبعث بالصداق؟ قال: فأين الفضل؟ وعن مجاهد: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} قال: إتمام الزوج الصداق، أو ترك المرأة الشطر. قوله عز وجل: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ (238) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (239) } . قال بعض العلماء: ذكر المحافظة على الصلوات هنا لئلا يشتغلوا بالنساء فيغفلوا عنها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . وقال مسروق: المحافظة على الصلوات المحافظة على وقتها وعدم السهو عنها. وقوله تعالى: {والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} . قال علي بن أبي طالب وغيره: هي صلاة العصر. وفي الصحيحين: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الخندق: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر» . وقوله تعالى: {وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} . قال الشعبي وغيره: مطيعين. وعن زيد بن أرقم قال: (إنا كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى نزل: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} ، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) . متفق عليه.

وقال مجاهد: {وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} ، فمن القنوت طول الركوع، وغض البصر، وخفض الجناح، والخشوع من رهبة الله. كان العلماء إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يلتفت أو أن يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيًا. وقوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} ، قال إبراهيم: عند المطاردة يصلي حيث كان وجهه راكبًا أو راجلاً، ويجعل السجود أخفض من الركوع، ويصلي ركعتين يومئ إيماء. وقال قتادة أحل الله لك إذا كنت خائفًا عند القتال، أن تصلي وأنت راكب، وأن تسعى تومئ برأسك من حيث كان وجهك، إن قدرت على ركعتين وإلا فواحدة. وقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} ، كقوله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} ، وقال ابن زيد في قوله: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ} ، قال: فإذا أمنتم فصلوا الصلاة كما افترض الله عليكم، إذا جاء الخوف كانت لهم رخصة. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) } . قال قتادة: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولاً في مال زوجها ما لم تخرج، ثم نسخ ذلك بعد في سورة النساء فجعل لها فريضة معلومة الثمن إن كان له ولد، والربع إن لم يكن له ولد، وعدتها أربعة أشهر وعشر. فقال تعالى ذكره: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها في أمر الحول. وقوله تعالى: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ، يا أولياء الميت ... {فِي مَا فَعَلْنَ

فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ} ، يعني: التزين للنكاح، خيّرها الله تعالى بين أن تقيم حولاً ولها النفقة والسكنى، وبين أن تخرج، فلا نفقة ولا سكنى، إلى أن نسخه بأربعة أشهر وعشر. وقوله تعالى: {وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، أي: عزيز في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه وتعدى حدوده من الرجال والنساء، حكيم في أقضيته وقدره. قوله عز وجل: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) } . قال عطاء في قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} قال: المرأة الثيب يمتعها زوجها إذا جامعها بالمعروف. وقال سعيد بن جبير: لكل مطلقة متاع بالمعروف حقًا على المتقين. وقال البغوي: إنما أعاد ذكر المتعة ها هنا لزيادة معنى، وذلك أن في غيرها بيان حكم الممسوسة، وفي هذه الآية بيان حكم جميع المطلقات في المتعة. وقوله تعالى: {كَذَلِكَ} ، أي: مثل أحكام الطلاق والعدة وغير ذلك {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} ، في إحلاله وتحريمه، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} تفهمون وتدّبرون. والله أعلم. * * *

الدرس الثامن والعشرون

الدرس الثامن والعشرون {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلا قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ

مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) } . * * *

قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (243) } . قال البغوي: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} ، أي: ألم تعلم بإعلامي إياك، وهو من رؤية القلب، وقال أهل المعالي: هو تعجيب. يقول: هل رأيتم مثلهم؟ كما تقول: ألم تر إلى ما يصنع فلان؟ وكل ما في القرآن ألم تر، ولم يعاينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا وجهه. قال أكثر أهل التفسير: كانت قرية يقال لها داوردان من قِبَل واسط بها وقع الطاعون، فخرجت طائفة منها، وبقيت طائفة، فهلك أكثر من بقي في القرية، وسلم الذين خرجوا، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا لبقينا، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لا وباء بها. فوقع الطاعون من قابل، فهرب عامة أهلها وخرجوا حتى نزلوا واديًا أفْيَح، فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه: أن موتوا. فماتوا جميعًا. وساق بسنده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، فلما جاء

سرغ بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمن بن عوف: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه فرجع عمر من سرغ» . والحديث في الصحيحين. قال البغوي: وأولى الأقاويل قول من قال: كانوا زيادة على عشرة آلاف؛ لأن الله تعالى قال: {وَهُمْ أُلُوفٌ} ، قالوا: فمر عليهم نبي يقال له: حزقيل فجعل يتفكر فيهم متعجبًا، فأوحى الله تعالى إليه: تريد أن أريك آية؟ قال: نعم فأحياهم الله، {إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} . قوله عز وجل: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) } . يقول تعالى: وقاتلوا في سبيل الله عدوي وعدوكم من المشركين، ولا تقعدوا عن الجهاد خوف القتل، فإنه لا مفر عن الموت ولا يغني حذر عن قدر، كما قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} . قوله عز وجل: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) } . قال البغوي: القرض اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه، فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له على رجاء ما أعد لهم من الثواب قرضًا؛ لأنهم يعملون

لطلب ثوابه. قال الكسائي: القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيء. وروى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: (لما نزلت: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} . قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح» . قال: أرني يدك يا رسول الله. قال: فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي. قال: وحائط له فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح فنادها: يا أم الدحداح. قالت: لبيك. قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل) . وقوله تعالى: {وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، روى ابن جرير وغيره عن أنس بن مالك قال: غلا السعر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله غلا السعر، فسعِّر لنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله الباسط القابض الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطلبني بمظلمة في نفس ومال» . قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلا قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) } . قال وهب بن منبه وغيره: كان بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق الاستقامة مدة من الزمان، ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويقيمهم

على منهج التوراة إلى أن فعلوا ما فعلوا، فسلَّط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا منهم خلقًا عظيمًا، وأخذوا منهم بلادًا كثيرة، واستلبوا منهم التابوت الذي كان موروثًا لخلفهم عن سلفهم. إلى أن قال: فأوحى الله إلى شمويل وأمره بالدعوة إليه وتوحيده، فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكًا يقاتلون معه أعداءهم، وكان الملك قد باد فيهم، فقال لهم النبي: فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكًا أن لا تقاتلوا وتفوا بما التزمتم من القتال معه؟ قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبناءنا، أي: وقد أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد. قال الله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلا قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} ، أي: ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم والله عليم بهم. قوله عز وجل: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) } . قال قتادة: بعث الله طالوت ملكًا، وكان من سبط بنيامين سبط لم يكن فيهم مملكة ولا نبوة، وكان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة، وسبط مملكة، وكان سبط النبوة سبط لاوى إليه موسى، وسبط المملكة يهوذا إليه داود وسليمان، فلما بعث من غير النبوة والمملكة أنكروا ذلك، وعجبوا منه، وقالوا: أنى يكون له الملك علينا! ؟ وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة؟ فقال: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . قوله عز وجل: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ

التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248) } . قال قتادة: {فِيهِ سَكِينَةٌ} ، أي: وقار. وقال عطاء: ما تعرفون من آيات الله فتسكنون إليه. وقوله تعالى: {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} . قال ابن عباس: عصا موسى ورضاض الألواح. قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض، حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون. قوله عز وجل: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) } . روى البخاري عن البراء بن عازب قال: (كنا نتحدث أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا معه يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جازه معه إلا مؤمن) . قال ابن عباس: فلما فصل طالوت بالجنود غازيًا إلى جالوت، قال طالوت لبني إسرائيل: إن الله مبتليكم بنهر، قال: هو نهر بين الأردن وفلسطين، نهر عذب الماء طيبه. وقال قتادة: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} . قال: كان الكفار يشربون فلا يروون، وكان المسلمون

يغترفون غرفة فتجزيهم ذلك. وقال ابن عباس: لما جاوزه هو والذين آمنوا معه، قال الذين شربوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده. وقال السدي: عبر مع طالوت النهر من بني إسرائيل أربعة آلاف، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه فنظروا إلى جالوت رجعوا أيضًا، وقالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده. فرجع عنه أيضًا ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون. وخلص في ثلاثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر. وقال بعضهم في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللهِ} ، هم العلماء من القليل: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . قوله عز وجل: {وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) } . يقول تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُواْ} ، يعني: طالوت ومن معه من المؤمنين للعدو {قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم} ، كسروهم، {بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ ... جَالُوتَ} وكان طالوت وعده أن يزوجه ابنته إن قتل جالوت، ويشركه في أمره، فيما قال وهب. فآل الملك إلى داود، {وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ} ، الذي كان بيد طالوت، {وَالْحِكْمَةَ} ، أي: النبوة بعد شمويل، {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} ، من صنعة الدروع وغير ذلك، ... {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} ، كما قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ

اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} . وعن مجاهد: ولولا دفاع الله بالبر عن الفاجر، وببقية أخلاق الناس بعضهم عن بعض؛ لهلك أهلها. وقال علي رضي الله عنه: لولا بقية من المسلمين فيكم لهلكتم. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة بيت من جيرانه البلاء» ، ثم قرأ ابن عمر: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} . وأكثر كلام المفسرين على أن الآية في الجهاد، ولديّ أنها عامة فيه وفي غيره، وأسند للشيخ عبد الرحمن أنها عامة، وهذا نص كلامه، قال: (ومن ذلك ما ذكرت في آية البقرة: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} ، وأن كلام المفسرين يدور على الجهاد فقط، وظنكم أنها عامة، فهو كما ظننتم؛ لأن العبرة بعموم اللفظ، وعموم المعنى لا بخصوص السبب، والجهاد جزء من أمور كثيرة يحصل فيها دفع الناس بعضهم ببعض. وإذا نزلتها على الواقع السابق واللاحق، ورأيت الأسباب المتعددة التي حصل بها عن العباد مدافعات كثيرة ووقيات من شرور بصدد أن تقع لولا تلك الأسباب، لا تضح لك أنها عامة، وأنها من أكبر نعم الله على عباده وتمام وقياته. وفي الحديث الصحيح: «إن الله ليؤيد هذا الرجل بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم» . عام في الجهاد وغيره،

ونرجو الله تعالى أن يلطف بالمسلمين وأن يقيهم شر الشرور التي يترقبها الخلق كل ساعة، ويقدر من ألطافه ما يدفع به عن عباده المؤمنين، إنه جواد كريم) . انتهى. فالظاهر أن المراد بقوله تعالى في هذه الآية: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} ، أنه عام في جميع الناس مسلمهم وكافرهم، وأن دفع الله شر بعضهم ببعض من نعمه السابقة على خلقه. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} ، أي: بدفع بعضهم عن بعض. وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، يقول: تلك آيات الله التي اقتص فيها قصص من مضى، نتلوها عليك بالحق اليقين، وإنك يا محمد لمن المرسلين. وبالله التوفيق. * * *

الدرس التاسع والعشرون

الدرس التاسع والعشرون {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) } . * * *

قوله عز وجل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) } . قال مجاهد: في قول الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} قال: يقول: منهم من كلم الله ورفع بعضهم على بعض درجات. يقول: كلم الله موسى، وأرسل محمدًا إلى الناس كافّة. قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ... الْقُدُسِ} ، أي: وآتينا عيسى بن مريم الحجج، والأدلة على نبوته من إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى، وما أشبه ذلك مع الإنجيل. وقوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} ، يعني: وقويناه بروح الله، وهو: جبريل. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} ، قال قتادة: من بعد موسى وعيسى. وقوله تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} ، أي: يوفق من يشاء بفضله ورحمته، ويخذل من يشاء بعدله وحكمته، وله الحجة البالغة والحكمة التامة، وهذه الآية كقوله تعالى:

{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) } . قال ابن جريج: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم} قال: من الزكاة والتطوع، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} قال قتادة: قد علم الله أن ناسًا يتحابون في الدنيا، ويشفع بعضهم لبعض، فأما يوم القيامة فلا خلة إلا خلة المتقين. وقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، أي: لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها. قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، قال عطاء: بن دينار: الحمد لله الذي قال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ولم يقل والظالمون هم الكافرون. قوله عز وجل: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) } . عن أبي بن كعب: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله: «أي آية في كتاب الله أعظم» ؟ قال: الله ورسوله أعلم. فرددها مرارًا ثم قال: أبيّ: آية الكرسي. قال: «ليهنك العلم أبا

المنذر» . رواه مسلم وغيره. وفي حديث أبي هريرة عند البخاري في قصة الشيطان الذي سرق من الصدقة قال: (فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود، فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: وما هي؟ قال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليّت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله? - صلى الله عليه وسلم - ??? «ما فعل أسيرك البارحة» ؟ قلت: يا رسول الله إنه زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: «ما هي» ؟ قال: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما إنه صدقك وهو كذوب» . وروى أبو داود وغيره عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في هاتين الآيتين: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} و {الم * اللهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} : «إن فيها اسم الله الأعظم» . قال ابن كثير: وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة. وقوله تعالى: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . قال ابن جرير يقول: الله الذي له عبادة الخلق، الحي القيوم، لا إله سواه: لا معبود سواه، يعني: ولا تعبدوا شيئًا سواه، {الْحَيُّ الْقَيُّومُ } الذي

لا تأخذ سنة ولا نوم. قال قتادة: الحيّ حي لا يموت. وقال مجاهد: القيوم القائم على كل شيء. وقال الربيع: القوم قيم كل شيء يكلؤه ويرزقه ويحفظه. وقال الضحاك: الحي القيوم: القائم الدائم. وقوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} ، قال ابن عباس: السِّنَة: النعاس. والنوم هو: النوم. وقوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} ، كقوله تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى} . وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاء} ، قال مجاهد: يعلم من بين أيديهم ما مضى من الدنيا، وما خلفهم من الآخرة. وقال الكلبي: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ، يعني: الآخرة، لأنهم يقدمون عليها. {وَمَا خَلْفَهُمْ} ، من الدنيا، لأنهم يخلفونها. وقال السدي: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} ، يقول: لا يعلمون بشيء من علمه إلا بما شاء هو أن يعلمهم. وقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ، اختلفوا في الكرسي، فقال الحسن: هو العرش نفسه. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: الكرسي موضوع أمام العرش. وفي بعض الأخبار: أن السماوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة. والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة. ويُروى عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس. وقوله تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} قال ابن عباس: لا يثقل عليه. وقال قتادة: لا يجهده حفظهما.

وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . قال البغوي: {وَهُوَ الْعَلِيُّ} : الرفيع فوق خلقه والمتعالي عن الأشباه والأنداد. وقيل: العلي بالملك والسلطنة، العظيم الكبير: الذي لا شيء أعظم منه. وقال ابن كثير: فقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} كقوله: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} ، وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح: إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه. قوله عز وجل: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) } . قال ابن عباس: كانت المرأة تكون مقلاة، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهودّه. فلما أجليت بني النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا. فأنزل الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} . وقال قتادة في قوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال: هو هذا الحي من العرب، أكرهوا على الدين لم يقبل منهم إلا القتل، أو الإسلام. وأهل الكتاب قبلت منهم الجزية، ولم يقتلوا. وقال الضحاك: (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان، فلم يقبل منهم إلا: لا إله إلا الله، أو السيف. ثم أمر فيمن سواهم بأن يقبل منهم الجزية. فقال: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}

وقوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، قال مجاهد وغيره: الطاغوت: الشيطان. وقال أبو العالية: الطاغوت: الساحر. وقال أبو الزبير: سئل جابر بن عبد الله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون ... إليها، فقال: كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد، وهي كهان ينزل عليها الشيطان. قال ابن جرير: والصواب أنه كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما لطاعة ممن عبده إنسانًا كان ذلك المعبود، أو شيطانًا، أو وثنًا، أو صنمًا، أو كائنًا ما كان من شيء. وقال سعيد بن جبير في قوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} قال: لا إله إلا الله. وقال السدي: {لاَ انفِصَامَ لَهَا} لا انقطاع لها. وقال مجاهد: لا غير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. قوله عز وجل: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) } . قال قتادة: قوله تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} ، يقول: من الضلالة إلى الهدى، {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} ، الشيطان، {يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } ، يقول: من الهدى إلى الضلالة. قال الضحاك: والظلمات: الكفر. والنور: الإيمان. والله أعلم. * * *

الدرس الثلاثون

الدرس الثلاثون {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) } . * * *

قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) } . قال مجاهد في قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ} . قال: هو نمرود بن كنعان. قال قتادة: وهو أول ملك تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل. وقال قتادة في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} ، وذكر لنا أنه دعا برجلين فقتل أحدهما، واستحيا الآخر. فقال: أنا أحيي هذا، أنا أستحيي من شئت، وأقتل من شئت. قال إبراهيم عند ذلك: {فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . قال البغوي: ( {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} ، أي: تحير ودهش وانقطعت حجته وقال ابن إسحاق: {وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، أي: لا يهديهم في الحجة عند الخصومة لما هم عليه من الضلال) . انتهى. وهو كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} .

وقال السدي: لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه وقال له: من ربك؟ قال: ربي الذي يحي ويميت. قال نمرود: أنا أحي وأميت. أنا أدخل أربعة نفر، فأدخلهم بيتًا فلا يطعمون ولا يسقون حتى هلكوا من الجوع، أطعمت اثنين وسقيتمهما فعاشا، وتركت اثنين فماتا. فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك. قال له إبراهيم: فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر. وقال إن هذا إنسان مجنون فأخرجوه ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها، وإن النار لم تأكله، وخشي أن يفتضح في قومه، أعني نمرود، وهو قول الله تعالى ذكره: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} فكان يزعم أنه رب، وأمر بإبراهيم فأخرج. وقال ابن زيد: فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكث أربعمائة سنة تضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه، وضرب بهاما رأسه وكان جبارًا أربعمائة عام، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه وأماته الله. قوله عز وجل: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) } .

قال البغوي: قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} ، وهذه الآية مسوقة على الآية الأولى. تقديره: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه؟ وهل رأيت كالذي مر على قرية؟ وقيل: تقديره: هل رأيت كالذي حاجّ إبراهيم في ربه؟ وهل رأيت كالذي مر على قرية؟ وقال ابن كثير: تقدم قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ} وهو في قوة، قوله: هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه. ولهذا عطف عليه بقوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} . قال قتادة: ذكر لنا أنه عزير، وقال عكرمة: القرية: بيت المقدس مر بها عزير بعد إذ خربّها بختنصر. وقال ابن جريج: بلغنا أن عزيرًا خرج فوقف على بيت المقدس، وقد خربه بخنتصر، فوقف فقال: أبعد ما كان لك من القدس والمقالة والمال ما كان فحزن. وقال السدي: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ، يقول: ساقطة على سقفها، وذلك أن عزيرًا مر جائيًا من الشام على حمار له، معه عصير وعنب وتين، فلما مر بالقرية فرآها وقف عليها، وقلّب يده وقال: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ ليس تكذيبًا منه وشكًا، فأماته الله وأمات حماره، فهلكا ومر عليهما مائة سنة، ثم إن الله أحيا عزيرًا فقال له: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم. قيل له: بل لبثت مائة عام فانظر: إلى طعامك من التين والعنب، وشرابك من العصير لم يتسنه الآية. وقال قتادة: ذكر لنا أنه مات ضحى، ثم بعثه قبل غيبوبة الشمس، فقال: كم لبثت؟

قال: لبثت يومًا ثم التفت، فرأى بقية من الشمس، فقال: أو بعض يوم. فقال: بل لبثت مائة عام. وقال الضحاك في قوله: {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} يقول: لم يتغير. وقد أتى عليه مائة عام. وقوله تعالى: {وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا} . قال البغوي: أي: نرفعها من الأرض، ونردها إلى مكانها ونركب بعضها على بعض. وقال السدي وغيره: تفرقت عظام حماره حوله يمينًا وشمالاً فنظر إليها وهي تلوح من بياضها، فبعث الله ريحًا فجمعتهما من كل موضع من تلك المحلة، ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حمارًا قائمًا من عظام لا لحم عليها، ثم كساها الله لحمًا وعصبًا وعروقًا وجلدًا، وبعث الله ملكًا فنفخ في منخاري الحمار، فنهق بإذن الله عز وجل. وذلك كله بمرأى من العزير، فعند ذلك لما تبين له هذا كله قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير. وقال الضحاك وغيره: إنه عاد إلى قريته شابًا وأولاده، وأولاد أولاده شيوخ وعجائز، وهو أسود الرأس واللحية. قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) } . قال محمد بن إسحاق: لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصه الله في سورة الأنبياء، قال نمرود فيهما يذكرون لإبراهيم: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته، وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غير ما هو؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. قال نمرود: أنا أحيي وأميت. فقال له

إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ ثم ذكر ما قص الله من محاجته إياه قال: فقال إبراهيم عند ذلك: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} من غير شك في الله تعالى، ولا في قدرته ولكنه أحب أن يعلم ذلك، وتاق إليه قلبه، فقال: ليطمئن قلبي، أي: ما تاق إليه إذ هو علمه. وقال سعيد ابن جبير: ليطمئن قلبي، ليزداد يقيني. وقوله تعالى: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . قال ابن عباس: فصرهنّ: قطعهنّ. وقال مجاهد: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً} : ثم بددهن أجزاء على كل جبل، {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} كذلك يحي الله الموتى. وقال ابن جريج: فجعلهن سبعة أجزاء، وأمسك رؤوسهن عنده، ثم دعاهن بإذن الله فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى، وكل ريش تطير إلى الريشة الأخرى، وكل بضعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رؤوس الجبال حتى لقيت كل جثة بعضها بعضًا في السماء، ثم أقبلن يسعين حتى وصلت رأسها. وعن ابن المنكدر قال: التقى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص فقال ابن عباس لابن عمرو: أي آية في القرآن أرجى عندك؟ فقال عبد الله بن عمرو: قول الله عز وجل: ... {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} الآية. فقال ابن عباس: لكن أنا أقول: قول الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى} فرضي من إبراهيم قوله: بلى. قال: فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان. رواه ابن أبي حاتم وغيره. وقال البخاري: (باب وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى.

فصرهن: قطعهن. وذكر حديث أبي هريرة قال: قال ... رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ ... قَلْبِي} » . انتهى. قال إسماعيل بن يحيى المزني: لم يشك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا إبراهيم في أن الله قادر على أن يحيي الموتى، وإنما شكّا في أنه هل يجيبهما إلى ما سألا؟ قال في فتح الباري: (وقال عياض: لم يشك إبراهيم بأن الله يحيي الموتى ولكن أراد طمأنينة القلب، وترك المنازعة لمشاهدة الأحياء، فحصل له العلم الأول بوقوعه، وأراد العلم الثاني بكيفيته ومشاهدته، ويحتمل أنه سأل زيادة اليقين، وإن لم يكن في الأول شك، لأن العلوم قد تتفاوت في قوتها فأراد الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين. والله أعلم) . * * *

الدرس الحادي والثلاثون

الدرس الحادي والثلاثون {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) } . * * *

قوله عز وجل: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) } . قال سعيد بن جبير في قوله تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} ، يعني: في طاعة الله. وقال ابن عباس: الجهاد والحج يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف. وقوله تعالى: {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} ، أي: بحسب إخلاصه في عمله، {وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . قال ابن زيد: {وَاسِعٌ} أن يزيد من سعته، {عَلِيمٌ} عالم بمن يزيده. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل عمل ابن آدم يضاعف له، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته، وطعامه، وشرابه، من أجلي» . قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) } . قال قتادة: علم الله أن ناسًا يمنون بعطيتهم، فكره ذلك وقدم فيه فقال:

{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} . وقال الضحاك: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} يقول: أن يمسك ماله خير من أن ينفق ماله ثم يتبعه منًا وأذى. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف والكاذب» . وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان بما أعطى» . رواه أحمد وغيره. وقوله تعالى: {وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} . قال ابن عباس: الغني الذي كمل في غناه، والحليم الذي قد كمل في حلمه. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) } . قال عمرو بن حريث: إن الرجل يغزو [و] لا يسرق ولا يزني ولا يغل، لا يرجع بالكفاف، فقيل له: لم ذاك؟ قال: فإن الرجل ليخرج، فإذا أصابه من بلاء [الله] الذي حكم عليه، سبُّ ولعن إمامه ولعن ساعة غزا، وقال: لا أعود لغزوة معه أبدًا. فهذا عليه، وليس له مثل النفقة في سبيل الله يتبعها منّ وأذى، فقد ضرب

الله مثلها في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} حتى ختم الآية. وقال قتادة: فهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة. يقول: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ} يومئذٍ كما ترك هذا المطر الصفا الحجر، ليس عليه شيء أنقى ما كان عليه. وقال السدي: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} إلى قوله: {عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ} ، أما الصفوان الذي عليه تراب، فأصابه المطر فذهب ترابه فتركه صلدًا، فكذا هذا الذي ينفق ماله رياء الناس، ذهب الرياء بنفقته، كما ذهب هذا المطر بتراب هذا الصفا فتركه نقيًا، فكذلك تركه الرياء، لا يقدر على شيء مما قدم، فقال للمؤمنين: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} ، فتبطل كما بطلت صدقة الرياء. قوله عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) } . قال الشعبي في قوله تعالى: {وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ} : تصديقًا وتيقينًا. وقال مجاهد: يثبتون أين يضعون أموالهم. وقوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} . قال البغوي: (وهي المكان المرتفع المستوى الذي تجري فيه الأنهار، فلا يعلوه الماء، ولا يعلو عن الماء) . انتهى. وقال ابن عباس: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} ، المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار.

وقوله تعالى: {أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} . قال السدي: أما الطل فالندى، يقول: كما أضعفت ثمرة تلك الجنة، فكذلك يضاعف ثمرة هذا المنفق. وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن، يقول: ليس كخيره خلف، كما ليس الخير هذه الجنة، خلف على أي حال، إما وابل، وإما طل. وقوله تعالى: {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، أي: لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء. قوله عز وجل: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) } . قال السدي: هذا مثل آخر لنفقة الرياء، أنه ينفق ماله يرائي الناس به، فيذهب ماله منه وهو يرائي، فلا يأجره الله فيه، فإذا كان يوم القيامة واحتاج إلى نفقته، وجدها قد أحرقها الرياء فذهبت، كما أنفق هذا الرجل على جنته، حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته، جاءت ريح فيها سموم فأحرقت جنته، فلم يجد منها شيئًا، فكذلك المنفق رياء. قال مجاهد في قول الله عز وجل: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} كمثل المفرط في طاعة الله حتى يموت. وقال عمر بن الخطاب: هذا مثل ضربه الله للإنسان يعمل عملاً صالحًا، حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه، عمِل عمَل السوء. وقال قتادة: قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} الآية، يقول: أصابها ريح فيها سموم شديد. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ

تَتَفَكَّرُونَ} فهذا مثل، فاعقلوه عن الله عز وجل أمثاله، فإنه قال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} . هذا رجل كبرت سنه، ودق عظمه، وكثر عياله، ثم احترقت جنته على بقية ذلك كأحوج ما يكون إليه، يقول: أيحب أحدكم أن يضل عنه عمله يوم القيامة، كأحوج ما يكون إليه؟ وقال البخاري باب قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} ، وذكر حديث عمر: أنه قال يومًا لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: فيم ترون هذه الآية نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} ؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلاً لعمل. قال عمر: أيّ عمل؟ قال ابن عباس: بعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله. انتهى والله المستعان. * * *

الدرس الثاني والثلاثون

الدرس الثاني والثلاثون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (270) إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلا ابْتِغَاء وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (274) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) } . قال ابن عباس: {أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} يقول: تصدقوا. وقال مجاهد في قوله: {أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} قال: من التجارة. وقال ابن عباس: يقول: من أطيب أموالكم وأنفسه. وعن عبيدة قال: سألت عليًا عن قول الله عز وجل: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} قال: يعني: من الحب والثمر، وكل شيء عليه زكاة. وعن البراء بن عازب في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} إلى قوله: {أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر يظن أن ذلك جائز، فأنزل الله عز وجل فيمن فعل ذلك: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} . رواه ابن جرير. قال قتادة: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ} ، لا تعمدوا. وعن البراء: {وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} يقول: لو كان لرجل على رجل فأعطاه ذلك لم يأخذه، إلا أنه يرى أنه قد نقصه من حقه. وعن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ

الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ} . فقال عبيدة: إنما هذا في الواجب، ولا بأس أن يتطوع الرجل بالتمرة، والدرهم الزائف خير من التمرة. وقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، أي: غني عن صدقاتكم، حميد: بقبولها منكم، وإثباتكم على أعمالكم، وهو المحدود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره. قوله عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) } . عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن للشيطان لمة من ابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان» ثم قرأ: « {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء} » . رواه ابن جرير وغيره. قوله عز وجل: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (269) } . قال قتادة: الحكمة: القرآن، والفقه في القرآن. وقوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} ، أي: العقول. قال الحسن: من أعطى القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه، إلا أنه لم يوح إليه. وقال ابن كثير: جاء في بعض الأحاديث: «من حفظ القرآن فقد أدرجت

النبوة بين كتفيه، غير أنه لا يوحى إليه» . قوله عز وجل: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (270) } . قال مجاهد في قوله عز وجل: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ} ويحصيه. قال ابن جرير: ثم أوعد جل ثناؤه من كانت نفقته رياء ونذوره طاعة للشيطان فقال: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} . قوله عز وجل: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) } . قال البغوي: (قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} ، أي: نعمت الخصلة هي، وما في محل الرفع وهي في محل النصب، كما تقول: نعم الرجل رجلاً، فإذا عرفت رفعت، فقلت: نعم الرجل ... زيد، وأصله: نعم ما، فوصلت) . انتهى. قال قتادة: كل مقبول إذا كانت النية صادقة، وصدقة السر أفضل، وذكر لنا: (أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) . وقال ابن عباس: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} فجعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيها بسبعين ضعفًا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها، يقال بخمسة وعشرين ضعفًا، وكذلك جمع الفرائض والنوافل والأشياء كلها.

قوله عز وجل: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلا ابْتِغَاء وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) } . عن ابن عباس: (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إلى آخرها، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين) رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن زيد في قوله: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} قال: هو مردود عليك فمالك ولهذا تؤذيه وتمن عليه، إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه الله والله يجزيك. وقال السدي: قوله: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ} أمَّا: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} ، فيعني: المشركين، وأما النفقة فبين أهلها، فقال: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ} ، قال قتادة: أحصروا أنفسهم في سبيل الله للغزو. وقال ابن زيد: كانت الأرض كلها كفرًا لا يستطيع أحد أن يخرج يبتغي من فضل الله. وقال مجاهد في قوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} ، قال: التخشع. وقال الربيع: تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة. وقال السدي في قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} ، لا يلحفون في المسألة. وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي

ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس» . وللبخاري: «إنما المسكين الذي يتعفف» . وعن أبي سعيد الخدري قال: سرحتني أمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله، فأتيته فقعدت قال: فاستقبلني فقال: «من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكف كفاه الله، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف» . قال فقلت: ناقتي الياقوتة خير من أوقية، فرجعت فلم أسأله. رواه أحمد وغيره، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر» . رواه مسلم. قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (274) } . قال قتادة: هؤلاء أهل الجنة، ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «المكثرون هم الأقلون» . قالوا: يا نبي الله إلا من؟ - حتى خشوا أن تكون قد مضت فليس لها رد - حتى قال: «إلا من قال بالمال هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله، وهكذا بين يديه، وهكذا خلفه، وقليل ماهم، هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله التي افترض، وارتضى في غير سرف ولا إملاق، ولا تبذير ولا فساد» . وبالله التوفيق. * * *

الدرس الثالث والثلاثون

الدرس الثالث والثلاثون {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281) } . * * *

قوله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) } . قال مجاهد في الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني، فيؤخر عنه. وقال في قول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} يوم القيامة في آكل الربا في الدنيا. وقال ابن عباس: ذلك حين يبعث من قبره. وقال سعيد بن جبير: يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونًا يخنق. وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} . قال البغوي: (أي: ذلك الذي نزل بهم لقولهم هذا واستحلالهم إياه، وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه فطالبه، فيقول الغريم لصاحب الحق: زدني في الأجل حتى أزيدك في المال، فيفعلان ذلك، ويقولون: سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أو عند المحل لأجل التأخير، فكذبهم الله تعالى وقال: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ) . انتهى. وقوله تعالى: {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى

اللهِ} قال السدي: أما الموعظة: القرآن، وأما ما سلف: فله ما أكل من الربا. وقوله تعالى {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فيه تهديد أكيد ووعيد شديد، كقوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً ... عَظِيماً} . وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه» . وقال: «هم سواء» . متفق عليه واللفظ لمسلم. وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد» . رواه مسلم. قوله عز وجل: {يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) } . عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الربا وإن أكثر، فإن عاقبته تصير إلى قل» . رواه أحمد وغيره. وقوله تعالى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} ، أي: يبارك فيها في الدنيا، ويضاعف أجرها في الآخرة. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها، كما يرب أحدكم فلوّه، حتى تكون مثل الجبل» . وقوله تعالى: {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} . قال ابن كثير: أي: لا يحب كفور القلب، أثيم القول والفعل. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (277) } . هذا مدح من الله تعالى للمؤمنين المطيعين لأمره، المحسنين إلى خلقه، وإخبار عما أعد لهم من الكرامة يوم القيامة. قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) } . قال ابن كثير: وقد ذكر زيد بن أسلم وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي: (أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم، كان بينهم ربا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه، طلبت ثقيف أن تأخذه منهم فتشاوروا، وقالت بنو المغيرة: لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فنزلت هذه الآية، فكتب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} فقالوا: نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا، فتركوا كلهم) . انتهى. قال ابن عباس: فمن كان مقيمًا على الربا لا ينزع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه، وقال أيضًا يقال: يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. وقوله تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} . قال الضحاك: وضع الله الربا، وجعل لهم رؤوس أموالهم. وقال قتادة: ذكر لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته: «ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله، أول ربا ابتدء به ربا العباس بن عبد المطلب» . وقال ابن زيد في قوله: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} ، لا تنقصون من أموالكم، ولا تأخذون باطلاً لا يحل لكم. قوله عز وجل: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) } . قال الضحاك: من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم، قال: وكذلك كل دين على مسلم، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نفّس عن غريمه أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة» . وفي الحديث الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة، قال: ماذا عملت لي في الدنيا؟ فقال: ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها؟ قالها ثلاث مرات. قال العبد عند آخرها: يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال، وكنت رجلاً أبايع

الناس، وكان من خلِقي الجواز، فكنت أيسر على الموسر وأُنظر المعسر. قال: فيقول الله عز وجل: أنا أحق من ييسّر، ادخل الجنة» . أخرجه أبو يعلى الموصلي ونحوه في البخاري ومسلم. قوله عز وجل: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281) } . قال ابن عباس: (هذه آخر آية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له جبريل عليه السلام: ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة، وعاش بعدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى وعشرين يومًا) . والله أعلم. * * *

الدرس الرابع والثلاثون

الدرس الرابع والثلاثون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُواْ إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} . قال ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} أنزلت في السلم إلى أجل معلوم. وقال الضحاك: من باع إلى أجل مسمى أمر أن يكتب صغيرًا كان أو كبيرًا إلى أجل مسمى. قال الربيع فكان هذا واجبًا، ثم قامت الرخصة والسعة، قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} . وقال قتادة في قوله: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يدعن منه حقًا، ولا يزيدن فيه باطلاً. وعن مجاهد في قول الله عز وجل: {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ} . قال: واجب على الكاتب أن يكتب. وقال السدي: وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ إن كان فارغًا. وقال ابن زيد في قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} . قال: لا ينقص من حق هذا الرجل شيئًا إذا أملى. وقوله تعالى: {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} . قال مجاهد: أما السفيه فالجاهل بالإملاء والأمور،

وقال أيضًا: أما الضعيف فالأحمق. وقال ابن عباس: {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} ، يقول إن عجز عن ذلك أملى وليّ صاحب الدين بالعدل. وقال الضحاك: أمر ولي السفيه والضعيف أن يمل بالعدل. قوله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ} . قال مجاهد: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} قال: الأحرار. وقال البغوي: (يعني: الأحرار المسلمين دون العبيد والصبيان، وهو قول أكثر أهل العلم. وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد) . انتهى. وقال الربيع في قوله: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} ، يقول: في الدِّين {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وذلك في الدين. {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء} ، يقول: عدول. وقال قتادة: علم الله أن ستكون حقوق، فأخذ لبعضهم من بعض الثقة، فخذوا بثقة الله، فإنه أطوع لربكم وأدرك لأموالكم، ولعمري لئن كان تقيًّا لا يزيد الكتاب إلا خيرًا، وإن كان فاجرًا فبالحريّ أن يؤدي إذا علم أن عليه شهودًا. وقال الربيع: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} ، يقول: أن تنسى إحداهما فتذكرها الأخرى. وقال قتادة في قوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ} قال: لا تأب أن تشهد إذا ما دعيت إلى شهادة. وكان الحسن يقول في قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا

مَا دُعُواْ} . جمعت أمرين: لا تأب إذا كانت عندك شهادة أن تشهد، ولا تأب إذا دعيت إلى شهادة. قوله عز وجل: {وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُواْ إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) } . قال مجاهد: {وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} . قال: هو الدَّين. وقال السدي: قوله: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ} ، يقول: أعدل عند الله. وقال البغوي: {ذَلِكُمْ} ، أي: الكتاب، {أَقْسَطُ} أعدل، {عِندَ اللهِ} لأنه أمر به واتباع أمره أعدل من تركه وأقوم للشهادة، لأن الكتابة تذكر الشهود، {وَأَدْنَى} وأحرى وأقرب إلى {أَلا تَرْتَابُواْ} ، تشكوا في الشهادة. وقال السدي: قوله: {إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} ، يقول: معكم بالبلد ترونها فتؤخذ وتعطى، فليس على هؤلاء جناح ألا يكتبوها. وقال الربيع: قلت للحسن: أرأيت قول الله عز وجل: {وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ؟ قال: إن أشهدت عليه فهو ثقة للذي لك، وإن لم تشهد عليه فلا بأس. قال ابن كثير: وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب، لا على الوجوب. وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} . يقول: لا يأتي

الرجل فيقول: انطلق فاكتب لي واشهد لي، فيقول: إن لي حاجة فالتمس غيري، فيقول: اتق الله فإنك قد أمرت أن تكتب لي، فهذه المضارة. ويقول: دعه والتمس غيره، والشاهد بتلك المنزلة. وقال ابن عباس: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} ، يقول: إنه يكون للكاتب والشاهد حاجة ليس منها بد فيقول: خلوا سبيله. وقال أيضًا: والضرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غني: إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا دعيت، فيضاره بذلك وهو مكتف بغيره، فنهاه الله عز وجل عن ذلك وقال: {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} ، قال: والفسوق المعصية. وقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . قال الضحاك: هذا تعليم علمكموه فخذوا به. قوله عز وجل: {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) } . قال الربيع: قوله: {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً} ، يقول كاتبًا يكتب لكم، {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} . وقال الضحاك: ما كان من بيع إلى أجل فأمر الله عز وجل: أن يكتب وليشهد عليه، وذلك في المقام، فإن كان قوم على سفر تبايعوا إلى أجل فلم يجدوا فرهان مقبوضة. وقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} . قال البغوي: (فإن كان الذي عليه الحق أمينًا عند صاحب الحق فلم يرتهن

منه شيئًا لحسن ظنه به، {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، أي: فليقضه على الأمانة، {وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} في أداء الحق. انتهى. وقوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} . قال السدي: {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} ، يقول: فاجر قلبه. وقال ابن عباس: إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها فأخبره بها، ولا تقل: أخبر بها عند الأمير: أخبره بها لعله يراجع أو يرعوي. انتهى. وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} . والله أعلم. * * *

الدرس الخامس والثلاثون

الدرس الخامس والثلاثون {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) } . * * *

قوله عز وجل: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) } . يقول تعالى: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} خلفًا وملكًا وعبيدًا. {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . روى الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة قال: (لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} اشتد ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جثوا على الركب وقالوا: يا رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» ، فلما أقرّ بها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا

وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ) . إلى آخره. ولمسلم: (ولما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، قال: «نعم ربنا» ، {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} قال: «نعم ربنا» ، {وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: «نعم» ، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال: «نعم» . وفي رواية له من حديث ابن عباس: قال: (قد فعلت) . قال ابن حجر في (فتح الباري) : (والمراد بقوله: نسختها أي: أزالت ما تضمنته من الشدة، وبينت أنه وإن وقعت المحاسبة به، لكنها لا تقع المؤاخذة به؛ أشار إلى ذلك الطبري، فرارًا من إثبات دخول النسخ في الأخبار، وأجيب بأنه وإن كان خبرًا لكنه يتضمن حكمًا، ومهما كان من الأخبار يتضمن الأحكام، أمكن دخول النسخ فيه كسائر الأحكام، وإنما الذي لا يدخله النسخ من الأخبار، ما كان خبرًا محضًا لا يتضمن حكمًا، كالإخبار عما مضى من أحاديث الأمم ونحو ذلك؛ ويحتمل أن يكون المراد بالنسخ في الحديث: التخصيص، فإن المتقدمين يطلقون لفظ النسخ عليه كثيرًا، والمراد بالمحاسبة بما يخفي الإنسان ما يصمم عليه ويشرع فيه، دون ما يخطر ولا يستمر عليه. والله أعلم) . انتهى. وروى الجماعة من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم أو تعمل» .

قوله عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) } . قال ابن زيد: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} ، كما صنع القوم يعني: بني إسرائيل قالوا: فلان نبي وفلان ليس نبيًا، وفلان نؤمن به وفلان لا نؤمن به. وعن حكيم بن جابر قال: (لما أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} . قال جبريل: إن الله عز وجل قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك، فسل تعطه. فسأل: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا) } . رواه ابن جرير. قوله عز وجل: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) } . قال السدي: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} طاقتها، وحديث النفس مما لا يطيقون. وقال ابن عباس: هم المؤمنون، وسع الله عليهم أمر دينهم، فقال الله جل ثناؤه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وقال: قتادة:

قوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ} ، أي: من خير، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ، أي: من شر، وقوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال ابن زيد: إن نسينا شيئًا مما افترضته علينا، أو أخطأنا شيئًا مما حرمته علينا. وقال قتادة: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تجاوز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت بها أنفسها» . وروى ابن ماجة وغيره من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} . قال مجاهد: {إِصْراً} ، عهدًا. وقال ابن زيد: لاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا ذنبًا ليس فيه توبة ولا كفارة. وقال مالك: الإصر الأمر الغليط. وقوله: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، قال ابن زيد: لا تفترض علينا من الدين ما لا طاقة لنا به، فنعجز عنه، {وَاعْفُ عَنَّا} إن قصرنا عن شيء من أمرك مما أمرتنا به، {وَاغْفِرْ لَنَا} ، إن انتهكنا شيئًا مما نهيتنا عنه، {وَارْحَمْنَا} يقول: لأننا لا نعمل بما أمرتنا به، ولا نترك ما نهيتنا عنه إلا برحمتك. قال: ولم ينج أحد إلا برحمتك. وقوله تعالى: {أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ، ورد في بعض الآثار: (قال الله: قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم، ونصرتكم على القوم الكافرين) . وكان معاذ رضي الله عنه إذا فرغ من هذه السورة قال: (آمين) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه إذا فرغ من هذه السورة قال: (آمين) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في

ليلة كفتاه» . متفق عليه. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي» . رواه أحمد. وعن علي رضي الله عنه قال: لا أرى أحدًا عقل الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، فإنها من كنز أعطيه نبيكم - صلى الله عليه وسلم - من تحت العرش. رواه ابن مردويه. والله أعلم. * * *

الدرس السادس والثلاثون

الدرس السادس والثلاثون [سورة آل عمران] مدنية، وهي مائتا آية ... روى مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة» . بسم الله الرحمن الرحيم {الم (1) اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (4) إِنَّ اللهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ

وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُواْ الألْبَابِ (7) رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) } . * * *

قوله عز وجل: {الم (1) اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (4) إِنَّ اللهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) } . قال ابن إسحاق: قَدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد نَجْران، ستون راكبًا، فيهم أربعة عَشرَ رجلاً من أشرافهم، في الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح. والسيد، ثمالهم وهو صاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيْهَم. وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم. قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر عليهم في ثياب الحبرات، وقد حانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوهم» . فصلوا إلى المشرق قال: فكلم منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو حارثة، والعاقب، والأيهم، وهو من النصرانية على دين الملك، مع اختلاف أمرهم يقولون: المسيح هو: الله، ويقولون: هو: ولد الله، ويقولون: هو: ثالث ثلاثة، إلى أن قال: فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.

وقال الربيع في قوله: {الم * اللهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إنّ النصارى أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخاصموه في عيسى ابن مريم، وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا له على الله الكذبَ والبهتانَ، لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا. فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كنتم تعملون أنه لا يكون له ولدًا إلا وهو يشبه أباه» ؟ قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أن ربَّنا حيّ لا يموت، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء» ؟ قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أن ربنا قَيِّمٌ على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه» ؟ قالوا: بلى! قال: «فهل يملك عيسى من ذلك شيئًا» ؟ قالوا: لا. قال: «أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء» ؟ قالوا: بلى. قال: «فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما عُلِّم» ؟ قالوا: لا. قال: «فإنّ ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء» . قال: «ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يُحدِث الحدَث» ؟ قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أن عيسى حملته امرأة كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِّي كما يغذّى الصبيّ، ثم كان يَطعم الطعام، ويشرب الشرابَ ويُحدث الحدَث» ؟ قالوا: بلى. قال: «فكيف يكون هذا كما زعمتم» ؟ قال: فعرفوا، ثم أبوا إلا جحودًا. فأنزل الله عز وجل: {الم * اللهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . وقوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} قال مجاهد: لما قبله من كتاب أو رسول. قوله تعالى: {وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ} قال قتادة: هما كتابان أنزلهما الله فيهما بيان من الله وعصمة لمن أخذ به، وصدق به، وعمل بما فيه. وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ} قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: {وَأَنزَلَ

الْفُرْقَانَ} ، أي: الفصل بين الحق والباطل، فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} ، أي: أن الله منتقم ممن كفر بآياته وجحد بها. وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . قال قتادة: قادرٌ والله ربُنا أن يصور عباده في الأرحام كيف يشاء، من ذكر، أو أنثى، أو أسود أو أحمر، تام خلقه وغير تام. قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُواْ الألْبَابِ (7) رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) } . قال ابن عباس في قوله: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} : المحكمات: ناسخه، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به. قال: {وَأُخَرُ ... مُتَشَابِهَاتٌ} والمتشابهات منسوخة ومقدمة ومؤخرة وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به. وقيل: المتشابهات: فواتح السور. قال البغوي: (فإن قيل: كيف فرق ها هنا بين المحكم والمتشابه وقد

جعل الله كل القرآن محكمًا في مواضع أخر. فقال: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} وجعله كله متشابهًا فقال الله: {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} . قيل: حيث جعل الكل محكمًا أراد أن الكل حق ليس فيه عبث ولا هزل، وحيث جعل الكل متشابهًا أراد أن بعضه يشبه بعضًا في الحق والصدق وفي الحسن، وجعل ها هنا بعضه محكمًا وبعضه متشابهًا) . انتهى. وقال ابن زيد في قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} قال: هن جماع الكتاب. وقال ابن كثير: أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه. وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ، أي: ميل عن الهدى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} قال ابن جريج: هم المنافقون. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} إلى قوله: {أُوْلُواْ الألْبَابِ} فقال: «إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم» . رواه أحمد وفي رواية البخاري: «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» . وقال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ، أي: ما تحرف منه وتصرف؛ ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا، ليكون لهم حجة على ما قالوا وشبهة. وقال السدي: {ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ} قال: إرادة الشرك. وقال مجاهد: الشبهات بها أَهلكوا وأُهلكوا. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومًا يتدارءون فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضًا، فلا تكذبوا بعضه

ببعض، فما علمتم منه فقولوا به، وما جهلتم فكِلوه إلى عالِمه» . رواه أحمد. وقال ابن عباس: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ} ، يعني: تأويله يوم القيامة إلا الله. وقالت عائشة في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} كان من رسخوهم في العلم، أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه ولم يعلموا تأويله. وقال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} الذي أراد ما أراد، {إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتسق بقولهم الكتاب، وصدق بعضه بعضًا، فنفذت به الحجة وظهر به الغدر، وزاح به الباطل ودمغ به الكفر. وروى ابن جرير وغيره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل من الراسخ في العلم؟ قال: «من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، وعف بطنه وفرجه، فذلك الراسخ في العلم» .

وقال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} أي: لا تمل قلوبنا وإن ملنا بأجداثنا: {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} ، وعن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر في دعائه أن يقول: «اللهم يا مُقَلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك» قالت قلت: يا رسول الله، وإن القلب ليتقلب؟ قال: «نعم، ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابعه، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه» . فنسأل الله ربنا ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب. قالت قلت: يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: «بلى قولي: اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن» . رواه ابن جرير وغيره. وعن أبي عبد الله الصنابحي أنه صلى وراء أبي بكر الصديق المغرب قال: فدنوت منه حتى أن ثيابي لتكاد تمس ثيابه، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية في الركعة الثالثة. رواه عبد الرزاق. وقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} ، أي: يوم القيامة {إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ، أي: فاغفر لنا واعف عنا وارحمنا، وثبتنا في الدنيا على الدين، وفي الآخرة على الصراط. وقد قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} . والله الموفق. * * *

الدرس السابع والثلاثون

الدرس السابع والثلاثون {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) } . يخبر تعالى أن أموال الكفار وأولادهم لا تنفعهم يوم القيامة، ولا تنجيهم من عذاب الله، وأنهم حطب النار الذي توقد به. وقوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} قال ابن عباس رضي الله عنهما: كفعل آل فرعون وصنيعهم في الكفر والتكذيب. وقوله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي: شديد الأخذ، أليم العذاب لا يمتنع منه أحد. قوله عز وجل: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ

وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ (13) } . عن ابن عباس قال: لما أصاب رسول الله? - صلى الله عليه وسلم - ?قريشًا يوم بدر فقدم المدينة جمع يهود في سوق بني قينقاع فقال: «يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا» . فقالوا: يا محمد لا تغرنك نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تأت مثلنا. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} ، إلى قوله: {لأُوْلِي الأَبْصَارِ} . قال قتادة: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} ، عبرة وتفكر. وقال ابن عباس: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ} ، أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} فئة قريش الكفار، وقال الربيع في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} ، قال: كان ذلك يوم بدر، وكان المشركون تسعمائة وخمسين، وكان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة وثلاثة عشر. قال ابن جرير: (فإن قال لنا قائل: فكيف قيل: يرونهم مثليهم رأي العين، وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذٍ ثلاثة أمثال المسلمين؟ قلنا لهم كما يقول القائل - وعنده عبد احتاج إلى مثله -: أنا محتاج إليه وإلى مثله، ثم يقول: أحتاج إلى مثليه، فيكون ذلك خبرًا عن حاجته إلى مثله، وإلى مثلي ذلك المثل) إلى آخر كلامه. وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأوْلِي الأبْصَارِ} ، قال قتادة: يقول: لقد كان لهم في هؤلاء عبرة وتفكير، وأيدهم الله ونصرهم على ... عدوهم. قوله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ

خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17) } . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لما نزلت {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} ، قلت: الآن يا رب حين زينتها لنا؟ فنزلت: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ... } ) الآية. رواه ابن جرير، قال ابن عباس: القنطار: ألف ومائتا دينار، ومن الفضة ألف ومائتا مثقال. وقال ابن عمر: القنطار: ألف ومائتا أوقية. وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} ، قال: المطهمة الحسان، وقال ابن عباس: يعني: المعلمة. وقوله تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} ، قال السدي يقول: حسن المنقلب. وهي: الجنة. وقوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى: أعطيكم أفضل من هذا؟ فيقولون: أيْ ربنا أيّ شيء أفضل من هذا؟ قال: رضواني. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} ، هذا وصف

عباد الله المتقين الذين وعدهم الجنة، قال قتادة: قوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ} ، الصادقين يوم صدقت أفواههم، واستقامت قلوبهم وألسنتهم، وصدقوا في السر والعلانية، والصابرين يوم صبروا على طاعة الله، وصبروا عن محارمه، والقانتون: هم المطيعون لله. قال: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} هم: أهل الصلاة، وقال جعفر ابن محمد: من صلى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة، كتب من المستغفرين بالأسحار، وفي الصحيحين وغيرهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟» . والله أعلم. * * *

الدرس الثامن والثلاثون

الدرس الثامن والثلاثون {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ

أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) } . * * *

قوله عز وجل: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) } . قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} ، بخلاف ما قال وفد نجران من النصارى. {قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} ، أي: بالعدل. قال ابن كثير: قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته، وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام. وقوله: {لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ} تأكيد لما سبق. {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: {الْعَزِيزُ} الذي لا يرام جنابه عظمة وكبرياء. {الْحَكِيمُ} في قوله وأفعاله وشرعه وقدره. قوله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) } . قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} ، أي: ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للرب والتصديق للرسل. وقال أبو العالية: الإسلام: الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر الفرائض لهذا تبع.

وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} . قال أبو العالية: يقول بغيًا على الدنيا وطلب ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضًا على الدنيا من بعد ما كانوا علماء الناس. وقال مجاهد في قول الله عز وجل: {وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} قال: إحصاؤه عليهم. وقال ابن كثير: أي: فإن الله سيجازيك على ذلك، ويحاسبه على تكذيبه، ويعاقبه على مخالفته كتابه. وقوله تعالى: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} يقول تعالى: فإن جادلوك في الدين فقل: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ} أي: أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له، ومن اتبعني على ديني، يقول كمقالتي. قال البغوي: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ} ، أي: انقدت لله وحده بقلبي ولساني وجميع جوارحي؛ وإنما خص الوجه لأنه أكرم الجوارح للإِنسان وفيه بهاؤه، فإذا خضع وجهه للشيء، فقد خضع له جميع جوارحه. وقوله تعالى: {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} . قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: الأميون الذين لا كتاب لهم. وقال البغوي: {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ} ، أي: العرب، {أَأَسْلَمْتُمْ} لفظة استفهام ومعناه أمر، أي: أسلموا، كما قال: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} ، أي: انتهوا. {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ} فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية فقال أهل الكتاب: أسلمنا، فقال لليهود: «أتشهدون أن عزيرًا عبده ورسوله» ؟ . فقالوا: معاذ الله أن يكون عزير - عليه السلام - عبدًا.

وقال للنصارى: «أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله» ؟ . قالوا: معاذ الله أن يكون عيسى عبدًا. فقال الله عز وجل: {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} ، أي: تبليغ الرسالة وليس عليك الهداية ... {وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} عالم بمَنْ يُؤْمن وبِمَنْ لا يُؤْمِن. انتهى. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (22) } . قال ابن جريج: كان الوحي يأتي على أنبياء من بني إسرائيل، ولم يكن يأتيهم كتاب، فيذكرون قومهم فيقتلون أنبياءهم، فيقوم رجال ممن تبعهم وصدقهم، فيذكرون قومهم فيقتلون أيضًا الذين يأمرون بالقسط من الناس وفي الحديث: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتل نبيًا، أو من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر» . رواه ابن جريج وغيره. قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (25) } . قال ابن عباس: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت المدراس على جماعة من يهود،

فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: «على ملة إبراهيم ودينه» . فقالا: فإن إبراهيم كان يهوديًا. قال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم» ، فأبيا عليه، فأنزل الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} ، إلى قوله: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} . وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} . قال قتادة: قالوا: لن تمسنا النار إلا تحلة القسم التي نصبنا فيها العجل، ثم ينقطع القسم والعذاب عنا. قال الله عز وجل: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} ، أي: قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} ، وهو: يوم القيامة، {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} فكيف حالهم حينئذٍ. قوله عز وجل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) } . قال ابن عباس: (لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وعد أمته ملك فارس والروم، قالت المنافقون واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك؟ ألم يكف محمدًا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله هذه الآية) .

وقال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: قوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء} الآية، أي: أن ذلك بيدك لا إلى غيرك {إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لا يقدر هذا غيرك بسلطانك وقدرتك. وقوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} . قال ابن عباس: ما نقص من النهار يجعله في الليل، وما نقص من الليل يجعله في النهار. وقوله تعالى: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ ... الْحَيِّ} . قال مجاهد: الناس الأحياء من النطف، والنطف ميتة من الناس الأحياء ومن الأنعام والنبات كذلك. وقوله تعالى: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} . قال الربيع: يخرج الرزق من عنده بغير حساب، لا يخاف أن ينقص ما عنده تبارك وتعالى. قوله عز وجل: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (28) } . قال ابن عباس: نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الكفار، أو يتخذوهم وليجة من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين، فيظهروا لهم اللطف ويخالفوهم في الدين، وذلك قوله: {إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} وقال أيضًا: التقاة التكلم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان. وقوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} ، أي: يخوفكم الله عقوبته {وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} ، أي: المرجع والمنقلب.

قوله عز وجل: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) } . قال البغوي: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ} ، قلوبكم من مودة الكفار، {أَوْ تُبْدُوهُ} ، موالاتهم قولاً وفعلاً، {يَعْلَمْه اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} ، يعني: إذا كان لا يخفى عليه شيء في السماوات ولا في الأرض، فكيف تخفى عليه موالاتكم الكفار، وميلكم إليهم بالقلب؟ {وَاللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وقال الكلبي: إن تسروا ما في قلوبكم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التكذيب أو تظهروه بحربه وقتاله، يعلمه الله ويحفظه عليكم حتى يجازيكم به. قوله عز وجل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ (30) } . قال قتادة: قوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} ، يقول موفرًا. وقال السدي: قوله: {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} ، مكانًا بعيدًا. وعن الحسن في قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} . قال: من رأفته بهم أن حذرهم نفسه. قوله عز وجل: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) } . قال الحسن: قال قوم على عهد نبيهم - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد إنا نحب ربنا، فأنزل الله عز وجل: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فجعل إتباع نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - علمًا لحبه، وعذاب من خالفه.

قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ولهذا قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو: محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأن أن تُحِبّ، إنما الشأن أن تُحَبّ. قوله عز وجل: {قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) } . قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: {قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ} فأنتم تعرفونه، يعني: الوفد من نصارى نجران، وتجدونه في كتابكم، {فإِن تَوَلَّوْاْ} على كفرهم، {فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} . وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» . قالوا ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى» . والله الموفق. * * *

الدرس التاسع والثلاثون

الدرس التاسع والثلاثون {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (41) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) } . قال قتادة في قوله: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} : ذكر الله أهل بيتين صالحين، ورجلين صالحين، ففضلهم على العالمين، فكان محمد من آل إبراهيم. وقال الحسن: فضلهم على العالمين بالنبوة على الناس كلهم، كانوا هم الأنبياء الأتقياء المصطفين لربهم. وقوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} ، أي: من ولد بعض، {وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . قال قتادة: قوله: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} يقول: في النية، والعمل، والإخلاص، والتوحيد له. وقال في جامع البيان: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} ، أي: أنهم ذرية واحدة متشبعة بعضها من بعض. انتهى. ولا منافاة بين القولين. قوله عز وجل: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) } . قال ابن إسحاق: تزوج زكريا وعمران أختين، فكانت أم يحيى عند زكريا وكانت أم مريم عند عمران، فهلك عمران وأم مريم حامل بمريم،

فهي جنين في بطنها. قال: وكانت فيما يزعمون قد أمسك عنها الولد حتى أسنّت، وكانوا أهل بيت من الله جل ثناؤه بمكان، فبينا هي في ظل شجرة نظرت إلى طائر يطعم فرخ له، فتحركت نفسها للولد، فدعت الله أن يهب لها ولدًا فحملت بمريم، وهلك عمران، فلما عرفت أن في بطنها جنينًا جعلته لله نذيرة، والنذيرة: أن تعبده لله فتجعله حبسًا في الكنيسة، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا. قال الشعبي في قوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} جعلته في الكنيسة وفرغته للعبادة. وقال الكلبي: قالت: اللهم لك عليّ إن رزقتني ولدًا أن أتصدق به على بيت المقدس، فيكون من سدنته وخدمته. وقال الربيع: كانت امرأة عمران حررت لله ما في بطنها، وكانت على رجاء أن يهب لها غلامًا، لأن المرأة لا تستطيع ذلك - يعني: القيام على الكنيسة، لا تبرحها وتكنسها - لما يصيبها من الأذى. وقال السدي: ظنت أن ما في بطنها غلامًا فوهبته لله، فلما وضعت إذ هي جارية فقالت تعتذر إلى الله: رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى. تقول: إنما يحرر الغلمان بقول الله {وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} ، فقالت: إني سميتها مريم. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل مولود من ولد آدم له طعنة من الشيطان وبها يستهل الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران وولدها، فإن أمها قالت حين وضعتها: إني أعيذها ... بك وذريتها من الشيطان الرجيم، فضرب دونها حجاب فطعن في الحجاب» . رواه ابن جرير وغيره.

قوله عز وجل: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) } . قال ابن جرير: قال الله عز وجل: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} تقبل الله من أمها ما أرادت بها للكنيسة، وآجرَها فيها وأنبتها، قال: نبتت في غذاء الله. وقال السديّ: قال الله عز وجل: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} ، فانطلقت بها أمها في خِرَقها حين ولدتها إلى المحراب وكان الذين يكتبون التوراةَ إذا جاءوا إليهم بإنسان يجرّبونه اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه. وكان زكريا أفضلهم يومئذٍ وكان بينهم، وكانت خالة مريم تحته. فلما أتوا بها اقترعوا عليها، وقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها، تحتي خالتها، فأبوا فخرجوا إلى نهر الأردنّ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها أيهم يقوم قلمه فيكفلها. فجرت الأقلام، وقام قلم زكريا على قرنته كأنه في طين فأخذ الجارية. وذلك قول الله عز وجل: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} ، فجعلها زكريا معه في بيته، وهو: المحراب. وقوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} ، قال الربيع: جعل زكريا دونها سبعة أبواب، فكان يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء. وقوله تعالى: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرْزُقُ

مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، أي: بغير إحصاء ولا عد، لأن فضله واسع خزائنه لا تغيض. قوله عز وجل: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ (39) } . قال السدي: فلما رأى زكريا من حالها ذلك يعني: فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف قال: إن ربًا أعطاها هذا في غير حينه لقادر على أن يرزقني ذرية طيبة. ورغب في الولد، فقام فصلَّى، ثم دعا ربه سرًّا فقال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} ، وقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} وقال: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} . وقال عكرمة: فدخل المحراب وغلق الأبواب وناجى ربه فقال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} إلى قوله: {رَبِّ رَضِيّاً} ... {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ} الآية. قال قتادة: إنما سمي يحيى لأن الله أحياه بالإيمان. وقوله تعالى: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ} قال مجاهد: قالت امرأة زكريا: يا مريم إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك. قال: فوضعت امرأة زكريا يحيى، ومريم عيسى، ولذا قال: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ} قال: يحيى مصدقًا

بعيسى. وقال الضحاك: كان يحيى أول من صدق بعيسى وشهد أنه كلمة من الله، وكان يحيى ابن خالة عيسى، وكان أكبر من عيسى. وقوله تعالى: {وَسَيِّداً} ، قال قتادة: إي واللهِ، سيد في العبادة، والحلم، والعلم، والورع. وقوله تعالى: {وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} قال مجاهد: الحصور الذي لا يأتي النساء - قال بعض المفسرين: وفيه دليل على أن ترك النكاح كان أفضل في تلك الشريعة -. وقال الشيخ ابن سعدي: {وَسَيِّداً} ، أي: عظيمًا عند الله وعند الخلق، لما جبله الله عليه من الأخلاق الحميدة والعلوم العظيمة والأعمال الصالحة {وَحَصُوراً} ، أي: ممنوعًا بعصمة الله وحفظه ووقايته، من مواقعة المعاصي، فوصفه الله بالتوفيق لجميع الخيرات والحماية من السيئات والزلات، وهذا غاية كمال العبد. قوله عز وجل: {قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (41) } . قال ابن كثير: فلما تحقق زكريا، عليه السلام، هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر، قال: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ} ، أي: الملك {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} ، أي: هكذا أمر الله عظيم، لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر. {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أي: علامة

أستدل بها على وجود الولد مني {قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} ، أي: إشارة لا تستطيع النطق، مع أنك سويٌ صحيح، كما في قوله: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} ، ثم أمر بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحال، فقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ} ) . انتهى. وقال الحسن في قوله: {قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزاً} قال: أمسك بلسانه، فجع يومئ بيده إلى قومه أن سبحوا بكرة وعشيًّا. والله أعلم. * * *

الدرس الأربعون

الدرس الأربعون {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (51) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) } . في الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد» . وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون» . رواه الترمذي وصححه. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون. وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» . رواه البخاري وغيره. وقوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} قال مجاهد: لما قيل لها: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} قامت حتى ورمت قدماها. وقوله تعالى: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} ، أي: كوني منهم. قوله عز وجل: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ

يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) } . يقول تعالى: {ذَلِكَ} الذي ذكرت من حديث امرأة عمران، وزكريا، ويحيى، ومريم، وعيسى: {مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ} ، أي: من أخبار الغيب: {نُوحِيهِ إِلَيكَ} وهذا من أعظم البراهين على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه أخبره بها وهو أميّ لا يكتب ولا يقرأ، كما قال تعالى: ... {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} . وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} ، أي: في كفالتها. قال قتادة: تساهموا على مريم أيهم يكفلها فقرعهم زكريا. قوله عز وجل: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي

الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) } . قال ابن جرير: يعني بقوله جل ثناؤه: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ} ، {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} ، {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أيضًا: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} ، يعني: برسالة من الله. وعن قتادة قوله: {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} قال: قوله: كُنْ، فسماه الله عز وجل كلمة، لأنه كان عن كلمته، كما يقال لما قدّر الله من شيء: هذا قدر الله وقضاؤه. وقيل: إنما سمي المسيح لأنه مسح بالبركة. قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} ، أي: هكذا كان أمره، لا ما يقولون فيه {وَجِيهاً} . قال: وجيهًا في الدنيا والآخرة عند الله. وقال قتادة: قوله: {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} يقول: من المقربين عند الله يوم القيامة. وقوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} . قال ابن عباس: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} ، قال: مضجع الصبي في رضاعه. وقال مجاهد: الكهل الحليم. وقال قتادة: يكلمهم صغيرًا وكبيرًا. وقال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: يخبرهم بحالاته التي يتقلب بها في عمله، كتقلب بني آدم في أعمالهم صغارًا وكبارًا، إلا أن الله خصه بالكلام في مهده آية لنبوته وتعريفًا للعباد موقع قدرته. وقال ابن زيد: قد كلمهم عيسى في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذٍ كهل. قوله عز وجل: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47) } . قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} يصنع ما أراد ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر، أي: {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} مما يشاء وكيف يشاء، فيكون ما أراد. قوله عز وجل: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللهَ

وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (51) } . قال البغوي: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ} : الكتابة والخط {وَالْحِكْمَةَ} : العلم والفقه. قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: أخبر الله مريم ما يريد به فقال: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ} التي كانت فيهم من عهد موسى، والإنجيل كتابًا آخر أهدته إليه، لم يكن عندهم علمه إلا ذكره أنه كائن من الأنبياء قبله. وقوله تعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} ، أي: ونجعله رسولاً إلى بني إسرائيل قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} ، أي: يحقق بها نبوتي، وإني رسول منه إليكم. وقوله: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ} ، قال ابن إسحاق: إن عيسى - عليه صلوات الله وسلامه عليه - جلس يومًا مع غلمان من الكتاب فأخذ طينًا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرًا، قالوا: وتستطيع ذلك؟ قال: نعم بإذن ربي. ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر فنفخ فيه، ثم قال: كن طائرًا بإذن الله، فخرج يطير بين كفيه، فخرج الغلمان بذلك من أمره، فذكروه لمعلمهم فأفشوه في الناس وترعرع، فهمّت به بنو إسرائيل، فلما خافت أمه عليه حملته على حميل لها ثم خرجت به هاربة. وقوله: {وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ} قال ابن عباس: الأكمه الذي يولد وهو أعمى. قال ابن كثير: [قال كثير] من العلماء: بعث الله كل نبي من الأنبياء بما

يناسب أهل زمانه، فبعث عيسى السلام في زمن الأطباء، وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه. وقوله: {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، قال السدي: لما كبر عيسى أسلمته أمه ليتعلم التوراة، فكان يلعب مع الغلمان، غلمان القرية التي كان فيها فيحدث الغلمان بما يصنع آباؤهم. وقال عطاء بن أبي رباح: قوله: ... {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} قال: الطعام والشيء يدخرونه في بيوتهم، غيبًا علَّمه الله إياه. وقال قتادة: كان القوم لما سألوا المائدة، فكانت جرابًا، ينزل عليه أينما كانوا ثمرًا من ثمار الجنة، فأمر القوم أن لا يخونوا فيه، ولا يخبئوا، ولا يدخروا لغد، بلاء ابتلاهم الله به، فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئًا أنبأهم به عيسى بن مريم، فقال: {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} . وقوله: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} قال: ابن جريج: قال: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} قال: لحوم الإِبل والشحوم، لما بعث عيسى أحلها لهم، وبعث إلى اليهود فاختلفوا وتفرقوا. وقوله: {فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} ، قال ابن إسحاق: عن محمد بن جعفر: {فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} تبريًا من الذين يقولون فيه، يعني: ما يقول فيه النصارى، واحتجاجًا لديه عليهم: {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} ، أي: هذا الذي قد حملتكم عليه وجئتكم به. والله أعلم. * * *

الدرس الحادي والأربعون

الدرس الحادي والأربعون {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أََََََََََََََََنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا

مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلا مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (65) هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) } . * * *

قوله عز وجل: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أََََََََََََََََنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) } . قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} ، قال مجاهد: كفروا وأرادوا قتله، فذلك حين استنصر قومه: {قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ} . قال الضحاك: الحواريون أصفياء الأنبياء. قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} والعدوان، {قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ} ، وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضل من ربهم {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ، لا كما يقوله هؤلاء الذين يحاجونك فيه، يعني: وفد نصارى نجران. قوله عز وجل: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) } . قال السدي: إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الحواريين في بيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة؟ فأخذها رجل منهم، وصُعد بعيسى إلى السماء، فذلك قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} .

وقال الربيع في قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} قال يعني: وفاة المنام، ورفعه الله في منامه. قال الحسن: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لليهود: «إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة» . رواه ابن جرير. وقال الحسن في قوله: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} قال: طهره من اليهود والنصارى والمجوس، ومن كفار قومه. وقوله تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} . قال قتادة في قوله: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، هم: أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسنته، فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة. وقال ابن زيد في قول الله: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} قال: الذين كفروا من بني إسرائيل. {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} قال: الذين آمنوا به من بني إسرائيل وغيرهم. {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} ، النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة. قال: فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود، في شرق ولا غرب، هم في البلدان كلها مستذلون. قوله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) } . قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} القاطع الفاصل، الحق الذي لم يخلطه الباطل من الخبر عن عيسى، وعما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلن خبرًا غيره.

قوله عز وجل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) } . قال ابن عباس: قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ، وذلك: (أن رهطًا من أهل نجران قدموا على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكان فيهم السيد والعاقب فقالوا لمحمد: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: «من هو» ؟ قالوا: عيسى، تزعم أنه عبد الله. فقال محمد: «أجل إنه عبد الله» . قالوا له: فهل رأيت مثل عيسى أو أنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده، فجاءه جبريل - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربنا السميع العليم فقال: قل لهم إذا أتوك: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} إلى آخر الآية) . وقوله تعالى: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ} . قال قتادة: يعني: فلا تكن في شك من عيسى أنه كمثل آدم عبد الله ورسوله، وكلمة الله وروحه. وقوله تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} قال قتادة: (بلغنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ليداعي القوم، فلما رأوه خرج هابوا وفرقوا فرجعوا) . وفي حديث ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: (فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن

ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضى) . وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} . قال ابن زيد: إن هذا القصص الحق في عيسى، ما ينبغي لعيسى أن يتعدى هذا، ولا يجاوز أن يتعدى أن يكون كلمة الله، ألقاها إلى مريم وروحًا منه، وعبد الله ورسوله. قوله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) } . قال ابن جرير: يعني بذلك جل ثناؤه: {قُلْ} يا محمد لأهل الكتاب وهم أهل التوراة والإنجيل: {تَعَالَوْا} ، هلموا {إِلَى كَلَمَةٍ} يعني: إلى كلمة عدل، {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ، والكلمة العدل هي: أن يوحد الله فلا يعبد غيره، ويبرأ من كل معبود سواه فلا يشرك به شيئًا. وقوله: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً} ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة فيما أُمر به من معاصي الله، ويعظمه بالسجود له كما يسجد لربه. وقال ابن جريج: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ} يقول: لا يطع بعضنا بعضًا في معصية الله. وفي حديث (أبي سفيان في قصته حين دخل على قيصر، وسأله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثم جيء بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فأسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم

الأريسيين. و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ) . قوله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلا مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (65) هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) } . قال ابن عباس: (اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنازعوا عنده فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديًا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًا. فأنزل الله عز وجل فيهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلا مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ؟ وبعده كانت اليهودية والنصرانية. وقال قتادة: قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} ، يقول: لما تحاجون في إبراهيم وتزعمون أنه كان يهوديًا أو نصرانيًا وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده؟ فكانت اليهودية بعد التوراة، وكانت النصرانية بعد الإنجيل، أفلا تعلقون؟ وقوله تعالى: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} . قال السدي: أما الذي لهم به علم فما حرم عليهم وما أمروا به، وأما الذي ليس لهم به علم فشأن إبراهيم.

قوله عز وجل: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) } . قال قتادة: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} على ملته وسنته ومنهاجه وفطرته، {وَهَذَا النَّبِيُّ} وهو نبي الله محمد - صلى الله عليه وسلم -، {وَالَّذِينَ آمَنُواْ} ، معه وهم: المؤمنون الذين صدقوا نبي الله واتبعوه. كان محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين معه من المؤمنين أولى الناس بإبراهيم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي، - ثم قرأ -: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} » . رواه ابن جرير وغيره. والله أعلم. * * *

الدرس الثاني والأربعون

الدرس الثاني والأربعون {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي

مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (80) } . * * *

قوله عز وجل: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (71) } . قوله تعالى: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} ، أي: عن الحق حسدًا وبغيًا، {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} ، أي: إنما يعود وبال ذلك عليهم، {وَمَا يَشْعُرُونَ} ، وما يدرون أنه عائد عليهم، قال تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} . وقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} ، قال قتادة: يقول: تشهدون أن نعت محمد نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في كتابكم، ثم تكفرون به وتنكرونه، ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإِنجيل؛ النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته. وقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، قال ابن زيد في قول الله عز وجل: {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} ، قال: الحق: التوراة التي أنزل الله على موسى، والباطل الذي كتبوه بأيديهم، وقال قتادة: قوله: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، كتموا شأن محمد، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإِنجيل: يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر. قوله عز وجل: {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى

الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) } . قال قتادة في قوله: {آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ} ، فقال: بعضهم لبعض: أعطوهم الرضى بدينهم أول النهار، واكفروا آخره، فإن أجدر أن يصدقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم منهم ما تكرهون، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم. وقوله: {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} ، قال قتادة: هذا قول بعضهم لبعض. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ} ، قال مجاهد في قوله: {أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} ، حسدًا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم وإرادة أن يتبعوا على دينهم. قال ابن كثير: قوله: {أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ} ، يقولون: لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلمون منكم ويساوونكم فيه ويمتازون به عليكم لشدة الإيمان به، أَوْ يُحَآجُّوكُمْ به عند رَبِّكم، أي: يتخذوه حجة عليكم بما في أيديكم، فتقوم به عليكم الدلالة، وتتركب الحجة في الدنيا والآخرة. انتهى.

وذكر ابن جرير عن ابن جريج قوله: {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} يقول: هذا الأمر الذي أنتم عليه. {أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ} ، قال: قال بعضهم لبعض: لا تخبروهم بما بين الله لكم في كتابه ليحاجوكم، قال: (ليخاصموكم به عند ربكم قل إن الهدى هدى الله) ، معترض به، وسائر الكلام متسق على سياق واحد. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ، قال ابن جريج في قوله: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ} ، قال: الإِسلام. وقوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} قال الربيع: يختص بالنبوة من يشاء. وقال ابن جريج: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} ، قال: القرآن، والإِسلام. ويشهد لها قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} . قوله عز وجل: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) } . قال مجاهد: في قوله: {إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} ، قال: مطالبًا، وقال السدي: يعترف بأمانته ما دمت قائمًا على رأسه. وقال قتادة: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} ، قالت اليهود:

ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل، وقال ابن جريج: بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم ثمن بيوعهم فقالوا: ليس لكم علينا أمانة، ولا قضاء لكم عندنا، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه، وادَّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، فقال الله عز وجل: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، وعن صعصعة: قلت لابن عباس: إنا نُقِرُّ أهل الكتاب فنصيب من ثمارهم، قال: وتقولون كما قال أهل الكتاب: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} . وقوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي: ليس كما قالوا: بل عليهم سبيل، ثم ابتدأ فقال: {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} ، أي: الذين ائتمروا بأوامر الله واجتنبوا محارمه. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) } . قال عكرمة: نزلت في رؤوس اليهود، وكتموا ما عهد الله إليهم في التوراة، في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - وبدلوه، وكتبوا بأيدهم غيره، وحلفوا أنه من عند الله، لئلا يفوتهم المأكل والرشا التي كانت لهم من أتباعهم، وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان، - وقرأ -: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ... } » الآية. قوله عز وجل: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ

عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) } . قال قتادة: هم: أعداء الله اليهود، حرفوا كتاب الله وابتدعوا فيه، وزعموا أنه من عند الله. قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (80) } . قال ابن عباس: قال أبو رافع القرظي: (حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاهم إلى الإسلام قالوا: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا؟ أو كما قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «معاذ الله أن نعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني» . أو كما قال، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ... } الآية، إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} ) . وقال قتادة: قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللهِ} ، يقول: ما كان ينبغي لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، يأمر عباده أن يتخذوه ربًا من دون الله. وقوله تعالى: {وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} ، قال الحسن في قوله: {كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ} ، قال: كونوا فقهاء علماء،

وقال سعيد بن جبير: حكماء أتقياء، وقال ابن زيد: الربانيون: الذين يربون الناس ولاة هذا الأمر، وقال المبرد: هم أرباب العلم، سموا به لأنهم يربون العلم ويقومون به ويربون المتعلمين بصغار العلم قبل كبارها. قلت: والعالم الرباني هو: الذي يعلم الناس أصول العلم قبل فروعه، وواضحاته قبل مشكلاته، وهذا هو معنى ما تقدم. وقال مجاهد: الربانيون: الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار. وقال ابن جرير: والرباني: الجامع إلى العلم والفقه، البصير بالسياسة والتدبير، والقيّام بأمور الرعية وما يصلحهم في دنياهم ... ودينهم. وقوله تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} ، قال ابن جريج: ولا يأمركم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا. قال ابن كثير: {أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} ، أي: لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله، ومن دعا إلى عبادة غير الله، فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإِيمان، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وبالله التوفيق. * * *

الدرس الثالث والأربعون

الدرس الثالث والأربعون {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (88) إِلا الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (91) } .

قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) } . قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} . قال ابن جرير: تأويل الآية. واذكروا يا معشر أهل الكتاب إذ أخذ اللهُ ميثاق النَّبيين لما آتيتكم أيها النبيون، {مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ} من عندي، {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} يقول: لتصدقنه ولتنصرنه. وقال قتادة: {أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ} أن يصدق بعضهم بعضًا. وقال علي بن أبي طالب: ما بعث الله نبيًا من الأنبياء إلا أخذ الله عليه الميثاق، لئن بعث الله محمدًا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته، لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه. وقوله تعالى: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} . قال ابن عباس: {إِصْرِي} : عهدي. وقال ابن إسحاق: أي: ثقل ما حملتم من عهدي، أي: ميثاقي الشديد المؤكد، وقال علي بن أبي طالب في قوله: {قَالَ فَاشْهَدُواْ} يقول: فاشهدوا على أممكم بذلك. {وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} عليكم وعليهم. وقوله تعالى: {فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . قال علي بن

أبي طالب: {فَمَن تَوَلَّى} عنك يا محمد بعد هذا العهد من جميع الأمم {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} : العاصون في الكفر. قوله عز وجل: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) } . قال أبو العالية في قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} . قال: كل آدمي قد أقر على نفسه بأن الله ربي وأنا عبده، ممن أشرك في عبادته، فهذا الذي أسلم كرهًا، ومن أخلص من العبودية فهو الذي أسلم طوعًا. وقال مجاهد: سجود المؤمن طائعًا، وسجود ظل الكافر وهو كاره. وقال ابن كثير: فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرهًا. فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع. وقوله تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} الآية. وقال ابن كثير في قوله: {قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} ، يعني: القرآن، {وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ، أي : من الصحف والوحي، {وَالأَسْبَاطِ} ، وهم: بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل - وهو يعقوب - الاثنى عشر، {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} ، يعني: بذلك التوراة، والإِنجيل،

{وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ} ، وهذا يعم جميع الأنبياء جملة، {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} ، يعني: بل نؤمن بجميعهم. {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ، فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل، وبكل كتاب أنزل، لا يكفرون بشيء من ذلك، بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله، وبكل نبي بعثه الله. وقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . قال ابن جرير: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يطلب دينًا غير دين الإسلام ليدين به، فلن يقبل الله منه، وهو في الآخرة من الخاسرين. وروى الإمام أحمد عن الحسن قال: حدثنا أبو هريرة إذ ذاك ونحن بالمدينة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول: يا رب أنا الصلاة، فيقول: إنك على خير. وتجيء الصدقة فتقول: يا رب أنا الصدقة، فيقول: إنك على خير. ثم يجيء الصيام فيقول: يا رب أنا الصيام، فيقول: إنك على خير. ثم تجيء الأعمال، كل ذلك يقول الله: إنك على خير. ثم يجيء الإِسلام فيقول: يا رب أنت السلام، وأنا الإِسلام، فيقول الله تعالى: إنك على خير، بك اليوم آخذ وبك أعطي» . قال الله في كتابه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . قوله عز وجل: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ

يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (88) إِلا الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ (89) } . قال قتادة: كان الحسن يقول في قوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} الآية. هم: أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رأوا نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم، وأقروا به، وشهدوا أنه حق، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه، وكفروا بعد إقرارهم، حسدًا للعرب حين بعث من غيرهم. وقوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . قال مجاهد: جاء الحارث بن سويد، فأسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه، فأنزل الله عز وجل في القرآن: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى: {إِلا الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه، فقال الحارث: إنك والله ما علمت لصدوق، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصدق منك وإن الله عز وجل لأصدق الثلاثة. قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه. وقال عكرمة: نزلت في أبي عامر الراهب، والحارث بن سويد، ووحوح بن الأسلت، وفي اثني عشر رجلاً رجعوا عن الإسلام، ولحقوا بقريش، ثم كتبوا إلى أهليهم: هل لنا من توبة؟ فنزلت: {إِلا الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ} الآيات. واختار ابن جرير: جواز نزولها في الفريقين، وعمومها في كل مرتد. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن

يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (91) } . قال قتادة: قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} هم: أعداء الله اليهود. كفروا، بالإِنجيل، {ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً} حين بعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأنكروا وكذبوا به. وقال أبو العالية في قوله: {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} . قال: تابوا من بعض، ولم يتوبوا من الأصل. وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا داود قال: سألت أبا العالية عن هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ} ، قال: هم: اليهود، والنصارى، والمجوس أصابوا ذنوبًا في كفرهم فأرادوا أن يتوبوا منها ولن يتوبوا من الكفر، لأنه يقول: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ} . وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} . روى البخاري، ومسلم وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديًا به؟ قال: فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا الشرك» . والله أعلم. * * *

الدرس الرابع والأربعون

الدرس الرابع والأربعون {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ (108) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (109) } . * * *

قوله عز وجل: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) } . قال عمرو بن ميمون: البِرُّ: الجنة. وقال قتادة: يقول: {لَن تَنَالُواْ} ، برّ ربكم، {حَتَّى تُنفِقُواْ} مما يعجبكم ومما تهوون من أموالكم. {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} يقول: محفوظ لكم ذلك. وعن أنس بن مالك قال: (لما نزلت هذه الآية: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} ، قال أبو طلحة: يا رسول الله إن الله يسألنا من أموالنا، أشهد أني قد جعلت أرضي بيرحا لله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجعلها في قرابتك» . فجعلها بين حسان بن ثابت، وأبيّ بن كعب. رواه ابن جرير وغيره. وفي رواية الصحيحين: (إن الله يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إليّ بيرحا، وإنها صدقة لله أرجوا برها وذخرها عند الله تعالى) . الحديث. قوله عز وجل: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) } . قال البغوي: قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ

إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} ، سبب نزول هذه الآية (أن اليهود قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم، وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها، وأنت تأكلها فلست على ملته. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كان ذلك حلالاً لإِبراهيم عليه السلام» . فقالوا: كل ما نحرمه اليوم كان ذلك حرامًا على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا) . فأنزل الله تعالى هذه الآية: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} يريد سوى: الميتة، والدم، فإنه لم يكن حلالاً قط. {إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} وهو: يعقوب عليه السلام. {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} ، يعني: ليس الأمر على ما قالوا من حرمة لحوم الإِبل وألبانها على إبراهيم، بل كان الكل حلالاً له ولبني إسرائيل، وإنما حرمها إسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة، يعني: ليست في التوراة حرمتها) . انتهى. وقال ابن عباس في: {إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} قال: حرم العروق، ولحوم الإِبل. قال: كان به عرق النساء فأكل من لحومها فبات بليلة يزفوا - يعني: يصيح - فحلف أن لا يأكله أبدًا. قوله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} نزلت في اليهود، وهي عامة في كل من كذب على الله. وقوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، أي: اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهي عبادة الله وحده لا شريك له. قوله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) } .

قال الحسن في قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} قال: هو أول مسجد عُبد الله فيه في الأرض. وقال قتادة: هو أول بيت وضعه الله عز وجل فطاف به آدم ومن بعده. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله: أي: مسجد وضع أول؟ قال: «المسجد الحرام» . قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى» . قلت: كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة» . قلت: ثم أي؟ قال: «ثم حيث أدركتك الصلاة فصلّ، فكلها مسجد» . متفق عليه. قال ابن حجر في شرح البخاري: (وهذا الحديث يفسر المراد بقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} ، ويدل على أن المراد بالبيت بيت العبادة لا مطلق البيوت، وقد ورد ذلك صريحًا عن عليّ، أخرجه إسحاق بن راهويه، وابن أبي حاتم، وغيرهما بإسناد صحيح عنه قال: كانت البيوت قبله، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله. إلى أن قال: ويؤيد قول من قال: إن آدم هو الذي أسس كلاً من المسجدين ما ذكر ابن هشام في كتاب (التيجان) : أن آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه فبناه، ونسك فيه. وبناء آدم للبيت مشهور. وقد تقدم قريبًا حديث عبد الله بن عمرو: أن البيت رفع زمن الطوفان حتى بوأه الله لإِبراهيم) . انتهى. وقوله تعالى: {بِبَكَّةَ} ، أي: مكة. قيل: سميت مكة لقلة مائها، وبكة: لازدحام الناس فيها. قال قتادة: بكة: بك الناس بعضهم بعضًا، الرجال والنساء يصلي بعضهم بين يدي بعض، لا يصلح ذلك إلا بمكة.

وقوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} ، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} ، وقال قتادة: قوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} ، وهذا كان في الجاهلية، كان الرجل لو جر كل جريرة على نفسه ثم لجأ إلى حرم الله لم يتناول ولم يطلب. فأما في الإسلام: فإنه لا يمنع من حدود الله، ومن سرق فيه قطع، ومن زنى فيه أقيم عليه الحد، ومن قتل فيه قتل. وقال مجاهد في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم قال: يؤخذ فيخرج من الحرم، ثم يقام عليه الحد. وقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} . قال ابن عباس: والسبيل أن يصح بدن العبد، ويكون له ثمن: زاد وراحلة من غير أن يجحف به. وقال ابن الزبير في قوله: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ، قال: على قدرة القوة. وقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، أي: من جحد وجوب الحج فقد كفر. قال ابن عباس في قوله: {وَمَن كَفَرَ} من زعم أنه ليس بفرض عليه. قوله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) } . قال قتادة: قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ} يقول: لم تصدون عن الإسلام وعن نبي الله: من آمن بالله؟ وأنتم شهداء فيما تقرءون من

كتاب الله أن محمدًا رسول الله، وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره، ولا يجزي إلا به، يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل؟ قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101) } . قال مجاهد: كان جِماعُ قبائل الأنصار بطنين: الأوس، والخزرج، وكان بينهما في الجاهلية حربٌ، ودماء، وشنَآنٌ. حتى مَنَّ الله عليهم بالإسلام وبالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم، وألفَّ بينهم بالإسلام. قال: فبينا رجل من الأوس ورجلٌ من الخزرج قاعدان يتحدّثان، ومعهما يهوديّ جالسٌ، ولم يزل يذكِّرهما أيامهما والعداوةَ التي كانت بينهم، حتى استَبَّا ثم اقتتلا. قال: فنادى هذا قومه، وهذا قومه، فخرجوا بالسلاح، وصفَّ بعضهم لبعض. قال: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شاهدٌ يومئذٍ بالمدينة، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء ليسكنهم، حتى رجعوا ووضعوا السلاح، فأنزل الله عز وجل القرآن في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} إلى قوله: {عَذَابٍ عَظِيمٍ} . وقوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} . قال قتادة: علمان بيّنان وُجْدَانُ نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وكتاب الله، فأما نبي الله فمضى - صلى الله عليه وسلم -، وأما كتاب الله فأبقاه الله بين أظهركم، رحمة من الله ونعمه، فيه حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته.

وقوله تعالى: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، أي: واضح، وسيمنعه من كل سوء. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) } . قال ابن مسعود: {اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} : أن يطاع فلا ... يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} . قال طاوس: على الإِسلام، وعلى حرمة الإِسلام. وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} ، قال ابن مسعود في قوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً} قال: الجماعة. وقال قتادة: حبل الله المتين. أمر أن يعتصم به، هذا القرآن. وقال أبو العالية: يقول: اعتصموا بالإِخلاص لله وحده. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنين وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة» ، قال: فقيل: يا رسول الله وما هذه الواحدة؟ قال: فقبض يده وقال: «الجماعة» {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} . رواه ابن جرير. وقوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} . قال السدي: أما إذ كنتم أعداء ففي حرب، فألف بين قلوبكم بالإسلام. وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحاسدوا ولا

تناجشوا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا» . قال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً قال لابن مسعود: كيف أصبحتم؟ قال: أصبحنا بنعمة الله إخوانًا. وقوله تعالى: {وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، قال قتادة: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً، وأشقاه عيشًا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودًا، وأجوعه بطونًا، معكومين على رأس حجر بين الأسدين: فارس والروم، لا والله ما في بلادهم يومئذٍ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيًا، ومن مات يردى في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله لا نعلم قبيلاً يومئذٍ من حاضر الأرض كانوا فيه أصغر حظًا، وأدق فيها شأنًا منهم، حتى جاء الله عز وجل بالإِسلام، فورثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووضع لكم به من الرزق، وجعلكم به ملوكًا على رقاب الناس، وبالإِسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد الله، فتعالى ربنا وتبارك. قال البغوي: {وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ} ، أي: على طرف حفرة مثل شفا البئر، معناه: وكنتم على طرف حفرة من النار، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا [أن] تموتوا على كفركم، فأنقذكم الله منها بالإِيمان. قوله عز وجل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ

وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ (108) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (109) } . قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} ، أي: الإِسلام {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} ، أي: يأمرون بطاعة الله وينهون عن المعاصي. {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وقال أبو جعفر الباقر: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} ، ثم قال: «الخير إتباع القرآن وسنتي» . رواه ابن مردويه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإِيمان» . وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . قال ابن عباس: أمر الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله. وقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قال ابن عباس: (تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة) . {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ

أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ، قال الحسن: هم المنافقون. {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} . قال ابن كثير: وهذا الوصف يعم كل كافر. {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، يعني: الجنة. {تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} ، بل هو الحاكم العدل الذي لا يجور. {وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} فيجزي كلاً بعمله. والله أعلم. * * *

الدرس الخامس والأربعون

الدرس الخامس والأربعون {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَن يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ

وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) } . * * *

قوله عز وجل: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَن يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ (111) } . قال مجاهد في قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} يقول: على هذا الشرط: أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله. وقوله تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} ، قال قتادة: ذم الله أكثر الناس. وقوله تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} . قال قتادة: قوله: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى} قال: أذى تسمعونه منهم. قوله عز وجل: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (112) } . قال الحسن في قوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} ، قال: أدركتهم هذه الأمة، وأن المجوس لتجبيهم الجزية. وقوله: {إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} ، قال قتادة: إلا بعهد من الله وعهد من الناس.

قال ابن كثير: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} ، أي: ألزمهم الله الذلة والصغار أينما كانوا فلا يأمنون، {إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ} ، أي: بذمة من الله. وهو: عقد الذمة لهم، وضرب الجزية عليهم وإلزامهم أحكام الملة. {وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} ، أي: أمان منهم لهم كما في المهادن والمعاهد والأسير إذا أمنه واحد من المسلمين، ولو امرأة. وقوله تعالى: {وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} ، أي: إنما حملهم على ذلك الكبر والبغي والحسد، فعوقبوا بالذلة والصغار والمسكنة. {ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} ، قال قتادة: اجتنبوا المعصية والعدوان، فإن بهما أهلك من أهلك من قبلكم من الناس. قوله عز وجل: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) } . قال ابن عباس: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد بن عبيد، وأسيد بن سعية، ومن أسلم من يهود معهم فآمنوا وصدقوا، ورغبوا في

الإسلام، ومنحوا فيه، قالت أحبار يهود، أهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غير. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ} إلى قوله: ... {وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} ، وقال قتادة: قوله: {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} يقول: قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده. وقوله تعالى: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} ، أي: يصلون. قال قتادة: يتلون آيات الله آناء الليل، أي: ساعات الليل، {يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} ، قال ابن كثير: {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ} ، أي: لا يضيع عند الله بل يجزيهم به أوفر الجزاء، ... {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} ، أي: لا يخفى عليه عمل عامل، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملاً. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) } . قال البغوي: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئاً} ، أي: لا تنفع أموالهم بالفدية، ولا أولادهم بالنصرة من الله شيئًا، أي: من عذاب الله. وقال مجاهد في قوله عز وجل: {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ،

قال: نفقة الكافر في الدنيا وصدقاته كمثل: ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته. قال ابن عباس: ريح فيها صرير شديد وزمهرير. قال ابن كثير: فكذلك الكفار يمحق الله ثواب أعمالهم في هذه الدنيا كما يذهب ثمرة هذا الحرث بذنوب صاحبه. وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، أي: بالكفر والمعصية. وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) } . قال ابن عباس: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من اليهود، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فأنزل الله عز وجل فيهم، فنهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم منهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} إلى قوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} ، وقال قتادة: نهى الله عز وجل المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين أو يؤاخوهم أي: يتولوهم من دون المؤمنين. وقوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} .

قال البغوي: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} ، أي: لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد. والخبال: الشر، {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} ، أي: يودون ما يشق عليكم من الضر، والشر، والهلاك. والعنت: المشقة. وقوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} قال الربيع: يقول: ما تكن صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} ، قال ابن عباس: أي: بكتابكم وكتابهم مما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم. وقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، قال قتادة: إذا لقوا المؤمنين قالوا: آمنا. ليس بهم إلا مخافة على دمائهم وأموالهم، فصانعوهم بذلك. {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} يقول: مما يجدون في قلوبهم من الغيظ والكراهة لما هم عليه لو يجدون ريحًا لكانوا على المؤمنين. قال البغوي: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} ، أي: أبقوا إلى الممات بغيظكم. {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، أي: بما في القلوب من خير وشر. وقوله تعالى: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ، يرشد سبحانه إلى الصبر والتقوى، والتوكل عليه. فلا حول ولا قوة إلا بالله، فمن صبر نصره، ومن توكل عليه كفاه. ودفع عنه كيد عدوه وأذاه. والله المستعان. * * *

الدرس السادس والأربعون

الدرس السادس والأربعون {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ

يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) } . * * *

وقوله عز وجل: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) } . قال قتادة: تبوئ: تهيئ، وتنزل. غدا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من أهله إلى أُحُد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال، قال مجاهد: يمشي على رجليه، فجعل يصّف أصحابه للقتال. وقوله تعالى: {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} . قال قتادة: وذلك يوم أحد. والطائفتان: بنو سلمة، وبنو حارثة، حيان من الأنصار هموا بأمر فعصمهم الله من ذلك. وقد ذكر لنا أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: لم يسُرُّنا إنا لم نهم بالذي هممنا به، وقد أخبرنا الله أنه ولينا. وقال السدي: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد في ألف رجل، وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما رجع عبد الله بن أبيّ بن سلول في ثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالاً، ولئن أطعتنا لترجعن معنا، وقال: {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} ، وهم: بنو سلمة، وبنو حارثة هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبيّ فعصمهم الله، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبعمائة. قال ابن عباس: الفشل: الجبن. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ (127) } . قال ابن إسحاق: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} ، يقول: وأنتم أقل عددًا وأضعف قوة، فاتقوا الله لعلكم تشكرون، أي: فاتقون؛ فإنه شكر نعمتي. قال قتادة: وبدر ماء بين مكة والمدينة التقى عليه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - والمشركون، وكان أول قتال قاتله نبي الله - صلى الله عليه وسلم - والمشركون. وذكر لنا أنه قال لأصحابه يومئذٍ: أنتم اليوم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت. فكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، والمشركون يومئذٍ ألف، أو راهقوا ذلك. وقوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ

الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} . عن ابن عباس قال: حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف على بدر، ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدائرة، فننتهب مع من ينتهب. قال: فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلاً يقول: أقدم حيزوم. قال: فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت. قال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر، وكانوا يأتون فيما سواه من الأيام عددًا ومددًا لا يضربون. وقوله تعالى: {وَيَأْتُوكُم} ، أي: المشركون. وقال قتادة: {مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا} ، يقول: من وجههم هذا. قال: كان يوم بدر أمدهم الله تعالى بألف من

الملائكة، كما قال: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ} ، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف. وقال الضحاك: كان هذا موعدًا من الله يوم أحد عرضه على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أنّ المؤمنين إنْ اتقوا وصبروا أمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، ففر المسلمون يوم أحد وولوا مدبرين، فلم يمدهم الله. وقال عكرمة في قوله: {وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ} . قال: فورهم ذلك كان يوم أحد، غضبوا ليوم بدر مما لقوا - يعني: الكفار -. وقال الضحاك في قوله: {وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا} ، يقول: من وجههم وغضبهم. وقوله تعالى: {بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} ، أي: معلمين. قال قتادة: كان سيمًا خيلهم صوفًا في نواصيها. قال الربيع: كانوا يومئذٍ على خيل بلق. وقال ابن عباس: كان سيمًا الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمر. ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر. وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ، أي: ولما أنزل الله الملائكة ولعلمكم بذلك إلا بشارة لكم، وما النصر إلا من عند الله. قال ابن إسحاق: {وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ} ، لما عرف من ضعفكم، وما النصر إلا من عندي بسلطاني وقدرتي، وذلك أني أعرف الحكمة لا إلى أحد من خلقي. قال ابن زيد: وما النصر إلا من عند الله، ولو شاء الله أن ينصركم بغير الملائكة فعل. {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ، أي: العزيز الذي لا يغالب. الحكيم: في أقواله وأفعاله. وقوله تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} . قال الحسن: هذا يوم بدر قطع الله طائفة منهم، وبقيت طائفة. وقال ابن إسحاق: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} ، أو يردهم خائبين، أو يرجع من بقي منهم خائبين لم ينالوا شيئًا مما كانوا يأملون.

قوله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (129) } . عن أنس قال: (قاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، وكسرت رباعيته، وشج، فجعل يمسح عن وجهه الدم ويقول: «كيف يصلح قوم خضبوا نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم» ! ؟ فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} ) . رواه ابن جرير وغيره. قال ابن إسحاق: أي: ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم، أتوب عليهم برحمتي؛ فإن شئت فعلت، أو أعذبهم بذنوبهم فإنهم ظالمون، أي: قد استحقوا ذلك بمعصيتهم إياي. وعن ابن عمر: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو على أربعة نفر، فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} . قال: وهداهم الله للإسلام) . رواه ابن جرير. وقوله تعالى: {وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . قال ابن إسحاق: أي: يغفر الذنوب، ويرحم العباد على ما فيهم. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) } .

قال عطاء: كانت ثقيف تداين في بني المغيرة في الجاهلية، فإذا حلّ الأجل قالوا: نزيدكم وتؤخرون. فنزلت: {لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} . وقال ابن زيد في قوله: {لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} كان أبيّ يقول: إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف، وفي السِّن، يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حلّ الأجل، فيقول له: تقضيني وتزيدني. فإن كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوله إلى السِّن التي فوق ذلك. قوله عز وجل: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) } . قال ابن إسحاق: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ، أي: ذلك لمن أطاعني وأطاع رسولي. قال قتادة: كانوا يرون الجنة فوق السماوات السبع تحت العرش، وأن جهنم تحت الأرضين السبع. وقال ابن عباس في قوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء} يقول: في

اليسر والعسر. وقال قتادة: قوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، قوم أنفقوا في العسر واليسر، والجهد والرخاء، فمن استطاع أن يغلب الشر بالخير فليفعل ولا قوة إلا بالله فنعمت والله يا ابن آدم الجرعة تجرعها من صبر وأنت مغيظ، وأنت مظلوم. وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كظم غيظًا وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنًا وإيمانًا» . رواه ابن جرير. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، الفاحشة: الزنا، والكبائر. وقوله: {أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} ، أي: بالصغائر. قال ابن مسعود: كانت بنو إسرائيل إذا أذنبوا ذنبًا أصبح مكتوبًا على بابه الذنب وكفارته، فأعطينا خيرًا من ذلك هذه الآية. قال ابن إسحاق: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} ، أي: إن أتوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم بمعصية ذكروا نهي الله عنها، وما رحم عليهم، فاستغفروا لها وعرفوا أنه لا يغفر الذنوب إلا هو. وقال قتادة في قوله: {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فإياكم والإِصرار فإنما هلك المصرون الماضون قدمًا، لا ينهاهم مخافة الله عن حرام حرّمه الله عليهم، ولا يتوبون من ذنب أصابوا حتى أتاهم الموت وهم على ذلك.

وفي الحديث الصحيح يقول الله عز وجل: (يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك) . وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} . قال ابن إسحاق: أي: ثواب المطيعين. والله أعلم. * * *

الدرس السابع والأربعون

الدرس السابع والأربعون {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) } .

قوله عز وجل: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143) } . قال مجاهد في قوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} ، يقول في الكفار والمؤمنين، والخير والشر. قال ابن إسحاق استقبل ذكر المصيبة التي نزلت بهم، يعني: بالمسلمين يوم أحد، والبلاء الذي أصابهم، والتمحيص لما كان فيهم، واتخاذه الشهداء منهم، فقال تعزية لهم وتقريعًا لهم فيما صنعوا، وما هو صانع بهم: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} ، أي: قد مضت مني وقائع نقمة في أهل التكذيب لرسلي، والشرك في عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين، فسيروا في الأرض تروا مثلات قد مضت فيهم، ولمن كان على مثل ما هم عليه مثل ذلك مني، وإن أمكنت لهم. وقوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} . قال قتادة: هذا بيان للناس، وهو: هذا القرآن جعله الله بيانًا للناس عامة، وهدى وموعظة للمتقين خاصة.

وقوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} . قال قتادة: يعزي أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كما تسمعون، ويحثهم على قتال عدوهم، وينهاهم عن العجز والوهن في طلب عدوهم في سبيل الله. وقال ابن إسحاق: {وَلاَ تَهِنُوا} ، أي: لا تضعفوا، {وَلاَ تَحْزَنُوا} ولا تأسوا على ما أصابكم، {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} ، أي: لكم تكون العاقبة والظهور. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، إن كنتم صدَّقتم. يعني: بما جاءكم به عني. وقوله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} . قال قتادة: والقرح: الجراحة، وذاكم يوم أحد فشا في أصحاب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ القتل، والجراحة. فأخبرهم الله عز وجل أن القوم قد أصابهم من ذلك مثل الذي أصابكم، وإن الذي أصابكم عقوبة. وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} . قال الربيع: فأظهر الله عز وجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على المشركين يوم بدر، وأظهر عليهم عدوهم يوم أحد، وقد ينال الكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر؛ ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه، ويعلم الصادق من الكاذب، وأما من ابتلى منهم من المسلمين يوم أحد: فكانت عقوبة بمعصيتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} . قال قتادة: فكرم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوهم، ثم تصير حوامل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله. وقوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} . قال ابن إسحاق: وليمحص الله الذين آمنوا، أي: يختبر الذين آمنوا حتى يخلصهم بالبلاء الذي نزل بهم، وكيف صبرهم ويقينهم. وقال ابن زيد في قوله: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} ، قال: يمحق من محق في الدنيا، وكان بقية من يمحق في الآخرة في النار.

وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} ، قال ابن إسحاق: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وتصيبوا من ثوابي الكرامة، ولم أختبركم بالشدة وأبتليكم بالمكاره حتى أعلم أصدق ذلك منكم الإيمان بي، والصبر على ما أصابكم بي. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} . قال مجاهد: غاب رجل عن بدر فكانوا يتمنون مثل يوم بدر أن يلقوه، فيصيبوا من الخير والأجر مثل ما أصاب أهل بدر، فلما كان يوم أحد ولّى من ولّى منهم، فعاتبهم الله على ذلك. قوله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) } . قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} . قال قتادة: ذلكم يوم أحد حين أصابهم: القرح، والقتل، ثم تنازعوا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بقية ذلك، فقال أناس: لو كان نبيًا ما قتل، وقال ناس من علية أصحاب

نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: قاتلوا على ما قاتل عليه محمد نبيكم حتى يفتح الله لكم، أو تلحقوا به. فقال الله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} . يقول: إن مات نبيكم أو قتل ارتددتم كفارًا بعد إيمانكم. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} أي: لا يموت أحد حتى يستوفي المدة التي أجّل الله له. {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} . قال ابن إسحاق: أي: فمن كان منكم يريد الدنيا ليست له رغبة في الآخرة نؤته منها ما قسم له منه من رزق، ولا حظ له في الآخرة، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ما وعده مع ما يجري عليه من رزقه في دنياه، {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} ، أي: ذلك جزاء الشاكرين، يعني بذلك: إعطاء الله إياه ما وعده في الآخرة مع ما يجري عليه من الرزق في الدنيا. وقوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} . قال ابن عباس: جموع كثيرة. وقال ابن زيد: الربيون: الأتباع. والربانيون: الولاة. وقوله تعالى: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} . قال ابن إسحاق: فما وهنوا لفقد نبيهم، وما ضعفوا عن عدوهم وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم، وذلك الصبر. والله يحب الصابرين. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال مجاهد في قول الله: {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} ، قال: خطايانا، وظلمنا أنفسنا. وقال ابن إسحاق: أي: فقولوا

كما قالوا، أو اعلموا أنما ذلك بذنوب منكم واستغفروا كما استغفروا، وامضوا على دينكم كما مضوا، ولا ترتدوا على أعقابكم راجعين، واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم، واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين، فكل هذا من قولهم قد كان، وقد قتل نبيهم فلم يفعلوا كما فعلتم. وقوله تعالى: {فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، قال قتادة: أي: والله، لآتاهم الله الفتح والظهور والتمكين، والنصر على عدوهم في الدنيا، {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} يقول: حسن الثواب في الآخرة هي: الجنة. والله أعلم. * * *

الدرس الثامن والأربعون

الدرس الثامن والأربعون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) } . قال ابن إسحاق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} ، أي: عن دينكم، فتذهب دنياكم وآخرتكم، بل الله مولاكم إن كان ما تقولون بألسنتكم صدقًا في قلوبكم، وهو خير الناصرين. أي: فاعتصموا به ولا تستنصروا بغيره، ولا ترجعوا على أعقابكم مرتدين عن دينكم. وقوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} ، قال السدي: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة، انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق، ثم أنهم ندموا، فقالوا: بئس ما صنعتم أنكم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب فانهزموا، فلقوا أعرابيًا فجعلوا له جُعْلاً، وقالوا له: إن لقيت محمدًا فأخبرهم بما قد جمعنا لهم، فأخبر الله عز وجل رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، فأنزل الله عز وجل في ذلك. فذكر أبا سفيان حين أراد أن يرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما قذف في قلبه من الرعب، فقال: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ} .

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) } . عن ابن عباس: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ} ، فإن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوال حتى نزل أحدًا، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأذَّن في الناس فاجتمعوا، وأمّر على الخيل الزبير بن العوام ومعه يومئذٍ المقداد بن الأسود الكندي، وأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللواء رجلاً من قريش، يقال له: مصعب بن عمير، وخرج حمزة بن عبد المطلب بالجيش، وبعث حمزة بين يديه، وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزبير وقال: استقبل خالد بن الوليد فكن بإيذائه حتى أؤذنك، وأمر بخيل أخرى فكانوا من جانب آخر، فقال: لا تبرحوا حتى أؤذنكم، وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الزبير أن يحمل فحمل على خالد بن الوليد فهزمه ومن معه، فقال: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ} ، يقول: تقتلونهم، {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ} ، وأن الله وعد المؤمنين أن ينصرهم.

قال ابن إسحاق: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} ، أي: تجادلتم، {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} ، أي: اختلفتم في أمري، {وَعَصَيْتُم} ، أي: تركتم أمر نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وما عهد إليكم، يعني: الرماة، {مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ} ، أي: الفتح لا شك فيه، وهزيمة القوم عن نسائهم وأموالهم. وقوله تعالى: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} ، قال الضحاك: فإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمّر يوم أحد طائفة من المسلمين، فقال: «كونوا مسلحة للناس» ، بمنزلة أمرهم أن يثبتوا بها، وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتى يأذن لهم، فلما لقي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد أبا سفيان ومن معه من المشركين هزمهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى المسلحة أن الله عز وجل هزم المشركين، انطلق بعضهم وهم يتنادون: الغنيمة، الغنيمة لا تفتكم، وثبت بعضهم مكانهم وقالوا: لا نريم موضعنا حتى يأذن لنا نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، ففي ذلك نزل منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة، فكان ابن مسعود يقول: ما شعرت أن أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد. وقوله تعالى: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، قال ابن إسحاق: ثم صرفكم عنهم ليبتليكم، أي: صرفكم عنهم ليختبركم، وذلك ببعض ذنوبكم. وقال ابن جريج في قوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} ، قال: لم يستأصلكم، قال الحسن: هؤلاء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي سبيل الله، غضاب لله، يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فصنعوه، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم، فأفسق الفاسقين اليوم يفعل كل كبيرة ويركب كل داهية ويسحب عليها ثيابه، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم.

وقال ابن إسحاق في قوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، يقول: وكذلك منّ الله على المؤمنين: إن عاقبتهم ببعض الذنوب في عاجل الدنيا أدبًا وموعظة، فإنه غير مستأصل لكل ما فيهم من الحق له عليهم لما أصابوا من معصيته رحمة لهم، وعائدة عليهم لما فيهم من الإِيمان. وقوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} ، قال قتادة: ذاكم يوم أحد صعدوا في الوادي ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم في أخراهم، قال: «إليّ عباد الله» ، قال السدي: لما شد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم، دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس: «إليّ عباد الله، إليّ عباد الله» . قال ابن إسحاق: أنبئهم الله بالفرار عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعوهم لا يعطفون عليه لدعائه إياهم، فقال: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} . وقوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ، قال قتادة: {فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ} : كانوا تحدثوا يومئذٍ أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أصيب، وكان الغم الآخر قتل أصحابهم والجراحات التي أصابتهم. وقال الربيع: الغم الأول: الجراح، والقتل، والغم الآخر حين سمعوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قتل، فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح، والقتل، وما كانوا يرجون من الغنيمة، وذلك حين يقول: {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . قوله عز وجل: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ

الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) } . قال قتادة في قوله: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} الآية، وذاكم يوم أحد كانوا يومئذٍ فريقين، فأما المؤمنون: فغشاهم النعاس أمنة منه ورحمة، والطائفة الأخرى: المنافقون. ليس لهم همٌّ إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه، وأخذله للحق، يظنون بالله غير الحق، ظن الجاهلية ظنونًا كاذبة، إنما هم أهل شك وريبة في أمر الله، {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} . قال ابن جريج: قيل لعبد الله بن أُبيّ: قتل بنو الخزرج اليوم، قال: وهل لنا من الأمر من شيء؟ وعن الزبير قال: والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا. وقوله تعالى: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} ، قال ابن إسحاق: ذكر الله تلاوم المنافقين وحسرتهم على ما أصابهم، ثم قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: قل: لو كنتم في بيوتكم لم تحضروا هذا الموضع الذي أظهر الله جل ثناؤه فيه منكم ما أظهر من سرائركم؛ لأخرج الذين كتب عليهم القتل إلى مواطن غيره يصرعون فيه؛ حتى يبتلي به ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم، {وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، أي: لا يخفى عليه شيء مما في صدوركم

، {وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، أي: لا يخفى عليه شيء مما في صدورهم مما استخفوا به منكم. وقال ابن جرير في تفسيره قوله تعالى: {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} ، يقول: لظهر للموضع الذي كتب عليه مصرعه فيه من قد كتب عليه القتل منهم. وقال ابن كثير: أي: هذا قدر قدَّره الله عز وجل، وحكم حق لا محيد عنه ولا مناص منه. وقال في جامع البيان: أي: لخرج الذين قدّر عليهم القتل إلى مصارعهم منكم، فلم يستطيعوا الإِقامة في المدينة. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} ، قال قتادة: وذلك يوم أحد، ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تولوا عن القتال، وعن نبي الله يومئذٍ، وكان ذلك من أمر الشيطان وتخويفه، فأنزل الله عز وجل ما تسمعون أنه قد تجاوز لهم عن ذلك وعفا عنهم، والله أعلم. * * *

الدرس التاسع والأربعون

الدرس التاسع والأربعون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللهِ واللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ

لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ (158) } . قال ابن إسحاق في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} الآية، أي: لا تكونوا كالمنافقين الذين ينهون إخوانهم عن الجهاد في سبيل الله، والضرب في الأرض في طاعة الله وطاعة رسوله، ويقولون إذا ماتوا أو قتلوا: لو أطاعونا ما ماتُواْ أو قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم. لقلة اليقين بربهم جل ثناؤه: {وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، أي: يجعل ما يشاء، ويؤخر ما يشاء من آجالهم بقدرته: {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، فيجازي كل عامل بعمله. وقوله تعالى: {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} ، أي: الموت كائن لا بد منه، فموت في سبيل الله أو قتل خير مما يجمعون في الدنيا. وقوله تعالى: {وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} ، قال ابن إسحاق: {وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} ، أي: ذلك كان: {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} ، أي: أن إلى الله المرجع فلا تغرنكم الدنيا ولا تغتروا بها.

قوله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) } . قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ} : ما مزيدة للتأكيد. قال قتادة: في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ} ، يقول: فبرحمة من الله لنت لهم. {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} ، أي: والله طهره من الفظاظة والغلظة، وجعله قريبًا رحيمًا بالمؤمنين رؤوفًا. قال ابن عباس: {لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} ، قال: انصرفوا عنك. وقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} ، قال ابن إسحاق: {فَاعْفُ عَنْهُمْ} ، أي: فتجاوز عنهم: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، ذنوب من قارف من أهل الإِيمان منهم. وقال قتادة في قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} أمر الله عز وجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء، لأنه أطيب لأنفس القوم، وأن القوم إذا شاور بعضهم بعضًا وأرادوا بذلك وجه الله، عزم لهم على أرشده. وقوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} ، قال الربيع: أمره الله إن عزم على أمرٍ أن يمضي فيه ويتوكل عليه. وقوله تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ، أي: النصر والخذلان بيده، يعز من يشاء ويذل من يشاء.

قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللهِ واللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (164) } . قال ابن عباس: (إن هذه الآية نزلت: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ} في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر قال: فقال بعض الناس: أخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فأكثروا في ذلك، فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ) . وقال الكلبي: (نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز للغنيمة. وقالوا: نخشى أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من أخذ شيئًا فهو له، وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر. فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم. فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري» ؟ قالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفًا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بل ظننتم أن نغل ولا نقسم» . فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقوله تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، أي: سواء كان من الغنيمة أو الصدقة، أو غير ذلك، كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا ألفينّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ينادي: يا محمد يا محمد. فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا قد بلّغتك» .

وفي الحديث الآخر: «يا أيها الناس، من بعثناه على عمل ففعل شيئًا، جاء يوم القيامة على عنقه يحمله» . وقوله تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} ، قال ابن إسحاق: ثم يجزى بكسبه غير مظلوم ولا معتدى عليه. وقوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ، قال الضحاك: وقوله: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ} قال: من لم يغل كمن باء بسخط من الله؟ كمن غل؟ وقال ابن إسحاق: يقول: أفمن كان على طاعتي فثوابه الجنة ورضوان من ربه، كمن باء بسخط من الله، فاستوجب غضبه، وكان مأواه جهنم وبئس المصير؟ أسَوَاءٌ المَثَلان؟ أي: فاعرفوا. وقوله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللهِ واللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} ، قال ابن عباس: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللهِ} ، يقول: بأعمالهم. {واللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} ، قال ابن إسحاق: يقول: إن الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته. وقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} ، قال ابن إسحاق: أي: لقد من الله عليكم يا أهل الإيمان، إذ بعث فيكم رسولاً من أنفسكم، يتلو عليكم آياته ويزكيكم، فما أخذتم وفيما عملتم، {وَيُعَلِّمُكُمُ} الخير والشر: الخير لتعرفوا فتعملوا به، والشر فتتقوه، ويخبركم برضاه عنكم إذ أطعتموه لتستكثروا من طاعته، وتجتنبوا ما سخط منكم من معصيته، فتخلصوا بذلك من نقمته، وتدركوا بذلك ثوابه من جنته. وإن كنتم من قبل لفي ضلال مبين، أي: في عمى من الجاهلية لا تعرفون حسنة، ولا

تستغيثون من سيئة، صم عن الحق، عمي عن الهدى. قوله عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (168) } . قال قتادة: أصيب المسلمون يوم أحد مصيبة، وكانوا قد أصابوا مثليها يوم بدر، ممن قتلوا وأسروا، فقال الله عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا} ، وقال عكرمة: قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين، فذلك قوله: {قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} إذ نحن مسلمون نقاتل غضبًا لله، وهؤلاء مشركون! {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} عقوبة لكم بمعصيتكم النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال ما قال. وقال الحسن: معصيتهم أنه قال لهم: لا تتبعوهم يوم أحد، فاتبعوهم. وقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ} قال ابن إسحاق: أي: ما أصابكم حيث التقيتم أنتم وعدوكم، فبإذني كان ذلك حين فعلتم ما فعلتم بعد أن جاءكم نصري وصدقتم، وعدي؛ ليميز بين المنافقين والمؤمنين: ... {وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ} ، أي: ليظهروا ما فيهم.

وقوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} ، قال ابن إسحاق: (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة، انخزل عنهم عبد الله بن أبيّ بن سلول بثلث الناس، فقال: أطاعهم فخرج وعصاني، والله ما ندري على ما نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس! فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حزم أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكّركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوكم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه، وأبو إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم. ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) . يقول الله عز وجل: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} ، أي: يخفون. وقال السدي في قوله: {أَوِ ادْفَعُواْ} يقول: أو كثروا. وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، قال ابن إسحاق: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ} الذين أصيبوا معكم من عشائرهم وقوهم: لو أطاعونا ما قتلوا. {قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، أي: أنه لا بد من الموت، فإن استطعتم أن تدفعوه عن أنفسكم فافعلوا. قال السدي: هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه. قوله عز وجل: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ

يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) } . عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب. مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم. قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب. فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله عز وجل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الآيات» . رواه ابن جرير وغيره. قوله عز وجل: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175) } . قال ابن إسحاق: (كان يوم أحد السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذّن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذن: لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال لي: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء

النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسي، فتخلف على إخواتك فتخلفت عليهن، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج معه، وإنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرهبًا للعدو، وليبغلهم أنه خرج في طلبهم، ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم) . وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، قال قتادة: (انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعصابة من أصحابه بعدما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد خلفهم، حتى كانوا بذي الحليفة، فجعل الأعراب والناس يأتون عليهم فيقولون: هذا أبو سفيان مائل عليكم بالناس. فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأنزل الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . وقوله تعالى: {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} ، قال ابن إسحاق: {وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} لما صرف عنهم من لقاء عدوهم. وقال ابن عباس: أطاعوا الله وابتغوا حاجتهم ولم يؤذهم أحد، {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} . وقوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ} ، أي: يخوفكم بأوليائه، {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، قال مجاهد: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ} قال: يخوف المؤمنين بالكفار. وقال ابن كثير: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ} ، أي: يخوفكم أولياءه، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة. قال الله تعالى: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ

وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} . أي: إذا سول لكم وأوهمكم، فتوكلوا عليّ والجأوا إليّ، فإني كافيكم وناصركم عليهم، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} . والله أعلم. * * *

الدرس الخمسون

الدرس الخمسون {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178) مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ

فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178) } . قال مجاهد في قوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} ، أي: المنافقون، {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ} . قال ابن إسحاق: أن يحبط أعمالهم، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} ، أي: المنافقين {لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، أي: موجع. وقوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} ، كقوله: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} . وقوله: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} . قوله عز وجل: {مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن

يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) } . قال مجاهد في قول الله: {مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} ، قال: ميز بينهم يوم أحد، المنافق من المؤمن. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} ، فتعرفوا المنافق من غيره قبل التمييز، {وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} . قال مجاهد يخلصهم لنفسه. وقوله تعالى: {فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ} ، قال ابن إسحاق: أي: ترجعوا وتتوبوا {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} . وقوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} . قال السدي: هم الذين آتاهم الله من فضله، فبخلوا أن ينفقوها في سبيل الله، ولم يؤدوا زكاتها. وقال ابن مسعود في قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال: ثعبان ينقر رأس أحدهم يقول: أنا مالُك الذي بخلت به. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله، إلا مثّل له شجاع أقرع يطوقه» . رواه ابن جرير وغيره.

قوله عز وجل: {لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) } . قال الحسن: لما نزلت: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً} ، عجبت اليهود فقالت: إن الله فقير يستقرض. فنزلت: {لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ * الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} . قال الكلبي: (نزلت في كعب بن الأشرف وأناس معه من اليهود، أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد تزعم أن الله تعالى بعثك إلينا رسولاً، وأنزل عليك الكتاب، وأن الله تعالى قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار. قال الله تعالى: قل يا محمد: قد جاءكم رسل من قبلي بِالبينات وبالذي قلتم من القربان، فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين؟

قال البغوي: معناه تكذيبهم إياك، مع علمهم بصدقك، كقتل آبائهم الأنبياء، مع الإتيان بالقربان والمعجزات. ثم قال معزيًا لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} ، أي: الواضح المضيء. قال في فتح البيان: البينات: المعجزات. والزبر: الكتب المقصورة على الحكم والمواعظ. والكتاب المنير: الواضح المعنى، المتضمن للشرائع والأحكام. {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} كمتاع يدلس به على المبتاع فيفر ويشتريه، فمن اغتار بها وآثرها فهو مغرور. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ، أي: الشيطان. وقوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} . قال عطاء: من حقيقة الإِيمان. قوله عز وجل: {وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ

فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) } . قال ابن جريج في قوله: {وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ ... الْكِتَابَ} ليبيننه للناس ولا يكتمونه. قال: وكان فيه أن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده وأن محمدًا يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. وقال قتادة: هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم شيئًا فليعلِّمه، وإياكم وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هلكة، ولا يتكلفن رجل ما لا علم له به، فيخرج من دين الله، فيكون من المتكلفين؛ كأن يقال: مَثَلُ عِلْم لا يُقال به كمثل كنز لا ينفق منه، ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب. وكان يقال: طوبى لعالم ناطق، وطوبى لمستمع واع، هذا رجل علّم علمًا فعلّمه وبذله ودعا إليه، ورجل سمع خيرًا فحفظه ووعاه وانتفع به. وقال الشعبي في قوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ} ، قال: إنهم قد كانوا يقرأون: إنما نبذوا العمل به. وقوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} ، أي: منجاة، {مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال الضحاك: فرح اليهود باجتماعهم على كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: قد جمع الله كلمتنا. وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن أهل الصلاة والصيام، وكذبوا، بل هم أهل كفر وشرك وافتراء على الله. وقال ابن زيد: هؤلاء المنافقون يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لو قد خرجت لخرجنا معك، فإذا خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - تخلفوا وكذبوا ويفرحون بذلك، ويرون أنها حيلة احتالوا بها. وقال البغوي: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ} ، قال الفراء: بما فعوا.

وقال ابن كثير: وقوله تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} الآية، يعني بذلك: المرائين المتكثرين بما لم يعطوا، وذكر أقوال المفسرين ثم قال: ولا منافاة، لأن الآية عامة في جميع ما ذكر. والله أعلم) . انتهى. وقوله تعالى: {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، أي: فهو الغني القادر لا يحتاج إلى أحد، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} . والله أعلم. * * *

الدرس الحادي والخمسون

الدرس الحادي والخمسون {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللهِ وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللهِ وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) } .

قوله عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) } . قال ابن جريج في قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ} ، قال: هو ذكر الله في الصلاة وفي غير الصلاة، وقراءة القرآن. وقوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . قال ابن عوف: الفكرة: تذهب الغفلة، وتحدث للقلب الخشية، كما يحدث الماء للزرع النماء. وقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} ، عن الأشعث الجمل قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد أرأيت ما تذكر من الشفاعة حق هو؟ قال: نعم حق. قلت: يا أبا سعيد أرأيت قول الله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} ، يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها. فقال لي: إنك والله لا تستطيع على شيء، إن للنار أهلاً لا يخرجون منها كما قال الله. قلت: يا أبا سعيد فيم دخلوا ثم خرجوا؟ قال: كانوا أصابوا ذنوبًا في الدنيا فأخذهم الله بها، فأدخلهم بها، ثم أخرجهم بما يعلم في قلوبهم من الإيمان والتصديق به.

وقوله تعالى: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} المنادي: هو: القرآن. قال محمد بن كعب القرظي: هو الكتاب، ليس كلهم لقي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ، أي: لا بد من الميعاد الذي أخبرت عنه رسلك، وهو القيام بين يديك، {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} ، ولا تخزنا فإننا قد آمنا بك وبكتابك ونبيك. قوله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللهِ وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) } . عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله تذكر الرجال في الهجرة ولا تذكر النساء، فنزلت: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} الآية. وقوله: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} ، قال الكلبي: في الدين والنصرة والموالاة. وقال ابن كثير: أي: جميعكم في ثوابي سواء. وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً

مِّن عِندِ اللهِ وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أول ثلة تدخل الجنة لفقراء المهاجرون الذين تُتَّقى بهم المكاره، إذا أُمروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول: أي: عبادي الذين قتلوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة، فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب» . رواه ابن جرير. قوله عز وجل: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللهِ وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (198) } . قال ابن جرير في قوله تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ} فنهى الله تعالى ذكره نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الاغترار بضربهم في البلاد، وإمهال الله إياهم مع شركهم وجحودهم نعمه وعبادتهم غيره. وخرج الخطاب بذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمعنيّ به غيره من أتباعه. وقال قتادة: والله ما غروا نبي الله، ولا وكل إليهم شيئًا من أمر الله حتى قبضه الله على ذلك. وقوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللهِ وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} . قال ابن زيد: لمن يطيع الله. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إنما سماهم الله الأبرار؛ لأنهم بروا الآباء والأبناء.

قوله عز وجل: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) } . قال قتادة في قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ} الآية، نزلت في النجاشي وفي ناس من أصحابه، آمنوا بنبي الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقوا به. قال: وذكر لنا (أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - استغفر للنجاشي وصلى عليه حين بلغه موته. قال لأصحابه: «صلوا على أخ لكم قد مات بغير بلادكم» . فقال أناس من أهل النفاق: يصلي على رجل مات ليس من أهل دينه؟ فأنزل الله هذه الآية: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . وقال ابن جريج: نزلت في عبد الله بن سلام ومن معه. وقال مجاهد: هم مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى. قال ابن جرير: وقد تنزل الآية في الشيء ثم يعم بها كل من كان في معناه، فالآية وإن كانت نزلت في النجاشي، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم

الذي حكم به للنجاشي، حكمًا لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشي في إتباعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتصديق بما جاءهم به من عند الله، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك من اتباع أمر الله فيما أمر به عباده في الكتابين: التوراة، والإنجيل. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . قال قتادة: أي اصبروا على طاعة الله، وصابروا أهل الضلالة، ورابطوا في سبيل الله، واتقوا الله لعلكم تفلحون. وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرابط، فذلكم الرباط» . رواه مسلم وغيره. وقال محمد بن كعب القرظي في قوله: {وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غدًا إذا لقيتموني. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء، فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} . ثم قام فتوضأ واستن، ثم صلى إحدى عشر ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح) . متفق عليه. وفي رواية لمسلم: (ثم قرأ العشر آيات الخواتم من سورة آل عمران) . وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: «من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة» . رواه الدرامي. والله أعلم. * * *

الدرس الثاني والخمسون

الدرس الثاني والخمسون [سورة النساء] مدنية، وهي مائة وست وسبعون آية ... قال ابن مسعود: خمس آيات من النساء أحب إلّي من الدنيا جميعًا: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} . وقوله: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} . وقوله: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} . وقوله: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} . وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} . بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى

وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُواْ (3) وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً (4) وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (5) وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً (6) لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) } . قال السدي: أسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحشًا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه فسألها: من أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: تسكن إليّ. {وَبَثَّ} خلق، {مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} يقول: اتقوا الأرحام، واتقوا الأرحام لا تقطعوها. وقال ابن عباس: واتقوا الله في الأرحام فصلوها، {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} . قال مجاهد: حفيظًا. وقال ابن زيد: {رَقِيباً} على أعمالكم يعلمها ويعرفها. قوله عز وجل: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُواْ (3) وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً (4) } . قال مجاهد في قول الله تعالى: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} ، قال: الحلال بالحرام. قال السدي: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل مكانها الشاة المهزولة، ويقول: شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف، ويقول: درهم بدرهم. وقال ابن زيد: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء، ولا يورثون الصغار، يأخذه الأكبر.

وقال مجاهد في قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} ، يقول: لا تأكلوا أموالكم وأموالهم تخلطوها، فتأكلوها جميعًا، {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} ، قال ابن عباس: إثمًا عظيمًا. وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن هذه الآية فقالت: يا ابن أختي، هي: اليتيمة تكون في حِجر ولِّيها، فيرغب في مالها وجمالها، ويريد أن ينكحها بأدنى صداقها، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في كمال الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما سواهُنَّ من النساء. وفي رواية: هي: اليتيمة تكون عند الرجل وهي ذات مال، فلعله ينكحها لمالها وهي لا تعجبه، ثم يضربها ويسيء صحبتها. وقال قتادة في قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُواْ} ، يقول: كما خفتم الجَوَار في اليتامى همكم ذلك. فكذلك فخافوا في جميع النساء. وكان الرجل في الجاهلية يتزوج العشر فما دون ذلك، فأحل الله جل ثناؤه أربعًا، ثم الذي صيرهن إلى أربع قوله: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} . {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} ، وإن خفت أن لا تعدل في أربع، فثلاث، وإلا فاثنتين، وإلا فواحدة، وإن خفت أن لا تعدل في واحدة فما ملكت يمينك. وقال ابن عباس في قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُواْ} ، يعني: أن لا تميلوا. وقوله تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} . قال قتادة في قوله: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} ، يقول: فريضة. وقال ابن عباس: يعني بالنحلة: المهر، {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} ، يقول: إذا كان غير إضرار ولا خديعة، فهو هنيء مريء، كما قال الله جل ثناؤه. وعن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوج أيّمًا أخذ صداقها

دونها، فنهاهم الله تبارك وتعالى عن ذلك، ونزلت: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} الآية. وقال ابن زيد: النحلة في كلام العرب: الواجب، يقول: لا ينكحها إلا بشيء واجب لها صدقة، يسميها لها واجبة، وليس ينبغي لأحد أن ينكح امرأة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا بصداق واجب، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبًا بغير حق. قوله عز وجل: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (5) وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً (6) } . قال الحسن في قوله: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ} ، لا تعطوا الصغار، والنساء. وقال قتادة في قوله: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً} ، أمر الله بهذا المال أن يخزن فيحسن خزانته، ولا يملكه المرأة السفيهة، والغلام السفيه. وقوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} . قال ابن عباس: يقول الله سبحانه: لا تعمد إلى مالك وما خوّلك الله، وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك أو بنيك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلح وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم، ورزقهم ومئونتهم. وقال مجاهد في قوله: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} ، قال: أمروا أن يقولوا لهم قولاً معروفًا في البر والصلة. وقال ابن جريج: عدة تعدوهم. وقوله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} قال ابن عباس: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى} اختبروهم، {حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} . قال: عند الحلم، {فَإِنْ

آنَسْتُم} قال: عرفتم {مِّنْهُمْ رُشْداً} في حالهم والإصلاح في أموالهم، {فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} ، يعني: أكل مال اليتيم مبادرًا أن يبلغ، فيحول بينه وبين ماله وقوله تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ، أي: بالتي هي أحسن. قال إبراهيم: ليس بلبس الكتان ولا الحلل، ولكن ما سد الجوع ووارى العورة. وجاء أعرابي إلى ابن عباس فقال: إن في حجري أيتامًا، وإن لهم إبلاً ولي إبل، وأنا أمنح في إبلي وأفقر، فماذا يحل من ألبانها؟ قال: إن كنت تبغي ضالتها، وتهنأ جرباها، وتلوط حوضها، وتستقي ... عليها، فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب. قوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً} قال ابن عباس: إذا دفع إلى اليتيم مال فليدفعه إليه بالشهود، كما أمره الله تعالى. وقال ابن كثير: {وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً} ، أي: وكفى بالله محاسبًا وشاهدًا ورقيبًا على الأولياء، في حال نظرهم للأيتام، وحال تسليمهم لأموالهم، هل هي كاملة موفرة أو منقوصة مبخوسة، مروج حسابها، مدلس أمرها؟ الله عالم بذلك كله. قوله عز وجل: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ

عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) } . قال قتادة: كانوا لا يورثون النساء، فنزلت: {وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} . وقوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} . قال الشعبي: هي: محكمة، وقال: واجب، ما طابت به نفس أهل الميراث. وقال ابن عباس: أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم ويتاماهم بالوصية، إن كان أوصى، وإن لم تكن وصية وصل إليهم من مواريثهم. وقال سعيد بن جبير، والحسن: ذلك عند قسمة الميراث، إن كان الميراث لمن قد أدرك، فله أن يكسوا منه، وأن يطعم الفقراء والمساكين، وإن كان الميراث ليتامى صغار، فيقول الولي: إنه ليتامى صغار ويقول لهم قولاً معروفًا. وقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} . قال ابن عباس: يعني: الذي يحضره الموت فيقال له: تصدق من مالك، وأعتق وأعط منه في سبيل، فنهوا أن يأمروه بذلك، يعني: أنه من حضر منكم عند الموت فلا يأمره أن ينفق ماله في العتق، أو الصدقة، أو في سبيل الله، ولكن يأمره أن يبين ماله، وما عليه من دين، ويوصي في ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون، ويوصي لهم بالخمس أو الربع. يقول: أليس يكره أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف، يعني: صغار. أن يتركهم بغير مال. فيكونوا عيالاً على الناس؟ فلا ينبغي أن تأمروا بما لا ترضون به لأنفسكم ولا أولادكم، ولكن قولوا الحق من ذلك. وقال قتادة في قوله: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} يقول: فليأمره بالعدل والإحسان، ولينهه عن الحيف والجور في وصيته، وليخش على عياله ما كان خائفًا على عياله لو نزل به الموت.

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} ، قال السدي: إذا قام الرجل بأكل مال اليتيم ظلمًا، يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه، ومن مسامعه، ومن أذنيه، وأنفه، وعينيه يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم. وقال ابن عباس: (لما نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} الآية. انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله أو يفسده، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله: {َيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم) . والله أعلم. * * *

الدرس الثالث والخمسون

الدرس الثالث والخمسون {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (14) } . * * *

قوله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} . قال ابن عباس في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} ، كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس مع الولد، وللزوج الشطر والربع، وللزوجة الربع والثمن. وقوله تعالى: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} ، يعني: للبنتين فما فوق الثلثان، وللبنت الواحدة النصف. وعن جابر رضي الله عنه قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيدًا وإنَّ عَمَّهُمَا أخذ مالَهُمَا فلم يدع لهما مالاً ولا يُنْكَحَانِ إِلا وَلَهُمَا مَال. قال: فقال: «يقضي اللَّهُ في ذلك» . فنزلت آية الميراثِ، فأرسل رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى عَمِّهِمَا فقال: «أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وما بقِيَ فهو لك» . رواه أحمد، وأبو داود وغيرهما. قوله عز وجل: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ

السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً (11) } . الأبوان لهما في الإرث أحوال: أحدها: أن يجتمعا مع الأولاد فيفرض لكل واحد منهما السدس، فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة فرض لها النصف، وللأبوين لكل واحد منهما السدس، وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب. الحال الثاني: (أن ينفرد الأبوان بالميراث، فيفرض للأم الثلث، ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب، فلو كان معهما زوج، أو زوجة أخذ الزوج النصف، والزوجة الربع، وأخذت الأم ثلث الباقي، ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب. والحال الثالث: وهو اجتماعهما مع الأخوة سواء كانوا من الأبوين، أو من الأب، أو من الأم، فإنهم لا يرثون مع الأب شيئًا، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، ولا يحجبها الواحد عن الثلث. وقوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، عن علي رضي الله عنه قال: (إنكم تقرءون هذه الآية: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية) . رواه ابن جرير وغيره. قال ابن كثير: (أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدَّين مقدم على الوصية، وذلك عند إمعان النظر فيهم من فحوى الآية الكريمة) . انتهى. وقوله تعالى: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} . قال ابن زيد: أيهم خير لكم في الدين والدنيا، الوالد والولد الذين يرثونكم لم يدخل عليكم غيرهم فرض لهم المواريث لم يأت بآخرين يشركونهم في أموالكم.

وقوله تعالى: {فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً} . قال ابن كثير: أي: هذا الذي ذكرناه من تفضيل الميراث وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض هو فرض من الله حكم به، وقضاه، {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً} . قوله عز وجل: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . أولاد البنين وإن سلفوا حكم أولاد الصلب، سواء كان الولد واحدًا أو جماعة، ذكرًا أو أنثى، يحجبون الزوج من النصف إلى الربع، ويحجبون الزوجة من الربع إلى الثمن، وإذا كان للرجل أكثر من زوجة اشتركن في الربع أو الثمن. قوله عز وجل: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) } . قوله تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ} . قال ابن عباس: الكلالة: من لا ولد له ولا والد. وقال قتادة: قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ} ، والكلالة: الذي لا ولد له، ولا والد، [و] لا أب، ولا جد، ولا ابن،

ولا ابنة، فهؤلاء الإخوة من الأم. إن كان واحدًا فله السدس، وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث. ذكرهم وأنثاهم فيه سواء. وقوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} . قال قتادة: إن الله تبارك وتعالى كره الضراء في الحياة وعند الموت، ونهى عنه، وقدم فيه فلا تصلح مضارة في حياة ولا موت، وقال ابن عباس: الضرار، والحيف في الوصية من الكبائر. وقوله تعالى: {وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} ، أي: علم بالمضار وغيره، حليم لا يعاجل بالعقوبة. قال ابن جريج: وأما قوله: {وَصِيَّةً} فإن نصبه من قوله: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} ، وسائر ما أوصى به في الأثنين , ثم قال: {وَصِيَّةً مِّنَ الله} مصدرًا من قوله: {يُوصِيكُمُ} . انتهى. قوله عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (14) } . قال ابن عباس: قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} ، يعني: طاعة الله، يعني: المواريث التي سمى الله. وقال قتادة: تلك حدود الله التي حد لخلقه، وفرائضه بينهم من الميراث والقسمة، فانتهوا إليها ولا تعدوها إلى غيرها.

وقوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} . قال ابن جرير: فإن قال قائل: أو يخلد في النار من عصى الله ورسوله في قسمة المواريث؟ قيل: نعم إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكًا في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين، أو علم ذلك فحادّ الله ورسوله في أمرهما، على ما ذكر ابن عباس من قول من قال: حين نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} إلى تمام الآيتين، أيورث من لا يركب الفرس، ولا يقاتل العدو، ولا يحوز الغنيمة، نصف المال أو جميع المال؟ استنكارًا منهم قسمة الله ما قسم لصغار ولد الميت، ونسائه وإناث ولده، والله أعلم. * * *

الدرس الرابع والخمسون

الدرس الرابع والخمسون {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً (21) } . * * *

قوله عز وجل: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً (16) } . قال ابن عباس: كانت المرأة إذا زنت حُبست في البيت حتى تموت، ثم أنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} ، فإن كانا محصنين رجما، فهذا سبيلهما الذي جعل الله لهما. وفي حديث عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكران يجلدان وينفيان سنة، والثيبان يجلدان ويرجمان» . قال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} ، قول من قال: السبيل التي جعلها الله جل ثناؤه للثيبين المحصنين: الرجم بالحجارة، وللبكرين: جلد مائة ونفي سنة، لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه رجم ولم يجلد. وقوله تعالى: {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً} ، قال ابن عباس: يؤذي بالتعيير، وضرب النعال.

قال البغوي: (فإن قيل: ذكر الحبس في الآية الأولى، وذكر في هذه الآية الإيذاء، فكيف وجه الجمع؟ قيل: الآية الأولى في النساء، وهذه في الرجال، وهو قول مجاهد. وقيل: الآية الأولى في الثيب، وهذه في البكر) . انتهى. وقيل: نزل {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا} ، في اللذين يعملان عمل قوم لوط، قال مجاهد: كل ذلك نسخته الآية التي في النور بالحد المفرض. قوله عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18) } . قال مجاهد في قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ} ، من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع من معصيته. وقوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} ، قال الضحاك: كل شيء قبل الموت فهو قريب له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت فليس له ذاك، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» . رواه ابن جرير وغيره. وقال ابن زيد في قوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} ، قال: إذا تبين الموت فيه لم يقبل الله له توبة، وقال ابن عباس: ولا الذين يموتون وهم كفار: أولئك أبعد من التوبة. قال

ابن كثير: يعني: أن الكافر إذا مات على كفره وشركه لا ينفعه ندمه، ولا توبته {أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً (21) } . قال ابن عباس في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً} ، كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، وهم أحق بها من أهلها. فنزلت هذه الآية في ذلك. وقال مجاهد: كان إذا توفي الرجل كان ابنه الأكبر هو أحق بامرأته ينكحها إذا شاء إذا لم يكن ابنها، أو يُنكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه. وقوله تعالى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} ، قال ابن عباس: يعني، الرجل نكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضربها لتفتدي. وقال أبو قلابة: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة فلا بأس أن يضارها، ويشق عليها حتى تختلع منه، وقال ابن عباس: {إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} ، وهو البغض، والنشوز، فإذا فعلت ذلك فقد حل منها الفدية. وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} .

قال ابن جرير: يعني بذلك تعالى ذكره: لا تعضلوا نسائكم لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من غير ريبة ولا نشوز منهن، ولكن عاشروهن بالمعروف. وإن كرهتموهن فلعلكم أن تكرهوهن فتمسكوهن، فيجعل الله في إمساككم إياهن خيرًا كثيرًا، من ولد يرزقكم منهن، أو عطفكم عليهن بعد كراهتكم إياهن. وقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} ، قال مجاهد: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} : طلاق امرأة مكان أخرى، فلا يحل له من مال المطلقة شيء وإن كثر. وقوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} ، قال ابن عباس: الإفضاء: الجماع، ولكن الله كريم يكني. وقال قتادة: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} ، والميثاق الغليظ الذي أخذه للنساء على الرجال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» . رواه مسلم. وقال الربيع بن أنس: كلمة الله هي التشهد في الخطبة، والله أعلم. * * *

الدرس الخامس والخمسون

الدرس الخامس والخمسون {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ

ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً (28) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً (22) } . قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يحرمون ما يَحْرُم إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، فأنزل الله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} ، {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} ، وقال أيضًا: كل امرأة تزوجها أبوك وابنك، دخل أو لم يدخل، فهي عليك حرام. وعن البراء بن عازب: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا بردة إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله، ويأخذ ماله) . رواه الإمام أحمد، وأهل السنن. قوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم

مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) } . قال ابن عباس: حُرّم من النسب سبعٌ، ومن الصِّهر سبعٌ. ثم قرأ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} حتى بلغ: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلا مَا قَدْ سَلَفَ} ، قال: والسابعة: ولا تنكحوا ما نَكح آباؤكم من النساء. قال البغوي: وجملة المحرمات في كتاب الله تعالى أربع عشرة: سبعٌ بالنسب، وسبعٌ بالسبب. فأما السبع بالسبب: فمنها اثنتان بالرضاع، وأربع بالصهرية، والسابعة المحصنات، وهن من ذوات الأزواج. وأما السبع بالنسب: فقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ويدخل فيهن الجدات وإن علونَ، {وَبَنَاتُكُم} ويدخل فيهن بنات الأولاد وإن سفلن، {وَأَخَوَاتُكُمْ} سواء كانت من قِبَل الأب، أو والأم، {وَعَمَّاتُكُم} ويدخل فيهن جميع أخوات آبائك، وأجدادك وإن علوا، {وَخَالاتُكُم} ويدخل فيهن جميع أخوات أمهاتك، وجداتك، {وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} ويدخل فيهن بنات أولاد الأخ، والأخت وإن سفلن. وأما المحرمات بالرضاع: فقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} وجملته: أن يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب. وأما المحرمات بالصهرية: فقوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وجملته: أَن كل من عقد النكاح على امرأة فتحرم على الناكح أمهات المنكوحة وجداتها وإن علون من

الرضاعة والنسب بنفس العقد، {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} الربائب جمع: ربيبة، وهي بنت المرأة، {دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} أي: جامعتموهن، ويحرم عليه أيضا بناتُ المنكوحة وبنات أولادها، وإن سفلن من الرضاع، والنسب بعد الدخول بالمنكوحة، حتى لو فارق المنكوحة قبل الدخول بها أو ماتت جاز له أن ينكح بنتها، ولا يجوز له أن ينكح أُمَّها؛ لأن الله تعالى أطلق تحريم الأمهات وقال في تحريم الربائب: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} ، يعني: أزواج أبنائكم. وجملته: أنه يحرم على الرجل حلائل أبنائه وأبناء أولاده وإن سفلوا من الرضاع والنسب بنفس العقد. وإنما قال: {مِنْ أَصْلابِكُمْ} ليعلم أن حليلة المتبنَّي لا تحرم على الرجل الذي تبناه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج امرأة زيد بن حارثة، وكان زيد قد تبنَّاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. والرابع من المحرمات بالصهرية: حليلةُ الأب والجدّ وإن علا، فتحرم على الولد، وولدِ الولد بنفس العقد، سواء كان الأب من الرضاع، أو النسب؛ لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وكل امرأة تحرم عليك بعقد النكاح تحرم بالوطء في ملك اليمين، والوطء بشبهة. قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} لا يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين في النكاح سواء كانت الأخوّة بينهما بالنسب، أو بالرضاع، وكذلك لا يجوز أن يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها. قوله تعالى: {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} ، يعني: لكن ما مضى فهو معفوٌ عنه، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} . قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني: ذوات الأزواج، لا يحل للغير نكاحُهُنّ قبل مفارقة الأزواج، وهذه السابعة من النساء

اللاتي حُرّمن بالسبب. قال أبو سعيد الخدري: (نزلت في نساء كُنَّ يهاجرن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهن أزواج، فتزوجهن بعض المسلمين، ثم قدم أزواجهن مهاجرين فنهى الله المسلمين عن نكاحهن، ثم استثنى فقال: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، يعني: السبايا اللواتي سُبين ولهن أزواج في دار الحرب، فيحِلُّ لمالِكِهنَّ وطؤهنَّ بعد الاستبراء) . انتهى ملخصًا. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} كل امرأة لها زوج فهي عليك حرام إلا أمة ملكتها ولها زوج بأرض الحرب؛ فهي لك حلال إذا استبرأتها. وقوله تعالى: {كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ} ، أي: كتب الله عليكم تحريم هؤلاء. وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} ، عن ابن جريج قال: سألت عطاء عنها، فقال: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} ، قال: ما وراء ذات القرابة. وقال ابن جرير: إن الله جل ثناؤه بيّن لعباده المحرمات، بالنسب والمصهر، ثم المحرمات من المحصنات من النساء، ثم أخبرهم جل ثناءه أنه قد أحل لهم ما عدا هؤلاء المحرمات، المبيّنات في هاتين الآيتين أن نبتغيه بأموالنا نكاحًا، وملك يمين لا سفاحًا. وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} قال ابن عباس: إذا تزوج الرجل منكم المرأة ثم نكحها مرة واحدة، فقد وجب صداقها كله. والاستمتاع هو: النكاح. وقال مجاهد: نزلت في نكاح المتعة. وفي

الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية) . وقوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} . قال ابن جرير: وذلك نظير قوله جل ثناؤه: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} . وقال ابن كثير: وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة، ولا شك أنه كان مشروعًا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك. وقال البغوي: ذهب عامة أهل العلم أن نكاح المتعة حرام، والآية منسوخة. وعن سبرة بن معبد الجهني: أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة فقال: «يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا» . رواه مسلم. قوله عز وجل: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ

أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (25) } . قال ابن عباس في قوله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} ، قال: من لم يكن له سعة. وقال مجاهد: الغنى أن ينكح المحصنات المؤمنات: {فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} ، قال سعيد ابن جبير: أما من لم يجد ما ينكح الحرة تزوج الأمة. وقوله تعالى: {وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} ، أي: كلكم من نفس واحدة، ودينكم واحد، والله يعلم سرائركم، فلينكح بعضكم من بعض. وقوله تعالى: {فَانكِحُوهُنَّ} أي: الإماء، {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} ، أي: مواليهن، {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: مهورهن {بِالْمَعْرُوفِ} على ما تراضيتم به من غير مطل ولا ضرار {مُحْصَنَاتٍ} عفائف ... {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} ، قال ابن عباس: والمسافحات: المعلنات بالزنا، {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} ، ذات الخليل الواحد. كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا، ويستحلون ما خفي. يقولون: أما ما ظهر منه فهو لوم، وأما ما خفي فلا بأس بذلك. فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} . وقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ، ليس المراد أن التزويج شرط لوجوب الحد؛ بل المراد منه التنبيه على أن المملوك وإن كان محصنًا فلا رجم عليه، إنما حدّه خمسون جلدة. قال قتادة في قوله: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ، خمسون جلدة، ولا نفي ولا رجم. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا زنت أمة أحدكم فتبيّن زناها فليجلدها الحج ولا يثرب عليها، ثم إن زنت

فليجلدها الحدّ ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر» . وفي رواية: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: «إن زنت فاجلدوها» الحديث. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب فقال: (يا أيها الناس أقيموا الحد على إمائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن) . رواه مسلم. وعند أبي داود مرفوعًا: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» . وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، قال ابن عباس: العنت الزنا. وقال السدي: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} يقول: وإن تصبروا ولا تنكح الأمة فيكون ولدك مملوكين فهو خير لكِ. قوله عز وجل: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً (28) } . قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} ، أي: يريد الله أن يوضح لكم شرائع دينكم، ومصالح أموركم، {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} ، يعني: طرائقهم الحميدة، {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} من الإِثم والمحارم، {وَاللهُ عَلِيمٌ} بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم، {حَكِيمٌ} فيما دبر من أمورهم. وقوله تعالى: {وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن

تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} . قال مجاهد: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} ، أن تكونوا مثلهم تزنون كما يزنون. وقال ابن زيد: يريد أهل الباطل، وأهل الشهوات في دينهم أن تميلوا في دينكم ميلاً عظيمًا، تتبعون أمر دينهم، وتتركون أمر الله وأمر دينكم. وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} ، قال مجاهد: يريد الله أن يخفف عنكم في نكاح الأمة، وفي كل شيء فيه يسر. وقال ابن كيسان: خلق الإِنسان ضعيفًا، يستميله هواه وشهوته، وقال طاووس: ليس يكون الإِنسان في شيء أضعف منه في النساء. والله أعلم. * * *

الدرس السادس والخمسون

الدرس السادس والخمسون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (30) إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (30) إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً (31) } . قال السدي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} ، نهوا عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل، وبالربا والقمار، والبخس والظلم، {إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً} ، ليربح في الدرهم ألفًا إن استطاع. قال قتادة: والتجارة رزق من رزق الله، وحلال من حلال الله، لمن طلبها بصدقها وبرها. وقد كنا نحدث أن التاجر الأمين الصدوق مع السبعة في ظل العرش يوم القيامة. وقال مجاهد في قول الله تبارك وتعالى: {عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} في تجارة بيع، أو عطاء يعطيه أحد أحدًا. وقال الشعبي في البيّعين: إنهما بالخيار ما لم يفترقا، فإذا تصادرا فقد وجب البيع. وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار، ما لم يتفرقا وكانا جميعًا، أو يخيّر أحدهما الآخر، فإن خيّر أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع» . متفق عليه. واللفظ لمسلم. وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} ، عن عمرو بن

العاص قال: (احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فذكرت قول الله عز وجل: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} ، فتيممت ثم صليت. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئًا) . رواه أحمد وغيره. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كان رجل ممن كان قبلكم، وكان به جرح، فأخذ سكينًا فجز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات. قال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه، حرمت عليه الجنة» . وقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً} . قال ابن كثير: أي: ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه متعديًا فيه ظالمًا في تعاطيه، أي: عالمًا بتحريمه متجاسرًا على انتهاكه، {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} الآية، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد. وقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً} . في الصحيحين عن النبي أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم

الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» . وعن ابن مسعود قال: (سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - ما الكبائر؟ قال: «أن تدعوا لله ندًا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك، أو تزني بحليلة جارك» . وقرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} . رواه ابن جرير وغيره. وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس , واليمين الغموس» . قال ابن عباس: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب. وقال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وفي رواية: هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. قوله عز وجل: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) } . عن مجاهد قال: (قالت أم سلمة: يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث! فنزلت: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} ، ونزلت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ

وَالْمُسْلِمَاتِ} . وقال ابن عباس: لا يتمنى الرجل يقول: ليت لي مال فلان وأهله، فنهى الله سبحانه عن ذلك، ولكن ليسأل الله من فضله. وقال ابن سيرين: نهيتم عن الأماني، ودُللتم على ما هو خير منه: {وَاسْأَلُواْ اللهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} . قال ابن كثير: أي: هو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها، وبمن يستحق الفقر فيفقره، وعليم بمن يستحق الآخرة فيوفقه لأعمالها، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه، وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل وإن أفضل العبادة انتظار الفرج» . رواه الترمذي. وقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} . قال ابن عباس: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} . قال: الموالي: العصبة يعني: الورثة. {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} . قال الحسن: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما الآخر، فنسخ الله ذلك في الأنفال فقال: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وقال ابن عباس: كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله {وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى

بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً} ، يقول: إلا أن يوصوا إلى أوليائهم الذين عاقدوا وصية، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، وذلك هو المعروف وقال مجاهد: ... {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، كان حلف في الجاهلية، فأمروا في الإسلام أن يعطوهم نصيبهم من العقل والنصرة والمشورة، ولا ميراث. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حلف في الإسلام، وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة، وما يسرني أن لي حمر النعم، وإني نقضت الحلف الذي كان في دار الندوة» . رواه ابن جرير. وقال ابن كثير في قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} ، أي: ورثة من قراباته من أبويه وأقربائه، وهم يرثون دون سائر الناس. كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» . قوله عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ

أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) } . قال ابن عباس في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} ، يعني: أمراء. عليها أن تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة إلى أهله، حافظة لماله، وفضله عليها بنفقته وسعيه. وقال الضحاك: الرجل قائم على المرأة يأمرها بطاعة الله، فإن أبت فله أن يضربها ضربًا غير مبرح، أي: غير مؤثر. وقال السدي: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} ، يأخذون على أيديهن ويؤدبهن. وقال قتادة: ( صك رجل امرأته فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأراد أن يقيدها منه، فأنزل الله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} . وقال الزهري: لو أن رجلاً شج امرأته أو جرحها لم يكن عليه في ذلك قود، وكان عليه العقل، يعني: الدية، إلا أن يعدوا عليها فيقتلها فيُقتل بها. وقوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ} قال سفيان: {فَالصَّالِحَاتُ} يعملن بالخير، {قَانِتَاتٌ} ، قال مجاهد: مطيعات. وقال قتادة: أي: مطيعات لله ولأزواجهن. {حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ} . قال السدي: تحفظ على زوجها ماله وفرجها حتى يرجع كما أمرها الله. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالها - ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} » الآية. رواه ابن جرير. قال ابن جرير: وفي الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر من الكلام عليه عن ذكره ومعناه {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ} ، فأحسنوا إليهن وأصلحوا.

وقوله تعالى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} . قال ابن زيد: النشوز معصية الزوج وخلافه. وقال مجاهد: إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها يقول لها: اتقي الله وارجعي إلى فراشك، فإن أطاعته فلا سبيل عليها. وقال ابن عباس: في قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} ، يعني بالهجران: أن يكون الرجل وامرأته على فراش واحد لا يجامعها. وقال قتادة: إذا خاف نشوزها وعظها، فإن قبلت وإلا هجر مضجعها. وعن معاوية بن حيدة: أنه قال: يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت» . وقال ابن عباس: في قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} ، قال: تهجرها في المضجع، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربًا غير مبرح، ولا تكسر لها عظمًا، فإن أقبلت، وإلا فقد حل لك منها الفدية، {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} . قال: إذا ضاجعته. وقال سفيان بن عيينة: إذا فعلت ذلك لا يكلفها أن تحبه، لأن قلبها ليس في يديها. وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} . قال ابن كثير: فيه تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب، فإن الله العلي الكبير وليّهن، وهو منتقم ممن ظلمهم وبغى عليهن. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قال: «لا تضربوا إماء الله» . فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله فقال: ذئرن النساء على أزواجهن. فرخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساء كثير يشتكين أزواجهن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن، ليس أولئك بخياركم» . رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة.

وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} . قال السدي في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} ، إن ضربها فأبت أن ترجع وشاقته، يقول: عادته. وقال سعيد بن جبير يعظها: فإن انتهت وإلا هجرها، فإن انتهت وإلا ضربها، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلا السلطان، فيبعث حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، فيقول الحكم الذي من أهلها: يفعل بها كذا، ويقول الحكم الذي من أهله: تفعل به كذا، فأيهما كان الظالم رده السلطان، وأخذ فوق يديه، وإن كانت ناشزًا أمره أن يخلع. وقال ابن عباس في قوله: {إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا} ، وذلك الحكمان، وكذلك كل مصلح يوفقه الله للحق والصواب. وقال البخاري: باب الشقاق: وهل يشير بالخلع عند الضرورة؟ وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الآية. قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن المخاطب بقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} ، الحكام، وأن المراد بقوله: {إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً} ، الحكمان، وأن الحكمين يكون أحدهما من جهة الرجل، والآخر من جهة المرأة، إلا أن لا يوجد من أهلهما من يصلح، فيجوز أن يكون من الأجانب ممن يصلح لذلك، وأنهما إذا اختلفا لم ينفذ قولهما، وإن اتفقا نفذ في الجميع بينهما من غير توكيل. واختلفوا فيما إذا اتفقا على الفرقة: فقال مالك، والأوزاعي، وإسحاق: ينفذ بغير توكيل ولا إذن من الزوجين. وقال الكوفيون، والشافعي، وأحمد: يحتاجان إلا الإذن. فأما مالك ومن تابعه فألحقوه بالعنّين والمولى، فإن الحاكم يطلق عليهما، فكذلك هذا وأيضًا، فلما كان المخاطب بذلك الحكام، وأن الإرسال إليهم دل على أن بلوغ

الغاية من الجمع أو التفريق إليهم، وجرى الباقون على الأصل، وهو أن الطلاق بيد الزوج، فإن أذن في ذلك وإلا طلق عليه الحاكم) . انتهى. وقال الشيخ ابن سعدي: ومهما وجدا طريقًا إلى الإصلاح والاتفاق والملاءمة بينهما لم يعدِلا عنها إما بتنازل عن بعض الحقوق، أو ببذل مال أو غير ذلك، فإن تعذرت الطرق كلها، ورُأي أن التفريق بينهما أصلح لتعذر الملاءمة، فرقا بينهما بما تقتضيه الحال، بعوض أو بغير عوض، ولا يشترط في هذا رضى الزوج، لأن الله سماهما حكمين لا وكيلين. ومن قال: أنهما وكيلان اشترط في التفريق رضى الزوج، ولكن هذا القول ضعيف. ولمحبة الباري للاتفاق بينهما، وترجيحه على الآخر قال: ... {إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا} . انتهى. وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} . قال ابن جرير: يعني جل ثناؤه: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً} ، بما أراد الحكمان من إصلاح بين الزوجين وغيره، {خَبِيراً} بذلك وبغيره من أمور غيرهما، لا يخفى عليه شيء منه، حافظ عليهم حتى يجازي كلاً منهم جزاءه، بالإحسان إحسانًا وبالإساءة غفرانًا أو عقابًا. وبالله التوفيق. * * *

الدرس السابع والخمسون

الدرس السابع والخمسون {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِم عَلِيماً (39) إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (42) } . * * *

قوله عز وجل: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً (37) } . قال البغوي: قوله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللهَ} أي: وحدوه وأطيعوه {وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} . ثم ساق بسنده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس» ؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقه عليهم أن يعبدوه ولا شركوا به شيئًا. أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله إذا فعلوا ذلك» ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن حق الناس على الله أن لا يعذبهم» . قال قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: «دعهم يعملون» . قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ، برًا بهما وعطفًا عليهما، ... {وَبِذِي الْقُرْبَى} ، أي: أحسنوا، {بِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} . ثم ساق بسنده عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا وكافل اليتيم في الجنة

هكذا» وأشار بالسبابة والوسطى وفرق بينهما. وقوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} . قال ابن عباس: يعني: ذا الرحم. وقال مجاهد: جارك وهو ذا قرابتك. وقوله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} ، قال ابن عباس: الذي ليس بينك وبينه قرابة. وقال مجاهد: البعيد في النسب وهو جار. وقوله تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ} . قال مجاهد: صاحبك في السفر. وقال علي: هي: المرأة. وقال ابن عباس: {الصَّاحِبِ بِالجَنبِ} ، الملازم. قال ابن جرير: وقد يدخل في هذا الرفيق في السفر، والمرأة، والمنقطع إلى الرجل الذي يلازمه رجاء نفعه، لأن كلهم بجنب الذي هو معه وقريب منه، وقد أوصى الله تعالى بجميعهم، لوجوب حق الصاحب على المصحوب؛ وساق بسنده عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن خير الأصحاب عن الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عن الله خيرهم لجاره» . وقوله تعالى: {وَابْنِ السَّبِيلِ} . قال مجاهد: هو الذي يمر عليك وهو مسافر. وقال قتادة: هو الضيف. وقوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، يعني: الأرقاء. قال مجاهد: كل هذا أوصى الله به.

وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} ، قال مجاهد: {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً} متكبرًا، {فَخُوراً} ، قال: بعد ما أعطي، وهو لا يشكر الله. قال أبو رجاء: لا تجد سيِّئ الملكة إلا وجدته مختالاً فخورًا. وتلا: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} ، ولا عاقًا إلا وجدته جبارًا شقيًا، وتلا: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} . وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ} . قال طاووس: البخل: أن يبخل الإنسان بما في يديه. والشح: أن يشح على ما في أيدي الناس. قال يحب أن يكون له ما في أيدي الناس بالحل والحرام لا يقنع. وقال قتادة في قوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} ، هم: أعداء الله أهل الكتاب، بخلوا بحق الله عليهم، وكتموا الإسلام ومحمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. قال ابن كثير: والظاهر أن السياق في البخل بالمال، وإن كان البخل بالعلم داخلاً في ذلك بطريق الأولى، فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء. وقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} . قال ابن كثير: فالبخيل جحود لنعمة الله، ولا تظهر عليه، كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} ، أي: بحاله وشمائله. وقال ها هنا: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ} ولهذا نوعدكم بقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} والكفر: هو الستر والتغطية، فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها

ويجحدها. فهو كافر لنعمة الله عليه. وفي الحديث: «أن الله إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه» . وفي الدعاء النبوي: «واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها علينا» . انتهى ملخصًا. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِم عَلِيماً (39) } . قال السدي: نزلت في المنافقين. قال ابن كثير: ذكر الممسكين المذمومين وهم البخلاء، ثم ذكر الباذلين المرائين الذين يقصدون بإعطائهم السمعة، وأن يمدحوا بالكرم، ولا يريدون بذلك وجه الله، وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار وهم: العالم، والغازي، والمنفق المراءون بأعمالهم. (يقول صاحب المال: ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك. فيقول الله: كذبت إنما أردت أن يقال: جواد، فقد قيل. أي: فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك) . وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعدي بن حاتم: «إن أباك أراد مرادًا فبلغه» . وفي حديث آخر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن

عبد الله بن جدعان: هل ينفعه إنفاقه وإعتاقه؟ فقال: «لا، إنه لم يقل يومًا من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» . ولهذا قال: {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية، أي: إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطان، فإنه سول لهم وأملى لهم، وقارنهم، فحسن لهم القبائح، ولهذا قال تعالى: {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً} ، ولهذا قال الشاعر: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارَن يقتدي ثم قال تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ} الآية، أي: وأي شيء يضرهم لو آمنوا بالله، وسلكوا الطريق الحميدة، وعدلوا عن الرياء إلا الإخلاص والإيمان بالله، رجاء موعوده في الدار الآخرة لمن يحسن عمله، وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه اللتي يحبها الله ويرضاهها؟ [و] قوله: {وَكَانَ اللهُ بِهِم عَلِيماً} ، أي: وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم وإلهامه ورشده ويقبضه لعمل صالح يرضى به عنه، وبمن يستق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم الإلهي، الذي من طرد عن بابه فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة، عياذًا بالله من ذلك. انتهى. قوله عز وجل: {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (42) } . قال ابن عباس في قوله: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ، قال: رأس نملة حمراء. وقال قتادة: كان بعض أهل العلم يقول: لأن تفضل حسناتي على سيئاتي ما يزن ذرة، أحب إليّ

من أن تكون لي الدنيا جميعًا. وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها، الرزق في الدنيا ويجزي بها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإن كان يوم القيامة لم تكن له حسنة» . رواه ابن جرير وغيره. وقال سعيد بن جبير في قوله: {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} ، قال: الجنة. وفي حديث الشفاعة الطويل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فيقول الله عز وجل: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه أدنى، أدنى، أدنى مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه من النار، فيخرجون خلقًا كثيرًا. ثم يقول أبو سعيد: اقرؤوا إن شئتم: {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية، متفق عليه. وقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً} . قال ابن جريج: قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} ، قال: رسولهها، فيشهد علينا أن قد أبلغهم ما أرسله الله إليهم. {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً} ، قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى عليها فاضت عيناه) , وعن ابن مسعود: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «اقرأ عليّ» . قال: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ ! قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري» . قال: فقرأت سورة النساء، حتى أتيت عل هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً} . فقال: «حسبك الآن» . فالتفت فإذا عيناه تذرفان) . متفق عليه. وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً} عن سعيد بن جبير قال: أتى رجل إلى ابن عباس فقال:

سمعت الله يقول: {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلا أَن قَالُواْ وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، وقال في آية أخرى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً} . فقال ابن عباس: أما قوله {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فإنهم لما رأوا الله لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا: تعالوا فلنجحد، فقالوا: {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم، فلا يكتمون الله حديثًا. وقال الحسن: إنها مواطن: ففي موطن لا يتكلمون، ولا تسمع إلا همسًا، وفي موطن يتكلمون ويكذبون، وفي موطن يسألون الرجعة، وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم، وتتكلم جوارحهم. وهو قوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً} . والله أعلم. * * *

الدرس الثامن والخمسون

الدرس الثامن والخمسون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ (44) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللهِ نَصِيراً (45) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً (51) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ

نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (43) } . روى ابن جرير عن عليّ: أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر، فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فخلط فيها، فنزلت: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} . وعن أبي رزين قال: كانوا يشربون بعدما أنزلت التي في البقرة وبعد التي في النساء، فلما أنزلت التي في المائدة تركوها. وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول» . رواه البخاري، والنسائي. وفي بعض ألفاظه: «فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه» . وقوله تعالى: {وَلاَ جُنُباً إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ} ، قال ابن عباس: قوله: {وَلاَ جُنُباً إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} قال: المسافر. يقول: لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إذا وجدتم الماء، فإن لم تجدوا الماء فقد أحللت لكم أن تمسحوا بالأرض. وقال إبراهيم لا بأس أن يمر الجنب في المسجد إذا لم يكن له طريق غيره. وقوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ

أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} . عن ابن أبي مليكة قال: دخل ابن عباس على عائشة فقال: كنتِ أعظم المسلمين بركة على المسلمين، سقطت قلادتك بالأبواء فأنزل الله فيك آية التيمم. وقال ابن مسعود: المرض الذي قد أرخص له في التيمم هو: الكسير الجريح، فإذا أصابت الجنابة الكسر اغتسل ولا يحل جراحته، إلا جراحة لا يخشى عليها. وقال سعيد بن جبير: إذا كان به جروح أو قروح يتيمم. وقال مجاهد: والمرض أن يصيب الرجل والجرح، والقرح، والجدري، فيخاف على نفسه من برد الماء وأذاه، يتيمم بالصعيد كما يتيمم المسافر الذي لا يجد الماء. وقوله: {أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُ مِّن الْغَآئِطِ} هو كناية عن حاجة الإنسان. والغائط في الأصل: الموضع المطمئن من الأرض. قال مجاهد: {أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُن مِّن الْغَآئِطِ} ، قال: الغائط الوادي. وقوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء} ، قال ابن عباس: هو الجماع، ولكن الله كريم يكني. وقال ابن مسعود: القبلة من اللمس، وفيها الوضوء. قال إبراهيم: اللمس من شهوة ينقض الوضوء. وعن عائشة قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينال مني القبلة بعد الوضوء، ثم لا يعيد الوضوء) . رواه ابن جرير. وعن ابن جريج: قلت لعطاء: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} ، قال: الطيب ما حولك. قلت: مكان جرد غير بطح أيجزئ عني؟ قال: نعم. قال ابن جرير يعني (بالطيِّب) : طاهرًا من الأقذار والنجاسات. وعن أبي مالك قال. وضع عمار بن ياسر كفيه في التراب، ثم رفعها فنفخها فمسح وجهه وكفيه ثم قال: هكذا التيمم. قال الحسن: يصلي المتيمم

بتيممه ما لم يحدث. وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: التيمم لكل صلاة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأعدل الأقوال: التيمم لوقت كل صلاة. قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ (44) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللهِ نَصِيراً (45) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً (46) } . قال ابن عباس: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود، إذا كلم رسول الله لوى لسانه وقال: راعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام وعابه، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ} إلى قوله: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً} . وقال مجاهد في قوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} ، تبديل اليهود التوراة. وقال ابن زيد في قوله: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} ، قال: هذا قول أهل الكتاب يهود، كهيئة ما يقول الإنسان: اسمع لا سمعت، أذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشتمًا له واستهزاء. وقوله تعالى: {وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ} ، قال الضحاك: كان الرجل من المشركين يقول: أرعني سمعك، يلوي بذلك لسانه. يعني: يحرف معناه. قال ابن زيد: والراعن: الخطأ من الكلام. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً} ، قال ابن زيد في قوله: {وَلَوْ

أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} ، قال يقولون: اسمع منا فإنا قد سمعنا وأطعنا، وانظرنا فلا تعجل علينا. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48) } . قال ابن عباس: (كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد فقال لهم: «يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق» . فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد، وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر، فأنزل الله فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} الآية) . قال إبراهيم: لما سمعها كعب الأحبار قال: يارب آمنت، يا رب أسلمت. مخافة أن تصيبه، ثم رجع فأتى أهله باليمن، ثم جاء بهم مسلمين في زمان عمر. وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} ، قال ابن عمر: كنا معشر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نشك في عذاب آكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية، فأمسكنا عن الشهادة. قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً (50) } .

قال الحسن في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} ، هم اليهود والنصارى قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} ، وقالوا: {لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} وقال التيمي: سألت ابن عباس عن قوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} ، قال: ما فتلت بين أصبعيك. وقال مجاهد: الفتيل الذي في شق النواة. وقال ابن جريج: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} قال: هم اليهود والنصارى، {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ} ، وعن معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه، وإياكم والتمادح فإنه الذبح» . رواه أحمد. قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً (51) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) } . قال ابن عباس في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} ، الجبت: الأصنام. والطاغوت: الذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس. وقال عمر: الجبت: السحر.

الطاغوت: الشيطان. قال ابن جرير: الجبت، والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله، أو طاعة، أو خضوع من حجر، أو إنسان، أو شيطان. وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً} ، قال مجاهد: نزلت في كعب بن الأشرف وكفار قريش، أنه قال: كفار قريش أهدى من محمد. وقال قتادة: قال كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ما قالا، وهما يعلمان أنهما كاذبان، فأنزل الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} . وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ ... نَقِيراً} قال السدي: يقول: لو كان لهم نصيب من الملك إذا لم يؤتوا محمدًا نقيرًا، والنقير: النكتة التي في وسط النواة. وقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً} ، قال قتادة: حسدوا هذا الحي من العرب على ما آتاهم الله من فضله، بعث الله منهم نبيًا، فحسدوهم على ذلك. وقوله تعالى: {فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} ، قال مجاهد: {فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ} ، قال: بما أنزل على محمد من يهود، {وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ} . وقال ابن كثير: {فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ} ، أي: بهذا الإيتاء وهذا الإنعام، {وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ} ، أي: كفر به، وأعرض عنه، وسعى في صد الناس عنه، وهو منهم، ومن جنسهم، فقد اختلفوا عليهم، فكيف بك يا محمد، ولست من بني إسرايئل؟ فالكفرة منهم أشد تكذيبًا لك، ولهذا قال متوعدًا لهم، {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} ، أي: وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسلِه.

قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) } . قال ابن عمر في قوله: {نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} قال: إذا احترقت جلودهم بدلناهم جلودًا بيضًا أمثال القراطيس. قال الحسن: تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} ، قال ابن عباس في قوله تعالى: {لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} قال: من الأقذار، والأذى. وقال مجاهد: مطهرة من البول، والحيض، والنخام، والبزاق، والمني، والولد. وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، لا يقطعها شجرة الخلد» . رواه ابن جرير. والله أعلم. * * *

الدرس التاسع والخمسون

الدرس التاسع والخمسون {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً (64) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ

تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (68) وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيماً (70) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) } . قال زيد بن أسلم: نزلت هذه الآية: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} في ولاة الأمر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي الأمانة، وإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا وأن يطيعوا، وأن يجيبوا إذا دعوا. وقال ابن جريج: قوله: ( {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} نزلت في عثمان بن طلحة قبض منه النبي - صلى الله عليه وسلم - مفاتيح الكعبة ودخل بها البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية. فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح) . قال ابن جرير: جائز أن تكون نزلت فيه، وأريد به كل مؤتمن على أمانة، فدخل فيه ولاة أمور المسلمين، وكل مؤتمن على أمانة في دين أو دنيا. وقال ابن كثير: وهذا من المشهورات، إن هذه الآية نزلت في ذلك، يعني: مفتاح الكعبة. وسواء كانت نزلت في ذلك أو لا، فحكمها عام، ولهذا قال ابن

عباس: هي للبر والفاجر، أي: هي أمر كل أحد بأداء الأمانة. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها، حتى يقتص للشاة الجمّاء من القرناء» . وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: «ألا لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» . رواه البغوي. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} . قال أبو هريرة: هم الأمراء. وقال ابن عباس: يعني: أهل الفقه والدين. قال ابن كثير: والظاهر والله أعلم: أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء. وقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} . قال مجاهد: في قوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} ، قال: كتاب الله وسنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، قال: أحسن جزاء. وقال قتادة: أحسن ثوابًا وخيرٌ عاقبة. قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ

إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً (64) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً (65) } . قال الشعبي: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين ... خصومة، فكان المنافق يدعوا إلى اليهود لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعوا إلى المسلمين لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة، فأنزل الله فيه هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} حتى بلغ: ... {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} وقال قتادة: وذكر لنا أن اليهودي كان يدعوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحكم بينهما، وقد علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لن يجور عليه، فجعل الأنصاري يأبى عليه، وهو يزعم أنه مسلم، ويدعوه إلى الكاهن، فأنزل الله تبارك وتعالى ما تسمعون، فعاب ذلك على الذي يزعم أنه مسلم، وعلى اليهودي الذي هو من أهل الكتاب، فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} إلى قوله: ... {صُدُوداً} . وقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} ، يعني: عقوبة حدودهم. {ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا} ، ما أردنا بالعدول {إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} ، أي: المداراة والمصانعة. ... {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من النفاق، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} . قال الحسن: القول البليغ أن يقول لهم: إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قتلتم. وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} . قال مجاهد:

واجب لهم أن يطيعهم من شاء الله، لا يطيعهم أحد إلا بإذن الله. قال ابن جرير: وإنما هذا تعريض من الله تعالى ذكره لهؤلاء المنافقين، بأن تركهم طاعة الله، وطاعة رسوله والرضى بحكمه، إنما هو للسابق لهم من خذلانه وغلبته الشقاء عليهم. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} . قال مجاهد: عني بذلك: اليهود والمسلم اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف. قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} . قال مجاهد: هذا الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف. وعن الزبير بن العوام: أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهدًا بدرًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل. فقال الأنصاري: سرّح الماء يمر فأبى عليه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... «استق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك» . فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: «استق يا زبير ثم احبس الماء حتى يصل إلى الجِدْر» واستوعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للزبير حقه. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك أشار على الزبير، بل أي: أراد فيه الشفقة له وللأنصاري، فلما أحفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصاري استوعب للزبير حقه في صريح الحكم. قال فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية. رواه ابن جرير. وفي رواية: ثم قال: «يا زبير احبس الماء إلى الجدر أو إلى الكعبين، ثم خل سيل ... الماء» .

قال ابن جرير: غير مستحيل أن تكون الآية نزلت في قصة المحتكمين إلى الطاغوت، ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاري إذ كانت الآية دالة على ذلك. قوله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (68) وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيماً (70) } . عن مجاهد: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم} كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضًا بالخناجر لم يفعلوا، {إِلا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} . وقال أبو إسحاق السبيعي: (لما نزلت: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} ، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن من أمتي لرجالاً، الإِيمان أثبت في قلوبهم من الجبل الرواسي» ) . وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} ، يؤمرون به من طاعة الرسول والرضى بحكمه، {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} ، أي: تصديقًا. قال السدي: {وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً} ، يعني: الجنة. {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} . عن مسروق قال:

قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا، فإنك لو قدّمت رفعت فوقنا فلم نرك، فأنزل الله: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ} الآية. وعن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أبيت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: «سل» . فقلت: يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: «أوَ غير ... ذلك» ؟ قلت: هو ذاك. قال: «فأعنّي على نفسك بكثرة السجود» . رواه مسلم. وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ} ، أي: برحمته وفضله نالوا ذلك. {وَكَفَى بِاللهِ عَلِيماً} ، أي: هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لا ينجو أحد منكم بعمله» . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة» . رواه البغوي وغيره. وبالله التوفيق. * * *

الدرس الستون

الدرس الستون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً (79) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) } . عن ابن عباس قوله: {خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ} ، يقول: عصبا، يعني: سرايا متفرقين. {أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً} ، يعني: كلكم. وقال قتادة: الثبات الفِرَق. وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً} . قال ابن جريج: المنافق يبطّيء المسلمين عن الجهاد في سبيل الله، قال الله: {فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ} . قال: بقتل العدو من المسلمين، {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً} . قال: هذا قول الشامت. وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} . قال ابن جرير: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين، أن شهودهم الحرب مع المسلمين إن شهدوها لطلب الغنيمة، وإن تخلفوا عنها

فللشك الذي في قلوبهم، وأنهم لا يرجون لحضورها ثوابًا ولا يخافون بالتخلف عنها من الله عقابًا. وكان قتادة وابن جريج يقولان: إنما قال من قال من المنافقين إذا كان الظفر للمسلمين: {يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ} ، حسدًا منهم لهم. وقال البغوي: (قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} ، نزلت في المنافقين وإنما قال: {مِنكُمْ} لاجتماعهم مع أهل الإِيمان في الجنسية والنسب وإظهار الإِسلام، لا في حقيقة الإيمان. {لَّيُبَطِّئَنَّ} ، أي: ليتأخرن، وليتثاقلن، عن الجهاد. {فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ} أي: قتل وهزيمة، {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ} بالقعود، {إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً} ، أي: حاضرًا في تلك الغزاة فيصيبني ما أصابهم. {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله} فتح وغنيمة، {لَيَقُولَنَّ} هذا المنافق، وفيه تقديم وتأخير. وقوله تعالى: {كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} متصل بقوله: {فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} ، أي: معرفة، أي: ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم في تلك الغزاة، فأفوز فوزا عظيماً، أي: آخذ نصيبًا وافرًا من الغنيمة) . انتهى ملخصاً. وقوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} . قال السدي: يقول: يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة. {وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} ، أي: كل من قاتل في سبيل الله سواء قتل أو غلب، فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل. قوله عز وجل: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل

لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76) } . قال السدي: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} ، يقول: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي المستضعفين، وأما القرية: فمكة. وقال ابن شهاب: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ} . قال: في سبيل الله، وسبيل المستضعفين. قال ابن عباس: هم: أناس مسلمون كانوا بمكة، لا يستطيعون أن يخرجوا منها ليهاجروا فعذرهم الله. وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} . قال البغوي: قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} ، أي: في طاعته، {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} ، أي: في طاعة الشيطان، {فَقَاتِلُواْ} أيها المؤمنون، {أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ} ، أي: حزبه، وجنوده، وهم: الكفار، {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ} مكره، {كَانَ ضَعِيفاً} كما فعل يوم بدر لما رأى الملائكة خاف أن يأخذوه، فهرب وخذلهم. قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا

قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً (79) } . عن قتادة: قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} فقرأ حتى بلغ: {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذٍ بمكة قبل الهجرة، تسرعوا إلى القتال، وسارعوا إليه، فقالوا: لنبي الله - صلى الله عليه وسلم -: ذرنا نتخذ معاول فنقتل بها المشركين بمكة، فنهاهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. قال: ثم أمر بذلك فلما كانت الهجرة وأمر بالقتال كره القوم ذلك فصنعوا فيه ما تسمعون، فقال الله تبارك وتعالى: {مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} . وقال السدي في قوله: {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} ، هو: الموت. وقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} . قال قتادة: في قصور محصنة. قال ابن جرير: يقول: لا تجزعوا من الموت ولا تهربوا من القتال، وتضعفوا عن لقاء عدوكم، حذرًا على أنفسكم من القتل والموت، فإن الموت بإزائكم أين كنتم، وواصل إلى أنفسكم حيث كنتم، ولو تحصنتم منه بالحصون المنيعة.

وقال عدي بن زيد العبادي في أبياته المشهورة: من رأيت المنون خلّد أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير أين كسرى كسرى الملوك أنوشر ... وإن أم أين قلبه سابور وأخو الحضر إذ بناه وإذ ... دجلته تجبى إليه والخابور شاده مرمرًا وجلله كلسًا ... فلِلطّير في ذُراه وُكور لم يُهِبه ريبُ المنون فباد ... المُلك عنه فبابه مهجور وقال آخر: أرى الموت لا يبقي عزيزًا ولم يدع ... لعاد ملاذًا في البلاد ومربعًا يبيت أهل الحصن والحصن مغلق ... ويأتي الجبال في شماريخها معًا وقوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} . قال البغوي: نزلت في اليهود، والمنافقين، وذلك أنهم قالوا لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. وقال ابن زيد في قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ} ، فقرأ حتى بلغ: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} ، قال: إن هذه الآيات نزلت في شأن الحرب فقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً} ، فقرأ حتى بلغ: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ} عند محمد عليه السلام، أساء التدبير وأساء النظر، ما أحسن التدبير ولا النظر. {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ} ، النصر، والهزيمة. وقال ابن عباس: {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} ،

يقول: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها. وقوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} . قال السدي: من ذنبك. قال قتادة: وذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «لا يصيب رجلاً خدش عودٍ، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» . قال قتادة: ... {كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ} ، النعم، والمصيبات. وعن أبي صالح في قوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} . قال: بذنبك، وأنا قدَّرْتُها عليك. قال البغوي: والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد غيره نظيره. قوله: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} . وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً} ، أي: على إرسالك، وصدقك، وتبليغك ما أنزل إليك. والله أعلم.

الدرس الحادي والستون

* * * الدرس الحادي والستون {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً (81) أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (82) وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً (84) مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً (85) وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (87) } . * * *

قوله عز وجل: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً (81) } . في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني» . وعن ابن عباس قوله: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} ، وهم ناس يقولون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: آمنا بالله ورسوله، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، وإذا برزوا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالفوا إلى غير ما قالوا عنده فعابهم الله فقال: {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} ، يقول: يغيرون ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال البغوي: {فَإِذَا بَرَزُواْ} خرجوا، {مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} ، قال قتادة والكلبي: {بَيَّتَ} ، أي: غيّر وبدّل الذي عهد إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكون التبييت بمعنى: التبديل. وقال أبو عبيدة، والقتيبي: معناه قالوا وقدروا ليلاً غير ما أعطوك نهارًا، وكل ما قدر بليل فهو مبيّت. وقال ابن كثير: {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} ، أي: استسروا ليلاً فيما بينهم بغير ما أظهروه لك.

قوله تعالى: {وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} ، أي: يحفظه عليهم فيجازيهم. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} فإنه كافيك، ... {وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً} . قوله عز وجل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (82) وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً (84) } . عن الضحاك في قوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} ، قال: يتدبرون النظر فيه. وقال ابن زيد: إن القرآن لا يكذب بعضه بعضًا، ولا ينقض بعضه بعضًا، ما جهل الناس من أمر فإنما هو من تقصير عقولهم وجهالتهم، وقرأ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} . وقال قتادة: أي: قول الله لا يختلف، وهو حق ليس فيه باطل، وإن قول الناس يختلف. وقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} قال السدي يقول: إذا جاءهم أمر أنهم قد أمنوا من عدوهم وأنهم خائفون منهم، أذاعوا بالحديث حتى يبلغ عدوهم أمرهم. {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} ، يقول: ولو سكتوا وردوا الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى أولي أمرهم حتى يتكلم هو به {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ} ، يعني: عن الأخبار، وهم الذين ينفرون عن الأخبار. وقال ابن جريج: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ} حتى يكون هو الذي يخبرهم {وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} ، الفقه في الدين والعقل. وقال مجاهد: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ، الذين يسألون عنه ويتحسسونه.

وقوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} ما تبعتم الشيطان إلا قليلاً. قال قتادة: يقول: {لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} كلكم. وقال الضحاك: هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كانوا حدثوا أنفسهم بأمور من الشيطان، إلا طائفة منهم. وقوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} . قال قتادة: أي: عقوبة. قال البغوي: (قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - واعد أبا سفيان بعد حرب أُحُد، موسم بدر الصغرى في ذي القعدة، فلما بلغ الميعاد، دعا الناس إلى الخروج، فكرهه بعضهم، فأنزل الله عز وجل: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} ، أي: لا تدع جهاد العدو، والاستنصار للمستضعفين من المؤمنين، ولو وحدك، فإن الله قد وعدك النصرة، {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} على القتال أي: حضهم على الجهاد ورغبهم في الثواب، {عَسَى اللهُ} ، أي: لعل الله {أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} ، أي: قتال المشركين، وعسى من الله واجب. {وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً} ، أي: أشد صولة وأعظم سلطانًا، {وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} ، أي: عقوبة) . انتهى ملخصًا. قوله عز وجل: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً (85) وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (87) } .

عن مجاهد في قوله: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} قال: شفاعة بعض الناس لبعض. قال الحسن: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} كتب له أجره ما جرت منفعتها. وقال قتادة: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} ، أي: حفظ منها، {وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} والكفل: هو الإِثم. وقال ابن عباس: الشفاعة الحسنة هي: الإِصلاح بين الناس، والشفاعة السيئة هي: المشي بالنميمة. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه رجل يسأل، أو طالب حاجة، أقبل علينا بوجهه فقال: «اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء» . رواه البغوي وغيره. وقوله تعالى: {وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} ، قال مجاهد: شهيدًا: حسيبًا حفيظًا. وقال ابن عباس: المقيت: القدير. وقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} . قال السدي: إذا سلم عليك أحد فقل أنت: وعليك السلام ورحمة الله، أو تقطع إلى: السلام عليك كما قال لك. وقال قتادة: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا} للمسلمين، {أَوْ رُدُّوهَا} على أهل الكتاب. وقال ابن كثير: قوله: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ، أي: إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم، أو ردوا عليه بمثل ما سلم، فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة. وقال الحسن: السلام تطوع، والرد فريضة.

وقوله تعالى: {اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً} . قال البغوي: {اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} ، اللام لام القسم. تقديره: والله ليجمعنكم في الموت وفي القبور، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، القيامة قيامة لأن الناس يقومون من قبورهم. قال الله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً} وقيل: لقيامهم إلى الحساب. قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، {لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً} ، أي: قولاً ووعدًا. والله أعلم. * * *

الدرس الثاني والستون

الدرس الثاني والستون {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (89) إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً (91) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93) } . * * *

قوله عز وجل: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (89) إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) } . عن زيد بن ثابت قال: ذكروا المنافقين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال فريق: نقتلهم، وقال فريق: لا نقتلهم، فأنزل الله تبارك وتعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} إلى آخر الآية. وقال ابن عباس: {وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ} أرداهم. وقال قتادة: أهلكهم بما عملوا. {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} ، أي: طريقًا إلى الحق. وقوله تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} . قال السدي: إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم. وقوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} ، قال

السدي: فإن أحد منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق، فأجروا عليه مثل ما تجرون على أهل الذمة. وقوله تعالى: {أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ} . قال ابن جرير: معناه: أو جاءوكم قد حصرت صدورهم. قال السدي: يقول: رجعوا فدخلوا فيكم. {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} يقول: ضاقت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} عن الربيع: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} . قال: الصلح. وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية: ... (فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد وأصحابه وعهدهم) . قوله عز وجل: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً (91) } . عن مجاهد: {يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ} قال: ناس كانوا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسلمون رياء، فيرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا ها هنا، وها هنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.

وقوله: {وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} ، أي: حجة ظاهرة. قال عكرمة: ما كان في القرآن من سلطان فهو حجة. قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93) } . عن قتادة: قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَئاً} يقول: ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه من عهد الله الذي عهد إليه. قال ابن جرير: وأما قوله: {إِلا خَطَئاً} فإنه يقول: إلا أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ، وليس له مما جعل ربه، وهذا من الاستثناء الذي تسميه أهل العربية: الاستثناء المنقطع. قال عكرمة: كان الحارث بن يزيد بن نبيشة من بني عامر بن لؤي، يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج الحارث بن يزيد مهاجرًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلقيه عياش بالحرة، فعلاه بالسيف حتى سكت، وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبر، ونزلت: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَئاً} الآية، فقرأها عليه ثم قال: «قم فحرر» .

وقال الشعبي في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} قال: قد صلَّت وعرفت الإيمان. وقال عطاء: كل رقبة ولدت في الإسلام فهي تجزي. قال ابن جرير: وأما الدية المسلمة إلى أهل القتيل فهي المدفوعة إليهم على ما وجب لهم، موفرة غير منقصة. وقوله تعالى: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} . قال إبراهيم: هو الرجل يسلم في دار الحرب فيقتل، قال: ليس فيه دية وفيه الكفارة. وقوله تعالى: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً} . قال إبراهيم: هذا الرجل المسلم، وقومه مشركون لهم عقد، فتكن ديته لقومه، وميراثه للمسلمين، ويعقل عنه قومه ولهم ديته. وقال ابن عباس: يقول: إذا كان كافرًا في ذمتكم، فعلى قاتله الدية، مسلمة إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين. قال ابن كثير: وقوله: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} الآية، أي: فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة، أو هدنة، فلهم دية قتلهم، فإن كان مؤمنًا فدية كاملة، وكذا إن كان كافرًا أيضًا عند طائفة من العلماء. وقيل: يجب في الكافر نصف دية المسلم، وقيل: ثلثها. ويجب أيضًا على القاتل تحرير رقبة مؤمنة. وقوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} .

قال ابن كثير: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} ، أي: لا إفطار بينهما بل يسرد صومهما إلى آخرهما، فإن أفطر من غير عذر استأنف. وقوله: {تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} ، أي: هذه التوبة القاتل خطأ، إذ لم يجد العتق صام شهرين متتابعين. وقوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} . قال عطاء: العمد السلاح. وقال إبراهيم: إذا خنقه بحبل حتى يموت، أو ضربه بخشبة حتى يموت فهو القود. وقال طاوس: من قتل في عصبية في رمي يكون منهم بحجارة، أو جلد بالسياط أو ضربٍ بالعصيّ، فهو خطأ ديته دية الخطأ، ومن قتل عمدًا فهو قود يديه. قال ابن عباس: أكبر الكبائر الإِشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، لأن الله سبحانه يقول: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} . وقال أبو صالح في قوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} ، قال: جزاؤه أن جازاه خلّده في النار، وإن شاء غفر له. وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} . وقال الشيخ ابن سعدي: (وأحسن ما يقال أن ذكر الخلود على بعض الذنوب التي دون الشرك والكفر، أنها من باب ذكر السبب، وأنها سبب لخلود في النار لشفاعتها، وأنها بذاتها توجب الخلود إذا لم يمنع من الخلود مانع، ومعلوم بالضرورة من دين الإِسلام، أن الإِيمان مانع من الخلود، فتنزل هذه النصوص على الأصل المشهور، وهو أنه لا تتم الأحكام إلا بوجوب شروطها وأسبابها وانتفاء موانعها، وهذا واضح ولله الحمد) . انتهى.

قال ابن كثير: فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها لتقوية الرجاء. والله أعلم. وثبت في الصحيحين: (خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ثم سأل عالمًا: هل لي من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه، فهاجر إليه فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة) . قال: واختلف الأئمة: هل تجب عليه كفارة؟ على قولين: فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون: نعم؛ لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في الخطأ، فلأن تجب عليه في العمد أولى. وقال أصحاب الإمام أحمد وآخرون: قتل العمد أعظم من أن يكفر، فلا كفارة فيه. وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد، بما رواه الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفر من بني سليم فقالوا: إن صاحبًا لنا قد أوجب. قال: «فليعتق رقبة، يفدي الله بكل عضو منها عضو منه من النار» . وفي رواية أبي داود: أتينا رسول الله في صاحب لنا قد أوجب - يعني النار بالقتل -. فقال: «أعتقوا عنه، يعتق الله بكل عضو منه عضوًا من النار» انتهى ملخصًا. والله أعلم. * * *

الدرس الثالث والستون

الدرس الثالث والستون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً (97) إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً (100) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) } . عن ابن عباس قال: لحق ناس من الناس رجلاً في غنيمة له فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا تلك الغنيمة، فنزلت هذه الآية: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، تلك الغنيمة. وقال سعيد بن جبير في قوله: {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ} ، تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الرعي بإيمانه، {فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ} ، فأظهر الإِسلام، {فَتَبَيَّنُواْ} ، قال ابن جرير: يقول: فتأنّوا في قتل من أشكل عليكم أمره، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره. قوله عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً (96) } . عن زيد بن ثابت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنزل عليه: [لا يستوي القاعدون من

المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله] ، قال: فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها عليّ فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، قال: فأنزل عليه، وفخذه على فخذي فثقلت، فظننت أن ترضّ فخذي، ثم سرّي عنه فقال: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} ، رواه ابن جرير وغيره. وقوله تعالى: {فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} ، قال ابن جريج: على أهل الضرر، {وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى} ، قال قتادة: هي: الجنة، {وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} . في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» . قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً (97) إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً (100) } .

قال ابن عباس: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كانوا أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} الآية، وقال: (كنت أنا وأمي من عذر الله) . قال البغوي: ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا هجرة بعد الفتح» . وقال ابن كثير: هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع، ونص هذه الآية. وقوله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} ، قال قتادة: لما أنزل الله هؤلاء الآيات، ورجل من المؤمنين يقال له ضمرة بمكة، قال: والله إني لي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها، وأني لأهتدي، أخرجوني - وهو مريض حينئذٍ - فلما جاوز المحرم قبضه الله فمات، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ} الآية، وقال ابن عباس في قوله: {مُرَاغَماً كَثِيراً} ، المراغم: التحول من أرض إلى

أرض، وقال مجاهد: متزحزحًا عما يكره، وقال السدي: مبتغي للمعيشة، وقال قتادة: {يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} أي: والله، من الضلالة إلى الهدى، ومن العيلة إلى الغنى. قال البغوي: وقال أبو عبيدة: المراغم: المهاجر، يقال: راغمت قومي وهاجرتم، وهو المضطرب والمذهب، قيل: سميت المهاجرة: مراغمة؛ لأن من يهاجر يراغم قومه، {وَسَعَةً} ، أي: في الرزق. وبالله التوفيق. * * *

الدرس الرابع والستون

الدرس الرابع والستون {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً (101) وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً (103) وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً (101) } . عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} وقد أمن الناس! فقال: عجبت مما عجبت حتى سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» . رواه ابن جرير وغيره. وعن مجاهد عن أبي عياش الزرقي قال: (كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، قال: فصلينا الظهر، فقال المشركون: كانوا على حال لو أردنا لأصبنا غرة لأصبنا غفلة. فأنزلت آية القصر بين الظهر، والعصر، فأخذ الناس السلاح وصفوا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبلي القبلة، والمشركون مستقبليهم، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبروا جميعًا، ثم ركع وركعوا جميعًا، ثم رفع رأسه ورفعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسونهم، فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء، ثم نكص الصف الذي يليه وتقدم الآخرون فقاموا في مقامهم، فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركعوا جميعًا، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء الآخرون، ثم استووا معه فقعدوا جميعًا، ثم سلم عليهم جميعًا , فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سليم) .

وعن ابن عباس قال: (فرض الله الصلاة على لسان نبيكم عليه السلام في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة) وقال أيضًا: قصر الصلاة إن لقيت العدو وقد حانت الصلاة أن تكبر الله، وتخفض رأسك إيماء، راكبًا كنت أو ماشيًا. قوله عز وجل: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً (103) } . عن صالح بن خوات عمن صلّى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف يوم ذات الرقاع: (أن طائفة صلَّت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطائفة وجاه العدو، فصلَّى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم، ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلَّى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسًا فأتموا لأنفسهم) . متفق عليه. قال الإمام أحمد: صحّت صلاة الخوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ست صفات أو سبع، كلها جائزة، وكان يعجبه هذا الحديث لأنه موافق للآية.

وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} . عن مجاهد في قوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} قال: أتموها. وعن عطية العوفي في قوله: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} ، قال: فريضة مفروضة. وقال ابن مسعود: إن للصلاة وقتًا كوقت الحج. وعن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن سائلاً أتاه فسأله عن مواقيت الصلاة قال: فلم يرد عليه شيئًا، ثم أمر بلالاً فأذّن، ثم أمره فأقام الصلاة حين انشق الفجر فصلَّى، ثم أمره فأقام الظهر، والقائل يقول: قد زالت الشمس أو لم تزل وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حتى غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين سقط الشفق. وقال: وصلَّى الفجر من الغد والقائل يقول: طلعت الشمس ولم تطلع، وصلى الظهر قريبًا من وقت العصر بالأمس، وصلى العصر والقائل يقول: قد احمرت الشمس، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلَّى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل الأول. ثم قال: «أين السائل عن وقت الصلاة» ؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله. قال: «ما بين هذا الوقتين وقت» . رواه البغوي وغيره. قوله عز وجل: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) } . قال قتادة: يقول: لا تضعفوا في طلب القوم، فإنكم إن تكونوا تتجعون فإنهم يتجعون كما تتجعون، {وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ} من الأجر والثواب {مَا لاَ يَرْجُونَ} .

وقال البغوي: قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ} الآية، سبب نزولها أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا يوم أحد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طائفة في آثارهم، فشكوا ألم الجراحات، فقال الله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ} ، أي: لا تضعفوا في طلب القوم أبي سفيان وأصحابه {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ} تتوجعون من الجراح، {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ} ، أي: يتوجعون يعني: الكفار، {كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} ، أي: وأنتم مع ذلك تأملون من الأجر والثواب في الآخرة، والنصر في الدنيا ما لا يرجون. {وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} . قال ابن كثير: أي: هو أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه وينفذه ويمضيه، من أحكامه الكونية والشرعية، وهو المحمود على كل حال. والله أعلم. * * *

الدرس الخامس والستون

الدرس الخامس والستون {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (106) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً (110) وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (112) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً (115) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (106) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) } . في الصحيحين عن أم سلمة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: «ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو يذرها» . وعن قتادة: بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلاً منافقًا، وكان يقول: الشعر يهجو به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ينحله بعض العرب، ثم يقول: قال فلان: كذا، وقال فلان: كذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث، فقال: أو كلما قال الرجال قصيدة ... أصموا وقالوا ابن الأبيرق قالها

قال: وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت قافلة من الشام بالدرمك، ابتاع الرجل منهم فخص به نفسه، فأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير. فقدمت قافلة من الشام، وابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك، فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما، فعدا عديّ من تحت الليل فنقب المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعلم أنه قد عديّ علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا، فذهب بسلاحنا وطعامنا. قال: فتجسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم. قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا: ونحن نسأل في الدار: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام، فلما سمع بذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال: والله ليخالطنكم هذا السيف ولتبين هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها. فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له. قال قتادة: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فقلت: يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا به. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سأنظر في ذلك» . فلما سمع بذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا

رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا، أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمته فقال: «عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت» ؟ ! قال: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي، ولم أكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. فأتيت عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الله المستعان. فلم يلبث أن نزل القرآن: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} ، يعني: بني أبيرق، {وَاسْتَغْفِرِ اللهَ} ، أي: مما قلت لقتادة: {إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} ، {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} أي: بني أبيرق، {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} إلى قوله: {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} ، أي: أنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم. {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} قولهم للبيد. {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ} ، يعني: أسيرًا وأصحابه. {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} إلى قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} ، فلما نزل القرآن أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسلاح فرده إلى رفاعة. قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح، وكان شيخًا قد عسا في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولاً، فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هو في سبيل الله. قال: فعرفت أن إسلامه كان صحيحًا. فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فنزل

على سلاقة بنت سعد بن سمية، فأنزل الله فيه: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} إلى قوله: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} . فلما نزل على سلاقة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت فرمته بالأبطح، ثم قالت: (أهديت إليّ شعر حسان، كنت تأتيني بخير) . رواه ابن جرير وغيره. قوله عز وجل: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً (110) وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (112) } . عن ابن عباس قوله: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} ، قال: أخبر الله عباده بحلمه، وعفوه، وكرمه، وسعة رحمته، ومغفرته، فمن أذنب ذنبًا صغيرًا كان أو كبيرًا، ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا، ولو كانت ذنوبه أعظم من السماوات والأرض والجبال. وقوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} ، كقوله: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} .

وقوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} ، وهذا عام في بني أبيرق وفي غيرهم. قوله عز وجل: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً (115) } . عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إصلاح ذات البين» ، قال: «وفساد ذات البين هي: الحالقة» . رواه أحمد وغيره. وقال مجاهد في قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} ، قال: من آلهة الباطل. قال البغوي: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} أي: يخالفه، {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} من التوحيد والحدود، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ، أي: غير طريق المؤمنين، {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} ، أي: نكله في الآخرة إلى ما تولى في الدنيا، {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً}

قال ابن كثير: أي: إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك، بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجًا له، كما قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} . انتهى. والله أعلم. * * *

الدرس السادس والستون

الدرس السادس والستون {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً (116) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلا إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً مَّرِيداً (117) لَّعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً (118) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً (120) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (122) لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125) وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً (126) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً (116) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلا إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً مَّرِيداً (117) لَّعَ نَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً (118) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً (120) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (121) } . قال علي رضي الله عنه: ما في القرآن آية أحب لي من هذه الآية يعني: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} . وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من نفس تموت لا تشرك بالله شيئًا، إلا حلت لها المغفرة، إن شاء الله عذبها، وإن شاء الله غفر لها {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} » . رواه ابن أبي حاتم وغيره. وقوله تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلا إِنَاثاً} . قال ابن زيد: آلهتهم: اللات، والعزى، ويساف، ونائلة. هم: إناث يدعونهم من دون الله، وقرأ: {وَإِن يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً مَّرِيداً} . وقال قتادة: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلا إِنَاثاً} ، أي: إلا ميتًا لا روح فيه. وعن مجاهد في قوله: {إِنَاثاً} . قال: أوثانًا.

وقوله تعالى: {وَإِن يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً مَّرِيداً} ، قال قتادة: تمرد على معاصي الله. وقوله تعالى: {لَّعَنَهُ اللهُ} ، أي: أخزاه، وأقصاه، وأبعده. وقوله تعالى: {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} ، عن الضحاك: نصيبًا. قال: معلومًا. وعن قتادة في قوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} ، قال: البتك في البحيرة والسائبة، كانوا يبتكون آذانها لطواغيتهم. وقال عكرمة: دين شرعه لهم إبليس. وعن مجاهد في قوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} . قال: الفطرة دين الله. وقال ابن مسعود: (لعن الله: الواشمات، والمتوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله) . وقال عكرمة: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} ، بالخصاء، والوشح، وقطع الآذان. قال القرطبي: الخصاء في غير بني آدم ممنوع في الحيوان، إلا لمنفعة خاصة في ذلك، كتطييب اللحم، أو قطع ضرر عنه. قال الحافظ ابن حجر: والنهي عن الخصاء نهي تحريم في بني آدم بلا خلاف. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (122) } . يقول تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} ، أي: صدقت قلوبهم، وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات، {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ، ويصرفونها حيث شاءوا، {خَالِدِينَ

فِيهَا أَبَداً} ، أي: بلا زوال ولا انتقال. {وَعْدَ اللهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} ، أي: لا أحد أصدق منه قولاً، فوعده واقع لا محالة. قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125) وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً (126) } . قال قتادة: ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا. فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتبنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله، نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله. فأنزل الله: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} إلى قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} ، ثم أفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان. وعن مجاهد في قوله: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} . قال: قريش، وكعب بن الأشرف، {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} . قال ابن كثير: (والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وليس كل من ادعى شيئًا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال أنه على الحق سمع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان، ولهذا قال تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن

يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} ، أي: ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله سبحانه، وإتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام) . انتهى. وعن الربيع بن زياد أنه قال لأبيّ بن كعب: قول الله تبارك وتعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} والله إن كان كل ما عملنا جزينا به هلكنا! قال: والله إن كنت لأراك أفقه مما أرى، لا يصيب رجلاً خدش ولا عثرة إلا بذنب، وما يعفوا الله عنه أكثر حتى اللدغة والنفخة. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} ، قال الضحاك: فضل الله الإسلام على كل دين فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} إلى قوله: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} ، وليس يقبل فيه عمل غير الإسلام وهي: الحنيفية. قال ابن كثير: وقوله: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} ، وهذا من باب الترغيب في اتباعه، لأنه إمام يقتدى به، حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له، فإنه انتهى إلى درجة الخلّة التي هي أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه، كما وصفه به في قوله: ... {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} . وقوله تعالى: {وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ، أي: الجميع ملكه وخلقه وعبيده، وهو المتصرف في ذلك، ألا له الخلق والأمر. {وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً} ، فلا يعذب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا يخفى عليه شيء، وهو على كل شيء قدير. والله أعلم. * * *

الدرس السابع والستون

الدرس السابع والستون {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (129) وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً حَكِيماً (130) وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيّاً حَمِيداً (131) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً (132) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً (133) مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) } . * * *

قوله عز وجل: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً (127) } . عن ابن عباس: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} ، قال: كان أهل جاهلية لا يورّثون المولود حتى يكبر، ولا يورّثون المرأة، فلما كان الإسلام قال: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} ، في أول سورة في الفرائض. {الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} ، وقالت عائشة: هذا في اليتيمة تكون عند الرجل، لعلها تكون شريكته في ماله وهو أولى بها من غيره، فيرغب عنها أن ينكحها ويعضلها لمالها، ولا ينكحها غيره، كراهية أن يشركه أحد في مالها. وقوله تعالى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} ، عن السدي قوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} ، كانوا لا يورّثون جارية، ولا غلامًا صغيرًا، فأمرهم الله أن يقوموا لليتامى بالقسط، والقسط: أن يعطى كل ذي حق منهم حقه ذكرًا كان أو أنثى، الصغير منهم بمنزلة الكبير. قوله عز وجل: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَن تَسْتَطِيعُواْ

أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (129) وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً حَكِيماً (130) } . عن خالد بن عرعرة أن رجلاً أتى عليًا رضي الله عنه يستفتيه في امرأة، خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا. فقال: قد تكون المرأة عند الرجل، فتنبوا عيناه عنها من دمامتها أو كبرها، أو سوء خلقها وفقرها، فتكره فراقه، وإن وضعت له من مهرها شيئًا حل له، وإن جعلت له من أيامها شيئًا فلا حرج. وقال عمر رضي الله عنه: هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. وقال ابن عباس رضي الله عنه: هي المرأة تكون عند الرجل فيريد أن يفارقها وتكره أن يفارقها، ويريد أن يتزوج فيقول: إني لا أستطيع أن أقسم لك بمثل ما أقسم لها، فتصالحه أن يكون لها في الأيام، فيتراضيان على ذلك، فيكونان على ما اصطلحا عليه. وقال عبيدة: يصالحها على ما رضيت دون حقها، فله ذلك ما رضيت، فإذا أنكرت أو قالت: غرت، فلها أن يعدل عليها، أو يرضيها أو يطلقها. وقوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} ، قال ابن عباس: نصيبها منه. قال ابن جرير: والشح: الإفراط في الحرص على الشيء. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} ، وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن، وتقسموا لهن أسوة

أمثالهن، فإن الله عالم بذلك، وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء. وقوله تعالى: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} ، عن ابن عباس قوله: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ} ، يعني: في الحب والجماع. وعن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول: اللهم أما قلبي فلا أملك، وأما سوى ذلك فأرجوا أن أعدل. وعن الحسن: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ} ، قال: في الغشيان والقسم. وقوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} ، قال ابن عباس: هي أيّم ولا ذات روح. وقوله تعالى: {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} . قال ابن كثير: أي: وإذا أصلحتم في أموركم، وقسمتم بالعدل فيما تملكون، واتقيتم الله في جميع الأحوال، غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض. وقوله تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً حَكِيماً} عن مجاهد في قول الله: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} قال: الطلاق: {يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} . قوله عز وجل: {وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيّاً حَمِيداً (131) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً (132) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً (133) مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) } .

عن علي: {وَكَانَ اللهُ غَنِيّاً حَمِيداً} ، قال: غنيًا عن خلقه. {حَمِيداً} قال: مستحمدًا إليهم. قال البغوي: فإن قيل: فأي فائدة في تكرار قوله تعالى: {وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ؟؟ قيل: لكل واحد منها وجه: أما الأول: فمعناه: لله ما في السَّماوات وما في الأرض، وهو يوصيكم بالتقوى فاقبلوا وصيته. وأما الثاني: فيقول: {فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيّاً حَمِيداً} ، أي: هو الغني فاطلبوا منه ما تطلبون. وأما الثالث: فيقول: {وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً} ، أي: له الملك فاتخذه وكيلاً، ولا تتوكلوا على غيره. وقوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً} ، قال قتادة: قادر والله ربنا على ذلك، أن يهلك من يشاء من خلقه ويأت بآخرين من بعدهم. وقوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً} . قال البغوي: يريد: من كان يريد بعمله عرضًا من الدنيا، ولا يريد الله عز وجل، آتاه الله من عرض الدنيا، أو دفع عنه فيها ما أراد الله، وليس له في الآخرة من ثواب، ومن أراد بعمله ثواب الآخرة، آتاه الله من الدنيا ما أحب، وجزاه الجنة في الآخرة. وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ

تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) } . قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين أن يقولوا الحق، ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم، ولا تحابوا غنيًا لغناه، ولا ترحموا مسكينًا لمسكنته، وذلك قوله: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ} فتذروا الحق فتجوروا، {وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ} ، قال: هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر. وقال مجاهد: {وَإِن تَلْوُواْ} ، أي: تبدلوا الشهادة، {أَوْ تُعْرِضُواْ} قال: تكتموها. وقال ابن عباس: تلوي لسانك بغير الحق وهي: اللجلجة، فلا تقيم الشهادة على وجهها، والإعراض: الترك. قال ابن كثير: والإعراض هو: كتمان الشهادة وتركها. قال تعالى {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» . ولهذا توعدهم الله بقوله: {فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} . والله أعلم. * * *

الدرس الثامن والستون

الدرس الثامن والستون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَلِيلاً (142) مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ

وَاعْتَصَمُواْ بِاللهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً (139) } . قيل: (نزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ} في مؤمني أهل الكتاب، أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: نؤمن بك، وبكتابك، وبموسى، والتوراة، وعزير، ونكفر بما سواه من الكتاب والرسل. فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بل آمنوا بالله ورسوله محمد، والقرآن، وبكل كتاب كان قبله» . فأنزل الله هذه الآية) . وقال الضحاك: أراد بهم اليهود والنصارى، يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} بموسى وعيسى، {آمِنُواْ} بمحمد والقرآن. وقال مجاهد: أراد بهم المنافقين، يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} باللسان، {آمِنُواْ} بالقلب. وقال أبو العالية: هذا خطاب للمؤمنين يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ} ، أي: أقيموا واثبتوا على الإيمان. وقال ابن كثير: يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع

الإيمان، وشعبه، وأركانه، ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل من باب تكميل الكامل، وتقريره، وتثبيته، والاستمرار عليه، كما يقول المؤمن في كل صلاة: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} ، أي: بصرَّنا فيه، وزدنا هدى، وثبتنا عليه. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} ، قال قتادة: هم: اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت، وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت، وكفرهم به تركهم إياه. ثم {ازْدَادُواْ كُفْراً} بالفرقان وبمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن زيد هؤلاء المنافقون، آمنوا مرتين وكفروا مرتين، ثم ازدادوا كفرًا بعد ذلك. وعن علي رضي الله عنه قال: يستتاب المرتد ثلاثًا ثم قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً} . وقال إبراهيم: يستتاب كلما ارتد، وهو قول أكثر أهل العلم. وقوله تعالى: {لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} ، أي: أقاموا على ذلك {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} ، أي: طريقًا إلى الحق. وقوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} ، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . قوله عز وجل: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ

فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) } . قوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} يشير إلى قوله في سورة الأنعام: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} . وعن هشام بن عرفة قال: أخذ عمر بن عبد العزيز قومًا على شراب فضربهم وفيهم صائم فقالوا: إن هذا صائم، {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} . وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ َإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} . قال ابن جريج: إن أصاب المسلمون من عدوهم غنيمة قال المنافقون: ألم نكن معكم؟ قد كنا معكم فأعطونا غنيمة مثل ما تأخذون، وإن كان للكافرين نصيب يصيبونه من المسلمين قال المنافقون للكافرين: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين؟ قد كنا نثبطهم عنكم. وقوله تعالى: {فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} ، عن منيع الحضرمي قال: كنت عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال رجل: يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله عز وجل: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ

لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} ، وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون؟ قال له علي: أُدْنُه، أدنه. ثم قال: {فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} يوم القيامة، قال السدي: حجة. قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَلِيلاً (142) مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) } . عن السدي: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} ، قال: يعطيهم يوم القيامة نورًا يمشون به على المسلمين كما كانوا معهم في الدنيا، ثم يسلبهم ذلك النور فيطفيه، فيقومون في ظلمتهم، ويضرب بينهم السور. وقوله تعالى: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى} ، قال قتادة: وإنه والله لولا الناس ما صلّى المنافق، ولا يصلي إلا رياء. وقوله تعالى: {وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَلِيلاً} . قال الحسن: إنما قَلّ لأنه كان لغير الله. وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال ومعهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» . وفي رواية: «والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين جنتين لشهد العشاء، ولولا ما في البيوت من النساء والذرية، لحرقت عليهم بيوتهم بالنار» . وعن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تلك صلاة

المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعًا، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً» . رواه مسلم وغيره. وقوله تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} . قال قتادة في قوله: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} يقول: ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرحين بالشرك. وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل المنافق كمثل الشاة العائزة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة، لا تدري أيهما تتبع» . رواه ابن جرير وغيره. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) } . عن قتادة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} ، وإن لله السلطان على خلقه، ولكنه يقول عذرًا مبينًا. وقال عكرمة: ما كان في القرآن من سلطان فهو حجة. وعن ابن مسعود: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} قال: في توابيت من حديد مبهمة عليهم. وقال حذيفة: ليدخلن الجنة قوم كانوا منافقين، ثم قرأ: {إِلا الَّذِينَ

تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} . وقوله تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ} ، أي: أنه لا يعذب المؤمن الشاكر. {وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً} ، أي: من أطاعه صادقًا أثابه أوفر الجزاء. والله أعلم. * * * ــــــــــــــ انتهى الجزء الأول بحمد الله، ويليه الجزء الثاني ــــــــــــــــــ

تَألِيفُ فَضَيلةِ الشَّيْخِ العَلاَّمةِ فَيْصَلَ بِنَ عَبدِ العَزِيزِ آل مُبَارَك ت 1376هـ رَحِمَهُ اللهُ الجزء الثاني من سورة النساء آية 148 إلى آخر سورة الإسراء

الدرس التاسع والستون

الدرس التاسع والستون ... {لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً (154) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِن مِّنْ أَهْلِ

الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (161) لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) } . * * *

قوله عز وجل: {لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً (149) } . عن ابن عباس: قوله: {لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ} ، أي: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلومًا، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} وإن صبر فهو خير. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المستبان ما قالا، فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلموم» . رواه أبو داود. وقوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} . في الحديث الصحيح: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه» . قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً (152) } .

قال قتادة في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ} : الآيتين أولئك أعداء الله اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة وموسى، وكفروا بالإنجيل وعيسى، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بالقرآن وبمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فاتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من لله، وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رسله. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ} كلهم. وهم: المؤمنون، {وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} ، أي: غفورًا لذنوبهم، رحيمًا بهم. قوله عز وجل: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً (154) } . عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء أناس من اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن موسى جاء بالألواح من عند الله فآتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقك، فأنزل الله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ} إلى قوله: {عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} . قال البغوي: وكان هذا السؤال منهم سؤال تحكم واقتراح، لا سؤال انقياد، والله تعالى لا ينزل آيات على اقتراح للعبادة.

قوله: {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ} ، أي: أعظم من ذلك، يعني: السبعين الذين خرج بهم موسى عليه السلام إلى الجبل، {فَقَالُواْ أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً} ، أي: عيانًا، {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} . {ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ} ، يعني: إلهًا، وثم هنا لترتيب الأخبار لا للتعقيب، لأن اتخاذهم العجل قبل سؤالهم رؤية الله عز وجل. وقوله تعالى: {مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} ، أي: المعجزات التسع، وإهلاك فرعون وجنوده، {فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ} ولم نستأصلهم بالعقوبة، {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً} ، أي: حجة بينة. وقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} . قال ابن جرير: يعني جل ثناؤه: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} ، يعني: الجبل، وذلك لما امتنعوا من العمل بما في التوراة وقبول ما جاءهم به موسى فيها. {بِمِيثَاقِهِمْ} ، يعني: بما أعطوا الله الميثاق والعهد لنعملن بما في التوراة. وقوله تعالى: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} ، قال قتادة: كنا نحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس. {وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ} أصر القوم أن لا يأكلوا الحيتان يوم السبت، ولا يعرضوا لها وأحل لهم ما وراء ذلك. وقوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} ، يعني: عهدًا مؤكدًا شديدًا، بأنهم يعملون ما أمرهم الله به، وينتهون عما نهاهم الله عنه مما ذكر في هذه الآية ومما في التوراة. قوله عز وجل: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ

الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) } . قال قتادة في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} ، يقول: فبنقضهم ميثاقهم، لعناهم، {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، أي: لا تفقه، {بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} ولعنهم حين فعلوا ذلك. قال في جامع البيان: {فَبِمَا نَقْضِهِم} ما مزيدة للتأكد {مِّيثَاقَهُمْ} فعلنا بهم ما فعلنا. وقوله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} ، قال ابن عباس: يعني: أنهم رموها بالزنا. {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} ، قال قتادة: أولئك أعداء الله اليهود، اشتهروا بقتل عيسى بن مريم رسول الله، وزعموا أنهم قتلوه وصلبوه. وذكر لنا أن نبي الله عيسى بن مريم قال لأصحابه: أيكم يقذف عليه بشبهي فإنه مقتول؟ فقال رجل من أصحابه: أنا. فقتل ذلك الرجل، ومنع الله نبيه ورفعه إليه. وقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ إتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً} قال الكلبي: اختلافهم هو أن اليهود قالت: نحن قتلناه، وقالت طائفة من النصارى: نحن قتلناه، وقالت طائفة منهم: ما قتله هؤلاء، ولا هؤلاء؛ بل رفعه الله إلى السماء، ونحن ننظر إليه.

وقوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} ، قال الحسن: والله إنه الآن لحيٌّ عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون. وعن أبي مالك في قوله: {إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ، قال: ذلك عند نزول عيسى ابن مريم، لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وإني أولى الناس بعيسى بن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر كأنّ رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، بين ممصرتين لعله - مهرودتين - فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال، ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها غير الإسلام، ويهلك الله في زمانه مسيح الغلالة الكذاب الدجال، وتقع الأمنة في الأرض في زمانه حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الغلمان والصبيان بالحيات لا يضرهم بعضهم بعضًا. ثم يلبث في الأرض ما شاء الله، وربما قال: أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه» . رواه ابن جرير. وعن قتادة: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} ، يقول: يكون عليهم شهيدًا يوم القيامة أنه قد بلغ رسالة ربه وأقر بالعبودية على نفسه. قوله عز وجل: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (161) لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ

وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) } . عن قتادة: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} الآية، عوقب القوم بظلم ظلموه، وبغي بغوه، حرمت عليهم أشياء ببغيهم وبظلمهم. وقال مجاهد في قول الله: {وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً} ، قال: أنفسهم وغيرهم عن الحق. وقوله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} . قال ابن جرير: يعني: ما كانوا يأخذون من الرشا على الحكم، كما وصفهم الله في قوله: {وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} . وقوله تعالى: {لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} . قال قتادة: استثنى الله منهم ثنية من أهل الكتاب، وكان منهم من يؤمن بالله، وما أنزل عليهم، وما أنزل على نبي الله يؤمنون به ويصدقون به، ويعلمون أنه الحق من ربهم. وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} ، يعني: الجنة. والله أعلم. * * *

الدرس السبعون

الدرس السبعون {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164) رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164) رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) } . قال ابن عباس: قال سكين، وعدي بن ثابت: يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى، فأنزل الله في ذلك من قولهما: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} إلى آخر الآيات. وقوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} . قال ابن كثير: والزبور: الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود عليه السلام. قال البغوي: وكان فيه التحميد والتمجيد، والثناء على الله عز وجل، ثم روي بسنده عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك، لقد أعطيت مزمارًا من مزامير آل داود» ، فقال: أما والله يا رسول الله لو علمت أنك تسمتع لحبرته تحبيرًا. وكان عمر رضي الله عنه إذا رآه يقول: ذكّرنا يا أبا موسى، فيقرأ عنده.

وقوله تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} في حديث أبي ذر الطويل قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا» . قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم غفير» . وقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً} هذا تشريف لموسى عليه السلام، كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} جاء رجل إلى أبي بكر بن عياش فقال: سمعت رجلاً يقرأ: وكلم اللهَ موسى تكليمًا فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر. وقرأها رجل كذلك على بعض المشايخ فقال له: ياابن اللخناء كيف تصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} ؟ ! يعني: أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل. قال الفرّاء: العرب تسمي ما يوصل إلى الإنسان كلامًا بأي طريق وصل، ولكن لا تحقّقه بالمصدر، فإذا حقّق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام. وقال ابن عباس: لما سمع موسى كلام الآدميين، مقتهم ممّا وقع في مسامعه من كلام الرب عز وجل. وقوله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً} ، عن السدي: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، فيقولوا: ما أرسلت إلينا رسلاً. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا أحد أَغْيَرُ من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد

أحبّ إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحبّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه» . قوله عز وجل: {لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) } . عن ابن عباس قال: دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعة من يهود فقال لهم: «إني والله أعلم لتعلمون أني رسول الله» فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله {لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً} قال قتادة: شهود والله غير متّهمة. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيداً} ، أي: كفروا في أنفسهم، فلم يتبعوا الحق وسعوا في صد الناس عن اتباعه. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً} . قال ابن كثير: ثم أخبر تعالى عن حكمه في الكافرين بآياته وكتابه

ورسوله، الظالمين لأنفسهم بذلك، بالصدّ عن سبيله، وارتكاب محارمه، وانتهاك مآثمه، بأنه لا يغفر لهم، {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً} ، أي: سبيلاً إلى الخير {إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} وهذا استثناء منقطع، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً} . قال البغوي: وهذا في حق من سبق حكمه فيهم أنهم لا يؤمنون. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ} ، أي: يكن الإيمان خيرًا لكم، {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} . قال ابن جرير: يقول: {وَكَانَ اللهُ عَلِيماً} بما أنتم صائرون إليه من طاعته فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، ومعصيته في ذلك، وعلى علم منه بذلك منكم أمركم ونهاكم {حَكِيماً} ، يعني: حكيمًا في أمره إيّاكم بما أمركم به، وفي نهيه إياكم عما نهاكم عنه، وفي غير ذلك من تدبيره فيكم وفي غيركم من خلقه، والله أعلم. * * *

الدرس الحادي والسبعون

الدرس الحادي والسبعون {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً (171) لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً (171) } . قال البغوي: نزلت في النصارى وهم أصناف: اليعقوبية، والملكانية، والنسطورية، والمرقسية. فقالت اليعقوبية: عيسى هو الله، وكذلك الملكانية. وقالت النسطورية: عيسى هو ابن الله. وقالت المرقسية: ثالث ثلاثة، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأصل الغلوّ مجاوزة الحد. وعن الربيع: ثاروا فريقين: فريق غلوا في الدين فكان غلوّهم فيه الشك فيه والرغبة عنه، وفريق منهم قصروا عنه ففسقوا عن أمر ربهم. وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» . رواه أحمد وغيره. وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} ، عن قتادة: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} ، قال: هو قوله: كن،

فكان. وقال شاذ بن يحيى في قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} : ليس الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنّة حقّ والنار حقّ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» . متفق عليه. وقوله تعالى: {فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} ، لأن النبي إنما يجوز لمن يتصور له، ولد وذلك لا يجوز على الرب، كما قال تعالى: {وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} ، ولهذا قال تعالى: {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ ... وَكِيلاً} . قوله عز وجل: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (173) } . قال ابن جرير: يعني جل ثناؤه يقول: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ} لن يأنف

ولن يستكبر المسيح أن يكون عبدًا لله. وقال قتادة: لن يحتشم المسيح أن يكون عبدًا لله {وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} . وقوله تعالى: {وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} . قال البغوي: قيل: الاستنكاف هو التكبر مع الأنفة، والاستكبار: هو العلو والتكبر من غير أنفة. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} من تضعيف ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأما الذين استنكفوا واستكبروا عن عبادته فيعذبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون اللهِ ولياً ولا نصيراً. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (175) } . عن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} ، أي: بينة من ربكم، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} ، وهو هذا القرآن. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} ، قال ابن جريج في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ} ، قال: بالقرآن. وقال البغوي: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ} امتنعوا به من زيغ الشيطان {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ} ، يعني: الجنة. ... {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} . قال ابن جرير: يقول: ويوفقهم لإِصابة فضله الذي تفضّل به على أوليائه،

ويسدّدهم لسلوك منهج مَنْ أنعم عليه من أهل طاعته ولاقتفاء آثارهم وإتباع دينهم، وذلك هو الصراط المستقيم، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، وهو الإِسلام. قوله عز وجل: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) } . في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال: (دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مريض لا أعقل، قال: فتوضّأ ثم صبر عليّ فعقلت، فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فأنزل الله آية الفرائض وفي لفظ: فنزلت آية الميراث {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} الآية) . وعن عمر قال: ما سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة، حتى طعن بأصبعه في صدري، وقال: «يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء» . رواه أحمد وغيره. قال ابن كثير: فسّرها أكثر العلماء فيمن يموت وليس له ولد ولا والد. قال قتادة: وذكر لنا أن أبا بكر الصديق قال في خطبته: ألا إن الآية التي نزلت في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها الله في الولد والوالد، والآية الثانية: أنزلها الله في الزوج والزوجة والإِخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء: أنزلها في الإِخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها سورة

الأنفال: أنزلها في أولي الأرحام، بعضهم أولى ببعض في كتاب الله مما جرت الرحم من العصبة. وعن السدي: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} ، يقول: مات {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ذكر ولا أنثى {وَلَهُ أُخْتٌ} . قال ابن جرير: يعني: وللميت أخت لأبيه وأمه، أو لأبيه {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ، يقول: فلأخته التي تركها بالصفة التي وصفنا نصف تركته ميراثًا عنه دون سائر عصبته، وما بقي فلعصبته. قال: فأمّا إذا كان للميت ولد أنثى، فهي مع عصبة. وعن ابن جريج قوله: {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} . قال: في شأن المواريث {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . قال ابن جرير: يعني بذلك جل ثناؤه: والله بكل شيء من مصالح عباده في قسمة مواريثهم وغيرها، وجميع الأشياء {عَلِيمٌ} ، يقول: هو بذلك كلَّه ذو علم. انتهى. والله أعلم وبالله التوفيق. * * *

الدرس الثاني والسبعون

الدرس الثاني والسبعون [المائدة] مدنية، وهي مائة وعشرون آية ... عن عبد الله بن عمرو قال: (آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح) . رواه الترمذي. يعني: إذا جاء نصر الله والفتح. روى الحاكم عن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: (يا جبير تقرأ المائدة؟) فقلت: نعم. فقالت: (أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه، وما وجدتم من حرام فحرّموه) . بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن

صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) } . عن ابن عباس: قوله: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} ، يعني: بالعهود. وعن مجاهد: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} ما عقد الله على العباد مما أحل لهم، وحرّم عليهم. وقال عبد الله بن عبيدة: العقود خمس: عقدة الإِيمان، وعقدة النكاح، وعقدة العهد، وعقدة البيع، وعقدة الحلف. وقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} ، قال الحسن: من الإبل، والبقر، والغنم. وعن ابن عباس: أن بقرة نُحرت فوُجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنب الجنين فقال: هذا من بهيمة الأنعام التي أحلّت لكم. وقوله تعالى: {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} ، قال قتادة: إلا الميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه. وعن ابن عباس: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} ، هي: الميتة، والدم، ولحم الخنزير ما أهل لغير الله به. وقال مجاهد: إلا الميتة وما ذكر معها. وقوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} .

قال البغوي: معنى الآية: أحلّت لكم بهيمة الأنعام كلّها إلا ما كان منها وحشيًّا، فإنه صيد لا يحل لكم في حال الإِحرام. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللهِ} ، قال ابن عباس: كان المشركون يحجّون البيت الحرام، ويهدون الهدايا، ويعظّمون حرمة المشاعر، ويتّجرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يُغيروا عليهم، فقال الله عز وجل: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللهِ} وسئل عطاء عن شعائر الله فقال: حرمات الله: اجتناب سخط الله وإتباع طاعته، فذلك شعائر الله. وقال ابن عباس: مناسك الحج. وقوله تعالى: {وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ} ، قال ابن عباس: يعني: لا تستحلوا قتالاً فيه. قال قتادة: كان الشرك يومئذٍ لا يصد عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام، ولا عند البيت. وقوله تعالى: {وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ} ، أي: لا تتعرضوا للهدايا المقلّدات وغير المقلّدات. وقال قتادة: كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج، يقلّد من الشعر فلم يعرض له أحد، فإذا رجع يقلّد قلادة فلم يعرض له أحد. وقوله تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} ، قال ابن جريج: ينهى عن الحجاج أن تقطع سبلهم. وقال ابن عباس: نهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدًا أن يحج البيت، أو يعرضوا له من مؤمن وكافر، ثم أنزل الله بعد هذا: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} . وقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} ، قال مجاهد: هي رخصة.

وقوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ} ، قال قتادة: أي: لا يحملنكم بغض قوم أن تعتدوا. قال ابن كثير: أي: لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدّوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام، وذلك عام الحديبية على أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتقتصّوا منهم ظلمًا وعدوانًا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد. وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، قال ابن عباس: البرّ ما أمرت به، والتقوى ما نهيت عنه. قوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3) } . قال ابن كثير: قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ ِ} ، أي: ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله فهو حرام، لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته ... على اسمه العظيم، فمتى عدل بها عن ذلك وذكر اسم غيره من صنم، أو طاغوت، أو وثن، أو غير ذلك من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع. وقال ابن عباس: المنخنقة: التي تختنق فتموت؛ وقال قتادة: هي التي تموت في خناقها، وقال أيضًا: كان أهل

الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها. والموقوذة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصا حتى إذا ماتت أكلوها. وقال السدي: المتردية هي التي تردّى من الجبل أو البئر فتموت. والنطحية: التي تنطحها البقر والغنم فتموت، يقول: هذا حرام لأن ناسًا من العرب كانوا يأكلونه. وعن ابن عباس: وما أكل السبع يقول: وما أخذ السبع. قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع سيئًا من هذا أو أكل منه أكلوا ما بقي. وقوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} ، قال ابن عباس: يقول: ما أدركت ذكاته من هذا كله يتحرك له ذنب، أو تطرف له عين، فاذبح، واذكر الله عليه، فهو حلال. وقوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} ، قال قتادة: والنصب حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها فنهى الله عن ذلك. قال ابن كثير: فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب، حتى لو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. وقوله تعالى: {وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ} ، قال الحسن: كانوا إذا أرادوا أمرًا أو سفرًا يعمدون إلى قداح ثلاثة على واحد منها مكتوب: أؤمرني، وعلى الآخر: انهني، ويتركون الآخر محلّلاً بينهما ليس عليه شيء، ثم يحلّونها فإن خرج الذي عليه: أؤمرني، مضوا لأمرهم، وإن خرج الذي عليه: انهني، كفّوا وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها. وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} ، قال ابن عباس: يعنى: من أكل من ذلك كله فهو فسق.

وقال ابن كثير: {وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} ، أي: تعاطيه فسق وغيّ وضلالة وجهالة وشرك، وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه. وقوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} ، قال مجاهد: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} ، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} : هذا حين فعلت. وقال ابن زيد في قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} ، قال: هذا يوم عرفة. وقال ابن عباس: يعني: أن ترجعوا إلى دينهم أبدًا. قال ابن كثير: ويحتمل أن يكون المراد أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين لما تميّز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله. وقال ابن جريج: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم، {وَاخْشَوْنِ} . قال ابن جرير يقول: ولكن خافون إن أنتم خالفتم أمري، واجترأتم على معصيتي، وتعدّيتم حدودي، أن أحلّ بكم عقابي وأنزل بكم عذابي. وعن ابن عباس: قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، وهو: الإسلام، قال: أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدًا. وعن هارون بن عنترة عن أبيه: قال لما نزلت: ... {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وذلك يوم الحج الأكبر، بكي عمر فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما يبكيك» ؟ قال: أبكاني أنَّا كنا في زيادة من

ديننا، فأمّا إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلاَّ نقص، فقال: «صدقت» . وعن قتادة: قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} الآية: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة يوم الجمعة، حين نفى الله المشركين عن المسجد الحرام وأخلص للمسلمين حجهم. قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، قال ابن عباس: {فِي مَخْمَصَةٍ} ، يعني: في مجاعة. وقال مجاهد {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لّإِثْمٍ} غير متعمد لإثم، وقال السدي: يقول: غير متعرض لإِثم، أي: يبتغي فيه شهوة أو يتعدّى في أكله. وعن أبي واقد الليثي قال قلنا: يا رسول الله إنا بأرض يصيبنا فيها مخمصة، فما يصلح لنا من الميتة؟ قال: «إذا لم تصطبحوا، أو تغتبقوا، أو تحتفتوا بقلاً فشأنكم بها» . رواه ابن جرير. قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) } . روى ابن أبي حاتم عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين أنهما سألا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا: يا رسول الله قد حرّم الله الميتة فماذا يحلّ لنا منها؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} .

وعن الحسن في قوله: {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} ، قال: كل ما علم فصاد من كلب أو صقر أو فهد أو غيره. قال ابن جرير: فقوله: {مُكَلِّبِينَ} صفة للقانص، وإن صاد بغير الكلاب في بعض أحيانه. وقوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ} . قال البغوي: {تُعَلِّمُونَهُنَّ} تؤدبوهن آداب أخذ الصيد، {مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ} ، أي: من العلم الذي علمكم الله. قال ابن عباس: إن المُعَلَّم من الكلاب: أن يمسك صيده، فلا يأكل منه حتى يأتيه صاحبه، فإن أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه، فيدرك ذكاته فلا يأكل من صيده. وقال طاوس: إذا أكل الكلب فهو ميتة فلا تأكل. وقال إبراهيم: إذا أكل البازي، والصقر من الصيد فكل، فإنه لا يعلّم. وروى ابن أبي حاتم عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فما يحلّ لنا منها؟ قال: «يحلّ لكم ما علّمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علّمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه» . ثم قال: ... «ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله عليه، فكُلْ مما أمسك عليك» . قلت: وإن قتل؟ قال: «وإن قتل، ما لم يأكل» ، قلت: يا رسول الله وإن خالطت كلابنا كلابًا غيرها؟ قال: «فلا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك» ، قال: قلت: إنا قوم نرمي فما يحل لنا؟ قال: «ما ذكرت اسم الله عليه وخزفت فكل» .

قال ابن كثير: اشترط في الكلب أن لا يأكل، ولم يشترط ذلك في البزاة فدل على التفرقة بينهما في الحكم والله أعلم. وقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ، قال قتادة: إذا أرسلت كلبك المعلّم، أو طيرك، أو سهمك، فذكرت اسم الله فأخذ، أو قتل، فكل. وقال الضحاك: إذا أرسلت كلبك المعلّم فذكرت اسم الله حين ترسله، فأمسك، أو قتل هو حلال، فإذا أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسكه على نفسه. وقال ابن عباس: إذا أرسلت جوارحك فقل: بسم الله إن نسيت فلا حرج. قوله عز وجل: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) } . قال ابن جرير: يعني جل ثناؤه بقوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} : اليوم أحل لكم أيها المؤمنون الحلال من الذبائح والمطاعم دون الخبائث منها. وعن مجاهد: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} ، قال: الذبائح. وقال الضحاك: أحلّ الله لنا طعامهم ونساءهم. وعن الشعبي أنه كان لا يرى بأسًا بذبائح نصارى بني تغلب، وقرأ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} . وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي

أَخْدَانٍ} ، عن مجاهد: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} ، قال: الحرائر. وقال الشعبي: إحصان اليهودية والنصرانية أن لا تزني وتغتسل من الجنابة. وعن ابن عباس: قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} ، يعني: ينكحوهن بالمهر والبيّنة {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} متعالين بالزنا، {وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} ، يعني: يسرّون بالزنا. وسئل الحسن: أيتزوج رجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ماله ولأهل الكتاب، وقد أكثر الله المسلمات؟ فإن كان لا بد فاعلاً فليعمد إليها حصانًا غير مسافحة. وعن عطاء: أن الرخصة كانت مختصةً بذلك الوقت؛ لأنه كان في المسلمات قلّة، وكان عمر لا يرى نكاح الكتابيات أصلاً متمسكًا بقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} . قلت: وأكثر اليهود والنصارى في هذا الوقت دهرية، ولا يتمسكون بكتاب. وقوله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، قال عطاء: الإِيمان: التوحيد. والله أعلم. * * *

الدرس الثالث والسبعون

الدرس الثالث والسبعون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) } . سئل عكرمة عن قول الله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فكلّ ساعة يتوضأ؟ فقال: قال ابن عباس: لا وضوء إلا من حدث. وقال السدي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} ، يقول: قمتم وأنتم على غير طهر. وعن أنس قال: توضأ عمر بن الخطاب وضوءًا فيه تجوّز خفيفًا، فقال: هذا وضوء من لم يُحْدث. وعن بريدة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكلّ صلاة فلما كان عام الفتح صلَّى الصلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه، فقال عمر: إنك فعلت شيئًا لم تكن تفعله! قال: «عمدًا فعلتُه» . قال ابن جرير كلامًا معناه: أنه أَمْرُ فرضٍ على المحدث، وأمرُ ندبٍ إن كان على طهر. وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات» . رواه ابن جرير. وقوله تعالى: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} ، قال إبراهيم: يجزي اللحية ما سال

عليها من الماء. وكان الحسن إذا توضأ مسح لحيته مع وجهه. وعن قتادة عن الحسن قال: ليس عرك العارضين في الوضوء بواجب. وقال أبو عمر: وليس عرك العارضين وتشبيك اللحية بواجب في الوضوء. وعن شعبة قال: سألت الحكم وقتادة عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض ولم يستنشق، فقال: يمضي في صلاته. وقال ابن عمر: الأذنان من الرأس، فإذا مسحت الرأس فامسحها؛ وعنه أنه: (كان إذا توضأ عرك عارضيه، وشبك لحيته بأصابعه أحيانًا، ويترك أحيانًا) . وعن أم سلمة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فخلّل لحيته) . رواه ابن جرير. وعن أبي أيوب قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ تمضمض ومسح لحيته من تحتها بالماء) . رواه ابن جرير. قال ابن جرير: الوجه الذي أمر الله جلّ ذكره بغسله، كل ما انحدر عن منابت شعر الرأس إلى منقطع الذقن طولاً، وما بين الأذنين عرضًا، مما هو ظاهر لعين الناظر. وقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ، قال الشافعي: لم أعلم مخالفًا في المرافق فيما يغسل. وقال ابن جرير: فأما المرفقان وما وراءهما، فإن ذلك من الندب.

وقال البغوي: قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ، أي: مع المرافق، وأكثر العلماء على أنه يجب غسل المرفقين. وقوله تعالى: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} في الصحيحين عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه: (أن رجلاً قال لعبد الله بن زيد: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بوضوء، فأفرغ على يديه فغسل يديه مرتين مرتين، ثم مضمض واستنشق ثلاثًا، وغسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه) . وقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} ، أي: واغسلوا أرجلكم مع الكعبين. وعن ابن عباس أنه قرأها: فامسحوا برؤسكم وأرجلَكم بالنصب، وقال: عاد الأمر إلى الغسل. وعن ابن مسعود قال: خلّلوا الأصابع بالماء لا تخلّلها النار. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أسبغوا الوضوء، ويلٌ للأعقاب من النار» . رواه مسلم، زاد البيهقي: «وبطون الأقدام» . وعن حذيفة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى سباطة قوم فبال قائمًا ثم توضأ ومسح على خفيه) . متفق عليه.

وقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ} ، أي: اغتسلوا. وقوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} فيه دليل على أن التيمم يكفي من لا يجد الماء عن الحدث الأصغر والأكبر، وكذلك المريض، إذا خاف الضرر من استعماله. وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قال مجاهد: {مِّنْ حَرَجٍ} من ضيق. وعن كعب بن مرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من رجل يتوضأ فيغسل وجهه إلا خرجت خطاياه من وجهه وإذا غسل يديه أو ذراعيه خرجت خطاياه من ذراعيه، فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه، وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه» . رواه ابن جرير وغيره. قوله عز وجل: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم

مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) } . عن مجاهد: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ} ، قال: بالنعم. وعن ابن عباس: قوله: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} الآية. يعني: حيث بعث الله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الكتاب فقالوا: آمنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبالكتاب. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ} ، أي: كونوا قوامين بالحق لله عز وجل، وكونوا {شُهَدَاء بِالْقِسْطِ} ، أي: بالعدل لا بالجور. {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ} ، أي: لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد صديقًا كان أو عدوًا. وقوله تعالى: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ، أي: اعدلوا في أوليائكم وأعدائكم، فالعدل أقرب إلى التقوى من تركه. وقوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ، أي: وعد الله المؤمنين الجنة ووقفهم لأعمالها، وأعدّ للكافرين النار بتكذيبهم وعتّوهم. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .

عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر قالا: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير ليستعينهم على دية العامريّين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، فلما جاءهم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا محمدًا أقرب منه الآن فَمُرُوا رجلاً يظهر هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه، فقام عمرو بن جحاش بن كعب؛ فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر، وانصرف عنهم، فأنزل الله عز ذكره فيهم وفيما أراد هو وقومه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} الآية. والله أعلم. * * *

الدرس الرابع والسبعون

الدرس الرابع والسبعون {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ

الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (14) } . عن أبي العالية في قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} . قال: أخذ الله مواثيقهم أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره. {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} . قال ابن جرير: يعني بذلك: وبعثنا منهم اثني عشر كفيلاً، كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه؛ والنقيب في كلام العرب: العريف على القوم، غير أنه فوق العريف. قال قتادة: من كل سبط رجل شاهد على قومه.

وقوله تعالى: {وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً} ، عن مجاهد في قوله: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} . قال: نصرتموهم؛ وقال ابن زيد: التعزير والتوقير: الطاعة والنصرة. قال ابن جرير: وأما قوله: {وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً} ، فإنه يقول: وأنفقتم في سبيل الله، وذلك في جهاد عدوه وعدوكم. قوله تعالى: {لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} . قال في جامع البيان: {لأُكَفِّرَنَّ} جواب القسم، سدَّ مسدَّ جواب الشرط. وقال البغوي في قوله تعالى: ( {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ} ناصركم على عدوكم؛ ثم ابتدأ الكلام فقال: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ} يا معشر بني إسرائيل، ... {وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} ، أي: أخطأ قصد السبيل، يريد طريق الحق، وسواءُ كلِّ شيء: وسطُه) . انتهى ملخّصًا. وقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} ، عن قتادة: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} ، يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم. وقال ابن عباس: هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه. {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} ، أي: يابسة لا تلين.

{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} . قال ابن عباس: يعني: حدود الله في التوراة، يقولون: إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه، فإن خالفكم فاحذروا. وعن الحسن في قوله: {وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} . قال: [تركوا] عرى دينهم، ووظائف الله جل ثناؤه التي لا تقبل الأعمال إلا بها. وقال السدي: يقول: تركوا نصيبًا. وقوله تعالى: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، عن قتادة في قوله: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ} . قال: على خيانة وكذب وفجور. قال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. قال ابن كثير: ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، يعني به: الصفح عمن أساء إليك. وقوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} ، عن قتادة: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} نسوا كتاب الله بين أظهرهم، وعهد الله الذي عهد إليهم، وأمر الله الذي أمرهم به. وعن إبراهيم النخعي في قوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء} . قال: هذه الأهواء المختلفة والتباغض، فهو الإِغراء. وقال قتادة: إن القوم لما تركوا كتاب الله، وعصوا رسله، وضيّعوا فرائضه، وعطّلوا حدوده، ألقى بينهم العدواة والبغضاء إلى يوم القيامة، بأعمالهم أعمال السوء، ولو أخذ القوم كتاب الله، وأمره ما افترقوا. وقال الربيع: إن الله عز ذكره تقدم إلى بني إسرائيل أن

لا تشتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً، وعَلَّموا الحكمة ولا تأخذوا عليها أجرًا، فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم، فأخذوه الرشوة في الحكم، وخانوا الحدود، فقال في اليهود حيث حكموا بغير ما أمر الله، {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، وقال في النصارى: {فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} . قوله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16) } . عن قتادة: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا} ، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -، {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} . قال ابن عباس: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب فكان الرجم مما أخفوا. وقوله تعالى: {وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} ، أي: يعرض عن كثير مما أخفيتم فلا يتعرض له. وقوله تعالى: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، عن السدي: {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ} سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه وانبعث به رسله، وهو الإِسلام، الذي لا يقبل من أحد عملاً إلا به، لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية. قوله عز وجل: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ

ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) } . قال البغوي: قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وهم اليعقوبية من النصارى. {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً} أي: من يقدر أن يدفع من أمر الله شيئًا إذا قضاه؟ {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . قال ابن جرير: يقول الله جل وعز: كيف يكون إلهًا يُعْبد من كان عاجزًا عن دفع ما أراد به غيره من السوء، وغير قادر على صرف ما نزل به من الهلاك؟ بل الإِله المعبود الذي له ملك كل شيء، وبيده تصريف كل من في السماء والأرض وما بينهما. وعن ابن عباس قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعمان بن أضا، وبحري بن عمر، وشاس بن عديّ فكلّموه، فكلّمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوّفنا يا محمد، نحن أبناء الله وأحباؤه - كقول النصارى - فأنزل الله جل وعز فيهم: ... {وَقَالَتِ الْيَهُودُ

وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} إلى آخر الآية. وقوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ} كسائر بني آدم، مجزيّون بالإساءة والإِحسان، يغفر لمن يشاء فضلاً، ويعذب من يشاء عدلاً. {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ، أي: المرجع والمآب. قوله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) } . قال قتادة: كانت الفترة بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ذكر لنا أنها كانت ستمائة سنة أو ما شاء الله من ذلك. والله أعلم. * * *

الدرس الخامس والسبعون

الدرس الخامس والسبعون {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23) قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ (20) } . عن ابن عيينة: {اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ} ، قال: أيادي الله عليكم، وأيامه {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً} . وعن مجاهد في قوله: {وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً} ، قال: جعل لكم أزواجًا، وخدمًا، وبيوتًا. وقوله: {وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ} ، قال ابن عباس: أي: الذين هم بين ظهرانيهم يومئذٍ. وقوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) } . قال مجاهد: {الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} : الطور وما حوله. وقال قتادة: هي: الشام. وقال ابن عباس هي: أريحا. وقال مجاهد: {المُقَدَّسَةَ} : المباركة. وقال ابن إسحاق: {الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} : التي وهب الله لكم {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} ، أي: ولا تقعدوا عن الجهاد فتبوءوا بالخسار. وقوله: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) } . قال قتادة: ذُكر لنا أنهم كانت لهم أجسام وخلق ليست لغيرهم. وقال ابن إسحاق: إن كالب بن يوقنا أسكت الشعب عن موسى - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: إنا سنعلوا الأرض ونرثها وإن لنا بهم قوة، وأما الذين كانوا معه فقالوا: لا نستطيع أن نهدأ

إلى ذلك الشعب من أجل أنهم أجرأ منا، ثم إن أولئك الجواسيس أخبروا نبي إسرائيل الخبر، وقالوا: إنا مررنا في أرض وأحسسناها فإذا هي تأكل ساكنها، ورأينا رجالها جسامًا، ورأينا الجبابرة بني الجبابرة، وكنا في أعينهم مثل الجراد، فأرجفت الجماعة من بني إسرائيل، فرفعوا أصواتهم بالبكاء فبكى الشعب تلك الليلة، ووسوسوا على موسى وهارون، فقالوا لهما: يا ليتنا متنا في أرض مصر، وليتنا نموت في هذه البرية، ولم يدخلنا الله هذه الأرض لنقع في الحرب، فتكون نساؤنا وأبناؤنا وأثقالنا غنيمة، ولو كنا قعودًا في أرض مصر كان خيرًا لنا، وجعل الرجل يقول لأصحابه: تعالوا نجعل علينا رأسًا، وننصرف إلى مصر. قوله تعالى: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23) } . قال ابن عباس: فرجعوا - يعني: النقباء الاثني عشر - إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم فقال لهم موسى: اكتموا شأنهم، ولا تخبروا به أحدًا من أهل العسكر، فإنكم إن أخبرتموهم بهذا الخبر فشلوا ولم يدخلوا المدينة. قال فذهب كل رجل منهم فأخبر قريبه وابن عمه إلا هاذان الرجلان فإنهما كتما. هما: يوشع بن نون، وكلاب بن يوقنا، فإنهما كتما ولم يخبرا به أحدًا، وهما اللذان قال الله: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} وكان قتادة يقول في بعض القراءة: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ الله أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا} .

قال ابن جرير: أنعم الله عليهما بطاعة الله في طاعته بنبيه موسى - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن إسحاق: لما همّ بنو إسرائيل بالانصراف إلى مصر حين أخبرهم النقباء بما أخبروهم من أمر الجبابرة، خرّ موسى، وهارون على وجوهما سجودًا قدام جماعة بني إسرائيل، وخرق يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا ثيابهما وكانا من جواسيس الأرض، وقالا لجماعة بني إسرائيل: إن الأرض مررنا بها، وحسبناها صالحة رضيها ربنا لنا، فوهبنا لنا، وإنها لم تكن تفيض لبنًا وعسلاً، ولكن افعلوا واحدة، لا تعصوا الله، ولا تخشوا الشعب الذي بهما، فإنهم جبناء مدفوعون في أيدينا، إن جرّبناهم ذهبت منهم، وإن الله معنا فلا تخشوهم، فأراد الجماعة من بني إسرائيل [أن] يرجمونهما بالحجارة. وقوله: {قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) } . عن المقداد بن الأسود أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: اذْهبْ أَنتَ وربُّك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون. ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. رواه ابن جرير. وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) } . قال ابن عباس: يقول: اقض بيننا وبينهم. قال الربيع: لما قال لهم القوم ما قالوا ودعا موسى عليهم، وأوحى الله إلى موسى أنها: {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً

يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} ، وهم يومئذٍ فيما ذُكر: ستمائة ألف مقاتل، فجعلهم فاسقين بما عصوا، فلبثوا أربعين سنة في فراسخ ستة، أو دون ذلك، يسيرون كل يوم جادّين لكي يخرجوا منها حتى يُمسوا، ونزلوا فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا، وأنهم اشتكوا إلى موسى ما فعل بهم، فأنزل عليهم المن والسلوى، وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم، ينشأ الناشئ فتكون معه على هيئة، وسأل من ربه أن يسقيهم، فأتى بحجر الطور، وهو حجر أبيض إذا ما نزل القوم ضربه بعصاه، فيخرج منه اثنتا عشرة عينًا لكل سبط منهم عين، قد علم كل أناس مشربهم، حتى إذا خلت أربعون سنة، وكانت عذابًا بما اعتدوا وعصوا. وأنه أوحى إلى موسى أن يأمرهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة، فإن الله قد كفاهم عدوهم، وقل لهم: إذا أتوا المسجد أن يأتوا الباب، ويسجدوا إذا دخلوا، ويقولوا حطة، وإنما قولهم: حطة أن يحطّ عنهم خطاياهم، فأبى عامة القوم، وسجدوا على خدهم وقالوا: حنطة، فقال الله جل ثناؤه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} . وعن ابن عباس قال: لما دعا موسى قال الله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} ، قال: فدخلوا التيه، فكل من دخل التيه ممن جاز العشرين سنة مات في التيه. قال: فمات موسى في التيه، ومات هارون قبله، قال: فلبثوا في تيههم أربعين سنة، فناهض يوشع بمن بقى معه مدينة الجبارين، فافتتح يوشع المدينة. * * *

الدرس السادس والسبعون

الدرس السادس والسبعون {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ

الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) } . * * *

قوله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) } . عن مجاهد في قول الله: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} ، قال: ابني آدم هابيل وقابيل لصُلب آدم، فقرّب أحدهما شاةً، وقرّب الآخر بقلاً، فقبل من صاحب الشاة، فقتله صاحبه. قال البغوي: وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: إن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة، فحملت فيها بقابيل وتوأمته أقليما فلم تجد عليهما وحمًا ولا وصبًا ولا طلقًا حتى ولدتهما، ولم تر معهما دمًا، فلما هبط إلى الأرض تغشّاها فحملت بهابيل وتوأمته، فوجدت عليهما الوحم، والوصب، والطلق، وكان آدم إذا شبّ أولاده يزوج غلام هذا البطن جارية بطن أخرى، فكان الرجل منهم يتزوج أية أخواته شاء إلا توأمته

التي ولدت معه، لأنه لم يكن يومئذٍ نساء إلا أخواتهم ، فلما ولد قابيل وتوأمته أقليما ثم هابيل وتوأمته لبودا، وكان بينهما سنتان - في قول الكلبي - وأدركوا، أمرَ الله تعالى آدم عليه السلام أن ينكح قابيل لبودا أخت هابيل، وينكح هابيل أقليما أخت قابيل، وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل، فذكر ذلك آدم لولده فرضي هابيل وسخط قابيل، وقال: هي أختي أنا أحق بها، ونحن من ولادة الجنة، وهما من ولادة الأرض، فقال له أبوه: إنها لا تحل لك، فأبى أن يقبل ذلك، وقال: إن الله لم يأمره بهذا، وإنما هو من رأيه، فقال لهما آدم عليه السلام: فقرّبا قربانًا، فأيّكما يقبل قربانه فهو أحقّ بها، وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نار من السماء بيضاء فأكلتها، وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار، وأكلته الطير والسباع؛ فخرجا ليقرّبا قربانًا، وكان قابيل صاحب زرع، فقرّب صبرة من طعام من أردأ زرعه، وأضمر في نفسه: ما أبالي يقبل مني أم لا، لا يتزوج أختي أبدًا، وكان هابيل صاحب غنم، فعمد إلى أحسن كبش في غنمه فقرّب به، وأضمر في نفسه رضا الله عز وجل، فوضعا قربانهما على الجبل، ثم دعا آدم عليه السلام، فنزلت نار من السماء وأكلت قربان هابيل، ولم تأكل قربان قابيل، فذلك قوله عز وجل: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} ، يعني: هابيل، {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} ، يعني: قابيل، فنزلوا على الجبل وقد غضب قابيل لردّ قربانه، وكان يضمر الحسد في نفسه، إلى أن أتى آدم مكة لزيارة البيت، فلما غاب آدم أتى قابيلُ هابيلَ وهو في غنمه، قال لأقتلنك قال: ولِمَ؟ قال: لأن الله تعالى قبل قربانك وردّ قرباني، وتنكح أختي الحسناء، وأنكح أختك الدميمة، فيتحدث الناس أنك خير مني، ويفتخر ولدك على ولدي. قال هابيل: وما ذنبي؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ} ، أي: مددت {إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} . قال عبد الله بن عمرو: وأيم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين، ولكن منعه

التحرج أن يبسط إلى أخيه يده؛ وهنا في الشرع جائز لمن أريد قتله أن ينقاد ويستسلم طلبًا للأجر، كما فعل عثمان رضي الله عنه. انتهى. وقوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ} ، عن قتادة: قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} ، يقول: بقتلك إياي، {وَإِثْمِكَ} قبل ذلك. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سنّ القتل» . وقوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} عن مجاهد: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} ، قال: شجعت. وقوله تعالى: {فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} ، قال مجاهد: بعث الله غرابًا يبحث في الأرض، حتى حفر لآخر ميت إلى جنبه فغيّبه، وابن آدم القاتل ينظر إليه فقال: يَا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين، قال الحسن البصري: علاه الله بندامة بعد خسران. قوله عز وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) } . عن قتادة: قوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ َ

نفْسٍ} الآية، من قتلها على غير نفس، ولا فساد أفسدته، ... {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} عظّم - والله - أجرها وعظّم أزرها، فأحيها يا ابن آم بمالك، وأحيها بعفوك إن استطعت، ولا قوة إلا بالله، وإنا لا نعلمه يحلّ دم رجل مسلم من أهل هذه القبلة إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه فعليه القتل، أو زنى بعد إحصانه فعليه الرجم، أو قتل متعمدًا فعليه القود. وقال سليمان بن علي: قلت للحسن: يا أبا سعيد أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ قال: إي والذي لا إله غيره، ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا. قوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (34) } . عن الحسن: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} ، قال: نزلت في أهل الشرك. وعن زيد بن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره، أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة، قال أنس: فارتدوا عن الإِسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإِبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام. وقال الوليد بن مسلم: قلت لمالك بن أنس: تكون محاربة في المِصْر؟ قال: نعم، والمحارب عندنا من حمل السلاح على المسلمين في مِصْرٍ أو خلاء، فكان ذلك منه على غير ثائرة كانت بينهم ولا دخل ولا عداوة، قاطعًا للسبيل والطريق والديار، مختفيًا لهم بسلاحه، فقتل أحدًا منهم، قتله الإِمام كقتلة المحارب، ليس لوليّ المقتول فيه عفو ولا قود.

وعن ابن عباس: قوله: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} إلى قوله: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} ، قال: إذا حارب فقتل فعليه القتل إذا ظهر عليه قبل توبته، ولو حارب، وأخذ المال، وقتل فعليه الصلب إن ظهر عليه قبل توبته، وإذا حارب، ولم يقتل، فعليه قطع اليد والرجل من خلاف إن ظهر عليه قبل توبته، وإذا حارب، وأخاف السبيل فإنما عليه النفي. وقال أبو حنيفة: معنى النفي في هذا الموضع: الحبس. قال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معنى النفي عن الأرض في هذا الموضع هو نفيه من بلد إلى بلد غيره، وحبسه في السجن في البلد الذي نفي إليه، حتى يظهر توتبه من فسوقه، ونزوعه من معصيته ربه. وعن الشعبي: أن حارثة بن بدر خرج محاربًا فأخاف السبيل، وسفك الدم، وأخذ الأموال، ثم جاء تائبًا من قبل أن يقدر عليه، فقبل علي بن أبي طالب عليه السلام توبته وجعل له أمانًا منشورًا على ما كان أصاب من دم أو مال. وقال الشافعي: تضع توبته عنه حق الله الذي وجب عليه بمحاربته ولا يسقط عنه حقوق بني آدم. وقال: فتحول إذا أعطاه الإمام أمانًا فهو آمن، ولا يقام عليه حدّ ما كان أصاب. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (37) } .

عن أبي وائل: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} ، قال: القربة في الأعمال. وقال ابن زيد في قوله: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} ، قال: المحبة تحبّبوا إلى الله ، وقرأ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} . وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلّت له شفاعتي يوم القيامة» . رواه أهل السنن. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} ، عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس: يا أعمى البصر أعمى القلب، تزعم أن قومًا يخرجون من النار، وقد قال الله جل وعز: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} ؟ ! فقال ابن عباس: ويحك، اقرأ ما فوقها هذه للكفار. قوله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) } . عن إبراهيم: قال في قراءة عبد الله: {والسارقون والسارقات فاقطعوا أيديهما} .

وقال الشعبي في قراءة عبد الله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} . وعن ابن عمر قال: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم) . وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا» متفق عليهما. قال قتادة: لا تأووا لهم أن تقيموا فيهم الحدود، فإنه والله ما أمر الله بأمر قط إلا وهو صلاح ولا نهى عن أمر قط إلا وهو فساد. وكان عمر بن الخطاب يقول: اشتدوا على السراق فاقطعوهم يدًا يدًا، ورجلاً رجلاً. وعن عبد الله بن عمرو قال: سرقت امرأة حليًّا فجاء الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقطعوا يدها اليمنى» . فقالت المرأة: هل من توبة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك» ، قال: فأنزل الله جل وعز: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . رواه ابن جرير. وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، أي: هو المالك لجميع ذلك، الحاكم الذي لا معقّب له، يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء. قال ابن عباس: {يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} على الصغيرة {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} على الكبيرة، {وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . والله أعلم. * * *

الدرس السابع والسبعون

الدرس السابع والسبعون {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ

يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) } . عن عبد الله بن كثير في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} . قال: هم المنافقون. وعن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: بينا نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل من اليهود، وكانوا قد أشاروا في صاحب لهم زنى بعد ما أحصن، قال بعضهم لبعض: إن هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعث، وقد علمتم أن قد فرض عليكم الرجم في التوراة فكتمتوه واصطلحتم بينكم عقوبة دونه، فانطلقوا فنسأل هذا النبي، فإن أفتانا بما فرض علينا في التوراة من الرجم، تركنا ذلك، فقد تركنا ذلك في التوراة فهي أحق أن تطاع وتصدق. فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا أبا القاسم، إنه زنى صاحب لنا قد

أحصن، فما ترى عليه من العقوبة؟ قال أبو هريرة: فلم يرجع إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قام وقمنا معه، فانطلق يؤمّ مدارس اليهود حتى أتاهم فوجدهم يتدارسون التوراة في بيت المدارس فقال لهم: «يا معشر اليهود أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ماذا تجدون في التوراة من العقوبة على من زنى وقد أحصن» ؟ قالوا: إنا نجده يحمّم ويجلد، وسكت حبرهم في جانب البيت فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صمته ألظّ به النشدة، فقال حبرهم: اللهم إذ نشدتنا، فإنا نجد عليهم الرجم. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فماذا كان أول ما ترخّصتم به أمر الله» ؟ قال: زنى ابن عم ملك فلم يرجمه، ثم زنى رجل آخر في أسرة الناس، فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه فقالوا: والله لا ترجمه حتى ترجم فلانًا ابن عم الملك، فاصطلحوا بينهم عقوبة دون الرجم وتركوا الرجم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أقضي بما في التوراة» ، فأنزل الله في ذلك: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . رواه ابن جرير. وعن البراء بن عازب: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ} . يقولون: ائتوا محمدًا فإن أفتاكم بالتحميم والجد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. وقوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} ، قال الحسن: تلك الحكام سمعوا كذبة، وأكلوا رشوة. وقوله تعالى: {فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . قال

ابن زيد: كان في حكم حييّ بن أخطب: للنضريّ دِيتان، وللقرظيّ دية، لأنه كان من النضير. قال: وأخبر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما في التوراة، قال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى آخر الآية، فلما رأت ذلك قريظة، لم يرضوا بحكم ابن أخطب، فقالوا: نتحاكم إلى محمد فقال الله تبارك وتعالى: {فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فخيّره. {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ} الآية كلها؛ وكان الشريف إذا زنى بالدنيئة رجموها هي، وحموا وجه الشريف، وحملوه على البعير، وجعلوا وجهه من قبل ذنب البعير، وإذا زنى الدنيء بالشريفة رجموه، وفعلوا بها هي ذلك، فتحاكموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجمهما. وعن الشعبي في قوله: {فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} . قال: إذا جاءوا إلى حكام المسلمين، فإن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، وإن حكم بينهم بما في كتاب الله. وعن مجاهد في قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} . قال: بالعدل. وعن ابن عباس: قوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ} ، يعني: حدود الله، فأخبر الله بحكمه في التوراة. وعن عبد الله بن كثير: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ} ، قال: تولّيهم ما تركوا من كتاب الله. قوله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)

وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) } . عن عكرمة قوله: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} : النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن قبله من الأنبياء، يحكمون بما فيها من الحق. وقوله تعالى: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ} ، قال قتادة: الربانيون فقهاء اليهود، والأحبار علماؤهم. {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} . قال السدي: لا تخشوا الناس فتكتموا ما أنزلت، ولا تأخذوه طمعًا قليلاً على أن تكتموا ما أنزلت. وقال ابن زيد: ولا تأخذوا به رشوة. وقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . قال ابن زيد: هم من حكم بكتابه الذي كتب بيده، وترك كتاب الله، وزعم أن كتابه هذا من عند الله، فقد كفر. وعن طاوس عن ابن عباس: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . قال: هي به كفر، وليس كفرًا بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقال عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. وقال الحسن: نزلت في اليهود، وهي علينا واجبة. وقال ابن عباس: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقرّ به ولم يحكم فهو ظالم. وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} . قال ابن عباس: كان على بني إسرائيل القصاص في القتل، وليس بينهم دية في نفس ولا جرح؛ قال: وذلك قول الله تعالى ذكره: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} في التوراة، فخفّف

الله عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فجعل عليهم الدية في النفس والجراح، وذلك تخفيف من ربكم ورحمة؛ {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} . قال الشعبي: كفارة لمن تصدق به. وعن أبي السفر قال: دفع رجل من قريش رجلاً من الأنصار فاندقّت ثنيته، فرفعه الأنصاري إلى معاوية، فلما ألحّ عليه الرجل قال معاوية: شأنك وصاحبك قال: وأبو الدرداء عند معاوية فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه، إلا رفعه الله به درجة وحطّ عنه به خطيئة» . فقال له الأنصاري: أنت سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: سمعته أذناي ووعاه قلبي. فخلّي سبيل القرشيّ. فقال معاوية: مُروا له بمال. رواه ابن جرير. وقال مجاهد: إذا أصاب رجل رجلاً، ولا يعلم المصاب من أصاب، فاعترف له المصيب، فهو كفارة للمصيب. وقوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم} ، أي: النبيين الذين أسلموا من قبلك يا محمد {بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} نبيًا مصدقًا لما بين يديه من التوراة، {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ} ، أي: وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، أي: المخالفون لأمر الله، الخارجون عن طاعته. قوله عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ

جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } . عن قتادة: قوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} أمينًا وشاهدًا على الكتب التي خلت قبله. وقال ابن عباس: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} ، يعني: أمينًا عليه يحكم على ما كان قبله من الكتب. وعن مسروق: أنه كان يحلّف اليهودي والنصراني [بالله] ، ثم قرأ: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ} ، وأنزل الله أن لا يشركوا به شيئًا. وقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} عن قتادة: قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} ، يقول: سبيلاً وسنة، والسنن مختلفة. للتوراة شريعة، وللإِنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلّ الله فيها ما يشاء، ويحرّم ما يشاء، بلاءً ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين واحد، الذي لا يقبل غيره، التوحيد والإِخلاص لله الذي جاءت به الرسل. وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} ، عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صوريا، وشاس بن قيس بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن

دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود، وأشرافهم، وساداتهم، وأنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وإنَّ بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك. فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله فيهم: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} إلى قوله: {لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . والله أعلم. * * *

الدرس الثامن والسبعون

الدرس الثامن والسبعون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ

يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (62) لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ (66) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ (53) } . عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثيرٌ عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبيّ: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية مواليّ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن أبيّ: «يا أبا الحباب؛ ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه» قال: قد قبلت، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} إلى قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} . وقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} . قال البغوي: في العون والنصرة ويدهم واحدة على المسلمين. {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .

قال ابن جرير: يعني تعالى ذكره بقوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} : ومن يتولَّ اليهود والنصارى دون المؤمنين، فإنه منهم. يقول: فإن من تولاهم، ونصرَهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولّ أحدًا إلا وهو به وبدينه، وما هو عليه راضٍ. وإذا رضيه ورضي دينَه، فقد عادى ما خالفه وسَخِطه، وصار حكمه حكمه. وقوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} ، قال قتادة: أناس من المنافقين كانوا يوادون اليهود، ويناصحونهم دون المؤمنين. {فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} قال: بالقضاء، {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} من موادتهم اليهود ومن غشهم للإِسلام وأهله. وقال السدي: {فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} فتح مكة، {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} ، قال: الأمر: الجزية. وقال مجاهد: {فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} حينئذٍ يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين. قال البغوي: يعني: يقول الذين آمنوا في وقت إظهار الله تعالى نفاق المنافقين: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ} حلفوا بالله {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، أي: حلفوا بأغلظ الإيمان، {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} ، أي: إنهم لمؤمنون؟ يريد أن المؤمنين حينئذٍ يتعجبون من كذبهم، وحلفهم بالباطل؛ قال الله تعالى: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطل كل خير عملوه، {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} خسروا الدنيا بافتضاحهم، والآخرة بالعذاب، وفوات الثواب. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) } . قال الضحاك في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} هو: أبو بكر وأصحابه، لمَّا ارتدّ من ارتدّ من العرب عن الإسلام، جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردّهم إلى الإسلام. وعن مجاهد في قول الله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ، قال: أناسٌ من أهل اليمن. وعن عياض الأشعري قال: لما نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ

بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ، قال: أومأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي موسى بشيء كان معه فقال: «هم قوم هذا» . رواه ابن جرير. وقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، قال عليّ رضي الله عنه: أهل رقة على أهل دينهم، أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. وقوله تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (أمرني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بسبع: أمرني: بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني: أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني: أن أصل الرحم وإن أدبرَتْ، وأمرني: أن لا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني: أن أقول الحق وإن كان مرًّا، وأمرني: أن لا أخاف في الله لومة

لائم، وأمرني: أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها من كنز تحت العرش) . رواه أحمد. وقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} ، أي: متخشّعون في صلاتهم وزكاتهم. وعن عبد الملك قال: سألت أبا جعفر عن هذه الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} ، قلنا: مَنِ الذين آمنوا؟ قال: الذين آمنوا. قلنا: بلغنا أنها نزلت في عليّ بن أبي طالب. قال: عليُّ من الذين آمنوا. وقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} . وقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} ، قال السدي: أخبرهم - يعني الرب تعالى ذكره - من الغالب فقال: لا تخافوا الدولة ولا الدائرة. قال البغوي: {وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} ، يعني يقول: للقيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين. قال ابن عباس رضي الله عنه: يريد المهاجرين والأنصار. {فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ} ، يعني: أنصار الله هم الغالبون. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ (58) } . عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوث، وسويد بن الحارث قد

أظهرا الإسلام ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما فأنزل الله فيهما: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء} إلى قوله: {وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} . وقوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} ، قال السدي: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: حُرق الكاذب. فدخل خادمه ذات ليلة من الليالي بنار وهو نائم، وأهله نيام فسقطت شرارة، فأحرقت البيت فاحترق هو وأهله. قوله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (62) لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (63) } . قال ابن عباس: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، قال: ... «أؤمن بالله وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون» فلما ذكر عيسى حجدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به، فأنزل الله فيهم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} .

قال ابن جرير: معنى الكلام: هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله وفسقكم؟ وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} ، عن السدي: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ} ، يقول: ثوابًا عند الله. قال البغوي: قل يا محمد: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} أخبركم، {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} الذي ذكرتم، يعني قولهم: لم نر أهل دين أقلّ حظًا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينًا شرًا من دينكم، فذكر الجواب بلفظ الابتداء، وإن لم يكن الابتداء شرًا، لقوله: {أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ} النار، {مَثُوبَةً} ثوابًا وجزاء، {عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} ، أي: هو: {مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} ، يعني: اليهود، {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} فالقردة: أصحاب السبت، والخنازير: كفار مائدة عيسى عليه السلام، {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} ، أي: جعل منهم عبد الطاغوت، أي: أطاع الشيطان فيما سوّل له، {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} . قال ابن جرير: قل لهم يا محمد: هؤلاء المؤمنون بالله وبكتبه الذين تستهزئون منهم، أَشَرٌ أم مَنْ لعنه الله؟ وقوله تعالى: {وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} ، هذه الآية كقوله تعالى: {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .

وقوله تعالى: {وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ، قال ابن زيد: هؤلاء اليهود، {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} . {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} إلى قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} ، قال: يصنعون ويعملون واحد، قال لهؤلاء حين لم ينتهوا كما قال لهؤلاء حين عملوا. قال ابن عباس: ما في القرآن آية أشدّ توبيخًا من هذه الآية {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} الآية. وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، إنا لا ننهى. قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ (66) } . عن ابن عباس: قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} ، قال: ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكنهم يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا. وقال قتادة: أما قوله: {يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} قالوا: الله بخيل غير جواد، قال الله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} . قال ابن كثير: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} وهكذا وقع لهم، فإن عندهم من البخل، والحسد، والجبن، والذلة أمر عظيم.

قال ابن جرير: واختلف أهل الجدل في تأويل قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، فقال بعضهم: عنى بذلك نعمتاه، وقال آخرون منهم: عنى بذلك القوة، وقال آخرون منهم: بل يد الله صفة من صفاته، هي يد، غير أنها ليست بجارحة كجوارح آدم، وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال به العلماء وأهل التأويل. انتهى ملخصًا. قال البغوي: ويد الله صفة من صفات ذاته، كالسمع والبصر والوجه، وقال جل ذكره: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلتا يديه يمين» . والله أعلم بصفاته. فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم. وقال أئمة السلف من أهل السنَّة في هذه الصفات: أمِرُّوهَا كما جاءت بلا كيف. وقوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} ، قال قتادة: حملهم حسد محمد - صلى الله عليه وسلم - والعرب على أن كفروا به، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم. وقوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ، قال

قتادة: أولئك أعداء الله اليهود، {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ} فلن تلقى اليهود ببلد إلا وجدتهم من أذل أهله، لقد جاء الإسلام حين جاءوهم تحت أيدي المجوس أبغض خلقه إليه. وقال السدي: كلما أجمعوا أمرهم على شيء، فرّقه الله وأطفأ حربهم ونارهم وقذف في قلوبهم الرعب. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ، قال قتادة: يقول: آمنوا بما أنزل الله، واتقوا ما حرم الله. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} ، قال ابن عباس: {لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ} ، يعني: لأرسل السماء عليهم مدرارًا، {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} تخرج الأرض بركتها. وقوله تعالى: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} عن قتادة: قال الله فيهم: {أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} ، يقول: على كتابه وأمره؛ ثم ذم أكثر القوم فقال: {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} . وقال الربيع: إلا مدة المقتصدة الذين لا هم قصّروا في الدين، ولا هم غلوا. والله أعلم. * * *

الدرس التاسع والسبعون

الدرس التاسع والسبعون {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (74) مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ

انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) } . قال قتادة: أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه سيكفيه الناس، ويعصمه منهم، وأمره بالبلاغ. وعن ابن عباس: قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ، يعني: إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلّغ رسالتي. وعن سعيد بن جبير: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحرسوني إن ربي قد عصمني» . قوله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ

وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (69) } . عن ابن عباس قال: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رافع بن حارثة وسلام بن مشكم، ومالك بن الصيف، ورافع بن حرملة فقالوا: يا محمد تزعم إنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد إنها من عند الله حق؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلى، ولكنكم أحدثتم، وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبيّنوه للناس، وأنا برئ من إحداثكم. قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الحق والهدى، ولا نؤمن بك ولا نتبعك. فأنزل الله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} إلى: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . وقال ابن زيد: فقد صرنا من أهل الكتاب: التوراة لليهود، والإنجيل للنصارى. وما أنزل إليكم من ربكم ما أنزل إليك من ربك، أي: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ} حتى تعملوا بما فيه، وعن السدي قوله: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ، يقول: لا تحزن. قوله عز وجل: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) } .

عن قتادة: قوله: {وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} الآية، يقول: حب القوم أن لا يكون بلاء. {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} كلما عرض بلاء ابتلوا به هلكوا فيه. وقال البغوي: قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} في التوحيد والنبوة، {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ} عيسى ومحمد صلوات الله عليهما {وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} يحيى وزكريا، {وَحَسِبُواْ} ظنوا: {أَن لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، أي عذاب وقتل. وقيل: ابتلاء واختبار؛ أي: ظنوا أن لا يبتلوا، ولا يعذبهم الله، {فَعَمُواْ} عن الحق فلم يبصره، {وَصَمُّواْ} عنه فلم يسمعوه، يعني: عموا وصموا بعد موسى صلوات الله وسلامه عليه {ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ} ببعث عيسى عليه السلام، {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} بالكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، {وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} . قوله عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (74) مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ

وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (77) } . عن السدي: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} ، قال: قالت النصارى: هو المسيح وأمه، فذلك قول الله تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} . وقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} ، أي: لا تتجاوزوا الحد، ولا تقولو على الله إلا الحق؛ والغلوّ والتقصير مذمومان في الدين. {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} ، يعني: رؤساء الضالة من فريقي اليهود والنصارى، {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً} ، يعني: من اتبعهم على أهوائهم {وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} ، وفي الحديث المشهور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى: على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاثة وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» . قوله عز وجل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) } .

عن ابن عباس: قوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} ، قال: لعنوا بكل لسان، لعنوا على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - في القرآن، وقال قتادة: لعنهم الله على لسان داود في زمانهم، فجعلهم قردةً خاسئين، وفي الإنجيل على لسان عيسى، فجعلهم خنازير. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرًا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريبه، فلما رأى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم، {ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} » . ثم قال: «والذي نفسي بيده، لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على يدي المسيء، ولتأطرنّه على الحق أطرًا أو ليعزبنّ الله قلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم» . رواه ابن جرير. وفي رواية أبي عبيدة: «فضرب الله على قلوب بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن، فقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} - حتى بلغ -: {ولكن كثيرًا منهم فاسقون} » . قوله عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا

نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) } . عن مجاهد في قول الله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى} ، قال: هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة. وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} ، القسيسون: العلماء، والرهبان: العباد. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} ، أي: الذين زعموا أنهم نصارى، من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله، فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلا لما في قلوبهم، - إذ كانوا على دين المسيح - من الرقة والرأفة. وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} ، قال ابن عباس: مع محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته. والله أعلم.

الدرس الثمانون

الدرس الثمانون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (91) وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) } . عن أبي مالك في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} الآية. قال عثمان بن مظعون وأناس من المسلمين: حرموا عليهم النساء، وامتنعوا من الطعام والطيب، وأراد بعضهم أن يقطع ذكره، فنزلت هذه الآية. وعن عكرمة: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيِّباً} ، يعني: ما أحل الله لهم من الطعام. قوله عز وجل: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) } . قال ابن عباس: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} في القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم، قالوا يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله تعالى ذكره: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية. وعن الحسن: ... {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} ،

يقول: بما تعمّدت فيه المآثم فعليك الكفارة. قال قتادة: أما اللغو فلا كفارة فيه. وقالت عائشة: أيمان الكفارة كل يمين حلف فيها الرجل على أحد من الأمور في غضب أو غيره، ليفعلن، ليتركن، فذلك عقد الأيمان التي فرض الله فيها الكفارة. وقال تعالى ذكره: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} . وقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} عن عبد الله بن حنش قال: سألت الأسود عن: {أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ، قال: الخبز، والتمر، والزيت، والسمن. وأفضله اللحم. وقال ابن عمر: من أوسط ما يطعم أهله: الخبز والتمر، والخبز والسمن، والخبز والزيت، ومن أفضل ما يطعم الخبز واللحم. وقال الحسن: يجزيك أن تطعم عشرة مساكين أكلة واحدة حتى يشبعوا. وعن إبراهيم عن عمر قال: إني أحلف على اليمين ثم يبدو لي، فإذا رأيتني قد فعلت فأطعم عشرة مساكين، لكل مسكين مدّين من حنطة. وعن عبد الكريم الجزري قال: قلت لسعيد بن جبير: أجمعهم؟ قال: لا، أعطهم مدّين، مدّين من حنطة مًدا لطعامه، ومدًّا لإِدامه من حنطة لكل مسكين. وعن عليّ: يغدّيهم ويعشّيهم. وعن ابن عباس: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ، قال: من عسرهم ويسرهم. وعن مجاهد في قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} ، قال: أدناه ثوب وأعلاه ما شئت. وقال عطاء: لا يجزي في الرقبة إلا صحيح. وقال: يجزي المولود في الإِسلام. وقوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} ، أي: متتابعات. قال: معتمر بن سليمان: قلت لعمر بن راشد: الرجل يحلف ولا يكون عنده من الطعام إلا بقدر ما يكفّر، قال: كان قتادة يقول: يصوم ثلاثة أيام.

وقوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وُكِلْت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفّر عن يمينك، وأت الذي هو خير» . متفق عليه. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (91) وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) } . قال ابن زيد في قوله: {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} : الرجس: الشر. وعن محمد بن قيس قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أتاه الناس، وقد كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوه عن ذلك، فأنزل الله تعالى: ... {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} فقالوا: هذا شيء قد جاء فيه رخصة نأكل الميسر، ونشرب الخمر ونستغفر من ذلك، حتى أتى رجل صلاة المغرب فجعل ... يقرأ: قل يا أيُّها الكافرون أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد. فجعل لا يجود ذلك ولا يدري ما يقرأ، فأنزل

الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} فكان الناس يشربون الخمر حتى يجيء وقت الصلاة، فيدعون شربها ليأتون الصلاة وهم يعلمون ما يقولون، فلم يزالوا كذلك حتى أنزل الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} فقالوا: انتهينا. وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} . قال ابن عباس: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار، شربوا حتى إذا ثملوا عبث بعضهم على بعض، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول: فعل بي هذا أخي فلان - وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن - والله لو كان بي رؤوفًا رحيمًا ما فعل بي هذا، فوقعت في قلوبهم ضغائن، فأنزل الله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} فقال ناس من المتكلفين: رجس في بطن فلان قتل يوم بدر، وقتل فلان يوم أحد؟ ! فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} الآية. وقال قتادة: لما أنزل الله تعالى تحريم الخمر في سورة المائدة بعد سورة الأحزاب، قال في ذلك رجال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أصيب فلان يوم بدر، وفلان يوم أحد وهم يشربونها فأخبرهم أنهم من أهل الجنة، فأنزل الله تعالى ذكره: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، يقول: شربها القوم على تقوى من الله وإحسان، وهي لهم يومئذٍ حلال، ثم حرّمت بعدهم، فلا جناح عليهم في

ذلك. وفي حديث أبي هريرة عند أحمد: ثم نزلت آية المائدة فقالوا: يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فرشهم وكانوا يشربونها؟ فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الآية. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو حرّم عليهم لتركوه كما تركتموه» . وقوله: {إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ} ، أي: اتقوا الشرك وصدقوا، {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ} الخمر والميسر بعد تحريمهما، {وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ} ما حرم الله عليهم كله، {وَّأَحْسَنُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . والله أعلم. * * *

الدرس الحادي والثمانون

الدرس الحادي والثمانون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (98) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) } . عن مجاهد في قوله: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} ، قال: {أَيْدِيكُمْ} صغار الصيد، أخذ الفراخ والبيض، وما لا يستطيع أن يفروا. الرماح قال: كبار الصيد. وقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ، قال عطاء: يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان. وقال الزهري: نزل القرآن بالعمد، وجرت السنَّة في الخطأ، يعني: في المُحْرِم يصيي الصيد. وعن السدي قوله: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ، قال: أما جزاء مثل ما قتل من النعم فإن قتل نعامة أو حمارًا فعليه بدنة، وإن قتل بقرة أو إبلاً أو أروى فعليه بقرة، أو قتل غزالاً أو أرنبًا فعليه شاة، وإن قتل ضبعًا أو حرباء أو يربوعًا فعليه سخلة قد أكلت العشب وشربت اللبن. وسئل عطاء: أيغرم في صغير الصيد كما يغرم في كبيره؟ قال: أليس يقول الله تعالى: {فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ؟ وقال ابن عباس: (إذا أصاب المحرم الصيد وجب عليه جزاؤه من النعم، فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به، فإن لم يجد جزاءه قوّم

الجزاء دراهم، ثم قوّم الدراهم حنطة، ثم صام مكان كل نصف صاع يومًا، قال: إنما أريد بالطعام الصوم، فإذا وجد طعامًا وجد جزاءً) . وفي رواية: (إذا أصاب الرجل الصيد حكم عليه فإن لم يكن عنده قوّم عليه ثمنه طعامًا، ثم صام لكل نصف صاع يومًا) . وفي رواية: (فإن قتل ظبيًا أو نحره فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) . وقال الضحاك: (وما كان من جرادة أو نحوها ففيه قبضة من طعام، وما كان من طير البَر ففيه أن يقوّم ويتصدّق بثمنه، وإن شاء صام لكل نصف صاع يومًا) . وقال مجاهد: (فإن لم يجد صام عن كل مُدِّ يومًا) . قال عطاء: (فكل شيء في القرآن (أو) فليختر منه صاحبه ما شاء) . وقال قبيصة بن جابر: (أصبت ظبيًا وأنا محرِم، فأتيت عمر فسألته عن ذلك، فأرسل إلى عبد الرحمن بن عوف، فقلت: يا أمير المؤمنين إن أمره أهون من ذلك، قال: فضربني بالدّرة ثم قال: قتلت الصيد وأنت محرِم ثم تغمص الفتيا؟ قال: فجاء عبد الرحمن فحكما بشاة) . وفي رواية: ثم قال عمر: (يا قبيعة بن جابر إني أراك شاب السن، فسيح الصدر، بيّن اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيِّء، فيفسد الخلق السيِّئ الأخلاق الحسنة فإيّاك وعثرات الشباب) . وعن إبراهيم قال: ما كان من دم فبمكة، وما كان من صدقة أو صوم حيث شاء. وقال عطاء: الدم والطعام بمكة، والصيام حيث شاء، واختار ابن جرير القول الأول. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: رجل أصاب صيدًا في الحج أو العمرة، فأرسل بجزائه في المحرّم أو غيره من المشهور أيجزئ عنه؟ قال: نعم، ثم قرأ: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ، قال يحيى: وبه نأخذ.

وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما {عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَف} ؟ قال: عما كان في الجاهلية. قلت: ما {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} ؟ قال: من عاد في الإسلام فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة. وقال السدي: أمّا {وَبَالَ أَمْرِهِ} فعقوبة أمره. قوله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) } . عن ابن عباس في قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} ، قال: صيده ما صيد منه. وقال عمر: صيده ما صيد منه، وطعامه ما قذف. وقال ابن عباس: طعامه ما وجد على الساحل ميتًا. وعن عكرمة في قوله: {مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} ، قال: لمن كان بحضرة البحر، وللسيارة في السفر. وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} ، أي: اصطياده، {مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وفي قصة صيد أبي قتادة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها» ؟ قالوا: لا. قال: «فكلوا ما بقي من لحمها» . وعن أبي سلمة قال: نزل عثمان بن عفان المعرج وهو محرِم، فأهدى صاحب المعرج له قطًا فقال لأصحابه: «كلوا فإنه إنما أصيد على اسمي» ، فأكلوا ولم يأكل. وعن أبي الشعثاء قال: قلت لابن عمر: كيف ترى في قوم حرام لقوا قوم حلالاً، ومعهم لحم صيد، فإما باعوهم وإما أطعموهم؟ فقال: حلال. وعن الزبير أنه كان يتزود لحوم الوحش، وهو محرِم. وعن أبي مجلز: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ، قال: ما كان يعيش في البر والبحر لا يصيده، وما كان حياته في الماء فذاك. وقال عطاء: أكثر ما يكون حيث يفرخ فهو منه.

قوله عز وجل: {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (98) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) } . قال مجاهد: إنما سميت الكعبة لأنها مربعة، وعن سعيد بن جبير: ... {قِيَاماً لِّلنَّاسِ} ، قال: صلاحًا لدينهم. وعن ابن عباس: قوله: {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ} ، يعني: قيامًا لدينهم ومعالم لحجّهم. وقال السدي: جعل الله هذه الأربعة قيامًا للناس، وهو قوام أمرهم. وقوله تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} ، قال السدي: هم المشركون. والطيب: هم المؤمنون. وقال ابن كثير: يعني: أن القليل الحلال النافع خير من الحرام الكثير الضار. وقال البغوي: نزلت في شريح بن ضبعة البكري، وحجاج بن بكر بن وائل، {فَاتَّقُواْ اللهَ} ولا تتعرضوا للحجاج. والله أعلم. * * *

الدرس الثاني والثمانون

الدرس الثاني والثمانون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُواْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) } .

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ (102) } . قال ابن عباس: (كان قوم يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استهزاء، فيقول الرجل: مَنْ أبي؟ ، والرجل تضل ناقته فيقول: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية) . وعن أنس قال: سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحفوه بالمسألة، فصعد المنبر ذات يوم فقال: «لا تسألوني عن شيء إلا بيّنت لكم» . قال أنس: فجعلت أنظر يمينًا وشمالاً فأرى كل إنسان لافًّا ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان إذا لاح يدعى إلى غير أبيه فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال: «أبوك حذافة» ، قال: فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًا، وأعوذ بالله من سوء الفتن. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أر الشر والخير كاليوم قط، إنه صوّرت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط وكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية. وفي رواية: (فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ) .

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتب عليكم الحج» ، فقال رجل: لكلّ عام يا رسول الله؟ حتى عاد مرتين أو ثلاثًا. فقال: ... «من السائل» ؟ فقال: فلان. فقال: «والذي نفسي بيدي لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم» ، فأنزل الله هذه الآية. قال ابن جرير: نزلت الآية بالنهي عن المسائل كلها، فأخبر كل مخبر منهم ببعض ما نزلت الآية من أجله أو أجل غيره. وعن أبي ثعلبة الخشني مرفوعًا: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» . وقوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ} . قال ابن عباس: نهاكم أن تسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين. قوله عز وجل: {مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) } . عن سعيد بن المسيب قال: (البحيرة) : التي يمنع درّها للطواغيت، فلا يحلبها

أحد من الناس. (والسائبة) : كانوا يسيّبونها لآلهتهم، فلا يحمل عليها شيء. قال: وقال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجرّ قصبه في النار، كان أول من سيّب السوائب» . (والوصيلة) : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإِبل بأنثى، ثم تثنّي بعد بأنثى، وكانوا يسيّبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر. (والحام) : فحل الإِبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه، ودعوه للطواغيت، وأعفوه عن الحمل، فلم يحمل عليه شيء، وسموه الحامي. رواه البخاري. وقال ابن زيد: البَحيرة: كان الرجل يجدع أذني ناقته ثم يعتقها كما يعتق جاريته وغلامه، لا تحلب ولا تركب. والسائبة: يسيّبها بغير تجديع. وقال قتادة: قوله: {مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} ، لتشديد شدّده الشيطان على أهل الجاهلية في أموالهم، وتغليظ عليهم ولا يعقلون. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . قال ابن مسعود: وليس هذا بزمانها، قولوها ما قبلت منكم، فإذا رُدّت عليكم فعليكم أنفسكم. وقيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ... ولم تنه، فإن الله تعالى يقول: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا فليبلّغ الشاهد الغائب» ، فكنا نحن الشهود وأنتم الغيّب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم. وعن أبي أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني كيف تصنع بهذه الآية. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ؟ فقال أبو ثعلبة: سألت عنها خيرًا مني، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت

شحًّا مطاعًا وهوى متّبعًا، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامّهم، فإن وراءكم أيامًا أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم» . وعن قيس بن حازم قال: قال أبو بكر وهو على المنبر: (يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية على غير موضعها، {لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه عمّهم الله بعقابه) . رواهما ابن جرير. وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من رأى منكم منكر فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» . رواه مسلم. قوله عز وجل: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُواْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) } .

عن سعيد بن المسيب في قوله: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} . قال: من أهل دينكم أو {آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ، قال: من غير أهل ملّتكم. قال شريح: لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني إلا في وصية , ولا تجوز في وصية إلا في سفر. وعن السدي: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} . قال: هذا في الحضر، أو {آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} في السفر، {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} هذا في الرجل يدركه الموت في سفره، وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس فيوصي إليهما. وقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ} عن الشعبي: أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه، قال: فحضرته الوفاة فلم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، قال: فقدما الكوفة فأتيا الأشعريّ فأخبراه، وقدما بتركته ووصيّته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأحلفهما بعد العصر بالله، ما خانا ولا كذبا، ولا بدلا ولا كتما، ولا غيّرا وأنها لَوَصِيَّةُ الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما. وقال سعيد بن جبير: إن صدقهما الورثة قُبِلَ قولهما، وإن اتهموهما أُحلفا بعد صلاة العصر. وقوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} . قال سعيد بن جبير: إذا كان الرجل بأرض الشرك فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر، فإذا اطلع عليهما بعد

حلفهما أنهما خانا شيئًا، حلف أولياء الميت أنه كان كذا وكذا ثم استحقوا. وعن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم، فلما قدموا بتركته فقدوا جامًا من فضة مخوصًا بالذهب، فأحلفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم وجد الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من تميم الداري، وعدي بن بداء، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم أنزلت: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} . وقال البغوي: ( {فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} تثنية الأولى، واستُحق بضم التاء على المجهول، هذا قراءة العامة، يعني الذين استحق عليهم، أي: فيهم ولأجلهم الإثم، وهم ورثة الميت استحق الحالفان بسببهم الإثم، وقرأ حفص: استَحَق بفتح التاء والحاء وهي قراءة عليّ والحسن، أي: حق ووجب عليهم الإِثم. يقال: حق والمستحق بمعنى واحد. {الأوْلَيَانِ} نعت للآخران، أي: فآخران الأوليان، ومعنى الآية: إذا ظهرت خيانة الحالفين يقوم اثنان آخران من أقارب الميت، ... {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} ، يعني: يميننا أحق من يمينهما) . انتهى ملخصًا. وقال ابن العربي في (أحكام القرآن) المسألة الخامسة والثلاثون: (قوله تعالى: {الأَوْلَيَانِ} وهذا فصل مشكل المعنى، مشكل الإِعراب، كثر فيه الاختلاط، إما إعرابه ففيه أربعة أقوال: الأول: أنه بدل من الضمير في يقومان ويكون التقدير: فالأوليان يقومان مقام الأولين) . إلى آخر كلامه.

وقال في (جامع البيان) : ومرة قرأ استُحق فهو فاعل، أي: من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان بالشهادة، أن يجردوهما للقيام بالشهادة. وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُواْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . قال قتادة: ذلك أحرى أن يصدقُوا في شهادتهم، وأن يخافوا العقاب، وقال ابن زيد في قوله: {أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، قال: فتبطل أيمانهم وتؤخذ أيمان هؤلاء. والله أعلم. * * *

الدرس الثالث والثمانون

الدرس الثالث والثمانون {يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (112) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ

عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) } * * *

قوله عز وجل: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) } . عن ابن عباس: قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا} إلا علمٌ أنت أعلم به منا. قال ابن كثير: وهو من باب التأدب مع الرب، جل جلاله، أي: لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء، فنحن وإن كنا قد أجبنا وعرفنا من أجابنا، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره، لا علم لنا بباطنه، وأنت العليم بكل شيء، المطلع على كل شيء. فعلمنا بالنسبة إلى علمك كَلا عِلْم، فإنك {أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ} . قوله عز وجل: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) } .

عن السدي: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} ، يقول: قذفت في قلوبهم. وقال الحسن. ألهمهم الله ذلك. قال ابن كثير: ويحتمل أن يكون المراد: وإذا أوحيت إليهم بواسطتك. قال البغوي: والحواريون [خواص] أصحاب عيسى عليه السلام. قوله عز وجل: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (112) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ (115) } . عن ابن عباس: أنه كان يحدث عن عيسى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لبني إسرائيل: (هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يومًا ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجر العامل على من عمل له، ففعلوا ثم قالوا: يا معلّم الخير، قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يومًا ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يومًا، إلا أطعمنا حين نفرغ طعامًا، فهل يستطيع ربك أن ينزل

علينا مائدة من السماء؟ قال عيسى: {اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} إلى قوله: {لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ} ، قال: فأقبلت الملائكة تطير من السماء عليها سبعة أحْواتٍ وسبعة أرغفة، حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أوّلهم) . وعن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نزلت المائدة خبزًا ولحمًا، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدّخروا ولا يرفعوا، فخانوا وادّخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير» . رواه ابن جرير. وقال عبد الله بن عمرو: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة، والمنافقون، وآل فرعون) . قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) } . قال السدي: لما رفع الله عيسى ابن مريم إليه قالت النصارى ما قالت،

وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، فسأله عن قوله فقال: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} إلى قوله: {وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . وعن ابن جريج: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} ؟ قال: والناس يسمعون، فراجعه بما قد رأيت، وأقرّ له بالعبودية عن نفسه، فعلم من كان يقول في عيسى ما يقول، إنه إنما كان باطلاً. وعن ميسرة قال: قال الله تعالى: يا عيسى أَأَنت قلت للناس اتَّخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ قال: فأرعدت مفاصله، وخشي أن يكون قد قالها، فقال: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} . وقوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} عن السدي في قوله: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} ، {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام، {فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، وهذا قول عيسى في الدنيا، واختاره ابن جرير. وقال سائر المفسرين: إنما يقول الله هذا القول يوم القيامة. قال ابن كثير: والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر، والله أعلم: أن ذلك كائن يوم القيامة، ليدل على تهديد النصارى، وتقريعهم وتوبيخهم، على رؤوس الأشهاد يوم القيامة. وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنكم محشورون وإن

ناسًا يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إلى قوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} » . رواه البخاري. قوله عز وجل: {قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) } قال الضحاك: عن ابن عباس في قوله: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} ، يقول: يوم ينفع الموحدين توحيدهم. وفي الحديث الصحيح: «إن الصدق يهدي إلى البرّ، وإن البر يهدي إلى الجنّة» . والله أعلم. * * *

الدرس الرابع والثمانون

الدرس الرابع والثمانون [سورة الأنعام] مكية، وهي مائة وخمس وستون آية ... قال ابن عباس: (نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك، يجأرون حولها بالتسبيح) . رواه الطبراني. ورُوِيَ مرفوعًا: «من قرأ سورة الأنعام، يصلّي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره» . بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ

كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ (14) قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ

لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) } .

قوله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) } . قال كعب: فاتحة التوراة فاتحة الأنعام، وخاتمة التوراة خاتمة هود. وقال ابن عباس: افتتح الله الخلق بالحمد، وختمه بالحمد. وقال ابن زيد في قوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} ، قال: الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله، قال: وليس لله عدل ولا ندّ، وليس معه آلهة، وما اتخذ صاحبة ولا ولدًا. وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ} ، قال الضحاك: خلق آدم من طين، وخلق الناس من سلالة من ماء مهين. وقوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} ، قال الحسن: {قَضَى أَجَلاً} ما بين أن يخلق إلى أن يموت، {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} ، قال: ما بين أن يموت إلى أن يبعث. وقال ابن عباس: الدنيا والآخرة. وقوله تعالى: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} أنتم تشكّون في البعث. وقوله تعالى: {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} ، أي: هو إله من في السماوات ومن في الأرض، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} ، {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} .

قوله عز وجل: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) } . عن قتادة في قوله: {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} ، يقول: أعطيناهم ما لم نعطكم. قوله عز وجل: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) } . عن ابن عباس: قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} يقول: لو نزلنا من السماء صحفًا فيها كتاب، فلمسوه بأيديهم لزادهم ذلك تكذيبًا. وعن قتادة: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} ، يقول: ولو أنهم أنزلنا إليهم ملكًا ثم لم يؤمنوا لن يُنْظَروا. وقال ابن عباس: لو أتاهم ملك في صورته لماتوا. وعن قتادة: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} ، يقول: في صورة آدمي. قال ابن عباس: لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة. وقوله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} ، قال السدي: يقول: شبّهنا عليهم

ما يشبّهون على أنفسهم. وقال قتادة: ما لبس قوم على أنفسهم إلا لبس الله عليهم، والَلبس إنما هو من الناس. وقوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} ، قال السدي: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم} من الرسل {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} ، يقول: وقع بهم العذاب الذي استهزءوا به. وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} ، يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين بك، المكذبين بما أنزل الله عليك: سيروا في الأرض، فانظروا ديار المكذبين: كعاد، وثمود، وقوم لوط، وغيرهم. قال قتادة: دمّر الله عليهم وأهلكهم، ثم صيرهم إلى النار. قوله عز وجل: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ (14) قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) } . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم: {لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ؟ يقول: لمن ملك ما في السماوات والأرض؟ ثم أخبرهم أن ذلك لله الذي استعبد كل شيء، وقهر كل شيء بملكه وسلطانه، لا للأوثان والأنداد، ولا لما يعبدونه ويتخذونه إلهًا من الأصنام التي لا تملك لأنفسها نفعًا، ولا تدفع عنها ضرًّا.

وقوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ، يقول: قضى أنه بعباده ... رحيم، لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإِنابة والتوبة. انتهى. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله لما خلق الخلق، كتب كتابًا عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي» . وقوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} . قال البغوي: اللام فيه لام القسم، والنون نون التأكيد، مجازه واللهِ ... {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، أي: في يوم القيامة {لاَ رَيْبَ فِيهِ} . {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ، أي: لا يوحّدون الله ولا يصدقون بوعده ووعيده. وقال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ليجمعنّ الله الذين خسروا أنفسهم، يقول: الذين أهلكوا أنفسهم وغبنوها، بادعائهم من الندّ والعديل، فأوبقوها بإيجابهم سخط الله وأليم عقابه في المعاد) . انتهى. وقيل: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: قل يا محمد لهؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثانَ والأصنامَ، والمنكرين عليك إخلاص التوحيد لربك، الداعين إلى عبادة الآلهة والأوثان: أشيئًا غيرَ الله تعالى أتخذ وليًّا، أستنصره

وأستعينه على النوائب والحوادث) انتهى. وهذه الآية كقوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} ؟ . وقوله: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: مبتدعها. وعن السدي: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} ، قال: يَرزُق ولا يُرزَق. وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} ، أي: من هذه الأمة: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ} . {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ، يعني: عذاب يوم القيامة، {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} . قوله عز وجل: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) } . عن مجاهد في قول الله تعالى: {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً} ؟ قال: أُمر محمدٌ أن يسأل قريشًا ثم أمر أن يخبرهم فيقول: {اللهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وعن قتادة: قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «يا أيها الناس بلّغوا ولو آية من كتاب الله، فإنه من بلغه آية من كتاب الله، فقد بلغه أمر الله أخذه أو تركه» . وقال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وقوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} ، هذه الآية كقوله في الآية الأخرى: {فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} . وقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ، عن قتادة: قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ} يعرفون أن الإِسلام دين الله، وأن محمدًا رسول الله يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإِنجيل. قال ابن جرير: وقوله: {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} مِنْ نَعْتِ {الَّذِينَ} الأولى. انتهى. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، أي: المفترون، والمكذبون. قال ابن كثير: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} أي: لا أظلم ممن تَقَوَّل على الله، فادّعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله، وحِجَجِه، وبراهينه، ودلالاته، {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، أي: لا يفلح هذا ولا هذا، لا المفتري ولا المكذب. * * *

الدرس الخامس والثمانون

الدرس الخامس والثمانون {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن

تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) } . * * *

قوله عز وجل: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) } . قال معمر: قال قتادة في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ} قال: مقالتهم؛ وسمعت غير قتادة يقول: معذرتهم. وعن سعيد بن جبير قال: أتى رجل ابن عباس فقال: قال الله: {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقال في آية أخرى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً} ، قال ابن عباس: أمّا قوله: {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، فإنه لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإِسلام، فقالوا: تعالوا لنجحد، قالوا: {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فختم الله على أفواههم، وتكلّمت أيديهم وأرجلهم، {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً} . وعن قتادة: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} ، قال: يسمعون بآذانهم ولا يعون منه شيئًا، كمثل البهيمة التي تسمع النداء ولا تعي ما يقال لها. وعن ابن عباس: قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} ، يعني: ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به، {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} ، يعني: يتباعدون عنه. وقال قتادة: ينهون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتباعدون عنه. قوله عز وجل: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (30) } . وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ

بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . قال البغوي: (وجواب (لو) محذوف، معناه: لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبًا، {بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} ، أي: ليس الأمر على ما قالوا، {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ، قال قتادة: ولو وصل الله لهم دنيا كدنياهم لعادوا إلى أعمالهم أعمال السوء. وقالا: فيه الفتح {بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} ، أي: أظهروا وما كانوا يكتمون من معرفة الحق في الدنيا) . انتهى. وشهد لهذا قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} . وقوله تعالى: {وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} ، أي: ما هي إلا هذه الحياة الدنيا لا معاد بعدها. وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} ، قال ابن عباس: هذا في موقف، وقولهم: {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} في موقف آخر، وفي يوم القيامة موقف، ففي موقف يفرّون، وفي موقف ينكرون.

قوله عز وجل: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (32) } . قال السدي: ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره، إلا جاءه رجل قبيح الوجه، أسود اللون، منتن الريح، عليه ثياب دَنِسة، حتى يدخل معه قبره، فإذا رآه قال له: ما أقبح وجهك! قال: كذلك كان عملك قبيحًا! قال: ما أنتن ريحك! قال: كذلك كان عملك منتنًا! قال: ما أدْنس ثيابك! قال فيقول: إن عملك كان دنسًا. قال: من أنت؟ قال: أنا عملك! قال: فيكون معه في قبره، فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذَّات والشهوات، فأنت اليوم تحملني. قال: فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخلَه النار. فذلك قوله: {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} . قوله عز وجل: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (37) } .

عن أبي صالح قال: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس حزين فقال: ما يحزنك؟ فقال: «كذبني هؤلاء» . فقال له جبريل: إنهم لا يكذبونك، إنهم ليعلمون أنك صادق، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. وعن ناجية بن كعب أن أبا جهل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب الذي جئت به، فأنزل الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} . وعن قتادة: قوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ} يعزّي نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما تسمعون، ويخبره أن الرسل قد كُذبت قبله، فصبروا على ما كُذبوا حتى حكم الله وهو خير الحاكمين. وعن ابن عباس: قوله: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء} والنفق: السرب، فتذهب فيه {فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ} أو تجعل لك سلّمًا فتصعد عليه {فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ} أفضل مما أتيناهم فافعل، {وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، يقول الله سبحانه: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين. وعن مجاهد: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} المؤمنون للذكر، ... {وَالْمَوْتَى} الكفار حين {يَبْعَثُهُمُ اللهُ} مع الموتى. وقال قتادة: هذا مثل المؤمن، سمع كتاب الله فانتفع به وأخذ به وعقله، ومثل الكافر أصمّ أبكم لا يبصر هذا ولا ينتفع به. وقوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ، يقول تعالى: {وَقَالُواْ} ، يعني: كفار قريش {لَوْلاَ} هلا أنزل عليه، {آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} كتفجير الأنهار له، وإنزال الملائكة معه، وإلقاء

الكنوز إليه؟ {قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} لأنه لو أنزلها ثم لم يؤمنوا لعالجهم بالعقوبة، كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} . قوله عز وجل: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) } . قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} عن مجاهد في قوله: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} أصناف مصنفة تعرف بأسمائها، وقال ابن جريج: الذرّة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب. وقال ابن عباس في قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} ما تركنا شيئًا إلا قد كتبناه في أم الكتاب، {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} ، قال: يعني بالحشر: الموت. وعن أبي هريرة في قوله: {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} ، قال: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء فبلغ من عدل الله يومئذٍ أن يأخذ الجمّاء والقرناء ثم يقول: كوني ترابًا، فلذلك يقول الكافر: (يا ليتني كنت ترابًا) . وعن أبي ذر قال: بينا أنا عند

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انتطحت عنزان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتدرون فيما انتطحوا» ؟ قالوا: لا ندري قال: «لكن الله يدري، وسيقضي بينهما» . رواه ابن جرير. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ} ، أي: لا يسمعون الخير ولا يتكلمون به، {فِي الظُّلُمَاتِ} في ضلالات الكفر، {مَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ} فيموت على الكفر، {وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، أي: الإسلام. {قُلْ أَرَأَيْتُكُم} . قال البغوي: هل رأيتم؟ والكاف فيه للتأكيد، وقال الفراء رحمه الله: العرب تقول: أرأيتك، وهم يريدون أخبرنا، كما يقول: أرأيتك إن فعلت كذا، ماذا نفعل أي أخبرني؟ قال ابن عباس: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: {أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ} قبل الموت، {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} ، يعني: يوم القيامة، {أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ} في صرف العذاب عنكم، {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} وأراد أن الكفار يدعون الله في حال الاضطراب، كما أخبر الله عنهم: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، ثم قال: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} ، أي: تدعون الله ولا تدعون غيره، {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء} قيّد الإِجابة بالمشيئة، والأمور كلها بمشيئته، {وَتَنسَوْنَ} وتتركون، {مَا تُشْرِكُونَ} . والله أعلم. * * *

الدرس السادس والثمانون

الدرس السادس والثمانون {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (49) قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ

بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) } . عن ابن عباس: قوله: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} ، يعني: تركوا ما ذكروا به. وعن قتادة في قوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} . قال: يعني: الرخاء، وسعة الرزق. {حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً} . قال: أعجب ما كانت إليهم وأعزها لهم. {فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} ، قال السدي: فإذا هم مهلكون، فتغيّر حالهم. وقال البغوي: {فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} ، آيسون من كل خير. وقال أبو عبيدة: المبلس النادم الحزين. وروى عقبة بن عامر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته، فإنما ذلك استدراج ثم تلا {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} » الآية. رواه أحمد وغيره. وقال ابن زيد في قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} قال: استؤصلوا. {وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ ... الْعَالَمِينَ} . قوله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ

الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (49) } . قال مجاهد في قوله: {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} : يعرضون. وقال ابن عباس: يعدلون. وقال ابن جرير: {انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} ، يقول: انظر كيف نتابع عليهم الحجج ونضرب لهم الأمثال والعبر ليعتبروا ويذكَّروا، فينيبوا، {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} ، يقال: صدف فلان عني بوجهه، أي: عدل وأعرض. وقال ابن كثير: {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} ، أي: ثم هم مع هذا البيان ... {يَصْدِفُونَ} ، أي: يعرضون عن الحق، ويصدّون الناس عن إتباعه. قوله عز وجل: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ

أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) } . عن قتادة في قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} . قال الأعمى: الكافر الذي قد عمي عن حق الله، وأمره، ونعمه عليه. والبصير: العبد المؤمن الذي أبصر بصرًا نافعًا فوحّد الله وحده، وعمل بطاعة ربه، وانتفع بما آتاه الله. وقوله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ} ، أي: القرآن: {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ} ، أي: يخافون هول يوم الحشر، كما قال تعالى: ... {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} . {لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} يشفع لهم بغير إذنه {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فيتركون معاصيه، ويفعلون ما أمرهم. وعن ابن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده صهيب، وعمار، وبلال، وخباب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك، أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا، أنحن نكون تبعًا لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلّّك إن طردتهم أن نتبعك، فنزلت هذه الآية {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} إلى آخر الآية. وعن مجاهد في قول الله: {الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} . قال: الصلاة المكتوبة. وقال إبراهيم: هم أهل الذكر. وقال أبو جعفر: كان يقرئهم القرآن. وعن ماهان: أن قومًا جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -[فقالوا: يا محمد أصبنا ذنوبًا عظامًا، فما أخاله ردَّ عليهم شيئًا، فانصرفوا] ، فأنزل الله هذه الآية: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ

يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} الآية. وقال مجاهد: من عمل بمعصية الله فذاك منه جهل حتى يرجع. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} . قال ابن زيد: الذين يأمرونك بطرد هؤلاء. وقال البغوي: ( {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ} ، أي: هكذا، وقيل: معناه: وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وأعلامنا على المشركين، {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ} ، أي: نميّز ونبيّن لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل، {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} ، أي: طريق المجرمين) . انتهى، والله أعلم. * * *

الدرس السابع والثمانون

الدرس السابع والثمانون {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (66) لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ

فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) } . * * *

قوله عز وجل: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59) } . عن السدي: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} ، قال: يقول: خزائن الغيب. وقال ابن عباس: هن خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} إلى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . وقوله تعالى: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} ، قال البغوي: يعني: الكل مكتوب في اللوح المحفوظ. قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ

الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) } . عن السدي: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} ، أمّا يتوفاكم بالليل ففي النوم، وأمّا: يعلم ما جرحتم بالنهار، فيقول: ما اكتسبتم من الإِثم. وعن قتادة: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} في النهار، والبعث: اليقظة عن السدي {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى} ، قال: هو أجل الحياة في الموت. وعن قتادة: قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} ، يقول: حفظة يا ابن آدم، يحفظون عليك عملك ورزقك وأجلك، إذا توفيت ذلك قبضت إلى ربك. وعن إبراهيم في قوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} ، قال: أعوان ملك الموت. قوله عز وجل: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ ... عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) } . عن ابن عباس: قوله: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} . يقول: إذا أضل الرجل الطريق دعا الله: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. وعن السدي: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} فعذاب السماء، {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فيخسف بكم الأرض. وعن مجاهد: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} الأهواء المفترقة. وعن ابن عباس: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ

بَعْضٍ} ، قال: يسلّط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب. وعن جابر: لما أنزل الله تعالى على النبي - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} . قال: «أعوذ بوجهك» . {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} . قال: «هاتان أيسر أو أهون» . قوله عز وجل: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (66) لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) } . عن السدي: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} ، يقول: كذب قريش بالقرآن {وَهُوَ الْحَقُّ} وأما الوكيل فالحفيظ، وأما: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} فكان نبأ القرآن استقر يوم بدر بما كان يَعِدهم من العذاب. وعن مجاهد: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} لكل نبأ حقيقة، إما في الدنيا وإما في الآخرة ... {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ، ما كان في الدنيا فسوف ترونه، وما كان في الآخرة فسوف يبدو لكم. وعن قتادة في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} . قال: نهاه الله أن يجلس مع الذين يخوضون في آيات الله يكذبون بها، فإن نسي فلا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين. وقال السدي: فإذا ذكرت فقم. وقال ابن جريج: كان المشركون يجلسون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبون أن يسمعوا منه، فإذا سمعوا استهزءوا، فنزلت. وقوله تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .

قال البغوي: روي عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ، قال المسلمون: كيف نقعد في المسجد الحرام، ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدًا. وفي رواية: قال المسلمون: فإنا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم، فأنزل الله عز وجل: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} الخوض {مِنْ حِسَابِهِم} أي: من إثم الخائضين، {مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى} ، أي: ذكَّروهم وعظوهم بالقرآن {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الخوض إذا وعظتهم، فرخّص في مجالستهم على الوعظ. قوله عز وجل: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70) } . عن مجاهد في قول الله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} ، قال: كقوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} . وقوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ} ، أي: القرآن. {أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} . قال ابن عباس: تهلك، {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا} . قال قتادة: لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لم يقبل منها. قوله عز وجل: {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ

لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) } . عن السدي: {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} ، قال المشركون للمؤمنين: اتّبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد، فقال الله تعالى ذلك: {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا} هذه الآلهة {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ} ، فيكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين في الأرض، يقول: مَثَلُكم إن كفرتم بعد الإيمان، كمثل رجل كان مع قوم على الطريق، فضلّ الطريق، فحيّرته الشياطين، واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم، يقولون: ائتنا فإنا على الطريق، فأبى أن يأتيهم فذلك مثل من يتبعكم بعد المعرفة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ومحمد الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام. وقال ابن عباس: كالذي استغوته الغيلان في المهامة، فأضلّوه فهو حائر بائر. وقوله تعالى: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} ، أي: الصدق، {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} والصور: قرن ينفخ فيه إسرافيل. قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} . والله أعلم.

الدرس الثامن والثمانون

الدرس الثامن والثمانون {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً

وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (88) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) } . قال ابن إسحاق: آزر أبو إبراهيم. وكان - فيما ذكر لنا والله أعلم - رجلاً من أهل كُوَثى من قرية بالسواد، سواد الكوفة. وعن ابن عباس: قوله: {نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، أي: خلق السماوات والأرض. قال البغوي: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ} ، أي: كما أريناه البصيرة في دينه، والحق في خلاف قومه، كذلك نريه ملكوت السماوات والأرض. قال مجاهد: تفرجت لإِبراهيم السماوات السبع حتى العرش فنظر فيهنّ، وتفرجت الأرض السبع فنظر فيهنّ. وعن قتادة: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} ، علم أن ربه دائم لا يزول، فقرأ حتى بلغ: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} ، رأى خلقًا هو أكبر من الخلقين الأولين وأنور.

وقال ابن إسحاق: قال ذلك إبراهيم حين خرج من السرب الذي ولدته أمه فيه حين تخوّفت عليه من نمرود بن كنعان. قال ابن كثير: والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظرًا لقومه، مبيّنًا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام. وقال الشيخ ابن سعدي: (والمناظرة تخالف غيرها في أمور كثيرة منها أن المناظر يقول الشيء الذي لا يعتقده ليبني عليه حجته، وليقيم الحجة على خصمه، كما قال في تكسيره الأصنام لما قالوا له: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ فأشار إلى الصنم الذي لم يكسره فقال: بل فعله كبيرهم هذا، ومعلوم أن غرضه إلزامهم بالحجة وقد حصلت فهذا يسهّل علينا فهم معنى قوله: {هَذَا رَبِّي} ، أي: إن كان يستحق الإلهية بعد النظر في حالته ووصفه فهو ربي، مع أنه يعلم العلم اليقيني أنه لا يستحق من الربوبية والإِلهية مثقال ذرة، ولكن أراد أن يلزمهم بالحجة) . انتهى. قوله عز وجل: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) } .

عن ابن جريج: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ} . قال: دعا قومه مع الله إلهًا، وخوّفوه بآلهتهم أن يصيبه منها خبل، فقال إبراهيم: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ} ؟ قال: قد عرفت ربّي لا أخاف ما تشركون به، {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أمن يعبد ربًا واحدًا أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ قال ابن إسحاق: يقول الله تعالى ذكره: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم} ، أي: الذين أخلصوا كإخلاص إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لعبادة الله توحيده، {وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} ، أي: شرك، {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} الأمن من العذاب، والهدى في الحجة بالمعرفة والاستقامة. يقول الله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} . قوله عز وجل: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (88) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) } .

قال البغوي: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا} وفّقنا وأرشدنا. {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} ، أي: من قبل إبراهيم، {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ} ، أي: من ذرية نوح عليه السلام، لأنه ذكر في جملتهم يونس ولوطًا ولم يكونا من ذرية إبراهيم. قال ابن كثير: إذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته أو وهبهم، دخل أولاد البنات فيهم. وعن مجاهد في قول الله تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} ، قال: أخلصناهم. وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ} ، يعني: الفهم والنبوة. {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء} ، يعني: أهل مكة، {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} ، قال في (جامع البيان) : يعني: المهاجرين والأنصار ومن تبعهم إلى يوم القيامة. وقال قتادة: يعني: النبيين، واختاره ابن جرير. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} . وعن مجاهد: أنه سأل ابن عباس: (أفي (ص) سجدة؟ فقال نعم، ثم تلا: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} إلى قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، ثم قال: هو منهم) . رواه البخاري. وقوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} ، أي: لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القرآن أجره {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} كقوله: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} . والله أعلم. * * *

الدرس التاسع والثمانون

الدرس التاسع والثمانون {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94) } . * * *

قوله عز وجل: {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) } . ... قال ابن كثير: {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وما عظموا الله حق تعظيمه، {إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} . قال ابن عباس: نزلت في قريش، {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} ، قال مجاهد: هم ... اليهود. وقال البغوي: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالياء. وقال سعيد بن جبير: جاء رجل من اليهود يقال له: مالك بن الصيف يخاصم النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين» ؟ وكان حبرًا سمينًا، فغضب وقال: والله ما أنزل على بشر من شيء. وقال السدي: نزلت في فنحاص بن عازوارء وهو

قائل هذه المقالة. وفي القصة: أن مالك بن الصيف لما سمعت منه اليهود تلك المقالة عتبوا عليه وقالوا: أليس أن الله أنزل التوراة على موسى فلم قلت: {مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} ؟ فقال مالك بن الصيف: أغضبني محمد فقلت ذلك، فقالوا له: وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق؟ ! فنزعوه من الحبرية وجعلوا مكانه كعب ابن الأشرف. وقوله تعالى: {وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ} ، قال مجاهد: وعلمتم معشر العرب ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم. وقوله تعالى: {قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} ، أي: قل: الله أنزله، ثم دعهم في غيّهم، وجهلهم يلعبون، فسوف يعلمون عاقبة ذلك. وعن ابن عباس: قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس قل الله أنزله. قال ابن كثير: وهذا الذي قاله ابن عباس هو المتعيّن في تفسير هذه الكلمة، لا ما قاله بعض المتأخرين من أن المعنى: {قُلِ اللهُ} ، أي: لا يكون خطابك لهم إلا هذه الكلمة، كلمة الله؛ وهذا الذي قال هذا القائل يكون أمرًا بكلمة مفردة من غير تركيب، والإتيان بكلمة مفردة لا يفيد في لغة العرب فائدة يحسن السكوت عليها. وقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} ، قال ابن عباس: أم القرى مكة، ومن حولها الأرض كلها. {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: القرآن، {وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي: يداومون عليها، ويقيمونها في أوقاتها.

قوله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94) } . قال ابن كثير: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ، أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فجعل له شركاء أو ولدًا، أو ادّعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يرسله، ولهذا قال تعالى: {أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} . قال عكرمة وقتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب. {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللهُ} ، أي: ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي، بما يفتريه من القول، كقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} الآية. وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} ، أي: سكراته {وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} ، قال ابن عباس: والبسط الضرب. وقال السدي: {وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} بالعذاب. وقال ابن جرير: يقولون لهم: {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ

الْهُونِ} وهو عذاب جهنم {بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} . وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ} ، قال السدي: {وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ} من المال والخدم {وَرَاء ظُهُورِكُمْ} في الدنيا. وقال الحسن البصري: (يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بَذَجٌ فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم، فيقول: يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان، فيقول له: يا ابن آدم أين ما قدّمت لنفسك؟ فلا يراه قدّم شيئًا، وتلا هذه الآية {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ} ) الآية. قال في (القاموس) : (البَذَجُ محرّكة: ولد الضأن) . وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» . وقوله تعالى: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء} . قال السدي: فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدون الآلهة لأنهم شفعاء لهم يشفعون لهم عند الله، وأن هذه الآلهة شركاء لله. وقوله تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} عن مجاهد: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} ، قال: تواصلهم في الدنيا، {وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ، قال

ابن عباس: يعني: الأرحام والمنازل. وعن السدي: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} ، يقول: تقطّع ما بينكم. وقال ابن كثير: وقوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد، والأصنام، والأوثان، ظانين أنها تنفعهم في معاشهم ومعادهم، إن كان ثَمَّ معاد، فإذا كان يوم القيامة تقطّعت بهم الأسباب، وانزاح الضلال، وضلّ عنهم ما كانوا يفترون، ويناديهم الرب، جلّ جلاله، على رءووس الخلائق: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} ؟ {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} ؟ ولهذا قال ها هنا: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} ، أي: في العبادة لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم، ثم قال تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} . والله أعلم. * * *

الدرس التسعون

الدرس التسعون {إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ

الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (107) وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) } . قال السدي: أما: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} ففالق الحب عن السنبلة، وفالق النواة من النخلة. وقال مجاهد: الشقّان اللذان فيهما. وقال: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} إضاءة الفجر. وعن ابن عباس في قوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} ، يعني: عدد الأيام، والشهور، والسنين {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} . {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} . قال في (جامع البيان) : الفقه: تدقيق النظر، فهو أليق بالاستدلال بالأنفس لدقته، بخلاف الاستدلال بالآفاق ففيه ظهور، ولهذا قال في الأول: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . وعن سعيد بن جبير في قوله: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} . قال: مستودعون ما كانوا في أصلاب الرجال، فإذا قروا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض وفي بطنها فقد استقرّوا.

قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) } . عن السدي قوله: {مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً} فهذا السنبل. وعن قتادة: قوله: {مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} ، قال: عذوق متهدّلة. {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} ، أي: مشتبهًا وَدَقُهُما، مختلفًا ثمرهما. وقيل: مشتبه في النظر، مختلف في الطعم. {انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} . قال ابن عباس: نضجه، {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . قوله عز وجل: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) } . قال ابن عباس: وجعلوا لِلّه شرَكاء الجن والله خلقهم وخرقوا له بنين وبنات، يعني: أنهم تخرّصوا. وقال السدي: يقول: قطعوا له بنين وبنات؛ قالت العرب: الملائكة بنات الله، وقالت اليهود والنصارى: المسيح وعزير أبناء الله. وقال مجاهد: خرقوا: كذبوا.

وقال ابن زيد في قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} . قال: هو الذي ابتدع خلقهما، جلّ جلاله، فخلقهما ولم يكونا شيئًا قبله. {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ} ، والولد إنما يكون من الذكر والأنثى، ولا ينبغي أن يكون لله سبحانه صاحبة فيكون له ولد، وذلك أنه هو الذي خلق كل شيء، يقول: فإذا كان لا شيء إلا الله خلقه، فأنى يكون لله ولد ولم تكن له صاحبة فيكون له منها ولد؟ ؟ {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} يدبّرهم ويرزقهم. {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . قال ابن عباس: يقول: لا يحيط بصر أحد بالملك. وقال قتادة: هو أعظم من أن تدركه الأبصار. وعن عطية العوفي في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . قال: هم ينظرون إلى الله، لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم؛ فذلك قوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . قال أبو العالية: لطيف باستخراجها، خبير بمكانها. قوله عز وجل: {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (107) وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ ... زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (108) } .

قال ابن زيد: البصائر: الهدى، بصائر في قلوبهم لدينهم، {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} ، لهؤلاء العادلين بربهم، كما صرفتها في هذه السورة، ولئلا يقولوا: {دَرَسْتَ} ، أي: قرأت الكتب، {وَلِنُبَيِّنَهُ} ، أي: القرآن {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ، وقيل: اللام لام العاقبة، أي: عاقبة أمرهم أن يقولوا درست. وعن قتادة قال: كان المسلمون يسبّون أصنام الكفار فيسبّ الكفار الله، فأنزل الله {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، أي: اعتداءً وجهلاً؛ {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} . قوله عز وجل: {وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) } . قال مجاهد: سألت قريش محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بآية، واستحلفهم ... {لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} ، {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} وما يدريكم {أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ؟ {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} . قال: نحول بينهم وبين الإيمان، ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنوا، كما حُلْنا بينهم وبين الإِيمان أول مرة. وقال ابن عباس: لما جحد المشركون ما أنزل الله، لم تثبت قلوبهم على شيء، {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . قال عطاء: نخذلهم وندعهم في ضلالتهم يتمادون. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} .

قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد إيئس من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، القائلين لك: لئن جئتنا بآية لنؤمنن لك، فإننا لو نزلنا إليهم الملائكة حتى يروها عيانًا، وكلمهم الموتى بإحيائنا إيّاهم حجَّة لك، ودلالة على نبوتك، وأخبروهم أنك محقّ فيما تقول، وأن ما جئتهم به حقّ من عند الله، وحشرنا عليهم كل شيء، فجعلناهم لك قُبُلاً، ما آمنوا ولا صدّقوك ولا اتّبعوك، إلا أن يشاء الله ذلك لمن شاء منهم، ولكن أكثرهم يجهلون. وعن ابن عباس: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} . قال: معاينة، يقول: لو استقبلهم ذلك كله لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله. والله أعلم. * * *

الدرس الحادي والتسعون

الدرس الحادي والتسعون {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ (120) وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا

يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ (124) فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) } . * * *

قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ... (115) } . عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أبا ذر هل تعوّذت بالله من شر شياطين الإِنس والجن» ، قال: قلت: يا رسول الله هل للإِنس من شياطين، قال: «نعم» . رواه ابن جرير. قال قتادة: من الجن شياطين ومن الإنس شياطين. يوحي بعضهم إلى بعض. وعن عكرمة قوله: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} ، قال: تزيين الباطل بالألسنة. وقال ابن عباس في قوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} ، قال: لتميل. وقال ابن زيد: وليهووا ذلك {وَلِيَرْضَوْهُ} .

وعن ابن عباس: {وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} وليكتسبوا ما هم مكتسبون. وقال قتادة في قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} ، يقول: صدقًا وعدلاً فيما حكم. قوله عز وجل: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ ... يَقْتَرِفُونَ (120) وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) } . قال عكرمة: لما نزل تحريم الميتة، أوحت فارس إلى أوليائها من قريش، أن خاصموا محمدًا، وكانت أولياءهم في الجاهلية، وقولوا له: إن ما ذبحت فهو حلال وما ذبح الله - قال ابن عباس -: بِشمشارٍ من ذهب فهو حرام، فأنزل الله هذه الآية: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ} ، قال الشياطين فارس، وأولياؤهم قريش. وفي رواية: فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فنزلت: ... {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ} الآية.

وعن ابن عباس: قوله: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} ، قال: قالوا: يا محمد أما ما قتلتم وذبحتم فتأكلونه، وأما ما قتل ربكم فتحرمونه؟ فأنزل الله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه إنكم إذًا لمشركون. وقال ابن عباس: (المسلم يكفيه اسمه، إن نسي أن يسمي حين يذبح، فليذكر اسم الله وليأكله) . قوله عز وجل: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (122) } . عن ابن عباس: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} ، يعني: من كافر كان فهديناه {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} ، يعني بالنور: القرآن، ومن صّدق به وعمل به {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} ، يعني بالظلمات: الكفر والضلالة. قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ (124) } . عن مجاهد: {أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} ، قال: عظماؤها. وقال ابن جريج: يمكرون بدين الله ونبيه عليه السلام وعباده المؤمنين. وقال السدي: الصَّغار: الذلة.

قوله عز وجل: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (127) } . عن أبي جعفر قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} ، قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: «نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح» . قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: «الإِنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت» . رواه ابن جرير. وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} بنصب الراء، وقرأ بعض من عنده من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ضيقًا حرِجًا، فقال عمر: ابغوني رجلاً من كنانة، واجعلواه راعيًا، وليكن مدلجّيًا، فأتوه به فقال له عمر: يا فتى ما الحرجة؟ قال: الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار، التي لا تصل إليها راعية، ولا وحشية، ولا شيء. فقال عمر: كذلك قلب المنافق، لا يصل إليه شيء من الخير. وعن عطاء: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} ، يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء. وقال ابن جريج: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} من شدة ذلك عليه، {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} ، قال ابن عباس: الرجس الشيطان. وقال ابن زيد: الرجس عذاب الله. وقوله تعالى: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} ، قال ابن عباس: يعني به: الإسلام. {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا

كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ، قال السدي: هو السلام، والدار: الجنة. قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (129) } . عن قتادة: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ} ، قال: قد أضللتم كثيرًا من الإنس. وعن ابن جريج: قوله: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} ، قال: كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول: أعوذ بكبير هذا الوادي، فذلك استمتاعهم، فاعتذروا يوم القيامة، وأما استمتاع الجن والإنس، فإنه كان فيما ذكر، ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إيّاهم في استعاذتهم بهم، فيقولون: قد سُدْنا الجن والإنس. وقال محمد بن كعب: هو طاعة بعضهم بعضًا، وموافقة بعضهم لبعض. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي: نسلّط بعضهم على بعض. وقال قتادة: يتبع بعضهم بعضًا في النار. وعن ابن عباس: أن الله تعالى إذا أراد بقوم خيرًا ولّى أمرهم خيارهم، وإذا أراد بقوم شرًّا ولّى أمرهم شرارهم. وعن قتادة: فجعل بعضهم أولياء بعض، فالمؤمن وليّ المؤمن أينما كان، والكافر وليّ الكافر حيث كان. قوله عز وجل: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا

رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) } . قال البغوي: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} ، يعني: في الثواب والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا. وعن ابن عباس: {عَلَى مَكَانَتِكُمْ} يعني: على ناحيتكم. قال الزجاج: اعملوا على ما أنتم عليه، {إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} . والله أعلم. * * *

الدرس الثاني والتسعون

الدرس الثاني والتسعون {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاء عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ

مُّبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (145) } . * * *

قوله عز وجل: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) } . قال مجاهد: يسمّون لله جزءًا من الحرث، ولشركائهم وأوثانهم جزءًا، فما ذهبت به الريح مما سمّوا لله إلى جزء أوثانهم تركوه، وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله رموه، وقالوا: الله غنيّ عن هذا؛ والأنعام: السائبة، والبحيرة: التي سمّوا. قال قتادة: وكانوا إذا أصابتهم السِّنة استعانوا ... بما جزّءوا لله وأخّروا ما جزّءوا لشركائهم قال الله: {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} . وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} عن مجاهد: في قول الله {قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} شياطينهم، يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خيفة العيلة. قوله عز وجل: {وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ

وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (138) } . عن مجاهد: {وَحَرْثٌ حِجْرٌ} ، يقول: حرام. وعن قتادة: قوله: {هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} الآية، تحريم كان عليهم من الشياطين في أموالهم وتغليظ وتشديد. وقال ابن زيد في قوله: {هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} نحتجرها على من نريد وعمن نريد، لا نطعمها إلا من شاء بزعمهم، قال: إنما احتجروا ذلك لآلهتهم، وقالوا: نحتجرها ونجعلها للرجال. وقال السدي: أما: أنعام حرمت ظهورها، فهي: البحيرة والسائبة والحام، وأما الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها إذا ولدوها، ولا إن نحروها. وقال أبو وائل: لا يحجّون عليها. وقال مجاهد: كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها، ولا في شيء من شأنها، لا إن ركبوها، ولا إن حلبوها، ولا إن حملوا، ولا إن منحوا، ولا إن عملوا شيئًا. قوله عز وجل: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ (139) } . عن مجاهد: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا} السائبة، والبحيرة. وقال السدي: فهذه الأنعام ما ولد منها حيّ فهو خالص للرجال دون النساء وأما ما ولد من ميت فيأكله الرجال والنساء. وعن مجاهد في قوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} ، قال: قولهم الكذب في ذلك. قوله عز وجل: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاء عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (140) } . قال السدي: ثم ذكر ما صنعوا في أولادهم وأموالهم فقال: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللهُ} ، قال قتادة: هذا صنيع أهل

الجاهلية، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة، وجعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحامًا تحكّمًا من الشياطين في أموالهم. وقال ابن عباس: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب، فأقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام، {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاء عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} . قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (142) } . قال السدي في قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} أما جنات: فالبساتين، وأما المعروشات: فما عرش كهيئة الكرم. وعن ابن جريج: قوله: {مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} ، قال: متشابهًا في المنظر، وغير متشابه في الطعم. وقوله تعالى: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، قال عطاء: من النخل والعنب والحبّ كله. وقال مجاهد: إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه، وإذا أنقيته وأخذت في كيله حثوث لهم منه، وإذا علمت كيله عزلت زكاته. وقال محمد بن جعفر عن أبيه: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، قال: شيئًا سوى الحق الواجب. وعن السدي: {وَلاَ تُسْرِفُواْ} لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. وقال عطاء في قوله: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} ينهى عن السرف في كل شيء، ثم تلا: {لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} . وقوله تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ

خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ، قال ابن عباس: الحمولة: هي الكبار. والفرش: الصغار من الإِبل. وقال السدي: أما الحمولة: فالإِبل، وأما الفرس: فالفصلان، والعجاجيل، والغنم، وما حمل عليه: فهو حمولة. قوله عز وجل: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) } . عن الضحاك: {مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} ذكر وأنثى. قال ابن جريج: يقول: من أين حرّمت هذا؟ من قِبَل الذكرين أم من قِبَل الأنثيين، أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ وإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى، فمن أين جاء التحريم؟ فأجابوهم: وجدنا آباءنا كذلك يفعلون. وقال السدي: فما حرمت عليكم ذكرًا ولا أنثى من الثمانية، إنما ذكر هذا من أجل ما حرَّموا من الأنعام. وعن ابن عباس: قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} فهذه أربعة أزواج، {وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} . {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ} ، يقول: لم أحرم شيئًا من ذلك، {نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، يقول: كله حلال. وقال ابن زيد في قوله: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا} : الذي تقولون؟ وقال السدي: كانوا يقولون يعني: الذين كانوا يتخذون البحائر والسوائب: إن الله أمر بهذا، فقال الله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} .

قوله عز وجل: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (145) } . قال ابن جرير: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قُل} يا محمد - لهؤلاء الذين جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا، ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله، والقائلين: هذه أنعام وحَرْث لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم، والمحرّمين من أنعام أُخر ظهورها، والتاركين ذكر اسم الله على أخر منها، والمحرّمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم، ومحلّيه لذكورهم، المحرَّمين ما رزقهم الله افتراءً على الله، وإضافة منهم ما يحرّمون من ذلك، إلى أن الله هو الذي حرّمه عليهم -: أجاءكم من الله رسول بتحريمه ذلك عليكم؟ فأنبئونا به، أم وصّاكم الله بتحريمه، مشاهدة منكم له، فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم، فحرّمتموه؟ فإنكم كذبتم إن ادعيتم ذلك، ولا يمكنكم دعواه، إذا ادّعيتموه، علم الناس كذبكم، فإني لا أجد فيما أوحي إليّ من كتابه وآي تنزيله شيئًا محرّمًا على آكل يأكله مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام، التي تضيفون تحريم ما حرّم عليكم منها إلى الله، {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} قد ماتت بغير تذكية {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} وهو: النصُب، أو إلا أن يكون: {لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً} ، يقول: أو إلا أن يكون فسقًا يعني بذلك: أو إلا أن يكون مذبوحًا، ذبحه ذابح من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته، فذكر عليه اسم وثنه، فإن ذلك الذبح فسق نهى الله عنه وحرّمه، ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك لأنه ميتة. وهذا إعلام من الله جل ثناؤه للمشركين الذين جادلوا نبي الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادلوهم به، إن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرمه الله، وإن الذي زعموا أن الله حرّمه حلال قد أحلّه الله، وإنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله.

ثم ساق بسنده عن ابن طاوس عن أبيه في قوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} ، قال: كان أهل الجاهلية يحرّمون أشياء ويحلّون أشياء، فقال الله قل: لا أجد فيما كنتم تحرّمون وتستحلّون إلا هذا: {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} . وعن عكرمة: {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} ، قال: لولا هذه الآية لتتّبع المسلمون من العروق ما تتبّعت اليهود. وعن ابن عمر أنه سئل عن القنفذ فقرأ: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية، فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذُكِر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «خبيث من الخبائث» . فقال ابن عمر: إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله فهو كما قال. رواه أبو داود. وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، أي: من اضطر إلى كل ما حرّمه الله {غَيْرَ بَاغٍ} ، أي: في أكله تلذذًا من غير ضرورة {وَلاَ عَادٍ} ، أي: غير متجاوز في أكله، فلا حرج عليه. قال مجاهد: {غَيْرَ بَاغٍ} يبتغيه {وَلاَ عَادٍ} يتعدى على ما يمسك نفسه. وقوله تعالى: {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . قال البغوي: أباح الله أكل هذه المحرّمات عند الاضطرار في غير العدوان. والله أعلم. * * *

الدرس الثالث والتسعون

الدرس الثالث والتسعون {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ

كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) } . * * *

قوله عز وجل: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) } . عن ابن عباس: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} ، قال: البعير والنعامة ونحو ذلك من الدواب. وعن قتادة: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} الثروب، ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «قاتل الله اليهود، حرم عليهم الثروب ثم أكلوا أثمانها» . وقال ابن جريج: إنما حرم عليهم الثرب، وكل شحم كان كذلك ليس في عظم. وقال السدي: الثرب وشحم الكليتين، وكانت اليهود تقول: إنما حرّمه إسرائيل فنحن نحرّمه. وعن ابن عباس: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} ، يعني: ما علق بالظهر من الشحوم. وقال أبو صالح: الإِلية مما حملت ظهورهما. وعن مجاهد: الحوايا المبعر والمربض. وعن ابن جريج: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} ، قال: شحم الإلية بالعصعص فهو حلال، وكل شيء في القوائم، والجنب، والرأس، والعين ومَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ فهو حلال.

وعن قتادة: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} إنما حرم ذلك عليهم عقوبة ببغيهم. وقوله تعالى: {وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} ، أي: فيما أخبرنا من تحريمنا ذلك عليهم، لا كما زعموا أن إسرائيل حرّمه. وقال السدي: كانت اليهود يقولون: إنما حرّمه إسرائيل - يعني: الثرب وشحم الكليتين - فنحن نحرّمه، فذلك قوله: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} انتهى. والآية عامة في جميع المكذبين. قوله عز وجل: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) } . عن ابن عباس: قوله: {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} قال: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} ، ثم قال: {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ} فإنهم قالوا: عبادتنا الآلهة تقرّبنا إلى الله زلفى، فأخبرهم الله أنها لا تقرّبهم. وقوله: {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ} . يقول الله سبحانه: لوشئت لجمعتهم على الهدى أجمعين. وعن مجاهد: {وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} ، قال: قول قريش يعني: أن الله حرّم هذا البحيرة والسائبة. وقوله تعالى: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} ، كقوله تعالى:

{وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} . وقوله تعالى: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} . قال الربيع بن أنس: لا حجّة لأحد عصى الله، ولكن لله الحجة البالغة على عباده، وقال: {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} . قال: لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون. وعن السدي قوله: {هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا} ، يقول: أروني الذين يشهدون أن الله حرّم هذا مما حرّمت العرب، وقالوا: أمرنا الله به، قال الله لرسوله: {فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} . قوله عز وجل: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) } . قال ابن عباس: الإِملاق: الفقر، قتلوا أولادهم خشية الفقر. وعن قتادة: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} سرّها وعلانيتها. قوله عز وجل: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) } .

عن مجاهد: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . قال: التجارة فيه. وقال الضحاك: يبتغي له فيه، ولا يأخذ من ربحه شيئًا؛ وقال ابن زيد: قال الله: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} . وعن ربيعة في قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ، قال: الحلم. وعن مجاهد: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} بالعدل. وقال ابن زيد في قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ} ، قال: قولوا الحق، وقال السدي: هؤلاء الآيات التي أوصى بها من محكم القرآن. وعن الربيع بن خيثم أنه قال لرجل: هل لك في صحيفة عليها خاتم محمد؟ ثم قرأ هؤلاء الآيات: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} . قوله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) } . عن مجاهد في قول الله: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} ، قال: البدع والشبهات. وعن ابن مسعود قال: خطّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا خطًّا فقال: «هذا سبيل الله» ، ثم خطّ عن يمين ذلك الخطّ وعن شماله خطوطًا فقال: «هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليها» ، ثم قرأ هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} . وقال ابن زيد: سبيله الإسلام. وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله: «أيّكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث» ؟ ثم تلا: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} حتى فرغ من ثلاث آيات،

ثم قال: «ومن وفّى بهنّ فأجره على الله، ومن انتقص منهنَّ فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخّره إلى الآخرة كان أمره إلى الله، إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه» . رواه ابن أبي حاتم. والله أعلم. * * *

الدرس الرابع والتسعون

الدرس الرابع والتسعون {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (159) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم

بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165) } . * * *

قوله عز وجل: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ (157) } . قال ابن جرير: يعني جل ثناؤه بقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} ، ثم قل بعد ذلك يا محمد: آتى ربك موسي الكتاب. وعن مجاهد: {تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ} ، قال: المؤمنين. وعن الربيع: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ} فيما أعطاه الله. وقال قتادة: من أحسن في الدنيا تمّم له ذلك في الآخرة. {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} فيه حلاله وحرامه. {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} وهو: القرآن الذي أنزله على محمد عليه السلام {فَاتَّبِعُوهُ} ، يقول: فاتبعوا حلاله وحرّموا حرامه، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . وعن ابن عباس: قوله: {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} وهم: اليهود والنصارى، {وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ} تلاوتهم، {لَغَافِلِينَ} وقال ابن زيد: الدراسة: القراءة والعلم. وعن السدي: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ

جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} ، يقول: قد جاءكم بيّنة لسان عربيّ مبين، حين لم تعرفوا دراسة الطائفتين، وحين قلتم: لو جاءنا كتاب لكنا أهدى منهم. وعن ابن عباس: {وَصَدَفَ عَنْهَا} ، يقول: أعرض عنها، ... {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} ، قال قتادة: يعرضون. قوله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158) } . عن مجاهد: {إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ} ، يقول: عند الموت حين توفَّاهم، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} ذلك يوم القيامة، {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} طلوع الشمس من مغربها. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} طلوع الشمس من مغربها» . رواه ابن جرير. وعن السدي: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} ، يقول: كسبت في تصديقها خيرًا: عملاً صالحًا، فهؤلاء أهل القبلة، وإن كانت مصدّقة ولم تعمل قبل ذلك خيرًا، فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها، وإن عملت قبل الآية خيرًا ثم عملت بعد الآية خيرًا قُبِل منها. وقال الضحاك: من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه، قبل الله منه العمل بعد نزول الآية، كما قبل منه قبل ذلك. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (159) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا

وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (160) } . عن قتادة: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً} من اليهود والنصارى. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وليسوا منك: «هم أهل البدع، وأهل الشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة» . رواه ابن جرير. وعن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ، قال رجل من القوم: فإنّ لا إله إلا الله حسنة، قال: «نعم أفضل الحسنات» . وعن قتادة: قوله: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} ذكر لنا أن نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «الأعمال ستة، مُوجِبة ومُوجِبة، ومُضْعِفة ومُضْعِفة، ومِثْل ومِثْل؛ فأما الموجبتان: فمن لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنّة، ومن لقي الله مشركًا به دخل النار، والضعف: فنفقة المؤمن في سبيل الله سبعمائة ضعف، ونفقته على أهل بيته عشر أمثالها، وأما مثل ومثل: فإذا هم العبد بحسنة فلم يعلمها كتبت له حسنة، وإذا همّ بسيئة ثم عملها كتبت عليه سيّئة» .

قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165) } . يقول تعالى: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام: {إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً} . قال ابن جرير: يقول: مستقيمًا؛ وذكر قراءتين ثم قال: والصواب من القول في ذلك عندي: أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار متفقتا المعنى، فبأيّهما قرأ القارئ فهو للصواب مصيب، غير أن فتح القاف وتشديد الياء أعجب إليّ لأنه أفصح اللغتين وأشهرهما. وعن قتادة: {وَنُسُكِي} . قال: ذبحي. ... {وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ، أي: أول المسلمين من هذه الأمة. وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} ، أي: جعلكم تعمرونها جيلاً بعد جيل، وقرنًا بعد قرن، وخلفًا بعد سلف. قال ابن زيد وغيره: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أي: فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق {لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} أي: ليختبركم فيما أنعم به عليكم، {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ ... رَّحِيمٌ} ترهيب لمن عصاه، وترغيب لمن أطاعه. والله أعلم. * * *

الدرس الخامس والتسعون

الدرس الخامس والتسعون [سورة الأعراف] مكية، وهي مائتان وستون آية بسم الله الرحمن الرحيم {آلمص (1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن

تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22) قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) } . * * *

قوله عز وجل: {آلمص (1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3) } . قال أبو العالية: {حَرَجٌ} ، أي: ضيق، معناه: لا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به. {اتَّبِعُواْ} ، أي: وقل لهم: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} تطيعونهم في معصية الله، {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} . قوله عز وجل: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ (9) } . قال الزجاج في قوله تعالى: {بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} أو: لتصريف العذاب، أي: مرة ليلاً ومرة نهارًا. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين، ويسأل المرسلين عما بلّغوا. وعن السدي في قوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} قال: توزن الأعمال، وعن حذيفة قال: (صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، قال: يا جبريل، زِنْ

بينهم! فَرُدّ مِنْ بعضٍ على بعض، قال: وليس ثَمّ ذهب ولا فضّة. فإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فردّ على المظلوم وإن لم يكن له حسنات حمل عليه من سيئات صاحبه، فيرجع الرجل وعليه مثل الجبال، فذلك قوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} . قوله عز وجل: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18) } . عن قتادة: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} ، قال: خلق الله آدم من طين {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق، علقة ثم مضغة ثم عظامًا، ثم كسى العظام لحمًا، ثم أنشأناه خلقًا آخر. وعن مجاهد في قول الله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} ، قال: آدم، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} ، قال: في ظهر آدم. وقال ابن جرير: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} معناه: ولقد خلقنا أباكم آدم، ثم صوّرناه {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} . قال ابن كثير: وذلك أنه تعالى لما خلق آدم عليه السلام بيده من طين

لازب، وصوّره بشرًا سويًا، ونفخ فيه من روحه، أمر الملائكة بالسجود له تعظيمًا لشأن الله تعالى وجلاله، فسمعوا كلهم وأطاعوا، إلا إبليس لم يكن من الساجدين. وقوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} ، قال ابن عباس: أول من قاس إبليس فأخطأ القياس، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس. وقوله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} ، أي: المؤخرّين عن الموت إلى يوم الوقت المعلوم، حين يموت جميع الناس، وهي: النفخة الأولى {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} قال مجاهد: الحق. وعن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} ، يقول: أشكّكهم في آخرتهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أرغّبهم في دنياهم، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} أشبّه عليهم أمر دينهم، {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} أشهّى لهم المعاصي. وقال قتادة: أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار، ومن خلفهم من أمر الدنيا فزيّنها لهم ودعاهم إليها، وعن أيمانهم من قِبَل حسناتهم بطّأهم عنها، وعن شمائلهم زيّن لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها، وأمرهم بها. أتاك يا ابن آدم من كل وجه، غير أنه لم يأتك من فوقك، لم يستطع أن يحول بينتك وبين رحمة الله. وعن ابن عباس: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً} ، يقول: صغيرًا منفيًّا. وقال السدي: أما: {مَذْؤُوماً} : فمنفيًّا، وأما: {مَّدْحُوراً} : فمطرودًا. وعن ابن عباس: {مَذْؤُوماً} : ممقوتًا. انتهى. والمذؤم: هو المذموم وهو المعيب، والمذؤم بالهمز أبلغ في العيب. وعن

قتادة: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً} لعينًا شقيًا، {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} . قوله عز وجل: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) } . قال وهب بن منبه: كان عليهما نور لا ترى سوآتهما. وقال قتادة: فحلف لهما بالله حتى خدعهما، وقد يُخدع المؤمن بالله، فقال: إني خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما. قوله عز وجل: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22) قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) } . عن أُبيّ بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كان آدم كأنه نخلة سحوق، كثير شعر الرأس، فلما وقع بالخطيئة بدت له عورته، وكان لا يراها، فانطلق فارًّا فتعرّضت له شجرة فحبسته بشعره فقال لها: أرسليني، فقالت: لست بمرسلتك، فناداه ربه: يا آدم أمنّي تفرّ؟ قال: لا، ولكنّي أستحييك» . رواه ابن جرير. وعن ابن عباس: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} ، قال: جعلا يأخذان من ورق الجنة يجعلان على سوآتهما، وقال: لما أكل آدم من الشجرة قيل

له: لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: حواء أمرتني. قال: فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كرهًا ولا تضع إلا كرهًا، فرنّت حواء عند ذلك فقيل لها: الرنة عليك وعلى ولدك. وعن الضحاك في قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، قال: هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربه. وعن قتادة قال: قال آدم عليه السلام: يا رب أرأيت إن تبت واستغفرتك. قال: إذًا أدخلك الجنة. وأما إبليس فلم يسأله التوبة، وسأل النظرة فأعطي كل واحد منهما ما سأل. قوله عز وجل: {قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) } . عن السدي: {اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} ، قال: اهبطوا إلى الأرض: آدم وحواء، إبليس والحية. قال ابن كثير: والعمدة في العداوة: آدم، وإبليس. ولهذا قال تعالى في سورة طه {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً} وحواء تبع لآدم، والحية إن كان ذكرها صحيحًا فهي تبع لإِبليس. وعن أبي العالية في قوله: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} ، قال: هو قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً} . وقال ابن عباس: القبور. ... {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} إلى يوم القيامة، وإلى انقطاع الدنيا. والله المستعان. * * *

الدرس السادس والتسعون

الدرس السادس والتسعون {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ

النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) } .

قوله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) } . قال عروة بن الزبير: اللباس الثياب. وقال ابن عباس: الريش المال. وعن قتادة: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ} هو: الإيمان. وعن عوف الجهني: هو: الحياء. وعن ابن عباس: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} ، قال: لباس التقوى العمل الصالح. وعن عثمان مرفوعًا: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ} ، قال: السمت الحسن. وقال عروة بن الزبير: لباس التقوى: خشية الله. وكل هذه الأقوال متفقة المعنى. قوله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (30) } . عن ابن عباس في قوله: {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} ، قال: كان لباسهما الظفر، فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما، وتركت الأظفار تذكرة وزينة. وقال وهب بن المنبه: كان لباس آدم وحواء نورًا على فروجهما.

وعن مجاهد: قوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} قال: الجن والشياطين. وقال مالك بن دينار: إن عدوًا يراك ولا تراه لشديد المؤنة، إلا من عصم الله. وعن مجاهد في قوله: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا} فاحشتهم أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة. {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} بالعدل. وعن الربيع في قوله: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، قال: في الإِخلاص لا تدعوا غيره، وأن تخلصوا له الدين. وعن الحسن: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} ، قال: كما بدأكم في الدنيا كذلك تعودون يوم القيامة أحياء. وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ... «يحشر الناس عراة غرلاً، وأول من يكسى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -» ، ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} . رواه ابن جرير وغيره. قوله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (34) } . عن ابن عباس: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، قال: الثياب. وقال مجاهد: ما وارى العورة ولو عباءة.

وعن ابن عباس في قوله: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} ، قال: أحلّ الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفًا أو مخيلة، وقال: إن الجاهلية كانوا يحرّمون أشياء أحلها الله من الرزق وغيرها فأنزل الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، يعني: يشارك المسلمون المشركين في الطيبات في الحياة الدنيا، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء. وعن مجاهد في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، قال: نهى عن الإِثم وهي: المعاصي كلها، وأخبر أن الباغي بَغْيُه كائن على نفسه. قوله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) } . قال في فتح البيان: (إن) حرف شرط، (وما) مزيدة للتأكيد معنى الشرط. {يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} التي فيها الفرائض والأحكام، {فَمَنِ اتَّقَى} الشرك منكم، {وَأَصْلَحَ} عمله، {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الآخرة، {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وهذا الشرط والجزاء، جزاء {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} . {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} منكم، عطف على أتقى، {وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا} فتركوا العمل بها، {أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . قوله عز وجل: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا

كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (39) } . عن مجاهد: {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ} ما كتب لهم من الشقاوة والسعادة. وقال ابن عباس: من عمل خيرًا جزي به، ومن عمل شرًا جزي به. وقال ابن زيد: من الأعمال والأعمار والأرزاق. وعن السدي: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} ، يقول: كلما دخلت أهل ملة لعنوا أصحابهم على ذلك الدين، يلعن المشركون المشركين، تلعن الآخرة الأولى. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) } . عن ابن عباس: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء} قال: عنى بها الكفار، إن السماء لا تفّتح لأرواحهم وتفتّح لأرواح المؤمنين. وقال مجاهد: لا يصعد لهم

كلام ولا عمل. وعن البراء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر قبض روح الفاجر، وأنه يصعد بها إلى السماء قال: «فيصعدون بها فلا يمرّون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون فلان، بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون له فلا يفتح له» ، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} . رواه ابن جرير وغيره. وعن الحسن: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} ، قال: حتى يدخل البعير في خرق الإِبرة. وعن محمد بن كعب: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} ، قال: الفراش، {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} ، قال: اللحف. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} ، قال الضحاك: العداوة. عن أبي نضرة قال: يحبس أهل الجنّة دون الجنّة حتى يقضى لبعضهم من بعض، حتى يدخلوا الجنة حين يدخلونها، ولا يَطلب أحد منهم أحدًا بقلامة ظفر ظلمها إياه. ويحبس أهل النار دون النار حتى يقضى لبعضهم من بعض فيدخلوا النار، ولا يَطلب أحد منهم أحدًا بقلامة ظفر ظلمها إياه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل أهل النار يرى منزله من النار فيقولون: لو هدانا الله فتكون عليهم حسرة. وكل أهل الجنة يرى منزلة من النار فيقولون: لولا أن هدانا الله، فهذا شكرهم» . رواه ابن جرير. وعن عاصم بن

ضمرة عن عليّ قال: ذكر عمر شيئًا لا أحفظه، ثم ذكر الجنة فقال: يدخلون فإذا شجرة يخرج من تحت ساقها عينان، قال: فيغتسلون من إحداهما، فتجري عليهم نضرة النعيم، فلا تشعث أشعارهم ولا تغيّر أبشارهم، ويشربون من الأخرى فيخرج كل قذى وقذر أو شيء من بطونهم، قال: ثم يفتح باب الجنة فيقال لهم: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ، قال: فتستقبلهم الولدان فيحفّون بهم كما تحفّ الولدان بالحميم إذا جاء من غيبة، ثم يأتون فيبشّرون أزواجهم فيسمّونهم بأسمائهم وأسماء آبائهم فيقلن: أنت رأيته؟ قال: فيستخفّهنّ الفرح، قال: فيجئن حتى يقفن على أسكفة الباب قال: فيجيئون فيدخلون، فإذا أسّ بيوتهم بجندل اللؤلؤ، وإذا صروح صفر وخضر وحمر ومن كل لون، وسرر مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابيّ مبثوثة، فلولا أن الله قدّرها لهم لالتمعت أبصارهم مما يرون فيها، فيعانقون الأزواج ويقعدون على السرر ويقولون: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} الآية. وعن الأغر: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، قال: نودوا أن صحّوا فلا تسقموا، وخلدوا فلا تموتوا وانعموا فلا تبأسوا. وقال أبو سعيد: ينادي مناد: إن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدًا. وبالله التوفيق. * * *

الدرس السابع والتسعون

الدرس السابع والتسعون {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُواْ إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (53) } . * * *

قوله عز وجل: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) } . عن السدي: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ} ، وجد أهل الجنة ما وُعدوا من ثواب وأهل النار ما وُعدوا من عقاب. قوله عز وجل: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) } . قال مجاهد: الأعراف: حجاب بين الجنة والنار. وقال السدي: وهو السور. وقال ابن عباس: (إن الأعراف تلّ بين الجنة والنار، حبس عليه ناس من أهل الذنوب [بين الجنة والنار] ) . وعنه قوله: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} . قال: (يعرفون أهل النار بسواد الوجوه، وأهل الجنة ببياض الوجوه، قال: وهم في ذلك يحيّون أهل الجنة بالسلام {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} أن يدخلوها، وهم داخلوها إن شاء الله) . وقال الحسن: (والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم) . وقال حذيفة: (هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقصَّرت بهم سيئاتهم عن الجنة، فـ {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا

لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) } فبينا هم كذلك اطلع إليهم ربك تبارك وتعالى فقال: اذهبوا وادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم) . قوله عز وجل: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (49) } . عن ابن عباس: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً} في النار، ... {يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} وتكبركم؟ وقال البغوي: قال الكلبي: ينادون وهم على السور: يا وليد بن المغيرة، ويا أبا جهل بن هشام، ويا فلان، ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزءون بهم، فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} ، أي: حلفتم أنهم لا يدخلون الجنة؟ ثم يقال لأصحاب الأعراف: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} . وقال أبو مجلز: هذا خبر من الله عن أمره أهل الجنة بدخلولها. قوله عز وجل: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُواْ إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) } . قال ابن زيد في قوله: {أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ} ، قال: يستطعمونهم ويستسقونهم فأجابهم أهل الجنة: إن الله حرّم الماء والطعام على الذين جحدوا توحيده، وكذّبوا في الدنيا رسله. وقال ابن عباس: ينادي الرجل

أخاه وأباه فيقول: قد احترقت، أفض عليّ من الماء، فيقال لهم: أجيبوهم، فيقولون: {إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} . وعن مجاهد: {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا} ، قال: نسوا في العذاب. وقال ابن عباس: نتركهم من الرحمة كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا، وقال نسيهم الله من الخير ولم ينسهم من الشر. وقال ابن جرير: وتأويل الكلام: فاليوم نتركهم في العذاب، كما تركوا العمل في الدنيا للقاء الله يوم القيامة وكما كانوا بآيات الله يجحدون. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (53) } . عن قتادة: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} عاقبته. وقال مجاهد: جزاؤه. وقال الربيع بن أنس: فلا يزال يقع تأويله أمرًا بعد أمر حتى يأتي تأويله يوم القيامة، ففي ذلك أنزل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} حيث أثاب الله تبارك وتعالى أولياءه وأعداءه ثواب أعمالهم. {يقول} يومئذٍ {الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} الآية. وقال مجاهد: {نَسُوهُ} أعرضوا عنه. وقوله تعالى: {قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} ، قال ابن كثير: أي: خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، ... {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} ، أي: ذهب عنهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله، فلا يشفعون فيهم، ولا ينقذونهم مما هم فيه. والله أعلم. * * *

الدرس الثامن والتسعون

الدرس الثامن والتسعون {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) } . قال ابن جرير: يقول الله تعالى ذكره: إن سيّدكم، ومصلح أموركم أيها الناس هو: المعبود الذي له العبادة من كل شيء، الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وذلك يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة. انتهى. وقال ابن إسحاق: كان أول ما خلق الله تبارك وتعالى النور والظلمة، ثم ميّز بينهما، فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلمًا، وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا، ثم سمك السماوات السبع من دخان - يقال والله أعلم: من دخان الماء - حتى استقللن ولم يحبكهن، وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها وأخرج ضحاها، فجرى فيها الليل والنهار، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم، ثم دحى الأرض وأرساها بالجبال، وقدّر فيها الأقوات، وبث فيها ما أراد من الخلق، ففرغ من الأرض وما قدّر فيها من أقواتها في أربعة أيام، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} كما قال. فحبكهن وجعل في السماء الدنيا: شمسها، وقمرها، ونجومها، {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا} فأكمل خلقهن في يومين، ففرغ من خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى في اليوم السابع فوق سماواته، ثم قال للسماوات وللأرض: {اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} . انتهى.

وقال ابن جرير في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وأولى المعاني بقول الله جلّ ثناءه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ} ، علا عليهن وارتفع، فدبرهن بقدرته وخلقهن سبع سماوات. وقال البغوي في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال الكلبي، ومقاتل: استقر. وقال أبو عبيدة: صعد؛ وأوّلت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء؛ فأما أهل السنة يقولون: الاستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف، يجب على الرجل الإِيمان به، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل. وسأل رجل مالك بن أنس

عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فأطرق رأسه مليًا وعلاه الرخصاء ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به

واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أظنك إلا ضالاً. ثم أمر به فأخرج. وروي عن سفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم من علماء السنة، في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهات: أَمِرِّوها كما جاءت بلا كيف. انتهى. وقال ابن كثير: (وأما قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدًا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث ابن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة المسلمين قديمًا وحديثًا، وهو: إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشّبهين منفيّ عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، و {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، بل الأمر كما قال الأئمة، منهم: نُعَيْم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال: من شبّه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى) . وقال في جامع البيان: أجمع السلف على أن استواءه على العرش صفة له بلا كيف، نؤمن به، ونكل العلم إلى الله تعالى. وقال البخاري: باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، قال أبو العالية: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} ارتفع، {فَسَوَّاهُنَّ} خلقهن. وقال مجاهد:

{اسْتَوَى} علا على العرش، ثم ذكر حديث عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل ... شيء» . الحديث. وقال البيهقي: (اتفقت أقاويل أهل التفسير على أن العرش هو: السرير وأنه جسم خلقه الله، وأمر ملائكته بحمله) . وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (وقد نقل أبو إسماعيل الهروي في كتاب الفاروق بسنده إلى داود بن علي قال: كنا عند أبي عبد الله بن الأعرابي، يعني: محمد بن زياد اللغوي، فقال له رجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، فقال: هو على العرش كما أخبر، قال: يا أبا عبد الله إنما معناه: استولى، فقال: اسكت، لا يقال استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: (وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله وأجمع عليه

سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه، علا على خلقه وهو سبحانه معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أنه: بالخلق مختلط، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه، مهيمن عليهم مطلع عليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه معنا، حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تأويل، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظنّ أن ظاهر قوله: {فِي السَّمَاء} أن السماء تقلّه أو تظلّه، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإِيمان، فإن الله قد وسع كرسيّه السماوات والأرض، وهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) . انتهى. وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وتحمله الملائكة شداد ... ملائكة الإِله مسوّمينا وقال عبد الله بن المبارك: (نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته، على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية) .

وقال أبو عمرو الطلمنكي: (أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته) . وقال أيضًا: (أجمع أهل السنة على أن الله استوى على عرشه، على الحقيقة لا على المجاز) . انتهى. وقال ابن القيّم في (الجيوش الإسلامية) - لمّا ذكر إثبات استواء الرب على العرش بالآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة النبوية، وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم -: (والاستواء معلوم في اللغة، وهو: العلوّ، والارتفاع، والتمكن. ومن الحجّة أيضًا في أن الله سبحانه وتعالى على العرش فوق السماوات السبع، أن الموجودين أجمعين إذا كربهم أمر رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون الله ربهم. وقوله - صلى الله عليه وسلم - للأَمَة التي أراد مولاها أن يعتقها: «أين الله» ؟ فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: «من أنا» ؟ قالت: أنت رسول الله. قال: «اعتقها فإنها مؤمنة» . فاكتفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها برفع رأسها إلى السماء) . انتهى. وقال الطحاوي في (العقيدة السلفية) : (والعرش والكرسي حق، وهو سبحانه مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإِحاطة خلقه) . انتهى وبالله التوفيق. وقد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وقوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} ، أي: سريعًا، كما قاله ابن عباس. وقوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .

قال ابن كثير: أي: الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته، ولهذا قال منبهًا: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} ، أي: له الملك والتصرف، {تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . قوله عز وجل: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56) } . عن ابن عباس: قوله: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} ، قال: السر أنه لا يحب المعتدين في الدعاء ولا في غيره. وقال ابن جريج: يكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء، ويأمر بالتضرع والاستكانة. {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} ، أي: لا تفسدوا فيها بالشرك والمعاصي، {بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} ، أي: يبعث الرسل وبيان الشريعة. ... {وَادْعُوهُ خَوْفاً} من عقابه، {وَطَمَعاً} في ثوابه، {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} . قال ابن كثير: أي: إن رحمته مُرْصَدة للمحسنين، الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره، كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الآية، وقال: {قَرِيبٌ} ولم يقل: قريبة، لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب، أو لأنها مضافة إلى الله، فلهذا قال: {قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} . وقال مطر الورّاق: استنجزوا موعود الله بطاعة الله، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين. رواه ابن أبي حاتم. قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ

حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) } . لما ذكر تعالى أنه خالق السماوات والأرض، وأنه المدبر لخلقه، وأمر بدعائه، نبّه على أنه الرازق، وأنه يعيد الموتى يوم القيامة فقال: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ، أي: قدّام المطر، {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . قال مجاهد: إذا أراد الله أن يخرج الموتى، أمطر السماء حتى تنشقّ عنهم الأرض، ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها، فذلك يحيي الموتى بالمطر كإحيائه الأرض. وعن قتادة: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} . قال: هذا مثل ضربه الله في الكافر والمؤمن. وقال ابن عباس: المؤمن طيب وعمله طيب، كما البلد الطيب ثمره طيب، والكافر هو الخبيث وعمله خبيث. والله أعلم.

الدرس التاسع والتسعون

الدرس التاسع والتسعون {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ

بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلاء اللهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) } .

قوله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ (64) } . أي: عن الحق. قال البغوي: قوله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ} أَلِف استفهام دخلت على واو العطف. وعن زيد بن أسلم: كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل. وعن ابن عباس: أنه نجا مع نوح في السفينة ثمانون رجلاً؛ والقصة مبسوطة في سورة هود وسورة نوح. قوله عز وجل: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ

جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) } . عن قتادة: {فَاذْكُرُواْ آلاء اللهِ} أي: نعمة الله. وقال ابن إسحاق: كانت منازل عاد وجماعتهم حين بعث الله فيهم هودًا الأحقاف والأحقاف: الرمل بين عُمان إلى حضرموت فاليمن كله، وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض كلها، وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله. قوله عز وجل: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (72) } . قال ابن زيد في قوله تعالى: {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} قال: استأصلناهم، وقد قال الله تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} . قوله عز وجل: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ

لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلاء اللهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) } . عن أبي الطفيلي قال: قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت من الصادقين، قال: فقال لهم صالح: اخرجوا إلى هضبة من الأرض، فخرجوا فإذا هي تتمخض كما تتمخض الحامل، ثم إنها انفرجت فخرجت من وسطها الناقة، فقال صالح: {هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} فلما ملّوها عقروها، فقال لهم: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} . وذكر أهل التفسير: أن ثمود أصبحوا يوم الخميس، وهو اليوم الأول من أيام النظرة ووجوههم مصفرّة كما وعدهم صالح عليه السلام، وأصبحوا في اليوم الثاني ووجوههم محمّرة، وأصبحوا في اليوم الثالث ووجوههم مسودّة، فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحنّطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه، عياذًا بالله من ذلك، لا يدرون ماذا يفعل بهم ولا كيف يأتيهم العذاب، وأشرقت الشمس، جاءتهم

صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح، وزهقت النفوس في ساعة واحدة، فأصبحوا في دارهم جاثمين. قوله عز وجل: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) } . قال عمرو بن دينار: ما نزل ذكر على ذكر في الدنيا حتى كان قوم لوط. وعن قتادة في قوله: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} ، قال: عابوهم بغير عيب، وذمّوهم بغير ذمّ. وقوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} ، أي: الباقين في العذاب. وقوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً} أي: حجارة، كما قال تعالى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} . والله أعلم. * * *

الدرس المائة

الدرس المائة ... {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (85) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى

قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (85) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) } . قوله: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . قال ابن كثير: هذه دعوة الرسل كلهم. {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ ... رَبِّكُمْ} ، أي: قد أقام الله الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به، ثم وعظهم في معاملتهم الناس بأن يوفوا الكيل والميزان، ولا يبخسوا الناس أشياءهم، أي: لا يخونوا الناس في أموالهم، ويأخذوها على وجه البخس وهو نقص المكيال والميزان خفية وتدليسًا. انتهى. وعن ابن عباس: قوله: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ} ، قال: كانوا يجلسون في الطريق فيخبرون من أتى عليهم، أن شعيبًا عليه السلام كذب فلا يفتنكم عن دينكم. وعن السدي: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ

تُوعِدُونَ} ، قال: العشارون. وعن مجاهد: {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ} ، قال: أهلها {وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} تلتمسون لها الزيغ. وقوله تعالى: {حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ} . قال ابن كثير: أي: يفصل، {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} فإنه سيجعل العاقبة للمتقين، والدمار على الكافرين. قوله عز وجل: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) } . قوله: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} . قال ابن كثير: (يقول: أَوَأنتم فاعلون ذلك، ولو كنا كارهين ما تدعوننا إليه؟ فإنا إن رجعنا إلى ملّتكم ودخلنا معكم فيما أنتم فيه، فقد أعظمنا الفرية على الله) . انتهى. وقال السدي: يقول: ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله منها، إلا أن يشاء الله ربنا، فالله لا يحب الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد علم شيئًا فإنه وسع كل شيء علمًا. وعن قتادة: {افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} : اقض بيننا وبين قومنا بالحق. وعن ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: انطلق أفاتحك. قوله عز وجل: {وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ

إِذاً لَّخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) } . عن قتادة: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} كأن لم يعيشوا، كأن لم ينعموا. وعن ابن عباس: قوله: {فَكَيْفَ آسَى} ، يعني: فكيف أحزن. قال ابن إسحاق: أصاب شعيبًا على قومه حزن لما يرى بهم من نقمة الله، ثم قال يعزّي نفسه فيما ذكر الله عنه، {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} . قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (95) } . عن ابن عباس: قوله: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} ، يقول: مكان الشدة الرخاء. وعن مجاهد في قول الله: {مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} والحسنة: الرخاء والمال، والولد. {حَتَّى عَفَواْ} ، قال: كثرت أموالهم وأولادهم. قوله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (100) } .

عن ابن عباس: قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا} ، يقول: أو لم يتبيّن لهم. وقال ابن زيد: أو لم نبيّن لهم، {أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} ، قال: والهدى: البيان الذي بعث هاديًا مبيّنًا حتى يعرفوا، لولا البيان لم يعرفوا. قال الزجاج: قوله: {وَنَطْبَعُ} : منقطع عما قبله، لأن قوله: ... {أَصَبْنَاهُم} ماضِ، {وَنَطْبَعُ} مستقبل. قوله عز وجل: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) } . عن أُبَيّ بن كعب: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} ، قال: كان في عمله يوم أقرّوا له بالميثاق. وقال ابن كثير: الباء سببية، أي: فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق، أول ما ورد عليهم؛ حكاه ابن عطية رحمه الله، وهو متجه حسن، كقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ولهذا قال هنا: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم} ، أي: لأكثر الأمم الماضية من عهد {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} . والله أعلم. * * *

الدرس الواحد بعد المائة

الدرس الواحد بعد المائة {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ

وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) } . * * *

قوله عز وجل: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ (108) } . قال البغوي: قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا} بأدلّتنا، {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا} فجحدوا بها. وقوله: {حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ} ، أي: أنا خليق بأن لا أقول على الله إلا الحق. وعن قتادة: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} ، قال: تحوّلت حيّة عظيمة. وقال ابن عباس: ألقى عصاه فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها، مسرعة إلى فرعون، فلما رأى فرعون أنها قاصدة إليه اقتحم عن سريره فاستغاث بموسى أن يكفّها عنه ففعل. وقوله: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ} ، يقول: من غير برص. قال مجاهد: وكان موسى رجلاً آدم، فأخرج يده فإذا هي بيضاء، أشد بياضًا من اللبن من غير سوء، قال: من غير برص آية لفرعون.

قوله عز وجل: {قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) } . عن ابن عباس: قوله: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} ، قال: أخّره، {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ} ، قال: الشُّرَط، فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون، قالوا: بم يعمل هذا الساحر قالوا: يعمل بالحيّات، قالوا: والله ما في الأرض قوم يعملون بالسحر، والحيّات، والجبال، والعصيّ أعلم منا، فما أَجْرُنا إن غَلبنا؟ فقال لهم: أنتم قرابتي وخاصّتي، وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم. قوله عز وجل: {قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) } . قال مجاهد: {يَأْفِكُونَ} يكذبون. وعن السدي قال: {قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس

منهم رجل إلا معه حبل وعصا، {فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} ، يقول: فرَّقوهم، فأوجس في نفسه خيفة موسى. وقال ابن عباس: ألقوا حبالاً غلاظًا، وخشبًا طوالاً، قال: فأقبلت: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} . وقال السدي: أوحى الله إلى موسى: لا تخف وألق ما في يمينك تلقف ما يأفكون، فألقى عصاه فأكلت كل حية لهم. فلما رأوا ذلك سجدوا، وقالوا: {آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} . وقال ابن إسحاق: أوحى الله إليه أن ألق ما في يمينك، فألقى عصاه من يده فاستعرضَت ما ألقوا من حبالهم وعصيّهم، وهي: حيات في أعين فرعون وأعين الناس تسعى، فجعلت تلقفها: تبتلعها حيّة، حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا، ثم أخذها موسى، فإذا هى عصاه في يده كما كانت، ووقع السحرة سجّدًا قالوا: {آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} ، لو كان هذا سحرًا ما غلبنا. وعن مجاهد في قوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ، قال: ظهر الحق، وذهب الإِفك الذي كانوا يعملون. وقال ابن عباس: لما رأت السحرة ما رأت، عرفت أن ذلك أمر من السماء، وليس بسحر، فخروا سجدًا، وقالوا: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون وأمير السحرة، فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن لي، وتشهد أن ما جئت به حق؟ قال الساحر: لآتينّ غدًا بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لإِن غلبتني لأؤمننّ به ولأِشهدنّ أنك حق، وفرعون ينظر إليهم؛ فهو قول فرعون: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} إذا التقيتما لتظاهرا فتخرجا منها أهلها. وعن السدي: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ} فقتلهم وصلبهم، كما قال عبد الله بن عباس حين قالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} قال: كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء. والله أعلم. * * *

الدرس الثاني بعد المائة

الدرس الثاني بعد المائة {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا

صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) } . * * *

قوله عز وجل: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى ... رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) } . قال البغوي: قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} له: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرْضِ} وأرادوا بالإفساد في الأرض دعاءهم الناس إلى مخالفة فرعون في عبادته {وَيَذَرَكَ} أي: وليذرك {وَآلِهَتَكَ} فلا يعبدك ولا يعبدها. قال ابن عباس: كان لفرعون بقرة يعبدها، وكان إذا رأى بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، فلذلك أخرج السامريّ لهم ... عجلاً. وقال السدي: كان فرعون قد اتخذ لقومه أصنامًا وأمرهم بعبادتها، وقال لقومه: هذه آلهتكم، أراد بها: أنه ربّها وربّكم، فذلك قوله: {أنا ربكم الأعلى} . وقال ابن عباس: لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل. وقال مجاهد في قول الله: {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} من إرسال الله إياك، وبعده، {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} .

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (131) } . عن ابن مسعود {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ} قال: سني الجوع. وقال مجاهد: الجائحة {وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ} دون ذلك. وقال قتادة: أخذهم الله بالسنين: بالجوع عامًا فعامًا {وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ} ، فأما السنين: فكان ذلك في باديتهم وأهل مواشيهم. وأمَّا بنقص من الثمرات: فكان ذلك في أمصارهم وقراهم. وقال مجاهد في قوله: {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ} العافية والرخاء، ... {قَالُواْ لَنَا هَذِهِ} نحن أحق بها، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بلاء وعقوبة، {يَطَّيَّرُواْ} يتشاءموا {بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} . وقال ابن عباس: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ} ، قال: الأمر من قبل الله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} . قوله عز وجل: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) } . قال ابن عباس: لما جاء موسى بالآيات، كان أول الآيات الطوفان، فأرسل

الله عليهم السماء، وقال: القٌمَّل هو: السوس الذي يخرج من الحنطة. وقال سعيد ابن جبير: لما أتى موسى فرعون قال له: أرسل معي بني إسرائيل فأبى عليه، فأرسل الله عليهم الطوفان، وهو: المطر، فصبّ عليهم منه شيئًا خافوا أن يكون عذاب، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل، فدعا ربه، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل. فأنبت الله لهم في تلك السنة شيئًا لم ينبته لهم قبل ذلك، من الزرع، والثمر، والكلأ، فقالوا: هذا ما كنا نتمنى، فأرسل الله عليهم الجراد فسلّطه على الكلأ، فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع، فقالوا يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فكشف عنهم الجراد، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل. فداسوا وأحرزوا في البيوت، فقالوا: أحرزنا، فأرسل الله عليهم القمل وهو: السوس الذي يخرج منه، فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحا فلا يردّ منها ثلاثة أقفزة، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا القمل فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فكشف عنهم، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فبينا هو جالس عند فرعون، إذ سمع نقيق ضفدع، فقال لفرعون: ما تلقى أنت وقومك من هذا؟ فقال: وما عسى أن يكون كيد هذا؟ فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، ويهمّ أن يتكلم فتثب الضفادع في فيه، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فكشف عنهم، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فأرسل الله عليهم الدم، وكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار، أو ما كان في أوعيتهم وجدوه دمًا عبيطًا، فشكوا إلى فرعون فقالوا: إنا قد ابتلينا بالدم، وليس لنا شراب، فقال: إنه قد سحركم، فقالوا: من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا

شيئًا من الدم إلا وجدناه دمًا عبيطًا؟ فأتوه فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فكشف عنهم، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل. قوله عز وجل: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ (137) } . عن الحسن في قوله: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} ، قال: الشام. وقال البغوي: يعني: مصر والشام {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بالماء، والأشجار، والثمار، والخصب، والسعة. وعن مجاهد في قول الله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، قال: ظهور قوم موسى على فرعون، وتمكين الله لهم في الأرض ما ورثهم منها. وعن ابن عباس: قوله: {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} ، يقول: يبنون. وقال مجاهد: {يَعْرِشُونَ} يبنون البيوت والمساكن ما بلغت، وكان عنبهم غير معروش، وقد قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} . قوله عز وجل: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ

عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) } . عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل حنين، فمررنا بسدرة قلت: يا نبي الله اجعل لنا هذه ذات أنواط، كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الله أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ، إنكم ستركبون سنن الذين من قبلكم» . رواه ابن جرير وغيره. وعن السدي: {إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} ، يقول: مهلك ما هم فيه. قال البغوي: والتتبير: الإهلاك، {وَبَاطِلٌ} : مضمحل وزائل، ... {مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ، قال: يعني: موسى: {أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ} ، أي: أبغي لكم وأطلب إلهًا، {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} ، أي: على عالمي زمانكم؟ وقوله تعالى: {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} ، أي: اختبار من الله لكم، وقيل: للإِشارة إلى الإِنجاء، فالبلاء بمعنى المنحة لا المحنة. والله أعلم.

الدرس الثالث بعد المائة

الدرس الثالث بعد المائة {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا

رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) } . * * *

قوله عز وجل: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) } . عن مجاهد: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً} هو: ذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. فذلك قوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} . قوله عز وجل: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ

أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) } . عن ابن عباس: قوله: {أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} ، قال: أعطني. وعن أبي بكر الهذلي قال: لما تخلّف موسى عليه السلام بعد الثلاثين حتى سمع كلام الله، اشتاق إلى النظر إليه فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي} وليس لبشر أن يطيق أن ينظر إليّ في الدنيا، من نظر إليّ مات، قال: إلهي سمعت منطقك، واشتقت إلى النظر إليك، ولأن أنظر إليك ثم أموت أحب إليّ من أن أعيش ولا أراك قال: {فانظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني. وعن ابن عباس في قول الله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} ، قال: ما تجلّى منه إلا قدر الخنصر، {جَعَلَهُ دَكّاً} ، قال: ترابًا، {وَخَرَّ موسَى صَعِقاً} ، قال: مغشيًّا عليه فمرّت به الملائكة، وقد صعق فقالت: يا ابن النساء الحيّض، لقد سألت ربك أمرًا عظيمًا، {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ} لا إله إلا أنت، {تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} ، قال: أنا أول من آمن أنه لا يراك أحد من خلقك، يعني: في الدنيا. قوله عز وجل: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) } . عن السدي: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} من الحلال والحرام. وقال سعيد بن جبير: ما أمروا ونهوا عنه. وعن السدي: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} بجد واجتهاد، {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} بأحسن ما يجدون فيها. وقال ابن عباس: قوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ} يريد ألواح التوراة. وعن مجاهد في قوله: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} ، قال: مصيرهم في الآخرة. وقال ابن كثير: أي: سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي. قوله عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ

الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (147) } . قال ابن عيينة في قول الله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} يقول: أنزع عنهم فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي. قوله عز وجل: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) } . قال البغوي: {وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ} ، أي: ندموا على عبادة العجل؛ تقول العرب لكل نادم على أمر قد سقط في يديه. قوله عز وجل: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) } . عن ابن عباس: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} ، يقول: أسفًا حزينًا، فأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، وألقى الألواح من الغضب. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) } . قال ابن كثير: أما الغضب الذي نال بني إسرائيل في عبادتهم العجل، فهو

أن الله تعالى لم يقبل لهم توبة حتى قتل بعضهم بعضًا، كما تقدم في سورة البقرة؛ وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلّة وصغارًا في الحياة الدنيا، ... {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} ، قال أبو قلابة: هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة. وقال ابن عيينة: كل صاحب بدعة ذليل. وقوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ} أي: سكن، {عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} {أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} . قال ابن كثير: يقول تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} ، أي: غضبه على قومه، {أَخَذَ الألْوَاحَ} ، أي: التي كان ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل، غيرة لله وغضبًا له، {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} ، يقول كثير من المفسرين: إنه لما ألقاها تكسرت، ثم جمعها بعد ذلك. والله أعلم. * * *

الدرس الرابع بعد المائة

الدرس الرابع بعد المائة {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ

وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ (162) } . * * *

قوله عز وجل: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} . قال السدي: إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدًا، واختار موسى من قومه سبعين رجلاً على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا، فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإنك قد كلمته فأرناه، فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم، {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا} ؟ . قال في (جامع البيان) : من التجاسر على طلب الرؤية، فإن بعضًا من السبعين طلبوا الرؤية، أو من عبادة العجل، ولذلك قيل: علماؤهم ما عبدوا العجل، {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} اختبارك وامتحانك. {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} عن ابن جريج: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} ، قال: مغفرة، {وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} ، قال ابن عباس: تبنا إليك. وقال البغوي: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} النعمة والعافية ... {وَفِي

الآخِرَةِ} ، أي: وفي الآخرة جنة، أي: المغفرة، والجنة. {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} ، أي: تبنا إليك. قوله عز وجل: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) } . قال أبو بكر الهذلي: فلما نزلت: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} ، قال إبليس: أنا من الشيء، فنزعها الله من إبليس؛ قال: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} فقال اليهود: نحن نتّقي، ونؤتي الزكاة، ونؤمن بآيات ربنا، فنزعها الله من إبليس ومن اليهود، وجعلها لهذه الأمة. وعن الحسن، وقتادة في قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} قالا: وسعت في الدنيا البرّ والفاجر، وهي يوم القيامة للذين اتقو خاصة. وعن ابن عباس: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ، يعني: الشرك. وقال قتادة: يتّقون معاصي الله. وعن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، قال: (أجل، والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} ، وحرزًا للأميّيّن أنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكّل، ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسّيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن نقبضه حتى نقيم به الملّة

العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فنقيم به قلوبًا غلفًا وآذانًا صمًّا وأعينًا عميًا) . رواه ابن جرير. وعن ابن عباس: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} وهو: لحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلّونه من المحرّمات من المآكل التي حرّمها الله {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} ، قال: عهدهم. وقال الحسن: العهود التي أعطوها من نفسهم. وعن قتادة: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} فجاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بإقالة منه، وتجاوز عنه. وقال مجاهد: من اتبع محمدًا ودينه من أهل الكتاب، وضع عنهم ما كان عليهم من التشديد في دينهم، {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ} ، قال ابن عباس: حموه ووقّروه. قوله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) } . في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أعطيت خمسًا لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ، وأحلّت لي المغانم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصّة وبعثت إلى الناس عامة» . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي

نفسي بيده، لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» . قوله عز وجل: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ (162) } . يقول تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى} بني إسرائيل، {أُمَّةٌ يَهْدُونَ} الناس، {بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} في الحكم، وهم: الثابتون على الحق قرنًا بعد قرن، ومن آمن منهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - كعبد الله بن سلام وأتباعه، كما قال تعالى: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} ، وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . والله أعلم. * * *

الدرس الخامس بعد المائة

الدرس الخامس بعد المائة {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) } .

قوله عز وجل: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) } . قال ابن عباس: هي قرية. يقال: أيلة بين مدين والطور، على شاطئ البحر، {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً} ، يقول: ظاهرة على الماء من كل مكان، {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} . قال ابن كثير: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ} ، أي: نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء، في اليوم المحرّم عليهم صيده، وإخفائها عنهم في اليوم الحلال لهم صيده. {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ} نختبرهم، {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ، يقول: بفسقهم عن طاعة الله، وخروجهم عنها، وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله، بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة، التي معناها في الباطن تعاطي الحرام، ثم ذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل» . وقال قتادة: أتاهم الشيطان فقال: إنما حرّم عليكم أكلها يوم السبت. وقال ابن عباس: ابتدعوا السبت فابتلوا فيه، فحرّمت عليهم، فكانوا إذا كان يوم السبت شرّعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر، فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل، فإذا جاء السبت جاءت شرّعًا، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا

كذلك، ثم إن رجلاً منهم أخذ حوتًا، فحزمه بأنفه، ثم ضرب له وتدًا في الساحل وربطه وتركه في الماء، فلما كان الغد أخذه فشواه فأكله، ففعل ذلك وهم ينظرون لا ينكرون، ولا ينهاه منهم أحد، إلا عصبة منهم نهوه حتى ظهر ذلك في الأسواق، وفعل علانية. قوله عز وجل: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) } . عن عكرمة قال: قال ابن عباس: نسمع الله يقول: {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} فلا أدري ما فعل بالفرقة الساكتة. قال عكرمة: قلت له: جعلني الله فداك، ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه وقالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ} . وإن لم يقل الله: أنجيتهم، لم يقل: أهلكتهم، فأعجبه قولي فرضي، وأمر لي ببردين فكسانيهما، وقال: نجت الفرقة الساكتة. وعن قتادة: {فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ} ، يقول: لما مرد القوم على المعصية، {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} فصاروا قردة لها أذناب تعاوي بعدما كانوا رجالاً ونساء. قوله عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ... مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (167) } . عن مجاهد: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} ، قال: أمر ربك. وعن ابن عباس: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} ، قال: يهود، وما ضرب عليهم من الذلة والمسكنة.

قوله عز وجل: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) } . عن ابن عباس: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً} ، قال: كل أرض يدخلها قوم من اليهود. وقوله تعالى: {مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ} ، قال ابن عباس، ومجاهد: يريد الذين أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به. {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} ، يعني: الذين بقوا على الكفر. {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ} . قال البغوي: بالخصب والعافية، {وَالسَّيِّئَاتِ} الجدب، والشدة. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لكي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا. وعن مجاهد في قوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} ، قال: ما أشرف لهم من شيء في اليوم من الدنيا حلال أو حرام يأخذونه، ويبتغون المغفرة، فإن يجدوا الغد مثله يأخذوه. وقال قتادة: إي والله، لَخُلْفُ سوء. قال ابن كثير: ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى إتباع رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما هو مكتوب فيه، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ

بِالْكِتَابِ} ، أي: اعتصموا به واقتدوا بأوامره، وتركوا زواجره {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} . وقال في (جامع البيان) : (أي أجرهم لإصلاحهم) . انتهى. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «بدأ الإِسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء» . قيل: من هم؟ قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس» . وفي رواية: «الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي» . قوله عز وجل: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) } . عن ابن عباس: قوله: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} فقال لهم موسى: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} ، يقول: من العمل بالكتاب، وإلا خرّ عليكم الجبل فأهلككم، فقالوا: بل نأخذ ما آتانا الله بقوة، ثم نكثوا بعد ذلك. وقال قتادة: نزعه الله من أصله ثم جعله فوق رؤوسهم فقال: لتأخذنّ أمري أو لأرمينّكم به. وقال الحسن: لما نظروا إلى الجبل، خرّ كل رجل ساجدًا على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليمنى فَرَقًا من أن يسقط عليه، ولذلك ليس في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر، يقولون: هذه السجدة التي رُفعت عنا بها العقوبة. والله أعلم. * * *

الدرس السادس بعد المائة

الدرس السادس بعد المائة {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ (177) مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ

لاَ يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) } . في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديًا به؟ قال فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تشرك بي» . وقال ابن عباس: (إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وتكفّل لهم بالأرزاق، ثم أعادهم في صلبه، فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذٍ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفّى به، نفعه الميثاق الأول، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف به، لم ينفعه الميثاق الأول، ومن مات صغيرًا قبل أن يدرك الميثاق الآخر، مات على الميثاق الأول على الفطرة) . قوله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ

تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ (177) مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) } . عن عكرمة قال في: {الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا} ، قال: هو بلعم. وقال ابن مسعود وغيره: هو رجل من مدينة الجبارين وكان يعلم اسم الله الأعظم، وملخص ما ذكره المفسرون: أنه كان مجاب الدعوة، وأن قومه، طلبوه أن يدعو على موسى وقومه فأبى، فلم يزالوا به حتى أجابهم ودعا، فكان يدعو على قومه فقالوا له: ويحك إنك تدعو علينا! فقال: لا أملك إلا ذلك، فاندلع لسانه على صدره فقال: قد ذهبت دنياي وآخرتي ولم يبق إلا المكر والحيلة، فأخرجوا النساء إلى العسكر ومروهن أن لا يمتنعن ممن أرادهن، فإنهم إن زنوا أكفيتموهم، فخرج النساء إلى بني إسرائيل، فزنى رجل من أشرافهم فوقع عليهم الطاعون. فهلك منهم عشرون ألفًا في ساعة من النهار، وجعل الطاعون يجوس في بني إسرائيل، فأخذ رجل من أشرافهم حربته ثم دخل على الزاني قبته وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته، وكانت من حديد كلها، ثم خرج بالرجل والمرأة وجعل يقول: اللهم هكذا يفعل بمن يعصيك، ورفع الطاعون. وعن مجاهد: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} ، قال: تطرده، هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به. وعن ابن عباس: قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ} الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهتد لخير، هو الكلب إن كان رابضًا لهث وإن طرد لهث. وقوله تعالى: {سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} .

قال ابن كثير: وقوله تعالى: {سَاء مَثَلاً} مثل: {الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} ، أي: ساء مثلهم أن شُبّهوا بالكلاب التي لا همّة لها إلا في تحصيل أكلة، أو شهوة. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) } . عن ابن عباس: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} خلقنا. وقال مجاهد: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} شيئًا من أمر الآخرة، {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} الهدى {وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} الحق، ثم جعلهم كالأنعام، ثم جعلهم أسوأ شرًا من الأنعام فقال: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} ، ثم أخبر أنهم: ... {هُمُ الْغَافِلُونَ} . قوله عز وجل: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (180) } . في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر» . زاد الترمذي: «هو الله الذي لا إله إلا هو: الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العليّ، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم،

الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحقّ، الوكيل، القويّ، المتين، الوليّ، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البرّ، التوّاب، المنتقم، العفوّ، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغنيّ، المغني، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور» . قوله تعالى: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} الإِلحاد: هو الميل عن القصد. قال ابن عباس: إلحاد الملحدين أن دعوا اللات في أسماء الله، وقال مجاهد: اشتّقوا اللات من الله، والعزّى من العزيز. وقال قتادة: ... {يُلْحِدُونَ} يشركون. قوله عز وجل: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ

قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) } . عن قتادة: قوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} بلغنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا قرأها: «هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} » . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} ، قال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعمة وننسيهم الشكر. وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي - صلى الله عليه وسلم - كان على الصفا فدعا قريشًا، فجعل يفخذهم فخذًا فخذًا: «يا بني فلان، يا بني فلان» ، فحذّرهم بأس الله ووقائع الله، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوّت إلى الصباح، فأنزل الله تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} . والله أعلم. * * *

الدرس السابع بعد المائة

الدرس السابع بعد المائة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (187) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ

وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) } . * * *

قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (187) } . عن السدي: قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} ، يقول: متى قيامها {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} ، يقول: لا يرسلها لوقتها إلا هو {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، يقول: خفيت في السماوات والأرض، فلم يعلم قيامها متى تقوم ملك مقرّب، ولا نبيّ مرسل. وقال ابن جريج: إذا جاءت انشقّت السماء وانتثرت النجوم، وكوّرت الشمس، وسيّرت الجبال، وكان ما قال الله فذلك ثقلها. وعن قتادة: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} قضى الله أنها لا تأتيكم إلا بغتة، وذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «إن الساعة تهيج بالناس، والرجل يُصْلِح حوضه، والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقيم سلعته في السوق، ويخفض ميزانه ويرفعه» . {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} ، قال مجاهد: استحفيت عنها السؤال حتى علمتها، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} . قوله عز وجل: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) } .

عن ابن عباس: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} أي: من المال. وفي رواية: لعلمت إذا اشتريت شيئًا ما أربح فيه، فلا أبيع شيئًا إلا ربحت فيه ولا يصيبني الفقر. وقال ابن زيد في قوله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} ، قال: لاجتنبت ما يكون من الشر واتقيته. قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) } . عن قتادة: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} استبان حملها. وقال السدي: {فَلَمَّا أَثْقَلَت} كبر الولد في بطنها، {دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} ، قال ابن عباس: أشفقا أن يكون بهيمة. وقال سعيد بن جبير: لما هبط آدم وحواء ألقيت الشهوة في نفسه فأصابها فليس إلا أن أصابها حملت، فليس إلا أن حملت تحرك في بطنها ولدها قال: فجاءها إبليس فقال: ما هذا أترين في الأرض إلا: ناقة، أو بقرة، أو ضائنة، أو ماعزة، أو بعض ذلك؟ قالت: والله ما من شيء إلا وهو يضيق عن ذلك، قال: فأطيعيني وسمّيه عبد الحارث تلدي شبهكما مثلكما، قالت: لآدم عليه السلام فقال: هو صاحبنا الذي قد أخرجنا من الجنة، فمات ثم حملت بآخر فجاءها فقال: أطيعيني وسمّيه عبد الحارث، وكان اسمه في الملائكة (الحارث) ، وإلا ولدت ناقة، أو بقرة، أو ضائنة، أو ماعزة، أو قتلته، فإني أنا قتلت الأول، قال: فذكرت ذلك لآدم، فكأنه لم يكرهه، فسمته عبد الحارث، فذلك قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} ، يقول: شبهنا

مثلنا {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} ، قال: شبههما مثلهما، {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} . قال ابن عباس: أشركاه في طاعته في غير عبادة، ولم يشركا بالله ولكن أطاعاه. وقال قتادة: أشركا في الاسم، ولم يشركا في العبادة. وقال الحسن: عني بهذا ذرية آدم، ومن أشرك منهم بعده، يعني بقوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} . وعن السدي: قوله: ... {فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، يقول: هذه فصل من آية آدم خاصة في آلهة العرب. قوله عز وجل: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (198) } . قال البغوي: قوله تعالى: ( {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً} ، يعني: إبليس والأصنام {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي: هم مخلوقون، {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} أي: الأصنام لا تنصر من أطاعها، {وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} قال الحسن: لا يدفعون عن

أنفسهم مكروه من أرادهم بكسر ونحوه؛ ثم خاطب المؤمنين فقال: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى} وإن تدعو المشركين إلى الإِسلام لا يتّبعوكم، {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} إلى الدين، {أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} عن دعائهم لا يؤمنون. {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ} يعني: الأصنام {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} يريد: أنها مملوكة {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أنها: آلهة. {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} ؟ أراد أن قدرة المخلوقين تكون بهذه الجوارح والآلات وليست للأصنام، فأنتم مفضّلون عليها، فكيف تعبدون من أنتم أفضل وأقدر منهم، {قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ} يا معشر المشركين، {ثُمَّ كِيدُونِ} أنتم وهم، {فَلاَ تُنظِرُونِ} . أي: لا تمهلوني. {إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} ، يعني: القرآن، {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ} يعني: الأصنام {وَتَرَاهُمْ} يا محمد {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} ، يعني: الأصنام، {وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} هذا قول المفسرين. وقال الحسن: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى} يعني: المشركين {لاَ يَسْمَعُواْ} لا يعقلون ذلك بقلوبهم، {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} بأعينهم {وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} بقلوبهم) . انتهى ملخصًا. قوله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ (202) } .

وعن مجاهد في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ} ، قال: عفو أخلاق الناس وعفو أمورهم. وعن قتادة: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قال: أخلاق أمر الله بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - ودلّه عليها. وعن ابن عباس قال: ... (استأذن الحرّ بن قيس لعيينة بن حصن عند عمر بن الخطاب، فأذن له فدخل عليه فقال: ياابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ أن يوقع به، فقال له الحرّ يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقّافًا عند كتاب الله عز وجل) . رواه البخاري. وقال ابن زيد في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، قال: فكيف بالغضب يا رب؟ قال: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . وعن مجاهد في قوله: ... {طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ} قال: الغضب. وعن السدي: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ} ، يقول: إذا زلّوا تابوا. وعن ابن عباس: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} ، قال: لا الإِنس يقصرون عما يعملون من السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم. قوله عز وجل: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) } .

عن قتادة: قوله: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} ، أي: لولا آتيتنا بها من قِبَل نفسك، هذا قول كفار قريش. وعن ابن عباس: قوله: {لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} ، يقول: لولا تلقّيتها، وقال مرة أخرى: لولا أحدثتها بإنشائها. وقال البغوي: قال الكلبي: كان أهل مكة يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - الآيات تعنّتًا، فإذا أخّرت قالوا: {لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} ، أي: هلا أحدثتها وأنشأتها من عندك {قُلْ} لهم يا محمد: {إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} . وقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} يأمر تعالى بالإِنصات عند تلاوة القرآن إعظامًا له واحترامًا، ويتأكد ذلك في الصلاة كما وردت به الأحاديث. وقوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} عن عبيد بن عمير قال: يقول الله: (إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني عبدي وحده ذكرته وحدي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في أحسن منهم وأكرم) . {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} ، يعني: الملائكة، {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} . والله أعلم. * * *

الدرس الثامن بعد المائة

الدرس الثامن بعد المائة [سورة الأنفال] مدنية، وهي خمس وسبعون آية بسم الله الرحمن الرحيم {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ

وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) } . * * *

قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1) } . قال مجاهد: الأنفال: الغنائم. وقال ابن عباس: نزلت في بدر. وعن عبادة بن الصامت قال: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشهدت معه بدرًا، فالتقى الناس فهزم الله تعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يصيب العدو منه غرّة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، نحن منعنا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خفنا أن يصيب العدو منه غرّة فاشتغلنا به فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أغار في أرض العدو نفل الربع، فإذا أقبل راجعًا نفل الثلث، وكان يكره الأنفال) . رواه أحمد وغيره. وعن عكرمة قال: لما كان يوم بدر قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من صنع كذا فله من النفل كذا» ، فخرج شبان الرجال فجعلوا يصنعونه، فلما كان عند القسمة قال الشيوخ: نحن أصحاب الرايات وقد كنا ردءًا لكم، فأنزل الله في ذلك: {قُلِ

الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} . قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) } . قال ابن عباس: المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكّلون على الله، ولا يصلّون إذا غابوا، ولا يؤدّون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فأدّوا فرائضه، {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} ، يقول: تصديقًا، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ، يقول: لا يرجون غيره، وعن سفيان قال: سمعت السدي يقول في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} ، قال: هو الرجل يريد أن يظلم، أو قال: يهمّ بمعصية الله، أحسبه قال: فينزع عنه. وعن الربيع: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} ، قال: خشية. قوله عز وجل: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ

ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) } . قال المبرد في قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} تقديره: الأنفال لله والرسول وإن كرهوا، كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن كرهوا. وقال عكرمة: {فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} الآية، إن هذا خير لكم، كما كان إخراجك من بيتك بالحق خير لك. وعن مجاهد: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} ، قال: كذلك يجادلونك في الحق. وعن ابن عباس قال: لما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي سفيان مقبلاً من الشام، ندب إليهم المسلمين وقال: «هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعلّ الله أن ينفلكموها» ، فانتدب الناس فخفّ بعضهم وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقى حربًا. وقال أيضًا: لما شاور النبي - صلى الله عليه وسلم - في لقاء القوم، وقال له سعد بن عبادة ما قال، وذلك يوم بدر، أمر الناس فتعبّوا للقتال، وأمرهم بالشوكة، وكره ذلك أهل الإِيمان، فأنزل الله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} . قال ابن إسحاق: أي: كراهة للقاء القوم، وإنكارًا لمسير قريش حين ذكروا لهم. وعن قتادة: قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} ، قال: الطائفتان: إحداهما أبو سفيان بن حرب، إذ أقبل بالعير من الشام، والطائفة الأخرى: أبو جهل معه نفر من قريش، فكره المسلمون الشوكة والقتال، وأحبوا أن يلقوا العير، وأراد الله ما أراد.

وقال ابن زيد في قول الله: {وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} : أن يقتل هؤلاء الذين أرادوا أن يقطع دابرهم، هذا خير لكم من العير. قوله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) } . عن ابن عباس: حدّثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وعدّتهم، ونظر إلى أصحابه نيّفًا على ثلاثمائة، فاستقبل القبلة فجل يدعو يقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» . فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه، وأخذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فوضع رداءه عليه ثم التزمه من ورائه، ثم قال: كفاك فداك يا نبي الله أبي وأمي مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} . قال مجاهد: ما مدّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مما ذكر الله غير ألف من الملائكة مردفين، وذكر الثلاثة، والخمسة بشرى، ما مدّوا بأكثر من هذا الألف الذي ذكر الله عز وجل في الأنفال، وأما الثلاثة والخمسة كانت بشرى. قوله عز وجل: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ

فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) } . قال ابن مسعود: النعاس في القتال أمنة من الله عز وجل، وفي الصلاة من الشيطان. وعن سعيد بن المسيب: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} ، قال: طشٌ كان يوم بدر فثبّت الله به الأقدام. وعن مجاهد: رجز الشيطان وسوسته، أطفأ الله بالمطر الغبار، ولبّد به الأرض، وطابت به أنفسهم، وثبّت به أقدامهم. وقوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} ، قال ابن عباس: يعني: بالبنان الأطراف. قال البغوي: وروي عن أبي داود المازني، وكان شهد بدرًا قال: إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللهَ} خالفوا الله ورسوله. {وَمَن يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . {ذَلِكُمْ} ، أي: هذا العذاب والضرب الذي عجلته لكم أيها الكفار ببدر، {فَذُوقُوهُ} عاجلاً، {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ} ، أي: واعلموا وأيقنوا أن للكافرين آجلاً في المعاد، {عَذَابَ النَّارِ} . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) } .

عن الضحاك: {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} ، قال: المتحرّف: المتقدم من أصحابه ليرى غِرَّة من العدوّ فيصيبها، قال: والمتحيّز: الفارّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، كذلك من فرّ اليوم إلى أميره وأصحابه. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه عدّ الفرار من الزحف في السبع الموبقات» . قوله عز وجل: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) } . عن مجاهد في قول الله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قال هذا: قتلت، وهذا: قتلت. {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} ، قال لمحمد حين حَصَب الكفار. وقال محمد بن كعب القرظي: لما دنا القوم بعضهم من بعض، أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم، وقال: «شاهت الوجوه، فدخلت في أعينهم كلهم» ، وأقبل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتلونهم ويأسرونهم وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} الآية. إلى: {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} ، قال البغوي: ذلكم الذي ذكرت من القتل والرمي والبلاء الحسن، {وَأَنَّ اللهَ} ، قيل: فيه إضمار أي: واعلموا أن الله {مُوهِنُ} مضعف، {كَيْدِ الْكَافِرِينَ} . قوله عز وجل: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ

فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) } . عن الزهري في قوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ} ، قال: استفتح أبو جهل بن هشام فقال: اللهم أيّنا كان أفجر لك، وأقطع للرحم فاحنه اليوم، يعني: محمدًا عليه الصلاة والسلام ونفسه؛ قال الله عز وجل: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ} فضربه ابنا عفراء وأجهز عليه ابن مسعود. وعن مجاهد: قوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ} كفار قريش في قولهم ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه، ففتح بينهم يوم بدر. وعن ابن إسحاق في قوله: {وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ، قال: يقول لقريش: {وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ} لمثل الوقعة التي أصابتكم يوم بدر، {وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} وإن كثر عددكم في أنفسكم لن تغني عنكم شيئًا، {وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} ينصرهم على من خالفهم. والله أعلم. * * *

الدرس التاسع بعد المائة

الدرس التاسع بعد المائة ... {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ

أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (23) } . عن ابن إسحاق: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} ، أي: تخالفون أمره وأنتم تسمعون أقواله. وعن مجاهد في قول الله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} ، قال: عاصون. وقال ابن زيد في قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ} ، قال: الدواب الخلق الصم، البكم، الذين لا يعقلون، وليس بالأصم في الدنيا، ولا بالأبكم، ولكن صم القلوب، وبكمها وعميها، وقرأ: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . وقال ابن جريج: قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} قالوا: ائت بقرآن غير هذا، وقالوا: لولا اجتبيتها. ولوجاءهم بقرآن غيره لتولّوا وهم معرضون. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ

تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) } . عن مجاهد في قول الله: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} قال: الحق. وقال قتادة: هو هذا القرآن فيه الحياة، والعفة، والعصمة في الدنيا والآخرة. وعن ابن عباس: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإِيمان. وعن مجاهد في قوله: ... {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} ، أي: حتى يتركه لا يعقل. وعن أنس بن مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: «يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك» . قال: فقلنا: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: «نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله تعالى يقلّبها» . رواه أحمد وغيره. وعن ابن عباس: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} ، قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقرّوا المنكر بين أظهرهم، فيعمّهم الله بالعذاب. وقال ابن زيد: الفتنة الضلالة. وعن عكرمة قوله: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} ، قال: يعني: بمكة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن تبعه من قريش وحلفائها، ومواليها قبل الهجرة. {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} ، يعني: بالمدينة.

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) } . قال ابن زيد في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ} قال: نهاكم أن تخونوا الله والرسول، كما صنع المنافقون. وقال ابن عباس: {لاَ تَخُونُواْ اللهَ} ، يقول: بترك فرائضه، {وَالرَّسُولَ} ، يقول: بترك سنته، وارتكاب معصيته، {وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} والأمانة: الأعمال لا تنقصوها. وقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ، قال ابن مسعود: ما منكم أحد إلا مشتمل على فتنة، فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله من مضلات الفتن. وعن ابن إسحاق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} أي: فصلاً بين الحق والباطل، {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . قوله عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ

وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35) } . قال البغوي: قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} هذه الآية معطوفة على قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} واذكر: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} ، {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ} لأن هذه السورة مدنية، وهذا المكر والقول إنما كان بمكة، ولكن الله ذكّرهم بالمدينة، كقوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من أهل التفسير: أن قريشًا فَرَقوا لما أسلمت الأنصار أن يتعالى أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة، ليتشاوروا في أمر رسول - صلى الله عليه وسلم - فاعترضهم إبليس - لعنه الله - في صورة شيخ، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نجد سمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا مني رأيًا ونصحًا، قالوا: ادخل، فدخل، فقال أبو البختري: أما أنا فأرى أن تأخذوا محمدًا وتحبسوه في بيت، وتشدّوا وثاقه، وتسدّوا باب البيت، غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه، وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك فيه كما هلك من كان قبله من الشعراء. قال: فصرخ عدوا الله الشيخ النجدي وقال: بئس الرأي رأيتم، والله لئن حبستموه في بيت فخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فيوشك أن يثبوا عليكم، ويقاتلوكم، ويأخذوه من أيديكم. قالوا: صدق الشيخ النجدي. فقال هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي: أما أنا فأرى أن تحملوه على بعير تخرجوه من أظهركم، فلا يضرّكم ما صنع، ولا أين وقع إذا غاب عنكم واسترحتم منه. فقال إبليس لعنه الله: ما هذا لكم برأي تعتمدون عليه، تعمدون

إلى رجل قد أفسد أحلامكم، فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم؟ ألم تروا إلى حلاوة منطقه وفصاحة لسانه، وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ذلك ليذهبنّ وليستميلنّ قلوب قوم ثم يسير بهم إليكم، فيخرجكم من بلادكم. قالوا: صدق الشيخ النجدي. فقال أبو جهل: والله لأشيرنّ عليكم برأي ما أرى غيره، إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شابًا نسيبًا وسبطًا فتيًّا، ثم يعطى كل فتى، منهم سيفًا صارمًا، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرّق دمه في القبائل كلها، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، وأنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدي قريش ديته. فقال إبليس: صدق هذا الفتى، وهو أجودكم رأيًا، القول ما قال، لا أرى رأيًا غيره. فتفرّقوا على قول أبي جهل وهم مجمعون له. فأتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك، وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي يبيت فيه، فأذن الله له عند ذلك بالخروج إلى المدينة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّ بن أبي طالب أن ينام في مضجعه وقال له: «اتَّشِح ببردتي هذه، فإنه لا يخلصَ إليك منهم أمر تكرهه» ، ثم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ قبضة من تراب فأخذ الله أبصارهم عنه، فجعل ينثر التراب على رءوسهم وهو يقرأ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} . ومضى إلى الغار من ثور هو وأبو بكر، وخلّف عليًّا بمكة حتى يؤدّي عنه الودائع التي كانت عنده، وكانت الودائع تودع عنده - صلى الله عليه وسلم - لصدقه وأمانته، وبات المشركون يحرسون عليًّا في فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحسبون أنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما

أصبحوا ثاروا إليه فرأوا عليًّا رضي الله عنه فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فاقتفوا أثره وأرسلوا في طلبه، فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثًا، ثم قدم المدينة، فذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} . قال ابن إسحاق: فمكرت لهم بكيدي المتين، ثم خلّصتك منهم. وقال ابن جريج: قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} ، قال: كان النضر بن الحارث يختلف تاجرًا إلى فارس، فيمر بالعبّاد وهم يقرؤون الإنجيل ويركعون ويسجدون، فجاء مكة فوجد محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه وهو يركع ويسجد، فقال النضر: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} الذي سمع من العبّاد، فنزلت: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} ، قال: فقصّ ربنا ما كانوا قالوا بمكة، وقصّ قولهم إذ قالوا: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} الآية. وقال قتادة. قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة، وجهلهتا. وقال ابن عباس: لم يعذّب الله قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا، ويلحق بحيث يأمن، فقال: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ، يعني: المسلمين، فلما خرجوا قال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية فعذّبهم الله يوم بدر.

وعن ابن عباس: قوله: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} المكاء: التصفير، والتصدية: التصفيق. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) } . قال الضحاك في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ} الآية. قال: هم أهل بدر. وقيل: نزلت في المطعمين منهم. وقيل: نزلت في أبي سفيان. قال ابن كثير: وعلى كل تقدير فهي عامة، وإن كان سبب نزولها خاصًا. وعن ابن عباس: قوله: {لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فيميز أهل السعادة من أهل الشقاوة.

وقال ابن إسحاق في قوله: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} ، أي: من قتل منهم يوم بدر. وعن ابن عباس: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، يعني: حتى لا يكون شرك. وقال ابن جريج: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} أي: لا يفتن مؤمن عن دينه ويكون التوحيد لله خالصًا ليس فيه شرك، ويخلع ما دونه من الأنداد. وعن ابن إسحاق: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} عن أمرك إلى ما هم عليه من كفرهم، {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَوْلاَكُمْ} الذي أعزّكم ونصركم عليهم يوم بدر في كثرة عددهم وقلة عددكم، {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} . والله أعلم. * * *

الدرس العاشر بعد المائة

الدرس العاشر بعد المائة ... {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45) وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ

يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ (54) } . * * *

قوله عز وجل: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (44) } . قال ابن عباس: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سرية فغنموا خمس الغنيمة، فضرب ذلك الخمس في خمسة ثم قرأ: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} . قال: قوله: {فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ} مفتاح كلام {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} فجعل الله سهم الله والرسول واحدًا) . وعن الأعمش عن إبراهيم قال: كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكراع والسلاح، فقلت لإبراهيم: ما كان عليّ رضي الله عنه يقول فيه؟ قال: كان عليّ أشدهم فيه.

وعن حكيم بن سعد عن عليّ رضي الله عنه قال: يعطي كل إنسان نصيبه من الخمس، ويلي الإمام سهم الله ورسوله. وعن ابن عباس: قوله: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} ، يعني: بالفرقان يوم بدر، فرّق الله فيه بين الحق والباطل. وعن قتادة: قوله: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} وهما شفيرا الوادي، {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} ، يعني: أبا سفيان انحدر بالعير حتى قدم بها مكة. وقوله تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} . قال كعب بن مالك: إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. وقوله تعالى: {وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} . قال ابن إسحاق: أي: ليقضي الله ما أراد بقدرته. {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} لما رأى من الآيات والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك، {وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} . وعن مجاهد: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} . قال: أراهم الله إياه في منامه قليلاً، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بذلك، فكان تثبيتًا لهم، {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ} . قال ابن عباس يقول: سلّم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوّهم. وعن ابن جريج: قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} . قال ابن مسعود: قلّلوا في أعيننا حتى قلت لرجل: تراهم يكونون مائة؟ وقال السدي: قال ناس من المشركين: إن العير قد انصرفت فارجعوا، فقال أبو جهل: الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه؟ فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم، وقال: يا قوم

لا تقتلوهم بالسلاح، ولكن خذوهم أخذًا فاربطوهم بالحبال، يقوله من القدرة في نفسه. وعن ابن إسحاق: {لِّيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} ، أي: ليؤلّف بينهم على الحرب، للنقمة، ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد إتمام النعمة عليه من أهل ولايته، {وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45) وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) } . قال مجاهد في قوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} . قال: نصركم. قال: وذهبت ريح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نازعوه يوم أحد. وقال محمد بن كعب القرظي: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر، خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} . وعن ابن عباس قال: خرج إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه، رأيته

في صورة رجل من بني مدلج، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم. فقال الشيطان للمشركين {لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} فلما اصطفّ الناس، أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضة من التراب فرمى بها وجوه المشركين فولّوا مدبرين، وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع إبليس يده فولّى مدبرًا وشيعته، فقال ... الرجل: يا سراقة تزعم أنك لنا جار، قال: {إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، وذلك حين رأى الملائكة. وعن الشعبي في هذه الآية: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ} . قال: كان ناس من أهل مكة تكلّموا بالإِسلام فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلّة المسلمين قالوا: {غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ} . وقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، أي: من اعتصم بالله نصره. قوله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ (54) } . عن مجاهد: قوله: {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ

وَأَدْبَارَهُمْ} . قال: يوم بدر. وعن الحسن قال: قال رجل: يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك فما ذاك؟ قال: «ضرب الملائكة» . رواه ابن جرير. وقوله تعالى: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} ، أي: ويقولون لهم: ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد. وعن مجاهد: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} كفعل آل فرعون، كسنن آل فرعون. وعن السدي: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} ، يقول: نعمة الله محمد - صلى الله عليه وسلم - أنعم به على قريش وكفروا، فنقله إلى الأنصار. وقال ابن كثير: (يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه، بأنه تعالى لا يغيّر نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه. وقوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} ، أي: كصنعه بآل فرعون وأمثالهم حين كذبوا بآياته، أهلكهم بسبب ذنوبهم، وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم، وما ظلمهم الله في ذلك، بل كانوا هم الظالمين) . انتهى ملخصًا. والله أعلم. * * *

الدرس الحادي عشر بعد المائة

الدرس الحادي عشر بعد المائة {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60) وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) } .

قوله عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58) } . عن مجاهد: قوله: {الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} ، قال: قريظة مالؤوا على محمد يوم الخندق أعداءه. وعن ابن عباس: قوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} يقول: نكّل بهم من وراءهم. وقال البغوي: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ} معاهدين، {خِيَانَةً} بما يظهر لكم من آثار الغدر، كما ظهر من قريظة والنضير، {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} فاطرح إليهم عهدهم، {عَلَى سَوَاءٍ} ، يقول: أعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء، فلا يتوهّمون أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} . وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلّن عقدة ولا يشدّها، حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء» . رواه أحمد وغيره.

قوله عز وجل: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60) } . عن السدي: ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون يقول: لا يفوتون. قال البغوي: {سَبَقُواْ} ، أي: فاتوا، نزلت في الذين انهزموا يوم بدر من المشركين. وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر: «قال الله {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} ألا إن القوّة الرمي، ألا إن القوة الرمي» ثلاثًا. قال ابن كثير: ثم أمر تعالى بإعداد الآت الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة فقال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} . وقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ} ، قال ابن زيد: هم المنافقون. وعن ابن إسحاق: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} ، أي: لا يضيع لكم عند الله أجره في الآخرة، وعاجل خلّفه في الدنيا. قوله عز وجل: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ

السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ ... الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) } . قال ابن كثير: يقول تعالى: إذا خفت من قوم خيانة، فانبذ إليهم عهدهم على سواء، فإن استمرّوا على حربك ومنابذتك فقاتلهم، {وَإِنْ جَنَحُوا} ، أي: مالوا {لِلسَّلْمِ} ، أي: المسالمة، والمصالحة، والمهادنة. {فَاجْنَحْ لَهَا} ، أي: فمل إليها، واقبل منهم ذلك، لهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجابهم إلى ذلك، مع ما اشترطوا من الشروط الأخر. انتهى. وعن ابن إسحاق: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ} هو من وراء ذلك، {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} على الهدى الذي بعثك به إليهم، {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} بدينه الذي جمعهم عليه. يعني: الأوس والخزرج. وقال ابن مسعود: (نزلت هذه الآية في المتحابّين في الله) . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) } . عن الشعبي في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال: حسبك الله وحسب من كان معك. وعن عطاء في قوله: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} ، قال: كان الواحد لعشرة، ثم جعل الواحد باثنين، لا ينبغي له أن يفرّ منهما. وعن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين، وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين، ومائة ألفًا، فخفّف الله عنهم ونسختها الآية الأخرى فقال: {الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ} ، قال: وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوّهم، لم يبلغ لهم أن يفرّوا منهم، وإن كانوا دون ذلك، لم يحب عليهم أن يقاتلوا، وجاز لهم أن يتحوّزوا عنهم. قال البغوي: وقرأ عاصم وحمزة: {ضَعْفاً} بفتح الضاد ها هنا، وفي سورة الروم، والباقون: بضمّها. والله أعلم.

الدرس الثاني عشر بعد المائة

الدرس الثاني عشر بعد المائة {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70) وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) } . * * *

قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69) } . عن ابن عباس: قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} وذلك يوم بدر، والمسلمون يومئذٍ قليل، فلما كثروا واشتدّ سلطانهم أنزل الله تبارك وتعالى بعد هذا في الأسارى، {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} فجعل الله النبي والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار، إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استبعدوهم، وإن شاءوا فادوهم. وعن مجاهد قال: الإثخان: القتل. وعن ابن عباس قال: لما أسروا الأسارى، يعني: يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أين أبو بكر وعمرو وعليّ» ؟ قال: «ما ترون في الأسارى» ؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإِسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما ترى يا ابن الخطاب» ؟ فقال: لا والذي لا إله إلا هو، ما رأى الذي رأى أبو بكر يا نبيّ الله، ولكن أرى أن تمكنّنا منهم فتمكّن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنّي من فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، قال عمر: فلما كان من الغد جئت

إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت: يا رسول الله أخبرني من أيّ شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أبكي للذي عرض عليّ أصحابكم في أخذهم الفداء، ولقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة» ، شجرة قريبة من رسول الله، فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} إلى قوله: {حَلاَلاً طَيِّباً} وأحلّ الله الغنيمة لهم. وعن الحسن في قوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ} الآية. قال: إن الله كان مطعم هذه الأمة الغنيمة، وأنهم أخذوا الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤمروا به، قال: فعاب الله ذلك عليهم ثم أحلّه الله. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70) وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) } . عن ابن عباس: قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى} إلى قوله: {وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يعني: بذلك من أسر يوم بدر يقول: إن علمتم بطاعتي ونصحتم لرسولي آتيتكم خيرًا مما أخذ منكم وغفرت لكم، قال: وكان العباس أسر يوم بدر فافتدى نفسه بأربعين أوقية، من ذهب، فقال العباس حين نزلت هذه الآية: لقد أعطاني الله خصلتين ما أحبّ أنّ لي بهما الدنيا: أني أسرت يوم بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية فآتاني أربعين عبدًا، وأنا أرجوا المغفرة التي وعدنا الله.

وعن السدي: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} ، يقول: قد كفروا بالله ونقضوا عهده فأمكن منهم ببدر. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) } . عن ابن عباس: قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} يعني: في الميراث، جعل الميراث للمهاجرين والأنصار دون الأرحام، قال الله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ} ، يقول: ما لكم من ميراثهم من شيء، وكانوا يعلمون بذلك حتى أنزل الله {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} في الميراث، فنسخت التي قبلها، وكان الميراث لذوي الأرحام. {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} يعني: إن استنصركم الأعراب المسلمون أيها المهاجرون والأنصار على عدوهم، {فَعَلَيْكُمُ} أن تنصروهم، {إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} وعن أبي مالك قال: قال رجل: نورّث أرحامنا من المشركين، فنزلت: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} الآية. وعن ابن عباس: قوله: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} ، يعني: في الميراث {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} ، يقول: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به {تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} ؛ وقال ابن جريج: إلا تعاونوا وتناصروا في الدين، {تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} .

وقال البغوي: فالفتنة في الأرض قوة الكفر، والفساد الكبير ضعف الإِسلام. وقال ابن كثير: أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت فتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المؤمنين بالكافرين، فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) } . المهاجرون على طبقتين: أهل الهجرة الأولى، وهم: السابقون الأولون الذين هاجروا قبل صلح الحديبية، والطبقة الثانية: الذين هاجروا بعد الحديبية وقبل الفتح، كما قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} . وقوله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . قال قتادة: كان لا يرث الأعرابيّ المهاجر حتى أنزل الله: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} واستدل بعموم الآية على توريث الخال ونحوه من ذوي الأرحام. وقال ابن كثير: (الآية عامة تشمل جميع القرابات) . انتهى. والله أعلم. * * *

الدرس الثالث عشر بعد المائة

الدرس الثالث عشر بعد المائة [سورة التوبة] مدنية، وهي مائة وتسع وعشرون آية ... عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، وقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ، ووضعتموها في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا أنزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: «ضعوا هذه الآية في السورة الذي يذكر فيها كذا وكذا» . وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها وخشيت أنها منها، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبيّن لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال. رواه الترمذي وغيره.

{بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِن

نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12) أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) } . * * *

قوله عز وجل: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) } . قال ابن إسحاق: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرًا على الحجّ من سنة تسع، ليقيم للناس حجّهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجّهم، فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين، ونزلت سورة براءة في نقض ما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم، أن لا يُصدّ عن البيت أحد جاءه، وأن لا يخاف أحد في الشهر الحرام؛ وكان ذلك عهدًا عامًا بينه وبين الناس من أهل الشرك وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قبائل من العرب خصائص إلى أجل مسمى، فنزلت فيه وفيمن تخلّف عنه من المنافقين في تبوك ، وفي قول من قال منهم، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون، منهم من سمّي لنا ومنهم من لم يسمّ لنا، فقال: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} ، أي: لأهل العهد

العام من أهل المشركين من العرب {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} إلى قوله: {أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ، أي: بعد هذه الحجّة. وعن أبي هريرة قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بكر في الحجّة التي أمّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها. قبل حجّة الوداع في رهط يؤذّنون في الناس يوم النحر: «ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» . قال الزهري: فكان حميد يقول: يوم النحر الأكبر. رواه ابن جرير وغيره. وعن ابن إسحاق: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} ، أي: العهد الخاص إلى الأجل المسمى {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} . وعن مجاهد في قوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} : إنها الأربعة التي قال الله: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ} ، قال: هي الحرم من أجل أنهم أنظروا فيها حتى يسيحوها. وفي الحديث الصحيح: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى» . رواه مسلم. قوله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6) } . قال ابن إسحاق: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} ، أي: من هؤلاء الذين أمرتك بقتالهم، {فَأَجِرْهُ} ، قال مجاهد: إنسان يأتيك، فيسمع ما تقول ويسمع ما أنزل عليك فهو آمن، حتى يأتيك فيسمع كلام الله، وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء. قال السدي: كلام الله القرآن.

قوله عز وجل: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) } . قال ابن كثير: يبيّن لك حكمته في البراءة من المشركين، ونظرته إياهم أربعة أشهر، ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا فقال تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} ، أي: أمان، ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون به وبرسوله. {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، يعني: يوم الحديبية. قال ابن إسحاق: هم قبائل بني بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش وعقدهم يوم الحديبية، إلى المدة التي كانت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش، فلم يكن نقضها إلا هذا الحي من قريش وبنو الديل من بكر، فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده من بني بكر إلى مدته، {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} . وقوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} أي: كيف يكون لهؤلاء المشركين الذين نقضوا عهدهم، أو لمن لا عهد له منهم عهد وذمة، وهم إن يظهرو عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة؟ قال ابن عباس: الإِلّ: القرابة، والذمة: العهد. وقال الشاعر:

أفسد الناس خلوف خلفوا ... قطعوا الإِلّ وأعراق الرحم وقوله تعالى: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} ، أي: لا عهد لهم. وقوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . قال ابن مسعود: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزكّ فلا صلاة له. وقال الربيع عن أنس مرفوعًا: «من فارق الدنيا على الإِخلاص لله وعبادته لا يشرك به، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فارقها والله عنه راضٍ» . رواه البزار. قوله عز وجل: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12) أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) } . عن ابن عباس: قوله: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم} ، يعني: أهل العهد من المشركين،

سمّاهم: أئمة الكفر، وهم كذلك، يقول الله لنبيه: وإن نكثوا العهد الذي بينك وبينهم، فقاتل {أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} لأنهم لا أيمان لهم {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} . وعن السدي: قوله: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} ، يقول: همّوا بإخراجه فأخرجوه، {وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} بالقتال. قال مجاهد: قتال قريش حلفاء محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} ، قال السدي: خزاعة يشف صدورهم من بني بكر، {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} حين قتلهم بنو بكر وأعانهم قريش. وقوله: {وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ} ، أي: فيهديه إلى الإِسلام، {وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . وقال ابن زيد في قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ} إلى قوله: {وَلِيجَةً} ، قال: إني أتركهم دون التمحيص. قال البغوي: {وَلِيجَةً} بطانة وأولياء يوالونهم ويفيضون إليهم أسرارهم. والله أعلم. * * *

الدرس الرابع عشر بعد المائة

الدرس الرابع عشر بعد المائة {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ

عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (27) } . * * *

قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) } . قال ابن إسحاق: ثم ذكر قول قريش: إنا أهل الحرم، وسقاة الحاج، وعمّار هذا البيت ولا أحد أفضل منا، قال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ، أي: أن عمارتكم ليست على ذلك، {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ} ، أي: من عمرها بحقها، {مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ} فأولئك عمارها، {فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} . (وعسى) من الله حق. وعن ابن عباس: قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ، قال العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإِسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاجّ ونفكّ العاني، قال الله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} إلى قوله: {الظَّالِمِينَ} ، يعني: أن ذلك كان في الشرك، ولا أقبل ما كان في الشرك.

وقال السدي: افتخر عليّ، وعباس، وشيبة بن عثمان، فقال العباس: أنا أفضلكم، أنا أسقي حجّاج بيت الله، وقال شيبة: أنا أعمر مسجد الله، وقال عليّ: أنا هاجرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاهدت معه في سبيل الله، فأنزل الله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ} إلى: {نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} . وعن جابر بن عبد الله قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله سبحانه: أعطيكم أفضل من هذا، فيقولون: ربنا أيّ شيء أفضل من هذا؟ قال: رضواني) . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) } . قال البغوي: لما نزلت الآية الأولى قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا وخرجت دورنا وقطّعنا أرحامنا. فنزلت: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ} الآية. والله أعلم. قوله عز وجل: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ

الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (27) } . حُنَيْن: موضع بين مكة والطائف، اجتمعت فيه هوازن وثقيف بعد الفتح، فخرج عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في اثني عشر ألفًا، عشرة من المهاجرين والأنصار، وألفان من الطلقاء، فقال رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: لن نُغلب اليوم من قلة، فلما التقوا انهزم المسلمون، وثبت رسول الله ومعه العباس، وأبو سفيان بن الحارث ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ونفرٌ معهم، فلما غشيه المشركون نزل عن بغلته وهو يقول: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» ، قال البراء بن عازب: فما رؤي يومئذٍ أحد من الناس كان أشدّ منه. وقال رجل كان في المشركين يوم حنين: لما التقينا نخن وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، لم يقوموا لنا حلب شاة، قال: فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم في أدبارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فتلقّانا عنده رجال بيض الوجوه حسان الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا، قال: فانهزمنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها. وقال السدي: نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين: «أين الأنصار؟ أين الذين بايعوا تحت الشجرة؟» فتراجع الناس، فأنزل الله الملائكة بالنصر، فهزموا المشركين يومئذ، وذلك قوله: {ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} الآية. والله أعلم. * * *

الدرس الخامس عشر بعد المائة

الدرس الخامس عشر بعد المائة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا

جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) } . عن الضحاك في قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} قال: قذر، وقيل: خبيث. وعن قتادة: قوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وهو العام الذي حجّ فيه أبو بكر، ونادى عليّ - رحمة الله عليهما - بالأذان، وذلك لتسمع سنين مضين من هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحجّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من العام المقبل حجة الوداع. وقال ابن عباس: لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام، ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن قالوا: من أين تأكلون وقد نفي المشركون وانقطعت عنكم العير؟ فقال الله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء} فأمرهم بقتال أهل الكتاب وأغناهم من فضله. وعن مجاهد: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} حين أمر محمد وأصحابه بغزوة تبوك.

قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) } . عن ابن عباس: قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} وإنما قالوا هو ابن الله من أجل أن عزيرًا كان في أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء الله أن يعملوا، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق، وكان التابوت فيهم، فلما رأى الله أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء، رفع الله عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم، وأرسل الله عليهم مرضًا فاستطلقت بطونهم، حتى جعل الرجل يمشي كبده، حتى نسوا التوراة ونسخت من صدورهم وفيهم عزير فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعدما نسخت التوراة من صدورهم وكان عزير قبل من علمائهم، فدعا عزير الله وابتهل إليه، أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم من التوراة، فبينما هو يصلي مبتهلاً إلى الله، نزل نور من الله فدخل جوفه فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة، فأذّن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة وردّها إليّ، فعلق يعلّمهم، فمكثوا ما شاء الله وهو يعلّمهم؛ ثم إن التابوت نزل بعد ذلك، وبعد ذهابه منهم، فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزيز يعلّمهم فوجدوه، مثله، فقالوا: والله ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله. وعن السدي: {يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} ، قال: النصارى يضاهئون قول

اليهود في عزير. وعن ابن عباس: قالوا مثل قول أهل الأوثان، قاتلهم الله، يقول: لعنهم الله، وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن. وقوله تعالى: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} . قال البغوي: أنى يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه؟ وعن الحسن: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} قال: في الطاعة. وفي حديث عدي بن حاتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كانوا يحلّون لهم ما حرّم الله فيستحلّونه، ويحرّمون ما أحلّ الله فيحرّمونه» . وعن السدي: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} ، يقول: يريدون أن يطفئوا الإسلام بكلامهم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» ، فقلت: يا رسول الله إن كنت لأظنّ حين أنزل الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أن ذلك تامّ، قال: «إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل، ثم يبعث الله ريحًا طيبة، فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم» . رواه مسلم. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم

بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) } . عن السدي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} أما الأحبار فمن اليهود، وأما الرهبان فمن النصارى، وأما سبيل الله فمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وعن ابن عمر قال: (كل مال أدّيت زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفونًا في الأرض، وكل مال لم تؤدّ زكاته فهو الكنز الذي ذكره الله في القرآن يُكْوَى به صاحبه وإن لم يكن مدفونًا) . قوله عز وجل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) } . عن ابن عمر قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال: «يا أيها الناس، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، أوّلهنّ رجب مضر بين جمادى، وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم» . رواه ابن جرير وغيره.

وقال ابن زيد في قوله: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} ، قال: الظلم العمل بمعاصي الله والترك لطاعته. وعن ابن عباس: قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} في كلّهّن، ثم خصّ من ذلك أربعة أشهر، فجعلهنّ حرمًا، وعظّم حرماتهنّ، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم، {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} يقول: جميعًا. وقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} ، يقول: يتركون المحرّم عامًا، وعامًا يحرّمونه. وقال مجاهد: كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام في الموسم على حمار له فيقول: أيها الناس، إني لا أعاب، ولا أحاب، ولا مردّ لما أقول، إنا قد حرّمنا المحرّم، وأخّرنا صفر، ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ويقول: إنا قد حرمنا صفر، وأخّرنا المحرّم، فهو قوله: {لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ} ، قال: يعني: الأربعة {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللهُ} لتأخير هذا الشهر الحرام. والله أعلم. * * *

الدرس السادس عشر بعد المائة

الدرس السادس عشر بعد المائة ... {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُواْ

الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ (50) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) } . قال مجاهد: أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح، وبعد الطائف، وبعد حنين أمروا بالنفير في الصيف، حين خرفت النخل، وطابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشقّ عليهم المخرج. وقال ابن عباس: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استنفر حيًّا من أحياء العرب فاثّاقلوا عنه، فأمسك عنهم المطر فكان ذلك عذابهم، فذلك قوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . وقوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ

حَكِيمٌ} . قال مجاهد: ذكر ما كان في أول شأنه حين بعثه، يقول الله: فأنا فاعل ذلك به وناصره كما نصرته إذ ذاك، وهو ثاني اثنين. وقال قتادة: فكان صاحبه أبو بكر، وأما الغار فجبل بمكة يقال له ثور. وعن أنس: أن أبا بكر رضي الله عنه حدّثهم قال: بينما أنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار، وأقدام المشركين فوق رؤوسنا، قلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا، فقال: «يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» ؟ . وعن ابن عباس: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى} وهي: الشرك بالله {وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا} وهي: لا إله إلا الله. وقوله تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} عن الحسن: قوله: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً} قال: شيبًا وشبّانًا. وقال الحكم: مشاغيل وغير مشاغيل. قوله عز وجل: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ

وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) } . عن قتادة: قوله: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} إلى قوله: {لَكَاذِبُونَ} أنهم يستطيعون الخروج، ولكن كانت ثبطة من عند أنفسهم والشيطان، وزهادة في الخير. وعن مجاهد: {عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} ، قال: ناس قالوا: استأذنوا رسول الله، فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. وقال قتادة: عاتبه كما تسمعون، ثم أنزل الله التي في سورة النور، فرخّص له في أن يأذن لهم إن شاء. انتهى. قلت: نزول هذه الآية بعد نزول آية النور، لأنها نزلت في غزوة تبوك، وآية النور نزلت في الخندق وهو في سنة خمس. والله أعلم. قال ابن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل أن يخبره بالذنب. وعن ابن عباس: قوله: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فهذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد من غير عذر، وعذر الله المؤمنين فقال: لم يذهبوا حتى يستأذنوه. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} ، قال ابن إسحاق: كان الذين استأذنوه فيما بلغني من ذوي الشرف، منهم: عبد الله بن أبيّ ابن سلول والجد بن قيس، وكانوا أشرافًا في قومهم، فثبّطهم الله لعلمه بهم، أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده.

وعن قتادة: {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} قال: لأسرعوا خلالكم {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} بذلك، {وَفِيكُمْ} من يسمع كلامهم. {لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ} ، قال ابن إسحاق: أي: ليخذلوا عنك أصحابك ويردّوا عليك أمرك، {حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} . وعن ابن عباس: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} ، قال: هو الجد بن قيس قال: قد علمت الأنصار أني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمالي. وقوله تعالى: {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} ، قال ابن إسحاق: أي: إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة بتخلّفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم. وقال البغوي: {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} أي: في الشرك والإِثم وقعوا، بنفاقهم وخلافهم أمر الله ورسوله، {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} . قوله عز وجل: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ (50) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52) } . عن قتادة: قوله: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} إن كان فتح للمسلمين كَبُر ذلك عليهم وساءهم، {وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ} ، قال مجاهد: حذرنا.

وعن ابن عباس: قوله: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} ، يقول: فتح، أو شهادة. {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ} بالموت، {أَوْ بِأَيْدِينَا} ، قال: القتل. قوله عز وجل: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) } . عن الحسن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، قال: بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله. وعن ابن عباس: قوله: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} ملجأ يقول: حرزًا {أَوْ مَغَارَاتٍ} ، يعني: الغيران {أَوْ مُدَّخَلاً} ، يقول: ذهابًا في الأرض، وهو النفق في الأرض، وهو السرب. قال البغوي: ومعنى الآية: أنهم لو يجدون مخلصًا منكم، ومهربًا لفارقوكم. والله أعلم. * * *

الدرس السابع عشر بعد المائة

الدرس السابع عشر بعد المائة {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) } . * * *

قوله عز وجل: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) } . عن قتادة: قوله: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} ، يقول: ومنهم من يطعن عليك في الصدقات؛ وذكر لنا أن رجلاً من أهل البادية حديث عهد بأعرابية، أتى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم ذهبًا وفضة فقال: يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت. فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: «ويلك فمن جاء يعدل عليك بعدي» ؟ ثم قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: «احذروا هذا وأشباهه، فإن أمتي أشباه هذا، يقرؤون، القرآن لا يجاوز تراقيهم، فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم» . وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} . قال البغوي: وجواب (لو) محذوف، أي: لكان خيرًا لهم وأَعْوَدَ عليهم. وعن الحسن: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} ، قال: الفقير: الجالس في بيته، والمسكين: الذي يسعى. وقال ابن عباس: المساكين الطوافون، والفقراء

فقراء المسلمين. وقال مجاهد: الفقير الذي لا يسأل، والمسكين الذي يسأل. وقال ابن أبْزَى: كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار، والزوجة، والعبد، والناقة يحجّ عليها ويغزو، فنسبهم الله إلى أنهم فقراء وجعل لهم سهمًا في الزكاة. وعن قتادة: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} ، قال: جُباتها الذين يجمعونها ويسعون فيها. وعن ابن عباس: قوله: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهم قوم كانوا يأتون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أسلموا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيرًا قالوا: هذا دين صالح، وإن كان غير ذلك عابوه وتركوه وعن أبي جعفر قال: في الناس اليوم المؤلّفة قلوبهم. وعن الحسن: {وَفِي الرِّقَابِ} ، قال: هم المكاتبون. وعن مجاهد في قوله: {وَالْغَارِمِينَ} هم قوم ركبتهم الديون في غير فساد ولا تبذير، فجعل الله لهم في هذه الآية سهمًا. وقال ابن زيد في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} ، قال: الغازي في سبيل الله. وعن مجاهد: {وَابْنِ السَّبِيلِ} ، قال: لابن السبيل حقّ من الزكاة وإن كان غنيًا، إذا كان منقطعًا به. وعن حذيفة في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} ، قال: إن شئت جعلته في صنف واحد أو صنفين أو لثلاثة. وقال عطاء: لو وضعتها في صنف واحد من هذه الأصناف أجزأك، ولو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعفّفين، فجبرتهم بها كان أحبّ إليّ. قوله عز وجل: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ

وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (66) } . عن ابن عباس: قوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} يسمع من كل أحد. وقوله: {يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، يعني: يؤمن بالله ويصدّق المؤمنين. وقال ابن إسحاق: يقول الله {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} أي: يستمع الخير ويصدّق به. وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً من المنافقين قال: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقًا لهم شرٌّ من الحمير. قال فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله إنّ ما يقول محمد حقّ ولأنت شرٌّ من الحمار. فسعى بها الرجل إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال له: «ما حملك على الذي قلت» ؟ فجعل يلتعن ويحلف بالله ما قال ذلك. قال: وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدّق الصادق وكذّب الكاذب. فأنزل الله في ذلك: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} . وعن مجاهد: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} ، يقول: يقولون القول بينهم، ثم يقولون: عسى الله أن لا يفشى سرّنا علينا. وقال قتادة: كانت تسمى هذه السورة: الفاضحة، فاضحة المنافقين. وعن ابن عمر قال: قال رجل في غزوة

تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرّائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلّقًا بحقب ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنكبه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: « {أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} » . وقوله تعالى: {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} ، قال ابن إسحاق: كان الذي عفى عنه فيما بلغني مخشيّ بن حمير الأشجعي حليف بني سلمة، وذلك أنه أنكر منهم بعض ما سمع. قوله عز وجل: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ

قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) } . عن مجاهد في قول الله: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} ، قال: لا يبسطونها بنفقة في حق. وقال قتادة: يقبضون أيديهم عن كل خير. {نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ} نسوا من الخير ولم ينسوا من الشر. وقوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} . قال البغوي: أي: فعلتم كفعل الذين من قبلكم بالعدول عن أمر الله، فلعنتم كما لعنوا. وقال ابن عباس: ما أشبه الليلة بالبارحة، {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} هؤلاء بنو إسرائيل شبّهنا بهم. وعن الحسن: {فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ} ، قال: بدينهم. وقال البغوي: فتمتّعوا وانتفعوا {بِخَلاقِهِمْ} بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات، رضوا به عوضًا عن الآخرة {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ} أيها الكفار والمنافقون {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ} وسلكتم سبيلهم {وَخُضْتُم} في الباطل والكذب على الله وتكذيب رسله والاستهزاء بالمؤمنين {كَالَّذِي خَاضُوا} أي: كما خاضوا. وساق حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم» . قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فمن» . قوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ

بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) } . قال ابن كثير: لما ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة، عطف بذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} ، أي: يتناصرون ويتعاضدون. وقوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: يا رب وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا» . متفق عليه. والله أعلم. * * *

الدرس الثامن عشر بعد المائة

الدرس الثامن عشر بعد المائة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (82) فَإِن رَّجَعَكَ اللهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً

وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (74) } . عن ابن مسعود في قوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} ، قال: بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فليكفهرّ في وجهه. وعن ابن عباس: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ} فأمره الله بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وأذهب الرفق عنهم؛ وعنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلّموه، فلم يلبث أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: عَلام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا وما فعلوا، حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ} ثم نعتهم جميعًا إلى آخر الآية. وعن حذيفة بن اليمان قال: كنت آخذًا بخطام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقود به وعمّار يسوق الناقة، حتى إذا كنا بالعقبة، فإذا أنا باثني عشر راكبًا قد اعترضوه فيها، قال فأنبهت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم فصرخ بهم فولوا مدبرين، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل عرفتم القوم؟» قلنا: لا يا رسول الله قد كانوا متلثّمين، ولكنا قد

عرفنا الركاب، قال: «هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا» ؟ قلنا: لا. قال: «أرادوا أن يزاحموا رسول الله في العقبة» . قلنا: يا رسول الله أفلا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم. قال: «لا، أكره أن تتحدّث العرب بينهما أن محمدًا قاتل بقوم» ، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم. قوله عز وجل: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) } . عن ابن عباس: قوله: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ} الآية، وذلك أن رجلاً يقال له ثعلبة بن أبي حاطب من الأنصار، أتى مجلسًا فأشهدهم فقال لئن آتاني الله من فضله آتيت منه كل ذي حقّ حقّه، وتصدّقت منه، ووصلت منه القرابة، فابتلاه الله فآتاه من فضله، فأخلف الله ما وعده، وأغضب الله بما أخلف ما

وعده فقصّ الله شأنه في القرآن: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ} الآية إلى قوله: {يَكْذِبُونَ} . وفي الحديث الصحيح: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» . وعن ابن عباس: قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} ، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء، وقالوا: إن كان الله ورسوله لغنييّن عن هذا الصاع» . وعن ابن عباس: قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} إلى قوله: {الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية: «اسمع ربي قد رخّص لي فيهم فوالله لأستغفرنّ أكثر من سبعين مرة فلعلّ الله أن يغفر لهم» . فقال الله من شدة غضبه عليهم: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .

قوله عز وجل: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (82) فَإِن رَّجَعَكَ اللهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) } . قال ابن إسحاق: ذكر قول بعضهم لبعض حين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجهاد، وأجمع السير إلى تبوك على شدة الحر وجدب البلاد، يقول الله جل ثناؤه: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} . وعن ابن عباس: قوله: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} ، قال: هم المنافقون والكفار الذين اتخذوا دينهم هزوًا ولعبًا، يقول الله تبارك وتعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} في الدنيا {وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} في النار. وعن جابر بن عبد الله أن رأس المنافقين مات بالمدينة، فأوصى أن يصلي عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن يكفّن في قميصه، فكفّنه في قميصه وصلى عليه وقام على قبره، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم

مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} . قوله عز وجل: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) } . عن ابن عباس: قوله: {اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ} ، يعني: أهل الغنى والخوالف هنّ النساء. والله أعلم. * * *

الدرس التاسع عشر بعد المائة

الدرس التاسع عشر بعد المائة {وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ

وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) } . * * *

قوله عز وجل: {وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (93) } . قال الفراء: {الْمُعَذِّرُونَ} المعتذرون، أدغمت التاء في الذال ونقلت حركة التاء إلى العين. قال أبو عمرو بن العلاء: كلا الفريقين كان مسيئًا، قوم تكلّفوا عذرًا بالباطل وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: {وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ} ، وقوم تخلّفوا من غير تكلّف عذر فقعدوا جرأة على الله تعالى وهم المنافقون. وعن ابن عباس: قوله: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى} إلى قوله: {حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} وذلك: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني فقالوا: يا رسول الله احملنا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والله ما أجد ما أحملكم عليه» فتولوّا ولهم بكاء، وعزيزٌ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ومحملاً فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه فقال: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} إلى قوله: {فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ) .

قوله عز وجل: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) } . قال كعب بن مالك في حديثه المشهور: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلّفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانيتهم ووكّل سرائرهم إلى الله؛ وصَدَقْتُه حديثي، فوالله ما أنعم الله عليّ من نعمة قطّ بعد أن هداني للإسلام، أعظم في صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} إلى قوله: {فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} . قوله عز وجل: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم

بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) } . عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدّث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند فقال: إن حديثك ليعجبني، وإن يدك لتريبني، فقال زيد: وما يريبك من يدي؟ إنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين تقطعون أم الشمال. فقال زيد بن صوحان: صدق الله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} . قال ابن جرير: يقول: وأخلق أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله. وقال قتادة: هم أقلّ علمًا بالسنن. وقوله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً} ، قال عطاء: لا يرجو على إعطائه ثوابًا، ولا يخاف على إمساكه عقابًا، إنما ينفق خوفًا ورياء {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} . قال قتادة: دعاء الرسول {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وعن سعيد بن المسيب: قوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} ، قال: هم الذين صلّوا القبلتين جميعًا. وقال الشعبي: هم الذين بايعوا بيعة الرضوان. قال ابن جرير: (وأما الذين اتبعوا المهاجرين والأنصار بإحسان، فهم الذين أسلموا وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير) . انتهى. {رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فيا ويل من سبّهم وأبغضهم، وقد أخبر الله أنه راضٍ عنهم. والله أعلم. * * *

الدرس العشرون بعد المائة

الدرس العشرون بعد المائة {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) } . * * *

قوله عز وجل: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) } . عن ابن إسحاق: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ} ، أي: لجّوا فيه وأبوا غيره. وعن ابن عباس في قول الله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ} إلى قوله {عَذَابٍ عَظِيمٍ} ، قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا يوم الجمعة فقال: «اخرج يا فلان فإنك منافق، اخرج يا فلان فإنك منافق» ، فأخرج من المسجد ناسًا منهم، فضحهم فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة، وظن أن الناس قد انصرفوا واختبؤوا هم من عمر، ظنوا أنه قد علم بأمرهم، فجاء عمر فدخل المسجد، فإذا الناس لم يصلّوا فقال له رجل من المسلمين: أبشر يا عمر فقد فضح الله المنافقين اليوم. فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد، والعذاب الثاني، عذاب القبر.

وقال ابن زيد: {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} ، قال: أما عذاب الدنيا: فالأموال والأولاد وقرأ قول الله: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بالمصائب فيهم، هي لهم عذاب، وفي المؤمنين أجر. وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، قال ابن زيد: هم الثمانية اللذين ربطوا أنفسهم بالسواري، منهم: كردم، ومرداس، وأبو لبابة. وقال قتادة: كانوا تخلّفوا عن غزوة تبوك. وقال ابن أبي ذئب: سمعت أبا عثمان يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي بهذه الأمة من قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ} إلى: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وعن ابن عباس قال: (جاؤوا بأموالهم - يعني: أبا لبابة وأصحابه - حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدّق بها عنا واستغفر لنا، قال: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئًا،» فأنزل الله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} ، يعني بالزكاة: طاعة الله والإِخلاص، {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ، يقول: استغفر لهم، {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} ، يقول: رحمة لهم) . وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أُتي بصدقة قوم صلّى عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صلِّ على آل أبي أوفى» . رواه مسلم. وعن ابن مسعود قال: إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، ثم قرأ: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ، قال ابن عباس: يعني: إن استقاموا. وعن مجاهد: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} ، قال: هذا وعيد

{وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} ، أي: مؤخّرون {لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، قال مجاهد: هم هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكعب بن مالك. وقال الضحاك: هم الثلاثة الذين خلّفوا عن التوبة، يريد غير أبي لبابة وأصحابه، ولم ينزل الله عذرهم فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم فرقتين: فرقة تقول: هلكوا حين لم ينزل الله فيهم ما أنزل في أبي لبابة وأصحابه، وتقول فرقة أخرى: عسى الله أن يعفو عنهم، وكانوا مرجئين لأمر الله، ثم أنزل الله رحمته ومغفرته، فقال: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ} الآية. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) } . عن ابن عباس: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً} وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدًا فقال لهم أبو عامر: ابنو مسجدكم واستعدّوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر مالك الروم فآتي بجند من الروم، فأخرج محمدًا وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحبّ أن تصلّي فيه وتدعو لنا بالبركة، فأنزل الله: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ

أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} إلى قوله: {وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . وعن قتادة: قال ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأهل قباء: «إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور، فما تصنعون» ؟ قالوا: إنا نغسل عنا أثر الغائط والبول. وعن جابر قال: (رأيت المسجد الذي بني ضرارًا يخرج منه الدخان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) . رواه ابن جرير. وعن ابن عباس: قوله: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} يعني: شكًّّّا {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} يعني: الموت. وقال قتادة: يقول: حتى يموتوا. وقال خلف بن ياسين: رأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله تعالى في القرآن، وفيه حجر يخرج منه الدخان، وهو اليوم مزبلة. والله أعلم. * * *

الدرس الحادي والعشرون بعد المائة

الدرس الحادي والعشرون بعد المائة {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (116) لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ

اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (119) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) } . عن قتادة أنه تلا هذه الآية: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} ، قال: ثامَنهم الله فأغلى لهم الثمن. وعن شمر بن عطية قال: ما من مسلم إلا ولله في عنقه بيعة، وفّى بها أو مات عليها، في قول الله: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . ثم حلاّهم فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} إلى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} . وقال ابن عباس: {السَّائِحُونَ} : الصائمون. وقالت عائشة: سياحة هذه الأمة الصيام. وروى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله» .

وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: «يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن» . قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (116) } . عن عمرو بن دينار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربي» . فقال أصحابه: لنستغفرنّ لأبائنا كما استغفر النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمّه، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {تَبَرَّأَ مِنْهُ} . وعن ابن عباس قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات فلما مات لم يستغفر له. وقال عطاء: ما كنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة، ولو كانت خبيثة حبلى من الزنا، لأني لم أسمع بحجب الصلاة إلا عن المشركين. وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} . قال ابن مسعود: الأوّاه: الدّعاء، وقال مرة: الرحيم. وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الأواه: الخاشع المتضرّع» .

وعن مجاهد: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} ، قال: بيان الله للمؤمنين أن لا يستغفروا للمشركين خاصة، وفي بيان طاعته ومعصيته عامة، فافعلوا وذروا. قوله عز وجل: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (119) } . عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل: {فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} قال: خرجوا في غزوة تبوك الرجلان والثلاثة على بعير، وخرجوا في حرٍّ شديد، وأصابهم يومئذٍ عطش شديد، فجعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءه، وكان ذلك عسرة من الماء، وعسرة من الطهر، وعسرة من النفقة. قال قتادة: فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوهم. وقال ابن عباس: من تاب الله عليه لم يعذبه أبدًا. وقوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ} . قال كعب بن مالك في حديثه الطويل: خلّفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توبتهم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ} . وعن نافع قال: قيل للثلاثة الذين خلفوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} محمد وأصحابه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

«عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقًا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابًا» . متفق عليه. والله أعلم. * * *

الدرس الثاني والعشرون بعد المائة

الدرس الثاني والعشرون بعد المائة {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون (127) لَقَدْ

جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) } . * * *

قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) } . عن قتادة: قوله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} هذا إذا غزا نبي الله بنفسه، فليس لأحد أن يتخلف. ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لولا أن أشقّ على أمتي ما تخلّفت خلف سرية تغزو في سبيل الله، لكني لا أجد سعة فأنطلق بهم معي ويشقّ عليّ أن أدعهم بعدي» . وقال قتادة: ما زاد قوم في سبيل الله بعدًا إلا ازدادوا من الله قربًا. وقال الضحاك في قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} الآية. كان

نبي الله إذا غزا بنفسه لم يحلّ لأحد من المسلمين أن يتخلّف عنه إلا أهل العذر، وكان إذا أقام فأسرت السرايا لم يحلّ لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه، فكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن تلاه نبي الله على الصحابة القاعدين معه، فإذا رجعت السرية قال لهم: الذين أقاموا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنًا فيقرئونهم ويفقّهونهم في الدين» . وقيل: نزلت هذه الآية حين نزل أحياء العرب المدينة، فغلت أسعارهم وفسدت طرقهم. وفي الحديث الصحيح: «من يرد الله به خيرًا يفقّه في الدين» . وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} ، قال البغوي: أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب. قوله عز وجل: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ

إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون (127) } . عن ابن عباس: قوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} قال: كان إذا نزلت سورة آمنوا بها، فزادهم الله إيمانًا وتصديقًا، وكانوا يستبشرون. وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ، أي: شك ونفاق، {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} فعند نزول كل سورة ينكرونها، ويزداد كفرهم. وقوله تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} يختبرون، {فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} . قال مجاهد: بالقحط والشدة؛ وقال حذيفة: كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين، فيضلّ بها فئام من الناس. وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} . قال ابن كثير: هذا أيضًا إخبار عن المنافقين، أنهم إذا أنزلت سورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} ، أي: تلفّتوا، {هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ} أي: تولوّا عن الحق وانصرفوا عنه، وهذا حالهم في الدنيا لا يثبتون عند الحق، ولا يقبلونه، ولا يفهمونه. قوله عز وجل: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) } . عن جعفر بن محمد [عن أبيه] في قوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} ، قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. قال: وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني

خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح» . وقال قتادة: جعله الله من أنفسهم ولا يحسدونه. وعن ابن عباس في قوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} قال: ما ضللتم. وقال القتيبي: ما أعنتكم وضرّكم. وعن قتادة: {حَرِيصٌ عَلَيْكُم} حريص على ضالّهم أن يهديه الله. وقال أبيّ بن كعب: أحدث القرآن عهدًا بالله الآيتان، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} إلى آخر السورة. وقال أبو الدرداء: (من قال إذا أصبح وإذا أمسى: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات إلا كفاه الله ما أهمّه) . والله أعلم. * * *

الدرس الثالث والعشرون بعد المائة

الدرس الثالث والعشرون بعد المائة [سورة يونس عليه السلام] مكية، وهي مائة وتسع آيات بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {آلر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ

آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُل لَّوْ شَاء اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) } . * * *

قوله عز وجل: {آلر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ (2) } . قال ابن كثير: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} ، أي: هذه آيات القرآن المحكم المبين. وعن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدًا رسولاً أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد، فأنزل الله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} . {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} ، يقول: أجرًا حسنًا بما قدّموا من أعمالهم. قوله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا

خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) } . عن مجاهد: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} ، قال: يقضيه وحده. {يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، قال: يحييه ثم يميته ثم يحييه. {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} ، قال: بالعدل. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} . قال ابن كثير: فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام. قوله عز وجل: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) } . قال قتادة: بلغنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن المؤمن إذا خرج من قبره، صوّر له عمله في صورة حسنة فيقول له: ما أنت؟ فوا الله إني لأراك امرأ صدق فيقول: أنا عملك، فيكون له نورًا وقائدًا إلى الجنة؛ وأما الكافر إذا خرج من قبره، صوّر له عمله في صورة سيئة وبشارة سيئة فيقول: ما أنت فو الله لأراك امرأ سوء فيقول: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار» .

وعن مجاهد في قول الله: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} ، قال: يكون لهم نورًا يمشون به. وقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ} ، أي: قولهم وكلامهم. {فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} افتتحوا كلامهم بالتسبيح وختموه بالتحميد. وعن ابن جريج قال: أخبرت أن دعواهم فيها: سبحانك اللهم، قال: إذا مرّ بهم الطير فيشتهونه قالوا: سبحانك اللهم، وذلك: {دَعْوَاهُمْ} فيأتيهم الملك بما اشتهوا فيسلّم عليهم فيردّون عليه، فذلك قوله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} ، قال: وإذا أكلوا حمدوا الله ربهم، فذلك قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قوله عز وجل: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (12) } . عن مجاهد في قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ} قال: قول الإنسان إذا غضب لولده وماله، لا بارك الله فيه ولعنه. وقال ابن زيد في قوله: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} ، قال لأهلكناهم. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) } .

قال قتادة: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (صدق ربنا، ما جعلنا خلفاء إلا لينظر كيف أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار والسر والعلانية) . قوله عز وجل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُل لَّوْ شَاء اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) } . قال ابن كثير: يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش، الجاحدين الحق، المعرضين عنه، أنهم إذا قرأ عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كتاب الله وحجته الواضحة قالوا له: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} ، أي: ردّ هذا وجئنا بغيره من نمط آخر {أَوْ بَدِّلْهُ} إلى وضع آخر. قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} ، أي: ليس هذا إليّ إنما أنا عبد مأمور، ورسول مبلّغ عن الله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . ثم قال محتجًّا عليهم في صحة ما جاءهم به: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} ، أي: هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته، والدليل على أني لست أتقوّله من عندي ولا افتريته، أنكم عاجزون عن معارضته، وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عز وجل، لا تنتقدون عليّ شيئًا تغمصونني به، ولهذا قال:

{فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} . انتهى. وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} ، يقول تعالى: لا أحد أظلم ولا أشدّ جرمًا ممن تقولّ على الله وزعم أن الله أرسله وهو كاذب، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللهُ} وكذلك لا أحد أظلم ممن كذب بالحق الذي جاءت به الرسل، كما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} . والله أعلم. * * *

الدرس الرابع والعشرون بعد المائة

الدرس الرابع والعشرون بعد المائة {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ

السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25) لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) } . * * *

قوله عز وجل: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (20) } . ينكر تعالى على المشركين عبادتهم غيره من الأصنام والأوثان، {مَا لاَ يَضُرُّهُمْ} إن تركوا عبادته {وَلاَ يَنفَعُهُمْ} إن عبدوه، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ} أتخبرون {اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} . قال البغوي: ومعنى الآية أتخبرون الله أن له شريكًا، وعنده شفيعًا بغير إذنه، ولا يعلم الله لنفسه شريكًا في السماوات ولا في الأرض، سبحانه وتعالى عما يشركون. وقال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام، ثم وقع الاختلاف بين الناس، فبعث لله الرسل مبشرين ومنذرين. وقوله تعالى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} ، أي: بأن جعل لكل أمة أجلاً معينًا {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} عاجلاً فيما فيه يختلفون، {وَيَقُولُونَ} ، أي: مشركوا أهل مكة {لَوْلاَ} ، أي: هلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ} ، أي: على محمد {آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} على ما يقترحونه كقولهم: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً} ونحو ذلك، {فَقُلْ

إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ} ، أي: ما تطلبونه غيب، وهو القادر عليه، {فَانْتَظِرُواْ} قضاء الله بيني وبينكم، {إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} . قوله عز وجل: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23) } . عن مجاهد: إذا لهم مكر في آياتنا قال: استهزاء وتكذيب. وقال البغوي: {قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً} ، أي: أعجل عقوبة، وأشد أخذًا، وأقدر على الجزاء. وقال ابن كثير: أي: أشد استدراجًا وإمهالاً، حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب ثم يؤخذ على غرة منه. انتهى. وهذا كقوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} . وعن قتادة في قوله: {دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، قال إذا مسهم الضر في البحر أخلصوا له الدعاء.

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . قال البغوي: ومعناه إنما بغيكم متاع الحياة الدنيا لا يصلح زادًا لمعادكم لأنكم تستوجبون به غضب الله. وقرأ حفص متاع: بالنصب. أي: تتمتعون متاع الحياة الدنيا. قوله عز وجل: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25) لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) } . عن ابن عباس: قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} ، قال: اختلط فنبت بالماء كل لون، {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ} : كالحنطة، والشعير وسائر حبوب الأرض، والبقول، والثمار، وما يأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي. وعن قتادة: قوله: {حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا} الآية، أي: والله لئن تشبث بالدنيا وحدب عليها لتوشك الدنيا أن تلفظه. وقوله: {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} .

قال ابن جرير: يقول: كأن لم تكن تلك الزروع والنبات ثابتة قائمة على الأرض قبل ذلك بالأمس. وعن قتادة في قوله: {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} ، قال: الله هو السلام، وداره الجنة. وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا بجنتيها ملكان يناديان، يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس هلمّوا إلى ربكم، إنّ ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى» . وأنزل ذلك في القرآن في قوله: {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم. وعن أبي بكر الصديق: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، قال: (النظر إلى وجه الله تعالى) . وعن أبيّ بن كعب: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قول الله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، قال: «الحسنى: الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله» . رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم. وعن ابن

عباس قوله: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} ، قال: سواد الوجوه. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} ، كقوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} . وعن ابن عباس: قوله: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} ، قال: تغشاهم ذلّة وشدة. قوله عز وجل: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) } .

قال البغوي: (قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ} ، أي: الزموا مكانكم، {أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ} ، يعني: الأوثان، معناه: ثم نقول للذين أشركوا: الزموا أنتم وشركاؤكم مكانكم ولا تبرحوا. {فَزَيَّلْنَا} : ميزنا وفرقنا بينهم. أي: بين المشركين وشركائهم، وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا، وذلك حين يتبرّأ كل معبود من دون الله ممن عبده) . انتهى. وقال مجاهد: {إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} ، قال: يقول: ذلك كل شيء كان يعبد من دون الله. قلت: وهذا كقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ، وكقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم ... مُّؤْمِنُونَ} . وعن مجاهد: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} ، قال: تختبر. وقال ابن زيد في قوله: {وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} ، قال: ما كانوا يدعون معه من الأنداد والآلهة. وقال البغوي: (قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} ، أي: من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات، {أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ} ، أي: من أعطاكم السمع والأبصار، {وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ} يخرج الحيّ من النطفة والنطفة من الحيّ {وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ} ، أي: يقضي الأمر،

{فَسَيَقُولُونَ اللهُ} هو الذي يفعل هذه الأشياء، {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أفلا تخافون عقابه في شرككم؟ {فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ} الذي يفعل هذه الأشياء هو {رَبُّكُمُ الْحَقُّ} ، ... {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ، أي: فأين تصرفون عن عبادته وأنتم مقرّون به {كَذَلِكَ} ؟ قال الكلبي: هكذا {حَقَّتْ} وجبت، {كَلِمَتُ رَبِّكَ} حكمه السابق {عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ} كفروا، {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} . {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم} أوثانكم، {مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ} ينشئ الخلق من غير أصل ولا مثال، {ثُمَّ يُعِيدُهُ} ثم يحييه من بعد الموت كهيئته؟ فإن أجابوك، وإلا فقل أنت: {اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ، أي: تصرفون عن قصد السبيل؟ {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي} يرشد إلى الحق؟ فإذا قالوا: لا، ولا بدّ لهم من ذلك، {قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} ، أي: إلى الحق، {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى} معنى الآية: الله الذي يهدي إلى الحق أحق بالاتباع أم الصنم الذي لا يهدي {إِلاَّ أَن يُهْدَى} ، أي: لا ينتقل من مكان إلى مكان إلا أن يحمل) . انتهى ملخصًا. قال ابن كثير: وقوله: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ، أي: فما بالكم؟ أين يُذهب بعقولكم؟ كيف سوّيتم بين الله وبين خلقه، وعدلتم هذا بهذا، وعبدتم هذا وهذا؟ وهلاّ أفردتم الربّ جل جلاله، المالك الحاكم الهادي من الضلالة، بالعبادة وحده وأخلصتم له الدعوة والإنابة؟ ثم بيّن تعالى أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلاً ولا برهانًا، وإنما هو ظن منهم، أي: توّهم وتخيّل، وذلك لا يغني عنهم شيئًا، {إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} . تهديد لهم ووعيد شديد لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء. والله أعلم. * * *

الدرس الخامس والعشرون بعد المائة

الدرس الخامس والعشرون بعد المائة {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ (42) وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ

تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) } . * * *

قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ (42) وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) } . قال الفراء: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ} معناه: وما ينبغي لمثل هذا القرآن أن يفترى من دون الله، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ} . وقوله تعالى: {وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} ، أي: من التوراة والإنجيل، {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} تبيين ما في القرآن من الحلال، والحرام، والأحكام {لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} . {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} ، أي: اختلق محمد القرآن من قبل نفسه {قُلْ فَأْتُواْ

بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ} ليعينوكم على ذلك {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أن محمدًا افترأه {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} ، يعني: لما رأوا القرآن مشتملاً على أمور ما عرفوا حقيقتها، سارعوا بجهلهم إلى التكذيب {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} ، أي: عاقبة ما وعد الله في القرآن {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} آخر أمرهم بالهلاك. {وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ} أي: من قومك من يؤمن بالقرآن، {وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} لعلم الله السابق فيهم إنهم لا يؤمنون، {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} . {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي} وجزاؤه {وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} وجزاؤه {أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} . {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} بأسماعهم الظاهرة فلا ينفعهم، {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} ؟ فإن الأصم العاقل ربما يتفرّس. ... {وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} ويعاينون أدلّة صدقك لكن لا يصدّقون، ... {أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} ؟ أي: أفتطمع أنك تقدر على فاقد البصر والبصيرة؟ فإن العمى مع الحمق جهد البلاء، {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر والمعاصي. قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ

أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) } . قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ} ، أي: في الدنيا، {إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} كمعرفتهم في الدنيا. وعن مجاهد: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من العذاب في حياتك {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} ، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ} قال: يوم القيامة {قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} قال: بالعدل {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} كما قال تعالى: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ ... وَالشُّهَدَاء} . وقوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} ؟. قال البغوي: فيه إضمار، أي: يقال لكم: الآن تؤمنون حين وقع العذاب {وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} تكذيبًا واستهزاء. قوله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) } . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ} كفرت بالله

وظلمها في هذا الموضع عبادتها غير من يستحق عبادة، وتركها طاعة من يجب عليها طاعته، {مَا فِي الأَرْضِ} من قليل أو كثير، {لاَفْتَدَتْ بِهِ} يقول: لافتدت بذلك كله من عذاب الله إذا عاينته. وقوله: {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} ، يقول: وأخفت رؤساء هؤلاء المشركين من وضعائهم وسفلتهم الندامة، حين أبصروا عذاب الله قد أحاط بهم، وأيقنوا أنه واقع بهم. وقوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} ، أي: بالعدل، {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} . {أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . قال ابن كثير: يخبر الله تعالى إنه مالك السماوات والأرض فإنه وعده حق كائن لا محالة، وأنه يحيي الموتى وإليه مرجعهم، وأنه تعالى القادر على ذلك، العليم بما تفرّق من الأجساد، وتمزق في سائر أقطار الأرض والبحار والقفار. والله أعلم. * * *

الدرس السادس والعشرون بعد المائة

الدرس السادس والعشرون بعد المائة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُواْ اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا

أَتقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ (60) } . عن أبي سعيد الخدري في قول الله: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} ، قال: {بِفَضْلِ اللهِ} القرآن، {وَبِرَحْمَتِهِ} أن جعلكم من أهله. وعن هلال بن يساف، {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ} ، قال: بالإسلام والقرآن، {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} من الذهب والفضة. وعن ابن عباس في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً} قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرّمون أشياء أحلّها الله، وهو قول الله: {أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً} ، قال: الحرث، والأنعام. وقال مجاهد: البحائر والسيّب. {قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال البغوي: أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم به ولا يعاقبهم عليه؟ {إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} .

قال ابن كثير: بل يحرّمون ما أنعم الله به عليهم ويضيّقون على أنفسهم، فيجعلون بعضًا حلالاً وبعضًا حرامًا. وقال ابن جرير يقول: ولكن أكثر الناس لا يشكرونه على تفضله عليهم بذلك وبغيره من سائر نعمه. قوله عز وجل: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) } . قال ابن عباس في قوله: {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} يقول: إذ تفعلون. {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ} ، يقول: ما يغيب عنه، {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} . قال البغوي: وهو اللوح المحفوظ. وعن ابن عباس: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ، قال: (اللذين يُذْكَر الله لرؤيتهم) . وعن

أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من عباد الله عبادًا يغبطهم الأنبياء والشهداء، قيل: من هم يا رسول الله فلعلّنا نحبّهم؟ قال: هم قوم تحابّوا في الله من غير أموال ولا أنساب وجوههم من نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس - وقرأ -: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} » . رواه ابن جرير. وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} ، أي: يتقون الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. قال ابن زيد. أبى أن يُتَقَبّل الإيمان إلا بالتقوى. وعن أبي الدرداء قال: (سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له» . رواه أحمد وغيره. وفي رواية أخرى: «وبشراه في الآخرة الجنة» . وقوله تعالى: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} ، أي: لا تغيير لقوله ولا خلف لوعده، {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . قوله عز وجل: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ

فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُواْ اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70) } . قوله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} ، يعني: قول المشركين، واستعن بالله عليهم، {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} . وقوله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ شُرَكَاء} ، أي: ما يتبعون شركاء على الحقيقة وإن كانوا يسمونهم شركاء، {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} ، أي: يظنّون أنهم يقرّبونهم إلى الله زلفًا، {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يكذبون. وقوله تعالى: {قَالُواْ اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا} ، أي: ليس عندكم دليل على ما تقولونه من الكذب والبهتان، {أَتقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ} قليل يتمتعون به في الدنيا إلى انقضاء آجالهم، {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} . والله أعلم. * * *

الدرس السابع والعشرون بعد المائة

الدرس السابع والعشرون بعد المائة ... {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ (71) فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ

فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84) فَقَالُواْ عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) } . * * *

قوله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ (71) فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) } . يقول تعالى: {وَاتْلُ} يا محمد {عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} ، أي: خَبَرَه مع قومه {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ} ، أي: عظم وثقل، {عَلَيْكُم مَّقَامِي} مكثي فيكم وطول عمري، {وَتَذْكِيرِي} ووعظي، {بِآيَاتِ اللهِ} فعزمتم على قتلي وطردي {فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ} ، أي: أحكموا أمركم واعزموا عليه، {وَشُرَكَاءكُمْ} ، أي: وادعوا شركاؤكم. أي: آلهتكم التي تدعون من دون الله فاستعينوا بها معكم، فإنها لا تضر ولا تنفع، {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} ، أي: خفيًّا مبهمًا، {ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ} أي: مهمًا قدرتم فافعلوا، فإني واثق بنصر الله. {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن قولي ولم تقبلوا نصحي، {فَمَا سَأَلْتُكُم} على تبليغ الرسالة والدعوة، {مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي: وأنا ممتثل ما أمرت به من الإسلام لله عز وجل. {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ} ، أي: جعلنا الذين

معه سكان الأرض خلفًا عن الهالكين {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} . {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} ، أي: بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ} ، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . قوله عز وجل: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) } . وعن مجاهد: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ} ، قال: السلطان في الأرض. وقوله تعالى: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ} ، أي: الذي جئتم به السحر، {إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} وفي بعض الآثار: أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تعالى، تقرأ في إناء فيه ماء ثم يصبّ على رأس المسحور. {فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} ، وقوله في السورة

الأخرى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} . وقوله تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} . قوله عز وجل: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84) فَقَالُواْ عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) } . وَيُحِقُّ اللهُ عن ابن عباس: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} . قال: كان الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل، من قوم فرعون يسير، منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة خازنه. وعن مجاهد في قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} ، قال: أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم. وعن أبي مجلز في قوله: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، قال: لا يظهروا علينا فيروا أنهم خير منا، وقال مجاهد: لا تسلطهم علينا فيفتنونا. وعن ابن عباس: {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} ، قال: مساجد، وقال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلّوا في بيوتهم. وقال مجاهد: كانوا لا يصلّون إلا في البِيَع

وكانوا لا يصلّون إلا خائفين، فأمروا أن يصلّوا في بيوتهم. قوله عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (89) } . قال ابن جرير في قوله: {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} ، يقول موسى لربه: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من ذلك، {لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} ! وعن مجاهد: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} ، قال: أهلكها. وقال ابن عباس: بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحًا وأنصافًا وأثلاثًا. وعن مجاهد: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} بالضلالة، {فَلاَ يُؤْمِنُواْ} بالله فيما يرون من الآيات، {حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} . قال ابن عباس: واستجاب الله له وحال بين فرعون وبين الإيمان، حتى أدركه الغرق فلم ينفعه الإيمان. وعن أبي صالح قال: {قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} ، قال: دعا موسى وأمّن هارون. قال ابن عباس: {فَاسْتَقِيمَا} فامضيا لأمري وهي الاستقامة، {وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} ، قال ابن جريج: يقولون: إن فرعون مكث بعد هذه الآية أربعين سنة. قوله عز وجل: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ

الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) } . قال عبد الله بن شداد: (اجتمع يعقوب وبنوه إلى يوسف، وهم اثنان وسبعون، وخرجوا مع موسى من مصر حين خرجوا وهم ستمائة ألف، فلما أدركهم فرعون فرأوه قالوا: يا موسى أين المخرج؟ فقد أدركنا، قد كنا نلقى من فرعون البلاء؛ أوحى الله إلى موسى: {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} ويبس لهم البحر، وكشف الله عن وجه الأرض، وخرج فرعون على فرس حصان أدهم، وكانت تحت جبريل عليه السلام فرس وديق، وميكائيل يسوقهم، لا يشذّ رجل منهم إلا ضمه إلى الناس، فلما خرج آخر بني إسرائيل دنا منه جبريل ولصق به، فوجد الحصان ريح الأنثى، فلم يملك فرعون من أمره شيئًا وقال: أقدموا فليس القوم أحق بالبحر منكم، ثم أتبعهم فرعون حتى إذا همّ أوّلُهم أن يخرجوا ارتطم ونادى فيها: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ونودي: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ؟ . وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما قال فرعون: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمن به بنو إسرائيل، قال: قال لي جبريل: لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه، مخافة أن تناله الرحمة» . رواه أحمد وغيره،

وعن قيس بن عباد وغيره قال: قالت بنو إسرائيل لموسى: إنه لم يمت فرعون، قال: فأخرجه الله إليهم ينظرون إليه مثل الثور الأحمر. وقال قتادة: لما أغرق الله فرعون لم تصدق طائفة من الناس بذلك، فأخرجه الله آية وعظة. والله أعلم. * * *

الدرس الثامن والعشرون بعد المائة

الدرس الثامن والعشرون بعد المائة {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97) فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ

يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97) فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) } . عن الضحاك: {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} قال: منازل صدق: مصر، والشام. وقال قتادة: بوّأهم الله الشام وبيت المقدس. قال ابن كثير: وقوله: {فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ} ، أي: ما اختلفوا في شيء من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم، أي: ولم يكن لهم أن يختلفوا وقد بيّن الله لهم وأزال عنهم اللبس وقد ورد في الحديث: «أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاثة وسبعين فرقة، منها واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار» ، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي» . رواه الحاكم في مستدركه بهذا اللفظ، وهو في السنن والمسانيد؛ ولهذا قال الله تعالى:

{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . وقال الضحاك في قوله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} ، يعني: أهل التقوى وأهل اليمان من أهل الكتاب ممن أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال قتادة: بلغنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا أشكّ ولا أسأل» . قال ابن كثير: وهذا فيه تثبيت للأمة وإعلام لهم أن صفة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - موجودة في الكتب المتقدمة. وعن مجاهد في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} قال: حقّ عليهم سخط الله بما عصوه. وعن ابن عباس: قوله: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} ، يقول: لم تكن قرية آمنت ينفعها الإيمان إذا نزل بها بأس الله إلا قرية يونس. وعن سعيد بن جبير قال: لما أرسل يونس إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه، قال: فدعاهم فأبوا، فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبّحهم فقالوا: إنا لم نجرب عليه كذبًا، فانظروا فإن بات فيكم فليس بشيء، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبّحكم. فلما كان في جوف الليل أخذ مخلاته فتزوّد فيها شيئًا ثم خرج، فلما أصبحوا تغشّاهم العذاب كما يتغشّى الإنسان الثوب في القبر، ففرقوا بين الإنسان وولده، وبين البهيمة وولدها، ثم عجّوا إلى الله فقالوا: آمنا بما جاء به يونس وصدّقنا، فكشف الله عنهم العذاب، فخرج يونس ينظر العذاب فلم ير شيئًا. قال جربّوا عليّ كذبًا، فذهب مغاضبًا لربه حتى أتى البحر. قوله عز وجل: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) } . عن ابن عباس: قوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} .

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} ونحو هذا في القرآن، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره أنه لا يؤمن من قومه إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول. وعن قتادة: قوله: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ} يقول: وقائع الله في الذين خلو من قبلهم: قوم نوح، وعاد، وثمود. وقال الربيع: خوّفهم عذابه ونقمته وعقوبته. قوله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم

بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) } . قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ} ، يقول تعالى ذكره: ولا تدع يا محمد من دون معبودك وخالقك شيئًا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني: الآلهة والأصنام يقول: لا تعبدها راجيًا نفعها وخائفًا ضرها، فإنها لا تنفع ولا تضر، فإن فعلت ذلك فدعوتها من دون الله، {فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ} ، يقول: من المشركين بالله الظالم لنفسه. وقال ابن كثير: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} ، أي: وما أنا موكل بكم حتى تكونوا مؤمنين به، وإنما أنا نذير لكم، والهداية على الله تعالى. وقوله: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ} ، أي: تمسك بما أنزل الله عليك وأوحاه إليك، {وَاصْبِرْ} على مخالفة من خالفك من الناس، ... {حَتَّىَ يَحْكُمَ اللهُ} ، أي: يفتح بينك وبينهم {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أي: خير الفاتحين بعدله وحكمته. والله أعلم. * * *

الدرس التاسع والعشرون بعد المائة

الدرس التاسع والعشرون بعد المائة [سورة هود] مكية، وهي مائة وثلاث وعشون آية ... عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت! قال: «شيّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت» . رواه الترمذي. وفي رواية: «شيبتني هود وأخواتها» . بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {آلَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا

وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (14) مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ

وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ (20) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (21) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (24) } . * * *

قوله عز وجل: {آلَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) } . عن الحسن في قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} قال: أحكمت بالأمر والنّهي، وفصّلت بالثواب والعقاب. وقال قتادة: أحكمها الله من الباطل، ثم فصلّها بعلمه فبيّن حلاله وحرامه، وطاعته، ومعصيته. وعن مجاهد: {يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ، قال: الموت {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} ، قال: ما احتسب به من ماله، أو عمل بيده، أو رجله، أو كَلِمه، أو ما تطوع به من أمره كله. وقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} . قال مجاهد: يثنون صدورهم شكًّا وامتراءً في الحق {لِيَسْتَخْفُواْ} من الله إن استطاعوا. وعن ابن عباس: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} ، يقول: يكتمون ما في قلوبهم {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ} ما عملوا بالليل والنهار. وعن الحسن في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} ، قال: من جهالتهم به؛ قال الله: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} في ظلمة الليل في أجواف بيوتهم، يعلم تلك الساعة، {مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .

قوله عز وجل: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) } . عن ابن عباس: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} قال: كل دابة. قال الضحاك: والناس منهم. وقال ابن عباس: ويعلم مستقرها حيث تأوي، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} حيث تموت. وقال مجاهد: {مُسْتَقَرَّهَا} : في الرحم، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} : في الصلب. وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} ، قال قتادة: ينبئكم ربكم تبارك وتعالى كيف كان بدأ خلقه قبل أن يخلق السماوات والأرض. وعن أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: «كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء» . رواه ابن جرير وغيره. وعن عمران بن حصين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقبلوا البشرى يا بني تميم» ، قالوا قد بشّرتنا

فأعطنا، قال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن» قالوا: قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: «كان الله قبل كل شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ، ذكر كل شيء» . الحديث متفق عليه. وعن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} على أي شيء كان الماء؟ قال: (على متن الريح) . وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} ، قال ابن عباس: إلى أجل محدود {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} ؟ قال ابن جريج: للتكذيب به. {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ} ، قال ابن جريج: يا ابن آدم، إذا كانت بك من نعمة من الله من السعة والأمن والعافية، فكفور لما بك منها، وإذا نزعت منك يبتغي لك فراغك، فيؤوس من روح الله قنوط من رحمته؟ ! كذلك المرء المنافق والكافر، {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} غره بالله وجرّأه عليه {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ} عند البلاء {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} عند النعمة {أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} قال: الجنة. قوله عز وجل: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ

وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (14) مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ... فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (17) } . قال مجاهد: قال الله لنبيه: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} أن تفعل فيه ما أمرت وتدعوا إليه كما أرسلت، {أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} لا نرى معه مالاً، أين المال {أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} ينذر معه، إنما أنت منذر، فبلّغ ما أمرت. وعن سعيد بن جبير: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} قال: من عمل للدنيا وُفِّيَهُ في الدنيا. وقال مجاهد: هم أهل الرياء {لاَ يُبْخَسُونَ} : لا ينقصون. وقوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} ، أي: برهانه. وعن ابن عباس: قوله: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} ، يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، {عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} فهو جبريل شاهد من الله بالذي يتلوا من كتاب الله. وقال ابن كثير: يخبر الله تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله التي فطر الله عليها عباده، من الاعتراف بأنه لا إله إلا هو، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ

وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية، إلى أن قال: وذلك أن المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة، والتفاصيل تؤخذ من الشريعة والفطرة تصدّقها وتؤمن بها، ولهذا قال تعالى: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} وهو القرآن بلّغه جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أمته. وقال البغوي: قيل: في الآية حذف. ومعناه: أفمن كان على بيّنة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها، أو كمن هو في الضلالة والجهالة. وعن سعيد بن جبير قال: كنت لا أسمع بحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهه إلا وجدت تصديقه في القرآن فبلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار» . فجعلت أقول أين مصداقه في كتاب الله؟ حتى وجدت هذه الآية: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} ، قال: من الملل كلها، {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} . قوله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ (20) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (21) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ

وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (24) } . عن ابن جريج قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً} ، قال: الكافر والمنافق، {أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} فيسألهم عن أعمالهم {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ} الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا: ... {هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ} . وقال الضحاك: {الأَشْهَادُ} الأنبياء والرسل. وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله عز وجل يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرّره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرّره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطي كتاب حسناته. وأما الكفار والمنافقون فيقول: {الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} » . متفق عليه. وعن قتادة: قوله: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} صمّ على الحقّ فما يسمعونه، بكم فما ينطقون به، عمي فلا يبصرونه ولا ينتفعون به. وقوله تعالى: {لاَ جَرَمَ} . قال البغوي: حقًا، وقيل: بلى. وقال الفراء: لا محالة أنهم في الآخرة هم الأخسرون. وقال في القاموس: {لاَ جَرَمَ} ، أي: لا بدّ أو حقًّا لا محالة، أو هذا أصله ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم.

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . قال قتادة: الإخبات التخشّع والتواضع. وقال ابن عباس: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} قال: الأعمى والأصم والكافر، والبصير والسميع المؤمن. وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن، فأما الكافر فصمّ عن الحق فلا يسمعه، وعمي عنه فلا يبصره، وأما المؤمن فسمع الحق فانتفع به وأبصره، فوعاه وعمل به، يقول تعالى: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} . والله أعلم. * * *

الدرس الثلاثون بعد المائة

الدرس الثلاثون بعد المائة ... {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (30) وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (33) وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا

تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (30) وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (33) وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ (35) } . عن ابن عباس: قوله: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} ، قال: ما ظهر لنا.

وقال ابن جرير: فيما نرى ويظهر لنا. وعن ابن جريج: قال نوح: {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ} قال: قد عرفتها وعرفت بها أمره، وأنه لا إله إلا الله هو {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} الإسلام والهدى والإيمان والحكم والنبوة. {فَعُمِّيَتْ} . قال البغوي: أي: شبّهت وألبست عليكم، {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} ، أي: البيّنة والرحمة، {وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} لا تريدونها؟ قال قتادة: لو قدر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يلزموا قومهم لألزموا، ولكن لم يقدروا. وعن ابن جريج: قوله: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ} التي لا يفنيها شيء فأكون إنما أدعوكم لتتبعوني عليها لأعطيكم منها، {وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} نزلت من السماء برسالة، ما أنا إلا بشر مثلكم، {وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} ولا أقول: اتبعوني على علم الغيب. وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} ، أي: يقول المشركون: افترى محمد هذا الخبر، {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} ، أي: إثمي، {وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ} بتكذيبكم هذا القرآن وليس بمفترى. قوله عز وجل: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (39) } . عن قتادة: قوله: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} وذلك حين دعا عليهم، قال {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} .

قوله: {فَلاَ تَبْتَئِسْ} ، يقول: فلا تأس ولا تحزن. وعن ابن عباس: قوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} وذلك أنه لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن تصنعها على مثل جؤجؤ الطائر. وعن قتادة في قوله: {بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} قال: بعين الله ووحيه. وعن ابن جريج: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي} قال: يقول: ولا تراجعني، قال: تقدم أن لا يشفع لهم عنده. وقوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو رحم الله أحدًا من قوم نوح لرحم أم الصبي» ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها ثم جعل يعمل سفينة، ويمرّون فيسألونه فيقول: أعملها سفينة، فيسخرون منه ويقولون: يعمل سفينة في البر! فكيف تجري؟ فيقول: سوف تعلمون، فلما فرغ منها، وفار التنور، وكثر الماء في السكك، خشيت أم الصبي عليه، وكانت تحبه حبًا شديدًا، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثي الجبل، فلما بلغها الماء خرجت

حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بين يديها حتى يذهب بها الماء، فلو رحم الله منهم أحدًا لرحم أم الصبي» . رواه ابن جرير. قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) } . عن ابن عباس: {حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} ، قال: إذا رأيت تنور أهلك يخرج منه الماء فإنه هلاك قومك. وعن مجاهد: {وَفَارَ التَّنُّورُ} ، قال: انبجس الماء منه؛ آية أن يركب بأهله ومن معه في السفينة. قوله: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} ، قال: ذكر وأنثى من كل صنف. قال الحسن: لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد ويبيض، فأما ما يتولد من الطين فلم يحمل منها شيئًا. وقوله تعالى: {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ} .

قال البغوي: أي: واحمل أهلك وعيالك إلا من سبق عليه القول بالهلاك يعني: امرأته وأهله وابنه كنعان. {وَمَنْ آمَنَ} ، يعني: واحمل من آمن بك كما قال الله تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} ، قال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم. وقال ابن عباس: كان في سفينة نوح ثمانون رجلاً. وعن مجاهد: {بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} ، قال: حين يركبون ويجرون ويرسون، وقال: الجوديّ: جبل بالجزيرة. قوله عز وجل: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) } . عن ابن عباس قال: ما بغت امرأة نبي قط. قال: وقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الذين وعدتهم أن أنجيهم معك، وقال: هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية؛ وسئل عن قول الله تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} ، قال: أما أنه إن لم يكن بالزنا، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون، وكانت هذه تدل على الأضياف. وقوله تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} . قال البغوي: قرأ الكسائي ويعقوب: عَمِلَ. أي: عمل الشرك والتكذيب، وقرأ الآخرون: عَمَلٌ. معناه: أن سؤالك إياي أن أنجيه عمل غير صالح.

وقال في جامع البيان: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ، أي: إنه ذو عمل فاسد ولا ولاية بين المؤمنين والكافر، قيل: {إِنَّهُ} ، أي: سؤالك إياي بنجاته عمل فاسد. وعن الضحاك في قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} قال: ليس من أهل دينك، ولا ممن وعدتك أن أنجيه: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ، يقول: كان عمله في شرك. {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} . قال البغوي: يعني: أن تدعوا بهلاك الكفار ثم تسأل نجاة كافر. {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال محمد بن كعب دخل في ذلك السلام: كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة. وعن قتادة: ودخل في ذلك العذاب والمتاع: كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة. قوله: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا} القرآن وما كان علم محمد - صلى الله عليه وسلم - وقومه ما صنع نوح وقومه، لولا ما بين الله له في كتابه. وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} . قال ابن كثير: فاصبر على تكذيب من كذّبك من قومك وأذاهم لك، فإنا سننصرك ونحوطك بعنايتنا، ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة، كما فعلنا بالمرسلين حيث نصرناهم على أعدائهم، {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} . والله أعلم. * * *

الدرس الواحد والثلاثون بعد المائة

الدرس الواحد والثلاثون بعد المائة {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ (52) قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61) قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي

مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ (68) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ (52) } . عن ابن عباس: قوله: {مِّدْرَاراً} ، قال: يتبع بعضها بعضًا. قال ابن جرير: وقوله: {وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} ، يقول: ولا تدبروا عما أدعوكم إليه من توحيد الله والبراءة من الأوثان والأصنام {مُجْرِمِينَ} يعني: كافرين بالله. قوله عز وجل: {قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) } . عن مجاهد: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ} ، قال: أصابتك الأوثان بجنون. وقال قتادة: ما يحملك على ذمّ آلهتنا إلا أن أصابك منها سوء. وعن مجاهد: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : الحق.

قال ابن جرير: يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. قوله عز وجل: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) } . قال البغوي: {وَتِلْكَ عَادٌ} ردّه إلى القبيلة، {جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} ، يعني: هودًا، ذكره بلفظ الجمع، لأن من كذب رسولاً واحدًا كان كمن كذّب جميع الرسل. قوله عز وجل: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61) قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) } . عن مجاهد في قول الله: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} ، قال: أعمركم فيها. وقال ابن جرير: يقول: وجعلكم عمارًا فيها. وقال ابن كثير: أي: جعلكم عمّارًا تعمرونها وتشغلونها، {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} ، {قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} . قال ابن جرير: أي: كنا نرجوا أن تكون فينا سيّدًا قبل هذا القول الذي قلته لنا، من أنه مالنا من إله غير الله، {أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} ، يقول: أتنهانا أن

نعبد الآلهة التي كانت آباؤنا تعبدها؟ {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} يعنون: أنهم لا يعلمون صحة ما يدعوهم إليه من توحيد الله. قوله عز وجل: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) } . قال ابن كثير: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي} فما أرسلني به إليكم على يقين وبرهان، {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} وتركت دعوتكم إلى الحق وعبادة الله وحده؟ فلو تركته لما نفعتموني، ولما زدتموني، {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} ، أي: خسارة، {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً} ، وذلك أن قومًا طلبوا منه أن يخرج ناقة عشراء من هذه الصخرة، فدعا صالح عليه السلام فخرجت منه ناقة وولدت في الحال ولدًا. فقال لهم: ذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب. قوله عز وجل: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ (68) } . عن قتادة: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} ، قال: بقية آجالهم، وذكر لنا أن صالحًا حين أخبرهم أن العذاب أتاهم، لبسوا الأنطاع والأكسية وقيل لهم: إن آية ذلك أن تصفرّ ألوانكم أول يوم، ثم تحمرّ في اليوم الثاني، ثم تسودّ في اليوم الثالث.

وقوله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} ، قال ابن عباس: كأن لم يعيشوا فيها، وفي حديث عمرو بن خارجة: (فلما أصبحوا لليوم الرابع، أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء له صوت في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم، فأصحبوا في دارهم جاثمين) , وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أتى على قرية ثمود قال: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم ما أصابهم» . والله أعلم. * * *

الدرس الثاني والثلاثون بعد المائة

الدرس الثاني والثلاثون بعد المائة {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ (78) قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ (82) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73) } . قال البغوي: {قَالُواْ سَلاَماً} ، أي: سلّموا سلامًا، {قَالَ} إبراهيم: {سَلاَمٌ} أي: عليكم السلام. وعن مجاهد: {فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} ، قال: بعجل حسيل البقر، والحنيذ: المشويّ النضيج. وعن مجاهد: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} وكانت العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يَطْعَمْ من طعامهم، ظنوا أنه لم يجيء بخير وأنه يحدّث نفسه بشر، وقال: لما أوجس إبراهيم خيفة في نفسه، حدّثوه عند ذلك بما جاءوا فيه، فضحكت امرأته وعجبت من أن قومًا أتاهم العذاب وهم في غفلة. وقال ابن إسحاق: {فَضَحِكَتْ} ، يعني: سارة، لما عرفت من أمر الله جل ثناؤه، ولما تعلم من قوم لوط، فبشّروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، بابن وبابن ابن، فقالت: - وصكّت وجهها يقال: ضربت على جبينها - {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ} إلى قوله: {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} . وقال ابن كثير: {قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ} ، أي: قالت الملائكة لها: لا تعجبي من أمر الله فإنه إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون، فلا تعجبي من

هذا وإن كنت عجوزًا عقيمًا وبعلك شيخًا كبيرًا، فإن الله على ما يشاء قدير {رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} ، أي: هو الحميد في جميع أفعاله وأقواله، محمود ممجّد في صفاته وذاته. قوله عز وجل: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) } . عن قتادة: قوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} ، قال: الفَرَقُ، {وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى} بإسحاق {يُجَادِلُنَا} يخاصمنا {فِي قَوْمِ لُوطٍ} . وقال سعيد بن جبير: لما جاءه جبريل ومن معه قالوا لإِبراهيم: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} قال لهم إبراهيم: أتهلكون قرية فيها أربعمائة مؤمن؟ قالوا: لا. قال: أفتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا: لا. قال: أفتهلكون قرية فيه مائتا مؤمن؟ قالوا: لا، قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنًا؟ قالوا: لا، حتى بلغ خمسة، قالوا: لا، فقال إبراهيم عليه السلام عند ذلك: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ} فسكت عنهم واطمأنت نفسه. وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} ، قال مجاهد: {أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} : القانت الرجّاع. وفي حديث ابن إسحاق قال: أرأيتم إن كان رجلاً واحدًا مسلمًا؟ قالوا: لا، فلما لم يذكروا لإِبراهيم أنّ فيها مؤمنًا واحدًا قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} يدفع به عنهم العذاب، قالوا: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} ، قالوا: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ ... مَرْدُودٍ} . قوله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ

قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ (78) قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ (82) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) } . قال ابن إسحاق: خرجت الرسل فيما يزعم أهل التوراة من عند إبراهيم إلى لوط بالمؤتفكة، فلما جاءت الرسل لوطًا: {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} وذلك من تخوّف قومه عليهم أن يفضحوه في ضيفه فقال: ... {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} ، قال ابن عباس: شديد. وعن مجاهد: {وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} ، قال: يهرولون، وهو الإسراع في المشي. وقال سفيان بن عيينة: يهرعون إليه كأنهم يدفعون. وقال الضحاك يسعون إليه. {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} ، قال ابن عباس: يقول: من قبل مجيئهم إلى لوط كانوا يأتون الرجال من أدبارهم. {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} . قال في فتح البيان: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي} ، أي: فتزوجوهنّ واتركوا أضيافي، وكانوا يطلبونهنّ قبل ذلك ولا يجيبهم، وكان تزويج المسلمة من الكافر جائزًا، أو المراد من البنات نساؤهم، وأضاف إلى نفسه لأن كل نبي أبو أمّته. وقال الشيخ ابن سعدي: (فجاءه قومه يهرعون إليه، يريدون فعل الفاحشة بأضياف لوط فقال: {يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} لعلمه أنه لا حقّ لهم فيهنّ، كما عرض سليمان للمرأتين حين اختصمتا في الولد فقال: ائتوني بالسكين أشقّه بينكما، ومن المعلوم أنه لا يقع ذلك، وهذا مثله، ولهذا قال في قومه: {لَقَدْ

عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} ، وأيضًا يريد بعض العذر من أضيافه، وعلى هذا التأويل لا حاجة إلى العدول إلى قول بعض المفسرين: {هَؤُلاء بَنَاتِي} ، يعني: زوجَاتهم) . انتهى. وقال ابن إسحاق: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} ، أي: من أزواج {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} ، أي: إن بغيتنا لغير ذلك، فلما لم يتناهوا ولم يردّهم قوله، ولم يقبلوا منه شيئًا مما عرض عليهم من أمور بناته. {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} ، أي: عشيرة تمنعني أو شيعة تنصرني، لَحُلْتُ بينكم وبين هذا. وقال ابن جريج: بلغنا أنه لم يُبعث نبي بعد لوط إلا في ثروة قومه، حتى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن كثير: ولهذا ورد في الحديث من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «رحمة الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، يعني: الله عز وجل، فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه» . فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم رسل الله إليه، وأنهم لا وصول لهم إليه {قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ} . وقال السدي: لما قال لوط: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} بسط حينئذٍ جبرائيل عليه السلام جناحيه ففقأ أعينهم، وخرجوا يدوس بعضهم في أدبار بعض عميانًا يقولون: النجاة النجاة، فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض، فذلك قوله: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} . و {قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} واتبع أدبار أهلك، يقول: سر بهم وامضوا حيث تؤمرون، فأخرجهم الله إلى الشام، وقال لوط: أهلِكوهم

الساعة فقالوا: إنا لم نؤمر إلا بالصبح {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} ؟ فلما أن كان السَحَرُ خرج لوط وأهله معه امرأته فلذلك قوله: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} وقال قتادة: ذكر لنا أنه كانت مع لوط حين خرج من القرية امرأته، ثم سمعت الصوت فالتفتت، وأرسل الله عليها حجرًا فأهلكها. وعن مجاهد في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} ، قال: لما أصبحوا غدا جبريل على قريتهم، ففتقها من أركانها، ثم أدخل جناحه ثم حملها على حوافي جناحه بما فيها، ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم قلبها فكان أول ما سقط منها شرافها، فلذلك قول الله: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} . قال مجاهد: لم يصب قومًا ما أصابهم، إن الله طمس على أعينهم، ثم قلب قريتهم، وأمطر عليهم حجارة من سجيل. قال ابن عباس: وهي بالفارسية حجارة من طين. وقال الربيع بن أنس في قوله: {مَّنضُودٍ} ، قال: نضد بعضها على بعض. وعن مجاهد: {مُّسَوَّمَةً} معلّمة. وقوله تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} . قال ابن كثير: أي: وما هذه النقمة ممن تشبّه بهم في ظلمهم ببعيد عنه. وقد ورد في الحديث المرويّ في السنن عن ابن عباس مرفوعًا: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعلَ والمفعول به» . وذهب الإِمام الشافعي في قول عنه وجماعة من العلماء إلى: أن اللائط يقتل سواء كان محصنًا أو غير محصن، عملاً بهذا الحديث، وذهب الإِمام أبو حنيفة إلى أنه يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة، كما فعل الله بقوم لوط. انتهى.

وقال الشوكاني: قال ابن الطلاع في أحكامه: لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه، وثبت عنه أنه قال: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» . رواه عنه ابن عباس، وأبو هريرة رضي الله عنهما. وأخرج البيهقي عن عليّ عليه السلام أنه رجم لوطيًّا. قال الشافعي: وبهذا نأخذ برجم اللوطيّ محصنًا كان أو غير محصن. وأخرج البيهقي أيضًا عن أبي بكر - رضي الله عنه -: أنه جمع الناس في حق الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء، فسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذٍ قولاً عليّ بن أبي طالب قال: هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة، صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن تحرقه بالنار، فاجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يحرقه بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار. وفي إسناده إرسال. وروي من وجه آخر عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ في غير هذه القصة قال: (يرجم

ويحرق بالنار) . وأخرج البيهقي أيضًا عن ابن عباس أنه سئل عن حد اللوطيّ فقال: (ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكّسًا، ثم يتبع الحجارة) . وذهب عمر، وعثمان إلى أنه يلقى عليه حائط. وقد حكى صاحب الشفاء إجماع الصحابة على القتل، وما أحقّ مرتكب هذه الجريمة ومقارف هذه الرذيلة الذميمة، بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين، ويعذّب تعذيًا يكسر شهوة الفسقة المتمردّين، فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين، أن يَصْلَى من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة مشابهًا لعقوبتهم، وقد خسف الله تعالى بهم، واستأصل بذلك العذاب بكرهم وشيبهم) انتهى ملخصًا. والله أعلم. * * *

الدرس الثالث والثلاثون بعد المائة

الدرس الثالث والثلاثون بعد المائة {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (86) قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (86) قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) } . عن قتادة في قوله: {إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ} قال: يعني: خير الدنيا وزينتها. وقوله: {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ} يقول: لا تظلموا الناس أشياءهم. وقوله تعالى: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} . قال ابن جرير: يقول: ولا تسيروا في الأرض تعلمون فيها بمعاصي الله. وعن مجاهد: {بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ} ، قال: طاعة الله خير لكم. وقال ابن عباس: بقية الله رزقًا، يعني: ما أبقي لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير مما تأخذون بالتطفيف. {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء} ؟ قال ابن عباس: كان شعيب عليه السلام كثير الصلاة {إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} ، قال: أرادوا: السفيه الغاوي. والعرب تصف الشيء بضده وقال ابن جرير: يستهزئون. قوله عز وجل: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي

مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) } . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {قَالَ} شعيب لقومه: يا قوم إن كنت على بيان وبرهان من ربي فيما أدعوكم إليه من عبادة الله، والبراءة من عبادة الأوثان والأصنام، وفيما أنهاكم عنه من إفساد المال، {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} ، يعني: حلالاً طيبًا. وعن قتادة: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} لم أكن لأنهاكم من أمر أركبه أو آتيه، {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ} ، يقول: ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه إلا إصلاحكم وإصلاح أمركم، {مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ، قال مجاهد: أرجع. وعن قتادة: قوله: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} ، يقول: لا يحملنكم فراقي، {أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} الآية. وقال ابن جريج: عداوتي وبغضائي وفراقي. وقوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} ، أي: في الزمان والمكان. وقوله: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} . قال ابن كثير: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ} من سالف الذنوب، {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة، {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} ، أي: لمن تاب. قوله عز وجل: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ

فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) } . عن سعيد بن جبير: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} ، قال: كان ضرير البصر. قال سفيان: وكان يقال له: خطيب الأنبياء. وقال ابن زيد في قوله: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} لولا أن نتّقي قومك ورهطك لرجمناك. وعن ابن عباس: قوله: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً} ؟ قال: قَفَا وذلك أن قوم شعيب ورهطه كانوا أعزّ عليهم من الله، وصغر شأن الله عندهم، عزّ ربنا وجلّ ثناؤه. وعن مجاهد: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً} ، قال: نبذتم أمره. قال ابن كثير: لما يئس نبيّ الله شعيب من استجابتهم له قال: يا قوم اعملوا على مكانتكم، أي: طريقتكم، وهذا تهديد شديد، إني عامل على طريقتي سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب مني ومنكم، وارتقبوا، أي: انتظروا، إني معكم رقيب. قوله عز وجل: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) } . قال السدي: إن الله بعث شعيبًا إلى مدين، وإلى أصحاب الأيكة، وهي الغيضة من الشجر، وكانوا مع كفرهم يبخسون الكيل والميزان، فدعاهم فكذّبوه

فقال لهم ما ذكر الله في القرآن، وما ردّوا عليه. فلما عتوا وكذّبوه سألوه العذاب، ففتح الله عليهم بابًا من أبواب جهنّم فأهلكهم الحر منه، فلم ينفعهم ظلّ ولا ماء، ثم إنه بعث سحابة فيها ريح طيّبة، فوجدوا برد الريح وطيبها، فتنادوا: الظُّلّة عليكم بها، فلما اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم انطبقت عليهم فأهلكتهم فهو قوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} . قال ابن كثير: وقوله: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} ، أي: يعيشوا في دارهم قبل ذلك {أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} وكانوا جيرانهم قريبًا منهم في الدار، وشبيهًا بهم في الكفر وقطع الطريق، وكانوا عربًا مثلهم. وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: ألا أبعد الله مدين من رحمته، بإحلال نقمته بهم كما بعدت ثمود. والله أعلم. * * *

الدرس الرابع والثلاثون بعد المائة

الدرس الرابع والثلاثون بعد المائة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ

فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122) وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) } . عن ابن عباس: قوله: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} ، قال: لعنة الدنيا والآخرة {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} ، يعني بالقائم: قرى عامرة والحصيد: قرى خامدة. وقال ابن زيد: اعتذر - يعني ربنا جل ثناؤه - إلى خلقه فقال: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} مما ذكرنا لك من عذاب من عذّبنا من الأمم {وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} ، قال مجاهد: تخسير. وفي الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} . قوله عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي

النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } . عن الضحاك: قوله: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} قال: يوم القيامة يجتمع فيه الخلق كلهم ويشهده أهل السماء وأهل الأرض. وعن ابن عباس: قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} ، يقول: صوت شديد وصوت ضعيف. وقال قتادة: صوت الكافر في النار صوت الحمار، أوّله زفير وآخره شهيق. {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} ، قال: الله أعلم بثنياه، وذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سفع النار بذنوب أصابوها ثم يدخلهم الجنة. وقال ابن زيد في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} ، فقرأ حتى بلغ: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ، قال: وأخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة فقال: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار. وعن ابن عباس: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ، يقول: عطاء غير مقطوع. وقال ابن زيد: غير منزوع عنهم. وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اعملوا فكلُّ مُيَسَّرٌ لما خلق له أما أهل السعادة فميسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فميسَّرون لعمل أهل الشقاوة» . قوله عز وجل: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ

بَصِيرٌ (112) وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) } . عن ابن عباس: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} ، قال: ما وعدوا فيه من خير أو شر. وقوله تعالى: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} ، أي: أن جميعهم والله {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} . قال البغوي: الأصل فيه: وإن كلاً لمن فَوُصِلَتْ (مِنْ) الجارّة (بما) فانقلبت النون ميمًا للإِدغام، فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت إحداهنّ فبقيت (لمّا بالتشديد، و (ما) هنا بمعنى: (من) وهو اسم لجماعة الناس. وعن سفيان في قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} ، قال: استقم على القرآن. وقال ابن زيد في قوله: {وَلاَ تَطْغَوْاْ} ، قال: الطغيان: خلاف الله وركوب معصيته ذلك الطغيان. وعن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} يعني: الركون إلى الشرك. وقال أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم. وعن ابن عباس: لا تميلوا. وقال ابن زيد: الركون الإِرهاق. وعن مجاهد: أقم الصلاة طرفي النهار قال: الفجر وصلاتي العشيّ، يعني: الظهر، والعصر، زلفاً من الليل قال: المغرب والعشاء، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ} الصلوات، {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} . وعن ابن مسعود قال: قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان، ففعلت بها كل شيء، غير أني لم أجامعها قبّلتها ولزمتها ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت، فلم يقل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

شيئًا، فذهب الرجل فقال عمر: لقد ستر الله عليه، فلو ستر على نفسه، فأتْبَعَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصره فقال: ... «فردّوه - فقرأ عليه: - {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} » . فقال معاذ بن جبل: أله وحده يا نبيّ الله أم للناس كافة؟ فقال: «بل للناس كافة» . رواه ابن جرير وغيره. قوله عز وجل: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) } . قال في جامع البيان: {فَلَوْلاَ} فهلا {كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ} ، أي: هلا كان منهم من فيه خير ينهى عن الفساد؟ وهذا تحريض لأمة محمد عليه الصلاة والسلام، كما قال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} الآية. وقال ابن زيد: اعتذر فقال: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ} حتى بلغ: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} فإذا هم الذين نجوا حين نزل عذاب الله وقرأ: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ} . وعن قتادة: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} ، أي: لم يكن من قبلكم من ينه عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم. وقال ابن جريج: يستقلّهم الله من كل قوم. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} .

قال البغوي: أي: لا يهلكهم وأهلها مصلحون فيما بينهم، يتعاطون الإِنصاف ولا يظلم بعضهم بعضًا، وإنما يهلكهم إذا تظالموا. وعن قتادة: قوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} يقول: لجعلهم مسلمين كلهم وعن عطاء: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} ، قال: اليهود والنصارى والمجوس، {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} ، قال: هم الحنيفية. وعن مجاهد: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} ، قال: أهل الباطل، {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} ، قال: أهل الحق: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} ، قال الفراء: خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف. وقال الحسن: أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافًا يضرّهم. قوله عز وجل: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122) وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) } . عن ابن جريج: قوله: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} ، قال: لتعلم ما لقيت الرسل قبلك من أممهم. وقوله تعالى: {وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} . قال البغوي: خصّ هذه السورة تشريفًا، وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور. والله أعلم. * * *

الدرس الخامس والثلاثون بعد المائة

الدرس الخامس والثلاثون بعد المائة [سورة يوسف] مكية، وهي مائة وإحدى عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم {آلر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ (9) قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10)

قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (15) وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ (16) قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21) } . * * *

قوله عز وجل: {آلر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) } . عن مجاهد في قول الله تعالى: {آلر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} قال: بيّن حلاله وحرامه. وقال الزجاج: مبيّن الحق من الباطل والحلال من الحرام. وقال ابن كثير: أي: الواضح الجليّ الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسّرها ويبيّنها. وعن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا، فنزلت: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} . وعن قتادة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} من الكتب الماضية، وأمور الله السالفة في الأمم، {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} . قوله عز وجل: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) } .

عن ابن عباس في قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ، قال: كانت رؤيا الأنبياء وحيًا. وقال قتادة: الكواكب إخوته والشمس والقمر أبواه. وقال السدي: نزل يعقوب الشام فكان همّه يوسف وأخاه فحسده إخوته لما رأوا حبّ أبيه له، ورأى يوسف في المنام كأن أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر له ساجدين، فحدّث أباه بها فقال: {يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} . وعن قتادة: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} فاجتباه واصطفاه وعلّمه من عبر الأحاديث. وقال مجاهد: عبارة الرؤيا. قال ابن زيد: وكان يوسف أعبر الناس. قوله عز وجل: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ (9) قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (15) وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ (16) قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) } .

قال ابن إسحاق: إنما قصّ الله تبارك وتعالى على محمد خبر يوسف، وبغي إخوته عليه وحسدهم إياه حين ذكر رؤياه، لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بغي قومه وحسده، حين أكرمه الله عز وجل بنبوّته ليتأسّى به. وعن السدي: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} ، قال: يعنون بنيامين، قال: وكانوا عشرة، {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} ، قال: في ضلال من أمرنا. وقال ابن زيد: العصبة الجماعة. وعن السدي: {اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} ، قال: تتوبون مما صنعتم. وقال مقاتل يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم. وعن قتادة: {قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ} ذكر لنا أنه روبيل، كان أكبر القوم وهو ابن خالة يوسف، فنهاهم عن قتله، {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} ، يقول: في بعض نواحيها. وقال ابن عباس: والجب بئر بالشام. {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} ، قال: التقطه ناس من الأعراب. وعن قتادة: قوله: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} ، قال: ينشط يلهو. قال ابن كثير: فيقال: إن يعقوب عليه السلام لما بعثه معهم ضمّه إليه وقبّله ودعا له. فذكر السدي وغيره أنه لم يكن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له إلا أن غابوا عن عين أبيه وتواروا عنه، ثم شرعوا يؤذونه بالقول والفعل، ثم جاؤوا به إلى ذلك الجبّ الذي اتفقوا على رميه فيه، فربطوه بحبل ودلّوه فيه، فجعل إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشتمه، وإذا تشبّث بحافات البئر ضربوا على يديه، ثم قطعوا به الحبل من نصف المسافة فسقط في الماء فغمره، فصعد إلى صخرة تكون في وسطه يقال لها: الراعوفة فقام فوقها. قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} . قال مجاهد: أوحي إلى يوسف وهو في الجبّ أن

سينبئهم بما صنعوا وهم لا يشعرون بذلك الوحي. وقال ابن عباس: لما دخل إخوة يوسف {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} ، قال: جيء بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطنّ فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له: يوسف يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجبّ، قال: ثم نقره فطنّ فأتيتم أباكم فقلتم: إن الذئب أكله، وجئتم على قميصه بدم كذب قال: فقال بعضهم لبعض: إن هذا الجام ليخبره بخبركم! قال ابن عباس: فلا نرى هذه الآية نزلت إلا فيهم {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} قال: ثم إنهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف عليه السلام. {وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ} . قال البغوي: قال أهل المعاني: جاؤوا في ظلمة العشاء ليكون أجرأ على الاعتذار بالكذب. وروي أن يعقوب عليه السلام سمع صياحهم وعويلهم فخرج وقال: ما لكم يا بنيُّ هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا. قال: فما أصابكم؟ وأين يوسف؟ {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} ، أي: وما أنت بمصدّق لنا لسوء ظنّك بنا. وعن ابن عباس: {وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} ، قال: لو أكله السبع لخرق القميص. وعنه الحسن قال: لما جاء أخوة يوسف بقميصه إلى أبيهم جعل يقلّبه فيقول: ما عهدت الذئب حليمًا، أكل ابني وأبقى على قميصه. وعن قتادة قال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} ، يقول: بل زيّنت لكم أنفسكم أمرًا، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ، قال مجاهد: ليس فيه جزع، ... {وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ، قال قتادة: أي: على ما تكذبون. قوله عز وجل: {وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى

هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21) } . عن قتادة: {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} ، يقال: أرسلوا رسولهم فلما {أَدْلَى دَلْوَهُ} تشبّث بها الغلام، {قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ} تباشروا به حين أخرجوه. وعن مجاهد: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} ، قال صاحب الدلو ومن معه، قالوا لأصحابهم: إنما استبضعناه، خيفة أن يشركوهم فيه إن علموا بثمنه، وتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه: استوثق منه لا يأبق، حتى وقفوه بمصر. وقوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} قال ابن عباس: باعه إخوته بثمن بخس. قال الضحاك: البخس الحرام. وقال الشعبي: قليل. وقال ابن عباس: عشرون درهمًا. وعن الضحاك: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} قال: إخوته زهدوا فيه فلم يعلموا منزلته من الله ونبوته ومكانه. وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} ، قال قتادة: وهي امرأة العزيز. وقال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرّس في يوسف فقال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} ، وأبو بكر حين تفرّس في عمر، والتي قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} . وقال ابن كثير: يقول تعالى: كما أنقذنا يوسف من إخوته كذلك مكنَّا

ليوسف في الأرض يعني: بلاد مصر {وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} قال مجاهد، والسدي: هو تعبير الرؤيا، {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} ، أي: إذا أراد شيئًا فلا يردّ ولا يمانع ولا يخالف، بل هو الغالب لما سواه. قال سعيد بن جبير في قوله: {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} ، أي: فعّال لما يشاء. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} ، يقول: لا يدرون حكمته في خلقه، وتلطّفه وفعله لما يريد. والله أعلم. * * *

الدرس السادس والثلاثون بعد المائة

الدرس السادس والثلاثون بعد المائة {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ

هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ

الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) } . عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس يقول في قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} ، قال: بضعًا وثلاثين سنة. وقال الضحاك: عشرين سنة. وروي عن ابن عباس أنه قال: ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين. وقال الشعبي ومالك: الأشُدّ: الحلمُ. وعن مجاهد: {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} ، قال: العقل والعلم قبل النبوة. وعن ابن إسحاق: {ولما بلغ أشده راودته التي هو في بيتها عن نفسه، امرأة العزيز. {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} ، قال سعيد بن جبير قالت: تعاله. وعن ابن عباس: {هَيْتَ لَكَ} ، قال: هلمّ لك. وقال مجاهد: تدعوه بها إلى نفسها. {قَالَ مَعَاذَ اللهِ} ، قال ابن جرير: يقول: أعتصم بالله من الذي تدعوني إليه

وأستجير به منه. وعن ابن إسحاق: {قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي} ، يقول: إنه سيّدي، {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أمّنني على بيته وأهله، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، قال: هذا الذي تدعوني إليه ظلم ولا يفلح من عمل به. وعن السدي: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} ، قال: قالت له: يا يوسف ما أحسن شعرك! قال: هو أول ما ينتثر من جسدي، قالت: يا يوسف ما أحسن وجهك! قال: هو للتراب يأكله، فلم تزل حتى أطعمته، فهمّت به وهمّ بها، فدخلا البيت، {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} وذهب ليحلّ سراويله، فإذا هو بصورة يعقوب قائمًا في البيت، قد عضّ على إصبعه يقول: يا يوسف تُوَاقعها؟ فإنما مَثلُك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق، ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات ووقع إلى الأرض، لا يستطع أن يدفع عن نفسه، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يعمل عليه، ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت، فيدخل النمل في أصل قرنيه، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، فربط سراويله، وذهب ليخرج يشتدّ فأدركته، فأخذت بمؤخّر قميصه من خلفه فخرقته، حتى أخرجته منه وسقط، وطرحه يوسف واشتدّ نحو الباب، {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} ، قال: جالسًا عند الباب وابن عمها معه، فلما رأته {قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ؟ إنه روادني عن نفسي فدفعته عن نفسي فشققت قميصه، قال يوسف: بل هي روادتني عن نفسي وفررت منها فأدركتني فشقّت قميصي، فقال ابن عمها: تبيان هذا في القميص، فإن كان القميص {قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} فيأتي بالقميص فوجده قدّ من دبر، {قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} . وقال نوف الشيباني: ما كان يوسف يريد أن يذكره حتى قالت: {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ؟ فغضب فقال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} . قوله عز وجل: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا

عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) } . عن مجاهد: قوله: {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} ، قال: كان حبًا في شغفها. وقال الضحاك: هو الحب اللازق بالقلب. وعن السدي: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} ، يقول: بقولهن. وقال ابن إسحاق: لما أظهر النساء ذلك من قولهنّ: تراود عبدها، مكرًا بها لتريهنّ يوسف، وكان يوصف لهن بحسنه وجماله، {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} ، قال سعيد بن جبير: طعامًا وشرابًا ومتّكأ. قال السدي: يتكئن عليه. وعن ابن عباس: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً} ، قال: أعطتهن أترجًّا، وأعطت كل واحدة منهن سكيناً وقالت: اخرج عليهن فلما رأينه أَكبرنه، قال ابن زيد: فخرج فلما رأينه أعظمنه وبهتن {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} ، قال السدي: جعل النسوة يحززن أيديهنّ يحسبن أنهن يقطعن الأترجّ، {وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً} ، قال ابن زيد: ما هكذا تكون البشر. وقال البغوي: أي: معاذ الله أن يكون هذا بشرًا، {إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} ، وعند السدي: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ} ،

تقول: بعد ما حلّ السراويل استعصى، لا أدري ما بدا له. وقال ابن عباس: {فَاسَتَعْصَمَ} ، يقول: فامتنع. وعن السدي: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} من الزنا. قال البغوي: وإنما صرّحت به لأنها علمت أن لا ملامة عليها منهن، وقد أصابهن ما أصابها من رؤيته، فقلن له: أطع مولاتك، فقالت راعيل: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ} . {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} ، قال ابن زيد: إلا يكن منك أنت العون والمنعة، لا يكن مني ولا عندي. وعن ابن إسحاق: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، أي: نجّاه من أن يركب المعصية فيهن، {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ} ببراءته مما اتهم به من شقّ قميصه من دبر، ... {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} ، قال السدي: إلى الوقت الذي يرون فيه رأيهم، جعل الله ذلك الحبس ليوسف فيما ذكر عقوبة له من همه بالمرأة وكفارة لخطيئته. وقال ابن كثير: يقول الله تعالى: ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين، أي: إلى مدة وذلك بعدما عرفوا براءته، وظهرت ... {الآيَاتِ} وهي الأدلّة على صدقه في عفته ونزاهته، وكأنهم والله أعلم إنما سجنوه لما شاع الحديث، إيهامًا أنه راودها عن نفسها وأنهم سجنوه على ذلك. قوله عز وجل: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا

بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) } . قال ابن إسحاق: فطرح في السجن يعني: يوسف، {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ} غلامان كانا للملك الأكبر الريان بن الوليد، كان أحدهما على شرابه والآخر على بعض أمره، في سخطة سخطها عليهما. وقال السدي: إن الملك غضب على خبازه، بلغه أنه يريد أن يسمَّه فحبسه، وحبس صاحب شرابه، ظنّ أنه مالأه على ذلك فحبسهما جميعًا. وقوله تعالى: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} . قال ابن كثير: والمشهور عند الأكثرين أنهما رأيا منامًا وطلبا تعبيره. وعن الضحاك في قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ، قال: كان يوسّع للرجل في مجلسه ويتعاهد المرضى.

قال البغوي: فلما قصَّا عليه الرؤيا كره يوسف أن يعبّر لهما لمّا سألاه، لِمَا علم في ذلك من المكروه على أحدهما، فأعرض عن سؤالهما، وأخذ في غيره من إظهار المعجزة والدعاء إلى التوحيد و {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} قيل: أراد به في النوم يقول: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في نومكما، {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} في اليقظة، وقيل: أراد به في اليقظة يقول: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ} من منازلكما، {تُرْزَقَانِهِ} تطعمانه وتأكلانه، {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} بقدره ولونه والوقت الذي يصل فيه إليكما، {قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا} ، مثل معجزة عيسى عليه السلام. {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} ثم دعاهما إلى الإسلام فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ} ، أي: آلهة شتى، {خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} ثم فسر رؤياهما فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا} وهو صاحب الشراب، {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} والعناقيد الثلاثة: ثلاثة أيام يبقى في السجن ثم يدعوه الملك بعد الثلاثة ويردّه إلى منزلته التي كان عليها، {وَأَمَّا الآخَرُ} ، يعني: صاحب الطعام فيدعوه الملك بعد ثلاثة أيام، والسلال الثلاث: ثلاثة أيام يبقى في السجن ثم يخرجه فيأمر به {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} . قال ابن مسعود: ولما سمعا قول يوسف قالا: ما رأينا شيئًا إنمّا كنّا نلعب، قال يوسف: {قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} ، أي: فرغ من الأمر الذي عنه تسألان، ووجب حكم الله عليكما بالتي أخبرتكما به، رأيتما أو لم تريا. وقال - يعني يوسف - عند ذلك: {لِلَّذِي ظَنَّ} علم {أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا} وهو الساقي ... {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ، يعني: سيدك الملك وقل له: إن غلامًا محبوسًا ظلمًا طال حبسه، {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} قيل: أنسى

الشيطان الساقي ذكر يوسف للملك، تقديره: فأنساه الشيطان ذكره. وقال ابن عباس - وعليه الأكثرون -: أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه حين ابتغى الفَرَج، من غيره واستعان بمخلوق، وتلك غفلة عرضت ليوسف من الشيطان {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} وأكثر المفسرين على أن البضع في هذه الآية سبع سنين. انتهى ملخصًا. قوله عز وجل: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) } . قال السدي: إن الله أرى الملك في منامه رؤيا هالته، فرأى: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} فجمع السحرة، والكهنة، والقافة، فقصّها عليهم، فقالوا: أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلامِ بعالمين. وعن ابن عباس: قوله: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} ، قال: مشتبهة. وقال الضحاك هي الأحلام الكاذبة. وقال ابن كثير: اعتذروا إليه بأنها {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} ، أي: أخلاط أحلام اقتضته رؤياك هذه، {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ} ، أي: لو كانت رؤيا صحيحة

من أخلاط لما كان لنا معرفة بتأويلها، وهو تعبيرها، فعند ذلك تذكّر الذي نجا ذينك الفتيّين، وكان الشيطان قد أنساه ما وصّاه به يوسف من ذكره أمره للملك، فعند ذلك تذكّر {بَعْدَ أُمَّةٍ} ، أي: مدة فقال لهم - أي: للملك والذين جمعهم لذلك-: {أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ} أي: بتأويل هذا المنامُ {فَأَرْسِلُونِ} أي: فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن ومعنى الكلام فبعثوه فجاء فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} . وقال البغوي: والصدّيق الكثير الصدق؛ {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} فإن الملك رأى هذه الرؤيا، {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} فقال له يوسف معبّرًا ومعلّمًا: أمّا البقرات السمان، والسنبلات الخضر، فسبع سنين مخاصيب، والبقرات العجاف، والسنبلات اليابسات فالسنوات المجدبة، فذلك قوله تعالى إخبارًا عن يوسف: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} هذا خبر بمعنى الأمر، يعني: ازرعوا سبع سنين على عادتكم في الزراعة والدأب: العادة، وقيل: بجدّ واجتهاد {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ} أمرهم بحفظ الأكثر، والأكثر بقدر الحاجة، {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ} تحرزون وتدّخرون للبذر، {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} معناه: يعصرون العنب خمرًا والزيتون زيتًا والسمسم دهنًا. انتهى ملخصًا. وقال ابن عباس: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ} ، قال: أخبرهم بشيء لم يسألوه عنه، وكان الله قد علّمه إياه، {عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} بالمطر، {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} ، يعني: يحتلبون. وقال قتادة: يعصرون الأعناب، والزيتون، والثمار من الخصيب، هذا علم آتاه الله يوسف لم يسئل عنه. وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: فإن قيل: من أين أخذ قوله: ... {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} ؟ فإن بعض المفسرين قال: هذه

زيادة من يوسف في التعبير بوحي أوحي إليه، فالجواب: ليس الأمر كذلك، وإنما أخذها من رؤيا الملك فإن السنين المجدبة ... سبع فقط، فدلّ على أنه سيأتي بعدها عام عظيم الخصب كثير البركات، يزيل الجدب العظيم الحاصل من السنين المجدبة، الذي لا يزيلها عام خصب عادي، بل لا بد فيه من خلاف العادة وهذا واضح وهو من مفهوم العدد. قوله عز وجل: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53) } . قال السدي: لما أتى الملك رسوله فأخبره قال: {ائْتُونِي بِهِ} فلما أتاه الرسول، ودعاه إلى الملك أبى يوسف من الخروج معه و {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} الآية. قال ابن عباس: لو خرج يوسف يومئذٍ قبل أن يعلم الملك بشأنه، ما زالت في نفس العزيز منه حاجة، يقول: هذا الذي راود امرأته. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يرحم الله يوسف إن كان ذا أناة، فلو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إليّ لخرجت سريعًا، إن كان لحليمًا ذا أناة» . رواه ابن جرير وغيره.

وعن ابن جريج قوله: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} ، قال: أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن. قال ابن جرير: عن ابن إسحاق: فلما جاء الرسول الملك من عند يوسف بما أرسله إليه، جمع النسوة و {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} ؟ ويعني بقوله: {مَا خَطْبُكُنَّ} ما كان أمركنّ وما كان شأنكنّ {إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} ؟ فأجبنه فقلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالتِ امرأة العزيز الآن حصحص الحق. تقول: الآن تبيّن الحق وانكشف فظهر {أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} . {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} . قال ابن كثير: تقول: إنما اعترفت بهذا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة، {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} تقول المرأة: ولست أبّرئ نفسي، فإن النفس تتحدّث، وتتمنّى ولهذا راودته لأن النفس أمارة بالسوء {إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي} ، أي: إلا من عصمه الله تعالى، {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام. انتهى. قوله عز وجل: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57) } . قال ابن إسحاق: {وَقَالَ الْمَلِكُ} ، يعني: ملك مصر الأكبر، حين تبيّن عذر يوسف، وعرف أمانته وعلمه، قال لأصحابه: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} ، يقول:

أجعله من خلصائي {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} . قال ابن كثير: مدح نفسه، ويجوز للرجل ذلك إذا جهل أمره للحاجة. {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} ، يعني: أرض مصر، {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} . قال ابن جرير: يتّخذ منها منزلاً حيث شاء بعد الضيق والحبس. وقال السدي: يتصرّف فيها كيف يشاء. {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . قال ابن كثير: أي: وما أضعنا صبر يوسف على أذى إخوته، وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز، فلهذا أعقبه الله - عز وجل - السلامة والنصر والتأييد {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} كقوله في حق سليمان عليه السلام: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} . والله أعلم. * * *

الدرس السابع والثلاثون بعد المائة

الدرس السابع والثلاثون بعد المائة {وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60) قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71)

قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُواْ تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذاً لَّظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) } . * * *

قوله عز وجل: {وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60) قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) } . قال ابن إسحاق: لما اطمأن يوسف في ملكه، وخرج من البلاء الذي كان فيه، وخلت السنون المخصبة، جهد الناس في كل وجه، وضربوا إلى مصر يلتمسون بها الميرة من كل بلد، وكان يوسف حين رأى ما أصاب الناس من الجهد قد واسى بينهم، وكان لا يحمل للرجل إلا بعيرًا واحدًا، تقسيطًا بين الناس، وتوسعيًا عليهم، فقدم إخوته فيمن قدم عليه، يلتمسون الميرة من مصر {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} لما أراد الله أن يبلغ يوسف عليه السلام ما أراد. وقال السدي: أصاب الناس الجوع، حتى أصاب بلادَ يعقوب التي هو بها، فبعث بنيه إلى مصر، وأمسك أخا يوسف بنيامين، فلما دخلوا على يوسف عرفهم وهم له منكرون. فلما نظر إليهم قال: أخبروني ما أمركم؟ فإني أنكر لسانكم، قالوا: نحن قوم من أرض الشام. قال: فما جاء بكم؟ قالوا: جئنا نمتاز طعامًا. قال: كذبتم أنتم عيون كم أنتم؟ قالوا: عشرة. قال: أنتم عشرة آلاف، كل رجل منكم أمير ألف، فأخبروني خبركم. قالوا: إنا إخوة بنو رجل صدّيق، وإنا كنا اثنى عشر، وكان أبونا يحب أخانا، وإنه ذهب معنا للبرية، فهلك منا فيها، وكان أحبّنا إلى أبينا، قال: فإلى من سكن أبوكم بعده؟ قالوا: إلى أخ لنا أصغر منه، قال: فكيف تخبروني أن أباكم صدّيق، وهو يحب الصغير منكم دون الكبير؟ ائتوني

بأخيكم هذا حتى أنظر إليه {فإن فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} . وعن مجاهد: {وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} يوسف يقول: أنا خير من يضيف بمصر. وقال ابن إسحاق: لما جهزهم يوسف فيمن جهز من الناس، حمل لكل رجل منهم بعيرًا بعدّتهم، ثم قال لهم: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ} أحمل لكم بعيرًا آخر، أو كما قال: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} أي: لا أبخس الناس شيئًا {وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} أي: خير لكم من غيري. {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ} لا تقربوا بلدي، {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} ثم أمر ببضاعتهم التي أعطاهم بها ما أعطاهم من الطعام، فجعلت في رحالهم وهم لا يعلمون. قوله عز وجل: {فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68) } . قال ابن إسحاق: خرجوا حتى قدموا على أبيهم، وكان صاحب بادية له شاء، وإبل فقالوا: يا أبانا قدمنا على خير رجل، أنزلنا فأكرم منزلنا، وكَالَ لنا فأوفانا، ولم يبخسنا، وقد أمرنا أن نأتيه بأخ لنا من أبينا، وقال: إن أنتم لم تفعلوا

فلا تقربنّي، ولا تدخلنّ بلدي، فقال لهم يعقوب: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} . قال البغوي: أي: كيف آمنكم عليه وقد فعلتم بيوسف ما فعلتم؟ ... {فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} . وقال ابن كثير في قوله: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ} ، أي: هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل؟ تغيبونه علي وتحولون بيني وبينه {فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وسيرحم كبري وضعفي ووجدي بولدي، وأرجو من الله أن يردّه عليّ، ويجمع شملي به إنه أرحم الراحمين. وقوله تعالى: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} ، قال قتادة: ما نبغي من وراء هذا؟ إن بضاعتنا ردّت إلينا، وقد أوفى لنا الكيل، {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} ، قال مجاهد: إلا أن تهلكوا جميعًا، {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} عهدهم، {قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} ، قال الضحاك: خاف عليهم العين. وعن قتادة: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} أي: مما علمناه. وقال أيضًا: إنه لعامل بما علم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} . قوله عز وجل: {وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ

السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُواْ تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77) } . قال ابن إسحاق: لما دخلوا على يوسف قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئناك به، فذُكر لي أنه قال لهم: قد أحسنتم وأصبتم، وستجدون ذلك عندي أو كما قال. ثم قال: إني أراكم رجالاً، وقد أردت أن أكرمكم، ودعا ضافته فقال: أنزل كل رجلين على حده، ثم أكرمهما وأحسن ضيافتهما ثم قال: إني أرى هذا الرجل الذي جئتم به ليس معه ثان، فسأضمه إلي فيكون منزله معي، فأنزلهم رجلين رجلين في منازل شتى، وأنزل أخاه معه، فأواه إليه فلما خَلاَ به {قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ} أنا يوسف {فَلاَ تَبْتَئِسْ} بشيء فعلوه في ما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا، ولا تعلمهم شيء مما أعلمتك. وعن قتادة: قوله: {فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} ، يقول: لما قضى الله لهم حاجتهم ووفّاهم كيلهم، {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} ، قال الحسن: الصواع والسقاية سواء، هم الإناء الذي يشرب فيه. قال ابن إسحاق: ثم جهّزهم بجهازهم، وأكرمهم، وأعطاهم، وأوفاهم، وحمل لهم بعيرًا بعيرًا، وحمل لأخيه بعيرًا باسمه كما حمل لهم، ثم أمر بسقاية الملك وهو الصواع، وزعموا أنها كانت من فضة، فجعلت في رحل أخيه بنيامين، ثم أمهلهم حتى إذا انطلقوا وأمعنوا من القرية، أمر

بهم فأُدركوا فاحتُبسوا، ثم نادى مناد: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} قفوا، وانتهى إليهم رسوله، فقال لهم - فيما يذكرون -: ألم يكرمكم ضيافتكم ويوفّكم كيلكم، ويحسن منزلتكم، ويفعل بكم ما لم يفعل بغيركم، وأدخلناكم علينا في بيوتنا ومنازلنا؟ أو كما قال لهم، قالوا: بلى وما ذاك؟ قال: سقاية الملك فقدناها، ولا نتّهم عليها غيركم، {قَالُواْ تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} . قال البغوي: فإن قيل: كيف قالوا: لقد علمتم ومن أين علموا ذلك؟ قيل: قالوا: لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض، فإنا منذ قطعنا هذا الطريق لم نرزأ أحدًا شيئًا فاسئلوا عنا من مررنا به: هل ضررنا أحدًا؟ وعن ابن عباس في قوله: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} ، يقول: كفيل. وقال معمر: بلغنا في قوله: {قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ} ؟ أخبروا يوسف بما يحكم في بلادهم، أنه من سرق أخذ عبدًا فقالوا: ... {جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} ، قال ابن إسحاق: أي: سلّم به، {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} ، أي: كذلك نصنع بمن سرق منا. وعن قتادة: قوله: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ} ذكر لنا أنه كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تائبًا مما قذفهم به، حتى بقي أخوه، وكان أصغر القوم قال: ما أرى هذا أخذ شيئًا قالوا: بلى فاستبره، ألا وقد علموا حيث وضعوا سقايتهم، {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ} ، قال ابن إسحاق: فأخذ برقبته فانصرف به إلى يوسف، يقول الله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ} قال مجاهد: إلا فعلة كادها الله فاعتلّ بها يوسف. وعن قتادة: قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ} ، يقول: ما كان ذلك في قضاء الملك أن يتعبّد رجلاً بسرقة. وقال معمر: كان في حكم الله: أن من سرق ضوعف عليه الغرم.

وعن السدي: {إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ} ولكن صنعنا له بأنهم قالوا: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} . وقال ابن جريج قوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء} يوسف وإخوته أوتوا علمًا فرفعنا يوسف فوقهم في العلم. وعن ابن عباس: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ، قال: يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كل عالم. قال ابن إسحاق: لما رأى بنو يعقوب ما صنع أخو يوسف ولم يشكّوا أنه سرق، قالوا أسفًا عليهم لِمَا دخل عليهم في أنفسهم تأنيبًا له، {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} فلما سمعها يوسف قال: {أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} سرًّا في نفسه {وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} {وَاللهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} . قال مجاهد: أول ما دخل على يوسف من البلاء أن عمته ابنة إسحاق، وكانت أكبر ولد إسحاق، وكانت إليها منطقة إسحاق وكانوا يتوارثونها بالكبر، وكان من اختبأها ممن وليها كان له سلمًا لا ينازع فيه يصنع فيه ما شاء، وكان يعقوب حين ولد له يوسف، كان قد حضنته عمته، فكان معها وإليها، فلم يحب أحد شيئًا حبها إياه، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات ووقعت نفس يعقوب عليه، فأتاها فقال: يا أخيّة سلّمي إليّ يوسف، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة، فقالت: والله ما أنا بتاركته، والله ما أقدر أن يغيب عني ساعة، قال: فوالله ما أنا بتاركه، قالت: فدعه عندي أيامًا أنظر إليه وأسكن عنه لعل ذلك يسلّيني عنه، أو كما قالت، فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق فانظروا من أخذها ومن أصابها، فالتمست ثم قالت: اكشفوا أهل البيت، فكشفوهم فوجدوها مع يوسف، فقالت: والله إنه لي لسلم أصنع فيه ما شئت قال: وأتاها يعقوب، فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذاك، إن كان فعل ذلك، فهو سلم لك، ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت. قال: فهو الذي يقول إخوة يوسف: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} . وعن قتادة: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} أما الذي أسرّ في نفسه فقوله: {أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} .

وقال السدي: لما استخرجت السرقة من رحل الغلام انقطعت ظهورهم وقالوا: يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء، حتى أخذت هذا الصواع، فقال بنيامين: بل بنو راحيل الذين لا يزالون فيهم منكم بلاء ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية، وَضَعَ هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم، فقالوا: لا تذكر الدراهم فنؤخذ بها. قوله عز وجل: {قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذاً لَّظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ ... وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) } . قال ابن كثير: لما تعيّن أخذ بنيامين، وتقرّر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم، شرعوا يترفّقون له ويعطفونه عليهم فقالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً

كبيراً يعنون: وهو يحبه حبًا شديدًا ويتسلّى به عن ولده الذي فقده، {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذاً لَّظَالِمُونَ} . قال البغوي: ولم يقل: إلا من سرق تحرّزًا من الكذب، {إِنَّا إِذاً لَّظَالِمُونَ} إن أخذنا بريئًا بمجرم. قال ابن إسحاق: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ} يئسوا منه ورأو شدّته في أمره {خَلَصُواْ نَجِيّاً} ، أي: خلا بعضهم ببعض ثم قالوا: ماذا ترون؟ فقال: روبيل، كما ذكر لي، وكان كبير القوم: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ومن قبل ما فرطتم في يوسف. قال ابن كثير: قال لهم: {أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللهِ} لتردّونه إليه؟ فقد رأيتم كيف تعذّر عليكم ذلك، مع ما تقدّم لكم من إضاعة يوسف عنه {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ} ، أي: لن أفارق هذه البلدة {حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي} في الرجوع إليه راضيًا عني، {أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} ، أي: قد وجدت السرقة في رحله، ونحن ننظر لا علم لنا بالغيب {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} . {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} ، قال ابن عباس: يعنون مصر، ... {وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} ، قال ابن إسحاق: أي: فقد علموا ما علمنا، وشهدوا ما شهدنا إن كنت لا تصدقنا، إنَّا لصادقون. {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ، قال ابن إسحاق: اتّهمهم، وظنّ أن ذلك كفعلتهم بيوسف {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أعرض عنهم وتتامّ حزنه، ... {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} .

قال البغوي: والأسف: أشد الحزن. {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} ، يعني: عمي بصره، {فَهُوَ كَظِيمٌ} ، قال الضحاك: كئيب حزين، وقال قتادة: ساكت لا يشكوا أمره إلى مخلوق. قال الحسن: كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقى معه ثمانون عامًا، لا تجفّ عينا يعقوب، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. وعن قتادة: قوله: {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} ، قال: لا تزال ذكر يوسف {حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً} هرمًا، {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} ، قال: أو تموت. قال ابن إسحاق: لما ذكّر يعقوب بيوسف قالوا - يعني ولده الذين حضروه في ذلك الوقت جهلاً وظلمًا -: {تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً} ، أي: فاسدًا لا عقل لك، {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} ، قال يعقوب عن علم بالله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} لما رأى من فظاظتهم وغلظتهم، لم أَشْكُ ذلك إليكم {وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} . قال البغوي: والبث أشد الحزن، وسميّ بذلك لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثّه أي يظهره. وعن ابن عباس في قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ، يقول: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني ساجدٌ له. وقال قتادة: ذكر لنا أن يعقوب لم ينزل به بلاء قطّ إلا أتى حسن ظنه بالله من ورائه. قال ابن إسحاق: ثم إن يعقوب قال لبنيه وهو على حسن ظنه بربه، مع الذي هو فيه من الحزن {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ} إلى البلاد التي منها جئتم، {فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ} ، أي: من فرجه، {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} . والله أعلم. * * *

الدرس الثامن والثلاثون بعد المائة

الدرس الثامن والثلاثون بعد المائة {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُواْ تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُواْ تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96) قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) } . * * *

قوله عز وجل: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُواْ تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) } . قال ابن إسحاق: وخرجوا إلى مصر راجعين إليها {بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} أي: قليلة لا تبلغ ما كانوا يتبايعون به، إلاَّ أن يتجاوز لهم فيه، وقد رأوا ما نزل بأبيهم، وتتابع البلاء عليه في ولده وبصره، حتى قدموا على يوسف {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} رجاء أن يرحمهم في شأن أخيهم، {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} قال ابن عباس: [رثة المتاع] : خلق الحبل، والغرارة، والشيء وقال الضحاك: كاسدة لا تنفق. {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} ، قال ابن إسحاق: أي: أعطنا ما كنت تعطينا قبل فإن بضاعتنا مزجاة، {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} ، قال السدي: تفضل علينا. وعن سعيد بن جبير: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} لا تنقصنا من السعر من أجل ردي دراهمنا، {إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} ، قال ابن إسحاق: وذكر لي أنهم لما كلّموه بهذا الكلام

غلبته نفسه فارفض دمعه باكيًا، ثم باح لهم بالذي يكتم منهم، فقال {هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} ولم يعن بذكر أخيه ما صنعه فيه حين أخذه ولكن للتفريق بينه وبين أخيه، إذ صنعوا بيوسف ما صنعوا. قال البغوي: {إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} بما يؤول إليه أمر يوسف. وقال ابن كثير: أي: إنما حملكم على هذا الجهل بمقدار هذا الذي ارتكبتموه، كما قال بعض السلف كل من عصى الله فهو جاهل، وقرأ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} الآية. قال ابن إسحاق: لما قال لهم ذلك كشف الغطاء، فعرفوه، فقالوا: {أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ، وقال السدي: لما قال لهم ذلك اعتذروا إليه و {قَالُواْ تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} فيما كنا صنعنا بك. وعن ابن إسحاق: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} ، أي: لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم، {يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} حين اعترفوا بذنوبهم وعن السدي: قال لهم يوسف: ما فعل أبي؟ قالوا: لما فاته بنيامين عمي من الحزن قال: {اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} . قوله عز وجل: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُواْ تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96) قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا ... كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) } .

عن ابن عباس في قوله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} ، قال: هاجت ريح فجاءت بريح يوسف من مسيرة ثمان ليال، فقال: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} ، قال تسفّهون، ... {قَالُواْ تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} ، يقول: خطئك القديم. قال سفيان: من حبّك ليوسف. قال ابن إسحاق: {فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ} ألقى القميص عَلَى وَجْهِهِ {فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، قال ابن جريج: أخر ذلك إلى السحر. قوله عز وجل: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) } . قال السدي: فحملوا إليه أهلهم وعيالهم، فلما بلغوا مصر كلّم يوسف الملك الذي فوقه فخرج هو والملوك يتلّقونهم، فلما بلغوا مصر قال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين. {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} . قال حجاج: بلغني أن يوسف والملك خرجًا في أربعة آلاف يستقبلون يعقوب وبنيه: وعن ابن إسحاق: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} ، قال: أباه وأمه. وعن مجاهد: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} ، قال: السرير، {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً} ، قال ابن إسحاق: وقعوا له سجودًا وكانت تلك تحية الملوك في ذلك الزمان، أبوه وأمه وإخوته. وعن سلمان

الفارسي قال: كان بين رؤيا يوسف إلى أن رأى تأويلها أربعون سنة. وقال ابن مسعود: دخل بنو إسرائيل مصر وهم ثلاثة وستون إنسانًا، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف. وعن قتادة: قوله: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ} لطف ليوسف وصنع له، حتى أخرجه من السجن، وجاء بأهله من البدو، ونزع من قلبه نزغ الشيطان، وتحريشه على إخوته. وقال قتادة: لما جُمع ليوسف شمله، وتكاملت عليه النعم سأل لقاء ربه فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} . وقال ابن إسحاق: قال يوسف حين رأى ما رأى من كرامة الله وفضله عليه وعلى أهل بيته، حين جمع الله شمله وردّه على والده، وجمع بينه وبينه فيما هو فيه من الملك والبهجة: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} إلى قوله: {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ، ثم ارعوى يوسف وذكر أن ما هو فيه من الدنيا بائد وذاهب، فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} . قوله عز وجل: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) } . عن قتادة: قوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} ، يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما كنت لديهم وهم يلقونه في غيابة الجب، {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} ، أي: بيوسف.

وعن قتادة أيضًا في قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} قال: تسألهم: من خلقهم ومن خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره. وقال ابن زيد في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} قال: {هَذِهِ سَبِيلِي} هذا أمري، وسنّتي، ومنهاجي {أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} قال: وحق والله على ما اتّبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه، ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهي عن معاصي الله. قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) } . عن قتادة: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل العمود. وعن ابن عباس: ... {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} أيس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبتهم. وعن قتادة: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} ، قال: من قومهم، {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} ، قال: وعلموا أنهم قد كذبوا {جَاءهُمْ نَصْرُنَا} . قال ابن كثير: يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عند ضيق الحال، وانتظار الفرج من الله، في أحوج الأوقات إلى

ذلك، كقوله تعالى: {وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ} الآية. وقوله تعالى: {فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء} . قال البغوي: قرأ العامة: بِنُونَيْنِ، وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم: بِنُونِ واحدة مضمومة. وعن ابن عباس: فَنُنجِّيَ مَن نشَاء: فَنُنجِّيَ الرسل مَن نشَاء {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} وذلك أن الله تبارك وتعالى بعث الرسل، فدعوا قومهم وأخبروهم أنه من أطاع نجا، ومن عصا عذّب وغوى. وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} . قال ابن كثير: يقول تعالى: لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم، وكيف نجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين، {لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَلْبَابِ} وهو العقول. وقوله تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} ، قال قتادة: والفرية الكذب، {وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} والفرقان تصديق الكتب التي قبله، ويشهد عليها {وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . وقال البغوي في قوله تعالى: {وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ} مما يحتاج العباد إليه من الحلال والحرام، والأمر والنهي. والله أعلم. * * *

الدرس التاسع والثلاثون بعد المائة

الدرس التاسع والثلاثون بعد المائة [سورة الرعد] مدنية، وآياتها 43، نزلت بعد سورة محمد بسم الله الرحمن الرحيم {آلمر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)

سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ (14) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) } . * * *

قوله عز وجل: {آلمر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) } . قال مجاهد: {آلمر} فواتح يفتتح بها كلامه. وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} ، أي: هذه آيات الكتاب. قال ابن عباس أراد بالكتاب القرآن {وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} . وقوله تعالى: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} ، قال قتادة: رفعها بغير عمد. وقال ابن كثير: يخبر تعالى عن كمال قدرته، وعظيم سلطانه، أنه الذي بإذنه وأمره رفع السماوات بغير عمد، بل بإذنه وأمره وتسخير رفعها عن الأرض بعدًا لا تنال، ولا يدرك مداها. وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} .

قال ابن كثير: أي: من كل شكل صنفان. وقال في فتح البيان: أي: صنفين أسود وأبيض، أكبر وأصغر، حلوًا وحامضًا. وعن مجاهد: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} ، قال: السبخة والعذبة، والمالح والطيّب. وقال ابن عباس: متجاورات جميعًا، تنبت هذه، وهذه إلى جنبها لا تنبت. وعن سعيد بن جبير في قوله: {وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} ، قال: مجتمع وغير مجتمع تُسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل. قال: الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ، والكمثرى، والعنب الأبيض والأسود، وبعضها أكثر حملاً من بعض، وبعضه حلو وبعضه حامض، وبعضه أفضل من بعض. وقال مجاهد: كمثل صالح بني آدم وخبيثهم، أبوهم واحد. قوله عز وجل: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) } . عن قتادة: قوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ} إن عجبت يا محمد ... {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} عجب الرحمن تبارك وتعالى من تكذيبهم بالبعث بعد الموت. وقال ابن زيد في قوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} ، قال: إن تعجب من تكذيبهم، وهم قد رأوا من قدرة الله وأمره، وما ضرب لهم من الأمثال، فأراهم من حياة الموات في الأرض الميتة، إن تعجب من هذه فتعجّب من قولهم: {أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، ولا يرون أنا خلقناهم من نطفة، فالخلق من نطفة أشد أم الخلق من تراب وعظام؟

وعن قتادة: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} ، قال بالعقوبة قبل العافية {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ} ، قال: العقوبات، {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} هذا قول مشركي العرب، قال الله: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} لكل قوم داع يدعوهم إلى الله. قوله عز وجل: {اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11) } . عن ابن عباس: {اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} ، قال: ما رأت المرأة من يوم دمًا على حملها زاد في الحمل يومًا. وقال أيضًا: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} ، يعني: السقط، {وَمَا تَزْدَادُ} ، يقول: ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تمامًا، وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومنهن من تحمل تسعة أشهر، ومنهم من تزيد في الحمل، ومنهن من تنقص، فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله وكل ذلك بعلمه. {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} ، قال قتادة: أي: والله لقد حفظ عليهم رزقهم وآجالهم، وجعل لهم أجلاً معلومًا. وعن الحسن في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} ، قال الملائكة: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} ، قال ابن عباس: فإذا جاء القدر خلّوا عنه. وقال مجاهد: ما من عبد إلا به ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءك، إلا شيئًا بإذن الله فيصيبه {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} .

قال البغوي: من العافية والنعمة {حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} من الحال الجميلة فيعصوا ربهم {وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} . قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ (14) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) } . قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} ، قال مجاهد: الذي فيه الماء، {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} عن الأسود بن يزيد: أنه كان إذا سمع الرعد قال: (سبحان الذي يسبّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان إذا سمع صوت الرعد الشديد قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» . وعن ابن عباس مرفوعًا: «إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله، فإنه لا يصيب

ذاكرًا» . رواه الطبراني. وعن أبي سعيد مرفوعًا: «تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة» . وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً أنكر القرآن وكذّب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل الله صاعقة فأهلكته وأنزل الله: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} ، أي: القوة والحيلة. وعن ابن عباس: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} ، قال: شهادة أن لا إله إلا الله. وعن عليّ {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} ، قال: التوحيد، {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} ، قال: كالرجل العطشان يمدّ يديه إلى البئر لترفع الماء إليه، {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} ، قال قتادة: هذا مثل ضربه الله، أي: هذا الذي يدعون من دون الله هذا الوثن وهذا الحجر، لا يستجيب له بشيء أبدًا، ولا يسوق إليه خيرًا ولا يدفع عنه سوءًا حتى يأتيه الموت، كمثل هذا الذي بسط ذراعيه إلى الماء ليبلغ فاه، ولا يبلغ فاه ولا يصل إليه ذلك حتى يموت عطشًا. {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} فأما المؤمن فيسجد طائعًا، وأما الكافر فيسجد كارهًا. {وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} قال ابن عباس: يعني: حين يفيء ظل أحدهم عن يمينه أو شماله. وقوله تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً} . قال البغوي: قوله تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، أي: خالقهما ومدبّرهما، {فَسَيَقُولُونَ اللهُ} لأنهم يقرّون بأن الله خالقهم وخالق السماوات

والأرض، فإذا أجابوك فقل أنت أيضًا يا محمد: {اللهُ} ثم قال الله لهم لزامًا للحجة {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء} معناه أنتم مع إقراركم بأن الله خالق السماوات والأرض اتخذتم من دونه أولياء فعبدتموهم من دون الله؟ يعني: الأصنام، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور؟ قال مجاهد: أما الأعمى والبصير: فالكافر والمؤمن، وأما الظلمات والنور: فالهدى والضلالة، {أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} ، قال مجاهد: خلقوا كخلقه فحملهم ذلك على أن شكّوا في الأوثان. وقال البغوي: {أَمْ جَعَلُواْ} ، أي: جعلوا لله شركاء {خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} ، أي: اشتبه ما خلقوه بما خلقه الله تعالى، فلا يدرون ما خلق الله وما خلق آلهتهم. {قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . قال ابن كثير: (وإنما عبد هؤلاء المشركون معه آلهة، هم معترفون أنها مخلوقة له عبيد له، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك، وكما أخبر تعالى عنهم في قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، وقال تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} فإذا كان سَمّوا الجميع عبيدًا، فلم يعبد بعضهم بعضًا) . انتهى ملخصًا. قوله عز وجل: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) } .

عن ابن عباس: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} فهذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكّها، فأما الشكّ فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله، وهو قوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء} وهو الشكّ، {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} وهو اليقين، كما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه، ويترك خبثه في النار، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشكّ. وقال مجاهد: هما مثلان للحق والباطل. وقال عطاء: ضرب الله مثلاً للحق والباطل، فضرب مثل الحق كمثل السيل الذي يمكث في الأرض، وضرب مثل الباطل كمثل الزبد الذي لا ينفع الناس. وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} ، قال قتادة: هي الجنة {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} . قال النخعي: {سُوءُ الْحِسَابِ} أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر له منه شيء، {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} . قال ابن جرير: يقول: وبئس الفراش والوطاء جهنم التي هي مأواهم يوم القيامة. والله أعلم. * * *

الدرس الأربعون بعد المائة

الدرس الأربعون بعد المائة {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ

اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللهِ مِن وَاقٍ (34) مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43) } . * * *

قوله عز وجل: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) } . عن قتادة في قوله: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ} قال: هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه، قال الله: {كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} قال: عن الخير فلا يبصره، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} فبيّن من هم فقال: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} ، قال: وذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» . وقال ابن زيد في قوله: {وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} ، قال: يدفعون الشر بالخير، لا يكافؤون الشر بالشر ولكن يدفعون. وعن أبي عمران الجوني أنه تلا هذه الآية: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} ثم قال: على دينكم. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ (26) } .

عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الإِشراك بالله، لأن الله يقول: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} ونقض العهد، وقطيعة الرحم، لأن الله يقول: {أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} . وعن مجاهد في قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} ، قال: قليل ذاهب. وعن عبد الرحمن بن سابط في قوله: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} ، قال: كزاد الراعي يزوّده أهله الكفّ من التمر أو الشيء من الدقيق، أو الشيء يشرب عليه اللبن. قوله عز وجل: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) } . عن قتادة: قوله: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ} ، يقول: سكنت إلى ذكر الله. وعن عكرمة في قوله: {طُوبَى لَهُمْ} ، قال: مآلهم. وقال ابن عباس يقول: فرح وقرّة عين. وقال قتادة: هذه كلمة عربية، يقول الرجل: طوبى لك أي: أصبت خيرًا. وعن مجاهد: {طُوبَى لَهُمْ} قال: الجنة. وعن ابن عباس: لما خلق الله الجنة وفرغ منها، قال: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} وذلك حين أعجبته. وعن شهر بن حوشب قال: {طُوبَى} شجرة في الجنة، كل

شجر الجنة منها أغصانها، من وراء سور الجنة. وقال عكرمة: {طُوبَى} ، قال: نِعْمَ ما لَهم. وقال قتادة يقول: حسن لهم، وهي كلمة من كلام العرب. وعن الضحاك: {طُوبَى لَهُمْ} غبطة لهم، {وَحُسْنُ مَآبٍ} ، قال: حسن منقلب. وقوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} ، قال البغوي: سبب نزولها أن أبا جهل سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الحجر يدعو: «يا الله يا رحمن» فرجع إلى المشركين فقال: إن محمدًا يدعو إلهين، يدعو الله ويدعو إلهًا آخر يسمى الرحمن، ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} . وعن قتادة: قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} ذكر لنا أن قريشًا قالوا: إن سرّك يا محمد أن نتّبعك فسيّر لنا جبال تهامة، أو زد لنا في حرمنا حتى نتّخذ قطائع نحترف فيها، أو أَحْيِ لنا فلانًا وفلانًا ناسًا ماتوا في الجاهلية، فأنزل الله تعالى: ... {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} ، يقول: لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم. وعن ابن عباس: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ} ، يقول: يعلم. وقال ابن كثير: وقوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ} ، أي: من إيمان جميع الخلق ويعلموا ويتبيّنوا {أَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} فإنه ليس ثمّ حجّة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في العقول من هذا القرآن وعن قتادة: قوله: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} أي: بأعمالهم أعمال السوء {أَوْ تَحُلُّ

قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} قال الحسن: أو تحل القارعة قريبًا من دارهم، {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ} ، قال: يوم القيامة {إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} . قوله عز وجل: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللهِ مِن وَاقٍ (34) مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) } . عن قتادة: قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} ذلكم ربكم تبارك وتعالى قائم على بني آدم بأرزاقهم، وآجالهم، وحَفِظَ عليهم والله أعمالهم. وقال الضحاك في قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} فهو الله قائم على كل نفس، بَرّ وفاجر يرزقهم ويكلؤهم ثم يشرك به منهم من أشرك {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ} ولو سمّوهم آلهة لكذبوا، وقال في ذلك غير الحق، لأن الله واحد ليس له شريك. قال الله: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ} ، يقول: لا يعلم الله في الأرض إلهًا غيره. وعن مجاهد: قوله: {بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ} بظنّ {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} ، قال: قولهم. وقال البغوي: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} جوابه محذوف تقديره: كمن ليس بقائم، بل عليم عن نفسه. قلت: وما أحسن قول الأعرابية حين قدمت العيينة، والمشركون عكوف عند قبر زيد بن الخطاب، فقال لها السدنة، قرّبي لزيد، فقالت: أين زيد؟ قالوا: في القبر، قالت: تحت الرضم؟ قالوا: نعم، قالت: ما نفع نفسه فينفعني، {بَلْ زُيِّنَ

لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللهِ مِن وَاقٍ ْ} . وقوله تعالى: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي: صفتها أن الأنهار تجري من تحتها {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} لا ينقطع ... {وِظِلُّهَا} لا يزول، {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ} ، أي: الجنة عاقبة المتقين ومنقلبهم، {وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ} ومصيرهم {النَّارُ} . قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ (37) } . قال ابن زيد في قوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} قال: هذا من آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب، فيفرحون بذلك، وقرأ {وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} . وفي قوله: {وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} قال: الأحزاب الأمم: اليهود، والنصارى، والمجوس، منهم من آمن به ومنهم من أنكره. {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} . قال البغوي: نسب إلى العرب لأنه نزل بلغتهم {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} ، يعني: من ناصر ولا حافظ. قال ابن كثير: وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً

وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43) } . قال ابن كثير في قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} ، أي: لكل مدة مضروبة كتاب مكتوب بها، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} . وعن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ، قال: الكتاب كتابان: كتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. وعن عمر بن الخطاب أنه كان يقول: (اللهم إن كنت كتبت عليّ شقوة أو ذنبًا فامحه، فإنك تمحوا ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة) . وعن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يردّ القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البِرّ» . رواه أحمد وغيره. وعن ابن عباس: {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ، يقول: وجملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ المنسوخ، وما يبدّل وما يثبت، كل ذلك

في كتاب. وقال كعب: علم الله ما هو خالق وما خَلْقُه عاملون، فقال بعلمه: كن كتابًا فكان كتابًا. وقال البغوي: قوله تعالى: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من العذاب قبل وفاتك {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل ذلك، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} ليس عليك إلا ذلك {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} الجزاء يوم القيامة. وعن ابن عباس في قوله: {أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} ، قال: أو لم يروا إلى القرية تخرب حتى يكون العمران في ناحية. وقال ابن جريج: خرابها وهلاك الناس. وعن ابن عباس: قوله: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} ، يقول: نقصان أهلها وبركتها. وعن قتادة: قوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً} ، قال: قول مشركي قريش، {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أناس من أهل الكتاب كانوا يشهدون بالحق ويقرّون به ويعلمون أن محمدًا رسول الله، كما يُحدّث أن منهم عبد الله بن سلام. انتهى. والله أعلم. * * *

الدرس الواحد والأربعون بعد المائة

الدرس الواحد والأربعون بعد المائة [سورة إبراهيم عليه السلام] مكية، وهي إحدى وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم {آلَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً

فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ

وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ (23) } . * * *

قوله عز وجل: {آلَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) } . عن قتادة في قوله: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي: من الضلالة إلى الهدى. وقوله تعالى: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} . قال البغوي: قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر (اللهَ) بالرفع على الاستئناف وخبره فيما بعد، وقرأ الآخرون بالخفض نعتًا للعزيز الحميد، وكان يعقوب إذا وصل خفض. وعن قتادة في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} ، أي: بلغة قومه ما كانت. قال الله عز وجل: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} الذي أرسل إليهم ليتّخذ بذلك الحجّة قال الله عز وجل: {فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ

عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) } . عن مجاهد في قول الله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} ، قال: التسع البيّنات {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ} ، قال: بنِعَم الله. وقال ابن زيد: أيامه التي انتقم فيها من أهل معاصيه من الأمم، خوّفهم بها وحذّرهم إياها، وذكّرهم أن يصيبهم كما أصاب الذين من قلبهم. وعن قتادة: في قول الله عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ، قال: نِعْمَ العبد عبد إذا ابتُلي صبر، وإذا أُعطي شكر. وعن ابن عيينة في قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ} أيادي الله عندكم وأيامه. وقال ابن زيد في قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} وإذ قال ربكم، ذلك التأذّن. وقال ابن كثير: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} ، أي: آذنكم وأعلمكم بوعده لكم {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} . وفي الحديث: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» . قوله عز وجل: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) } . عن ابن عباس أنه قال: بين إبراهيم وبين عدنان ثلاثون قرنًا، لا يعلمهم إلا الله تعالى. وعن ابن مسعود أنه قال بعد ما قرأ هذه الآيات: كذب النسّابون. وعن مجاهد في قول الله: {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} ، قال: ردوّا عليهم قولهم وكذّبوهم. وقال ابن كثير في قوله: {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} ، أي: خارق نتقترحه عليكم {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ، أي: بالرسالة والنبوة، {وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ} على وفق ما سألتم {إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} ، أي: بعد سؤالنا إياه وإذنه لنا في ذلك، {وَعلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} ، أي: في جميع أمورهم. قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى

شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (18) } . وعن قتادة: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ} ، قال: وعدهم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة. وعن مجاهد في قوله: {وَاسْتَفْتَحُواْ} ، قال: الرسل كلها استنصروا، {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} ، قال: معاند للحق مجانبه. وقال ابن زيد: كان استفتاحهم بالبلاء، كما استفتح قوم هود {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . وقال ابن كثير: ويحتمل أن يكون هذا مرادًا وهذا مرادًا. وعن مجاهد في قوله: {مِن مَّاء صَدِيدٍ} ، قال: قيح ودم. {يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} ، قال: تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج. وقال ابن جرير: وقوله: {وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} ، يقول: ومن وراء ما هو فيه من العذاب. يعني: أمامه وقدامه، {عَذَابٌ غَلِيظٌ} . وعن ابن عباس: قوله: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} ، يقول: الذين كفروا بربهم وعبدوا غيره فأعمالهم يوم القيامة: كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون على شيء من أعمالهم ينفعهم، كما لا يقدر على الرماد إذا أرسل عليه الريح في يوم عاصف، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} . قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ (23) } . عن ابن جريج قوله: {فَقَالَ الضُّعَفَاء} الأتباع {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} ، قال: للقادة. وقال ابن زيد إن أهل النار قال بعضهم لبعض: تعالوا فإنما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرّعهم إلى الله، فتعالوا نبكي ونتضرّع إلى الله، قال: فبكوا فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا: تعالوا فما أدرك أهل الجنة الجنة إلا بالصبر، تعالوا نصبر، فصبروا صبرًا لم ير مثله، فلم ينفعهم ذلك فعند ذلك قالوا: {سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ

صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} . وعن الحسن في قوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ} ، قال: إذا كان يوم القيامة قام إبليس خطيبًا على منبر من نار فقال: {إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} إلى قوله: {وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} ، قال: بناصريّ {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} ، قال: بطاعتكم إياي في الدنيا. وقال قتادة: يقول ما أنا بمغيثكم وما أنتم بمغيثيّ. وقوله تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} . قال ابن جريج: الملائكة يسلّمون عليهم في الجنة. وقال البغوي: يسلّم بعضهم على بعض، وتسلّم عليهم الملائكة. والله أعلم. * * *

الدرس الثاني والأربعون بعد المائة

الدرس الثاني والأربعون بعد المائة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ (31) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ

وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (38) الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء (43) وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ (44) وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (50) لِيَجْزِي اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (52) } . * * *

قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ (27) } . عن رجال ابن عباس: قوله: {كَلِمَةً طَيِّبَةً} ، قال: شهادة أن لا إله إلا الله {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} ، قال مجاهد: كنخلة. وعن ابن عمر قال: ... (كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى بحمار فقال: «من الشجر شجرة مثلها مثل الرجل المسلم» ، فأردت أن أقول: هي النخلة، فنظرت فإذا أنا أصغر القوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هي النخلة» . متفق عليه. وقوله: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} قال ابن عباس: وهو الشرك {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} ، قال أنس بن مالك: هي: الحنظلة. وقوله تعالى: {اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} ، أي: ليس لها أصل ثابت في الأرض، ولا فرع صاعد في السماء، كذلك الكافر لا خير فيه، ولا يصعد له قول طيب، ولا عمل صالح. وقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} عن البراء بن عازب قال: (خرجنا مع رسول الله في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله كأنّ على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في

الأرض، فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» . مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة، نزلت إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس المؤمنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها، فلا يمرّون بها، يعني: على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمّونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له، فيتبعه من كل سماء مقرّبوها إلى السماء التي تليها، حتى يُنْتَهَى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عِلّيّين وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك، فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدّقت، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من رَوْحها وطيبها، ويُفسح له في قبره مدّ بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرّك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربّ أقم الساعة، ربّ أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال:

فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرّون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمّى بها في الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، - ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} فيقول الله: اكتبوا كتابه في سجّين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحًا، - ثم قرأ -: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فتعاد روحه في جسده: ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك، فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرّها وسَمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: ومن أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول ربّ لا تقم الساعة» . رواه أحمد وغيره. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} ، قال: ذاك إذا قيل في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - جاء بالبيّنات من عند الله فآمنت به وصدّقت، فيقال له: صدقت، على هذا عشت وعليه متّ، وعليه تبعث» . رواه ابن جرير.

قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ (31) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) } . عن علي في قول الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} ، قال: هم كفار قريش. وقال عمر: هم قريش، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - نعمة الله. وعن قتادة: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً} والأنداد الشركاء. وقوله تعالى: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} قال قتادة: إن الله تبارك وتعالى، قد علم أن في الدنيا بيوعًا وخلالاً يتخالّون بها في الدنيا، فينظر الرجل من يخالل وعلام يصاحب، فإن كان لله فليداوم، وإن كان لغير الله فإنها ستنقطع. وعن ابن عباس في قوله: {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ} ، قال: دؤبهما في طاعة الله. وقوله تعالى: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} . قال ابن كثير: يقول: هيّأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألون بحالكم وقالِكم {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} . قال طلق ابن حبيب: إن حق

الله أثقل من أن تقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن تحصيها العباد، ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين. قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (38) الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) } . قال إبراهيم التيمي: من يأمن البلاء بعد خليل الله إبراهيم حين يقول رب اجنبني وبني أن نعبد الأصنام. وعن قتادة: قوله: {أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ} ، يعني: الأوثان. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا قول إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، وقول عيسى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فرفع يديه ثم قال: اللهم أمّتي اللهم أمّتي وبكى، فقال الله تعالى: يا جبرائيل اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فاسأله ما يبكيه، فأتاهه جبرائيل فسأله فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال. قال: فقال الله: يا جبرائيل اذهب إلى محمد وقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) . رواه ابن جرير.

وعن قتادة: قوله: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} ، قال: مكة لم يكن بها زرع يومئذٍ، {عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} ، قال: وإنه بيت طهّره الله من السوء وجعله قبلة وجعله حرمة اختاره نبي الله إبراهيم لولده. وقوله: {رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ} ، أي: أسكنتهم كي يقيموا الصلاة عند بيتك {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} ، قال مجاهد: لو قال: أفئدة الناس تهوي إليهم لازدحمت عليه فارس والروم. وقوله: {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ} ، أي: ليكون ذلك عونًا لهم على طاعتك {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} . قوله عز وجل: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء (43) وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ (44) وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (50) لِيَجْزِي اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (52) } . عن ميمون بن مهران في قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}

قال: هي وعيد للظالم {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} ، قال قتادة: شخصت فيه واللهِ أبصارهم، فلا تردّ إليهم، ... {مُهْطِعِينَ} ، قال: مسرعين {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} ، قال مجاهد: رافعيها {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} ، قال ابن عباس: شاخصة أبصارهم. وعن قتادة في قوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} ، قال: هواء ليس فيها شيء خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم. وعن مجاهد: قوله: {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} ، قال: يوم القيامة {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} ، قال: مدة يعملون فيها من الدنيا، وعن مجاهد قال: {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} كقوله: {وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ} ، ثم قال: {مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} ، قال: الانتقال من الدنيا إلى الآخرة. وقال ابن جرير: {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} ، يقول: مالك من انتقال من الدنيا إلى الآخرة، وأنكم إنما تموتون ثم لا تبعثون. وقوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} . قال في فتح البيان: وقد مكروا مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم، وعند الله مكتوب مكرهم فهو مجازيهم، {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} في العظم، {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} مهيّأ لإزالة الجبال، وقال بعضهم: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال. وعن قتادة: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} ، يقول: شركهم كقوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} الآية، وقرأ بعضهم بفتح اللام.

وعن ابن مسعود في قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} قال: (تبدّل أرضًا بيضاء نقية كأنها فضة، لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل فيها خطيئة) . وقال كعب: تصير السماوات جنانًا، ويصير مكان البحر نارًا. قال: وتبدّل الأرض غيرها. وعن مجاهد: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} ، قال: أرضًا فيها فضة، والسماوات كذلك أيضًا. وفي الصحيحين عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي، ليس فيها علم لأحد» . وقوله تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} ، قال قتادة: {مُّقَرَّنِينَ} في القيود والأغلال. قال ابن زيد في قوله: ... {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} ، قال: السرابيل القمص. وعن الحسن: {مِّن قَطِرَانٍ} ، أي: قطران الإبل. {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ * لِيَجْزِي اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ} ، أي: القرآن {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} أي: العقول والأفهام. والله أعلم. * * *

الدرس الثالث والأربعون بعد المائة

الدرس الثالث والأربعون بعد المائة (سورة الحجر) مكية، وهي تسع وتسعون آية بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {آلَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1) رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (4) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ (18) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً

فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (37) إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) } . * * *

قوله عز وجل: {آلَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1) رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (4) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15) } . قال في جامع البيان: {آلَرَ تِلْكَ} إشارة إلى آيات السورة. {آيَاتُ الْكِتَابِ} القرآن، {وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} ، أي: تلك آيات جامعة لكونها آيات كتاب كامل وقرآن يبيّن الأحكام. وعن أبي موسى قال: (بلغنا أنه إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار، ومعهم من يشاء الله من أهل القبلة، قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة: ألستم مسلمين؟ قالوا: بلى. قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأُخذنا بها، فسمع الله ما قالوا. فأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار فأخرجوا، فقال من في النار من الكفار: يا ليتنا كنا مسلمين، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « {آلَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ * رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} » . رواه ابن جرير.

وعن الزهري في قوله: {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} ، قال: نرى أنه إذا حضر أجله فإنه لا يؤخر ساعة ولا يقدّم، وأما ما لم يحضر أجله فإن الله يؤخّر ما شاء ويقدّم ما شاء. وقوله تعالى: {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} ، أي: القرآن {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ، أي: هلا تأتينا بالملائكة شاهدة لك؟ قال الله {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ} قال مجاهد: بالرسالة والعذاب {وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ} . قال البغوي: ومعناه أنهم لو نزلوا أعيانًا لزال الإمهال عن الكفار وعذّبوا في الحال. وعن قتادة: قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقال في آية أخرى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} فأنزله الله ثم حفظه، فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلاً ولا ينقص منه حقًا، حفظه الله من ذلك. وقال ابن كثير: (ثم قرّر تعالى أنه هو الذي أنزل عليه الذكر وهو القرآن، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل) . قلت: والحكمة في حفظ الله تعالى للقرآن دون سائر كتبه أنه آخرها، وأن الذي جاء به خاتم الأنبياء، فأبقاه الله محفوظًا حجة على خلقه. وعن ابن عباس: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ} ، يقول: أمم الأولين. وعن قتادة: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} ، قال: إذا كذبوا سلك في قلوبهم أن لا يؤمنوا به {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} ، قال: وقائع الله فيمن خلا قبلكم من الأمم.

وعن ابن عباس: قوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ} ، يقول: لو فتحنا عليهم بابًا من السماء فظلّت الملائكة تعرج فيه، لقال أهل الشرك: إنما أخذت أبصارنا، وشُبّه علينا، وإنا سُحِرنا، فذلك قولهم: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . وعن قتادة: قوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ} ، قال قتادة: كان الحسن يقول: لو فعل هذا ببني آدم، ... {فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ} ، أي: يختلفون لقالوا: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} . قوله عز وجل: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ (18) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) } . عن مجاهد في قوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً} ، قال: كواكب. وقوله: {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} ، قال ابن عباس: تصعد الشياطين أفواجًا تسترق السمع قال: فينفرد المارد منها فيعلوا فيُرمى بالشهاب، فيصيب جبهته أو جنبه، أو حيث شاء الله منه فيلتهب، فيأتي أصحابه وهو يلتهب، فيقول: إنه كان من الأمر كذا وكذا، قال: فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب،

فيخبرونهم به، فإذا رأوا شيئًا مما قالوا قد كان صدّقوهم بما جاؤوهم به من الكذب. وقال الضحاك: كان ابن عباس يقول: إن الشهب لا تقتل، ولكن تحرق، وتخبل، وتجرح من غير أن تقتل. وقال ابن جريج: الرجيم الملعون. وقوله تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} ، قال ابن عباس: معلوم. وقال مجاهد: مقدور بقدر {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} ، قال مجاهد: الدواب والأنعام. وعن ابن مسعود قال: ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يقسمه حيث شاء، عامًا ها هنا، وعامًا ها هنا، ثم قرأ: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} . وقال الضحاك في قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} الرياح يبعثها الله على السحاب فتلقّحه فتمتلئ ماء. وعن عبيد بن عمير قال: تبعث المبشّرة فَتَقُمُّ الأرض قَمًّا، ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث الله المؤلّفة فتؤلّف السحاب، ثم يبعث الله اللقواقح فتلقّح الشجر، ثم تلا عبيد: ... {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} . وقال قتادة: لواقح السحاب، وإن من الريح عذابًا وإن منها رحمة. وقال ابن مسعود: يبعث الله الريح فتلقّح السحاب، ثم تمر به فتدرّ كما تدرّ اللقحة ثم تمطر. وقال سفيان: {وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} بمعانين. وعن عكرمة في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} ، قال: هم خلق الله كلهم، قد علم من خلق منهم إلى اليوم، وقد علم من هو خالقه بعد اليوم {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} . قوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ

لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (37) إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ (44) } . قال ابن عباس: خلق آدم من صلصال من حمإ ومن طين لازب، وأما اللزب فالجيّد اللازق، وأما الحمأ فالحمأة، وأما الصلصال فالتراب المدقّق، وإنما سمي إنسانًا لأنه عهد إليه فنسي، وقال قتادة: الصلصال الطين اليابس يسمع له صلصلة. وعن مجاهد: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} ، قال: منتن. وعن قتادة: {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} وهو إبليس خلق قبل آدم، وإنما خلق آدم آخر الخلق، فحسده عدو الله إبليس على ما أعطاه من الكرامة، فقال: أنا ناريّ وهذا طينيّ، فكانت السجدة لآدم والطاعة لله تعالى ذكره فقال: اخرج منها فإنك رجيم. وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» . وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} ، قال الضحاك: يعني: المؤمنين. وعن مجاهد في قوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} ، قال: الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه، لا يعرّج على شيء. وفي بعض الآثار: (أن نبيًا من الأنبياء قال لإبليس: أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم؟ قال: آخذه عند الغضب والهوى) .

وعن عكرمة في قوله: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} ، قال: لها سبعة أطباق. وقال عليّ رضي الله عنه: أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيمتلئ الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم تمتلئ كلها. وقال ابن جريج: {سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) } . عن أبي أمامة قال: (لا يدخل مؤمن الجنة حتى ينزع الله ما في صدورهم من غلّ، ثم ينزع منه مثل السبع الضاري) . وعن إبراهيم قال: جاء ابن جرموز قاتل الزبير استأذن على عليّ فحجبه طويلاً، ثم أذن له فقال له: أما أهل البلاء فتجفوهم! قال عليّ: يفيك التراب! ، إني لأرجوا أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} . وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة» . والله أعلم. * * *

الدرس الرابع والأربعون بعد المائة

الدرس الرابع والأربعون بعد المائة {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (62) قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ (66) وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ (77) وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ (79) وَلَقَدْ

كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) } . * * *

قوله عز وجل: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) } . قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} روي (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج على أصحابه وهم يضحكون فقال: «أتضحكون وبين أيديكم النار» ؟ فنزل جبريل بهذا الآية وقال: يقول لك ربك: يا محمد لِمَ تقنّط عبادي؟) . وعن مجاهد في قوله: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} قال: عجب من كَبره وكبَر امرأته. قوله عز وجل: {فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (62) قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا

لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ (66) وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ (77) وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ (79) } . عن قتادة: {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} ، قال: أُمِرَ أن يكون خلف أهله يتبع أدبارهم في آخرهم إذا مشوا. وعن مجاهد: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} لا يلتفت وراءه أحد ولا يعرج. وقال ابن عباس: قوله: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} ، يعني: استئصال هلاكهم مصبحين. وعن قتادة: قوله: {وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} استبشروا بأضياف نبي الله لوط - صلى الله عليه وسلم - حين نزلوا، لِمَا أرادوا أن يأتوا إليهم من المنكر، وقال في قوله: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} ألم ننهك أن تضيف أحدًا؟ . وعن ابن عباس في قول الله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، قال: ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال: وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، أي: في ضلالتهم {يَعْمَهُونَ} ، أي: يلعبون. وقال مجاهد: يترددون. وعن ابن عباس أيضًا: يتمادون؟ وقال بعض المفسرين: ثم قالت الملائكة للوط عليه السلام: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} فكيف يقبلون قولك؟ . وعن ابن جريج: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} ، قال: حين أشرقت الشمس.

وعن مجاهد في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} ، قال: للمتفرّسين. وقال قتادة: للمعتبرين. وعن قتادة: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ} ، يقول: بطريق واضح. وعن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «احذروا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وبتوفيق الله» . وعن سعيد بن جبير في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ} قال: هو كالرجل يقول لأهله: علامة ما بين بيني وبينكم أن أرسل إليكم خاتمي، أو آية كذا، وكذا. وقال ابن جريج: قوله: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} ، قال: قوم شعيب: قال ابن عباس: {الأَيْكَةِ} ذات آجام وشجر كانوا فيها. وقوله تعالى: {وَإِنَّهُمَا} . قال البغوي: يعني: مدينتي قوم لوط وأصحاب الأيكة {لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} لبطريق واضح مستبين. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (84) } . عن عبد الله بن عمر قال: (مررنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الحجر فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدخلوا مساكن الذينن ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، حذرًا أن يصيبكم ما أصابهم» . ثم زجر فأسرع حتى خلّفها) . رواه ابن جرير وغيره.

قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) } . عن ابن عباس: أنه قال في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي} ، قال: هي فاتحة الكتاب، فقرأها ستًا ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة. وعن قتادة: {سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي} ، قال: فاتحة الكتاب تثنّى في كل ركعة مكتوبة وتَطَوُّع. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أم القرآن السبع المثاني التي أُعطيتُها» . رواه ابن جرير وغيره. وعن مجاهد في قوله: {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} ، قال: سائره، يعني: سائر القرآن مع السبع من المثاني. {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} ، قال: الأغنياء، الأمثال: الأشباه. وقال ابن عباس: يعني: الرجل أن يتمنى مال صاحبه. وقال البغوي: قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} أَلِنْ جانبك للمؤمنين وارفق بهم، والجناحان من ابن آدم جانباه، {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَا أَنزَلْنَا

عَلَى المُقْتَسِمِينَ} قال الفراء: مجازه: أنذركم عذابًا كعذاب المقتسمين. حكي عن ابن عباس أنه قال: هم اليهود والنصارى الذين {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} جزّؤوه فجعلوه أعضاء، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وقال مجاهد: قسّموا كتابهم ففرّقوه وبدّلوه. وقال ابن كثير: وقوله: {المُقْتَسِمِينَ} ، أي: المتحالفين، أي: تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم. وعن عطاء: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} ، قال: المشركون من قريش عضوا القرآن فجعلوه أجزاء، فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: مجنون، فذلك العضون. وعن أبي العالية: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، قال: يسأل العباد كلهم عن خلّتين يوم القيامة: عما كانوا يعبدون، وعما أجابوا المرسلين. وعن مجاهد في قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} ، قال: بالقرآن. وعن عبد الله بن عبيدة قال: ما زال النبي - صلى الله عليه وسلم - متخفّيًا حتى نزلت: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} فخرج هو وأصحابه. وقوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} ، قال ابن إسحاق: كان عظماء المستهزئين - كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير - خمسة نفر من قومه، وكانوا ذوي أنساب وشرف في قومهم: الأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث ابن الطلاطلة، فلما تمادوا في الشر، وأكثروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاستهزاء، أنزل الله تعالى ذكره: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} إلى قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} . فحدّثني يزيد بن رومان: أن جبرائيل أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يطوفون

بالبيت فقام وقام رسول الله إلى جنبه، فمرّ به الأسود بن المطلب، فرمى فيةوجهه بورقة خضراء فعمي، ومرّ به الأسود بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه، فمات منه حَبَنًا، ومرّ به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أسفل جرح بأسفل كعب رجله، كان أصابه قبل ذلك بسنين، فانتقض به فقتله، ومرّ به العاص بن وائل، فأشار إلى أخمص رجله، فخرج على حمار له يريد الطائف، فوقص على شبرقة، فدخل في أخمص رجله منها شوكة فقتله، ومرّ به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه، فامتخط قيحًا فقتله. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} قل: سبحان الله وبحمده {وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} ، أي: المصلّين {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} ، أي: الموت؛ نسأل الله الاستقامة على طاعته وبالله التوفيق. * * *

الدرس الخامس والأربعون بعد المائة

الدرس الخامس والأربعون بعد المائة [سورة النحل] مكية، وآياتها 128 آية. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (4) وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ

لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18) وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (22) لاَ جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ

خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) } . * * *

قوله عز وجل: {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (4) } . قال ابن كثير: في تفسير قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوّها، معبّرًا بصيغة الماضي، الدالّ على التحقيق والوقوع لا محالة، كقوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} . وقوله تعالى: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} كقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} ، ... {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} . وعن ابن عباس: قوله: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ} ، يقول: بالوحي. وقال قتادة: إنما بعث الله المرسلين أن يوحّد الله وحده ويطاع أمره ويجتنب سخطه. وقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} نزه نفسه عن مشاركة غيره. وقوله تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} يجادل بالباطل.

قوله عز وجل: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18) } . عن ابن عباس: قوله: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} ، يعني بالدفء: الثياب. والمنافع: ما يتنفعون به من الأطعمة والأشربة. وقال قتادة يقول: لكم فيها لباس ومنفعة وبُلْغَة، {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} وذلك أعجب ما يكون إذا راحت عظامًا ضروعها، طوالاً أسنمتها، {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} إذا سرحت لرعيها. وعن عكرمة: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ

تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} ، قال: لو تُكَلَّفونه لم تبلغوه إلا بجهد شديد. وقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} لكم أيضًا {، لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: وخلق الخيل والبغال والحمير لكم أيضًا {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} ، يقول: وجعلها لكم زينة تتزيّنون بها، مع المنافع التي فيها لكم للركوب وغير ذلك انتهى. وفي الصحيحين عن جابر قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل) . وقوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} . قال في جامع البيان: أي: ويخلق لكم ما لم يحط به عملكم. وعن ابن عباس: قوله: {وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} ، يقول: على الله البيان أن يبيّن الهدى والضلالة {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} يعني: الأهواء المختلفة. وقال ابن زيد في قوله: {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ، قال: لو شاء لهداكم أجمعين لقصد السبيل الذي هو الحق، وقرأ: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} . وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} ، قال الضحاك: ترعون أنعامكم. وعن قتادة: قوله: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ} ، يقول: وما خلق لكم مختلفًا ألوانه من الدواب، ومن الشجر، والثمار، نِعَمُ من الله متظاهرة فاشكروا الله. قال في القاموس: ذرأ خلق، والشيء أكثره ومنه الذرية.

وعن قتادة في قوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} ، قال: منهما جميعًا {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} قال: هذا اللؤلؤ. وعن عكرمة في قوله: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} ، قال: هي السفينة تقوى بالماء هكذا يعني: تشقّه. وعن مجاهد: {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} قال: تجارة البر والبحر {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . وقوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} قال مجاهد: أن تكفأ بكم. وقال الحسن: لما خلقت الأرض كادت تميد فقالوا: ما هذه بمقرّة على ظهرها أحد، فأصبحوا وقد خلقت الجبال، فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال. وعن ابن عباس: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} ، يعني: بالعلامات معالم الطرق بالنهار {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} بالليل. وعن قتادة: قوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} والله هو الخالق الرزاق، وهذه الأوثان التي تعبد من دون الله تخلق ولا تخلق شيئًا ولا تملك لأهلها ضرًا ولا نفعًا، قال الله: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} . وقال البغوي: {أَفَمَن يَخْلُقُ} يعني الله تعالى: {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} ، يعني: الأصنام {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} . {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ} لتقصيركم في شكر نعمه، {رَّحِيمٌ} بكم حيث وسّع عليكم النعم ولم يقطعها عنكم بالتقصير والمعاصي. قوله عز وجل: {وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم

مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (22) لاَ جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) } . عن قتادة: قوله: {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} وهي هذه الأوثان التي تعبد من دون الله، {أَمْواتٌ} لا أرواح، فيها ولا تملك لأهلها ضرًا ولا نفعًا. وقوله تعالى: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} ، قال قتادة: لهذا الحديث {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} عنه. وقوله تعالى: {لاَ جَرَمَ} ، أي: حقًا، {أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} . قال في جامع البيان: أي: حق أن الله تعالى يعلم سرّهم وعلانيتهم حقًا. وعن قتادة: قوله: {مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} ، قال: ذلك قوم من مشركي العرب كانوا يقعدون بطريق من أتى نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا مرّ بهم أحد من المؤمنين يريد نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا لهم: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} يريدون أحاديث الأولين وباطلهم.

وعن مجاهد: قوله: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} ذنوب أنفسهم وذنوب من أطاعهم، ولا يخفّف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئًا. وعن ابن عباس: قوله: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ} ، قال: هو نمرود حين بنى الصرح. وقال قتادة في قوله: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ} ، أي: والله لأتاهم أمر الله من أصلها {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} والسقف أعالي البيوت؛ فانتكست بهم بيوتهم فأهلكهم الله ودمّرهم، {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} . وقوله: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} ، أي: تخالفون المؤمنين، ما لهم لا يحضرونكم فيدفعون عنكم العذاب؟ {قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} ماتوا على الكفر، {فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ} ، أي: استسلموا وقالوا: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} فقيل لهم: {بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} . قوله عز وجل: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32) } . قال البغوي: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً} ثم ابتدأ فقال: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} كرامة من الله، {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ

الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ... طَيِّبِينَ} . وعن مجاهد في قوله: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ} . قال: أحياء وأمواتًا وقدّر الله ذلك لهم. وقال محمد بن كعب القرظي: إذا احتضرت نفس العبد المؤمن جاءه ملك فقال: السلام عليك وليّ الله، الله يقرأ عليك السلام، ثم نزع بهذه الآية: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . قوله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) } . عن مجاهد: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} ، يقول: عند الموت حين تتوفاهم، {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} يوم القيامة. وقوله تعالى: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} ، أي: كفروا كما كفروا {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ} بتعذيبه إياهم، {وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} عقوبات كفرهم، وأعمالهم الخبيثة، {وَحَاقَ بِهِم} نزل بهم، {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . والله أعلم. * * *

الدرس السادس والأربعون بعد المائة

الدرس السادس والأربعون بعد المائة {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ (47) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ

وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ (62) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) } . * * *

قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (37) } . قال البغوي في قوله: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ، أي: ليس إليهم الهداية إنما إليهم التبليغ. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} ، أي: كما بعثنا فيكم {أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} وهو كل معبود من دون الله {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ} ، أي: هداه الله إلى دينه، {وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} ، أي: وجبت بالقضاء السابق حتى مات على كفره. قوله عز وجل: {وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) } .

عن أبي العالية قال: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه، فكان فيما تكلّم به: والذي أرجوه بعد الموت أنه لكذا، فقال المشرك: إنك تزعم أنك تبعث بعد الموت؟ فأقسم بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله: {وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} . وعن قتادة: قوله: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} ، قال: للناس عامة. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} ، قال قتادة: هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة، فأخرجوهم من ديارهم، حتى لحق طوائف منهم بالحبشية، ثم بوّأهم الله المدينة بعد ذلك، فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصارًا من المؤمنين، قال الله: {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ} والله لَمَا يثيبهم الله عليه من حسنة أكبر {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} . قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ (47) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) } . قال ابن عباس: لما بعث الله محمدًا رسوله أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر

منهم فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد، فأنزل الله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} ، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} . {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} ، يعني: أهل الكتب الماضية أبشرًا كانت الرسل التي أتتهم أم ملائكة؟ وقال مجاهد: {بِالْبَيِّنَاتِ} : الآيات {وَالزُّبُرِ} : الكتب. وقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ} ، أي: عملوها {أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} ، أي: في تعرّضهم واشتغالهم {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} ، قال ابن عباس: يقول: إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوّفه بذلك؛ وعن قتادة: أو يأخذهم على تخوّف فيعاقب أو يتجاوز، {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ} . وقوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} ، قال مجاهد: صاغرون. وقال قتادة: أما اليمين فأول النهار، وأما الشمائل فآخر النهار. وقوله تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} كقوله تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} ، وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} . وعن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما

لا تسمعون، أطّت السماء وحق لها أن تئطّ، والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربع أصابع، إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله» . الحديث رواه البغوي وغيره. قوله عز وجل: {وَقَالَ اللهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ (56) } . عن ابن عباس: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً} ، قال: دائمًا. قال البغوي: معناه: ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع عنه ذلك بزوال أو هلاك غير الله عز وجل. وعن مجاهد في قوله: {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} ، قال: تضرعون دعاء. وقوله تعالى: {لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ} . قال البغوي: وهذه اللام تسمى لام العاقبة، أي: حاصل أمرهم هو كفرهم بما أعطيناهم من النعماء وكشف الضراء والبلاء.

وعن قتادة: قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ} وهم مشركو العرب جعلوا لأوثانهم نصيبًا من أموالهم. قوله عز وجل: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ (62) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) } . عن ابن عباس: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} وقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} إلى آخر الآية يقول: يجعلون لله البنات ترضونهم لي ولا ترضونهم لأنفسكم، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا ولد للرجل منهم جارية أمسكها على هون أو دسّها في التراب وهي حيّة. قال قتادة: هذا صنيع مشركي العرب. أخبرهم الله تعالى ذكره بخبث صنيعهم فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله له، وقضاء الله خير من قضاء المرء لنفسه، ولَعمري ما يدري أنه خير، لَرُبّ جارية خير لأهلها من غلام. وقال ابن كثير في قوله: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} ، أي: إن أبقاها مهانة لا

يورّثها ولا يعتني بها، ويفضّل أولاده الذكور عليها، {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} ، أي: يئدها، {أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} . قال البغوي: بئس ما يقضون لله البنات ولأنفسهم البنين. وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} . قال ابن جرير: وهو القبيح من المثل، وما يسوء من ضرب له ذلك المثل. وقال البغوي: يعني: لهؤلاء الذين يصفون لله البنات ولأنفسهم البنين مثل السوء صفة السوء من الاحتياج إلى الولد وكراهية الإِناث وقتلهنّ خوف الفقر {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} الصفة العليا، وهي التوحيد وأنه: لا إله إلا هو. وقال ابن كثير: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} ، أي: النقص، إنما ينسب إليهم {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} ، أي: الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وعن أبي الأحوص قال: كاد الجُعْل أن يعذّب بذنب بني آدم، وقرأ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} . وعن مجاهد: قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} قول قريش: لنا البنون وله البنات. وقال يمان: يعني بالحسنى: الجنة في المعاد، يقولون: نحن في الجنة إن كان محمد صادقًا بالوعد في البعث، لا جرم

حقًا. قال ابن عباس: بلى إن لهم النار في الآخرة {وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ} منسيّون فيها؛ وقال قتادة: معجّلون إلى النار. {تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ} كما أرسلناك إلى هذه الأمة ... {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} الخبيثة، {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ} من الدين والأحكام، {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، أي: ما أنزلناه إلا بيانًا للناس وهدى ورحمة للمؤمنين. والله أعلم. * * *

الدرس السابع والأربعون بعد المائة

الدرس السابع والأربعون بعد المائة {وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ

أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (76) وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (80) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) } . * * *

قوله عز وجل: {وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) } . قال الفراء في قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} ردّ الكناية إلى النعم، والنعم والأنعام واحد، ولفظ النعم مذكّر. وقوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} ، قال البغوي: والكناية في (منه) عائدة إلى ما محذوف أي: ما تتخذون منه. وقال ابن عباس: السكَر ما حرّم من ثمرتها، والرزق الحسن ما أحلّ من ثمرتها. وقال مجاهد: السكر الخمر قبل أن تحرّم، والرزق الحسن الرُطَب والأعناب. وقوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} . قال البغوي: أي: ألهمها وقذف في أنفسها ففهمته، {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} وقد جرت العادة أن أهلها يبنون لها الأماكن فهي تأوي إليها. وعن مجاهد: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} ، قال: لا يتوعرّ عليها مكان سلكته. وقال قتادة: أي: مطيعة. وقال ابن زيد: الذلول الذي يقاد

ويذهب به حيث أراد صاحه، فهم يخرجون بالنحل ينتجعون بها ويذهبون وهي تتبعهم. وعن قتادة: قوله: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ} ففيه شفاء كما قال الله تعالى: من الأدواء، وقد كان ينهى عن تفريق النحل وعن قتلها. وقال ابن مسعود: العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور. قوله عز وجل: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) } . قال البغوي: قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} صبيانًا أو شبانًا أو كهولاً، {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أردئه، قال مقاتل: يعني: الهرم، وقال قتادة: أرذل العمر تسعون سنة، وروي عن عليّ قال: أرذل العمر خمس وسبعون سنة، وقيل: ثمانون سنة، {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} لكيلا يعقل بعد عقله الأول شيئًا: {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} . وساق بسنده حديث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: «أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر، وعذاب القبر وفتنة الدجّال، وفتنة المحيا والممات» . وعن ابن عباس: قوله: {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} .

يقول: لم يكونوا يشركون عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني؟ فلذلك قوله: {أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ} . وعن مجاهد في قوله: {بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قال: مثل آلهة الباطل مع الله تعالى ذكره. وقوله تعالى: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} ، قال ابن عباس: هم: الولد، وولد الولد. وقال ابن مسعود: الحفدة الأصهار. قوله عز وجل: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (76) } . قال مجاهد: {الأَمْثَالَ} الأشباه. وعن ابن عباس: قوله: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ} ، يعني: اتخاذهم الأصنام يقول: لا تجعلوا معي إلهًا غيري فإنه لا إله غيري. وعن قتادة: قوله: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} هذا مثل ضربه الله للكافر، رزقه الله مالاً فلم يقدّم فيه خيرًا ولم يعمل فيه بطاعة الله؛ قال الله تعالى ذكره: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} فهذا المؤمن أعطاه الله مالاً يعمل فيه بطاعة الله، وأخذ بالشكر، ومعرفة الله، فأثابه الله على ما رزقه الرزق المقيم،

الدائم لأهله في الجنة، وعن مجاهد: هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى، فهل يستوي هذا وهذا؟ وقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ} ، قال قتادة: هو الوثن، {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} ، قال: الله {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، وقال الكلبي: يعني: يدلّكم على صراط مستقيم. قوله عز وجل: {وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) } . عن قتادة: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ} هو أن يقول: كن فهو كلمح البصر، فأمر الساعة كلمح البصر أو {أَقْرَبُ} ، يعني يقول: أو هو أقرب من لمح البصر. قوله عز وجل: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (80) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) } .

عن مجاهد في قول الله تعالى: {مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} تسكنون فيه. وعن ابن عباس: {أَثَاثاً} ، قال: يعني بالأثاث: المال، {وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} ، يعني: زينة، يقول: ينتفعون به {إِلَى حِينٍ} ، قال قتادة: إلى أجل وبُلْغَة. {وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً} قال: الشجر {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} ، يقول: غيرانًا. {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} من القطن والكتان والصوف. قال البغوي: قال أهل المعاني: أراد الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما لدلالة الكلام عليه. {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} ، يعني: الدروع ولباس الحرب. وقال عطاء: إنما أنزل القرآن على قدر معرفتهم فقال: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} وما جعل لهم من السهول أكثر وأعظم، ولكنهم كانوا أصحاب جبال. وقوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} ، قال ابن جريج: قال عبد الله بن كثير: يعلمون أن الله خلقهم، وأعطاهم ما أعطاهم، فهو معرفتهم نعمته، ثم إنكارهم إياها كفرهم بعد. وقال ابن كثير: أي: يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك، وهو المتفضّل به عليهم، ومع هذا ينكرون ذلك، ويعبدون معه غيره، ويسندون النصر والرزق إلى غيره. * * *

الدرس الثامن والأربعون بعد المائة

الدرس الثامن والأربعون بعد المائة {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ

الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97) } . * * *

قوله عز وجل: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) } . عن قتادة: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} وشاهدها نبيّها على أنه قد بلّغ رسالات ربه. قال الله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء} . وعن مجاهد: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} حدّثوهم. وعن قتادة: {وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} ، يقول: ذلّوا واستسلموا يومئذٍ، {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} . وعن ابن مسعود في قوله: {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} ، قال: أفاعي. وعن عبد الله بن عمرو قال: إن لجهنّم سواحل فيها حيات وعقارب، أعناقها كأعناق البُخت. وعن ابن جريج في قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} ، قال: ما أمروا به ونُهوا عنه. وقال ابن مسعود: أنزل في هذا القرآن كل علم وكل شيء، قد تبيّن لنا في القرآن، ثم تلا هذه الآية.

قوله عز وجل: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97) } . قال ابن مسعود: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} إلى آخر الآية. وقال قتادة: إنه ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به، وليس من خلق سيِّيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدّم فيه، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامّها. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية على رجل من الكفار فقال: (إن له والله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر) .

وقال نافع بن يزيد: سألت يحيى بن سعيد عن قول الله: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} ، قال: العهود. وعن مجاهد: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} ، قال: وكيلاً. وعن قتادة: قوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً} فلو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم: ما أحمق هذه، وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده. وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} . قال ابن جرير: {دَخَلاً بَيْنَكُمْ} ، يقول: خديعة وغرورًا ليطمئنوا إليكم وأنتم مضمرون لهم الغدر، وترك الوفاء بالعهد. وقال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعزّ، فينقضون حلف هؤلاء، ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ منهم، فنُهوا عن ذلك. وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ} . قال ابن كثير: لأن الكافر إذا رأى المؤمن قد عاهده، ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين، فانصدّ بسببه عن الدخول في الإسلام. وقوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ينهى تعالى عن نقض العهد ويحثّ على الوفاء به والصبر على ذلك. وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحبّ دنياه أضرّ

بآخرته، من أحبّ آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما ينفى» . رواه البغوي. وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} ، قال ابن عباس: الحياة الطيبة الرزق الحلال في الدنيا. وقال الحسن: هي القناعة. وقال الضحاك: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً} وهو مؤمن في فاقة أو ميسرة فحياته طيبة، ومن أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن ولم يعمل صالحًا فعيشته ضنكة لا خير فيها. وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنّعه الله بما آتاه» . وعن ابن عباس: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ، قال: إذا صاروا إلى الله جزاهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. والله أعلم. * * *

الدرس التاسع والأربعون بعد المائة

الدرس التاسع والأربعون بعد المائة {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (111) } .

قوله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (100) } . هذا أمر من الله تعالى لعباده على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم. قال ابن كثير: والمعنى في الاستعاذة عند ابتداء القراءة؛ لئلا يلبس على القارئ قراءته؛ ويخلط عليه، ويمنعه من التدبر والتفكر. وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ، قال الثوري: ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} ، قال مجاهد: يطيعونه، {وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} يعدلون بالله وقال الضحاك: عدلوا إبليس بربهم، فإنهم بالله مشركون، وقال ابن عباس السلطان على من تولى الشيطان، وعمل بمعصية الله. قوله عز وجل: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لاَ

يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) } . عن قتادة: قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} هو كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} . وقال ابن زيد في قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} تأتي بشيء وتنقضه فتأتي بغيره، قال: وهذا التبديل ناسخ، ولا تبدّل آية مكان آية إلا بنسخ. وقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} . قال محمد بن كعب القرظي: {رُوحُ الْقُدُسِ} جبرائيل. وقال ابن إسحاق: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - كثيرًا ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني، يقال له: جبر، عبد لبعض بني الحضرمي، فأنزل الله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} . وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} . قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض عن ذكره، وتغافل عما أنزله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن له قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الإيمان بآياته، وما أرسل به رسله في الدنيا {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} موجع في الآخرة، ثم أخبر تعالى أن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليس بمفترٍ ولا كذاب، لأنه إنما يفتري الكذب على الله وعلى رسوله شرار الخلق، الذين لا يؤمنون بآيات الله من الكفرة والملحدين، المعروفين بالكذب عند الناس، والرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - كان أصدق الناس، وأبرّهم، وأكملهم علمًا وعملاً وإيمانًا

وإيقانًا، معروفًا بالصدق في قومه، لا يشكّ في ذلك أحد منهم بحيث لا يُدعى بينهم إلا بالأمين محمد، لهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان فيما قال له: (هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عز وجل) . انتهى. قوله عز وجل: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (111) } . عن ابن عباس: قوله: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} إلى آخر الآية، (وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذّبوه ثم تركوه، فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحدّثه بالذي لقي من قريش الذي قال، فأنزل الله تعالى عذره) . وعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كيف تجد قلبك» ؟ قال: مطمئنًا بالإيمان. قال

النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فإن عادوا فعد» . رواه ابن جرير. وفي رواية البيهقي فقال: يا رسول الله ما تُركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير؛ وفي ذلك أنزل الله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} . قال ابن كثير: اتفق العلماء على أن المكرَه على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاءً لمهجته، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك، وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه بالشرك بالله، فيأبى عليهم وهو يقول: أحد، أحد. ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، رضي الله عنه وأرضاه. وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} ، أي: عذّبوا ومنعوا من الإسلام، {ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} . قال البغوي: نزلت في عياش بن أبي ربيعة، وأبي جندل بن سهيل، والوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعبد الله بن أبي أسيد الثقفي، فتنتهم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرّهم، ثم إنهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا. قال ابن كثير: فأخبر تعالى أنه: {مِن بَعْدِهَا} ، أي: تلك الفعلة، وهي الإجابة إلى الفتنة، {لَغَفُورٌ} لهم، {رَّحِيمٌ} يوم معادهم، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} . والله أعلم. * * *

الدرس الخمسون بعد المائة

الدرس الخمسون بعد المائة {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ

وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128) } . * * *

قوله عز وجل: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) } . عن ابن عباس: قوله: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} ، يعني: مكة، {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ} . قال البغوي: من البر والبحر، {فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} . {وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ} ، قال قتادة: أي: والله يعرفون نسبه وأمره، {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} فأخذهم الله بالجوع والخوف والقتل. قوله عز وجل: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ

تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (119) } . عن قتادة: قوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ} الآية، وأن الإسلام طهّره الله من كل سوء، وجعل لك فيه يا ابن آدم سعة إذا اضطررت إلى شيء من ذلك. قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ} في أكله، {وَلاَ عَادٍ} أن يتعدّى حلالاً إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة. وقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} . قال ابن كثير: (وما) مصدرية أي: ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم {هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ} قال مجاهد: في البحيرة والسائبة. قال ابن كثير: ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي، أو حلّل شيئًا مما حرّم الله، أو حرّم شيئًا مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهّيه. وعن قتادة: قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} قال: ما قص الله تعالى في سورة الأنعام حيث يقول: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية. وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ} ، أي: استقاموا على الطاعة، {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} ، أي: التوبة، {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل. قوله عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ

حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) } . عن قتادة: قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ} ، قال: كان إمام هدى مطيع تتبع سنته وملّته. وعن مسروق قال: قرأت عند عبد الله هذه الآية: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ} فقال: كان معاذ أمة قانتًا، قال: هل تدري ما الأمة؟ الأمة: الذي يعلّم الناس الخير، والقانت: الذي يطيع الله ورسوله. وقال ابن جرير في قوله: {حَنِيفاً} ، يقول: مستقيمًا على دين الإسلام {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقال مجاهد: كان إبراهيم أمة، أي: مؤمنًا وحده والناس كلهم إذ ذاك كفار. وعن مجاهد: {وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً} ، قال: لسان صدق. وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . قال البغوي: وقال أهل الأصول: كان - صلى الله عليه وسلم - مأمورًا بشريعة إلا ما نسخ في شريعته، وما لم ينسخ صار شرعًا. وقال ابن زيد في قوله: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ} ، قال: كانوا يطلبون يوم الجمعة فأخطؤوه وأخذوا يوم السبت فحقّ عليهم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي عرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبعٌ: اليهود غدًا، والنصارى بعد غد» .

قوله عز وجل: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128) } . عن مجاهد: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أعرض عن أذاهم إياك. وقال ابن كثير: يقول تعالى آمرًا رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -: أن يدعوا الخلق إلى الله {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} ، أي: بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس، ذكّرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى. وقوله: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن، برفق ولين وحسن خطاب، كقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} الآية، فأمره تعالى بلين الجانب، كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} . وعن مجاهد: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولا تعتدوا. وقال ابن كثير: وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل، كما في قوله: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ

مِّثْلُهَا} ، ثم قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} . وقال قتادة: ذكر لنا أن هَرِم بن حيان العبدي لما حضره الموت قيل له: أَوْصِ قال: ما أدري ما أوصي، ولكن بيعوا درعي فاقضوا عنّي ديني، فإن لم يف فبيعوا فرسي، فإن لم تف فبيعوا غلامي، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} . ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية قال: «بل نصبر» . وعن الحسن: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} ، قال: اتقوا الله فيما حرّم عليهم، وأحسنوا فيما افترض عليهم. والله أعلم. * * *

الدرس الحادي والخمسون بعد المائة

الدرس الحادي والخمسون بعد المائة [سورة الإسراء] مكية، وآياتها مائة وإحدى عشرة آية بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ

عَذَاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً (17) مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً (19) كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) } . * * *

قوله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً (3) } . عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُتيت بالبراق - وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه - فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس، فربطت الدابة بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء ثم دخلت فصلّيت فيه ركعتين، ثم خرجت فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل: أصبت الفطرة، قال: ثم عُرج بي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل له: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: قد أُرسل إليه، ففُتح لنا فإذا أنا بآدم فرحّب بي ودعا لي بخير، ثم عُرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل له: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل وقد أُرسل إليه؟ قال: قد أُرسل إليه، ففُتح لنا فإذا بابن الخالة يحيى وعيسى فرّحبا بي ودعوا لي بخير، ثم عُرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل له: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل وقد أُرسل إليه؟ قال: قد أُرسل إليه، ففُتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن، فرحّب بي ودعا لي بخير، ثم عُرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقيل له: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل وقد أُرسل إليه؟ قال: قد أُرسل إليه، ففُتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحّب بي ودعا لي بخير ثم يقول الله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً

عَلِيّاً} ثم عُرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل فقيل له: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل وقد أُرسل إليه؟ قال: قد بُعث إليه، ففُتح لنا فإذا أنا بهارون فرحًب بي ودعا لي بخير. ثم عُرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقيل له: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، فقيل وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه، ففُتح لنا فإذا أنا بموسىعليه السلام فرحب بي ودعا لي بخير ثم عُرج إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل له: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، فقيل وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه، ففُتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام، وإذا هو مستند إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، ثم ذُهب بي إلى سدرة المنتهى، فإذا أوراقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيّرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها، قال: فأوحى الله إليّ ما أوحى وفرض عليّ في كل يوم وليلة خمسين صلاة، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى قال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم قال: فرجعت إلى ربي فقلت: أي رب خفف عن أمتي، فحطّ عنيّ خمسًا، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال: ما فعلت؟ فقلت: قد حطّ عني خمسًا، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى ويحطً عني خمسً خمسًا، حتى قال: يا محمد هن خمس صلوات في كل يوم وليلة، بكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت عشرًا، ومن همّ بسيّئة فلم يعملها لم تكتب، فإن عملها كتبت سيئة واحدة، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد

رجعت إلى ربي حتى استحييت» . رواه أحمد، ومسلم. وفي رواية البخاري: «فلما خلصت - يعني إلى السماء الدنيا - فإذا فيها آدم عليه السلام، قال: هذا أبوك آدم، فسلّم عليه، فسلّمت عليه فردّ السلام ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، وفيها: فلما خلصت - يعني إلى السماء الرابعة - فإذا إدريس عليه السلام قال: هذا إدريس قال: فسلّمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، وفيها: وقال: - يعني إبراهيم - مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح» . وفي حديث أبي ذر: «ثم أُدخلت الجنة فإذا فيها حبال اللؤلؤ وإذا تربها المسك» . وفي حديث جابر: «لما كذّبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس، قمت في الحجر فجلّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه» . وعند البيهقي عن سعيد بن المسيب: ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، فأخبر أنه أسري به، فافتتن أناس كثير كانوا قد صلّوا معه، قال أبو سلمة: فقال ناس لأبي بكر: هل لك في صاحبك؟ يزعم أنه جاء إلى بييت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة! فقال أبو بكر أَوَ قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: أفتصدقه في أن يأتي الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح؟ قال: نعم أنا أصدّقه بأبعد من ذلك، أصدّقه بخبر السماء. قال أبو سلمة: فبها سمّي أبو بكر (الصديق) . وقوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} ، يعني: التوراة، {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي

إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} ، أي: معبودًا قال مجاهد: شريكًا. وقوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} . قال ابن كثير: فيه تهيج وتنبيه على المنبّه، أي: يا سلالة من نجّينا فحملنا مع نوح في السفينة، تشّبهوا بأبيكم، {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} . وقد ورد في الحديث وفي الأثر من السلف: (أن نوحًا عليه السلام كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله فلهذا سميّ عبدًا شكورًا) . قوله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً (8) } . عن ابن عباس في قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، يقول: أعلمناهم. وقال قتادة: قضاه الله على القوم كما تسمعون. وقال ابن عباس: بعث الله عليهم جالوت فجاس خلال ديارهم، وضرب عليهم الخراج والذلّ، فسألوا الله أن يبعث لهم ملكًا يقاتلون في سبيل الله، فبعث الله طالوت فقاتلوا جالوت، فنصر الله بني

إسرائيل وقُتل جلوات بيدي داود، وأرجع الله إلى بني إسرائيل ملكهم. وعن مجاهد: {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ} ، قال: بعث ملك فارس ببابل جيشًا وأمّر عليهم بختنصر، فأتوا بني إسرائيل فدمّروهم. وعن ابن عباس قال: بعث عيسى ابن مريم يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعلّمون الناس، قال: فكان فيما نهاهم عن نكاح ابنة الأخ، قال: وكانت لملكهم ابنة أخ تعجبه يريد أن يتزوجها، وكانت لها كل يوم حاجة يقضيها، فلما بلغ ذلك أمها قالت لها: إذا دخلت على الملك فسألك حاجتك فقولي: حاجتي أن تذبح لي يحيى بن زكريا، فلما دخلت عليه سألها حاجتها، فقالت: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا، فقال: سلي غير هذا، فقالت: ما أسألك إلا هذا، قال: فلما أبت عليه دعا يحيى ودعا بطشت فذبحه، فبدرت قطرة من دمه على الأرض، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر عليهم، فجاءته عجوز من بني إسرائيل فدّلته على ذلك الدم، قال: فألقى الله في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن فقتل سبعين ألفًا منهم من سنٍّ واحد فسكن. وعن قتادة: {وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} ، قال: يدمّروا ما علوا تدميرًا، قال: هو بخنتصّر أبغض خلق الله إليه، فسبى، وقتل، وخرب بيت المقدس وسامهم سوء العذاب. وعن ابن عباس قال: قال الله تبارك وتعالى بعد الأولى والآخرة: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} ، قال: فعادوا فسلّط الله عليهم المؤمنين. وعن قتادة: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} قال: مجلسًا حصورًا. وقال ابن عباس: سجنًا. قوله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً (11)

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12) } . قال ابن زيد: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ، قال: للتي هي أصوب، هو الصواب، وهو الحق. وعن قتادة: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} ، قال: يدعو على نفسه بما لو استجيب له هلك، أو على خادمه أو على ماله. وعن رفيع بن أبي كثير قال: قال عليّ رضوان الله عليه: سلوا عما شئتم، فقام ابن الكواء فقال: ما السواد الذي في القمر؟ فقال: قاتلك الله هلا سألت عن أمر دينك وآخرتك؟ قال: ذلك محو الليل. وعن قتادة: قوله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} أي: منيرة، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} قال: جعل سبحًا طويلاً: {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} ، أي: بيّناه تبيينًا. قوله عز وجل: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً (17) } . عن ابن عباس: قوله: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} ، قال: عمله وما قدّر عليه فهو ملازمه أينما كان، فزائل معه أينما زال {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً

يَلْقَاهُ مَنشُوراً} قال: هو عمله الذي عمل أحصى عليه فأخرج له يوم القيامة ما كتب عليه من العمل. {يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} ، قال قتادة: قد عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك، سيقرأ يومئذٍ من لم يكن قارئًا في الدنيا. وعن أبي هريرة قال: (إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى نسم الذين ماتوا في الفترة، والمعتوه والأصم والأبكم، والشيوخ الذين جاء الإسلام وقد خرفوا، ثم أرسل رسولاً أن: ادخلوا النار. فيقولون: كيف ولم يأتينا رسول؟ وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا، ثم يرسل إليهم فيطيعه من كان يريد أن يطيعه قبل. قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ) . وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} . قال ابن عباس: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} ، قال: بطاعة الله فعصوا. وعن قتادة: قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} يقول: أكثر ناس فيها أي: جبابرتها، {فَفَسَقُواْ فِيهَا} عملوا بمعصية الله، {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} وكان يقال: إذا أراد الله بقوم صلاحًا بعث عليهم مصلحًا، وإذا أراد فسادًا بعث عليهم مفسدًا، وإذا أراد أن يهلكها أكثر مترفيها. وقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ} ، أي: كعاد وثمود وغيرهم ممن عصى الله وكذّب رسله، {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً} .

قوله عز وجل: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً (19) كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) } . عن قتادة: قوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} ، يقول: من كان الدنيا همّه وطلبه ونيّته، عجّل الله له فيها ما يشاء ثم اضطره إلى جهنم. قال: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} في نعمة الله، {مَّدْحُوراً} في نقمة الله. {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} شكر الله لهم حسناتهم وتجاوز عن سيئاتهم، {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً} ، أي: منقوصًا، وإن الله عز وجل قسم الدنيا بين البر والفاجر، والآخرة خصوصًا عند ربك للمتقين. وقال ابن جريج: {وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً} ، قال: ممنوعًا. وقوله تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، أي: في الدنيا {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} . والله أعلم. * * *

الدرس الثاني والخمسون بعد المائة

الدرس الثاني والخمسون بعد المائة {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً (28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً (31) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً (32) وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً (33) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36) وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ

مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) } . * * *

قوله عز وجل: {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) } . عن قتادة: قوله: {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} يقول: {مَذْمُوماً} في نعمة الله، وهذا الكلام وإن كان خرج على وجه الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو معنيّ به جميع من لزمه من عباد الله جل وعزّ. وعن ابن عباس: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} ، يقول: أمر. وقال مجاهد: وأوصى ربك {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} ، حين ترى الأذى، وتميط عنهما الخلاء والبول، كما كانا يميطان عنك صغيرًا ولا تؤذهما. وعن عطاء بن أبي رباح في قوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} قال: لا تنفض يدك على والديك، {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} . قال ابن جريج: أحسن ما تجد من القول، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} . قال عروة بن الزبير: هو أن تلين لهما حتى لا تمتنع من شيء أحبّاه. وعن قتادة: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} هكذا عُلّمتم وبهذا أُمرتم، خذوا تعليم الله وأدبه. وعن سعيد بن جبير: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} . قال: البادرة تكون من

الرجل إلى أبويه، لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ به، فقال: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً} . وقال سعيد بن المسيب: الأوّاب الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. وقال سعيد بن جبير وغيره: هم الراجعون إلى الخير. قوله عز وجل: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً (28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) } . عن ابن عباس: قوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} قال: هو أن تصل ذا القربة والمسكين وتحسن إلى ابن السبيل، {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} . قال: المبذّر المنفق في غير حق. وقال ابن زيد في قوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ} إن المنفقين في معاصي الله، {كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} . وعن إبراهيم: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا} ، قال: انتظار الرزق، {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} ، قال: ليّنًا تعدهم. وعن الحسن في قوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} ، قال: لا تجعلها مغلولة عن النفقة، {وَلاَ تَبْسُطْهَا} تبذّر بسرف، {فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} ، قال ابن عباس: {فَتَقْعُدَ مَلُوماً} ، يقول: يلوم نفسه على ما فات من ماله، {مَّحْسُوراً} ، يعني: ذهب ماله كله فهو محسور. وقال قتادة: {فَتَقْعُدَ مَلُوماً} في عباد الله، {مَّحْسُوراً} ، يقول: نادمًا على ما فرط منك. وقال ابن زيد: ثم أخبرنا تبارك وتعالى كيف يصنع فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ

الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} ، قال: يقدر: يقلّ، وكل شيء في القرآن يقدر كذلك، ثم أخبر عباده أنه لا يرزؤه ولا يؤوده أن لو بسط عليهم، ولكن نظرًا لهم منه فقال: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} . قوله عز وجل: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً (31) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً (32) وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً (33) } . عن قتادة: قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} ، أي: خشية الفاقة، وقد كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الفاقة، فوعظهم الله في ذلك، وأخبرهم أن رزقهم ورزق أولادهم على الله فقال: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً} ، قال ابن جرير: إي: إثمًا وخطيئة. وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره وقضى أيضًا أن: {لاَ تَقْرَبُواْ} أيها الناس {الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} ، يقول: إن الزنا كان فاحشة، {وَسَاء سَبِيلاً} ، يقول: وساء طريق الزنا طريقًا، لأنه طريق أهل معصية الله والمخالفين أمره، فأسوئ به طريقًا يورد صاحبه جهنم. وعن قتادة: قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} ، وإنا والله ما نعلم يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: إلا رجلاً قَتَلَ متعمّدًا فعليه القود، أو زنى بعد إحصانه فعليه الرجم، أو كفر بعد إسلامه فعليه القتل. {وَمَن قُتِلَ

مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} . قال ابن عباس: بيّنة من الله عز وجل أنزلها يطلبها وليّ المقتول: العقل والقود، وذلك السلطان. وعن قتادة: {فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ} ، قال: لا يقتل غير قاتله، من قتل بحديدة قتل بحديدة، ومن قتل بخشبة قتل بخشبة، ومن قتل بحجر قتل بحجر. وعن طلق بن حبيب في قوله: {فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ} ، قال: لا يقتل غير قاتله ولا يمثّل. قال ابن كثير: وقوله: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} ، أي: أن الوليّ منصور على القاتل شرعًا وغالبًا وقديرًا. قوله عز وجل: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36) وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً (39) } . قال الضحاك في قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئًا. وعن الحسن: {وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} ، قال: القَبَّان. قال في القاموس: القبان كشدّاد، القسطاس والأمين، وقال أيضًا: وقفان كل شيء جماعته واستقصاء عمله، والقَبَّان والأمين.

وقوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، قال قتادة: أي: خير ثوابًا وعاقبة. وأخبرنا أن ابن عباس كان يقول: يا معشر الموالي إنكم ولّيتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم: هذا المكيال، وهذا الميزان. قال: وذكرنا لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه، ليس به إلا مخافة الله، إلا أبدله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك» . وعن قتادة: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} لا تقل: رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، فإن الله تبارك وتعالى سائلك عن ذلك كله. وقال مجاهد: لا ترم أحدًا بما ليس لك به علم. قال القتيبي: لا تتبعه بالحدس والظن. وقوله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً} ، أي: بطرًا وكبرًا، فإن ذلك لا يلغ بك الجبال ولا تخرق الأرض بكبرك وفخرك. وقوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} . قال البغوي: ومعناه كل الذي ذكرناه في قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} {كَانَ سَيٍّئُهُ} ، أي: سيّئ ما عددنا عليك، {عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} لأن فيما عددنا أمورًا حسنة، كقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} ، وغير ذلك. وقال ابن زيد في قوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} ، قال: القرآن. قال البغوي: وكل ما أمر الله به أو نهى عنه فهو حكمة. {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ

اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً} . قال ابن عباس: مطرودًا. وقال قتادة: {مَلُوماً} في عبادة الله، {مَّدْحُوراً} في النار. قال البغوي: خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآيات، والمراد منه الأمة. قوله عز وجل: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) } . قال البغوي: قوله عز وجل: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم} ، أي: اختاركم فجعل لكم الصفوة ولنفسه ما ليس بصفوة، يعني: اختاركم بالبنين ... {وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً} لأنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله ... {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} يخطب مشركي مكة. {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ} ، يعني: العبر والحكم والأمثال، والأحكام والحجج والأعلام {لِيَذَّكَّرُواْ} ، أي: ليتذكّروا ويتّعظوا {وَمَا يَزِيدُهُمْ} تصريفًا وتذكيرنا وتكريرنا، {إِلاَّ نُفُوراً} ذهاباً وتباعدًا عن الحق. {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ} يعني: الآلهة، {إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} بالمغالبة والقهر ليزيلوا ملكه كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض. ثم نزّه نفسه فقال عز من قائل: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} .

قال ابن كثير: وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات. وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن نوحًا عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنته فقال: إني قاصّ عليكما الوصية: آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين: أنهاكما عن الشرك بالله والكبر، وآمركما: (بلا إله إلا الله) ، فإن السماوات والأرض وما فيهما لو وضعت في كفة الميزان ووضعت (لا إله إلا الله) في الكفة الأخرى، كانت أرجح، ولو أن السماوات والأرض كانتا حلقة فوضعت (لا إله الا الله) عليهما لقصمتهما أو لفصمتهما، وآمركما: بسبحان الله وبحمده فإنهما صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء» . رواه أحمد. وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} . قال قتادة: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً} عن خلقه فلا يعجل كعجلة بعضهم على بعض، {غَفُوراً} لهم إذا تابوا. وبالله التوفيق. * * *

الدرس الثالث والخمسون بعد المائة

الدرس الثالث والخمسون بعد المائة {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً (47) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً (48) وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً (53) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57) وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ

مَسْطُوراً (58) وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً (60) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً (47) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً (48) } . عن قتادة: قوله: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً} الحجاب المستور أكنّة على قلوبهم أن يفقهوه، وأن ينتفعوا به، أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم. {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} وأن المسلمين لمّا قالوا: لا إله إلا الله أنكر ذلك المشركون وضاق بها إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يُمْضِيَها، وينصرها، ويفلجها، ويظهرها على من ناوأها، إنها كلمةٌ من خاصم بها فلج، ومن قاتل بها نصر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين التي يقطعها الراكب في ليال قلائل، ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرّون بها. وقوله تعالى: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} ، قال قتادة: ونجواهم أن زعموا أنه مجنون، وأنه ساحر، وقالوا: أساطير الأولين. وعن مجاهد: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} مخرجًا، الوليد بن المغيرة وأصحابه. قوله عز وجل: {وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ

فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) } . وعن مجاهد: {قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} ، قال: ما شئتم فكونوا فسيعيدكم الله ما كنتم. وعن قتادة: {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: خلقكم {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} ، يقول: فإنك إذا قلت لهم ذلك سيهزّون إليك رؤسهم برفع وخفض. وقال ابن عباس: يحرّكون رؤوسهم يستهزئون {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} من قبوركم {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} ، قال ابن عباس: بأمره. وقال ابن كثير: أي: وله الحمد على كل حال. وعن قتادة: ... {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: في الدنيا في أنفسهم، وقلت: حين عاينوا يوم القيامة. قوله عز وجل: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً (53) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (55) } . عن الحسن في هذه الآية: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، قال: {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} لا يقول له مثل قوله، يقول له: يرحمك الله يغفر الله لك. {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} . في الصحيحين عن

أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يشيرنّ أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم لعلّ الشيطان أن ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار» . وعن ابن جريج قوله: ... {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} ، قال: فتؤمنوا، {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} فتموتوا على الشرك كما أنتم. انتهى. وقد قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} . وعن قتادة: قوله: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وكلّم الله موسى تكليمًا، وجعل الله عيسى كمثل آدم، خلقه من تراب، ثم قال له: كن فيكون، وهو عبد الله ورسوله وكلمة الله وروحه، وآتى سليمان ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وآتى داود زبورًا، كنا نحدّث دعاء عُلّمه داود: تحميد وتمجيد ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود، وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. قوله عز وجل: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57) } . عن ابن عباس: قوله: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} ، قال: كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة وعزيرًا، وهم {الَّذِينَ يَدْعُونَ} يعني: الملائكة والمسيح وعزيرًا، {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} ، قال مجاهد: عيسى ابن مريم، وعزير، والملائكة. وقال ابن عباس: {الْوَسِيلَةَ} القربة. وقال قتادة: القربة، والزلفى. قال الزجاج: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} يبتغي الوسيلة إلى الله تعالى ويتقرّب إليه بالعمل الصالح. قال ابن مسعود:

(نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم الجنّيّون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم) . وقال ابن كثير: يقول تعالى: {قُلِ} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله، {ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ} من الأصنام والأنداد، فارغبوا إليهم فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم، أي: بالكلية، {وَلاَ تَحْوِيلاً} بأن يحوّلوه إلى غيركم، والمعنى: أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر. وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أربابًا {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} ، يقول: يبتغي المدّعون أربابًا إلى ربهم القربى والزلفى. لأنهم أهل إيمان به، والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله، أيّهم أقرب إليه بصالح أعماله واجتهاده في عبادته أقرب عنده زلفة {وَيَرْجُونَ} بأفعالهم تلك {رَحْمَتَهُ} ، {وَيَخَافُونَ} بخلافهم أمره {عَذَابَهُ} ، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ} يا محمد {كَانَ مَحْذُوراً} متّقى. قوله عز وجل: {وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (58) وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً (60) } .

عن مجاهد في قول الله عز وجل: {وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فمبيدوها، {أَوْ مُعَذِّبُوهَا} بالقتل والبلاء، قال: كل قرية في الأرض سيصيبها بعض هذا. وقال ابن زيد في قوله: {كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} ، قال: في أم الكتاب. قال ابن كثير: في اللوح المحفوظ. قال: وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم، كما قال تعالى: عن الأمم الماضين: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} . وعن ابن عباس قال: (سأل أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وأن ينحّي عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم لعلنا نجتبي منهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوه فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من قبلهم، فقال: «بل تستأني بهم» ، فأنزل الله: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} ، قال قتادة: أي: بيّنة {فَظَلَمُواْ بِهَا} . قال ابن جرير: وذلك أنهم قتلوها وعقروها. وعن قتادة: قوله: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} وإن الله تخوف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون أو يذكرون أو يرجعون. ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود فقال: يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه. وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} ، قال مجاهد: فهم في قبضته. وقال قتادة: أي: منعك من الناس حتى تبلغ رسالة ربك.

وعن ابن عباس: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} قال: هي رؤيا أُريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أُسري به، {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ} شجرة الزقوم. وعن الحسن في قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} ، قال: قال كفار أهل مكة: أليس من كَذِبِ ابن أبي كبشة أنه يزعم أنه سار مسيرة شهرين في ليلة؟ وعن قتادة: قوله: ... {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} وهي: شجرة الزقوم خوّف الله بها عباده، فافتتنوا بذلك حتى قال قائلهم، أبو جهل بن هشام: زعم صاحبكم هذا أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجرة، وإنا والله ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقّموا، فأنزل الله تبارك وتعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجرة: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} ، إني خلقتها من النار، وعَذّبت بها من شئت من عبادي. وبالله التوفيق. * * *

الدرس الرابع والخمسون بعد المائة

الدرس الرابع والخمسون بعد المائة {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ

خَلِيلاً (73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75) وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً (79) وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً (80) وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) } . عن مجاهد في قول الله تعالى: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} ، قال: لأحتوينّهم {قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً} ، قال: وافرًا. وقال قتادة: عذاب جهنم جزاؤهم، ونقمة من الله من أعدائه فلا يعدل عنهم من عذابها شيء. وعن مجاهد: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} ، قال: باللهو والغناء. وقال ابن عباس: صوته كل داع دعا إلى معصية الله. {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} ، قال: خيله: كل راكب في معصية الله، ورَجِله كل راجل في معصية الله. وقال قتادة: إن له خيلاً ورَجِلاً من الجن والإنس، وهم الذين يطيعونه. وقال ابن جرير: {وَاسْتَفْزِزْ} واستخفّ واستهجل، والجلبة الصوت. وعن قتادة في قوله: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} ، قال: قد والله شاركهم في أموالهم، وأعطاهم الله أموالاً فأنفقوها في طاعة الشيطان، في غير حق

الله تبارك اسمه. وقال الحسن: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ} : أمرهم أن يكسبوها من خبيث وينفقوها في حرام. وقال ابن عباس: مشاركته إياهم في الأولاد: سمّوا عبد الحارث، وعبد شمس، وعبد فلان. وقال الحسن: قد والله شاركهم في أموالهم وأولادهم، فمجّسوا، وهوّدوا، ونصّروا وصبغوا، غير صبغة الإسلام، وجزّؤوا من أموالهم جزءًا للشيطان. وقال ابن جرير: كل ولد ولدته أنثى عصى الله في تسميته ما يكرهه الله، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو وأده أو غير ذلك من الأمور التي يعصي الله بفعله به أو فيه، فقد دخل في مشاركة إبليس فيه. وعن قتادة: قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} وعباده المؤمنون؛ وقال الله في آية أخرى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدًا» . قوله عز وجل: {رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ

تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) } . عن ابن عباس: قوله: {رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} ، يقول: يُجري الفلك. وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} . قال البغوي: أي: بطل وسقط من تدعون من الآلهة {إِلاَّ إِيَّاهُ} فلم تجدوا معينًا سواه، {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ} ، أجاب دعاءكم وأنجاكم من هول البحر، وأخرجكم {إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} ، عن الإيمان والإخلاص والطاعة، كفرًا منكم لنعمه، {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً} . وعن قتادة: قوله: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} يقول: حجارة من السماء {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} أي: منعة، ولا ناصرًا. {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} أي: في البحر مرة أخرى، {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ} ، وهي التي تقصف ما مرت به فتحطّمه، {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} ، يقول: لا يتبعنا أحد بشيء من ذلك. وعن مجاهد: {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} ، قال: نصيرًا ثائرًا. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ، أي: بالعقل وحسن الصورة {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} ، في المآكل والملابس والمشارب

{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} ، قال ابن جريج: وفضلناهم في اليدين، يأكل بهما ويعمل بهما، وما سوى الإنس يأكل بغير ذلك. وقوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} ، قال مجاهد: نبيّهم. قال بعض السلف: هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث، لأن إمامهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} . قال قتادة: الذي في شقّ النواة. وقوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ، قال قتادة: {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} ، في الدنيا في ما أراه الله من آياته، من خلق السماوات والأرض والجبال والنجوم، {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ} ، الغائبة التي لم يرها، {أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ، وقال بعض السلف: من كان في هذه الدنيا أعمى عن الاعتبار، فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار. قوله عز وجل: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75) } . قال قتادة: أطافوا به ليلة فقالوا: أنت سيدنا وابن سيدنا، فأرادوه على بعض ما يريدون، فَهَمّ أن يقارفهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله، فذلك قوله: {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} . وقال مجاهد: قالوا له: ائت آلهتنا فامسسها. وعن ابن عباس: قوله: {إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} يعني: ضعف عذاب الدنيا والآخرة. قوله عز وجل: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ

مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً (79) وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً (80) وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً (82) } . عن قتادة: قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} ، وقد همّ أهل مكة بإخراج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة، ولو فعلوا ذلك لما توطّنوا، ولكن الله كفّهم عن إخراجه حتى أمره، ولقلّما مع ذلك لبثوا بعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة حتى بعث الله عليهم القتل يوم البدر. وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} ، قال ابن عباس: دلوك الشمس: زيغها بعد نصف النهار، يعني: الظل، وغسق الليل: بدو الليل، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} ، قال ابن عباس: دلوك الشمس: زيغها بعد نصف النهار، يعني: الظل، وغسق الليل: بدو الليل. {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} ، يعني: صلاة الصبح. قال البغوي: (فدلوك الشمس يتناول صلاة الظهر والعصر، و {غَسَقِ اللَّيْلِ} ، يتناول المغرب والعشاء، و {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} هو صلاة الصبح) . انتهى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة

الفجر» . يقول أبي هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} . وعن ابن عباس: قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} يعني بالنافلة: أنها للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، أمر بقيام الليل، وكتب عليه: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} ، قال: المقام المحمود مقام الشفاعة. وقال ابن جرير: قال أكثر أهل التأويل: ذلك هو المقام الذي يقوم محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم. وعن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، ثم أمر بالهجرة، فأنزل الله تبارك وتعالى اسمه: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} . قال قتادة: وإن نبي الله علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانًا نصيرًا، لكتاب الله عز وجل، ولحدود، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله، وإن السلطان رحمة من الله جعلها بيد عباده، لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، فأكل شديدهم ضعيفهم {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ} ، قال: القرآن، {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} ، قال: الشيطان {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} وعن ابن مسعود قال: (دخل رسول الله مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا فجعل يطعنها ويقول: « {جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} » . متفق عليه. وعن قتادة: قوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} إذا

سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه، {وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً} ، إنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه، وإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين. قوله عز وجل: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) } . عن مجاهد: قوله: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} ، قال: تباعد منا، {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً} قال قتادة: يقول: إذا مسّه الشر يئس وقنط. {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} ، يقول: على ناحيته ونيّته. وقال ابن زيد: على دينه. قال ابن كثير: وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى. {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} منا ومنكم، وسيجزي كل عامل بعمله. وعن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح، فنزلت: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ، قالوا: أوتينا علمًا كثيرًا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، قال: وأنزل الله: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} . رواه أحمد.

وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: (بينا أنا أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرث بالمدينة وهو متوكّئ على عسيب، إذ مرّ اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فسألوه فأمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يردّ عليهم شيئًا، فعلمت أنه يوحى إليه فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الآية) . قال ابن كثير: وهذا البيان يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الآية مدنية، وأنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا بأنه: قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه، وهي هذه الآية. وعن ابن عباس في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية، وذلك (أن اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا عن الروح، وكيف تعذّب الروح التي في الجسد؟ وإنما الروح من الله؛ ولم يكن نزل عليه شيء فلم يُحِرْ إليهم شيئًا، فأتاه جبريل فقال له: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ، فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقالوا: من جاءك بهذا؟ قال: «جاءني به جبريل من عند الله» . فقالوا: والله ما قاله لك إلا عدوّنا، فأنزل الله: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} .

وقوله تعالى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} ، قال ابن مسعود: (اقرأوا القرآن قبل أن يرفع، فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع، يسري عليه ليلاً فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئًا، ولا يجدون في المصاحف شيئًا، ثم يفيضون في الشعر) . وعن عبد الله بن عمرو قال: (لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل، له دويّ حول العرش كدويّ النحل، فيقول الرب: مالك؟ وهو أعلم فيقول: يا رب أُتْلَى ولا يُعْمَلُ بي) . وعن ابن جريج قوله: {لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ} إلى قوله: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} ، قال: معينًا. قال يقول: لو برزت الجن وأعانهم الإنس فتظاهروا، لم يأتوا بمثل هذا القرآن. قال البغوي: نزلت حين قال الكفار: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} فكذّبهم الله تعالى: فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق. قال ابن كثير: وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثيل له ولا عديل له. والله أعلم. * * *

الدرس الخامس والخمسون بعد المائة

الدرس الخامس والخمسون بعد المائة قوله عز وجل {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَّسُولاً (94) قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً (95) قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً (97) ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً (99) قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى

مَسْحُوراً (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً (102) فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً (104) وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106) قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً (93) } . قال البغوي: قوله عز وجل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} ، من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد وغيرها. {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} . قال ابن كثير: أي: جحودًا للحق وردًا للصواب. وقوله تعالى: {وَقَالُواْ} ، أي: مشركو قريش، {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} لن نصدّقك، {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً} ، قال قتادة: عيونًا. وقوله: {كِسَفاً} ، قال: قطعًا. {أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً} نعاميهم معاينة. وعن ابن عباس: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} ، يقول: من ذهب، وعنه: أن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث، وأبا البختري بن هشام، والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن

المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ونبيهًا ومنبّهًا ابني الحجّاج اجتمعوا، ومن اجتمع معهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلّموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك، فجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريعًا وهو يظنّ أنه بدا لهم في أمره بدء، وكان عليهم حريصًا يحبّ رشدهم، حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفّهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرّقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بينك وبيننا، فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا، وإن كنت تريد ملكًا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الأمر الذي بك رئي تراه حتى قد غلب عليك لا تستطيع ردّه، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك، وكانوا يسمّون التابع من الجن الرئي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف عليكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلّغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوه مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة،

وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» ، فقالوا: يا محمد، إن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس أحد أضيق منا بلادًا ولا أشدّ منا عيشًا، فسل لنا ربك الذي بعثك فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيّقت علينا ويبسط لنا بلادنا، ويفجر فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن منهم قصيّ بن كلاب فإنه كان شيخًا صدوقًا، فنسألهم عما تقول أحقّ هو أم باطل؟ فإن صدّقوك صدّقناك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بهذا بعثت فقد بلّغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه علي أصبر لأمر الله» . قالوا: فإن لم تفعل هذا، فسل ربك أن يبعث لنا مَلَكًا يصدّقك، وسله أن يجعل لك جنانًا وقصورًا وكنوزًا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه. فقال: «ما بعثت بهذا، ولكن الله بعثني بشيرًا ونذيرًا» . قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك لو شاء فعل، فقال: «ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم» ، وقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً. فلما قالوا ذلك قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقام معه عبد الله بن أبي أمية وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك أمورًا، يعرفون بها منزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تجعل لهما ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل، فوالله لا أؤمن لك أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سلمًا ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخة منشورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدّقك. فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله حزينًا لِمَا رأى فأنزل الله عز وجل: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً} الآيات. وقوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} ، أي: وليس ما سألتم في طوق البشر. قوله عز وجل: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَّسُولاً (94) قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً (95) قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً (97) ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ

كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً (99) قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً (100) } . قال البغوي: {مُطْمَئِنِّينَ} ، مستوطنين مقيمين، {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} ، أني رسوله إليكم. وقوله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ} ، قال ابن عباس: سكنت. أي: سكن لهيبها. وفي الصحيحين عن أنس قال: قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: «الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» . وقوله تعالى: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ} قال قتادة: أي: خشية الفاقة {وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً} ، قال: بخيلاً ممسكًا. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً (102) فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً (104) } . عن ابن عباس: قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ، قل: يد موسى وعصاه، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين، ونقص من الثمرات.

وروي عن الحسن: {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} . قال: سؤالك إياهم نظرك في القرآن. وقال البغوي: {فَاسْأَلْ} يا محمد، {بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ} موسى، يجوز أن يكون الخطاب معه والمراد غيره، ويجوز أن يكون خاطبه عليه السلام وأمره السؤال، ليتبيّن كذبهم مع قومهم. وقال في جامع البيان: {فَاسْأَلْ} ، يا محمد، {بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، عن الآيات ليطمئنّ قلبك ويظهر للمشركين صدقك. وقال بعض المفسرين: والسؤال سؤال استشهاد لمزيد الطمأنينة والإيقان لأن الأدلّة إذا تظاهرت كان ذلك أقوى وأثبت، والمسؤلون مؤمنو بني إسرائيل. وقوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَّؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ} . قال ابن كثير: أي: حججًا وأدلّة على صدق ما جئتك به، {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً} ، أي: هالكًا. وقوله تعالى: {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم} ، أي: يخرجهم، {مِّنَ الأَرْضِ} يعني: أرض مصر، {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} . قال قتادة: أي: جميعًا أوّلكم وآخركم. قوله عز وجل: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106) قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) } .

عن ابن عباس: قوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} يقول: فصّلناه. وعن قتادة: قوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} . قال: لم ينزل في ليلة ولا ليلتين ولا سنة ولا سنتين، ولكن كان بين أوله وآخره عشرون سنة وما شاء الله. وقوله تعالى: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ} . قال البغوي: هذا على طريق الوعيد والتهديد، {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ} . قال ابن كثير: أي: من صالحي أهل الكتاب الذين تمسّكوا بكتابهم ولم يبدّلوه، {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} ، قال ابن عباس: ... {لِلأَذْقَانِ} ، للوجوه، {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} . قال في جامع البيان: إنه {كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا} ، في الكتب السالفة بإرسال رسول خاتم الرسل، {لَمَفْعُولاً} ، واقعًا كائنًا. قوله عز وجل: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) } . عن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجدًا يدعو: «يا رحمن يا رحيم» فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدًا وهو يدعو مثنى، فأنزل الله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} الآية. وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا كلهنّ في القرآن، من أحصاهن دخل الجنة» . رواه ابن جرير.

وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} . قال: (كانوا يجهرون بالدعاء، فلما نزلت هذه الآية أمروا أن لا يجهروا ولا يخافتوا) . وعن عائشة قالت: (نزلت في الدعاء) . وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: (نزلت هذه الآية ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوارٍ بمكة {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} . قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن وسبّوا من أنزله ومن جاء به، قال: فقال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} ، أي: بقراءتك فيسمع المشركون فيسبّون القرآن، {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} ، عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} ) . وعن القرظي في هذه الآية: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} الآية. قال: إن اليهود والنصارى قالوا: اتخذ الله ولدًا، وقالت العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، وقال الصابئون والمجوس: لولا أولياء الله لذلّ، فأنزل الله هذه الآية: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} . والله الموفق. ــــــــــــ انتهى الجزء الثاني بحمد الله، ويليه الجزء الثالث ـــــــــــــ

تَألِيفُ فَضَيلةِ الشَّيْخِ العَلاَّمةِ فَيْصَلَ بِنَ عَبدِ العَزِيزِ آل مُبَارَك ت 1376هـ رَحِمَهُ اللهُ الجزء الثالث من سورة الكهف إلى سورة فصلت

الدرس السادس والخمسون بعد المائة

الدرس السادس والخمسون بعد المائة [سورة الكهف] مكية، وهي مائة وإحدى عشر آية ... روى مسلم وغيره عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال» . وعن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين» . رواه الحاكم وصححه. بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا

كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً (14) هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذَلِكَ

أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) } . * * *

قوله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً (8) } . عن ابن عباس: قوله: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً} ، يقول: أنزل الكتاب عدلاً قيماً، {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} . وقال قتادة: معناه: ... {أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} ولكن جعله {قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً} . قال بن إسحاق: عاجل عقوبة في الدنيا، وعذابًا في الآخرة {مِن لَّدُنْهُ} . أي: من عند ربك الذي بعثك رسولاً. {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} أي: في دار خلد لا يموتون فيه، الذين صدقوك بما جئت به عن الله وعملوا بما أمرتهم، {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} ، يعني: قريشاً في قولهم: إنما نعبد الملائكة وهن بنات الله. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} قولهم: إن الملائكة بنات الله {إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} . وعن قتادة: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} قاتلُ نفسك، {عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} ، قال: حزناً عليهم. قال ابن إسحاق: يعاتبه على حزنه عليهم، حين فاته ما كان يرجو منهم، أي: لا تفعل.

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} اختبارًا لهم، أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي. وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء» . وعن ابن إسحاق: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} ، يعني: الأرض إن ما عليها لفان وبائد، وإن المرجع إليّ، فلا تأس ولا يحزنك ما ستسمع وترى فيها. قال ابن كثير: وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة، فقال: حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي مُعَيط، إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتى قدما المدينة، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. قال: فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بِهِنّ: فهو نبي مرسل، وإلا: فهو رجل مُتَقَول قروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم؟ فإنهم قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّاف بلغ في مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبَأه؟ وسلوه عن الروح، ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر، وعقبة حتى قدما على قريش، فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد، أخبرنا: فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أخبركم غدًا عما سألتم عنه» . ولم يستثن، فانصرفوا عنه، ومكث

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة ليلة، لا يُحدث الله في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدًا، واليوم خمسَ عشرةَ قد أصبحنا فيها، لا يُخبرنا بشيء مما سألناه عنه. وحتى أحزنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكثُ الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخَبَر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} . قوله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا ... مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً (12) } . عن مجاهد: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} ، يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك. وقال ابن عباس: الرقيم وادٍ دون فلسطين وهو قريب من أيلة. وعن سعيد بن جبير قال: الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف. وعن قتادة قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا ... أَمَداً} ، يقول: ما كان لواحد من الفريقين علم، لا لكفارهم، ولا لمؤمنيهم. وعن مجاهد: {أَمَداً} ، قال: عددًا. قال ابن كثير: هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار، ثم بسطها بعد ذلك.

قوله عز وجل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً (14) هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً (16) } . قال ابن إسحاق: مرج أهل الإنجيل، وعظمت فيهم الخطايا، وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام، وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح متمسّكين بعبادة الله وتوحيده، فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقينوس، وكان قد عبد الأصنام، وذبح للطواغيت، وقتل من خالفه في ذلك. وقال مجاهد: كان أصحاب الكهف أبناء عظماء مدينتهم وأهل سوقهم، فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد، فقال رجل منهم هو أسنّهم: إني لأجد في نفسي شيئًا ما أظن أن أحدًا يجده، قالوا: ماذا تجد؟ قال: أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض، وقالوا: نحن نجد، فقاموا جميعًا: {فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} فاجتمعوا أن يدخلوا الكهف وعلى مدينتهم إذ ذاك جبار يقال له دقينوس، فلبثوا في الكهف {ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} رقداء. وعن قتادة: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} . يقول: بالإيمان، {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} يقول: كذبًا. وقال ابن زيد: الشطط الخطأ من القول. وقال ابن كثير: {شَطَطاً} ، أي: باطلاً، وكذبًا، وبهتانًا.

وقوله تعالى: {ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً} ، قال البغوي: ... {ويُهَيِّئْ لَكُم} : يسهّل لكم، {مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً} ، أي: ما يعود إليه يُسْرُكم ورفقكم. قوله عز وجل: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) } . عن ابن عباس: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} ، يقول: تميل عن كهفهم يمينًا وشمالاً، وقال: لو أن الشمس تطلع عليهم لأحرقتهم، ولو أنهم لا ينقلبون لأكلتهم الأرض. وعن سعيد بن جبير قال: {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ} تتركهم {ذَاتَ الشِّمَالِ} . وعن قتادة: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} . يقول: في فضاء من الكهف. {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} ، قال ابن قتيبة: كان كهفهم مستقبل بنات نعش. وقال ابن كثير: {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} ، أي: تدخل إلى غارهم من شمال بابه. وقوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} . قيل: إن أعينهم كانت مفتحة، {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} ، قال ابن عباس يقول: بالفناء. وقال ابن جريج: يحرس عليهم الباب، {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} ، أي: أنه تعالى ألقى عليهم المهابة فلا يقدر أحد أن يدنو منهم. قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ

كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً (21) } . عن عكرمة قال: كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم، رزقهم الله الإسلام، فتعوذوا بدينهم، واعتزلوا قومهم، حتى انتهوا إلى الكهف، فضرب الله على سمعهم فلبثوا دهرًا طويلاً، حتى هلكت أمتهم وجاءت أمة مسلمة وكان ملكهم مسلمًا فاختلفوا في الروح، والجسد. فقال قائل: يبعث الروح والجسد جميعًا، وقال قائل: يبعث الروح فأما الجسد فتأكله الأرض فلا يكون شيئًا، فشقّ على ملكهم اختلافهم، فانطلق فلبس المسوح وجلس على الرماد، ثم دعا الله تعالى: أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعامًا، فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه ويعرف الطرق، ويرى الإيمان بالمدينة ظاهرًا، فانطلق وهو مستخف حتى أتى رجلاً يشتري منه طعامًا، فلما نظر الرجل إلى الوَرِقِ أنكرها فقال له الفتى: أليس ملككم فلان قال: بل ملكنا فلان، فلم يزل ذلك بينهما حتى رفعه إلى الملك، فسأله فأخبره الفتى خبر أصحابه، فبعث الملك في الناس فجمعهم فقال: إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد، وإن الله قد بعث لكم آية، فهذا رجل من قوم فلان - يعني ملكهم الذي مضى - فقال الفتى: انطلقوا بي إلى أصحابي، فركب الملك وركب معه الناس حتى انتهوا إلى كهف، فقال الفتى: دعوني أدخل إلى

أصحابي، فلما أبصرهم ضرب على أذنه وعلى آذانهم، فلما استبطئوه دخل الملك ودخل الناس معه، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئًا غير أنها لا أرواح فيها، فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم. وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً} . قال ابن كثير: حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: إنهم المسلمون منهم. والثاني: أهل الشرك منهم، فالله أعلم. والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله اليهود، والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» . يحذر ما فعلوا. انتهى. قوله عز وجل: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) } . عن قتادة: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} ، يقول: قليل من الناس. وعن ابن عباس: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} ، قال: أنا من القليل، كانوا سبعة. {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء

ظَاهِراً} ، يقول: إلاَّ بما قد أظهرنا لك من أمرهم. وقال قتادة، أي: حسبك ما قصصنا عليك من شأنهم وعن ابن عباس: {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً} ، قال: هم أهل الكتاب. وعن أبي العالية في قوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ثم ذكرت فاستثن. وقوله تعالى: {وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} ، قال ابن كثير: أي: إذا سئُلت عن شيء لا تعلمه فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك. وعن مجاهد: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} ، قال: عدد ما لبثوا. وعن قتادة: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} ، فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع تبارك وتعالى. * * *

الدرس السابع والخمسون بعد المائة

الدرس السابع والخمسون بعد المائة {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ

مِنكَ مَالاً وَوَلَداً (39) فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) } . * * *

قوله عز وجل: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً (29) } . عن مجاهد: {مُلْتَحَداً} ، قال: ملجأ. وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} . قال ابن عباس: لا تجاورهم إلى غيرهم. وعن سعد بن أبي وقاص قال: (كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة، فقال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا، وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان، فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} . رواه مسلم. وقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} . قال مجاهد: ضياعًا. وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} . قال البغوي: هذا على طريق التهديد والوعيد. كقوله: ... {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} .

وعن ابن عباس في قوله {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} قال: حائط من نار، {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ} ، قال: هو ماء غليظ مثل درديّ الزيت. وقال الضحاك: ماء جهنم أسود. وهي: سوداء. وشجرها أسود، وأهلها سود. وقال سعيد بن جبير: المهل هو: الذي قد انتهى حره. وعن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يتجرّعه} ، قال: «يقرّب إليه فيتكرهه، فإذا قرّب منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شرب قطع أمعاءه، يقول الله: {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} . رواه ابن جرير. وعن مجاهد: {وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً} ، قال: مجتمعًا. وقال ابن كثير: {وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً} أي: وساءت النار نزلاً ومَقِيلا، ومجتمعًا، وموضعًا للارتفاق. كما في الآية الأخرى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} . قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن ... سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) } . لما ذكر تعالى حال الأشقياء، ثنى بذكر السعداء، الذين آمنوا بالله ورسله وعملوا بما أمروهم به. قال ابن كثير: والأرائك: جمع أريكة، وهي السرر تحت الحَجَلة، والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا: بالبشخانة. والله أعلم.

قوله عز وجل: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً (39) فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) } . لما ذكر سبحانه وتعالى الكافرين المستكبرين والمؤمنين المستضعفين، ضرب لهم مثلاً بهذين الرجلين؛ قال قتادة في قوله: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} تلك والله أمنية الفاجر كثرة المال وعزة النفر، {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} ، كفور لنعم ربه، مكذب بلقائه متمن على الله. وقوله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أي: يجادله {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} .

قال البغوي: وأصله: (لكن إنا) فحذفت الهمزة طلبًا للتخفيف لكثرة استعمالها، ثم أدغمت إحدى النونين في الأخرى. وقال ابن كثير: {لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أي: لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية، {وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} ، أي: بل هو الله المعبود وحده لا شريك له. قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} ، أي: فتكبرّت وتعظمت عليّ: قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله، أو ماله، أو ولده فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. {فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} ، أي: في الآخرة، {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} . قال قتادة: {حُسْبَاناً} : عذابًا، {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} ، قال ابن عباس: مثل الجزر، {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً} ، قال قتادة: ذاهبًا قد غار في الأرض، {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} . {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا} ، متلهّفًا على ما فاته وهو {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} . وعن مجاهد في قول الله عز وجل: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ} ، قال: عشيرته، ... {وَمَا كَانَ مُنتَصِراً} ، قال قتادة: ممتعنًا. وقوله تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} . قال ابن كثير: أي: هنالك كل أحد مؤمن، أو كافر يرجع إلى الله، وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب. كقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} . {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً} ، أي: جزاء. {وَخَيْرٌ عُقْبًا} ، أي: الأعمال التي تكون لله عز وجل، ثوابها خير، وعاقبتها حميدة رشيدة.

قوله عز وجل: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) } . عن ابن عباس قوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} ، قال: هي ذكر الله. قول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله، وصلى الله على رسول الله. والصيام، والصلاة، والحج، والصدقة، والعتق، والجهاد، والصلة، وجميع أعمال الحسنات. وهنّ الباقيات الصالحات، التي تبقى لأهلها في الجنة، ما دامت السماوات والأرض. وعن مجاهد: {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} ، لا حجر فيها ولا غيابة، ولا شجر، ولا بناء، ولا جبال فيها. وعن قتادة: قوله: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} ، اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء، ولم يشتك أحد ظلمًا، فإياكم والمحقّرات من الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه. ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يضرب لها مثلاً يقول: «كمثل قوم انطلقوا يسيرون حتى نزلوا بفلاة من الأرض، وحضر صنيع القوم، فانطلق كل رجل يحتطب، فجعل الرجل يجيء بالعود ويجيء الآخر بالعود، حتى جمعوا سوادًا كثيرًا وأجّجوا نارًا. فإن الذنب الصغير يجتمع على صاحبه حتى يهلكه» . * * *

الدرس الثامن والخمسون بعد المائة

الدرس الثامن والخمسون بعد المائة {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً (59) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) } . قال ابن كثير: يقول تعالى منبهًا بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم، ومقرعًا لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه وهو الذي أنشأه وابتدأه بألطافه ورزقه غذاه، ثم بعد هذا كله وإلى إبليس وعادى الله، فقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} ، أي: خانه أصله، فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» . فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه وخانه الطبع عند الحاجة، وذلك أنه قد توسّم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبّد وتنسك فلهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة. انتهى. وعن مجاهد في قول الله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ، قال: عصى في السجود لآدم، {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي} ، قال: ذريته هم الشياطين. قال قتادة: وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم. {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} بئسما استبدلوا بعبادة ربهم إذ أطاعوا إبليس. {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} ، قال: أعوانًا.

وقال ابن كثير: يقول تعالى: أنا المستقل بخلق الأشياء كلها، ومدبرها ومقدرها وَحْدي، ليس معي في ذلك شريك ولا وزير، ولا مشير. قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً (53) } . وعن ابن عباس: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً} ، قال: مهلكًا. وقال الحسن جعل بينهم عداوة يوم القيامة. وقوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا} ، قال قتادة: علموا. وقال ابن كثير: أي: إنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فإذا رأى المجرمون النار، تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها، ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز. وقوله: ... {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} ، أي: ليس لهم طريق يعدل بهم عنها، ولا بد لهم منها. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً (56) } . قال ابن زيد في قوله: {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} ، قال: الجدل:

الخصومة. خصومة القوم لأنبيائهم وردّهم عليهم ماجاءوا به. وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول - صلى الله عليه وسلم - طرقه، وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقال: «ألا تصليان» ؟ فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يُرجع إليّ شيئًا، ثم سمعته وهو مولّ يضرب فخذه ويقول: « {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} » . وقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} ، أي: في إهلاكهم إن لم يؤمنوا، {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} ، قال ابن عباس: عيانًا. وقال مجاهد: فجأة، أي: ما منعهم من الإيمان إلاَّ طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عيانًا. وقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} ، أي: قبل العذاب، {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً} . قوله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً (59) } . وعن قتادة في قوله: {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ، أي: نسي ما سلف من الذنوب وعن ابن عباس قوله: {لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً} ، يقول: ملجأ. وعن مجاهد: قوله: {لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} ، قال: أجلاً. * * *

الدرس التاسع والخمسون بعد المائة

الدرس التاسع والخمسون بعد المائة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً (64) فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً (74) قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (75) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً (76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا

السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً (82) } . * * * قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً (64) فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً (65) } . عن قتادة قوله: {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} . والبحران: بحر فارس والروم، وبحر الروم مما يلي الغرب، وبحر فارس مما يلي الشرق. وعن ابن عباس: قوله: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} ، قال: دهرًا. وقال عبد الله بن عمر: والحُقُب ثمانون سنة. وقال ابن عباس: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً} وحلق بيده. وعن مجاهد:

قوله: {فِي الْبَحْرِ عَجَباً} ، قال: موسى يعجب من أثر الحوت في البحر ودوراته التي غاب فيها، فوجدا عندها خطرًا. قوله عز وجل: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) } . عن ابن عباس: قال {فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} يعني: عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه. قوله عز وجل: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) } . عن قتادة قوله: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} ، أي: عجباً، إن قومًا لجّجوا سفينتهم فخرقتها كأحوج ما تكون إليها؟ ! ولكن عَلِم من ذلك ما لم يعلم نبي الله موسى. ذلك من علم الله الذي آتاه، وقد قال لنبي الله موسى عليه السلام: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} . قوله عز وجل: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً (74) قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (75) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً (76) } . قال سعيد بن جبير: وجد خضر غلمانًا يلعبون، فأخذ غلامًا ظريفًا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين. وعن قتادة: {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} ، والنكر أشد من الأمر. وعن أبيّ بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رحمة الله علينا، وعلى موسى، لو لبث مع

صاحبه لأبصر العجب، ولكنه قال: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} » . رواه ابن جرير. قوله عز وجل: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً (82) } . عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: أن نوفًا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه السلام ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثنا أُبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردَّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن لي عبدًا بمجمعِ البحرينِ، هو أعلم منك. قال موسى: يا ربّ وكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتًا، فتجعلهُ بمكتل

فحيثما فقدت الحوت فهو ثَمّ. فأخذ حوتًا فجعله بمكتل، ثُمَّ انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر، {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً} ، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغداة، {قَالَ} موسى: {لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} ولم يجد موسى النَصَب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، {قَالَ} له فتاه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} ، قال: فكان للحوت سربًا ولموسى وفتاه عجبًا. فقال: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} ، قال: فرجع يقصّان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة. فإذا رجل مسجّي بثوب، فسلم عليه موسى. فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام. فقال: أنا موسى. فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: أتيتك لتعلّمني {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} ، يا موسى إني على علم من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت. وأنت على علم من علم الله علّمكه الله لا أعلمه. فقال موسى: {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} ، قال له الخضر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * فَانطَلَقَا} ، يمشِيان عَلى ساحِل البحر، فمرّت سفينة فكلّموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواح السفينة بالقدّوم، فقال له موسى: قد حملونا بغير نول فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} ؟ ! {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} . قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فكانت الأولى من موسى نسيانًا» . قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين. فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا: مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا

من السفينة. فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع الغلمان، فأخذَ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتلهُ، فقال لهُ موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} ؟ ! ... {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً} ؟ قال: وهذه أشد من الأولى، {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} ، {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} ، أي: مائلاً. فقال الخضر بيده {فَأَقَامَهُ} فقال موسى: قوم آتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا؟ ! {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما» . قال سعيد بن جبير: كان ابن عباس: يقرأ (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا) ، وكان يقرأ: (وأما الغلام كان كافرًا وكان أبواه مؤمنين) راوه البخاري وفي رواية: (وفي أصل الصخرة عين يقال لها: الحياة. لا يصيب من ماءها شيء إلا حَيِيَ فأصاب الموت من ماء تلك العين فتحرَّك وانسلّ من المكتل فدخل البحر) . وفي رواية: (فرجعا فوجدا خضرًا على طنفسة خضراء، على كبد البحر؛ وفيها) . قال سعيد: وجد غلمانًا يلعبون فأخذ غلامّا كافرًا ظريفًا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين فقال: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً} لم تعمل الخبث؟ وفيها كانت الأولى نسيانًا، والثانية: شرطًا. والثالثة: عمدًا. وعن ابن عباس في قوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} ، قال: حُفِظَا بصلاح أبيهما. * * *

الدرس الستون بعد المائة

الدرس الستون بعد المائة {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ

أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً (108) قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) } . * * *

قوله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً (88) } . عن ابن عباس قوله: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} ، يقول: علمًا، {فَأَتْبَعَ سَبَباً} ، يعني: بالسبب المنزل. وقال مجاهد: منزلاً وطريقًا ما بين المشرق، والمغرب. قال ابن كثير: يسر الله له الأسباب. أي: الطرق، والوسائل إلى فتح الأقاليم وكسر الأعداء. وقال وهب بن منبه: سخَّر الله له النور، والظلمة فجعلهما جندًا من جنوده. ورُوي عن عليّ رضي الله عنه: سخّر له السحاب، ومدت له الأسباب، وبسط له النور، وأحب الله وأحبه. قال بعض المفسرين: والسبب في اللغة: الحيل، والمراد ها هنا: كل ما يتوصّل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة. وقال البخاري: باب قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ} إلى قوله: {سَبَباً} ، قال الحافظ: في إيراد المصنف ترجمة ذي القرنين قبل إبراهيم إشارة إلى توهين قول من زعم أنه الإسكندر اليوناني.

إلى أن قال: والذي يظهر أن الإسكندر لقب بذي القرنين تشبهًا به لسعة ملكه، والذي يقوي أن ذي القرنين من العرب كثرة ما ذكروه في أشعارهم. وقال الربيع بن ضبيع، والصعب: ذو القرنين عمّر ملكه ألفين وأمسى بعد ذلك رميمًا. وعن ابن عباس: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ، قال: في طين أسود. قال ابن كثير: وقوله: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ، أي: رأوا الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله يراها كأنها تغرب فيه، وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه. والحَمِئَة: مشتقة على إحدى القراءتين من الحمأة. وهو: الطين. أي: طين أملس. وعن ابن عباس: وجدها تغرب في عين حامية. أي: حارة، ولا منافاة بين معنييها، إذ قد تكون حارة لمجاورتها وضح الشمس عند غروبها، وملاقاتها الشعاع بلا حائل، وحمئة في ماء، وطين، أسود. وعن قتادة في قوله: {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} ، قال: هو القتل. وقوله: {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} ، يقول: ثم يرجع إلى الله تعالى بعد قتله فيعذبه عذابًا عظيمًا. وعن مجاهد قوله: {مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} ، قال: معروفًا. قال البغوي: أي: تلين له القول وتعامله باليسر. قوله عز وجل: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً (91) } . قوله عز وجل: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} منازل الأرض ومعالمها، {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً} . قال ابن جرير: وذلك أرضهم لا جبل فيها ولا شجر ولا تحتمل بناء فيسكنوا البيوت، وإنما يغورون في المياه أو يسربون في الأسراب.

وقوله تعالى: {كَذَلِكَ} ، أي: كما حكم في القوم الذين هم عند مغرب الشمس حكم في هؤلاء، {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} . قال البغوي: يعني: بما عنده ومعه من الجند والعدة والآلات {خُبْراً} أي: علمًا. قوله عز وجل: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً (97) } . وعن قتادة في قوله: {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} ، قال: هما جبلان. قال أبو عبيدة: السدّ إذا كان بخلق الله فهو بضم السين، وإذا كان من عمل العباد فهو بالفتح. قال بعض المفسرين: والردم أكبر من السد. وقال ابن كثير في (البداية والنهاية) : أما السد فقد تقدم أن ذا القرنين بناه من الحديد، والنحاس، وساوى به الجبال الصم، الشامخات الطوال. فلا يعرف على وجه الأرض بناء أجلّ منه ولا أنفع للخلق منه في أمر دنياهم. قال البخاري: وقال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: رأيتُ السدّ قال: «وكيف رأيته» ؟ قال: مثل: البُرْدِ المُحَبَّرِ. فقال: «رأيته» . وعن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلاً قال: يا نبي الله: قد رأيت سد يأجوج ومأجوج. قال: «انعْته» قال: كأنه البُرْدُ المُحَبَّر طريقة سوداء، وطريقة

حمراء. قال: «قد رأيته» . وعن الضحاك في قوله: {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} ، يعني: الجبلين. وهما من قِبَل أرمينية، وأذريبيجان. قال ابن كثير: وقد بعث الخليفة الواثق في دولته بعض أمرائه، وجهز معه جيشًا سريًا. لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا، فتوصلّوا من بلاد إلى بلاد ومن ملُك إلى ملك حتى وصلوا إليه ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس، وذكروا أنهم رأوا فيه بابًا عظيمًا وعليه أقفال عظيمة، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك، وأن عنده حرسًا من الملوك المتاخمة له، وأنه عال منيف، شاهق لا يُستطاع ولا ما حوله من الجبال. ثم رجعوا إلى بلادهم وكانت غيبتهم أكثر من سنتين، وشاهدوا أهوالاً وعجائب. انتهى. قلت: ولا يشكل على ذلك أن الدول المتأخرة لم تكتشفه، فإنها وإن أعطيت ما أعطيت من القوة والآلة، فلم يبلغوا معشار ما أوتي ذو القرنين، فإن الله يسّر له الأسباب والوسائل لفتح المدائن والأقاليم، وأطال عمره ووسّع ملكه وكسر أعداءه، وسخر له النور والظلمة، فجعلهما جندًا من جنوده. وكان إذا انتهى إلى بحر أو مخاضة بنى سفنًا من ألواح صغار أمثال النعال، فنظمها ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم والجنود، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها ثم دفع إلى كل إنسان لوحًا فلا يكرثه حمله، وكان إذا البحر الجامد ألقى عليه ما يذيبه فخاضه، وإذا أراد أن يجمد الماء ألقى عليه ما يجمده فمشي فوقه، وبعث النور والظلمة على ما يريد بحسب حاجته، وذلك مدد من الله تعالى، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} . قال وهب بن منبه: ما بين الصدفين مائة فرسخ، فلما أنشأ في عمله حفر له أساسًا حتى بلغ الماء، ثم جعل عرضه خمسين فرسخًا، وجعل حشوه الصخور، وطينه النحاس يذاب ثم يصبّ عليه، فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض، ثم علاه وشرفه بِزُبَرِ الحديد والنحاس المذاب.

وعن ابن جريج: {فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ} ، قال: يعلوه، {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} ، أي: ينقبوه من أسفله. قال وهب بن منبه: وهو في منقطع أرض الترك مما يلي مشرق الشمس، بُعْدُ ما بينهما مائة فرسخ، وجعل خلاله عرقًا من نحاس أصغر، فصار كأنه بُرْدٌ مُحَبَّر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. قال ابن كثير: وقوله: {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} ، أي: لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس. وقال البغوي: أي: لا يفقهون كلام غيرهم. قال ابن عباس: لا يفقهون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم. وقال في جامع البيان {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} يعني: لعجمهم وقله فطانتهم، لا يفهمون كلام أحد، ومن قرأ بضم الياء وكسر القاف، أي: لا يفهمون السامع لغرابة ألسنتهم. قوله عز وجل: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) } . روى ابن جرير وغيره عن أبي هريرة عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن يأجوج ومأجوج يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فتحفرونه غدًا فيعيده الله وهو كهيئته حتى إذا جاء الوقت قال: إن شاء الله فيحفرونه، ويخرجون على الناس فينشفون المياه ويتحصن الناس في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع كهيئة الدم فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء. فيبعث الله عليهم نغفًا في أقفائهم فتقتلهم» . فقال

رسول الله: «والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم» . وعن زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: استيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - من نومه وهو محمّر وجهه وهو يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه. وحلّق بأصبعه الإبهام والتي تليها» ، فقلت: يا رسول الله أفنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كَثُرَ الخَبَثُ» . متفق عليه. وفي رواية: وعقد وهب تسعين. قال الحافظ العسقلاني: وعقد التسعين أن يجعل طرف السبابة اليمنى في أصلها ويضمها ضمًا محكمًا بحيث تنطوي عقدتاها حتى تصير مثل الحية المطوّقة. وقال: المراد بالردم السد الذي بناه ذو القرنين. قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} ، قال السدي: ذاك حين يخرجون على الناس، أي: في زمان عيسى قبل يوم القيامة وبعد الدجال، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} . وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} أي: يوم القيامة، {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} ، أي: تعاموا، وتصامموا، وتغافلوا عن قبول الحق، واستماع القرآن. كما قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} . وفي رواية الصحيحين: إن الله تعالى يقول: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: ابعث بعث النار؛ فيقول: ما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فحينئذٍ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها،

فقالوا: يا رسول الله وأيُّنا ذلك الواحد؟ فقال: «إن فيكم أمّتين ما كانتا في شيء إلاَّ كثّرتاه: يأجوج ومأجوج» . قوله عز وجل: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً (108) } . عن ابن جريج في قوله: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء} ، قال: يعني: من يعبد المسيح ابن مريم والملائكة، وهم عباد الله ولم يكونوا للكفار أولياء. عن مصعب بن سعد قال: قلت لسعد: يا أبت {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} أهم الحرورية؟ فقال: لا. ولكنهم أصحاب الصوامع، ولكن الحرورية قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم. وفي رواية: ولكن الحرورية الذين {يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، فكان سعد يسمّيهم: الفاسقين. وعن علي بن أبي طالب أن ابن الكواء سأله عن قول الله عز وجل: ... {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} ؟ فقال: أنت وأصحابك. وعن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناج بعوضة، - وقال: اقرأوا إن شئتم -: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} » . متفق

عليه. وفي الصحيحين أيضًا: إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنها أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجّر أنهار الجنة. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {نُزُلاً} ، أي: ضيافة، {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} ، قال ابن عباس: لا يريدون أن يتحوّلوا عنها، كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى. قوله عز وجل: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) } . عن قتادة: قوله: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} إذًا: ... {لَنَفِدَ} ماء البحر، {قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ} الله وحكمه. وقوله تعالى: {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} . قال ابن كثير: أي: بمثل البحر، آخر ثم آخر. وهلمّ جرًّا بحور تمدّه ويكتب بها لما نفدت كلمات الله كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} ، أي: فإني لا أعلم الغيب إلا ما أطلعني الله عليه من خبر أصحاب الكهف وذي القرنين وغير ذلك. {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ، قال ابن عباس: علّم الله رسوله التواضع لئلا يزهو على خلقه، فأمره الله أن يقرّ فيقول: أنا آدميّ مثلكم إلا أني خُصِّصْتُ بالوحي، وأكرمني الله به {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} . قال ابن جرير: فمن يخاف ربه يوم لقائه ويراقبه على معاصيه ويرجو ثوابه على طاعته، {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} ، يقول: فليخلص له العبادة وليفرد له الربوبية. وعن سعيد بن جبير: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ} ، قال: ثواب ربه. قال البغوي: فالرجاء يكون بمعنى الخوف والأمل جميعًا. وقوله تعالى: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ، قال سفيان: لا يرائي. وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن الله عز وجل أنه قال: «أنا خير الشركاء، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه هو والذي ... أشرك» . رواه أحمد. * * *

الدرس الحادي والستون بعد المائة

الدرس الحادي والستون بعد المائة [سورة مريم عليها السلام] مكية، وهي ثمان وتسعون آية بسم الله الرحمن الرحيم {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً (12) وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً (13) وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً (15) } . * * *

قوله عز وجل: {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً (6) } . عن قتادة قوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً} ، أي: سرًا، وإن الله يعلم القلب النقي ويسمع الصوت الخفي، {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} ، أي: ضعف، {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} ، قال ابن جريج يقول: قد كنت تعرفني الإجابة فيما مضى، {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي} ، قال ابن عباس: يعني بالموالي: الكلالة الأولياء أن يرثوه، فوهب الله له يحيى. قال قتادة: هم العصبة. وقوله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ، قال مجاهد: كان وراثته علمًا، وكان زكريا من ذرية يعقوب. وقال الحسن: يرث نبوته وعلمه. قال البغوي: وقال الزجاج: والأولى أن يحمل على ميراث غير المال، والمعنى: أنه خاف تضييع بني عمه دين الله وتغيير أحكامه، على ما كان شاهد من بني إسرائيل من تبديل الدين وقتل الأنبياء، فسأل ربه ولدًا صالحًا يأمنه على أمته ويرث نبوته وعمله، لئلا يضيع الدين، وهذا معنى قول عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقوله: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} .

قال ابن كثير: أي: مرضيًا عندك وعند خلقك، تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه. قوله عز وجل: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً (11) } . عن قتادة قوله: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} ، عبد أحياه الله للإيمان، {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} ، قال: لم يسمّ قبله أحد بهذا الاسم. وقال ابن عباس: لم تلد العواقر مثله ولدًا قط. وقال مجاهد: ... {عِتِيّاً} ، يعني: تحول العظم. وعن ابن عباس {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} ، قال: اعتقل لسانه من غير مرض. قال قتادة: وإنما عوقب بذلك لأنه سأل آية بعدما شافهته الملائكة مشافهة، أخذ بلسانه حتى ما كان يفض الكلام إلاَّ أومأ إيماء. وقال ابن زيد في قوله: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} ، وأنت صحيح. قال: فحبس لسانه فكان لا يستطيع أن يكلم أحدًا، وهو في ذلك يسبّح ويقرأ التوراة، {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} ، قال: المحراب مصلاّه، {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} وهو لا يكلمهم. قوله عز وجل: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً (12) وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً (13) وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً (14)

وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً (15) } . عن مجاهد: {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} ، قال: بجدّ. وقال ابن زيد: القوة أن يحمل ما أمره الله به، ويجانب فيه ما نهاه الله. قال ابن جبير وقوله: ... {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} ، يقول تعالى ذكره: وأعطيناه الفهم بكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال. وقوله: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} ، يقول تعالى ذكره: ورحمة منا به ومحبة له آتيناه الحكم صبيّاً. وعن ابن عباس قوله: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} ، يقول: ورحمة من عندنا. وقال الضحاك: رحمة من عندنا لا يملك عطاءها أحد غيرنا. وعن مجاهد قوله: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} ، قال: تعطّفًا من ربه عليه. وعن قتادة قوله: {وَزَكَاةً} ، قال: الزكاة: العمل الصالح. وعن ابن عباس: {وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً} ، قال: طُهَّرَ فلم يعمل بذنب. وقال ابن عطية: أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه في محشر عظيم؛ قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصّه بالسلام عليه فقال: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} . وقال الحسن: إن عيسى ويحيى التقيا، فقال له عيسى: استغفر لي أنت خير مني، فقال له الآخر: استغفر لي أنت خير مني، فقال له عيسى: أنت خير مني، سلّمتُ على نفسي وسلم الله عليك، فعرف والله فضلهما. قال ابن كثير: وقوله: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} ، لما ذكر تعالى طاعته لربه، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة، وتقى عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما، ومجانبته عقوقهما قولاً وفعلاً، أمرًا ونعيًا، ولهذا قال: {وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} ، ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} . * * *

الدرس الثاني والستون بعد المائة

الدرس الثاني والستون بعد المائة {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً (21) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً (22) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31) وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى

أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (38) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) } . * * *

قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً (21) } . عن قتادة في قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ} ، أي: انفردت، {مِنْ أَهْلِهَا} ، قال السدي: خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها، وهو قوله: {إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً} في شرقي المحراب، {فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} ، قال وهب بن منبه: أرسل الله جبريل إلى مريم، وقال السدي: فلما طهرت من حيضها إذا هي برجل معها قالت: {إِنِّي أَعُوذُ} بالله، {مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} ، قال ابن زيد: قد عَلِمَتْ أن التُّقَى ذو نهية، ... {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} ، قال جبريل: {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} وإن لم يكن لك بعل ولا يوجد منك فاحشة، فإنه على ما يشاء قادر، ولهذا قال: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} ، أي: علامة على قدرة الله، {وَرَحْمَةً مِّنَّا} للمؤمنين، {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} لا يردّ ولا يبدل. وقد قال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} . قال وهب بن منبه: لما أرسل الله جبريل إلى مريم نفخ في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت.

قوله عز وجل: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً (22) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً (26) } . عن ابن عباس: {فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} ، قال: مكانًا نائيًا. وعن قتادة: {فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} ، قال: اضطرّها إلى جذع النخلة. وقال السدي: {قَالَتْ} وهي تطلق استحياء من الناس: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} ، قال قتادة تقول: لا أعرف ولا يدري من أنا. وقال ابن زيد: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا} ، قال: عيسى ناداها: {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} ، قال البراء بن عازب: هو: الجدول. وقال ابن عباس: وهو: نهر عيسى. وقال سعيد بن جبير: هو: الجدول. النهر الصغير، وهو بالنبطية سري. وعن ابن عباس: ... {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} ، قال: كان جذعًا يابسًا، فقال: هُزّيه {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} ، قال عمرو بن ميمون: ما من شيء خير للنفساء من التمر، والرطب. وقوله تعالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} ، قال الضحاك: كان من بني إسرائيل من إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم من الطعام، إلاَّ من ذِكْرِ الله. قوله عز وجل: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31) وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ

يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ ... لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36) } . عن قتادة: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} ، قال: عظيمًا، {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} ، قال: كانت من أهل بيت يُعرفون بالصلاح ولا يُعرفون بالفساد، قال: وكان من بني إسرائيل رجل صالح يسمى هارون، فشبّهوها به، يعني: في الصلاح. وعن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران فقالوا لي: ألستم تقرءون {يَا أُخْتَ هَارُونَ} ؟ قلت: بلى، وقد علمتم ما كان بين عيسى، وموسى، فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم» . رواه مسلم وغيره. وعن وهب بن منبه: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} ، يقول: أشارت إليه أن كلّموه، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} ، فأجابهم عيسى عنها فقال لهم: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} الآية. وقال عكرمة: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} قضى أن يؤتيني الكتاب. وعن مجاهد: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} ، قال: مقامًا. وقال سفيان: معلمًا للغير. وقال قتادة: ذكر لنا أنه كان يقول: سلوني فإن قلبي لين، وإني صغير في نفسي، مما أعطاه الله من التواضع. وقال بعض السلف: لا تجد عاقّاً إلاَّ وجدته جبارًا شقيًا، ولا تجد سيّئ الملكة إلا وجدته مختالاً فخورًا. وعن قتادة قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} امترت اليهود والنصارى، فأما اليهود فزعموا أنه ساحر كذاب، وأما النصارى فزعموا أنه ابن الله، وثالث وثلاثة، وإله، وكذبوا كلهم، ولكنه عبد الله ورسوله، وكلمته وروحه.

قوله عز وجل: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (38) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) } . قال قتادة: ذكر لنا أنه لما رفع ابن مريم انتخبت بنو إسرائيل أربعة من فقهائهم فقالوا للأول: ما تقول في عيسى؟ قال: هو الله هبط إلى الأرض فخلق ما خلق وأحيا ما أحيا، ثم صعد إلى السماء، فتابعه على ذلك ناس من الناس فكانت اليعقوبية من النصارى. وقال الثلاثة الآخرون: نشهد أنك كاذب؛ فقالوا للثاني: ما تقول في عيسى؟ قال: هو ابن الله، فتابعه على ذلك ناس من الناس فكانت النسطورية من النصارى. وقال الاثنان الآخران: نشهد إنك كاذب؛ فقالوا للثالث: ما تقول في عيسى؟ قال: هو إله، وأمه إله، والله إله، فتابعه على ذلك ناس من الناس فكانت الإسرائيلية من النصارى. فقال الرابع: أشهد أنك كاذب، ولكنه عبد الله ورسوله، هو كلمة الله وروحه، فاختتم القوم فقال المرء المسلم: أنشدكم الله ما تعلمون أن عيسى كان يَطْعَمُ الطعام، وأن الله تبارك وتعالى يُطْعِمُ الطعام؟ قالوا: اللهم نعم، قال: ما تعلمون أن عيسى كان ينام؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فخصمهم المسلم. وقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ، أي: ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة. قال قتادة: سمعوا حين لا ينفعهم السمع، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر وقال ابن زيد: هذا في القيامة، فأما في الدنيا فلا كانت على أبصارهم غشاوة وفي آذانهم وقرًا. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل

الجنة هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبّون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: فيقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبّون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: فيؤتى به فيُذبح، قال ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وأشار بيده ثم قال: «أهل الدنيا في غفلة الدنيا» رواه أحمد وغيره. وكتب عمر بن عبد العزيز لبعض عماله: (أما بعد فإن الله كتب على خلقه حين خلقهم الموت فجعل مصيرهم إليه، وقال فيما أنزل في كتابه الصادق الذي حفظه بعلمه وأشهد ملائكته على حفظه، أنه يرث الأرض ومن عليها وإليه ترجعون) . * * *

الدرس الثالث والستون بعد المائة

الدرس الثالث والستون بعد المائة {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً (49) وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً (51) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً (57) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ

غَيّاً (59) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً (65) } * * *

قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً (48) } . قال البغوي: الصديق: الكثير الصدق القائم عليه وعن الحسن: ... {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} ، قال طويلاً. قال ابن إسحاق يقول: دهرًا والدهر الملي وعن ابن عباس [قوله] : {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} ، يقول: لطيفًا. قال ابن جرير: وقوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} ، يقول: وأجتنبكم وما تدعون من دون الله من الأوثان والأصنام، {وَأَدْعُو رَبِّي} ، يقول: وأدعو ربي بإخلاص العبادة له وإفراده بالربوبية، {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً} ، يقول: عسى أن لا أشقى بدعاء ربي، ولكن يجيب دعاء ربي، ويعطني ما أسأله. قوله عز وجل: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً (49) وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً (50) } .

عن ابن عباس قوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} ، يقول: الثناء الحسن. قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً (51) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً (53) } . قال البغوي: {مُخْلَصاً} ، أي: مختارًا اختاره الله عز وجل. وقوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} ، أي: جانبه الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة. وعن ابن عباس: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} ، قال: أُدْنِيَ حتى سمع صريف القلم. {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} ، قال: كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد وهب له نبوته. قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً (55) } . عن مجاهد في قوله: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} ، قال: لم يَعِدْ شيئًا إلاَّ وفى به. قال بعض السلف: إنما قيل له: صادق الوعد لأنه قال لأبيه: ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فصدق في ذلك. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» . قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً (57) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ ... وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58) } .

عن مجاهد: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} ، قال: السماء الرابعة. وفي حديث المعراج في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - لما عرج به إلى السماء قال: «أتيت على إدريس في السماء الرابعة» . وعن الأعمش عن إبراهيم قال: قرأ عمر ابن الخطاب سورة مريم فسجد فقال: (هذا السجود فأين البكي؟) . قوله عز وجل: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً (65) } . عن ابن مسعود أنه قيل له: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن: ... {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} و {عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} و {عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} فقال ابن مسعود رضي الله عنه: على مواقيتها، قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا على الترك، قال: (ذاك الكفر) . وعن مجاهد قوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} ، قال: عند قيام الساعة، وذهاب صالح أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ينزو بعضهم على بعض في الأزقّة. وعن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله أنه قال في

هذه الآية: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} ، قال: نهر في جهنم خبيث الطعم، بعيد القعر، يعذّب فيه الذين يتّبعون الشهوات. وقوله تعالى: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} ، يعني: أنهم لم يروها، {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} ، أي: العباد صائرون إلى ما وعدهم الله، ووعده آت لا محالة. وعن قتادة: قوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} ، فيها ساعتان: بكرة وعشيّ، فإن ذلك لهم لبس ثم ليل، إنما هو: ضوء، ونور، وقال: كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء يحجب له، فأخبرهم الله أن لهم في الجنة بكرة وعشيًا قدر ذلك الغداء والعشاء. وقوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} قال ابن جرير: يقول: من كان بكرة وعشيًا قدر ذلك الغداء والعشاء ذا اتقاء عذاب الله، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. وعن ابن عباس: أن محمدًا قال لجبرائيل: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا» ؟ فنزلت هذه الآية: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} . قال: هذا الجواب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. رواه ابن جرير وغيره. وقال سعيد بن جبير: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} من أمر الآخرة، {وَمَا خَلْفَنَا} ما مضى من الدنيا. وعن مجاهد {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} قال: ما نسيك ربك. وعن قتادة: قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} ، لا سميّ لله ولا عدل له، كل خلقه يقوله ويعترف: الله خالقه، ويعرف ذلك ثم يقرأ هذه الآية: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} . وعن مجاهد في هذه الآية: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} ، قال: هل تعلم له شبيهًا؟ هل تعلم له مثلاً تبارك وتعالى؟ . * * *

الدرس الرابع والستون بعد المائة

الدرس الرابع والستون بعد المائة {وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً (70) وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً (74) قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً (77) أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ

الرَّحْمَنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) } . * * *

قوله عز وجل: {وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً (70) وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (72) } . في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يقول الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وآذاني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأما أذاه إياي فقوله: إن بها ولدًا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد» . وعن ابن عباس قوله: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} ، يعني: القعود، وهو مثل قوله: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} . {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} ، يقول: أيهم أشد للرحمن معصية. وهي: معصيته في الشرك. وقال أبو الأحوص: نبدأ بالأكبر فالأكبر جرمًا. وقوله تعالى: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً} . قال البغوي: أي: أحق بدخول النار، يقال: صلى يصلى صليًّا إذا دخل النار وقاسى حرّها.

وقال ابن كثير: ثم ها هنا لعطف الخبر على الخبر، والمراد: أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلد فيها، وبمن يستحق تضعيف العذاب. وعن ابن عباس قوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} ، يعني: البر والفاجر. وعن ابن مسعود: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ، قال: داخلها. وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يردها الناس كلهم ثم يَصْدُرون عنها بأعمالهم» . رواه أحمد وغيره. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلاَّ تَحِلَّه القسم» . وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يوضع الصراط بين ظهري جهنم عليه حسك كحسك السعدان، ثم يستجيز الناس فناج مسلّم، ومجروح به، ثم ناجٍ ومحتبس ومكدس فيها حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد تفقد المؤمنون رجالاً كانوا معهم في الدنيا: يصلون صلاتهم، ويزكون زكاتهم، ويصومون صيامهم، ويحجون حجهم، ويغزون غزوهم، فيقولون: أي ربنا من عبادك كانوا معنا في الدنيا يصلون صلاتنا، ويزكون زكاتنا، ويصومون صومنا، ويحجون حجنا، ويغزون غزونا، لا نراهم! . فيقول: اذهبوا إلى النار فمن وجدتم فيها منهم فأخرجوه. فيجدونهم قد أخذتهم النار على قدر أعمالهم، فمنهم من أخذته النار إلى قدميه، ومنهم من أخذته النار إلى نصف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى ركبتيه، ومنهم من أخذته إلى ثدييه، ومنهم من أخذته إلى عنقه، ولم تغش الوجوه. فيستخرجونهم منها، فيطرحون في ماء الحياة. قيل وما ماء الحياة يا

رسول الله؟ قال: «غسل أهل الجنة فينبتون كما تنبت الزرعة في غثاء السيل. ثم تشفع الأنبياء في كل من كان يشهد أن لا إله إلا الله مخلصًا، فيستخرجونهم منها، ثم يتحنن الله برحمته على من فيها فما يترك فيها عبدًا في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا أخرجه منها» . رواه ابن جرير. وعن حفصة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدرًا والحديبية» ، قالت فقلت: أليس الله يقول: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} . قالت: فسمعته يقول: « {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} » . رواه أحمد وغيره. قوله عز وجل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً (74) قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً (76) } . عن ابن عباس: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} ، قال: المقام المسكن، والنديّ: المجلس، والنعمة، والبهجة. قال قتادة: رأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عيشهم خشونة، وفيهم قشافة فعرض أهل الشرك بما تسمعون، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن

قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} ، قال: أكثر متاعًا وأحسن منزلة ومستقرًا، فأهلك أموالهم وأفسد صورهم عليهم تبارك وتعالى. وقال ابن عباس: الرئيّ: المنظر الحسن. وعن مجاهد قوله: {فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} ، فليدعه الله في طغيانه. وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا} ، أي: في الدنيا، {وَإِمَّا السَّاعَةَ} فيدخلون النار، {فَسَيَعْلَمُونَ} عند ذلك، ... {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً} أهم، أم المؤمنون؟ {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} ، أي: إيمانًا ويقينًا على يقينهم {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} أي: الأذكار، وجميع الأعمال الصالحة التي تبقى لصاحبها، {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} ، أي: عاقبة، ومرجعًا. قوله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ ... مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً (80) } . في الصحيحين عن خباب بن الأرت قال: (كنت رجلاً قينًا وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه منه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - حتى تموت ثم تُبعث قال: فإني إذا متّ ثم بعثت جئتني ولي ثَمّ مال وولد فأعطيتك، فأنزل الله: ... {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً إلى قوله: {وَيَأْتِينَا فَرْداً} . وقوله تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلَّا} ، قال البغوي: ردّ عليه، يعني: لم يفعل ذلك.

وقال ابن كثير: وقوله: {كَلَّا} ، هي حرف ردع لما قبلها، وتأكيد لما بعدها. وعن مجاهد قوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} ماله وولده، {وَيَأْتِينَا فَرْداً} ، قال قتادة: لا مال له ولا ولد. قوله عز وجل: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (87) } . قال الضحاك في قوله: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} ، قال: أعداء. وقال مجاهد: عدنا عليهم نخاصمهم ونكذبهم. وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} ، قال ابن عباس إغراء في الشرك. وقال ابن زيد: تشليهم أشلاء على معاصي الله. وعن ابن عباس قوله: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} ، يقول: أنفاسهم التي يتنفسون في الدنيا، فهي معدودة وآجالهم. وعن علي في قوله: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} ، قال: (أما والله ما يحشر الوفد على أرجلهم ولا يساق سوقًا، لكنهم يؤتون بِنُوقٍ لم ير الخلائق مثلها، عليها رحال الذهب، وأزمتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة) . وعن ابن عباس قوله: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} ، يقول: عطاشًا، {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} ، قال: العهد شهادة أن لا الله إلاَّ الله، ويتبّرأ إلى الله من الحول ولا يرجو إلاَّ الله. قال ابن جريج: المؤمنون يومئذٍ بعضهم لبعض شفعاء.

قوله عز وجل: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95) } . عن ابن عباس قوله: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} ، يقول: لقد جئتم شيئًا عظيمًا، وهو المنكر من القول، {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} ، قال: إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلاَّ الثقلين، وكادت أن تزول منه لعظمة الله، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحّدين؛ وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقّنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله، فمن قالها عند موته وجبت له الجنة» . قالوا: يا رسول الله فمن قالها في صحته؟ قال: «تلك أوجب وأوجب. - ثم ... قال -: والذي نفسي بيده لو جيء بالسماوات والأرض وما فيهن وما بينهنّ وما تحتهن، فوضعن في كفة الميزان، ووضعت شهادة أن لا أله إلاَّ الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن» . وقوله تعالى: {وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} ، أي: ما يليق به اتخاذ الولد، {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} ، أي: الخلق كلهم عبيده، {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} . قال ابن جرير: يقول: وجميع خلقه سوف يرد عليه يوم تقوم الساعة وحيدًا لا ناصر له من الله ولا دافع عنه.

قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) } . عن مجاهد في قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} ، قال: محبة في المسلمين في الدنيا. وقال ابن عباس: يحبّهم ويحبّبهم. يعني: إلى المؤمنين. وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} ، أي: سهلنا القرآن {بِلِسَانِكَ} يا محمد، {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} ، قال قتادة: أي جدالاً بالباطل، ذوي لدد، وخصومة. وقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} ، قال قتادة: هل ترى عينًا أو تسمع صوتًا؟ . * * *

الدرس الخامس والستون بعد المائة

الدرس الخامس والستون بعد المائة [طه] مكية، وهي مائة وخمس وثلاثون آية بسم الله الرحمن الرحيم {طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى (3) تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ

إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) } . * * *

قوله عز وجل: {طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى (3) تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى (8) } . عن ابن عباس قوله تعالى: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ، فإن قومه قالوا: لقد شقي هذا الرجل بربه فأنزل الله تعالى ذكره {طه} ، يعني: يا رجل، {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} . وقال قتادة: {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ، لا والله ما جعله شقاء، ولكن جعله رحمة ونورًا ودليلاً إلى الجنة، {إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} وأن الله أنزل كتابه وبعث رسله رحمة رحم الله بها العباد، ليتذكر ذاكر وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله وهو ذاكرًا له، أنزل الله فيه حلاله وحرامه. فقال: {تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: الرحمن على عرشه ارتفع وعلا. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} ، قال

محمد بن كعب: أي: ما تحت الأرض السابعة. {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} ، قال ابن عباس: السر: ما علمته أنت، وأخفى ما قذف الله في قلبك مما لم تعلم. وفي رواية: السر ما أسرّ الإنسان في نفسه، وأخفى ما لم يعلمه الإنسان مما هو كائن. {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى} . قال ابن كثير: أي: الذي أنزل عليك القرآن هو الله الذي لا إله إلاَّ هو ذو الأسماء الحسنى، والصفات العُلى. قوله عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) } . قال البغوي: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} ، أي: وقد أتاك، استفهام بمعنى: التقرير، وقال في جامع البيان: فيه تعظيم لشأن الحديث، وتبيين على أنه إنما عرفه بالوحي. قال ابن عباس: لما قضى موسى الأجل سار بأهله فضل الطريق، وكان في الشتاء ورفعت لهم نار، فلما رآها ظن أنها نار وكانت من نور الله: قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدًى، يقول: من يدل على الطريق. وقال وهب بن منبه: خرج موسى نحوها، فإذا هي شجر من

العليق؛ وبعض أهل الكتاب يقول: في عوسجة، فلما دنا، استأخرت عنه، فلما رأى استئخارها رجع عنها، وأوجس في نفسه منها خيفة، فلما أراد الرجعة دنت منه ثم كلمه من الشجرة، فلما سمع الصوت استأنس، قال الله تبارك وتعالى له: {يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} قال قتادة: كانتا من جلد حمار، فقيل له: اخلعهما. وقال الحسن: كانتا من بقر، لكن إنما أراد الله أن يباشر بقدميه بركة الأرض، وكان قد قدّس مرتين. وقال مجاهد: طوى: اسم الوادي. وقوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} ، أي: اصطفيتك، {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ، قال مجاهد: إذا صلى ذكر ربه وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها، فيصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} » . وعن ابن عباس قوله: {إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} ، يقول: لا أظهر عليها أحدًا غيري. وفي مصحف عبد الله ابن مسعود أكاد أخفيها من نفسي، فكيف يعلمها مخلوق؟ وقيل: أخفيها فلا أقول هي: آتية. {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} ، أي: بما تعمل من خير وشر، ... {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} ، أي: عن التصديق بالساعة، {مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} فتهلك. قوله عز وجل: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) } .

قال البغوي: قوله عز وجل: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} ؟ سؤال تقرير، والحكمة في هذا السؤال تنبيهه وتوقيفه على أنها عصا، حتى إذا قلبها حية علم أنها معجزة عظيمة. وقوله تعالى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} ، قال السدي يقول: أضرب بها الشجر للغنم فيقع الورق. وعن ابن عباس في قوله: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} ، قال: حوائج أخرى قد علمتها، {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} ، أي: عصا كما كانت. وعن مجاهد قوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} ، قال كفّه تحت عضده، {تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} ، قال: من غير برص {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} . قال ابن جرير: كي نريك من أدلّتنا الكبرى على عظيم سلطاننا وقدرتنا. قوله عز وجل: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً (35) } . قال مجاهد في قوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي} ، قال: لجمرة نار أدخلها في فيه عن أمر امرأة فرعون، تردّ به فرعون حين أخذ بلحيته. وعن ابن عباس قوله: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} ، يقول: اشدد به ظهري. وقوله: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} .

قال البغوي: يعني: في النبوة وتبليغ الرسالة، {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} ، قال ابن جرير: يقول: {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} ، لا يخفى عليك من أفعالنا شيء. قوله عز وجل: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) } . قال البغوي: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ} وحي إلهام، {مَا يُوحَى} ما يلهم؛ ثم فسّر ذلك الإلهام وعدّد نعمة عليه فقال: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} ، يعني: نهر النيل، قال ابن إسحاق: لما ولدت موسى أمه أرضعته، حتى إذا أمر فرعون بقتل الغلمان من سنته تلك، عمدت إليه فصنعت به ما أمرها الله تعالى، جعلته في تابوت صغير ومهّدت له فيه، ثم عمدت إلى النيل فقذفته فيه، وأصبح فرعون في مجلس له، كان يجلس على شفير النيل كل غداة، فبينما هو جالس إذ مرّ النيل بالتابوت، فقذف به، وآسية ابنة مزاحم امرأته جالسة إلى جنبه، فقال: إن هذا الشيء في البحر فائتوني به، فخرج إليه أعوانه حتى جاءوا به، ففتح التابوت فإذا فيه صبي في مهده، فألقى الله عليه محبته وعطف عليه نفسه. وعن قتادة قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ، قال: هو غذاؤه. قال ابن إسحاق: {قالت} ، يعني: أم موسى، {لأخته قصّيه} فانظري ما يفعلون به، فخرجت في ذلك

{فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون} ، وقد احتاج إلى الرضاع والتمس الثدي، وجمعوا له المراضع حين ألقى الله محبتهم عليه، فلا يؤتى بامرأة فيقبل ثديها فيرمضهم ذلك، فيؤتى بمرضع بعد مرضع فلا يقبل شيئًا منهم، فقالت لهم أخته حين رأت من وُجْدِهم ... به وحرصهم عليه: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} ؟ أي: لمنزلته عندكم وحرصكم على مسرة الملك؟ قالوا: هاتي فأتت أمه فأخبرتها فانطلقت معها حتى أتتهم، فناولوها إياه فلما وضعته في حجرها أخذ ثديها، وسرّوا بذلك منه وردّه الله إلى أمه، {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} فبلغ لطف الله لها وله أن ردّ عليها ولدها، وعطف عليها نفع فرعون وأهل بيته، مع الأمَنَة من القتل الذي يُتخوف على غيره. وعن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنما قتل موسى الذي قَتَل من آل فرعون خطأ، فقال الله له: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} » . قال ابن كثير: {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} ، وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله، ففرّ منهم هاربًا حتى ورد ماء مدين. وعن ابن عباس قوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} ، يقول: اختبرناك اختبارًا {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} ، قال ابن عباس يقول: لقد جئت ليمقات يا موسى. وقال قتادة: قدر الرسالة والنبوة. قوله عز وجل: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ

وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) } . قال ابن كثير: وقوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} ، أي: اصطفيتك واجتبيتك رسولاً، {لِنَفْسِي} ، أي: كما أريد، وأشاء. وعن ابن عباس قوله: {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} لا تبطئا. وقال مجاهد: لا تضعفا. وقال ابن زيد: الواني هو الغافل المفرط. وعن السدي: {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} ، قال: كَنَّياه. وعن ابن عباس قوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ، يقول: هل يتذكر أَوْ يَخْشَى. وقال ابن كثير: أي: لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة. {أَوْ يَخْشَى} ، أي: يوجد طاعة من خشية ربه. قال البغوي: فإن قيل: كيف قال: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} وقد سبق في علمه أنه لا يتذكّر ولا يُسْلِم؟ قيل: معناه اذهبا على رجاء منكما وطمع، وقضاء الله وراء أمركما. وقال ابن زيد في قوله: {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} ، قال: نخاف أن يعجل علينا إذ نبلّغه كلامك وأمرك، {يَفْرُطَ} ويعجل، وقرأ: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . وقال ابن جرير: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} ، يقول: والسلامة لمن اتبع هدى الله، وهو بيانه. وعن قتادة قوله: {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} عن طاعة الله. قوله عز وجل: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي

كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) } . عن ابن عباس: قوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ، يقول: خلق لكل شيء زوجه ثم هداه لمنحه ومطعمه ومشربه ومسكنه ومولده. وقوله تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} ، أي: ما بالهم عبدوا غير الله، {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} . قال ابن عباس: لا يخطئ ربي ولا ينسى. قال ابن كثير: لما أخبره موسى أن ربه الذي أرسله، هو الذي خلق ورزق وقدّر فهدى، شرع يحتجّ بالقرون الأولى، أي: الذين لم يعبدوا الله، أي: فما بالهم إذا كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره؟ فقال له موسى في جواب ذلك: هم وإن لم يعبدوه فإن عملهم عند الله مضبوط عليهم، سيجزيهم بعملهم. وقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً} . قال البغوي: أصنافًا {مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى} مختلف الألوان، والطعوم، والمنافع، {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى} لذوي العقول، {مِنْهَا} ، أي: الأرض، {خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} يوم البعث. * * *

الدرس السادس والستون بعد المائة

الدرس السادس والستون بعد المائة {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَاناً سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا

يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى (76) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَاناً سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) } . عن مجاهد في قوله: {مَكَاناً سُوًى} ، قال: منصفًا بينهم. وعن ابن عباس قوله: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} فإنه يوم زينة يجتمع الناس إليه ويحشر الناس له. قوله عز وجل: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) } . عن ابن عباس قوله: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} ، يقول: فيهلككم. وقال قتادة: يستأصلكم. وقوله تعالى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} ، قال قتادة: قال السحرة بينهم: إن كان هذا ساحرًا فإنا سنغلبه، وإن كان من السماء فله أمر. وقال وهب بن منبه: جمع كل ساحر حباله وعصيّه، وخرج موسى معه أخوه يتكئ على عصاه، حتى أتى المجمع، وفرعون في مجلسه معه أشراف أهل مملكته قد استكف له الناس، فقال موسى للسحرة حين جاءهم: {وَيْلَكُمْ

لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} ، فتراود السحرة بينهم، وقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر. وقال ابن كثير: وقوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} ، أي: ويستبدّا بهذه الطريقة وهي: السحر. وقال ابن عباس: يعني: ملكهم الذي هم فيه والعيش. وقال علي بن أبي طالب: يصرفان وجوه الناس إليهما. قال ابن كثير: وقوله: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً} ، أي: اجتمعوا كلكم صفًا واحدًا، وألقوا ما في أيدكم مرة واحدة لتبهروا الأبصار وتغلبوا هذا وأخاه، {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} منا ومنه. قوله عز وجل: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) } . عن السدي قال: قالوا: يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال: بل ألقوا، فألقوا حبالهم وعصيهم وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل ليس منهم رجل إلاَّ ومعه حبل وعصا. وعن وهب بن منبه قال: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا} فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى، وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد، ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من العصي والحبال، فإذا هي حيّات كأمثال الحبال، قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضًا.

{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} ، لما رأى ما ألقوا من الحبال والعصي خيّل إليه أنها تسعى، فأوحى الله أن: ألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى. وفرح موسى فألقى عصاه من يده، فاستعرضت لما ألقوا من حبالهم وعصيّهم، وهي: حيات في عين فرعون وأعين الناس تسعى، فجعلت تلقفها حية، حية حتى ما يُرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا، ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت، ووقع السحرة سجّدًا قالوا: آمنا برب هارون وموسى، لو كان هذا سحرًا ما غلبنا. وقال ابن عباس في قوله: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} لا يسعد حيث كان. قوله عز وجل: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى (76) } . قال وهب بن منبه: لما قالت السحرة: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} ، قال لهم فرعون وأسف ورأى الغلبة البيّنة: {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} ، أي: لعظيم السحار الذي علّمكم. وعن السدي: قال فرعون: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}

فقتلهم وقطّعهم، كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه حين قالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وقال: كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء. وعن وهب بن منبه: {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} ، أي: على الله، {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ} اصنع ما بدا لك، {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ، أي: ليس لك سلطان إلاَ فيها ثم لا سلطان لك بعد. وقال ابن زيد في قوله: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} ، قال: أمرهم بتعلّم السحر، قال: تركوا كتاب الله وأمروا قومهم بتعليم السحر. وعن ابن إسحاق: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} خير منك ثوابًا، وأبقى عذابًا. وعن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب فأتى على هذه الآية: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى} ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما أهلها الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا من أهلها فإن النار تمسّهم ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فتجعل الضبائر فيؤتى بهم نهرًا يقال له الحياة أو الحيوان، فينبتون كما ينبت العشب في حميل السيل» . رواه ابن أبي حاتم. وعن عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة. ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» رواه

أحمد وغيره. وفي الصحيحين: «إن أهل علّيين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء لتفاضل ما بينهم» ، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء؟ قال: «بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين» . * * *

الدرس السابع والستون بعد المائة

الدرس السابع والستون بعد المائة {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَّا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن

تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَّا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) } . عن مجاهد قوله: {يَبَساً} ، قال: يابسًا. وعن ابن عباس في قوله: {لا تخاف دركًا ولا تخشى} ، يقول: لا تخاف من آل فرعون دركًا، ولا تخشى من البحر غرقًا. {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} . قال البغوي: وهذا تكذيب لفرعون في قوله: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} . قوله عز وجل: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى (82) } . عن ابن عباس قوله: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} ، يقول: ولا تظلموا، {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} ، يقول: فقد شقي، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} من الشرك، {وَآمَنَ} ، يقول: وعد الله، {وَعَمِلَ صَالِحاً} ، يقول: أديّ فرائضي، {ثُمَّ اهْتَدَى} ، قال قتادة: ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه.

قوله عز وجل: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً (89) } . قال ابن إسحاق: وعد الله موسى حين أهلك فرعون وقومه، ونجّاه وقومه: {ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} تلقاه فيها بما شاء فاستخلف موسى هارون في بني إسرائيل ومعه السامري، يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به، فلما كلّم الله موسى قال له: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} ، قال ابن عباس يقول: حزينًا. {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} . قال البغوي: صدقًا، أن يعطيكم التوارة، {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} مدة مفارقتي إياكم، {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} ، قال ابن كثير: أي: عن قدرتنا واختيارنا.

{وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} . وعن ابن عباس: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ} ، فهو ما كان مع بني إسرائيل من حليّ آل فرعون، يقول: خطؤنا مما أصبنا من حليّ عدوّنا، وقال قتادة: كان الله وقت لموسى ثلاثين ليلة ثم أتّمها بعشر، فلما مضت الثلاثون قال عدو الله السامريّ: إنما أصابكم الذي أصابكم عقوبة بالحليّ، الذي كان معكم، فهلّموا، وكانت حليًّا استعاروها من آل فرعون، فساروا وهي معهم فقدفوها إليه فصوّرها صورة بقرة، وكان قد صرّ في عمامته أو في ثوبه قبضة من أثر فرس جبرائيل، فقذفها مع الحليّ والصورة. {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} فجعل يخور خوار البقرة فقال: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} ، وفي رواية: فقالوا هذا إلهكم وإله موسى ولكن موسى نسي ربه عندكم، قال الله: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} ذلك العجل الذي اتخذوه، {قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً} ؟ . قال ابن كثير: وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورّعوا عن زينة القوم، فألقوها وعبدوا العجل، فتورّعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما قال ابن عمر: انظروا إلى أهل العراق، قتلوا ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يسألون عن دم البعوضة. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) } .

قال ابن عباس: لما قال القوم: {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} ، أقام هارون فيمن تبعه من المسلمين ممن لم يفتتن، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى: {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} وكان له هائبًا مطيعًا. قوله عز وجل: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) } . قال ابن زيد في قوله: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} ، قال: ما أمرك؟ ما شأنك؟ ما هذا الذي أدخلك فيما دخلت فيه؟ {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} . قال قتادة: يعني: فرس جبريل - صلى الله عليه وسلم -، {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} ، قال ابن زيد: كذلك حدثتني نفسي. وقال قتادة: كان والله السامريُ عظيما من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة، ولكنّ عدو الله نافق بعدما قطع البحر مع بني إسرائيل. وقال ابن كثير: {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} ، أي: حَسَّنَتْهُ وأعجبها إذ ذاك، {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ} ، أي: كما أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول، فعقوبتك في الدنيا، {أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ} ، أي: لا تماسّ الناس ولا يمسّونك، {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً} ، أي: يوم القيامة، {لَّنْ تُخْلَفَهُ} ، أي: لا يحيد لك عنه.

وقوله: {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} . قال ابن عباس: فحرّقه ثم ذرّاه في اليمّ. وقال ابن جرير: وقوله: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} ، يقول: ما لكم أيها القوم معبود إلاَّ الذي له عبادة جميع الخلق، لا تصلح العبادة لغيره، ولا تنبغي أن تكون إلاَّ له، {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} ، يقول: احتاط بكل شيء علمًا وعلمه، فلا يخفى عليه شيء ولا يضيق عليه علم جميع ذلك. * * *

الدرس الثامن والستون بعد المائة

الدرس الثامن والستون بعد المائة {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً (112) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) } . * * *

قوله عز وجل: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً (104) } . يقول تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قصصنا عليك خبر موسى، كذلك نقص عليك من الأخبار الماضية كما وقعت: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا} ، من عندنا، {ذِكْراً} ، وهو: القرآن، {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} ، قال مجاهد: إثمًا، {خَالِدِينَ فِيهِ} ، أي: مقيمين في عذاب الوزر، {وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} ، أي: بئسما حملوا على أنفسهم من الإثم. {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} ، قال ابن عباس: {يَتَخَافَتُونَ} يتساررون، {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} ، أي: في الدنيا. قاله ابن جرير. قال البغوي: قصر ذلك في أعينهم في جنب ما استقبلهم من أهوال يوم القيامة. وقيل: نسوا مقدار لبسهم لشدة ما أهمّهم.

وعن شعبة في قوله: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} ، يقول: أعلمهم في أنفسهم، {إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} . وقيل: المراد: مدة مكثهم في القبور. قوله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً (112) } . عن ابن عباس قوله: {قَاعاً صَفْصَفاً} ، يقول: مستويًا لا نبات فيه، {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً} ، يقول: واديًا، {ولا أمتًا} ، يقول: رابية. {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} يقول: سكنت، {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} ، قال: وطء الأقدام. {يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} أن يشفع، {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ، قال قتادة: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمر الساعة، {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمر الدنيا. {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} ، قال ابن عباس: ذلّت، {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} ، قال: خسر من أشرك بالله. وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الظلم ظلمات يوم القيامة» .

وقوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً} ، قال قتادة: {ظُلْماً} أن يزاد في سيئاته ولا يهضم من حسناته. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله سيخلّص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مدَّ البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كَتَبتي الحافظون؟ فيقول: لا يارب، فيقول: أَفَلَكَ عذر؟ قال: لا يارب، فيقول: بلى إنّ لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتُخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فيقول: احضر وزنك، فيقول: يارب وما هذه البطاقة مع هذه السجّلات؟ فيقول: أنك لا تُظلم. قال: فتوضع السجلاّت في كفّة والبطاقة في كفّة فطاشت السجلاّت وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء» . رواه الترمذي، وابن ماجة. وعن أنس رضي الله عنه: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يوم القيامة ماج النَّاس بعضهم في بعضٍ فيأتون آدم فيقولون اشفع إلى ربِّك» ، - وفي رواية - قال: «يَجْلِسُ الْمؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الناس، خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لست هُنَاكم. ويذكر خطيئته التي أصاب: أكله من الشَّجرة وقد نهي عنها ولكن ائتوا نوحًا أول نبيٍ بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحًا فيقول: لست هُنَاكم ويذكر خطيئته التي أصاب: سؤاله ربه بغير علم. ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن. قال: فيأتون إبراهيم فيقول: إني لست هُنَاكم ويذكر

ثلاث كذباتٍ كذبهنَّ ولكن ائتوا موسى عبدًا آتَاه الله التوراة وكلمه وقربه نجيًّا. قال: فيأتون موسى فيقول: إني لست هُنَاكم ويذكر خطيئَتهُ الَّتي أَصَاب قتله النَّفس ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلِمتهُ، قال: فيأتون عيسى فيقول: لَسْتُ هُنَاكُم ولكن ائتوا مُحَمدًا عبدًا غفر اللَّهُ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر. قال: فيأتوني فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه. فإذا رأيتُهُ وقعت ساجدًا فيدعني ما شَاء اللَّهُ أن يدعني ثمَّ يقول: ارفع محمد، وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه. قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناءٍ وتحميد يُعَلِّمُنيهِ، ثمَّ أشفع فَيَحُدُّ لي حَدًّا، فأخرج فأخرجهم منَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُم الجنَّة. ثمَّ أعود الثَّانية فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدًا فيدعني ما شاء اللَّهُ أن يدعني ثمَّ يقول: ارفع مُحَمَّدُ وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه. قال فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناءٍ وتحميد يُعلِّمنيه. قال ثمَّ أشفع فيحُدُّ لي حدًّا فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنَّة. حتى ما يبقى في النَّارِ إِلا من قد حبسه القرآنُ. أَيْ: وجب عليه الخلود - ثمَّ تلا هذه الآية: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} - قال: وهذا المقامُ المحمود الذِي وُعِدَهُ نبيكم» . متفق عليه وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج من النار قوم بالشفاعة كأنهم الثعارير» قلنا: ما الثعارير؟ قال: «إنه الضغابيس» . متفق عليه. وعن عثمان بن عفان رضي الله

عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» . رواه ابن ماجة. قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) } . قال البغوي: {وَكَذَلِكَ} ، أي: كما بينا في هذه السورة، {أَنزَلْنَاهُ} ، يعني: أنزلنا هذا الكتاب، {قُرْآناً عَرَبِيّاً} ، أي: بلسان العرب، {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} عبرة وعظة. قال قتادة: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ما حذروا به من أمر الله وعقابه ووقائعه بالأمم قبلهم، {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ} القرآن، {ذِكْراً} ، أي: حدًا، وورعًا. وقوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} ، أي: عمَّا يصفه به المشركون. {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} ، قال مجاهد: لا تَتْلُه على أحد حتى نبيّنه لك، {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {وَقُل} يا محمد: {رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} صحيحًا إلى ما علّمتني أمره بمسألته من فوائد العلم ما لا يعلم. قال ابن عيينة: ولم يزل - صلى الله عليه وسلم - في زيادة حتى توفّاه الله عز وجل. وفي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللهم انفعني بما علّمتني، وعلمني ما ينفعني، وارزقني

علمًا ينفعني، وزدني علمًا الحمد لله على كل حال وأعوذ بالله من حال أهل النار» . * * *

الدرس التاسع والستون بعد المائة

الدرس التاسع والستون بعد المائة {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ

وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) } . عن ابن عباس في قوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ} ، يقول: فترك، {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} ، يقول: حفظًا. قال ابن زيد: العزم المحافظة على ما أمره الله تبارك وتعالى بحفظه والتمسك به، قال له: {يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} فقرأ حتى بلغ: {لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} وقرأ حتى بلغ: {وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى} ، قال: فنسي ما عهد إليه في ذلك. قال: وهذا عهد الله إليه. قال: ولو كان له عزم ما أطاع عدوه الذي حسده وأبي أن يسجد له، وعصى الله الذي كّرمه وشرفه وأمر ملائكته فسجدوا له. وعن ابن عباس قال: إنما سمّي: الإنسان لأنه عهد إليه فنسي. وعن سعيد بن جبير قال: أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحرث عليه ويمسح العرق من جبينه، فهو الذي قال الله: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} . وقوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} . قال ابن عباس: يقول: لا يصيبك فيها عطش، ولا حر. {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} .

قال البغوي: يعني: على شجرة إن أكلت منها بقيت مخلدًا؟ {وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى} لا يبيد ولا يفنى؟ {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} ، قال السدي: أقبلا يغطيان عليهما بورق التين، {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} وفقه للتوبة. قوله عز وجل: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) } . وعن ابن عباس قال: تضمّن الله لمن قرأ القرآن واتّبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا هذه الآية: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} ، يقول: الشقاء. وعن الضحاك: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} ، قال: الكسب الخبيث. وقال سعيد بن جبير: يسلبه القناعة حتى لا يشبع. وعن ابن عباس قال: كل مال أعطي العبد قلّ أو كثر، فلم يتق فيه، فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة، وإن أقوامًا أعرضوا عن الحق وكانوا أُولي سعة من الدنيا مكثرين، فكانت معيشتهم ضنكًا، وذلك أنهم يرون أن الله ليس بمخلف لهم معايشهم، من سوء ظنهم بالله. وقوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} ، قال ابن عباس: أعمى البصر، {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} . قال مجاهد في قوله: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} ، قال: فتركتها،

{وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} ، وكذلك اليوم تترك في النار. قال قتادة: نُسُوا من الخير ولم يُنْسَوا من العذاب. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ} . قال البغوي: أي: وكما جزينا من أعرض عن القرآن، كذلك ... {نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} أشرك، {وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ} مما نعذّبهم به في الدنيا والقبر، {وَأَبْقَى} ، وأدوم. قوله عز وجل: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) } . يقول تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} يبيّن لهم القرآن، {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} كديار عاد، وثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين وغيرهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى} لذوي العقول. قال ابن عباس: {لذوي النهي} ، يقول: التقى. وعن مجاهد قوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى} الأجل المسمى: الدنيا. قال ابن جرير: ومعنى الكلام: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمًّى لكان لزامًا. قال البغوي: والكلمة الحكم بتأخير العذاب عنهم وأجل مسمى وهو القيامة، {لَكَانَ لِزَاماً} ، أي: لكان لازمًا لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية.

{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} ، قال ابن عباس: الصلاة المكتوبة. قال البغوي: {وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ} ساعاته، {فَسَبِّحْ} ، يعني: صلاة المغرب، والعشاء. قال ابن عباس: يريد أول الليل، {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} ، يعني: صلاة الظهر، وسمّي وقت الظهر أطراف النهار لأنه وقته عند الزوال، وهو طرف النصف الأول انتهاء، وطرف النصف الآخر ابتداء. انتهى. وقيل: التسبيح ها هنا محمول على التنويه والإجلال، والصواب أن الآية عامة لصلاة المكتوبة وصلاة التطوع، والتسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير. وقوله تعالى: {لَعَلَّكَ تَرْضَى} . قال ابن زيد: ترضى ما يثيبك الله على ذلك. وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» . ثم قرأ هذه الآية. قوله عز وجل: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) } . عن قتادة قوله: {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} ، أي: زينة الحياة الدنيا، ... {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} ، قال: لنبتليهم فيه، {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} مما متّعنا به هؤلاء من هذه الدنيا وكان هشام بن عروة إذا رأى ما عند السلاطين دخل داره فقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} ثم ينادي: الصلاة، الصلاة يرحمكم الله. وعن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

يقول: «من كانت الدنيا همّه فرّق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه، لم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» . رواه ابن ماجة. قوله عز وجل: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135) } . يقول تعالى: {وَقَالُوا} ، يعني: المشركين، {لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ} ، أي: بآية يقترحونها، {أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} ، يعني: بيان ما فيها وهو القرآن، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ ... يُؤْمِنُونَ} . {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} ، أي: قالوا ذلك حين رأوا العذاب يوم القيامة. وعن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يحتج على الله يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة، والمغلوب على عقله، والصبي الصغير. فيقول المغلوب على عقله: لم تجعل لي عقلاً أنتفع به، ويقول الهالك في الفترة: لم يأتني رسول ولا نبي ولو أتاني لك رسول أو نبي لكنت أطوع خلقك لك وقرأ: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} ، ويقول الصبي الصغير: كنت صغيرًا لا أعقل. قال: فترفع لهم نار، ويقال لهم: رِدُوها قال: فَيَرِدُها من كان في علم الله أنه سعيد، وتلكّأ عنها من كان

في علم الله أنه شقي، فيقول: إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم» ؟ رواه ابن جرير. وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ} ، وذلك أن المشركين قالوا: نتربص بمحمد حوادث الدهر، فقال الله سبحانه: {قُلْ} لهم يا محمد: {كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ} منا ومنكم، {فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} ، أي: الطريق المستقيم نحن أم أنتم، {وَمَنِ اهْتَدَى} إلى الحق وسبيل الرشاد، كما قال تعالى: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} . * * *

الدرس السبعون بعد المائة

الدرس السبعون بعد المائة [سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام] مكية، وهي مائة واثنتا عشرة آية ... عن عبد الله بن مسعود قال: (بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء هنّ من العتاق الأول، وهنّ من تلادي) . رواه البخاري. بسم الله الرحمن الرحيم {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ

ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) } . * * *

قوله عز وجل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) } . عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} ، قال: في الدنيا. وقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} ، أي: غافلة. قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: ما يحدث الله من تنزيل شيء من هذا القرآن للناس ويذكَرهم به ويعظهم: {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} . وعن قتادة قوله: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} الآية، يقول: ما ينزل عليهم من شيء من القرآن: {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} . وقال ابن عباس: ما لكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم، وقد حرّفوه، وبدّلوه، وزادوا فيه، ونقصوا منه، وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرؤونه محضًا لم يُشَبْ؟ !

وقوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} ، قال ابن زيد: قاله أهل الكفر لنبيهم لما جاء به من عند الله، زعموا أنه ساحر وأن ما جاء به من سحر قالوا: أتأتون السحر وأنتم تبصرون؟ {قال} ، أي: محمد، وفي قراءة: {قل رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ} ، لا يخفى عليه خافية، وهو الذي أنزل هذا القرآن، {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوال الخلق، {الْعَلِيمُ} بأحوالهم. {بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} عن ابن عباس قوله: {أضغاث أحلام} ، قال: مشتبهة. وعن قتادة قوله: {أضغاث أحلام} ، أي: فعل حالم، إنما هي رؤيا رآها، {بل افتراه بل هو شاعر} كل هذا قد كان منهم. قال البغوي: يعني: أن المشركين اقتسموا القول فيه وفيما يقوله فقال بعضهم: أضغاث أحلام، وقال بعضهم: بل هو فرية، وقال بعضهم: بل محمد شاعر، وما جاءكم به شعر، فليأتنا بآية إن كان صادقًا كما أرسل الأولون؛ قال الله تعالى مجيبًا لهم: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ} الرسل إذا جاؤوا قومهم بالبينات فلم يؤمنوا لم ينظروا. قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) } . عن قتادة قوله: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ، يقول: فاسألوا أهل التوراة والإنجيل.

قال ابن جرير: أراه أنا يقول: يخبروكم أن الرسل كانوا رجالاً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. وقال الضحاك في قوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} ، يقول: لم أجعلهم جسدًا لا يأكلون الطعام. قال ابن كثير: أي: قد كانوا بشرًا من البشر يأكلون ويشربون مثل الناس. وعن قتادة قوله: {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} ، أي: لا بدّ لهم من الموت. {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} ، بإنجاء المؤمنين وإهلاك المكذّبين ... {فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} . قوله عز وجل: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ (15) } . عن ابن عباس في قوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} ، يقول: شرفكم، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ؟ ، {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} ، قال مجاهد: أهلكناها، {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} . {لَا تَرْكُضُوا} لا تفرّوا، {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} ، قال قتادة يقول: ارجعوا إلى دنياكم التي أترفتم فيها، {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} من دنياكم شيئًا، استهزاء بهم، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً

خَامِدِينَ} ، قال قتادة: فلما رأوا العذاب وعاينوه لم يكن لهم مجير إلاَّ قولهم: ياويلنا إنا كنا ظالمين، حتى دمرّ الله عليهم وأهلكهم. قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) } . عن قتادة قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} ، يقول: ما خلقناهما عبثًا ولا باطلاً. وعن مجاهد في قوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً} ، قال: زوجة، {لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا} ، من عندنا، وما خلقنا جنة، ولا نارًا، ولا موتًا، ولا بعثًا. وعن قتادة قوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً} الآية، أي: أن ذلك لا يكون ولا ينبغي. وقوله: {إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} ، يقول: ما كنا فاعلين. وقيل: إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا، ولكنا لم نفعله لأنه لا يليق بالربوبية، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} ، أي: فبطل كذبهم بما نبين من الحق؛ ثم أوعدهم فقال: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} الله بما لا يليق به من الصاحبة، والولد، والشريك. {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خَلْقًا، وملكًا، وعبيدًا، {وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} ، قال قتادة: لا يعيون. وقال ابن زيد: لا يملّون، {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} ، قال قتادة: يقول: الملائكة الذين هم عند الرحمن لا يستكبرون عن عبادته ولا يسأمون فيها؛ وذكر لنا: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس مع أصحابه إذ قال: «تسمعون ما أسمع» ؟ قالوا: ما نسمع من شيء يا

نبي الله. قال: «أني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط، وليس فيها موضع راحة إلا وفيه ملك ساجد أو قائم» . قوله عز وجل: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) } . قال ابن زيد في قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} ، يقول: أفي آلهتهم أحد يحيي؟ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ، كما قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وقال الضحاك في قوله: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} لا يُسأل الخالق عما يقضي في خلقه، والخلق مسئولون عن أعمالهم. وقال البغوي: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً} ، استفهام إنكار وتوبيخ. {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} ، قال ابن جريج:

حديث مَن معي وحديث من قبلي. وعن قتادة قوله: {هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ} ، يقول: هذا القرآن فيه ذكر الحلال والحرام، {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} ، يقول: ذكر أعمال الأمم السالفة، وما صنع الله بهم وإلى ما صاروا، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ} عن كتاب الله، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} به أرسلت الرسل بالإخلاص والتوحيد. قوله عز وجل: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) } . قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} . قال البغوي: نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله. وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ، قال مجاهد: لمن رضي الله عنه. وقال ابن عباس: الذي ارتضى لهم شهادة أن لا إله إلاَّ الله. وقوله تعالى: {وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} ، أي: خائفون أن يعصوه ويخالفوا أمره فيعذبهم، {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} .

قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {وَمَن يَقُلْ} من الملائكة: {إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ} الذي يقول ذلك منهم: {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} . قال البغوي: الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعهما. وقال ابن كثير: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ} ، أي: من ادعى منهم أنه إله من دون الله. أي: مع الله {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أي: كل من قال ذلك، وهذا شرط، والشرط لا يلزم وقوعه، كقوله: {إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} ، وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . * * *

الدرس الحادي والسبعون بعد المائة

الدرس الحادي والسبعون بعد المائة {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (41) قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ

عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ (45) وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) } . * * *

قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) } . عن ابن عباس قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} ، يقول: ملتصقتين، {فَفَتَقْنَاهُمَا} ، فرفع السماء ووضع الأرض. وقال مجاهد: ففتقهن سبع سماوات بعضهن فوق بعض، وسبع أرضين بعضهن تحت بعض. وقال عطية: كانت السماء رتقًا لا تمطر، والأرض رتقًا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات، وجعل من الماء كل شيءٍ حيٍّ {أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} . قال قتادة: كُلَّ شيءٍ حيٍّ خلق من الماء. قال ابن جرير: وقوله: {أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} ، يقول: أفلا يصدقون بذلك ويقرّون بألوهية من فعل ذلك، ويفردونه بالعبادة؟ وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} ، أي: جبالاً، {أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً} بين الجبال، {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: جعلنا هذه الفجاج في الأرض ليهتدوا إلى السير فيها. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} ، قال قتادة: سقفًا مرفوعًا

وموجًا مكفوفًا، {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} ، قال مجاهد: الشمس، والقمر، والنجوم آيات السماء، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ، قال مجاهد: فلك كهيئة حديدة الرحى، {يَسْبَحُونَ} يجرون. قوله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) } . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: وما خلّدنا أحدًا من بني آدم يا محمد قبلك في الدنيا فنخلّدك فيها، ولا بدّ لك من أن تموت كما مات من قبلك {أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} ؟ يقول: فهؤلاء المشركون بربهم هم الخالدون في الدنيا بعدك؟ لا ما ذلك. قيل: نزلت هذه الآية حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون، وفي هذه الآية دلالة ظاهرة على أن الخضر عليه السلام ميت، لأن الله لم يجعل الخلد في الدنيا لأحد من بني آدم. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ، قال ابن عباس يقول: نبتليكم: بالشدّة، والرخاء، والسقم، والغنى، والفقر، والحلال، والحرام، والطاعة، والمعصية، والهدى، والضلال. وقال ابن زيد: نبلوهم بما يحبون وبما يكرهون نختبرهم بذلك، لننظر كيف شكرهم فيما يحبون، وكيف صبرهم فيما يكرهون. قوله عز وجل: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (41) } . يقول تعالى: {وَإِذَا رَآكَ} ، يا محمد هؤلاء المشركون، {إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} ، سخريًا. يقول بعضهم لبعض: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} ، يعيبها؟ {وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} ، كما قال تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} . وقوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} . قال سعيد بن جبير: لما دخلت الروح في رأس آدم وعينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخلت في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قائمًا قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عَجِلاً إلى ثمار الجنة فوقع، {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} . قال البغوي: هذا خطاب للمشركين، كانوا يستعجلون بالعذاب {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، قال الله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ} لا يدفعون، {عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} ، يُمنعون من العذاب، أي: لو علموا لما أقاموا عن كفّهم ولما استعجلوا، {بَلْ تَأْتِيهِم} ، أي: النار، {بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} يمهلون، {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} ، فاصبر كما صبروا، {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} ، أي: نزل بهم العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه.

قوله عز وجل: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ (45) وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) } . قال ابن عباس في قوله: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} قال: يحرسكم، {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ} يجأرون. أي: الآلهة لا يستطيعون نصر أنفسهم فكيف ينصرون عابديهم. {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاء} في الدنيا، {وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} فاغترّوا، {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} ، قال ابن عباس: تخرب القرية حتى يكون العمران في ناحية، {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} أم نحن؟ وعن قتادة قوله: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ} ، أي: بهذا القرآن، {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ} ، يقول: إن الكافر قد صمّ عن كتاب الله، لا يسمعه ولا يشفع به ولا يعقله، {وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ} ، يقول: عقوبة، {لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ندموا حين لا ينفعهم الندم. قوله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) } .

عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس بين يديه فقال: يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني، وأضربهم وأشتمهم، فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يحسب ما خانوك، وما عصوك، وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافًا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتصّ لهم منك الفضل الذي بقيَ قِبَلَكَ» . فجعل الرجل يبكى بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويهتف، فقال رسول الله صلى الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما له لا يقرأ كتاب الله: ... {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} » ؟ فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد شيئًا خيرًا من فراق هؤلاء، -يعني: عبيده -، إني أشهدكم أنهم أحرار كلهم) . رواه أحمد. * * *

الدرس الثاني والسبعون بعد المائة

الدرس الثاني والسبعون بعد المائة {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ

الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (50) } . عن قتادة قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} ، التوراة حلالها وحرامها، فرق الله بين الحق والباطل. وقال ابن زيد: الفرقان الحق، آتاه الله موسى، وهارون فرّق بينهما وبين فرعون، وقضى بينهم بالحق، وقرأ: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} ، قال: يوم بدر. وقوله تعالى: {وَضِيَاء وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ} ، أي: تذكيرًا لهم وعظة؛ ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ} ، أي: يخافونه ولم يروه، {وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} ، أي: خائفون وجلون، {وَهَذَا} ، يعني: القرآن، {ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} وهو في غاية الجلاء والظهور؟ قال البغوي: وهذا استفهام توبيخ وتعيير. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) } .

عن مجاهد قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ} ، قال: هديناه صغيرًا. وقوله تعالى: {وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ} أي: أنه أهل للهداية والنبوة {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} ، يعني: الأصنام، {الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} أي: على عبادتها مقيمون؟ {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ} فاقتدينا بهم {قَالَ} إبراهيم: {لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} بعبادتكم إياها، {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} يعنون: أجادٌ أنت فيما تقول، أم لاعب؟ {قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} خلقهن، {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} ، أنه لا إله إلا الله الذي لا يستحق العبادة غيره. {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} ، قال مجاهد: إنما قال إبراهيم هذا سرًّا من قومه، ولم يسمع ذلك إلاَّ رجل واحد فأفشاه عليه. قوله عز وجل: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) } . قال السدي: إن إبراهيم قال له أبوه: يا إبراهيم إن لنا عيدًا، لو قد خرجت معنا إليه قد أعجبك ديننا، فلما كان يوم العيد فخرجوا إليه، خرج معهم إبراهيم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال: إني سقيم، يقول: أشتكي رجلي، فلما مضوا نادى في آخرهم، وقد بقي ضعفاء الناس، {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن

تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} . فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة، فإذا هن في بهو عظيم، مستقبل باب البهو صنم عظيم، إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى بعض، كل صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعامًا فوضعوه بين أيدي الآلهة، قالوا: إذا كان حين نرجع رجعنا وقد برَّكت الآلهة في طعامنا فأكلنا، فلما نظر إليهم إبراهيم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال: {أَلَا تَأْكُلُونَ} ؟ فلما لم تجبه قال: {مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ} ؟ {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} فأخذ فأس حديد فنقر كل صنم في حافتيه ثم علّق الفأس في عنق الصنم الأكبر ثم خرج، فلما جاء القوم إلى طعامهم نظروا إلى آلهتهم {قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} ، وعن قتادة: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} ، قال: كادهم بذلك لعلهم يتذكرون أو يبصرون. وعن ابن إسحاق قوله: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} سمعناه يسبّها ويعيبها ويستهزئ بها، لم نسمع أحدًا يقول ذلك غيره، وهو الذي نظن أنه صنع هذا بها، {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} ، قال ابن إسحاق: بَلَغَ ما فعل إبراهيم بآلهة قومه نمرود وأشراف قومه، فقالوا: {فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} ، أي: ما يصنع به، ولما أتي به واجتمع له قومه عند ملكهم نمرود، {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} ، غضب من أن يعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر فكسرهّن. وعن قتادة قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} ، وهي هذه الخطة التي كادهم بها. قال ابن إسحاق: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} قال: ارعووا ورجعوا عنه فيما ادعوا عليه من كسرهّن إلى أنفسهم فيما بينهم. فقالوا: لقد ظلمناه وما نراه إلا كما قال، ثم قالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ} ، أي: لا تتكلم فتخبرنا من صنع هذا بها وما تبطش بالأيدي فنصدقك، يقول الله: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} في الحجة عليهم لإبراهيم حين جادلهم. فقال عند ذلك

إبراهيم - حين ظهرت الحجّة عليهم بقولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ} - {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ؟ . قوله عز وجل: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) } . قال ابن إسحاق: أجمع نمرود وقومه في إبراهيم، {فقَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} ، أي: لا تنصروها منه إلاَّ بالتحريق بالنار إن كنتم ناصريها. وعن السدي قال: قالوا: ابنوا له بنيانًا فألقوه في الجحيم، فحبسوه في بيت وجمعوا له حطبًا، حتى إن كان الطير لتمر بها فتحترق من شدّة وهجها فعمدوا إليه فرفعوه على رأس البنيان، فرفع إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - رأسه إلى السماء وقال: اللهم أنت الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل. فقذفوه في النار فقال: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} . قال أبو العالية: السلام لا يؤذيه بردها، ولولا أنه قال: {وَسَلَاماً} لكان البرد أشدّ عليه من الحر. وقال كعب الأحبار: ما أحرقت النار من إبراهيم إلاَّ وثاقه. وعن أبي هريرة قال: إن أحسن شيء قاله أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار، وجده ترشح جبينه فقال عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم. قال ابن يسار: فقال نمرود لإبراهيم: إني مقرّب إلى إلهك قربانًا، لِمَا رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك، حيث أبيت إلاَّ عبادته وتوحيده، إني مقرّب له أربعة آلاف بقرة. فقال له إبراهيم: إذًا لا يقبلها منك ما كنت على دينك حتى

تفارقه إلى ديني، فقال: لا أستطيع ترك ملّتي وملكي، ولكن سوف أذبحها، فذبحها له نمرود ثم كف عن إبراهيم ومنعه الله منه. قوله عز وجل: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) } . عن قتادة: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} ، كانا بأرض العراق فأنجيا إلى أرض الشام، وكان يقال للشام: عماد دار الهجرة. وما نقص من الأرض زيد في الشام، وما نقص من الشام زيد في فلسطين. وكان يقال: هي: أرض المحشر والمنشر، وبها مجمع الناس، وبها ينزل عيسى ابن مريم، وبها يهلك الله شيخ الضلالة الكذاب الدجال. وعن عطاء في قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} ، قال عطية: {وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ} . قال ابن كثير: أي: الجميع أهل خير وصلاح. وقال ابن عباس: ... {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} ولدًا، {وَيَعْقُوبَ} ابن ابن، {نَافِلَةً} . قال ابن كثير: يعني: أن يعقوب ولد إسحاق، كما قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} . وعن قتادة قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} ، جعلهم الله أئمة يُقتدى بهم في أمر الله، {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} .

قال ابن كثير: أي: فاعلين لما يأمرون الناس به. قوله عز وجل: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) } . قال البغوي: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً} ، يعني: الفصل بين الخصوم بالحق، {وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ} ، يعني: سدومًا. وكان أهلها يأتون الذكران في أدبارهم، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} . قوله عز وجل: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) } . قال البغوي: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى} دعا، {مِن قَبْلُ} ، يعني: من قبل إبراهيم ولوط، {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} ، قال ابن عباس: من الغرق وتكذيب قومه؛ وقيل: لأنه كان أطول الأنبياء عمرًا، وأشدّهم بلاء. والكرب أشد الغم، {وَنَصَرْنَاهُ} منعناه، {مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أن يصلوا إليه بسوء. وقال أبو عبيدة: يعني على القوم: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} . * * *

الدرس الثالث والسبعون بعد المائة

الدرس الثالث والسبعون بعد المائة {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا

فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) } . * * *

قوله عز وجل: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ (80) } . عن مجاهد في قول الله: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} ، قال: أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث، وحكم سليمان بجزة الغنم، وألبانها لأهل الحرث، وعليهم رعايتها على أهل الحرث، ويحرث لهم أهل الغنم حتى يكون لهم الحرث كهيئة يوم أُكل، ثم يدفعونه إلى أهله ويأخذون غنمهم. وقال شريح: كان النفش ليلاً. وقال الحسن: كان الحكم بما قضى به سليمان ولم يعنف الله داود في حكمه. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» . وقوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} ، قال وهب: كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير. {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} ، أي: ما ذكرهن: التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير. وقوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} ، أي: الدروع قال قتادة: كانت قبل داود صفائح، وكان أول من صنع الحلق وسرد داود.

قوله عز وجل: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) } . قال قتادة: ورّث الله سليمان داود، فورثه نبوته وملكه، وزاده على ذلك أن سخر له الريح والشياطين. وقال ابن زيد في قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} ، قال: عاصفة شديدة، {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} ، قال: الشام. قال البغوي: وذلك أنها كانت تجرى بسليمان وأصحابه حيث شاء سليمان، ثم يعود إلى منزله بالشام. قوله عز وجل: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) } . قال يزيد بن ميسرة: لما ابتلى الله أيوب عليه السلام بذهاب الأهل والمال والولد، قال: أحمدك رب الأرباب الذي أحسنت إليَّ أعطيتني المال، والولد، فلم يبق من قلبي شعبة إلاَّ قد دخله ذلك، فأخذت ذلك كله مني وفرّغت قلبي، فليس يحول بيني وبينك شيء، لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني. وقال الحسن: قال إبليس: يا رب سلّطني على جسده، فإن أصابه الضر فيه أطاعني وعصاك، قال: تسلط على جسده، فأتاه فنفخ فيه نفخة فرح من لدن قرنه إلى قدمه، قال فأصابه البلاء بعد البلاء حتى حُمل فوُضع على مزبلة كناسة لبني إسرائيل، فلم يبق له مال، ولا ولد، ولا صديق، ولا أحد يَقربُه غير زوجته، صبرت معه بصدق وكانت تأتيه بطعام، وتحمد الله معه إذا حمد، وأيوب على ذلك لا يفتر عن ذكر الله، والتحميد والثناء على الله، والصبر على ما ابتلاه الله؛ قال: ومرّ به

رجلان، ولا والله ما على ظهر الأرض يومئذٍ أكرم على الله من أيوب، فقال أحد الرجلين لصاحبه: لو كان لله في هذا حاجة ما بلغ به هذا، فلم يسمع أيوب شيئًا كان أشد عليه من هذه الكلمة. وقال ابن عباس: لما مسّه الشيطان بنصبٍ وعذاب، أنساه الله الدعاء أن يدعوه فيكشف ما به من ضرّ، غير أنه كان يذكر الله كثيرًا ولا يزيده البلاء في الله إلاَّ رغبة وحسن إيمان، فلما انتهى الأجل وقضى الله أنه كاشف ما به من ضرّ، أذن له في الدعاء ويسّره له، وكان قبل ذلك يقول الله تبارك وتعالى: (لا ينبغي لعبدي أيوب أن يدعوني ثم لا أستجيب له) ، فلما دعا استجيب له وأبدَلَه بكل شيء ذهب له ضعفين، ردّ إليه أهله ومثلهم معهم، وأثنى عليه فقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} . وفي خبر وهب بن منبه: فركض برجله وانفجرت له عين، فدخل فيها فاغتسل، فأذهب الله عنه كل ما كان به من البلاء، ثم خرج فجلس وأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه فلم تجده، فقامت كالوالهة متلدّدة، ثم قالت: يا عبد الله هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان ها هنا؟ قال: لا، ثم تبسّم فعرفته بمضحكه فاعتنقته. وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لما عافى الله أيوب أمطر عليه جرادًا من ذهب، فجعل يأخذ منه بيده ويجعله في ثوبه فقيل له: يا أيوب أما تشبع؟ قال: يا رب ومن يشبع من رحمتك» ؟ . وعن مجاهد في قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ} ، قال: قيل له: إن شئت

أحييناهم لك، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وتعطى مثلهم في الدنيا، فاختار أن يكونوا في الآخرة ومثلهم في الدنيا. وعن محمد بن كعب القرظي في قوله: {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} ، قال: أيّما مؤمن أصابه بلاء فذكر ما أصاب أيوب فليقل: قد أصاب من هو خير منا، نبيًا من الأنبياء. قوله عز وجل: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ (86) } . عن مجاهد في قوله: {وَذَا الْكِفْلِ} ، قال: رجل صالح غير نبي تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه، ويقيمه لهم ويقضي بينهم بالعدل ففعل ذلك فسمّي ذا الكفل. قوله عز وجل: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) } . قال وهب بن منبه: إن يونس بن متى كان عبدًا صالحًا، وكان في خُلُقٍه ضيق، فلما حملت عليه أثقال النبوة، ولها أثقال لا يحملها إلاَّ قليل، تفسَّخ تحتها تفسُّخ الربع تحت الحمل، فقذفها بين يديه وخرج هاربًا منها، يقول الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} ، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بعثه الله - يعني: يونس - إلى أهل

قريته، فردّوا عليه ما جاءهم به وامتنعوا منه، فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليه: أني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا، فاخرج من بين أظهرهم فأعلم قومه الذي وعده الله من عذابه إياهم. فقالوا: ارمقوه فإن خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم، فلما كانت الليلة التي وُعدوا بالعذاب في صبحها أدلج ورآه القوم فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم، وفرّقوا بين كل دابة وولدها ثم عجّوا إلى الله فاستقالوه فأقالهم، وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مرّ به مارٌ فقال: ما فعل أهل القرية؟ قال: فعلوا أن نبيهم خرج من بين أظهرهم، عرفوا أنه صدقهم ما وعدهم من العذاب، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض، ثم فرقوا بين كل ذات ولد وولدها، وعجّوا إلى الله وتابوا إليه فقبل منهم وأخّر عنهم العذاب، قال: فقال يونس عند ذلك - وغضب -: والله لا أرجع إليهم كذّابًا أبدًا، وعدتهم العذاب في يوم ثم رُدّ عنهم، ومضى على وجهه مغاضبًا. وفي رواية: فخرج يونس لينتظر العذاب فلم ير شيئًا، قال: جرَّبوا عليّ كذبًا، فذهب مغاضبًا لربه حتى أتى البحر. وعن ابن عباس: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} ، يقول: ظن أن لن نقضي عليه عقوبة، ولا بلاء، وعقوبته أخذ النون إياه. قال الحسن: وكان له سلف من عبادة وتسبيح، فتداركه الله بها فلم يدعه للشيطان. وعن قتادة: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} ، قال: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل. وقال ابن عباس: {نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، معترفًا بذنبه من خطيئته. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، دعوة يونس بن متى» ، قال فقلت: يا رسول الله هي ليونس بن متى خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: «هي ليونس بن متى خاصة، وللمؤمنين عامة. إذا دَعوا بها ألم تسمع قول الله تبارك وتعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ *

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي ... الْمُؤْمِنِينَ} » . رواه ابن جرير. وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» . قوله عز وجل: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (91) } . عن قتادة قوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} ، كانت عاقرًا فجعلها الله ولودًا، {وَوَهَبْنَا لَهُ} منها: {يَحْيَى} . وقال عطاء: كان في خلقها شيء فأصحلها الله. وعن ابن جريج أنهم: {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} ، قال: {رَغَباً} في رحمة الله، {وَرَهَباً} من عذاب الله. وقوله تعالى: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ، أي: متواضعين. قال قتادة: ذللاً لأمر الله. وقال مجاهد: الخشوع هو: الخوف اللازم في القلب. وقوله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} ، يعني: مريم عليها السلام، حفظت فرجها من الحرام، وأمر الله جبريل فنفخ في جيب درعها

فدخلت في فرجها فحملت بعيسى، فكان من أم بلا أب، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . قوله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) } . عن ابن عباس قوله: {أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، يقول: دينكم دين واحد. وقوله تعالى: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ} ، قال البغوي: أي: اختلفوا في الدين فصاروا فرقًا وأحزابًا، {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} فنجزيهم بأعمالهم، {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} ، أي: لعمله حافظون. * * *

الدرس الرابع والسبعون بعد المائة

الدرس الرابع والسبعون بعد المائة {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (108) فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) } .

قوله عز وجل: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) } . عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} ، قال: لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة. وعن ابن جريج قوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} ، قال: أمتان من وراء ردم ذي القرنين. وقال عمرو البكالي: إن الله جزأ الأنفس عشرة أجزاء، فتسعة منهم: يأجوج ومأجوج، وسائر الإنس جزء. وقال ابن زيد في قوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} ، قال: هذا مبتدأ يوم القيامة، {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ، قال: اقترب يوم القيامة منهم، {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم يقولون: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} . وعن النواس بن سمعان الكلابي قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدجال ذات يوم فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في ناحية النخل فقال: «غير الدجال أخوفني عليكم فإن يخرج وأنا فيكم فإنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم. وإنه شاب جعد قطط، عينه طافية وإنه يخرج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينًا وشمالاً يا عباد اثبتوا» قلنا: يا رسول الله ما لُبْثُه في الأرض؟ قال: «أربعون يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم» ، قلنا: يا رسول الله فذاك اليوم الذي هو كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال: «لا، اقدروا له قدره» ، قلنا: يا رسول الله فما إسراعه في الأرض؟ قال: «كالغيث اشتدت به الريح، قال: فيمرّ بالحيّ فيدعوهم

فيستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كانت ذرى، وأمدّه خواصر، وأسبغه ضروعًا، ويمر بالحيّ فيدعوهم فيردّون عليه قوله، فتتبعه أموالهم فيصبحون ممحلين ليس لهم من أموالهم شيء، ويمرّ بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل. قال: ويأمر برجل فيُقتل فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل إليه، فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعًا يديه على أجنحة ملكين، فيتبعه فيدركه فيقتله عند باب لدّ الشرقي، قال: فبينما هم كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى بن مريم عليه السلام: إني قد أخرجت عبادًا من عبادي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرّز عبادي إلى الطور، فيبعث الله عز وجل يأجوج ومأجوج، كما قال تعالى: {وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} . فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل، فيرسل الله عليهم نغفًا في رقابهم فيصبحون موتى كنفس واحدة، فيهبط عيسى وأصحابه فلا يجدون في الأرض بيتًا إلا قد ملأه زَهَمُهُمْ ونَتَنُهُمْ، فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل، فيرسل الله عليهم طيرًا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، قال: ويرسل الله مطرًا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر أربعين يومًا، فيغسل به الأرض حتى يتركها كالزلقة، ويقال للأرض: أنبتي ثمرك، ورُدّي بركتك. قال: فيومئذٍ يأكل النفر من الرمانة فيستظلّون بقحفها، ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر تكفي الفخذ، والشاة من الغنم تكفي أهل البيت، قال: فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل ريحًا طيّبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم - أو قال: مؤمن - ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحُمُر وعليهم تقوم الساعة» . رواه مسلم وغيره.

وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليحجّن هذا البيت وليعتمرنّ بعد خروج يأجوج ومأجوج» . رواه البخاري وغيره. وقال كعب الأحبار: فبينما الناس كذلك - يعني: بعد هلك يأجوج ومأجوج -، إذ أتاهم الصريخ أن ذا السويقتين يريده، قال: فيبعث عيسى ابن مريم طليعة سبعمائة، حتى إذ كانوا ببعض الطريق بعث الله ريحًا يمانيّة طيبة، فيقبض فيها روح كل مؤمن، ثم يبقى عجاج الناس فيتسافدون كما تتسافد البهائم، فمثل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه متى تضع. قوله عز وجل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) } . عن ابن عباس: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} ، يقول: وقودها. وقال الضحاك: يُرمى بهم فيها. وقال ابن زيد في قوله: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} ، قال: العابد، والمعبود. وقال الحسن البصري: ثم استثنى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} ، فقد عُبدت الملائكة من دون الله، وعزير، وعيسى من دون الله. وقال ابن إسحاق: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني يومًا مع الوليد بن المغيرة فجاء النضر بن الحارث

حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرض له النضر بن الحارث وكلّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ألجمه ثم تلا عليه وعليهم: ... {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} إلى قوله: {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} ، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبل عبد الله بن الزّبَعْرى حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزّبَعْرى: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفًا وما قعد، وقد زعم أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدًا: أكل من عُبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عُزَيرًا، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم، فعجب الوليد بن المغيرة ومن كان في المجلس من قول عبد الله بن الزّبَعْرى، ورأوا أنه قاتد خاصم واحتجّ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قول ابن الزّبَعْرى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم كل من أحب أن يُعبد من دون الله فهو مع من عبد، إنما يعبدون الشياطين ومن أمرهم بعبادتهم» ؟ فأنزل عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} إلى: {خالِدُونَ} ، أي: عيسى ابن مريم، وعُزير، ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله، فاتخذهم مَنْ بَعْدَهُمْ من أهل الضلالة أربابًا من دون الله، فأنزل الله فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} . وقوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} ، قال ابن عباس: يقول: كطي الصحف. وروى البخاري وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ... «يقبض الله الأرض

ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟» وقد قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . قوله عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) } . عن مجاهد في قوله: {الزَّبُورِ} قال: الكتاب، {مِن بَعْدِ الذِّكْرِ} ، قال: أم الكتاب عند الله. وقال ابن زيد: الزبور: الكتب التي أنزلت على الأنبياء، والذكر: أم الكتاب الذي تكتب فيه الأشياء قبل ذلك، {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ، قال: الجنة، وقرأ قول الله جلّ ثناؤه: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} . وعن ابن عباس في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} ، قال تمت الرحمة لمن آمن به في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن به عوفي مما أصاب الأمم قبل. قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (108) فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) } . عن ابن جريج: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} ، قال: الأجل. وعن

ابن عباس: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} ، يقول: لعل ما أقرب لكم من العذاب والساعة: أن يؤخر عنكم لمدتكم، {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} فيصير قولي ذلك لكم فتنة {قَالَ رَبِّ احْكُم ... بِالْحَقِّ} ، قال: لا يحكم بالحق إلاَّ الله ولكن إنما استعجل بذلك في الدنيا يسأل ربّه على قومه. وقال ابن كثير: وقوله: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أي: على ما يقولون ويفترون من الكذب. وقال البغوي: فإن قيل: كيف قال: {احْكُم بِالْحَقِّ} والله لا يحكم إلاَّ بالحق؟ ! قيل: الحق ها هنا بمعنى: العذاب، لأنه استعجل العذاب لقومه فعُذّبوا يوم بدر، نظيره قوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} . * * *

الدرس الخامس والسبعون بعد المائة

الدرس الخامس والسبعون بعد المائة [سورة الحج] مكية، وقيل: مدنية، وهي ثمان وسبعون آية قال البغوي: سورة الحج مكية، إلاَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآيتين، أو إلا: {هَذَانِ خَصْمَانِ} الست آيات، فمدنيّات. بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى

الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (10) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) } . روى ابن جرير وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر» . قال أبو هريرة: يا رسول الله وما الصور؟ قال: «قرن» . قال: فكيف هو؟ قال: «قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين. يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى. فيقول: انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله، ويأمره فيمدّها ويطوّلها ولا يفتر، وهي التي يقول الله تعالى: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} فتسير الجبال فتكون سرابًا، وترجّ الأرض رجًّا، وهي التي يقول الله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} فتكون الأرض كالسفينة الموثقة في البحر تضربها الأمواج تكفأ بأهلها، وكالقنديل المعلّق بالعرش ترجحه الأرواح فتميد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع وتضع الحوامل، ويشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقّاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع، ويولّي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضًا، وهي التي يقول الله تعالى: {يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم

مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} ، فبينما هم على ذلك إذا انصدعت الأرض من قطر إلى قطر ورأوا أمرًا عظيمًا، فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل ثم خسف شمسها وقمرها وانتثرت نجومها، ثم كُشطت عنهم؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك» . قال أبو هريرة: فمن استثنى الله حين يقول: {فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ} ؟ قال: «أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون، ووقاهم الله شر ذلك اليوم وآمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه، وهو الذي يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} » . وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يبعث يوم القيامة مناديًا: يا آدم إن الله يأمرك أن تبعث بعثًا من ذريتك إلى النار، فيقول آدم: يا رب مَنْ هم. فيقال له: من كل مائة تسعة وتسعون» . فقال رجل من القوم: من هذا الناجي منا بعد هذا يا رسول الله؟ قال: «هل تدرون؟ ما أنتم في الناس إلا كالشامة في صدر البعير» . رواه أحمد. وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم. فيقول: لبيّك ربنا وسعديك، فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار، قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف - أراه قال - تسع مائة وتسعة وتسعين، فحينئذٍ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فشقّ ذلك على الناس حتى تغيّرت وجوههم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يأجوج ومأجوج

تسعمائة وتسعة وتسعين، ومنكم واحد. أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة» . فكبّرنا ثم قال: «ثلث أهل الجنة» . فكبرنا ثم قال: «شطر أهل الجنة» . فكبرنا. قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) } . قال مجاهد: {تَوَلَّاهُ} اتبعه. وعن قتادة: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ} ، قال: كتب على الشيطان أنه من اتبع الشيطان من خلق الله. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ (7) } . عن قتادة في قول الله: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} ، قال: تامّة وغير تامّة. قال ابن جرير: المخلقة المصورة خلقًا تامًا، وغير المخلّقة أسقط قبل تمام خلقه. وقال

ابن زيد في قوله: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ، قال: الأجل المسمى: إقامته في الرحم حتى يخرج. وعن ابن جريج في قوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} ، قال: لا نبات فيها، {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} ، قال قتادة: حسنت وعرف الغيث في ربوها، {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} ، قال: حسن. وقال ابن جرير: {في كُلِّ زَوْجٍ} من كل نوع. قال ابن كثير: ... {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} ، أي: حسن المنظر، طيب الريح. قال البغوي: فهذا دليل آخر على البعث. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} ، أي: لتعلموا أن الله هو الحق، {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} . قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (10) } . قال البغوي: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ} ، متبخترًا لتكبره، وقال ابن كثير: لما ذكر تعالى حال الضلاّل الجهال المقلدين في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر والبدع فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} ، أي: بلا عقل صحيح ولا نقل صريح، بل بمجرد الهوى، {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي

الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} ، وقال ابن زيد: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ، قال: لاويًا رأسه معرضًا موليًا لا يريد أن يسمع ما قيل له، وقرأ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} ، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً} . * * *

الدرس السادس والسبعون بعد المائة

الدرس السادس والسبعون بعد المائة {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) } . * * *

قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) } . عن مجاهد قوله: {عَلَى حَرْفٍ} ، قال: على شك، {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} رخاء وعافية استقر، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} عذاب ومصيبة، ... {انقَلَبَ} ارتد، {عَلَى وَجْهِهِ} كافرًا. وقال ابن زيد: هذا المنافق إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيّرت انقلب، ولا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه، وإذا أصابته شدّة أو فتنة أو اختبار أو ضيق ترك دينه ورجع إلى الكفر. وقال قتادة: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} ، يقول: كثر ماله، وكثرت ماشيته {اطْمَأَنَّ} وقال: لم يصبني في ديني هذا منذ دخلته إلا خير، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} ، يقول: وإن ذهب ماله، وذهبت ماشيته، {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} . وقال ابن زيد في قوله: {يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ} يكفر بعد إيمانه، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} . {يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ} ، أي: في الدنيا، {أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} ، قال ابن زيد: العشير هو: المعاشر الصاحب. وقال مجاهد: هو الوثن. قال ابن كثير: يعني: بئس هذا الذي دعاه من دون الله مولى يعني: وليًا وناصرًا، {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} وهو المخالط والمعاشر.

قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ (16) } . قال قتادة: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} ، يقول: بحبل إلى السماء البيت، {ثُمَّ لِيَقْطَعْ} ، يقول: ثم ليختنق، ... {فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} ؟ وقال البغوي: {وَكَذَلِكَ} ، أي: مثل ذلك. يعني: ما تقدم من آيات القرآن، {أَنزَلْنَاهُ} ، يعني: القرآن، {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ} . قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) } . يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة من المؤمنين ومن سواهم، أنه يحكم بينهم بالعدل فيدخل الجنة من آمن به وأطاعه، ويدخل النار من كفر به وعصاه. قال قتادة: الصابئون: قوم يعبدون الشمس والقمر والنيران، {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} يعبدون الأوثان؛ والأديان ستة: خمسة للشيطان، وواحد للرحمن. قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ

وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) } . هذه الآية كقوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} . وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلاَّ يقع ساجدًا حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له. وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتدري أين تذهب هذه الشمس» ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها: ارجعي من حيث جئت» . وقوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} ، قال مجاهد: المؤمنون، {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} ، قال البغوي: وهم الكفار لكفرهم وتركهم السجود، وهم مع كفرهم يسجد ظالمهم لله عز وجل: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} ، أي: من يذلّه الله فلا يكرمه أحد {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} . قوله عز وجل: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) } .

قال عطاء: نزلت هؤلاء الآيات: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} في الذين تبارزوا يوم بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة. إلى قوله: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} . وقال مجاهد: هم الكافرون والمؤمنون، اختصموا في ربهم، {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} ، قال: الكافر قُطّعت له ثياب من نار، والمؤمن يدخله الله جنات تجري من تحتها الأنهار. وروى ابن جرير وغيره عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الجحيم يصبّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصَّهر، ثم يعاد كما كان» . وروى ابن جرير عن أبي ظبيان قال: النار سوداء مظلمة لا يضيء لهيبها ولا جمرها، ثم قرأ: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} ، وقد ذكر أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش جهنم فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان فيها بالمقامع، ويقولون لهم إذا ضربوهم: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} . ولما ذكر تعالى حال أعدائه في النار، ذكر حال أوليائه في الجنة فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} . وفي الصحيح: «لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» . وورد في الحديث الآخر: «الذهب والحرير

حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم» . وقال ابن زيد في قوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} ، قال: هُدُوا إلى الكلام الطيب: لا إله إلاَّ الله، والله أكبر، والحمد لله. قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} ، قال البغوي: إلى دين الله وهو الإسلام. * * *

الدرس السابع والسبعون بعد المائة

الدرس السابع والسبعون بعد المائة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (35)

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) } . عن ابن عباس قوله: {سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} ، يقول: ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام. وعن مجاهد وعطاء: {سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} هما في حرمته سواء. وعن مجاهد: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} ، قال: يعمل فيه عملاً سيئًا، {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ، قال الضحاك: إن الرجل ليهمّ بالخطيئة بمكة وهو في بلد آخر، ولم يعملها فتكتب عليه. قوله عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشِْكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) } . قال البغوي: قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} ، أي: وطأنا. قال ابن عباس: جعلنا، وقيل: بيَّنَّا. وعن مجاهد في قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} ، قال: من الشرك. وعن عطاء في قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} ، قال: القائمون في الصلاة. وقال ابن زيد: القائم: الراكع. والساجد هو: المصلي، والطائف هو: الذي يطوف به. قال ابن كثير: هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله وأشرك به، في البقعة التي أسّست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له.

قوله عز وجل: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) } . قال ابن عباس: (لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} ، قال: يارب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعليّ البلاغ، فنادي إبراهيم: أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فحُجّوا. قال: فسمعه ما بين السماء والأرض، أفلا ترى الناس يجيئون من أقصى الأرض يُلَبون) ؟ وفي رواية: (فأسمع من في أصلابَ الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن ممن سبق في علم الله أن يحجّ إلى يوم القيامة: لبيّك اللهم لبيّك) . {يأْتُوكَ رِجَالاً} ، قال: على أرجلهم، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} ، قال: الإبل، {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} ، قال: بعيد، {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} ، قال: هي الأسواق. وقال مجاهد: التجارة، وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة، {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} ، قال ابن عباس: يعني أيام التشريق، {عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ، قال الضحاك: يعني: البدن، {فَكُلُوا مِنْهَا} ، قال مجاهد: هي: رخصة، إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} ، قال ابن عباس: يعني: الزمن الفقير. {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} ، قال ابن عمر: التفث: المناسك كلّها. وقال ابن عباس:

التفث: حلق الرأس وأخذ من الشاربين، ونتف الإبط وحلق العانة، وقص الأظفار، والأخذ من العارضين، ورمي الجمار، والموقف بعرفة، والمزدلفة، {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} ، قال: نحو ما نذروا من البدن. وقال مجاهد: نذر الحجّ والهدي، وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج، {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، قال قتادة: عتق من الجبابرة. وقال ابن زيد: العتيق القديم. وعن عطاء في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، قال: طواف يوم النحر. قوله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) } . قال مجاهد في قوله: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} ، قال: الحرمة مكة، والحج، والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها. وقوله تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} ، قال قتادة: إلاَّ الميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه، {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} ، قال ابن عباس: يقول تعالى ذكره: واجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان. وعن مجاهد قوله: {قَوْلَ الزُّورِ} ، قال: الكذب. وعن ابن عباس قوله: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} ، يعني: الافتراء على الله والتكذيب. وعن ابن مسعود قال: تعدل شهادة الزور بالشرك، وقرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} . وعن قتادة: {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ

السَّمَاء} ، قال: هذا مثل ضربه الله لمن أشرك بالله في بعده من الهدى وهلاكه، {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} ، قال مجاهد: بعيد. قوله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) } . قال محمد بن أبي موسى: الوقوف بعرفة من شعائر الله، والجمع من شعائر الله، ورمي الجمار من شعائر الله، والبدن من شعائر الله، ومن يعظّمها فإنها من شعائر الله. في قوله: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} فمن يعظمها، {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} . وعن ابن عباس في قوله: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} ، قال: استعظامها، واستحسانها، واستمساكها، {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ، قال: ما لم يُسَمَّ بُدْنًا. وعن عطاء: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ، قال هو: ركوب البدن، وشرب لبنها إن احتاج، {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} إلى مكة. وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة قال: «اركبها» . قال: إنها بدنة، قال: «اركبها ويحك» ، في الثانية، أو في الثالثة. وفي حديث آخر عند مسلم قال: «اركبها بالمعروف إذا لُجِئْتَ إليها» . قوله عز وجل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)

الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (35) } . عن مجاهد: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} ، قال: إهراق الدماء، ... {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} عليها، {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} المطمئنين إلى الله. وقال ابن زيد في قوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} ، قال: لا تقسوا قلوبهم، {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} من شدة في أمر الله ونالهم من مكروه في جنبه، {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} المفروضة، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} من الأموال، {يُنفِقُونَ} في الواجب عليهم إنفاقها فيه، في زكاة ونفقة عيال، ومن وجبت عليه نفقته، وفي سبيل الله. قوله عز وجل: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) } . قال عطاء: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ} ، قال: البقرة، والبعير. وقال مجاهد: إنما البدن من الإبل، ويشهد له قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى، فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَب بقرة» . الحديث. وعن مجاهد في قول الله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} ، قال: أجر ومنافع في البدن. وعن ابن عباس في قوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} ، قال: الله أكبر، الله أكبر، اللهم منك ولك قيامها على ثلاث أرجل، فقيل لابن عباس: ما نصنع بجلودها؟

قال: تصدقوا بها واستمتعوا بها. وعن مجاهد: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} سقطت إلى الأرض، {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} ، قال ابن عباس يقول: يأكل منها ويطعم. وقال الحسن: القانع: الذي يقنع إليك ويسألك. والمعتر: الذي يتعرض لك ولا يسألك. وقال زيد بن أسلم: القانع: المسكين الذي يطوف. والمعترّ: الصديق. والضعيف: الذي يزور. وقال ابنه: القانع: المسكين الذي يعتر للقوم للحمهم وليس بمسكين، ولا تكون له ذبيحة، يجيء إلى القوم من أجل لحمهم. والبائس الفقير: هو: القانع. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فكلوا وادخروا ما بدا لكم» . وفي رواية: «فكلوا وأطعموا وتصدقوا» . وعن إبراهيم في قول الله: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} ، قال: ما أريد به وجه الله. قال البغوي: وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا تحروا البدن لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله فأنزل الله هذه الآية: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، أرشدكم لمعالم دينه، ومناسك حجه، {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} . * * *

الدرس الثامن والسبعون بعد المائة

الدرس الثامن والسبعون بعد المائة {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا

أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) } . قال ابن عباس: لما أخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن. قال ابن عباس: فأنزل الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ، قال أبو بكر رضي الله عنه: فعرفت أنه سيكون قتال. رواه ابن جرير وغيره؛ زاد أحمد: قال ابن عباس: وهي أول آية نزلت في القتال. وروى ابن جريج أيضًا عن ابن عباس قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ، يعني: محمدًا وأصحابه إذ أخرجوا من مكة إلى المدينة، يقول الله: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وقد فعل. وعن ابن جريج قوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} ، دفع المشركين بالمسلمين. وقال ابن زيد: لولا القتال والجهاد لهدّمت صوامع قال مجاهد:

صوامع الرهبان، {وَبِيَعٌ} ، قال: وكنائس. وقال الضحاك: البيع: بيع النصارى. وعن قتادة: {وَصَلَوَاتٌ} كنائس اليهود {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} ، قال: المساجد: مساجد المسلمين، {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} . قال البغوي: ومعنى الآية: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لهدم في شريعة كل نبي مكان صلاتهم، لهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى البيع والصوامع، وفي زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - المساجد. {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} ، يعني: ينصر دينه ونبيه، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . وعن أبي العالية في قوله: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} ، قال: كان أمرهم بالمعروف أنهم دعوا إلى الإخلاص لله وحده لا شريك له، ونهيهم عن المنكر أنهم نهوا عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان. وقال زيد بن أسلم: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} ، وعند الله ثواب ما صنعوا. وقال عمر بن عبد العزيز: ألا أنبئكم بما لكم على الوالي، وبما للوالي عليكم؟ إن لكم على الوالي أن يأخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يأخذ لبعضكم من بعض، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع، وإن عليكم الطاعة غير المبزوزة، ولا المستكثر بها، ولا المخالف سرّها علانيتها. قوله عز وجل: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) } .

قال البغوي: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} ، يعني: إنكاري. أي: كيف أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب بالعذاب والهلاك، يخوف به من يخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكذبه. قوله تعالى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ، قال الضحاك: خواؤها: خرابها و {عُرُوشِهَا} سقوفها، {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} ، قال: لا أهل لها. وقال قتادة: عطلها أهلها، تركوها. وعن عكرمة في قوله: {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} ، قال: مجصّص. وقال قتادة: كان أهله سدّوه وحصّنوه فهلكوا وتركوه. وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} فيعتبرون، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ، قال قتادة: البصر الظاهر بُلْغَةٌ ومُتْعَةٌ، وبصر القلب هو البصر النافع، وما أحسن ما قاله بعض الشعراء: يا من يصيخ إلى داعي الشقاء وقد ... نادى به الناعيان الشَيْبُ والكِبَرُ إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترى ... في رأسك الواعيان السمع والبصرُ ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل ... لم يَهْدِه الهاديان العين والأثر لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك ... الأعلى ولا النيران الشمس والقمر ليرحلن عن الدنيا وإن كرها ... فراقها الثاويان البدو والحضرُ قوله عز وجل: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) } . قال ابن عباس: مقدار الحساب يوم القيامة ألف سنة. وعن أبي هريرة أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام» . رواه ابن أبي حاتم وغيره. قوله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) } . قال ابن جريج قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} قال: الجنة. وعن ابن عباس: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} قال: مشاقين. وقال مجاهد: يثبّطون الناس عن متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال قتادة: كذبوا بآيات الله فظنوا أنهم يعجزون الله، ولن يعجزوه، {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيم} . قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (54) } . عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس قالا: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناد من أندية قريش كثير أهله، تمنى يومئذٍ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه

, فأنزل الله عليه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ألقى عليها الشيطان كلمتين: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهنّ لترجى؛ فتكلّم بها. ثم مضى فقرأ السورة كلّها، فسجد في آخر السورة، وسجد القوم جميعًا معه، ورفع الوليد بن المغيرة ترابًا إلى جبهته فسجد عليه، وكان شيخًا كبيرًا لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلم به وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت، وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، إذ جعلت لها نصيبًا، فنحن معك، قالا: فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام، فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال: ما جئتك بهاتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «افْتَرَيْتُ على الله، وقلتُ على الله ما لم يَقُلْ» . فأوحى الله إليه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} إلى قوله: {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} . فما زال مغمومًا مهمومًا حتى نزلت عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . قال: فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحبّ إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان. رواه ابن جرير وغيره. قوله عز وجل: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ

بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (57) } . عن سعيد بن جبير: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} من قوله: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتجى. وعن ابن جريج: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} ، قال: من القرآن، {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} ، قال مجاهد: يوم بدر. وقوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ} ، قال البغوي: يعني: يوم القيامة ... {لِّلَّهِ} من غير منازع، {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ، ثم بين الحكم فقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} . قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) } . عن ابن جريج: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} ، قال: هم المشركون بغوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوعده الله أن ينصره، وقال: في القصاص أيضًا. قال

البغوي: والعقاب الأوّل بمعنى: الجزاء. {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} عفا عن مساوئ المؤمنين، وغفر لهم ذنوبهم. {ذَلِكَ} يعني: ذلك النصر، {بِأَنَّ اللَّهَ} القادر على ما يشاء، فمن قدرته أنه: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} العالي على كل شيء، {الْكَبِيرُ} العظيم الذي كل شيء دونه. قال ابن كثير: فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته، لا إله إلا هو، ولا رب سواه. لأنه: العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا أعلى منه. الكبير: الذي لا أكبر منه، تعالى وتقدّس وتنزّه عزّ وجلّ عما يقول الظالمون المعتدون علوّاً كبيرًا. * * *

الدرس التاسع والسبعون بعد المائة

الدرس التاسع والسبعون بعد المائة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ (67) وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ

عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) } . * * *

قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ (66) } . في هذه الآيات الدالة الواضحة على قدرته وعظيم سلطانه، وأنه لا يستحق العبادة سواه. قال ابن كثير: وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ} ، كقوله: {وكيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثم إليه ترجعون} ، ومعنى الكلام: كيف تجعلون لله أندادًا وتعبدون معه غيره، وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرّف؟ قوله عز وجل: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ (67) وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) } . عن ابن عباس قوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} ، يقول: عيدًا. وقال مجاهد: إهراق دم الهدي. وقال البغوي: {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} ، يعني:

في أمر الذبائح؛ نزلت في بديل بن ورقاء، وبشر بن سفيان، ويزيد بن خنيس، قالوا لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما لكم تأكلون مما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون مما قتله الله؟ وقال ابن كثير: وقوله: {وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} ، كقوله: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} . قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) } . قال عبدة بن أبي لبابة: علم الله ما هو خالق، وما الخلق عاملون، ثم كتبه. قوله عز وجل: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) } . عن ابن عباس: قوله: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} ، يقول: يبطشون. وقوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ} ، قال البغوي: يعني: بشرّ لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون؟ النار، يعني: هي: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . وقال ابن كثير: أي: النار وعذابها ونكالها، أشد

وأشقى، وأطم، وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا، وعذاب الآخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم، إن نلتم بزعمكم وإرادتكم. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) } . قال ابن زيد: هذا مثل ضربه الله لآلهتهم وقرأ: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، حين يعبدون من دون الله ما لا ينتصف من الذباب ولا يمتنع منه. وقال ابن عباس: الطالب: الصنم. والمطلوب: الذباب، وقال: كانوا يطلون الأصنام بالزعفران، فإذا جف جاء الذباب فاستلب منه. قوله عز وجل: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (76) } . قال البغوي: {اللَّهُ يَصْطَفِي} ، يعني: يختار {مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً} وهم: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، وغيرهم. {وَمِنَ النَّاسِ} يعني: يختار من الناس رسلاً، مثل: إبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام، نزلت حين قال المشركون: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا} ؟ فأخبر أن الاختيار إليه يختار من يشاء من خلقه. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) } .

قال البغوي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ، يعني: صلّوا لأن الصلاة لا تكون إلاَّ بالركوع والسجود، {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} ، أي: وحّدوه، {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} ، قال ابن عباس: صلة الرحم، ومكارم الأخلاق. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، لكي: تسعدوا وتفوزوا بالجنة. وروى أبو داود عن خالد بن معدان رحمه الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «فضّلت سورة الحجّ على سائر القرآن بسجدتين» . وعن أبي الجهم: أن عمر سجد سجدتين في الحج وهو بالجابية وقال: (إن هذه فضلت بسجدتين) . قوله عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) } . قال ابن عباس في قوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} ، لا تخافوا في الله لومة لائم. وقال ابن زيد في قوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} ، قال: هداكم. وعن ابن عباس في قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، قال: الحرج: الضيق، فجعل الله الكفارات مخرجًا من ذلك. وقال مقاتل: يعني: الرخص عند الضرورات: كقصر

الصلاة في السفر، والتيمم عند فقد الماء، وأكل الميتة عند الضرورة، والإفطار بالسفر والمرض، والصلاة قاعدًا عند العجز عن القيام؛ وقال - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت بالحنيفية السمحة» . وقوله تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} ، أي: اتّبعوا ملة أبيكم إبراهيم، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . وقوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا} ، قال مجاهد: الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة، {وَفِي هَذَا} ، يعني: القرآن. وعن قتادة: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ} ، قال: الله سماكم المسلمين من قبل. {وفي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ} ، بأنه بلَّغكم، {وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} أن رسلهم قد بلّغتهم، {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} أي: استعينوا به وتوكّلوا عليه {هُوَ مَوْلَاكُمْ} يحفظكم وينصركم، {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} . قال وهيب بن الورد: ويقول الله تعالى: (ابن آدم اذكرني إذا غضبتَ، أذكرك إذا غضبتُ، فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظُلِمْتَ فاصبر وارض بنصرتي فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك) . رواه ابن أبي حاتم. والله أعلم وهو المستعان. * * *

الدرس الثمانون بعد المائة

الدرس الثمانون بعد المائة [سورة المؤمنون] وهي مائة وثمان عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً

تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) } . * * *

قوله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) } . سئلت عائشة رضي الله عنها: كيف كان خُلُقُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: (كان خُلُقُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن، فقرأت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حتى انتهت إلى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، قالت: هكذا كان خُلُقُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) . رواه النسائي. وعن أبي سعيد الخدري مرفوعًا قال: «خلق الله الجنة لبنةً من ذهب ولبنةً من فضّة وغرسها، وقال لها: تكلّمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فدخلتها الملائكة فقالت: طوبى لك منزل الملوك» . وعن الحسن في قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، قال: كان خشوعهم في قلوبهم، فغضّوا بذلك البصر، وخفضوا به الجَنَاح. وعن ابن عباس قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} ، يقول: الباطل.

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} ، قال البغوي: أي: للزكاة الواجبة مؤدّون. وعن ابن عباس قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ، يقول: رضي الله لهم إتيانهم أزواجهم وما ملكت أيمانهم، {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} ، قال ابن زيد: الذين يتعدّون الحلال إلى الحرام. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} ، حافظون. قال البغوي: أي: يحفظون ما اؤتمنوا عليه، والعقود التي عاقدوا الناس عليها، يقومون بالوفاء بها؛ والأمانات تختلف فتكون بين الله تعالى وبين العباد: كالصلاة، والصيام، والعبادات التي أوجبها الله عليه، وتكون من العبيد كالودائع والصانع، فعلى العبد الوفاء بجميعها. وعن مسروق: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، قال: على ميقاتها. وقال قتادة: على مواقيتها وركوعها وسجودها. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحدٍ إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، وإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} » . رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، قال قتادة: قتل

حارثة بن سراقة يوم بدر فقالت أمه: يا رسول الله إن كان ابني من أهل الجنة لم أبك عليه، وإن كان من أهل النار بالغت في البكاء، قال: «يا أم حارثة إنها جنات في عدن، وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى من الجنة» . قوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) } . عن قتادة في قوله: {مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} ، قال: استُلّ آدم من طين، وخُلقت ذريته من ماء مهين؛ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله، وعمله، وشقيّ، أو سعيد» . الحديث متفق عليه. وعن أبي العالية: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} ، قال: نفخ الروح فيها، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} ، قال مجاهد: يصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين. وعن ابن عباس: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} ، يعني: ننقله من حال إلى حال، إلى أن خرج طفلاً، ثم نشأ صغيرًا، ثم احتلم، ثم صار شابًّا، ثم كهلاً، ثم شيخًا، ثم هرمًا. قوله عز وجل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) } .

قال ابن زيد في قول الله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} ، قال: الطرائق: السماوات. وقد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . وقال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} . قوله عز وجل: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ (20) } . عن ابن عباس في قوله: {مِن طُورِ سَيْنَاء} ، قال: الجبل الذي نودي منه موسى - صلى الله عليه وسلم -، {تَنبُتُ بِالدُّهْنِ} ، يقول: هو: الزيت يؤكل ويدّهن به. وقال ابن زيد في قوله: {وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ} ، قال: هذا الزيتون صبغ للآكلين، يأتدمون به ويصطبغون به. قال ابن كثير: وطور سَيْنَاء هو: طور سينين وهو: الجبل الذي كلّم الله عليه

موسى بن عمران عليه السلام، وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون. قوله عز وجل: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) } . قال ابن كثير: يذكر تعالى ما جعل لخلقه في الأنعام من المنافع، وذلك أنهم يشربون من ألبانها الخارجة من بين فرث ودم، ويأكلون من لُحْمَانِها، ويلبسون من أصوافها، وأوبارها وأشعارها، ويركبون ظهورها، ويُحَمَّلونها الأحمال الثقال إلى البلاد النائية عنهم؛ كما قال تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} . * * *

الدرس الحادي والثمانون بعد المائة

الدرس الحادي والثمانون بعد المائة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (44) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) } . قال البغوي: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده، {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} معبود سواه، {أَفَلَا تَتَّقُونَ} أفلا تخافون عقوبته إذا عبدتم غيره؟ {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} ، يعني: يتشرّف بأن يكون له الفضل عليكم فيصير متبوعًا وأنتم له تبع، {وَلَوْ شَاء اللَّهُ} أن لا يُعبد سواه، {لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً} ، يعني: بإبلاغ الوحي، {مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا} الذي يدعونا إليه نوح، {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} وقيل: {مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا} ، أي: بإرسال بشر رسولاً، {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} ، يعني: جنون، {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} ، يعني: إلى أن يموت فتستريحوا منه. قوله عز وجل: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ

الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) } . عن مجاهد في قوله: {مُنزَلاً مُّبَارَكاً} ، قال لنوح حين نزل من السفينة. قال ابن كثير: قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} ، أي: أن في هذا الصنيع وهو إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين، {لَآيَاتٍ} ، أي: لحجج ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاءوا به عن الله تعالى، وأنه تعالى فاعل لما يشاء، قادر على كل شيء، عليم بكل شيء. وقوله: {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} ، أي: لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين. قوله عز وجل: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) } . عن ابن عباس في قوله: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} ، يقول: بعيد، بعيد. قال ابن جرير: وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن قول الملأ من ثمود أنهم قالوا: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} ، أي: بعيد ما توعدون، أيها القوم من أنكم بعد موتكم ومصيركم ترابًا وعظامًا مخرَجون أحياء من قبوركم، يقولون: ذلك غير كائن.

وقال ابن زيد في قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} ، قال يقول: ليس آخرة ولا بعث، يكفرون بالبعث يقولون: إنما هي حياتنا هذه ثم نموت ولا نحيا، يموت هؤلاء ويحيا هؤلاء، يقولون: إنما الناس كالزرع يُحصد هذا وينبت هذا، يقولون: يموت هؤلاء ويأتي آخرون، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . قوله عز وجل: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) } . قال ابن عباس يقول: جُعلوا كالشيء الميت البالي من الشجر. وقال مجاهد: غثاء كالرميم الهامد الذي يحتمل السيل، أولئك ثمود. قوله عز وجل: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّمَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (44) } . عن ابن عباس قوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} ، يقول: يتبع بعضها بعضًا. وقوله تعالى: {كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً} أي: أهلكناهم، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} ، أي: قصصًا يتحدّث بهم من بعدهم، {فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ} ، أي: فأبعد الله قومًا لا يؤمنون بالله ولا يصدّقون رسله. * * *

الدرس الثاني والثمانون بعد المائة

الدرس الثاني والثمانون بعد المائة {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ

جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) } . * * *

قوله عز وجل: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) } . قال البغوي: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} ، يعني: بحجّة بينة من اليد والعصا وغيرهما، {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا} تعظّموا عن الإيمان، {وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ} متكبّرين قاهرين غيرهم بالظلم. {فَقَالُوا} ، يعني: فرعون وقومه، {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} ، يعني: موسى، وهارون، {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} ، مطيعون متذللون، ... {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} بالغرق. وقال ابن زيد: قال فرعون: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} نذهب نرفعهم فوقنا ونكون تحتهم، ونحن اليوم فوقهم وهم تحتنا، كيف نصنع ذلك؟ وذلك حين أتوهم بالرسالة، وقرأ: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ} ، قال: العلو في الأرض. قوله عز وجل {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) } . عن قتادة في قوله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} ، قال: ولدته من غير أب هو له، ولذلك وجدت الآية، وقد ذكر مريم وابنها. وقوله تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} ، قال ابن عباس: الربوة: المكان المرتفع، وهو أحسن ما يكون فيه النبات.

وقوله: {ذَاتِ قَرَارٍ} ، يقول: ذات خصب، {وَمَعِينٍ} ، يعني: ماء ظاهرًا. وقال الضحاك، وقتادة: {إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} هو: بيت المقدس. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) } . قال الضحاك: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} ، يعني: الحلال. وعن ابن جريج: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، قال: الملة، والدين. قوله عز وجل: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ ... (56) } . عن مجاهد: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً} ، قال: كتبهم فرّقوها قطعًا. وقال ابن زيد في قوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، قال: هذا ما اختلفوا فيه من الأديان والكتب، كلٌّ معجبون برأيهم، ليس أهل هوى إلاَّ وهم معجبون برأيهم وهواهم وصاحبهم الذي اخترق ذلك لهم. وعن مجاهد: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} ، قال: في ضلالهم. وقوله تعالى: {حَتَّى حِينٍ} ، قال البغوي: إلى أن يموتوا. ... {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} ، ما نعطيهم ونجعله مددًا لهم من المال والبنين في الدنيا، {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} ، أي: نعجل لهم في الخيرات ونقدّمها ثوابًا لأعمالهم لمرضاتنا عنهم، {بَل لَّا يَشْعُرُونَ} أن ذلك استدراج لهم. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) } . عن الحسن أنه كان يقول: أن المؤمن جَمَعَ إحسانًا وشفقة، وإن المنافق جَمَعَ إساءة وأمنًا ثم تلا: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} إلى: {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} . وعن عائشة أنها قالت: يا رسول الله، الذين يؤتون ما آتوا

وقلوبهم وجِلة، أهو: الرجل يزني، ويسرق، ويشرب الخمر؟ قال: «لا يا ابنة أبي بكر، ولكن الرجل يصوم ويصلّي ويتصدّق ويخاف أن لا يُقبل منه» . رواه ابن جرير وغيره. وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} ، أي: يبادرون إلى الأعمال الصالحات، {وَهُمْ لَهَا} ، أي: إليها، {سَابِقُونَ} ، قال ابن عباس: سبقت لهم من الله السعادة. قوله عز وجل: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) } . قال ابن كثير: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ} ، يعني: كتاب الأعمال، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا} ، قال مجاهد: في عمى من هذا القرآن، {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} ، قال: الخطايا.

قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ (67) } . قال ابن زيد: المترفون: العظماء. {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} ، يقول: فإذا أخذناهم بالعذاب جأروا، يقول: ضجّوا واستغاثوا مما حلّ بهم من عذابنا، {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ} ، قال الربيع: لا تجزعوا الآن حين حلّ بكم العذاب إنه لا ينفعكم، فلو كان هذا الجزع قَبْل نَفَعَكُمْ. {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} ، قال ابن عباس يقول: تُدْبِرون، {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} ، يقول: مستكبرين بحرم البيت لأنه لا يظهر علينا فيه أحد، {سَامِراً} ، يقول: يسمرون حول البيت، {تَهْجُرُونَ} ، قال: يهجرون ذكر الله والحق، وقال ابن زيد: كانوا يسمرون ليلهم ويلعبون ويتكلّمون بالشعر والكهانة، وبما لا يدرون. وعن مجاهد: {تَهْجُرُونَ} ، قال: بالقول السيِّئ في القرآن. قوله عز وجل: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) } . قال البغوي: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا} ، يعني: يتدّبروا، {الْقَوْلَ} ، يعني: ما جاءهم من القول وهو: القرآن. فيعرفوا ما فيه من الدلالات على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، {أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ} ؟ فأنكروا، يريد أنا قد بعثنا من قلبهم رسلاً إلى قومهم، كذلك بعثنا محمدًا إليهم؛ وقيل: (أم) بمعنى: (بل) .

يعني: بل جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين، فلذلك أنكروا. {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، {فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} ، قال ابن عباس: أليس قد عرفوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - صغيرًا وكبيرًا، وعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ووفائه بالعهود؟ وهذا على سبيل التوبيخ لهم على الإعراض عنه، بعدما عرفوه بالصدق والأمانة. {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} ؟ جنون، وليس كذلك {بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ} يعني: بالصدق والقول الذي لا تخفى صحته وحسنه على عاقل {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} . وقوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} ، قال مجاهد وغيره: الحق: هو الله. قال ابن كثير: والمراد: لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى، وشرع الأمور على وفق ذلك: {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} ، أي: لفساد أهوائهم واختلافها، كما أخبر عنهم في قولهم: {َوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ثم قال: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} ، وقال تعالى: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً} . وقوله تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ} قال ابن عباس: أي: بما فيه فخرهم وشرفهم. يعني: القرآن، {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} . وقوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ ... الرَّازِقِينَ} ، كقوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} .

وقوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} . قال البغوي: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ} على ما جئتَهم به {خَرْجاً} أجرًا وجُعْلاً، ... {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} يعني: ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير، {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} . قوله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) } . عن ابن عباس قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} ، يقول: عن الحق عادلون. وعن ابن جريج في قوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ} ، قال: الجوع. {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ} ، قال: الجوع، والجدب، {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} ، قال الحسن: إذا أصاب الناس من قِبَلِ الشيطان بلاء، فإنما هي نقمة فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية، ولكن استقبلوها بالاستغفار وتضرّعوا إلى الله. وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} . قال ابن كثير: أي: حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة، فأخذهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون، فعند ذلك أُبْلِسُوا من كل خير، وأيسوا من كل رحمة، وانقطعت آمالهم ورجاؤهم. * * *

الدرس الثالث والثمانون بعد المائة

الدرس الثالث والثمانون بعد المائة {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا

نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ (101) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) } . * * *

قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) } . قال البغوي: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ} ، أي: أنشأ لكم الأسماع، {وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} ، لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا، {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي: لم تشكروا هذه النعم. {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ} خلقكم، {فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تبعثون، {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، أي: تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان. قال الفرّاء: جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ما ترون من صنعه فتعتبرون؟ {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} ، أي: كذّبوا كما كذب الأوّلون، {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لمحشورون؟ قالوا ذلك على طريق الإِنكار والتعجّب. {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا} الوعد، {مِن قَبْلُ} أي: وَعَدَ آباءنا قوم زعموا أنهم رسل الله، فلم نر له حقيقة، {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أكاذيب الأولين. قوله عز وجل: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ

الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) } . قال البغوي: {قُل} يا محمد مجيبًا لهم: {لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا} من الخلق، {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} خالقها ومالكها، {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ولا بدّ لهم من ذلك، لأنهم يقرّون أنها مخلوقة، فقل لهم إذا أقرّوا بذلك، {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ؟ فتعلمون أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت؟ {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} ؟ قال ابن كثير: أي: إذا كنتم تعرفون بأنه رب السماوات ورب العرش العظيم، أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟ {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} ، قال البغوي: الملكوت الملك، والتاء فيه للمبالغة. {وَهُوَ يُجِيرُ} ، أي: يؤمّن من يشاء، {وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} ؟ ، أي: لا يؤمّن عليه. {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} . قال ابن كثير: أي سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه هو: الله تعالى وحده لا شريك له، {قُلْ فَأَنَّى

تُسْحَرُونَ} ؟ أي: فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره، مع اعترافكم وعلمكم بذلك؟ ثم قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ} ، وهو الإِعلام بأنه لا إله إلا الله، وأقمنا الأدلّة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك، {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ، أي: في عبادتهم مع الله غيره، ولا دليل لهم على ذلك. وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} ، أي: تفرّد بما خلقه فلم يرض أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره، ومنع الإِله الآخر عن الاستيلاء على ما خلق، {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، أي: طلب بعضهم مغالبة بعض، كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم؛ ثم نزّه نفسه فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . قوله عز وجل: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) } . قال البغوي: قوله تعالى: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي} ، أي: إن أريتني {مَا يُوعَدُونَ} ، أي: ما أوعدتهم من العذاب، أي: يا ربّ {فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، أي: لا تهلكني بهلاكهم، {وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ} من العذاب لهم، {لَقَادِرُونَ} . وعن مجاهد في قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} ، قال:

أعرض عن أذاهم إيّاك. قال الحسن: والله لا يصيبها صاحبها حتى يكظم غيظًا، ويصفح عما يكره. وقال ابن زيد في قوله: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} خَنْقُهُمُ الناس فذلك همزاتهم، {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} في شيء من أمري. وقال ابن عباس: همزات الشياطين: نزعاتهم. وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} ، قال قتادة: ما تمنّى أن يرجع إلى أهله وعشيرته، ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنّى أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فَرَحِمَ الله امرءًا عمل فيما يتمنّاه الكافر إذا رأى العذاب. وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . قال البغوي: {كَلَّا} كلمة ردع وزجر، أي: لا يرجع إليها {إِنَّهَا} يعني: سؤاله الرجعة، {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ولا ينالها، {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ} ، أي: أمامهم وبين أيديهم حاجز {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . وقال الضحاك: البرزخ: ما بين الموت إلى البعث. قوله عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ (101) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي

يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) } . قال ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين، ثم نادى مناد: ألا من كان له مظلمة فليجيء فليأخذ حقّه، قال: فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته، وإن كان صغيرًا، ومصداق ذلك في كتاب الله، قال الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} . رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن عباس: (إن للقيامة أحوالاً ومواطن، ففي مواطن يشتدّ عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون، وفي مواطن يفيقون إفاقة فيتساءلون) . وقوله تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} ، قال ابن عباس يقول: عابسون. وقال ابن مسعود: ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار وقد قلصت شفتاه وبدت أسنانه؟ وقوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} ، قال ابن جريج: بلغنا أن أهل النار نادوا خزنة جهنم: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ} ، فلم يجيبوهم ما شاء الله، فلما أجابوهم بعد حين قالوا: {فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} ، قال: ثم نادوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} فسكت عنهم مالك خازن جهنم أربعين سنة، ثم أجابهم فقال: {إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} ، ثم نادى الأشقياء ربهم فقالوا: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} ، فسكت عنهم مثل مقدار الدنيا، ثم أجابهم بعد

ذلك تبارك وتعالى: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} . وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} . قوله عز وجل: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا

لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) } . قال البغوي: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} ، أي: في الدنيا، وفي القبور، {عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ، نسوا مدة لبثهم في الدنيا لِعِظَمِ ما هم بصدده من العذاب، {فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ} الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم، {قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ} ، أي: ما لبثتم في الدنيا {إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} أي: لعبًا وباطًلا لا لحكمة، {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} ، في الآخرة للجزاء؟ كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} ؟ {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} . قال ابن كثير: أي تقدّس أن يخلق شيئًا عبثًا فإنه الملك الحقّ المنزه عن ذلك، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فذكر العرش لأنه سقف جميع المخلوقات، ووصفه بأنه كريم. أي: حسن المنظر بهيّ الشكل. قوله عز وجل: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) } . قال البغوي: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} ، أي: لا حجّة له به ولا بينة، لأنه لا حجّة في دعوى الشرك، {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ} جزاؤه {عِندَ رَبِّهِ} يجازيه بعمله، كما قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} ، {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} لا يسعد من جحد وكذب، ... {وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} . * * *

الدرس الرابع والثمانون بعد المائة

الدرس الرابع والثمانون بعد المائة [سورة النور] مدنية، وهي أربع وستون آية بسم الله الرحمن الرحيم {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ (7) عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) } . * * *

قوله عز وجل: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) } . قال ابن كثير: يقول تعالى: هذه {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} ، وفيه تنبيه على الاعتناء بها. وعن ابن عباس في قوله: {وَفَرَضْنَاهَا} ، يقول: بيّنّاها. وعن ابن جريج: {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ، قال: الحلال، والحرام، والحدود، {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} ، قال عطاء: يقام حمدًا لله ولا يعطّل، وليس بالقتل. وقال عمران: قلت لأبي مجلز: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} إلى: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إنا لنرحمهم أن يجلد الرجل حدًّا أو تقطع يده، قال: إنما ذاك أنه ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم الحدّ. وقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، قال الزهري: الطائفة الثلاثة فصاعدًا. وعن ابن عباس: أن عمر قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد أيها الناس، فإن الله تعالى بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلّوا

بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أُحْصِنَ من الرجال والنساء إذا قامت البيّنة، أو كان الحَبَلُ أو الاعتراف) . متفق عليه. وفي الصحيحين أيضًا في حديث العسيفي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله: الوليدة والغنم رَدٌّ عليك، وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» ، فغدا عليهما فاعترفت فرجمها. وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كنا نقرأ: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) . رواه النسائي وغيره. قال ابن كثير: آية الرجم كانت مكتوبة، فنسخ تلاوتها وبقي حكمها معمولاً به. والله أعلم. وقوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، قال عبد الله بن عمرو كانت امرأة يقال لها: أم مهزول وكانت تسافح، فأراد رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوّجها، فأنزل الله عز وجل: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . رواه النسائي. وفي رواية الإِمام أحمد: فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة حرّم الله عليهم الجنّة: مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والذي يقرّ في

أهله ... الخبث» . رواه أحمد. وفي رواية: «والديّوث» . قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) } . قال ابن كثير: المحصنة هي: الحرة البالغة العفيفة. وقال الشعبي في القاذف إذا تاب وعلم منه خير: أن شهادته جائزة، وإن لم يتب فهو خليع لا تجوز شهادته، وتوبتُه إكذابُه نفسَه. وقال الضحاك: إذا تاب وأصلح قبلت شهادته. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ (7) عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) } . قوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} ، أي: يدفع عنها الحدّ شهادتها. وعن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} ، قال سعد بن عبادة وهو سيّد الأنصار رضي الله عنه: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيّدكم» ؟ فقالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قطّ إلا بكرًا، وما طلّق امرأة قطّ فاجترأ رجل منا أن

يتزوّجها من شدة غيرته، فقال سعد: والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق وأنها من الله، ولكني قد تعجّبت، إني لوجدت لكاعًا قد تفخّذها رجل لم يكن لي أن أهيّجه ولا أحرّكه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته! قال: فما لبثوا إلاَّ يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلاً، فرأى بعينه وسمع بأذنيه فلم يهيّجه حتى أصبح، فغدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلاً فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به واشتدّ عليه واجتمعت الأنصار وقالوا: قد ابتُلينا بما قال سعد بن عبادة، الآن يضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هلال بن أمية ويبطل شهادته في الناس، فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجًا، وقال هلال: يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتدّ عليك مما جئت به، والله يعلم إني لصادق، فوالله إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - الوحي، وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربّد وجهه. يعني: فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} الآية، فَسُرِّيَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أبشر يا هلال، فقد جعل الله لك فرجًا ومخرجًا» . فقال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أرسلوا إليها» . فأرسلوا إليها فجاءت فتلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهما، فذكّرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشدّ من عذاب الدنيا، فقال هلال: والله يا رسول الله لقد صدقت عليهما فقالت: كذب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لاعِنُوا بينهما» فقيل لهلال: اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كان الخامسة قيل له: «يا هلال اتّق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجِبة التي توجب عليك العذاب» . فقال: والله لا يعذّبني الله

عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد في الخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين؛ ثم قيل للمرأة: «اشهدي» . فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، وقيل لها عند الخامسة: «اتّق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجِبة التي توجب عليك العذاب» . فتلكّأت ساعة وهمّت بالاعتراف ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وقضى أنه لا يُدْعَى ولدها لأب ولا يُرْمَى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحدّ، وقضى أن لا بيت عليه ولا قوت لها من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفّى عنها، وقال: إن جاءت به أصيهب أو حمش الساقين فهو: لهلال، وإن جاءت به أورق جعدًا جماليًا خدلج الساقين سابغ الأليتين، فهو: للذي رميت به، فجاءت به أورق جعدًا، خدلج الساقين، سابغ الأليتين. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» . قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميرًا على مصر، وكان يدعى لأمّه ولا يدعى لأب. رواه أحمد وغيره. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: يا رسول الله مالي؟ قال: «لا مال لك إن كنت صدقت عليها، فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها» . وقوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} قال البغوي: جواب (لولا) محذوف. يعني: لعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم

ورفع عنكم الحدّ باللعان {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة، {حَكِيمٌ} فيما فرض من الحدود. وقال ابن كثير: ثم ذكر تعالى رأفته بخلقه ولطفه بهم فيما شرع لهم من الفرج والمخرج من شدة ما يكون بهم من الضيق، فقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي: لخرجتم ولشق عليكم كثير من أموركم، {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} ، أي: على عبادة، وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلّظة، {حَكِيمٌ} فيما يشرعه ويأمر به، وفيما ينهى عنه. * * *

الدرس الخامس والثمانون بعد المائة

الدرس الخامس والثمانون بعد المائة {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12) لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ

الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12) لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) } . قال الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن أبي وقاص، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لها أهل الإِفك ما قالوا فبرّأها الله تعالى وكلهم قد حدّثني بطائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصًا، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدّثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدّق بعضًا؛ ذكروا أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه فأيهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه. قالت عائشة رضي الله عنها: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، وخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك بعد ما أنزل الحجاب، فأنا أُحْمَلُ في هودجي، وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذن بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري، فإذا عقدٌ بها من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين يرحّلونني فاحتملوا هودجي فرحّلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه. قالت: وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلن ولم يغشهنّ اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام. فلم يستنكر القوم خفّة الهودج حين رفعوه وحملوه،

وكنت جارية حديثة السنّ فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيمّمت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إليّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السلمّي ثم الذكوانيّ قد عرس من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان قد رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلّمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نمر الظهيرة، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولّى كبره عبد الله بن أبيّ ابن سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمناها شهرًا والناس يفيضون في قول أهل الإِفك ولا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي أرى منه حين أشتكي إنما يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلّم ثم يقول: «كيف تيكم» ؟ فذاك الذي يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قِبَلَ المناصع وهو متبرّزنا، ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأُوَل في التنزّه في البرّية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتّخذها في بيوتنا، وانطلقت أنا وأم مسطح وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قِبَلَ بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، تسبّين رجلاً شهد بدرًا؟ ! فقالت: أي هنتاه ألم تسمعي ما قال؟ قلت: ماذا؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإِفك، فازددت مرضًا إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلّم ثم قال: «كيف تيكم» ؟ فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبويّ؟ قالت: وأنا حينئذٍ أريد أن أتيقّن الخبر من قِبَلِهِما، فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئت

أبويّ فقلت لأمي: يا أمّتاه ماذا يتحدّث الناس به؟ فقالت: أي بنيّة هوِّني عليك فوالله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قالت: فقلت: سبحان الله، وقد تحدّث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي، قالت: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّ ابن أبي طالب، وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الودّ فقال أسامة: يا رسول الله أَهْلُك ولا نعلم إلا خيرًا. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر. قالت: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة فقال: «أيْ بريرة، هل رأيت من شيء يريبك من عائشة» ؟ فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمرًا قد أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبيّ بن سلول. قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي» . فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة وهو: سيد الخزرج وكان رجلاً صالحًا ولكن احتملته الحميّة فقال لسعد بن معاذ: كذبت، لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يُقتل؛ فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفّضهم حتى سكتوا. وسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: وبكيت يومي

ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنّان أن البكاء فالِقٌ كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل وقد لبث شهرًا لا يوحى إليه في شأني شيء قالت: فتشهّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس ثم قال: «أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرّئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه» . قالت: فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته، قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عنّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن: والله لقد علمتُ، لقد سمعتم بهذا الحديث حتى استقرّ في أنفسكم وصدّقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدّقوني، ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدّقُنّي، فوالله ما أجد لي ولكم مَثَلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ، قالت: ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشي. قالت: وأنا والله أعلم حينئذٍ أني بريئة، وأن الله تعالى مبرّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحيٌ يُتلى ولَشَأني كان أحقر في نفسي من أن يُتكلّم فيّ بأمر يُتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرّئني الله بها، قالت: فوالله ما رام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل الله تعالى على نبيّه - صلى الله عليه وسلم - فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى أنه ليتحدّر منه مثل الجُمان من العرق، وهو في يوم شاتٍ من ثِقَلِ القول الذي أنزل عليه، قالت: فسُرِّي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلّم بها أن قال: «أبشري يا عائشة، أما الله عزّ وجل فقد برّأك» . قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عزّ وجل، هو الذي أنزل براءتي،

وأنزل الله عزّ وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره -: والله لا أنفق عليه شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} إلى قوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا. قالت عائشة: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل زينب بنت جحش زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمري، فقال: «يا زينب ماذا علمت أو رأيت» ؟ فقالت: يا رسول الله احمني سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرًا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فعصمها الله تعالى بالورع وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها، فهلكت فيمن هلك. متفق عليه. وعند أهل السنن قالت: (لما نزل عذري قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضُربوا حدّهم) . وعند أبي داود: (حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش) . وقوله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، أي: النار في الآخرة. قال ابن عباس: (الذين افتروا على عائشة عبد الله بن أبيّ وهو الذي تولّى كبره، وحسان، ومسطح، وحمنة بنت جحش) . وقال ابن زيد: أما الذي تولى كبره فعبد الله بن أبيّ ابن سلول الخبيث، هو الذي ابتدأ هذا الكلام وقال: امرأة نبيكم

باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها. وعن محمد بن إسحاق عن أبيه عن بعض رجال لبني النجار: أن أبا أيوب خالد بن زيد قالت له امرأته أم أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك. قال: فلما أنزل الله القرآن ذكر الله من قال الفاحشة ما قال من أهل الإفك: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} وذلك من حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا، ثم قال: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} كما قال أبو أيوب وصاحبته) . رواه ابن جرير. وقوله تعالى: {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} ، قال ابن كثير: ... {لَوْلَا} ، أي: هلاّ، {جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} ، يشهدون على صحة ما جاءوا به {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي: في حكم الله كاذبون فاجرون. قوله عز وجل: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) } . قال ابن زيد في قوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} هذا للذين تكلّموا فتشهروا ذلك الكلام {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . وعن مجاهد: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} ، قال: تروونه بعضكم عن بعض. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ

عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) } . عن ابن عباس قوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} ، يقول: ما اهتدى منكم من الخلائق لشيء من الخير ينفع به نفسه، ولم يتق شيئًا من الشر يدفعه عن نفسه. قال ابن زيد: كل شيء في القرآن من زكى أو تزكى فهو الإسلام؛ وقال مقاتل: {مَا زَكَى} ما صلح؛ وقال ابن قتيبة: ما طهر. قال البغوي: والآية على العموم عند بعض المفسرين. قالوا: أخبر الله أنه لولا فضله ورحمته بالعصمة ما صلح مسلم. قوله عز وجل: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (22) } . عن ابن عباس قوله: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى آخر الآية. قال: كان ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رموا عائشة بالقبيح وأفشوا ذلك وتكلّموا به، فأقسم ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم أبو بكر أن لا يتصدّق على رجل تكلّم بشيء من هذا ولا يصله، فقال: لا يقسم أولوا الفضل منكم والسعة أن يصلوا أرحامهم وأن يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون قبل ذلك، فأمر الله أن يغفر لهم، وأن يعفو عنهم.

قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) } . قال ابن جرير في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} يقول تعالى ذكره: إن الذين يرمون بالفاحشة {الْمُحْصَنَاتِ} يعني: العفيفات {الْغَافِلَاتِ} عن الفواحش، {الْمُؤْمِنَاتِ} بالله ورسوله وما جاء به من عند الله، {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} ، يقول: أُبعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وذلك عذاب جهنم. وعن جعفر بن برقان قال: سألت ميمونًا قلت: الذي ذكر الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فجعله في هذه الآية توبة، وقال في الأخرى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، قال ميمون: أما الأولى فعسى أن تكون قد قارفت، وأما هذه فهي التي لم تقارف شيئًا من ذلك. وقال ابن زيد: هذا في عائشة، ومن صنع اليوم في المسلمات فله ما قال الله. وقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، قال قتادة: ابن آدم، والله إن عليك لشهودًا غير متهمة من بدنك، فراقبهم واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية. الظلمة عنده ضوء، والسرّ عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حَسَنُ الظنّ فليفعل، ولا قوة إلاَّ بالله.

وعن ابن عباس في قوله: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} ، يقول: حسابهم. وقال البغوي: جزاؤهم الواجب، وقيل: حسابهم العدل، {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} يبين لهم حقيقة ما كان بَعدهم في الدنيا. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: وذلك أن عبد الله بن أبيّ كان يشكّ في الدين، فيعلم يوم القيامة أن الله هو الحق المبين. وعن ابن عباس قوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} ، يقول: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول. وقوله: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} ، يقول: الطَّيِّبَاتُ من القول لِلطَّيِّبِينَ من الرجال، والطيّبون من الرجال للطيّبات من القول: نزلت في الذين قالوا في زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قالوا من البهتان) . وقال ابن زيد: نزلت في عائشة حين رماها المنافق بالبهتان والفرية، فبرأها الله من ذلك؛ وكان عبد الله بن أبيّ هو خبيثًا، وكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة ويكون لها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طيبًا، وكان أولى أن تكون له الطيّبة، وكانت عائشة الطيّبة، وكان أولى أن يكون لها الطيّب {أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} قال ها هنا: بُرّئت عائشة {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} . * * *

الدرس السادس والثمانون بعد المائة

الدرس السادس والثمانون بعد المائة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا

تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (34) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) } . عن ابن عباس قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} ، قال: الاستئناس: الاستئذان. وعن قتادة: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} . وعن أبي موسى قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فلينصرف» . رواه البخاري. وعن جابر قال: (أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في دّيْنٍ كان على أبي، فدققت الباب فقال: «من ذا» ؟ فقلت: أنا، قال: «أنا، أنا! كأنه كرهه» . رواه الجماعة. قال ابن كثير: وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يُعرف صاحبها حتى يفصح باسمه. وعن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها، لا والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل علّي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، قال: فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً} الآية. رواه ابن جرير. وقال ابن مسعود: وعليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم، وأخواتكم. وعن زينب امرأة ابن مسعود قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجته فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق، كراهية أن يهجم منا على أمر يكرهه. وقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} ، قال مجاهد: هي: البيوت التي ينزلها السفر لا يسكنها أحد. قال ابن جرير: إن الله عمّ بقوله: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} كل بيت لا ساكن به لنا فيه متاع، ندخله بغير إذن. قوله عز وجل: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) } . قال ابن عباس: {يَغُضُّوا أَبْصَارِهِمْ} عما يكره الله. وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري. رواه مسلم. وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا علي لا تُتْبعِ النظرة بالنظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة» . رواه أبو داود وغيره. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يكفل لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة» . رواه البخاري. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:

«لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» . رواه البغوي. وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} في بعض الآثار: (إن النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، يقول الله تعالى: من تركها مخافتي أبدلته إيمانًا حلاوته في قلبه) . قوله عز وجل: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) } . عن ابن مسعود: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، قال: الثياب. وقال ابن عباس: الكحل، والخاتم. وقال عطاء: الكفّان والوجه. وقال الحسن: الوجه، والثياب. قال البغوي: فما كان من الزينة الظاهرة جاز للرجل الأجنبي النظر إليه إذا لم يخف فتنة. وعن عائشة قالت: لما نزلت هذه الآية: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ

عَلَى جُيُوبِهِنَّ} ، شققن البرد مما يلي الحواشي فاختمرن به. رواه ابن جرير وغيره وقال سعيد بن جبير: ... {وَلْيَضْرِبْنَ} وليشددن، {بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} ، يعني: على النحر والصدر فلا يرى منه شيء. وعن ابن عباس: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى قوله: {عَوْرَاتِ النِّسَاء} ، قال: الزينة التي يبدينها لهؤلاء: قرطاها، وقلادتها، وسوارها، فأما خلخالها، ومعضداها، ونحراها، وشعرها فإنه لا تبديه إلاَّ لزوجها. وقال قتادة: تبدي لهؤلاء الرأس. قال بعض السلف: لم يذكر العم والخال وهما من محارمهن لئلاّ يصفوهن لبنيهم. وقال الحسن البصري: إنهما كسائر المحارم في جواز النظر، وقد يُذكر البعض لينبّه على الجملة. وهذا أظهر. وعن ابن عباس: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} ، قال: هنّ المسلمات، لا تبديه ليهودية ولا نصرانية، وهو: النحر، والقرط، والوشاح، وما لا يحلّ أن يراه إلاَّ محرم. وعن ابن جريج قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} ، قال: بلغني أن نساء المسلمين لا يحل لمسلمة أن ترى مشركة عريتها إلاَّ أن تكون أمة لها، فذلك قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} . قال ابن كثير: وقال الأكثرون: بل يجوز أن تظهر زينتها على رقيقها من الرجال والنساء واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، قال: وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطّت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما تلقى قال: «إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك» . وقال البغوي: قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} ، اختلفوا فيها فقال قوم: عبد المرأة محرم لها فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفًا، وينظر إلى بدن مولاته إلاَّ ما بين السرة والركبة كالمحارم، وهو ظاهر القرآن. وعن ابن عباس قوله: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} ، قال: كان

الرجل يتبع الرجل في الزمان الأول ولا يغار عليه، ولا ترهب المرأة أن تضع خمارها عنده، وهو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء. وقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء} ، قال مجاهد: لم يدروا ما تم من الصغر قبل الحلم. وقوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} ، قال ابن عباس: هو أن تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال ويكون في رجليها خلاخل فتحركهن عند الرجال، فنهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك، لأنه من عمل الشيطان. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، أي: افعلوا ما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة، فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهيا عنه. والله تعالى هو المستعان. قوله عز وجل: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (34) } . قال ابن زيد في قوله: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ} ، قال: أيامى النساء اللاتي ليس لهن أزواج. وعن ابن عباس قوله: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ

عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} قال: أمر الله سبحانه بالنكاح ورغّبهم فيه وأمرهم أن يزوّجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى فقال: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} . قال ابن كثير وقوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجًا بالتعفّف عن الحرام. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} ، قال البغوي: سبب نزول هذه الآية ما روي أن غلامًا لحويطب بن عبد العزّى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه، فأنزل الله هذه الآية. فكاتبه حويطب على مائة دينار، ووهب له منها عشرين دينارًا. وعن ابن عباس قوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} ، يقول: إن علمتم لهم حيلة ولا تلقون مئونتهم على المسلمين. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة حقّ على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله» . رواه البغوي. وقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . قال ابن كثير: كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت، فلما جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك، وكان سبب نزول

هذه الآية الكريمة فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف، في شأن عبد الله بن أبيّ بن سلول، فإنه كان له إماء فكان يكرههن على البغاء طلبًا لخراجهنّ ورغبة في أولادهنّ ورياسة منه فيما يزعم. قال: وقوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. وقوله تعالى: {وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: لهنّ قال ابن عباس: فإن فعلتم {فَإِنَّ اللَّهَ} لهن {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وإثمهن على من أكرههنّ. قال ابن كثير: ولما فصّل تبارك وتعالى هذه الأحكام وبيّنها، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} يعني: القرآن فيه آيات واضحات مفسّرات، {وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ} أي: خبرًا عن الأمم الماضية وما حل بهم في مخالفتهم أوامر الله تعالى، كما قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} ، أي: زاجرًا عن ارتكاب المآثم والمحارم، {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} ، أي: لمن اتقى الله وخافه. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة القرآن: (فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله) . * * *

الدرس السابع والثمانون بعد المائة

الدرس السابع والثمانون بعد المائة {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) } . * * *

قوله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) } . عن ابن عباس قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، يقول: الله سبحانه هادي أهل السماوات والأرض، {مَثَلُ نُورِهِ} مثل هداه في قلب المؤمن، {كَمِشْكَاةٍ} ، قال: المشكاة كوّة البيت، {فِيهَا مِصْبَاحٌ} ، قال السدي: هو السراج، وقال أبيّ بن كعب: المصباح: النور. وهو: القرآن، والإيمان الذي في صدره، {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} وهي نظير قلب المؤمن، {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} مضيء، {يُوقَدُ مِن

شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} ، قال ابن عباس: هي شجرة وسط الشجر ليست من الشرق ولا من الغرب. وقال عكرمة لا يسترها من الشمس جبل ولا واد إذا طلعت وإذا غربت. وقال مجاهد: إذا طلعت الشمس أصابتها، وإذا غربت أصابتها. {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} ، قال البغوي: {يَكَادُ زَيْتُهَا} دهنها {يُضِيءُ} من صفائه، {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} ، أي: قبل أن تصيبه النار. {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} ، يعني: نور المصباح على نور الزجاجة. قال أبيّ بن كعب: هذا مثل المؤمن، فالمشكاة نفسه، والزجاجة صدره، والمصباح ما جعل الله في قلبه من الإيمان والقرآن، {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} وهي: الإخلاص لله وحده. وقال السدي في قوله تعالى: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} قال: نور النار، ونور الزيت، حين اجتمعا أضاءا ولا يضيء واحد بغير صاحبه كذلك نور القرآن، ونور الإيمان حين اجتمعا، فلا يكون واحد منهما إلاَّ بصاحبه. {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . قال ابن كثير: أي: هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفّح. فأما القلب الأجرد: فقلب المؤمن سراجه فيه نور. وأما القلب الأغلف: فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس: فقلب المنافق عَرَفَ ثم أنكر، وأما القلب المصفّح: فقلب فيه كمثل القرحة يمدّها الدم والقيح، فأي المَدَّتين غلبت على الأخرى غلبت عليه» . رواه أحمد.

قوله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) } . عن مجاهد في قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} ، قال: مساجد تبنى. وقال ابن عباس في قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} وهي: المساجد، كره ونهى عن اللغو فيها، ثم قال: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ، يقول: يُتلى فيها كتابه. وعن الحسن في هذه الآية: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} ، قال: هم قوم في تجارتهم وبيوعهم لا تلهيهم تجاراتهم ولا بيوعهم عن ذكر الله. وقوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . روى النسائي عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، جاء مناد فنادى بصوت يُسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون وهم قليل، ثم يحاسَب سائر الخلائق» . قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40) } . قال ابن كثير: هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار، كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين ناريًا ومائيًا، كما ضرب لما يقرّ في القلوب من الهدى والعلم في سورة الرعد مثلين مائيًا وناريًا؛ فأما الأول من هذين المثلين فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم، الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات، وليسوا في نفس الأمر على شيء، وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركّب، فأما أصحاب الجهل البسيط وهم الطماطم الأغشام المقلَّدون لأئمة الكفر، الصم البكم الذين لا يعقلون فمثلهم كما قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} . انتهى ملخصًا. وقال أبيّ بن كعب: ثم ضرب الله مثلاً آخر فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} ، قال: وكذلك الكافر يجيء يوم القيامة وهو يحسب أن له عند الله خيرًا، فلا يجد فيدخله النار. وعن ابن عباس قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن

فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} إلى قوله: {مِن نُّورٍ} ، قال: يعني بالظلمات: الأعمال. وبالبحر اللجّي: قلب الإنسان. قال: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} ، قال: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ، يعني بذلك: الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر، وهو كقوله تعالى: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} . وعن أبي بن كعب في قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} الآية، قال: ضرب مثلاً آخر للكافر، فهو يتقلّب في خمس من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار.

وقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} ، كقوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) } . قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه: {يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: من الملائكة، والأناسي، والجانّ، والحيوان حتى الجماد، كما قال تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} . وقوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} ، أي: في حال طيرانها تسبّح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه، وهو يعلم ما هي فاعلة، ولهذا قال تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} ، أي: كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عز وجل؛ ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولهذا قال: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} . ثم أخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض فهو الحاكم المتصرف، الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلاَّ له ولا معقّب لحكمه {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي: يوم القيامة. فيحكم فيه بما شاء ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، فهو الخالق المالك الإله الحكم في الدنيا والآخرة، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون. * * *

الدرس الثامن والثمانون بعد المائة

الدرس الثامن والثمانون بعد المائة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ

الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) } . * * *

قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ (44) } . قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه يسوق السحاب بقدرته أول ما ينشئها وهي ضعيفة وهو الإزجاء، {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} ، أي: يجمعه بعد تفرقه، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} ، أي: متراكمًا يركب بعضه بعضًا، {فَتَرَى الْوَدْقَ} ، أي: المطر، {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} ، أي: من خلله. قال عبيد بن عمير الليثي: يبعث الله المثيرة فتقمّ الأرض قمًّا، ثم يبعث الله الناشئة فتنشئ السحاب. ثم يبعث الله المؤلّف بينه، ثم يبعث الله اللواقح فتلقّح السحاب. وقال ابن زيد في قوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} ، قال: الودق القطر. وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ} ، قال ابن عباس: أخبر الله تعالى أن في السماء جبالاً من بَرَدٍ {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} ، قال: ضوء برقه يذهب بالأبصار. وقوله تعالى {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ} كقوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار» . رواه البغوي وغيره.

قوله عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46) } . قال ابن كثير: يذكّر تعالى قدرته التامة، وسلطانه العظيم، في خلقه أنواع المخلوقات، على اختلاف أشكالها وألوانها، وحركاتها وسكناتها، من ماء واحد، فمنهم من يمشي على بطنه: كالحية وما شاكلها، ومنهم من يمشي على رجلين: كالإنسان، والطير، ومنهم من يمشي على أربع: كالأنعام وسائر الحيوانات، ولهذا قال: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . قال البغوي: ولم يذكر من يمشي على أكثر من أربع، مثل حشرات الأرض لأنها في الصورة كالتي على الأربع، وقيل: إن في قوله تعالى: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} تنبيهًا على سائر الأقسام. وقوله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} ، أي: واضحات تدلّ على طريق الحق {وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . قوله عز وجل: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا

وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) } . قال ابن كثير: يخبر تعالى عن صفات المنافقين، الذين يُظهرون خلاف ما يبطنون، يقولون قولاً بألسنتهم: آمنا بالله وبالرسول وأطعنا، {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} ، أي: يخالفون أقوالهم بأعمالهم، فيقولون ما لا يفعلون، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} . وقوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ} ، أي: إذا طُلبوا إلى اتباع الهدى فيما أنزل الله على رسوله، أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} . وفي الطبراني عن سمرة مرفوعًا: «من دُعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حق له» . وقوله تعالى: {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} ، أي: وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم جاءوا سامعين مطيعين، وإذا كانت عليهم أعرضوا، ولهذا قال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . قال قتادة: ذكر لنا أن عبادة بن الصامت وكان عقبيًا بدريًا أحد نقباء الأنصار، أنه لما حضره الموت قال

لابن أخيه جنادة بن أبي أمية: ألا أنبئك بماذا عليك وبماذا لك؟ قال: بلى قال: فإن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك، وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وأن لا تنازع الأمر أهله، إلاَّ أن يأمروك بمعصية الله بواحًا، فما أُمرت به من شيء يخالف كتاب الله فاتبع كتاب الله» . وقوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} . قال قتادة: يطيع الله ورسوله فيما أمراه به، ويترك ما نهياه عنه ويخشى الله فيما مضي من ذنوبه، ويَتَّقْهِ فيما يستقبل. قوله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) } . قال البغوي قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} جَهْدَ اليمين أن يحلف بالله، ولا حلف فوق الحلف بالله {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أينما كنت نكن معك، لئن خرجت خرجنا، وإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فقال تعالى: {قُلْ} لهم: {لَّا تُقْسِمُوا} ، لا تحلفوا، وقد تمّ الكلام؛ ثم قال: {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} يعني: هذه طاعة بالقول وباللسان دون الاعتقاد، وهي معروفة: يعني: أمرٌ عرف منكم أنكم تكذبون، وتقولون ما لا تفعلون، هذا معنى قول مجاهد. {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا} ، يعني: تولّوا عن طاعة الله ورسوله،

{فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} ، يعني: على الرسول ما كُلَّف وأمر به من تبليغ الرسالة، {وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ} من الإجابة والطاعة، {وَإِن تُطِيعُوهُ} تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين. قوله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) } . عن أبي العالية قوله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية. قال: مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين خائفًا يدعو إلى الله سرًا وعلانية، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة، فمكث بها هو وأصحابه خائفين يصبحون في السلاح ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصبرون إلاَّ يسيرًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا ليس فيه حديدة» ، فأنزل الله هذه الآية: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ} إلى قوله: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} ، قال: يقول: من كفر بهذه النعمة، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وليس يعني الكفر بالله؛ قال: فأظهره الله على جزيرة العرب فآمنوا ثم تجبّروا فغيّر الله ما بهم، وكفروا بهذه النعمة فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفعه عنهم. قال ابن كثير: فالصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بعد

النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوامر الله عز وجل وأطوعهم لله، كان نصرهم بحسبهم، أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب، وأيّدهم تأييدًا عظيماً، وحكموا في سائر البلاد والعباد، ولما قصّر الناس بعدهم في بعض الأوامر، نقص ظهورهم بحسبهم، ولكن قد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة» . وفي رواية: «حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» . * * *

الدرس التاسع والثمانون بعد المائة ... ... {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى

يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) } . عن ابن عباس في قوله: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، يقول: إذا خلا الرجل بأهله بعد صلاة العشاء فلا يدخل عليه خادم ولا صبي إلاَّ بإذن حتى يصلي الغداة، فإذا خلا بأهله عند صلاة الظهر فمثل ذلك. وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} ، أي: بعد هذه الأحوال الثلاث، {طَوَّافُونَ} . قال في جامع البيان: أي هم: طوّافون، {عَلَيْكُم} استئناف يبين العذر في ترك الاستئذان، {بَعْضُكُمْ} طائف، {عَلَى بَعْضٍ} أو تقديره: يطوف بعضكم على بعض، أو فيكثرون التردّد لحوائجكم، فيفتقر فيهم ما لا يفتقر في غيرهم {كَذَلِكَ} ، مَثَلُ ذلك التبيين {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأحوالكم، {حَكِيمٌ} فيما أمركم. وقال البغوي: قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ} ، أي: الاحتلام، يريد الأحرار البالغين، {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} ، أي: يستأذنون في جميع الأوقات في الدخول عليكم، {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأحرار والكبار، {كَذَلِكَ

يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} ، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأمور خلقه، {حَكِيمٌ} فيما دبرّ لهم، قال: وسئل حذيفة: أيستأذن الرجل على والدته؟ قال: نعم، إن لم يفعل رأى منها ما يكره. قوله عز وجل: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) } . قال البغوي: قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ} ، يعني: اللَّاتِي قعدن عن الولد والحيض من الكِبَر، {اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً} ، أي: لا يردن الرجال لكِبَرِهنّ، {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} عند الرجال. يعني: يَضَعْنَ بعض ثِيَابَهُنَّ وهي الجلباب والرداء الذي فوق الثياب والقناع الذي فوق الخمار. والتبرّج هو: أن تظهر المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تستره. وعن الشعبي: {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} ، قال: تَرْكُ ذلك، يعني: ترك وضع الثياب. قوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون (61) } .

قال مجاهد: كان الرجل يذهب بالأعمى أو بالأعرج أو بالمريض إلى بيت أبيه أو أخيه، أو بعض من سمى الله في هذه الآية، فكان الزمنى يتحرّجون من ذلك يقولون: إنما يذهبون بنا إلى بيوت عشيرتهم، فنزلت هذه الآية رخصة لهم. قال ابن كثير: وقوله تعالى {وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ} إنما ذكر هذا وهو معلوم، ليعطف عليه غيره في اللفظ، وليساوي به ما بعد في الحكم، وتضمّن هذا بيوت الأبناء لأنه لم ينصّ عليه، ولهذا استدلّ به من ذهب إلى أن مال الولد بمنزلة مال أبيه، وقد جاء في المسند والسنن من غير وجه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أنت ومالك لأبيك» . وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} ، قال ابن عباس: (كانوا يأنفون ويتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره، فرخّص الله لهم فقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} . قال ابن كثير: فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده ومع الجماعة، وإن كان الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل. كما رواه الإمام أحمد: أن رجلاً قال

للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا نأكل ولا نشبع! قال: «لعلكم تأكلون متفرّقين، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه» . وقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} . قال قتادة: إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه كان يؤمر بذلك، وحدثنا أن الملائكة تردّ عليه. قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (62) } . قال ابن زيد: الأمر الجامع حين يكونوا معه في جماعة الحرب أو جمعة، قال: والجمعة من الأمر الجامع، لا ينبغي لأحد أن يخرج إذا قعد الإمام على المنبر يوم الجمعة، إلاَّ بإذن سلطان، إذا كان حيث يراه أو يقدر عليه، ولا يخرج إلاَّ بإذن، وإذا كان حيث لا يراه ولا يقدر عليه ولا يصل إليه، فالله أولى بالعذر. وروى أبو داود وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلّم، فإذا أراد أن يقوم فليسلّم فليست الأولى بأحق من الآخرة» .

قوله عز وجل: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } . قال ابن عباس: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عن ذلك إعظامًا لنبيّه، قال: فقولوا: يا نبيّ الله، يا رسول الله. وقال قتادة في قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} ، يعني: لِوَاذاً عن نبي الله وعن كتابه. وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} ، قال ابن كثير: أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، أي: في الدنيا بقتل، أو حدّ، أو حبس، أو نحو ذلك. قوله عز وجل: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) } . قال ابن كثير: (قد) للتحقيق كما قال قبلها: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} . قال ابن جرير: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} ، يقول: ويوم يرجع إلى الله الذين يخالفون عن أمره، {فَيُنَبِّئُهُم} ، يقول: فيخبرهم حينئذٍ {بِمَا عَمِلُوا} في الدنيا ثم يجازيهم على ما أسلفوا فيها من خلافهم {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . * * *

الدرس التسعون بعد المائة

الدرس التسعون بعد المائة [سورة الفرقان] مكية، وهي سبع وسبعون آية بسم الله الرحمن الرحيم {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُوراً (8) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ

قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلَا نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذَلِكَ

جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) } . * * *

قوله عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً (3) } . قال ابن زيد في قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ، قال: النبي: النذير، وقرأ: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ} وقرأ: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} . قال: رسل. قال: المنذرون: الرسل، قال: وكان نذيرًا واحدً بلغ ما بين المشرق والمغرب، ذو القرنين، ثم بلغ السدّين، وكان نذيرًا ولم أسمع أحدًا بحق أنه كان نبيًا. {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} ، قال: من بلغه القرآن من الخلق فرسول الله نذيره وقرأ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} ، وقال: لم يرسل الله رسولاً إلى الناس عامة إلاَّ نوحًا بدأ به، فكان رسول أهل الأرض كلهم، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ختم به. قال البغوي: {تَبَارَكَ} تفاعل، من البركة، {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} ، أي: القرآن، {عَلَى عَبْدِهِ} محمد - صلى الله عليه وسلم -، {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ، أي: الجنّ، والإنس. {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ

شَيْءٍ} ، مما يطلق عليه صفة المخلوق. {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} فسوّاه وهيّأه لما يصلح له، لا خلال فيه ولا تفاوت، {وَاتَّخَذُوا} ، يعني: عبدة الأوثان، {مِن دُونِهِ آلِهَةً} ، يعني: الأصنام، {لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً} ، أي: دفع ضرّ ولا جلب نفع، {وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً} ، أي: إماتة وإحياء، {وَلَا نُشُوراً} ، أي: بعثًا بعد الموت. قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (6) } . عن ابن جريج: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، قال: ما يُسرُّ أهل الأرض وأهل السماء. قوله عز وجل: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُوراً (8) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً (10) } . قال البغوي: {انظُرْ} يا محمد: {كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} ، يعني: الأشباه. فقالوا: مسحور محتاج وغيره، {فَضَلُّوا} عن الحق، {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} إلى الهدى ومخرجًا عن الضلالة. وعن مجاهد قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ

خَيْراً} مما قالوا: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} ، قال: بيوتًا مبنيّة مشيّدة. وروى البغوي وغيره عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا فقلت: لا يا رب، ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» . قوله عز وجل: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً (16) } . قال الضحاك: الثُبور: الهلاك. وعن ابن عباس في قوله: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} ، قال: فسألوا الذي وعدهم وتنجزوه. قال البغوي: وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم في الدنيا حين قالوا: ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، يقول: كان أعطى الله المؤمنين جنة الخلد وعدًا وعدهم على طاعتهم إياه في الدنيا ومسألتهم إياه. قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا

الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلَا نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً (19) } . عن مجاهد في قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء} ؟ قال: عيسى، وعزير، والملائكة. وعن ابن عباس قوله: {وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} ، يقول: هلكى. وقال الحسن: لا خير فيهم. وعن مجاهد: {فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ} ، قال: عيسى، وعزير، والملائكة يكذّبون المشركين {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلَا نَصْراً} ، قال: المشركون. قال ابن جريج: لا يستطيعون صرف العذاب عنهم، ولا نصر أنفسهم، {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ} ، قال: يشرك {نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} ، وهذه الآية كقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} . قوله عز وجل: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) } .

قال ابن عباس: لما عيّر المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ أنزل الله عز وجل هذه الآية، أي: ما كنت بدعًا من الرسل، وهم كانوا بشرًا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} ، قال ابن عباس: أي: جعلت بعضكم بلاء لبعض، لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم وتتبعوا الهدى. قال ابن كثير: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} ، أي: بمن يستحقّ أن يوحى إليه، كما قال تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} أي: فتخبرنا أن محمدًا صادق، {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} فيخبرنا بذلك {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} عند الموت ويوم القيامة، {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} . قال ابن كثير: أي: وتقول الملائكة للكافرين: حرام محرّم عليكم الفلاح اليوم. وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} ، أي: باطلاً لا ثواب له، كما قال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} . وعن ابن عباس قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} ، يقول: قالوا في الغرف في الجنة، وكان حسابهم أن عُرضوا على ربهم عرضة واحدة، وذلك الحساب اليسير، وهو مثل قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} .

قوله عز وجل: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً (29) } . قال ابن عباس: تَشَقَّقُ السَّمَاء الدنيا فيننزل أهلها، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تشقّق السماء الثانية فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في السماء الدنيا ومن الجنّ والإنس، ثم كذلك حتى تَشَقَّقُ السَّمَاء السابعة، وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها، ثم ينزل الكروبيّون، ثم حملة العرش. وعن مجاهد قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ} ، قال: هو الذي قال: {فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} الذي يأتي الله فيه يوم القيامة. وعن ابن عباس قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} إلى قوله: ... {فُلَاناً خَلِيلاً} قال: هو أبيّ بن خلف كان يحضر النبي - صلى الله عليه وسلم - فزجره عقبة بن أبي ميعط. قال ابن كثير: وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي ميعط أو غيره من الأشقياء، فإنها عامة في كل ظالم، كما قال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} . قوله عز وجل: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ

تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) } . قال ابن زيد في قول الله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} ، لا يرون أن يسمعوه، وإن دُعوا إلى الله قالوا: لا، وقرأ: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} ، قال: ينهون عنه ويَبْعُدون عنه. وقال ابن عباس: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} ، قال: يوطّن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أنه جاعل له عدوًا من المجرمين كما جعل لمن قبله. وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} ، قال ابن عباس: كان الله ينزل عليه الآية، فإذا علمها نبي الله نزلت عليه آية أخرى، ليعلّمه الكتاب عن ظهر قلب ويثبّت به فؤاده. وعن الحسن في قوله: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} ، قال: كان ينزل آية في آيتين وآيات، جوابًا لهم إذا سألوا عن شيء، أنزله الله جوابًا لهم وردًا عن الشيء فيما يتكلّمون به، وكان بين أوله وآخره نحو من عشرين سنة. وعن ابن جريج: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} ، قال: الكتاب بما تردّ به ما جاءوا به من الأمثال التي جاءوا بها {وَأَحْسَنَ ... تَفْسِيراً} قال ابن عباس: يقول أحسن تفصيلاً. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} في الصحيح عن أنس أن رجلاً قال: يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: «إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» .

الدرس الحادي والتسعون بعد المائة

الدرس الحادي والتسعون بعد المائة {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً (37) وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلَا تُطِعِ

الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً (60) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً (37) وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) } . عن ابن عباس قوله: {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} ، قال: بئر كانت تسمى الرّس. وقال قتادة: الرّس: قرية من اليمامة يقال لها: الفلج، {وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} ، قال: كل قد أعذر الله إليه ثم انتقم منه، {وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} ، قال البغوي: يعني: أهلكنا إهلاكًا. قوله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) } . عن ابن جريج قوله: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا} قال:

ثبتنا عليها، قال البغوي: يعني: لو لم نصبر عليها لصرفنا عنها. انتهى. وهذه الآية كقوله تعالى: {وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} . وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} قال ابن عباس: أرأيت من ترك عبادة الله وخالفه، ثم هوى حجرًا فعبده ما حاله عنده؟ وقال ابن كثير: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ، أي: مهما استحسن من شيء ورآه حسنًا في هوى نفسه، كان دينه ومذهبه، كما قال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} . قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً (47) } . عن ابن عباس قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} ، يقول: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، {وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً} ، يقول: دائمًا، {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} ، يقول: طلوع الشمس. وقال مجاهد: تحويه، {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} ، قال: حوى الشمس الظلّ. وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} ، أي: سترًا تستترون به، {وَالنَّوْمَ سُبَاتاً} راحة لأبدانكم، {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} تنتشرون فيه لأشغالكم.

قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (50) } . قال ابن عباس: ما عام بأكثر مطر من عام، ولكن الله يصرفه بين خلقه ثم قرأ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} . وعن عكرمة: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} ، قال: قولهم في الأنواء. قوله عز وجل: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) } . قال ابن عباس قوله: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ} ، قال: بالقرآن. وعن مجاهد في قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أفاض أحدهما على الآخر، {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً} ، قال: لا يختلط البحر بالعذب. وعن الحسن في قوله: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً} ، قال: هذا اليبس. وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء} ، أي: النطف، {بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً} وهو القرابة، {وَصِهْراً} وهو الخلطة التي تشبه القرابة، {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} . وعن الحسن في قوله {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} قال: عونًا للشيطان على ربه

على المعاصي. وقال ابن زيد: والظهير: العوين، وقرأ قول الله: {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ} . قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً (60) } . قال البغوي: قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} ، أي: على تبليغ الوحي، {مِنْ أَجْرٍ} فتقولوا: إنما يطلب محمد أموالنا، {إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} هذا من الاستثناء المنقطع والمعنى: لا أسألكم لنفسي أجرًا، ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله واتخاذ السبيل إلى جنته. وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} ، عالمًا بصغيرها وكبيرها، {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ، قال مجاهد في قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ، ما أخبرتك من شيء فهو كما أخبرتك. وقال ابن جرير: يقول: فاسأل يا محمد بالرحمن خبيرًا بخلقه، فإنه خالق كل شيء ولا يخفى عليه ما خلق.

وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} ، أي: لا نعرفه ولا نُقِّرُ به، وكانوا ينكرون أن يسمّى الله باسمه الرحمن. ... {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} أي: لمجرد قولك؟ {وَزَادَهُمْ} ذلك {نُفُوراً} عن الدين والإيمان. قال ابن كثير: فأما المؤمنين فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم، ويفردونه بالإِلهية ويسجدون له. * * *

الدرس الثاني والتسعون بعد المائة

الدرس الثاني والتسعون بعد المائة {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً (77) } .

قوله عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً (62) } . قال قتادة: البروج: النجوم. وعن مجاهد قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} ، قال: هذا يخلف هذا وهذا يخلف هذا، {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} ذاك آية له، {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} ، قال: شكر نعمة ربه عليه فيهما. قوله عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67) } . عن مجاهد: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} ، قال: بالوقار، والسكينة. وعن ابن عباس قوله: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} ، بالطاعة والعفاف والتواضع. وقال ابن زيد: لا يتكبّرون على الناس ولا يتجبّرون ولا يفسدون، وقرأ قول الله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} . وعن الحسن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} ، قال: حلماء، وإن جُهل عليهم لم يجهلوا. وقوله تعالى: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} قال

البغوي: يعني: مُلِحًّا دائمًا لازمًا غير مفارق من عُذّب به من الكفار، {إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} ، يعني: بئس موضع قرار وإقامة. وعن ابن عباس قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} ، قال: هم المؤمنون لا يسرفون فينفقوا في معصية الله، ولا يقترون فيمنعون حقوق الله. وعن إبراهيم قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} ، قال: لا يجيعهم ولا يعريهم، ولا ينفق نفقة يقول الناس: قد أسرف. وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من فقه الرجل قصده في معيشته» وهذه الآية كقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} . وقوله تعالى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} ، أي: وسطًا عدلاً، وقرئ: بكسر القاف، وهو ما تقام به الحاجة. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) } . عن ابن مسعود قال: (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أكبر؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك» ، قال: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يُطْعمَ معك» ، قال: ثم أي؟ قال: «تزاني حليلة جارك» قال عبد الله: وأنزل الله تصديق ذلك {وَالَّذِينَ

لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الآية) . رواه أحمد وغيره. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحلّ دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأني رسول الله إلاَّ بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» . وقال لقمان لابنه: يا بني إيّاك والزنا، فإن أوله مخافة وآخره ندامة. وقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} ، قال أبو عبيدة: الأثام العقوبة؛ وقال مجاهد: الأثام واد في جهنم. قرأ ابن كثير وحفص فيه: بإشباع الكسرة، وقرأ الباقون: بغير إشباع كنظائرها. وقوله تعالى: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} ، قال ابن عباس: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} بالشرك إيمانًا، وبالقتل إمساكًا، وبالزنا إحصانًا. وقال سعيد ابن المسيب: تصير سيئاتهم حسنات لهم يوم القيامة. {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} ، أي: رجوعًا. قال ابن كثير: أي: فإن الله يقبل توبته، كما قال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} . قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا

وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (76) } . قال ابن جرير في قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ، لا يشهدون شيئًا من الباطل، لا شركًا ولا غناء ولا كذبًا ولا غيره، قال: واللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له، أو ما يُستقبح. وقال ابن كثير: أي: لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به مرّوا ولم يتدنّسوا منه بشيء، ولهذا قال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} ، قال البغوي: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا} لم يقعوا ولم يسقطوا عليها، {صُمّاً وَعُمْيَاناً} كأنهم صمّ عمي، بل يسمعون ما يذكرون به فيفهمونه ويرون الحق فيه فيتبعونه؛ قال القتيبي: لم يتغافلوا عنها كأنهم صمّ لم يسمعوها وعمي لم يروها. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} ، عن ابن عباس قوله: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} ، يعنون: من يعمل لك بالطاعة فَتُقِرُّ بِهِمْ أعينًا في الدنيا والآخرة، {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} ، يقول: أئمة يُقتدى بنا. وقال مجاهد: أئمة نقتدي بمن قبلنا، ونكون أئمة لمن بعدنا. وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} ، أي: الدرجة العالية. وهي: الفردوس أعلا الجنة، {بِمَا صَبَرُوا} على أمر الله تعالى طاعته، {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً} كما قال تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ

عُقْبَى الدَّارِ} ، {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} ، أي: موضع قرار وإقامة، كما قال تعالى: ... {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} . قوله عز وجل: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً (77) } . قال ابن كثير: أي: لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه، فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحّدوه. وقال الضحاك في قوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} ، الكفار كذّبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من عند الله {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} ، وهو يوم بدر. وعن ابن عباس: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} ، قال: موتًا. وقال الحسن البصري: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} ، أي: يوم القيامة. وقال ابن كثير: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} ، أي: فسوف يكون تكذيبكم لزامًا لكم. يعني: مقتضيًا لعذابكم، وهلاككم، ودماركم في الدنيا والآخرة. * * *

الدرس الثالث والتسعون بعد المائة

الدرس الثالث والتسعون بعد المائة [سورة الشعراء] مكية، وهي مائتان وسبع وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ

أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ

مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) } . * * *

قوله عز وجل: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) } . قال ابن عباس: {بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} ، قاتل نفسك. وقال قتادة: لعلك من الحرص على إيمانهم مخرج نفسك من جسدك. وقوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} ، قال قتادة: لو شاء الله لنزّل آية يذلّون بها، فلا يلوي أحد عنقه إلى معصية الله. وقال ابن كثير: أي: لو نشاء لأنزلنا آية تضطرّهم إلى الإِيمان قهرًا، ولكن لا نفعل ذلك لأنا لا نريد من أحد إلا الإِيمان الاختياري. وقوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} ، قال البغوي: أي: مُحْدَثٌ إنزاله، فهو محدث في التنزيل. قال الكلبي: كلما نزل شيء من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول. وقوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء} ، أي: أخبار وعواقب، {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} .

وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أي: حسن. قال الشعبي: الناس من نبات الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} ، أي: دلالة على قدرة الخالق وتوحيده بالعبادة، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ، قال أبو العالية: {الْعَزِيزُ} في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره. وقال سعيد بن جبير: {الرَّحِيمُ} بمن تاب إليه وأناب. قوله عز وجل: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) } . قال البغوي: أي: إلى فلسطين، ولا تستعبدهم وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة، وكانوا في ستّمائة ألف وثلاثين ألفًا، فانطلق موسى إلى مصر وهارون بها فأخبره بذلك، وصاحت أمّهما وقالت: إن فرعون يطلبك ليقتلك، فلو ذهبتما إليه قتلكما، فلم يمتنعا لقولها وذهب إلى باب فرعون. قوله عز وجل: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ (33) } . قال ابن زيد في قوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} قال: ربّيناك فينا وليدًا فهذا الذي كافأتنا أن قتلت منا نفسًا وكفرت نعمتنا؟ {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} ، قال مجاهد: من الجاهلين. وعن السدي: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً} والحكم: النبوّة. وعن مجاهد: {تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، قال: قهرتهم واستعملتهم. وعن السدي: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} وربيتني قبلُ وليدًا! قال ابن كثير: أي: وما أحسنت إليّ وربّيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل، فجعلتهم عبيدًا وخدمًا تصرفهم في أعمالك ومشاقّ رعيتك، أفَيَفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم؟ أي: ليس ما ذكرته شيئًا بالنسبة إلى ما فعلت بهم. {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} . يقول: أيّ شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله؟ {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ} أنه خالقها. أي: إن كانت لكم قلوب موقنة تدلّكم على أن فرعون وغيره لا يخلقون ذلك، {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} ، أي: ألا تعجبون من هذا في زعمه أن لكم إلهًا غيري؟ {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} الذين كانوا قبل فرعون وزمانه، {قَالَ

إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} ، أي: ليس له عقل؛ فزاد موسى في البيان: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} . فلما رأى فرعون الحجّة لزمته وانقطعت حجّته، عدل إلى قوته وسلطانه {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ} ، أي: أتسجنني وإن أتيتك بحجّة بيّنة، {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} ، يقول: مبين له خلق حيّة. وقوله: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ} لمن ينظر إليها ويراها. قوله عز وجل: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) } . كان فرعون لعنه الله وقحًا جريئًا، فلما غلب وانقلب صاغرًا عدل إلى المكابرة والعناد فقال: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} ، وهذه مكابرة يعلم كل أحد بطلانها، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، ثم توعّدهم بقطع الأيدي والأرجل والصَلب. فقالوا: {لَا ضَيْرَ} ، أي: لا يضرّنا ذلك ولا نبالي به: {إِنَّا إِلَى

رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} ، أي: المرجع إلى الله عزّ وجلّ، ولا يخفى عليه ما فعلت بنا، {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} ، أي: بسبب أنّا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان بالله وتصديق رسله، فقتلهم كلّهم. {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ... قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} . قوله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) } . قال ابن كثير: لما طال مقام موسى عليه السلام ببلاد مصر، وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه، وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون، لم يبق لهم إلا العذاب والنكال، فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً من مصر، وأن يمضي بهم حيث يؤمر، ففعل موسى عليه السلام ما أمره به ربه عز وجل.

وقوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} ليجمعوا له الجند وقال: {إِنَّ هَؤُلَاء} ، يعني: بني إسرائيل، {لَشِرْذِمَةٌ} طائفة، ... {قَلِيلُونَ} ، قال أبو عبيدة: كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفًا، {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} ، أي: كل وقت يصل إلينا منهم ما يغيظنا، {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} ، أي: مستعدّون، وإني أريد أن أهلكهم، فخرجوا في طلبهم، قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ} ، أي: بساتين، {وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} ، أي: لحقوهم في وقت إشراق الشمس، {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ} ، أي: تقابلاً ورأى بعضهم بعضًا، {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} ، أي: سيدركنا قوم فرعون ولا طاقة لنا بهم، {قَالَ} موسى ثقة بوعد الله إياه {كَلَّا} لن يدركونا، {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} يدلّني على طريق النجاة. {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ} فضربه، ... {فَانفَلَقَ} ، أي: انشقّ، {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} ، أي: كالجبل الكبير. قال ابن عباس: صار البحر اثني عشر طريقًا لكل سبط طريق. وقوله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ} ، أي: قرّبنا هنالك، {الْآخَرِينَ} ، قال قتادة: هم قوم فرعون قرّبهم الله حتى أغرقهم في البحر، {وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} ، قال السدي: ودنا فرعون وأصحابه من البحر بعد ما قطع موسى ببني إسرائيل البحر، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقًا قال: ألا ترون البحر فرق مني؟ قد تفتّح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم، فذلك قول الله: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} ، يقول: قرّبنا ثَمّ الآخرين، هم آل فرعون، فلما قام فرعون على الطرق وأبت خيله أن تقتحم، فنزل جبرائيل عليه السلام على ماذيانة، فتشامّت الحصنُ ريح الماذيانة، فاقتحمت في أثرها، حتى إذا همّ أولهم أن يخرج ودخل آخرهم، أمر البحر أن يأخذهم، فالتطم عليهم، وتفرّد جبريل بمقلة من مقل البحر فجعل يدسّها في فيه. وقال بكر بن عبد الله: أقبل فرعون، فلما أشرف على الماء قال أصحاب موسى: يا مكلّم الله إن القوم يتبعوننا في الطريق، فاضرب بعصاك البحر فأخلطه، فأراد موسى أن يفعل فأوحى الله إليه: أن اترك البحر رهوًا إنهم جند

مغرقون، إنما أمكر بهم فإذا سلكوا طريقكم أغرقتهم، قال: فلما انتهى فرعون إلى وسط البحر أوحى الله إلى البحر: خذ عبدي الظالم وعبادي الظلمة، فتغطمطت تلك الفرق من الأمواج كأنها الجبال وضرب بعضها بعضًا، فلما إذا أدركه الغرق {قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، فقيل له: ... {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} . وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} ، أي: إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين {لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} . * * *

الدرس الرابع والتسعون بعد المائة

الدرس الرابع والتسعون بعد المائة {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) } . * * *

قوله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) } . قال البغوي: قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} ، أيّ شيء تعبدون، {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} ، يعني: نقيم على عبادتها. قال: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} ، أي: هل يسمعون دعاءكم إذ تدعون. قال ابن عباس: يسمعون لكم أو ينفعوكم أو يضرون إن تركتم عبادتها، {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ، معناه: أنها لا تسمع قولاً، ولا تجلب نفعًا، ولا تدفع ضرًا، لكن اقتدينا بآبائنا. وفيه إبطال التقليد في الدين. انتهى ملخصًا. قوله عز وجل: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) } . قال ابن جرير: ومعنى الكلام: أفرأيتم كل معبود لكم ولآبائكم، فإني

منه بريء لا أعبده، {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} للصواب من القول والعمل ويسددني للرشاد، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} ، يقول: والذي يغذوني بالطعام والشراب ويرزقني الأرزاق. {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} ، يقول: وإذا سقم جسمي واعتلّ فهو يبرئه ويعافيه، {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} ، يقول: والذي يمتني إذا شاء ثم يحييني إذا أراد بعد مماتي. {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} ، فربّي هذا الذي بيده نفعي وضرّي، وله هذه القدرة والسلطان، وله الدنيا والآخرة، لا الذي لا يسمع إذا دعي ولا ينفع ولا يضر. انتهى. {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً} ، قال ابن عباس: معرفة حدود الله وأحكامه {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} قال ابن كثير: أي: اجعلني مع الصالحين في الدنيا والآخرة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الاحتضار: «اللهم في الرفيق الأعلى» . وعن عكرمة قوله: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} . وقوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} ، قال: إن الله فضله بالخلّة حين اتخذه خليلاً، فسأل الله فقال: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} ، حتى لا تكذّبني الأمم، فأعطاه الله ذلك، فإن اليهود آمنت بموسى، وكفرت بعيسى، وإن النصارى آمنت بعيسى وكفرت بمحمد عليهم الصلاة والسلام، وكلّهم يتولّى إبراهيم. قالت اليهود: وهو خليل الله وهو منا، فقطع الله ولايتهم منه بعد ما أقرّوا له بالنبوة وآمنوا به فقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ثم ألحق ولايته بكم فقال: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} فهذا خيره الذي عجّل له، وهي

الحسنة إذ يقول: {وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً} ، وهو: اللسان الصدق الذي سأل ربه. وقوله: {وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} ، قال البغوي: أي: ممن تعطه جنة النعيم. وقال ابن كثير: أي: أنعم عليّ في الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعدي، وفي الآخرة بأن تجعلني من ورثة جنة النعيم. وقوله: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} ، وهذا مما رجع عنه إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} . وقوله: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} ، أي: أَجِرْني من الخزي يوم القيامة، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ، قال قتادة: سليم من الشرك. وقال مجاهد: ليس فيه شك في الحق؛ وفي الدعاء المأثور: (اللهم إني أسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا ونفسًا مطمئنّة) . قوله عز وجل: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) } .

يقول تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} ، أي: قرّبت وأدليت، {لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} ، أي: أظهرت، {لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ} ؟ قال ابن كثير: أي: ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئًا، ولا تدفع عن أنفسها، فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتهم لها واردون. وقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} قال الزجاج: طرح بعضهم على بعض {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أي: نعدلكم به فنعبدكم معه، {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} ، قال الكلبي: إلا أوّلونا الذين اقتدينا بهم، {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} ، أي: قريب. قال قتادة: يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحًا نفع، وأن الحميم إذا كان صالحًا نفع. وعن جابر بن عبد الله قال: سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الرجل ليقولن في الجنة: ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم، فيقول الله تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} . رواه البغوي. {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} ، أي: رجعة إلى الدنيا، {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} لأنهم يشفعون وتنفعهم الشفاعة، وأما الكفار فلا تنفعهم شفاعة الشافعين. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} قال ابن كثير: أي: أن في محاجّة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد، لآية واضحة جليلة على أنه لا إله إلا الله، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} . قال البغوي: {الْعَزِيزُ} : الذي لا يُغْلَبُ، فالله عزيز وهو في وصف عزّته رحيم.

الدرس الخامس والتسعون بعد المائة

* * * الدرس الخامس والتسعون بعد المائة {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (115) قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ

لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ

الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) } . * * *

قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (115) قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) } . قيل للحسن البصري: يا أبا سعيد أرأيت قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} و {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} ، و {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} وإنما أرسل إليهم رسول واحد؟ ! قال: إن الآخِر جاء بما جاء به الأوَّل، فإذا كذّبوا واحدًا فقد كذّبوا الرسل أجمعين. وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} ؟ قال البغوي: أخوهم في النسب لا في الدين. وقوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} ، يعنون: السفلة، {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قال البغوي: أي: ما أعلم أعمالهم وصنائعهم،

وليس عليّ من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء، إنما كلّفت أن أدعوهم إلى الله ولي منهم ظاهر أمرهم {إِنْ حِسَابُهُمْ} ما حسابهم {إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} لو تعلمون ذلك ما عِبْتموهم بصنائعهم. قال الزجاج: الصناعات لا تضرّ في الديانات. وعن ابن جريج قوله: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} ، قال: هو أعلم بما في نفوسهم. وعن قتادة في قوله: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} ، قال: فاقض بيني وبينهم قضاء. وقوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ، قال ابن عباس: يعني: الموقر. قال البغوي: الموقر المملوء من الناس والطير والحيوان كلها. {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} ، أي: أغرقنا بعد إنجاء نوح وأهله من بقي من قومه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} . قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) } . عن ابن عباس قوله: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} ، قال: بكل طريق،

وقال: الآية عامة. {تَعْبَثُونَ} ، قال: تلعبون. وعن قتادة في قوله: {مَصَانِعَ} ، قال: مآخذ للماء. وعن ابن عباس قوله: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} ، يقول: كأنكم تخلدون. وقوله: {وَإِذَا بَطَشْتُم} ، قال البغوي: أخذتم وسطوتم، {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} قتلاً بالسيف وضربًا بالسوط، والجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب. وقوله تعالى: {قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} ، عن ابن عباس قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} . يقول: دين الأولين. وقال قتادة: هكذا خلقة الأولين، وهكذا كانوا يحيون ويموتون. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البنيان ونصب الشجر، قام في مسجدهم فنادى: (يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا تستحيون، ألا تستحيون؟ تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون! إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غرورًا، وأصبح جمعهم بورًا، وأصبحت مساكنهم قبورًا، ألا أن عادًا ما بين عدن وعمان خيلاً وركابًا، فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين) ؟ . رواه ابن أبي حاتم. قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي

الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) } . عن ابن عباس: قوله: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} ، يقول: أينع وبلغ فهو هضيم. وقال عكرمة: الهضيم: الرطب اللّين. وقوله: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} ، قال أبو صالح: حاذقين بنحتها. وعن ابن عباس في قوله: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} ، يقول: أشرين. وقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} ، قال مجاهد: من المسحورين، {مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} واقترحوا لهم ناقة عَشَرَاءَ من هذه الصخرة، فقام نبيّ الله صالح عليه السلام فصلّى ثم دعا الله عز وجل، فانفطرت تلك الصخرة عن ناقة عشراء فآمن بعضهم وكفر أكثرهم {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} يعني: تَرِدُ ماءكم يومًا، ويومًا تردونه أنتم. {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} ، رجفت بهم أرضهم وأخذتهم الصيحة من فوقهم فأصبحوا في ديارهم جاثمين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} . قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ

لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) } . قال ابن كثير: لما نهاهم نبي الله عن ارتكاب الفواحش، وغشيانهم الذكور، وأرشدهم إلى إتيان نسائهم اللاتي خلقهنّ الله لهم، ما كان جوابهم إلا أن: {قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} ، أي: ننفيك من بين أظهرنا، فلما رأى أنهم لا يرتدعون عما هم فيه وأنهم مستمرّون على ضلالتهم تبرّأ منهم و {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ} ، أي: المبغِضين لا أحبّه ولا أرضى به، وإني بريء منكم ثم دعا الله عليهم فقال: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} ، قال الله تعالى: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} ، أي: كلّهم، {إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} وهي امرأته وكانت عجوز سوء بقيت فهلكت مع من بقي من قومها، كما أخبر الله عنهم في سورة هود وغيرها. قوله عز وجل: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ

يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) } . قال ابن عباس قوله: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} ، قال: أهل مدين، والأيكة: الملتقى من الشجر. قال ابن زيد: الأيكة: الشجر؛ بعث الله شعيبًا إلى قومه من أهل مدين وإلى أهل البادية. وعن مجاهد قوله: ... {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} ، قال: الخليقة. وقال البغوي: قوله: {قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من نقصان الكيل والوزن، وهو مجازيكم بأعمالكم وليس العذاب إليّ، وما عليّ إلا الدعوة، فكذّبوه فأخذهم عذاب يوم الظلّة، {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . قال ابن جريج: لما أنزل الله عليهم أول العذاب أخذهم منه حرّ شديد، فرفع الله لهم غمامة، فخرج إليها طائفة منهم ليستظلّوا بها، فأصابهم منها روح، وبرد، وريح طيّبة، فصبّ الله عليهم من فوقهم من تلك الغمامة عذابًا، فذلك قوله: {عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} . وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ، أي: {الْعَزِيزُ} في انتقامه من الظالمين، {الرَّحِيمُ} بعباده المؤمنين. * * *

الدرس السادس والتسعون بعد المائة

الدرس السادس والتسعون بعد المائة {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) } . عن قتادة: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال: هذا القرآن، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} ، قال: جبريل. وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} ، أي: ذكر إنزال القرآن على محمد موجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم. {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، قال مجاهد: عبد الله بن سلام وغيره من علمائهم. قوله عز وجل: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) } . قال ابن كثير: ثم قال تعالى مخبرًا عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن: أنه لو نزل على رجل من الأعاجم ممن لا يدري من العربية كلمة، وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته لا يؤمنون به، ولهذا قال: {نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} ، قال ابن عباس: أدخلنا الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين.

{لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} . قال البغوي: أي: لنؤمن ونصدّق. يتمنّون الرجعة والنظرة. قال مقاتل: لما أوعدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب قالوا: إلى ... متى توعدنا بالعذاب ومتى هذا العذاب؟ قال الله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} ؟ . وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} . قال البغوي: والمعنى: أنهم وإن طال تمتّعهم بنعيم الدنيا، فإذا أتاهم العذاب لم يغن عنهم طول التمتّع شيئًا، ويكونون كأنهم لم يكونوا في نعيم قطّ. قال ابن كثير: وفي الحديث الصحيح: «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ثم يقال له: هل رأيت خيرًا قطّ؟ هل رأيت نعيمًا قطّ؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسًا كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال له: هل رأيت بؤسًا قط؟ فيقول: لا والله يا رب» ، أي: ما كأنّ شيئًا كان. ثم قال تعالى مخبرًا عن عدله في خلقه: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى} . قال البغوي: أي: رسل ينذرونهم تذكرة. قيل: محلّها رفع. أي: تلك ذكرى وما كنا ظالمين في تعذيبهم، حيث قدّمنا الحجّة عليهم وأعذرنا إليهم. قوله عز وجل: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ

مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) } . عن قتادة في قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} ، قال: هذا القرآن. وفي قوله: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} ، قال: عن سمع السماء. وقوله تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} , قال ابن عباس رضي الله عنهما: يحذّر به غيره يقول: أنت أكرم الخلق عليّ، ولو اتخذت إلهًا غيري لعذّبتك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشًا فعمّ وخصّ فقال: «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا معشر بني عبد المطّلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئًا، إلا أن لكم رحِمًا سأبُلُّها ببلالها» . رواه مسلم وغيره. وقال ابن زيد في قوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يقول: لِنْ لهم. وقوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} ، أي: من الشرك والمعاصي. وروى ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي قال: رأيت أبا الدرداء رضي الله عنه يحدّث الناس ويفتيهم، وولده إلى جنبه وأهل بيته جلوس في جانب المسجد يتحدّثون، فقيل له: ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم، وأهل بيتك جلوس لاهين؟ فقال: لإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أزهد

الناس في الدنيا الأنبياء، وأشدّهم عليهم الأقربون» ، وذلك فيما أنزل الله عزّ وجلّ قال الله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} إلى قوله: {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} . وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} ، أي: المصلّين. قال عكرمة: قائمًا، وساجدًا وراكعًا، وجالسًا. وقال قتادة: يراك وحدك ويراك في الجمع. وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، أي: السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسكناتهم، كما قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} . وقوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} ؟ هذا جواب قول المشركين: إن الشياطين يلقون القرآن على لسان محمد، فقال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} ، ثم أخبر أنهم إنما ينزلون على من يشاكلهم ويشابههم من الكهان الكذبة فقال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} ، أي: كذاب فاجر. قال قتادة: هم: الكهنة، تسترق الجنُّ السمع ثم يأتون به إلى أوليائهم من الإِنس. وقوله تعالى: {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} ، قالت عائشة: الشياطين تسترق السمع، فتجيء بكلمة حق فيقذفها في أذن وليّه، ويزيد فيها أكثر من مائة كذبة.

قوله عز وجل: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227) } . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ} ، أهل الغيّ لا أهل الرشاد والهدى. وقال مجاهد: يتبعهم الشياطين. وعن ابن عباس: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} ، يقول: في كل لغو يخوضون. وقال قتادة: يمدحون قومًا بباطل، ويشتمون قومًا بباطل. وقوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} ، قال البغوي: أي: يكذبون في شعرهم، يقولون: فعلنا وفعلنا وهم كَذَبة. وعن ابن عباس: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} في كلامهم، ... {وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} ، قال: يردّون على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين. وروى البغوي عن كعب بن مالك أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل» . وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه ويقول: خلّوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضربًا يزيل الهمام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي حرم الله تقول الشعر؟ ! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خلّ عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح

النبل» . قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} ، كقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} . وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» . قال قتادة بن دعامة في قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} ، يعني: من الشعراء وغيرهم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كتب أبي في وصيّته سطرين: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا، حين يؤمن الكافر، وينتهي الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن يعدل فذاك ظنّي به ورجائي فيه، وإن يجرؤ يبدّل فلا أعلم الغيب {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ ... يَنقَلِبُونَ} . رواه ابن أبي حاتم. والله أعلم. * * *

الدرس السابع والتسعون بعد المائة

الدرس السابع والتسعون بعد المائة [سورة النمل] مكية، وهي ثلاث وتسعون آية بسم الله الرحمن الرحيم {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) } .

قوله عز وجل: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) } . قال ابن كثير: وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ} ، أي: هذه آيات ... {الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} أي: بيّن واضح، {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ، أي: إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن لمن آمن به واتبعه وصدّقه وعمل بما فيه، وأقام الصلاة المكتوبة وآتى الزكاة المفروضة، وأيقن بالدار الآخرة والبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال خيرها وشرّها، والجنة والنار، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} . وقال تعالى: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} ، ولهذا قال تعالى ها هنا: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} ، أي: يكذّبون بها ويستبعدون وقوعها {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} ، أي: حسّنّا لهم ما هم فيه ومددنا لهم في غيّهم، فهم يتيهون في ضلالهم، وكان هذا جزاء على ما كذّبوا من الدار الآخرة، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ

يَعْمَهُونَ} ، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} ، أي: في الدنيا والآخرة، {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} ، أي: ليس يخسر أنفسهم وأهليهم سواهم من أهل الحشر. وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} ، أي: تؤتى القرآن، {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} ، أي: وحيًا من عند الله الحكيم في أمره ونهيه العليم بالأمور كلها فخبره هو الصدق وحكمه هو العدل كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . قوله عز وجل: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) } . قال ابن كثير: يقول تعالى لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - مذكّرًا له ما كان من أمر موسى عليه السلام، كيف اصطفاه الله وكلّمه وناجاه، وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة، والأدلّة القاهرة، وابتعثه إلى فرعون وملأه، فجحدوا بها وكفروا واستكبروا عن إتباعه والانقياد له، فقال تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ} ، أي: اذكر حين سار

موسى بأهله فأضلّ الطريق، وذلك في ليل وظلام. فآنسوا من جانب الطور نارًا، أي: رأى نارًا تأجّج وتضطرم فقال لأهله: {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ} ، أي: عن الطريق، {أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} ، أي: تستدفئون به، وكان كما قال، فإنه رجع منها بخبر عظيم، واقتبس منها نورًا عظيمًا، ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} ، أي: فلما أتاها ورأى منظرًا هائلاً عظيمًا، حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا توقّدًا، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة ثم رفع رأسه فإذا نورها متّصل بعنان السماء. قال ابن عباس وغيره: لم تكن نارًا، وإنما كانت نورًا يتوهّج. - وفي رواية عن ابن عباس: نور رب العالمين - فوقف موسى متعجبًا مما رأى. فنودي أن بورك من في النار. قال ابن عباس: تقدّس، {وَمَنْ حَوْلَهَا} ، أي: من الملائكة. قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود وهو الطيالسي، حدثنا شعبة والمسعودي عن عمرو بن مرة سمع أبا عبيدة يحدّث عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل - زاد المسعودي - وحجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه كل شيء أدركه بصره» ، ثم قرأ أبو عبيدة: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة. وقوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أي: الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبه به شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم

المباين لجميع المخلوقات ولا يكتنفه الأرض والسماوات، بل هو الأحد الصمد المنزّه عن مماثلة المحدَثات. وقوله تعالى: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه {الْعَزِيزُ} الذي عزّ كل شيء وقهره وغلبه ... {الْحَكِيمُ} في أقواله وأفعاله، ثم أمره أن يلقي عصاه من يده ليظهر له دليلاً واضحًا على أنه الفاعل المختار القادر على كل شيء، فلما ألقى موسى تلك العصا من يده انقلبت في الحال حيّة عظيمة هائلة، في غاية الكِبْر وسرعة الحركة مع ذلك، ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} والجانّ: ضرب من الحيّات أسرعه حركة وأكثره اضطرابًا، فلما عاين موسى ذلك: {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} ، أي: لم يلتفت من شدّة فَرَقِه، {يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} ، أي: لا تخف مما ترى فإني أريد أن أصطفيك رسولاً وأجعلك نبيًا وجيهًا. وقوله تعالى: ... {إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، هذا استثناء منقطع، وفيه بشارة عظيمة للبشر، وذلك أنه من كان على عمل سيِّء ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب فإن الله يتوب عليه، كما قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} وقال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} . وقوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} هذه آية أخرى ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار، وصدق من جعل له معجزة وذلك أن الله تعالى أمره أن يدخل يده في جيب درعه، فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطعة كأنها قطعة قمر، لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف. وقوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} ، أي: هاتان ثنتان من تسع آيات أؤيّدك بهنّ وأجعلهنّ برهانًا لك، {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} .

وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} ، أي: بيّنة واضحة ظاهرة {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} وأرادوا معارضته بسحرهم فغلبوا وانقلبوا صاغرين، {وَجَحَدُوا بِهَا} ، أي: في ظاهر أمرهم، {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ} ، أي: علموا في أنفسهم أنها حق من عند الله، ولكن جحدوها وعاندوها وكابروها، {ظُلْماً وَعُلُوّاً} ، أي: ظلمًا من أنفسهم سجية ملعونة. {وَعُلُوّاً} ، أي: استكبارًا عن إتباع الحق، ولهذا قال تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} ، أي: انظر يا محمد كيف كان عاقبة أمرهم، في إهلاك الله إياهم وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة؛ وفحوى الكلام يقول: احذروا أيها المكذّبون لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، الجاحدون بما جاء به من ربه أن يصيبكم ما أصابهم. * * *

الدرس الثامن والتسعون بعد المائة

الدرس الثامن والتسعون بعد المائة {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ

مِنسُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) } . قال البغوي: قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} ، يعني: علم القضاء ومنطق الطير والدواب، وتسخير الشياطين، وتسبيح الجبال، {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا} ، بالنبوة، والكتاب، وتسخير الشياطين، والجنّ والإنس، {عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} ، نبوته وعلمه وملكه دون سائر أولاده، وكان لداود تسعة عشر ابنًا، وأعطى سليمان ما أعطى داود: الملك، وزيد له: تسخير الريح، وتسخير الشياطين. وقال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكًا من داود وأقضى منه، وكان داود أشدّ تعبّدًا من سليمان، وكان سليمان شاكرًا لنعم الله تعالى. {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} ، سمّى صوت الطير منطق لحصول الفهم منه كما يُفهم من كلام الناس. روي عن كعب قال: صاح ورشان عند سليمان عليه السلام فقال: أتدرون ما يقول: قالوا: لا، قال: فإنه يقول: لِدُوا للموت، وابنوا للخراب. وصاح طاووس فقال: أتدرون ما يقول: قالوا: لا، قال: فإنه يقول: كما تَدين تُدان. وصاح صرد فقال: أتدرون ما يقول: قالوا: لا، قال: فإنه يقول: استغفروا الله يا مذنبين. وهدرت حمامة فقال: أتدرون ما تقول: قالوا: لا، قال: فإنها تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه. قال: والغراب يدعو على العشا. والحدأة تقول: كل شيء هالك إلا الله. والقطاة تقول: من سكت سلم. والضفدعة تقول: سبحان المذكور بكل لسان.

وقوله: {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} ، قال البغوي: من كل شيء يؤتاه الأنبياء والملوك، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} ، وقال ابن كثير: {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} ، أي: مما يحتاج إليه الملك، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} ، أي: الظاهر البيّن لله علينا. قوله عز وجل: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) } . عن قتادة في قوله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} ، قال: يردّ أولهم على آخرهم. قوله عز وجل: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) } .

قال ابن زيد: نزل سليمان بواد فسأل الإِنس عن مائِهِ فقالوا: ما نعلم له ماء، فإن يكن أحد من جنودك يعلم له ماء فالجنّ، فدعا الجنّ فسألهم فقالوا: ما نعلم له ماء، وإن يكن أحد من جنودك يعلم له ماء فالطير، فدعا الطير فسألهم فقالوا: ما نعلم له ماء، وإن يكن أحد من جنودك يعلمه فالهدهد، فلم يجده، قال: فذاك أوّل ما فقد الهدهد. وعن مجاهد: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} ، قال: نتف ريشه كله، {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} ، قال وهب بن منبه: أي: بحجّة. عذر له في غيبته، {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} ثم جاء الهدهد، فقال له سليمان: ما خلّفك؟ فقال أحطت بما لم تحط به. قال البغوي: يقول: علمت ما لم تعلم، وجئتك من سبأ بنبأ يقين. قال ابن كثير: أي: بخبر صدق حق يقين وسبأ هم حِمْيَر. وهم: ملوك اليمن. {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} ، قال الحسن: هي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ، {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} ، يعني: من كل أمر الدنيا {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} ، قال ابن عباس: سرير كريم. قال: حسن الصنعة. قال ابن كثير: سرير تجلس عليه عظيم هائل، مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللآلئ. {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} ، أي: طريق الحق فهم لا يهتدون، {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} ، قال ابن عباس: يعلم كل خبيئة في السماء والأرض. قال ابن جرير: قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، يقول تعالى ذكره: الله الذي لا تصلح العبادة إلا له، لا إله إلا هو لا معبود سواه تصلح له العبادة، فأخلصوا له العبادة وأفردوه بالطاعة، ولا تشركوا به شيئًا، {رَبُّ الْعَرْشِ

الْعَظِيمِ} ، يعني: بذلك مالك العرش العظيم، الذي كل عرش وإن عَظُمَ فدونه لا يشبهه عرش ملكة سبأ ولا غيره. وقال ابن زيد في قوله: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} إلى قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} هذا كله كلام الهدهد. قوله عز وجل: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) } . قال البغوي: فلما فرغ الهدهد من كلامه قال سليمان للهدهد: ... {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ} فيما أخبرت، {أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فدلّهم الهدهد على الماء، فاحتفروا الركايا وروى الناس والدواب، ثم كتب سليمان الكتاب وختمه بخاتمه، فقال للهدهد: {اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} تنحّ عنهم فكن قريبًا منهم، {فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} يردّون من الجواب، فأخذ الهدهد الكتاب فأتى به بلقيس، وكانت بأرض يقال لها: مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام، فوافاها في قصرها وقد غلّقت الأبواب، وكانت إذا رقدت غلّقت الأبواب وأخذت المفاتيح

فوضعتها تحت رأسها، فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها، فألقى الكتاب على نحرها. هذا قول قتادة. وقال ابن منبه، وابن زيد: كانت لها كوّة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع، فإذا نظرت إليها سجدت لها، فجاء الهدهد الكوّة فسدّها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى بالصحيفة إليها، فأخذت بلقيس الكتاب وكانت قارئة، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت، لأن ملك سليمان كان في خاتمه، وعرفت أن الذي أرسل الكتاب إليها أعظم مُلْكًا، فقرأت الكتاب وتأخّر الهدهد غير بعيد، فجاءت حتى قعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها فجاءوا وأخذوا مجالسهم، {قَالَتْ} لهم بلقيس: {يَا أَيُّهَا المَلَأُ} وهم أشراف الناس وكبراؤهم، {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} قيل: سمّته كريمًا لأنه كان مصدّرًا ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم بيّنت الكتاب فقالت: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ} وبيّنت المكتوب فقالت: {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ، قال ابن عباس: أي: لا تتكبّروا عليّ وائتوني مسلمين، مؤمنين طائعين. انتهى ملخصًا. وقوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} ، أي: أشيروا عليّ فيما عرض لي {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} أي: تحضرون {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك، ثم قالوا: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} في القتال، {فَانظُرِي} من الرأي {مَاذَا تَأْمُرِينَ} فنمتثل أمرك ونطيعه. قال الحسن: فوضعوا أمرهم إلى عجلة تضطرب ثدياها، {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} ، أي: دخلوها عنوة {أَفْسَدُوهَا} خرّبوها، {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} تحذّرهم سير سليمان ودخوله بلادهم. قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ، ثم عدلت إلى المصالحة والمهادنة فقالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} ، قال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها، علمت أن الهدية تقع موقعًا من الناس، {فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} من النبوة والدين والحكمة والملك، {خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} .

ثم قال للمنذر بن عمرو أمير الوفد: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} بالهدية، ... {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا} ، أي: من بلادهم، {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} إن لم يأتوني مسلمين. قال وهب بن منبه: فلما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان قالت: قد عرفت والله ما هذا بملك وما لنا به طاقة، فبعثت إلى سليمان أني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض، في آخر قصر من سبعة قصور لها، ثم أغلقت دونه الأبواب ووكّلت به حراسًا يحفظونه، ثم قالت لمن خلّفت على سلطانها: احتفظ بما قِبَلَكَ، وسرير ملكي لا يخلص إليه أحد ولا يقربه حتى آتيك. قوله عز وجل: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) } . قال قتادة: لما بلغ سليمان أنها جائية، وكان قد ذُكر له عرشها فأعجبه وقد علم نبي الله أنهم متى أسلموا تحرم أموالهم ودماؤهم فقال: {يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ} ، قال البغوي: وهو المارد القوي: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} ، قال ابن عباس: يعني: قبل أن تقوم من مجلسك {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} أي: قويّ على حمله أمين على ما فيه من الجوهر، فقال سليمان عليه السلام: أريد أعجل من ذلك، {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} ، وهو آصف كاتب سليمان - قال قتادة -: كان مؤمنًا من الإِنس: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} ، قال مجاهد: يعني: إدامة النظر حتى يرتدّ الطرف خاسئًا، قال سليمان: هات فسجد وقال: يا ذا الجلال والإكرام، يا إلهنا وإله كل

شيء إلهًا واحدًا، لا إله إلا أنت، ائتني بعرشها. قال الكلبي: فغار عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسيّ سليمان. {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ} نعمه {أَمْ أَكْفُرُ} فلا أشكرها، {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} ، أي: يعود نفع شكره إليه، {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} عن شكره، {كَرِيمٌ} . قال ابن كثير: أي كريم في نفسه وإن لم يعبده أحد، فإن عظمته ليست مفتقرة إلى حدّ. وهذا كما قال موسى: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} . وقال ابن جرير: وقوله: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} ، يقول جل ثناؤه: قال الذي عنده علم من الكتاب. وقال ابن عباس: هو: آصف كاتب سليمان. قال أكثر المفسرين: وكان صدّيقًا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى. قوله عز وجل: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ ... مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ ... هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ ... مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) } . عن ابن عباس: فلما أتته {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} ، قال: وتنكير العرش أنه زيد فيه ونقص لينظر في عقلها، فوُجدت ثابتة العقل. وعن قتادة: {فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} ، قال: شبّهته وكانت قد تركته خلفها. قال عكرمة: كانت حكيمة لم تقل: نعم، خوفًا من أن تكذب، ولم تقل: لا، خوفًا من التكذيب، {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} .

قال البغوي: فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقرّ ولم تنكر. قال ابن كثير: وقوله: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} ، قال مجاهد: يقوله سليمان. {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ} ، قال، البغوي: أي صدّها عبادة الشمس عن التوحيد وعبادة الله. {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} ، قال وهب بن منبه: أمر سليمان بالصرح، وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضًا، ثم أرسل الماء تحته، ثم وضع له فيه سريره فجلس عليه، وعكفت عليه الطير والجنّ والإِنس، ثم قال: {ادْخُلِي الصَّرْحَ} ليريها ملكًا هو أعز من ملكها وسلطانًا هو أعظم من سلطانها، {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} لا تشكّ أنه ماء تخوضه، قيل لها: ادخلي {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ} فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله وعابها في عبادتها الشمس من دون الله، فقالت بقول الزنادقة، فوقع سليمان ساجدًا إعظامًا لما قالت وسجد معه الناس، وسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع، فلما رفع سليمان رأسه قال: ويحك ماذا قلت؟ قال: وأُنسِيَتْ ما قالت، فـ {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ ... الْعَالَمِينَ} وأسلمت فحسن إسلامها. وعن عكرمة قال: لما تزوج سليمان بلقيس قالت: لم تمسّني حديدة قطّ، قال سليمان للشياطين: انظروا ما يذهب الشعر، قالوا: النورة، فكان أول من صنع النورة. والله أعلم. * * *

الدرس التاسع والتسعون بعد المائة

الدرس التاسع والتسعون بعد المائة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا

كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (64) قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ (66) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) } . عن مجاهد في قول الله: {فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} قول مؤمن، وكافر، قولهم صالح مرسل؟ ليس بمرسل: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} ؟ قال مجاهد: بالعذاب قبل العافية. قال ابن كثير: أي: لم تدعون بحضور العذاب ولا تطلبون من الله رحمته؟ ولهذا قال: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} ، أي: ما رأينا على وجهك ووجوه من اتّبعك خيرًا. قال مجاهد: تشاءموا بهم، {قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ} ، قال ابن عباس: الشؤم أتاكم من عند الله لكفركم، {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} تختبرون بالخير والشر. قوله عز وجل: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) } .

عن ابن عباس قوله: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} هم الذين عقروا الناقة، وقالوا حين عقروها: نبيّت صالحًا وأهله فنقتلهم ثم نقول لأولياء صالح. ما شهدنا من هذا شيئًا وما لنا به علم، فدمّرهم الله أجمعين. وعن ابن إسحاق: قال التسعة الذين عقروا الناقة: هلمّ فلنقتل صالحًا فإن كان صادقًا، يعني: فيما وعدهم من العذاب بعد الثلاث عجّلناه قبله، وإن كان كاذبًا نكون قد ألحقناه بناقته، فأتوه ليلاً ليبيّتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطأوا على أصحابهم، أتوا منزل صالح فوجدوهم مشدوخين قد رُضخوا بالحجارة. وقال ابن زيد في وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً} ، قال: احتالوا لأمرهم واحتال الله لهم، مكروا بصالح مكرًا، ومكرنا بهم مكرًا، وهم لا يشعرون بمكرنا، وشعرنا بمكرهم. {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} ، قال مجاهد: تقاسموا وتحالفوا على إهلاكه، فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعين. {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} ، أي: بظلمهم وكفرهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} لعبرة، {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . قوله عز وجل: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (58) } . عن ابن عباس في قوله: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} ، قال: من الرجال والنساء

في أدبارهنّ. وقال مجاهد: من أدبار الرجال، وأدبار النساء، استهزاء بهم. قال قتادة: عابوهم بغير عيب. أي: والله إنهم يتطهّرون من أعمال السوء. {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا} . قال البغوي: قضينا عليها وجعلناها بتقديرنا {مِنَ الْغَابِرِينَ} ، أي: الباقين في العذاب، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً} وهو: الحجارة، {فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} . قال ابن كثير: أي: الذين قامت عليهم الحجّة ووصل إليهم الإِنذار فخالفوا الرسول وكذّبوه وهمّوا بإخراجه من بينهم. قوله عز وجل: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (64) قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ (66) } .

قال مقاتل في قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} هم: الأنبياء، والمرسلون. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} ؟ استفهام، إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى؛ ثم شرع تعالى يبيّن أنه المنفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره، فقال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . انتهى. وذكر لنا أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - مرّ بقوم في بلاد العينية عند قبر زيد بن الخطاب وهم يقولون: يا زيد يا زيد، فقال لهم: الله خير من زيد، ثم مرّ بهم مرة أخرى وهم يدعون زيدًا فقال: الله خير من زيد، ثم مرّ بهم الثالثة وهم يدعونهم فقال: الله خير من زيد، فقالوا: صدق الشيخ، وتركوا دعاءه. وقوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ؟ قال البغوي: معناه آلهتكم خير أم الذي خلق السماوات والأرض؟ وقال ابن كثير: {أَمَّنْ} في هذه الآيات كلها تقديره: أمن يفعل هذه الأشياء كمن لا يقدر على شيء منها؟ هذا معنى السياق وإن لم يذكر الآخر لأن في قوة الكلام ما يرشد إلى ذلك. وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ} ، أي: بساتين {ذَاتَ بَهْجَةٍ} ، أي: منظر حسن، {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا} ، قال ابن كثير: أي: لم تكونوا تقدرون على إنبات أشجارها، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق المستقلّ بذلك، المنفرد به دون ما سواه من الأصنام والأنداد، كما يعترف به هؤلاء المشركون، {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} يعبد وقد تبيّن لهم ولكل ذي لبّ أنه الخالق الرازق؟ .

وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} ، أي: يجعلون لله عدلاً ونظيرًا، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} . وقال البغوي: قوله: {أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً} لا تميد بأهلها، ... {وَجَعَلَ خِلَالَهَا} وسطها، {أَنْهَاراً} تَطَّرِدُ بالمياه، {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} جبالاً ثوابت، {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ} العذب والمالح، ... {حَاجِزاً} مانعًا لئلا يختلط أحدهما بالآخر، {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} توحيد ربهم وسلطانه. وقال ابن كثير: يقول: {أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً} ، أي: قارّة ساكنة ثابتة لا تميد ولا تتحرّك بأهلها وترجف بهم، وأنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة، بل جعلهما من فضله ورحمته مهادًا بساطًا ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرّك، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء} . وقوله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} ، أي: المكروب المجهود، ... {إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ} سكّانها يهلك قرنًا وينشئ آخر {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} ، أي: ما أقلّ تذكّركم فيما يرشدكم إلى الحق، فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته. وعن ابن جريج قوله: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} والظلمات في البر: ضلالة الطريق. والبحر: ضلالة طريقه وموجه. وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: أم ما تشركون بالله خير أم الذي يهديكم في ظلمات البر والبحر إذا ضللتم فيهما الطريق فأظلمت عليكم السبل فيهما؟

وقال ابن كثير: يقول تعالى: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي: بما خلق من الدلائل السماوية والأرضيّة، كما قال تعالى: ... {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} . وقوله تعالى: {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، أي: بعد الموت، ... {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ} بالمطر والأرض بالنبات، {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} حجّتكم على قولكم أن مع الله إلهًا آخر، {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في ذلك، وقد علم أنه لا حجّة لهم ولا برهان، كما قال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} . وقوله تعالى: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} . قال البغوي: نزلت في المشركين حيث سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن وقت قيام الساعة. {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ} ، متى {يُبْعَثُونَ} . وقال ابن كثير: يقول تعالى آمرًا رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول معلّمًا لجميع الخلق أنه لا يعلم أحد من أهل السماوات والأرض الغيب إلا الله عز وجل. وقوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ، أي: وما يشعر الخلائق الساكنون في السماوات والأرض بوقت الساعة، كما قال تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: من زعم أنه يعلم - تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يكون في غد، فقد أعظم على الله الفرية، لأن

الله تعالى يقول: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} . رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} ، أي: غاب، {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} . قال ابن زيد يقول: ضلّ عملهم في الآخرة، وليس لهم فيها علم {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} . قال ابن كثير: أي: في عماية وجهل كبير في أمرها وشأنها. * * *

الدرس المائتان

الدرس المائتان {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنفَخُ

فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) } . * * *

قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (75) } . يقول تعالى مخبرًا عن منكري البعث من المشركين: أنهم استبعدوا إعادة الأجساد بعد ذهابها فقالوا: {أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ} ، أي: ما زلنا نسمع هذا نحن وآباؤنا ولا نرى له حقيقة وقوعًا. {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها، قال الله تعالى مجيبًا لهم: {قُلْ} لهم يا محمد لهؤلاء: {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} ، أي: المكذّبين للرسل وبما جاءوهم به كيف حلّت بهم نقمة الله، ثم قال تعالى مسلّيًا لنبيّه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} ، أي: في كيدك وردّ ما جئت به، فإن الله مؤيدك ومظهر دينك. {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} . قال ابن عباس: يقول: اقترب لكم. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} بإنعامه عليهم وتأخير العذاب عنهم مع ظلمهم لأنفسهم {وَلَكِنَّ

أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} ، فإنه يعلم السرائر كما يعلم الظواهر. {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} ، أي: مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . قوله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ (81) } . يقول تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، وهم أهل الكتاب التوراة والإِنجيل ليبيّن لهم: {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمر الدين. قال الكلبي: إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابًا يطعن بعضهم على بعض، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه. {وَإِنَّهُ} ، يعني: القرآن {لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ} الحق، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} فلا يردّ أمره، {الْعَلِيمُ} بأحوالهم، {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في جميع أمورك وبلّغ رسالة ربك، {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} وإن خالفك من خالفك. {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} ، قال، قتادة: الأصمّ: إذا ولّى مدبرًا ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ما يُدعى إليه من الإِيمان.

قال البغوي: ومعنى الآية: أنهم لفرط إعراضهم عما يُدْعَوْن إليه كالميت الذي لا سبيل إلى إسماعه، والأصمّ الذي لا يسمع، {وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ} ، أي: ما أنت بمرشد من أعمى الله قلبه عن الإِيمان {إِن تُسْمِعُ} ما تسمع، {إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ} مخلصون فيه مصدّقون بكتبه ورسله. قوله عز وجل: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) } . قال ابن عباس: تخاطبهم. قال ابن عمر: وذلك حين لا يؤمر بمعروف ولا يُنهى عن منكر. وعن قتادة: قوله: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} ، يقول: إذا وجب القول عليهم، والقول: الغضب. {أَخْرَجْنَا} دابة ذات زغب وريش، ولها أربع قوائم تخرج من بعض أودية تهامة. وعن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غرفة ونحن نتذاكر أمر الساعة فقال: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم عليه السلام، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب؛ ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا» . رواه أحمد وغيره. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، ولتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أحدكم

أكلته إلى فيه فلا يطعمها» . رواه البخاري. قال الطيبي: الآيات أمارات الساعة، إما على قربها، وإما على حصولها. فمن الأول: الدجال، ونزول عيسى، ويأجوج ومأجوج، والخسف. ومن الثاني: الدخان، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والنار التي تحشر الناس. وعن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله يقول: «إن أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيّتهما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على أثرها قريبًا» . رواه مسلم. قال الحافظ ابن حجر: (فالذي يترجّح من مجموع الأخبار أن خروج الدجال أوّل الآيات العظام المؤذنة بتغيير الأحوال العامة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى ابن مريم، وأن طلوع الشمس من المغرب هو أوّل الآيات العظام المؤذِنة بتغيير الأحوال العلوية، وينتهي ذلك بقيام الساعة، ولعلّ خروج الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب. قال: والحكمة في ذلك أن عند طلوع الشمس من المغرب يغلق باب التوبة، فتخرج الدابة تميّز المؤمن من الكافر، تكميلاً للمقصود من إغلاق باب التوبة، وأوّل الآيات المؤذِنة بقيام الساعة النار التي تحشر الناس) . انتهى. وقال عبد الله بن عمرو: (لا تلبثون بعد يأجوج ومأجوج إلا قليلاً حتى تطلع الشمس من مغربها، فيناديهم مناد: يا أيها الذين آمنوا قد قبل منكم، ويا أيها الذين كفروا قد أغلق عنكم باب التوبة، وجفّت الأقلام وطوت الصحف) . رواه نعيم، وحماد.

وعند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: «يخرج الدجال من أمتي - الحديث وفيه -: فبعث الله عيسى ابن مريم فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قِبَلِ الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال حبة من خير أو إيمان إلا قبضته - وفيه -: فيبقى شرار الناس في خِفّة الطير، وأحلام السباع، لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا. فيتمثّل لهم الشيطان فيأمرهم بعبادة الأوثان، ثم يُنفخ في الصور» . وروى أحمد وغيره من حديث أنس: «إن أمام الدجال سنون خداعات يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلّم فيها الرويبضة» . وفي حديث أبي هريرة عند ابن ماجة قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه يتكلّم في أمره العامّة» . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنا قعودًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الفتن فأكثر في ذكرها حتى ذكر فتنة الأحلاس. قال قائل: وما فتنة الأحلاس؟ قال: «هي هَرَبٌ وحَرْبٌ؛ ثم فتنة السرّاء دَخَنُها من تحت قَدَمَيْ رجل من أهل بيتي يزعم أنه منّي وليس منّي، إنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كَوَرِكٍ على ضِلَعٍ ثم فتنة الدُّهَيْمَاء لا تدع أحدًا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة. فإذا قيل: انقضت تمادت يصبح الرجل فيها مؤمنًا، ويمسي كافرًا. حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من يومه أو من غده» . رواه أبو داود. ولأحمد من حديث

عبد الله بن عمرو: «لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شريطته من أهل الأرض، فيبقى عجاج لا يعرفون معروفًا ولا يُنكرون منكرًا» . وله من حديث أنس: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: لا إله إلا الله» . قوله عز وجل: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) } . عن مجاهد قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} ، قال: زمرة، زمرة، {مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} ، قال: يحبس أوّلهم على آخرهم. وقال ابن عباس: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} يُدفعون. قال البغوي: يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا، ثم يساقون إلى النار، {حَتَّى إِذَا جَاؤُوا} يوم القيامة، {قَالَ} الله لهم: {أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً} ولم تعرفوها حق معرفتها، {أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ؟ قال ابن كثير: أي: فيسئلون عن اعتقادهم وأعمالهم {وَوَقَعَ الْقَوْلُ} وجب العذاب، {عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ} ، قال قتادة: كيف ينطقون ولا حجّة

لهم؟ {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدّقون فيعتبرون. قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (90) } . عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله ما الصور؟ قال: «قرن» . قال: وكيف هو؟ قال: «قرن عظيم، ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لله رب العالمين؛ يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله، ويأمره الله فيمد بها ويطوّلها فلا يفتر وهي التي يقول الله: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} فيسيّر الله الجبال فتكون سرابًا، وترجّ الأرض بأهلها رجًّا وهي التي يقول الله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} فتكون الأرض كالسفينة الموثقة في البحر تضربها الأمواج تكفأ بأهلها، أو كالقنديل المعلّق بالوتر تؤرجحه الأرياح فتميد الناس على ظهرها فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع، ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا وهو الذي يقول الله: {يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ

عَاصِمٍ} ، فبينا هم على ذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر، فرأوا أمرًا عظيمًا فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم خُسف شمسها وقمرها، وانتثرت نجومها ثم كُشطت عنهم» ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك» فقال أبو هريرة: يا رسول الله فمن استثنى الله حين يقول: {فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ} ، قال: «أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يُرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه» . رواه ابن جرير. وعن ابن عباس: قوله: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} يقول: صاغرين ... {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} يقول: قائمة. قال ابن جرير: وإنما قيل: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} لأنها تجمع ثم تسير فيحسب رائيها لكثرتها أنها واقفة، وهي تسير سيرًا حثيثًا، {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ، قال ابن عباس يقول: أحكم كل شيء، {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} فيجازيكم عليه. وعن ابن عباس في قوله: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ} ، يقول: من جاء بلا إله إلا الله

{فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} ، قال: فمنها يصل الخير إليه {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ} وهو الشرك {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} . وقال ابن زيد في قوله: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} ، قال: أعطاه الله بالواحدة عشرًا فصاعدًا. قال البغوي: وهذا حسن. قوله عز وجل: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ... (93) } . عن مجاهد قوله: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} ، قال: في أنفسكم، وفي السماء والأرض والرزق. وقال ابن كثير: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} ، أي: لله الحمد الذي لا يعذّب أحدًا إلا بعد قيام الحجّة عليه والإِنذار إليه، ولهذا قال تعالى: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} ، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} . وقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ، أي: بل هو شهيد على كل شيء. وقد ذكر عن الإِمام أحمد رحمه الله أنه كان ينشد هذين البيتين: إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا ... تقل خلوتُ ولكن قل عليّ رقيبُ ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة ... ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ * * *

الدرس الأول بعد المائتين

الدرس الأول بعد المائتين [سورة القصص] مكية، وهي ثمان وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا

يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) } . * * *

قوله عز وجل: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) } . عن مجاهد: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} ، أي: فِرَقًا: يذبّح طائفة منهم، ويستحيي طائفة، ويعذّب طائفة، ويستعبد طائفة. قال الله عز وجل: ... {يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ، قال السدي: كان من شأن فرعون أنه رأى رؤيا في منامه: أن نارًا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، وأحرقت بيوت مصر، فدعا السحرة، والكهنة، والعافة، والحازة، فسألهم عن رؤياه فقالوا له: يخرج من هذه البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه - يعنون بيت القدس - رجل يكون على وجهه هلاك مصر، فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه، ولا تولد لهم جارية إلا تركت، وقال للقبط: انظروا مملوككم الذين يعلمون خارجًا فأدخلوهم واجعلوا بني إسرائيل يَلُونَ تلك الأعمال القذرة، فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم وأدخلوا غلمانهم، فذلك حين يقول: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} ، يعني: بني إسرائيل حين جعلهم في الأعمال القذرة. وعن قتادة: قوله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} قال: بنو إسرائيل {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} أي: ولاة الأمور {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} أي: يرثون الأرض بعد فرعون وقومه، {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} شيئًا ما حذر القوم. قال: وذكر لنا أن حازيًا حزأ

لعدو الله فرعون، فقال: يولد في هذا العام غلام من بني إسرائيل يسلبك ملكك فتتّبع أبناءهم ذلك العام بقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم حذرًا مما قال له الحازي. قوله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) } . عن قتادة: قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} ، قال: قذف في نفسها. قال السدي: أمر فرعون أن يذبح مَنْ وُلِدَ ببني إسرائيل سنة ويُتركوا سنة، فلما كان في السنة التي يُذبحون فيها حملت بموسى، فلما أرادت وضعه حزنت من شأنه، فأوحى الله إليها: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} وهو النيل، {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} ، قال ابن زيد: لا تخافي عليه البحر، ولا تحزني بفراقه، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، قال ابن إسحاق: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} وباعثوه رسولاً إلى هذا الطاغية، وجاعل هلاكه ونجاة بني إسرائيل مما هم فيه على يديه. قال ابن كثير: كانت دار أم موسى على حافة النيل، فاتّخذت تابوتًا ومهّدت فيه مهدًا، وجعلت ترضع ولدها، فإذا دخل عليها أحد ممن تخافه ذهبت فوضعته في ذلك التابوت وسيّرته في البحر وربطته بحبل عندها، فلما كان ذات يوم دخل عليها من تخافه فذهبت فوضعته في ذلك التابوت، وأرسلته في البحر وذهلت

أن تربطه، فذهب مع الماء واحتمله، حتى مرّ به على دار فرعون، فالتقطه الجواري فاحتملنه فذهبن به إلى امرأة فرعون ولا يدرين ما فيه، فلما كشفت عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه، فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه، وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها، ولهذا قال: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} . قال قتادة: {عَدُوّاً} لهم في دينهم، {وَحَزَناً} لما يأتيهم، {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} . قال البغوي: عاصين آثمين. قال ابن جرير: فلذلك كان لهم موسى عدوًّا وَحَزَنًا. وعن محمد بن قيس قال: قالت امرأت فرعون {قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} ، قال فرعون: قرّة عين لكِ أمّا لي فلا. قال محمد بن قيس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو قال فرعون: قرّة عين لي ولك، لكان لهما جميعًا» . وعن قتادة: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} ، قال: وهم لا يشعرون أن هلكتهم على يديه وفي زمانه. وعن ابن عباس في قوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} ، قال: فارغًا من كل شيء إلا من ذكر موسى، {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أن تقول: يا ابناه، {لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} . قال البغوي: بالعصمة، والصبر، والتثبيت. {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} المصدّقين لوعد الله حين قال لها: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} . وعن ابن عباس: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} ، أي: قُصّي أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكرًا، أحيّ ابني، أو قد أكلته دوابّ البحر وحيتانه؟ ونسيت الذي كان الله وعدها.

وقوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} ، وقال مجاهد: عن بُعْدٍ. قال قتادة: وهم لا يشعرون أنها أخته، قال: جعلت تنظر إليه كأنها لا تريده. قوله عز وجل: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) } . عن مجاهد في قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ} ، قال: لا يقبل ثدي امرأة حتى يرجع إلى أمه. وقال السدي: أرادوا المرضعات فلم يأخذ من أحد من النساء، وجعل النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع، فأبى أن يأخذ، فذلك قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ} أخته: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} ؟ فلما جاءت أمه أخذ منها. قال ابن جريج: فعلقوها حين قالت: {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} ، قالوا: قد عرفته، قالت: إنما أردت هم للملك ناصحون. قال البغوي: وقيل: لما قالت: هل أدلكم على أهل بيت؟ قالوا لها: مَنْ؟ قالت: أمي، قالوا: ولأمك ابن؟ قالت: نعم هارون، وكان هارون ولد في سنة لا يُقتل فيها الولدان، قالوا: صدقت. وقال ابن كثير: فلما رأتهم حائرين فيمن يرضعه قالت: هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون؟ قال ابن عباس: فلما قالت ذلك أخذوها، وشكّوا في أمرها. وقالوا لها: وما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في سرور الملك ورجاء منفعته، فأرسلوها، فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم ذهبوا معها إلى منزلهم فدخلوها به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا، وذهب البشير إلى امرأة الملك

فاستدعت أم موسى، وأحسنت إليها وأعطتها عطاء جزيلاً، وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة، ولكن لكونه وافق ثديها. ثم سألتها آسية أن تقيم عندها فترضعه فأبت عليها وقالت: إن لي بعلاً وأولادًا ولا أقدر على المقام عندك، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت، فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجرت عليه النفقة، والصلات، والكساوي، والإِحسان الجزيل، فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضيّة، قد أبدلها الله بعد خوفها أمنًا في عزّ وجاه، ورزق دار؛ ولهذا جاء في الحديث: «مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير، كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها» ؛ ولم يكن بين الشدّة والفرج إلا القليل، يوم وليلة أو نحوه والله أعلم؛ فسبحان من بيده الأمر، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، الذي يجعل لمن ألقاه بعد كل هم فرجًا، وبعد كل ضيق مخرجًا؛ ولهذا قال تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} ، أي: به، {وَلَا تَحْزَنَ} ، أي: عليه، {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ، أي: فيما وعدها من ردّه إليها وجعله من المرسلين، فحينئذٍ تحقّقت بردّه إليها أنه كائن من رسول المرسلين، فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعًا وشرعًا. قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ، أي: حكم الله في أفعاله، وعواقبها المحمودة التي هو المحمود عليها في الدنيا والآخرة، فربما يقع الأمر كريهًا إلى النفوس وعاقبته محمودة في نفس الأمر، كما قال تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} ، وقال تعالى: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} . انتهى. والله أعلم. * * *

الدرس الثاني بعد المائتين

الدرس الثاني بعد المائتين {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ

وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) } . قال ابن إسحاق: لما بلغ موسى أشده واستوى آتاه الله حكمًا وعلمًا، فكانت له من بني إسرائيل شيعة يسمعون منه ويطيعونه ويجتمعون إليه، فلما استند رأيه وعرف ما هو عليه من الحق، رأى فراق فرعون وقومه على ما هم عليه حقًا في دينه، فتكلّم وعادى، وأنكر حتى ذُكر ذلك منه، وحتى أخافوه وخافهم، حتى كان لا يدخل قرية فرعون إلا خائفًا مستخفيًا، فدخلها يومًا {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ} مسلم، وهذا من أهل دين فرعون كافر، {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدّة في البطش، فغضب بعدوّهما فنازعه، {فَوَكَزَهُ مُوسَى} وكزه قتله منها وهو لا يريد قتله، فقال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} . وعن مجاهد: {فَوَكَزَهُ مُوسَى} ، قال: بجميع كفّه، {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، قال قتادة: عرف المخرج فقال: {ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} ،

{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} . قال ابن كثير: أي: بما جعلت لي من الجاه والعز والنعمة، {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً} ، أي: معينًا، {لِّلْمُجْرِمِينَ} ، أي: الكافرين بك المخالفين لأمرك. وعن ابن عباس قال: أتي فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلاً من آل فرعون، فخذ لنا بحقّنا ولا ترخص لهم في ذلك، قال: ابغوني قاتله ومن يشهد عليه، لا يستقيم أن نقضي بغير بينة ولا ثبت فاطلبوا ذلك، فبينما هم يطوفون لا يجدون شيئًا، إذ مرّ موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيًا، فاستغاثه الإسرائيليّ على الفرعونيّ، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس وكره الذي رأى، فغضب موسى فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بالفرعونيّ، فقال للإسرائيلي لِمَا فعل بالأمس واليوم: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} فنظر الإسرائيليّ إلى موسى بعد ما قال هذا، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس، فخاف الإسرائيليّ أن يكون إياه أراد فحاجّه فقال: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} . وعن قتادة: {إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ} هكذا تقتل النفس بغير نفس. وعن ابن إسحاق {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} أي: ما هكذا يكون الإصلاح. قوله عز وجل: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22) } . قال ابن عباس: انطلق الفرعونيّ الذي كان يقاتل الإسرائيلي بالأمس إلى

قومه، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيليّ حين يقول: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ} ؟ فأرسل فرعون الذّباحين بقتل موسى فأخذوا الطريق الأعظم وهم لا يخافون أن يفوتهم، وكان رجل من شيعة موسى في أقصى المدينة، فاختصر طريقًا قريبًا حتى سبقهم إلى موسى فأخبره الخبر. وعن قتادة: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً} من قتله النفس، {يَتَرَقَّبُ} أن يأخذه الطلب. وقال ابن إسحاق: ذكر لي أنه خرج على وجهه، {خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} ما يدري أي وجه يسلك، وهو يقول: ربِّ نجني من القوم الظالمين، فهيّأ الله الطريق إلى مدين، فخرج من مصر بلا زاد ولا حذاء ولا ظهر ولا درهم. وقال ابن عباس: خرج موسى متوجّهًا نحو مدين، وليس له علم بالطريق، إلا حسن ظنه بربه، فإنه قال: {عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ} . قوله عز وجل: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) } . قال سعيد بن جبير: خرج موسى من مصر إلى مدين وبينها وبينها مسيرة ثمان، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، وخرج فما وصل إليها حتى وقع خفّ قدمه. وقوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} ، قال أبو مالك: تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا ويخلوا لهم البئر.

{قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} ؟ قال ابن إسحاق: وجد لهما رحمة ودخلت فيهما خشية لما رأى من ضعفهما، وغلبة الناس على الماء دونهما؟ فقال لهم: ما خطبكما؟ أي: ما شأنكما؟ {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء } امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لا يقدر أن يمسّ ذلك من نفسه ولا يسقي ماشيته، ونحن ننتظر الناس حتى إذا فرغوا أسقينا ثم انصرفنا. وقوله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا} ، قال ابن عباس: فجعل يغرف في الدلو ماء كثيرًا، حتى كانتا أول الرعاء ريًّا، فانصرفتا إلى أبيهما بغنمهما. قال: وانصرف موسى إلى شجرة فاستظلّ بظلها، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ، وما يسأل الله إلا أكلة، وبرد الماء، وإن خضرة البقل لتُرى في بطنه من الهزال. وعن ابن إسحاق: {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء} قال: واضعة يدها على جبينها. قال السدي: لما رجعت الجاريتان إلى أبيهما سريعًا سألهما فأخبرتاه خبر موسى، فأرسل إليه إحداهما فأتته تمشي على استحياء وهو يُستحى منه، {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} فقام معها فمشت بين يديه فضربتها الريح فنظر إلى عجيزتها، فقال لها موسى: إمشي خلفي ودلّيني على الطريق إن أخطأت، فلما جاء الشيخ ... {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، قال ابن عباس يقول: ليس لفرعون ولا قومه علينا سلطان ولسنا في مملكته. قوله عز وجل: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) } . عن ابن عباس: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ

الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} ، قال: فأحفظته الغيرة أن قال: وما يدريك ما قوّته وأمانته؟ قالت: أما قوَّته: فما رأيت من حين سقى لنا، لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه، وأما أمانته: فإنه نظر حين أقبلت إليه وشخصت له، فلما علم إني امرأة صوّب رأسه فلم يرفعه ولم ينظر إليّ حتى بلّغته رسالتك، ثم قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، ولم يفعل ذلك إلا وهو أمين، فَسُرِّيَ عن أبيها وصدّقها وظنّ به الذي قالت. وقال ابن زيد: {قَالَ} له: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} ، قال: وأيّتهما تريد أن تنكحني؟ قال: التي دعتك، قال: لا ألا وهي بريئة مما دخل نفسك عليها، فقال: هي عندك كذلك فزوّجه. وقال ابن إسحاق: {قَالَ} موسى: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} ، قال: نعم. {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ، فزوّجه وأقام معه يكفيه ويعمل له في رعاية غنمه وما يحتاج إليه منه. وقوله: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} ، أي: لا ظلم عليّ بأن أطالبَ بأكثر منهما. قال ابن عباس: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل. {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ، قال ابن عباس: شهيد. وروى ابن ماجة في سننه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن موسى آجر نفسه ثماني سنين، أو عشر سنين على عفّة فرجه، وطعام بطنه» . والله أعلم. * * *

الدرس الثالث بعد المائتين

الدرس الثالث بعد المائتين {فَلَمَّا قَضَى مُوسَىالْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي

الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) } . * * *

قوله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ... الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (32) } . عن قتادة: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} ، قال: حدث ابن عباس قال: رعى نبيّ الله أكثرها وأطيبها. وقوله تعالى: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} . قال ابن كثير: قالوا: لأن موسى قد اشتاق إلى بلاده وأهله فعزم على زيارتهم في خفية من فرعون وقومه، فتحمَّل بأهله وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره، فسلك بهم في ليلة مطيرة باردة، فنزل منزلاً فجعل كل ما أورى زنده لا يضيء شيئًا، فتعجّب من ذلك، فبينما هو كذلك {آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} أي: رأى نارًا تضيء على بعد، {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} أي: حتى أذهب إليها {لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ} وذلك لأنه قد أضل الطريق، {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} ، أي: قطعة منها، {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} ، أي: تستدفئون بها من البرد. قال

الله تعالى: ... {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ} ، أي: من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب كما قال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} ، والنار وجدها تضطرم في شجرة خضراء في لحف الجبل مما يلي الوادي، فوقف باهتًا في أمرها فناداه ربه، ... {مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي: الذي يخاطبك ويكلّمك هو رب العالمين الفعال لما يشاء، لا إله غيره ولا رب سواه، تعالى وتقدّس وتنزّه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله سبحانه. وقوله: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} ، أي: التي في يدك، كما قرّره على ذلك في قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ} ، والمعنى: أما هذه عصاك التي تعرفها ألقها، {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} وقال: ها هنا. {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} ، أي: تضطرب، {كَأَنَّهَا جَانٌّ} ، أي: في حركتها السريعة مع عظم خلقتها، {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} ، أي: ولم يكن يلتفت، لأن طبع البشرية ينفر من ذلك، فلما قال الله له: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} رجع فوقف في مقامه الأول. ثم قال الله تعالى {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي: إذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها فإنها تخرج تلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق، ولهذا قال: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} ، أي: من غير برص. انتهى ملخصًا. وقوله تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} ، قال ابن زيد: مما دخله من الفَرَقِ من الحيّة والخوف، {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ} ، قال السدي: العصا، واليد. قال ابن جرير يقول: آياتان وحجّتان، {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} ، يقول: إلى

فرعون وأشراف قومه، حجّة عليهم ودلالة على حقيقة نبوّتك يا موسى، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} . قوله عز وجل: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) } . عن ابن إسحاق: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} ، أي: يبيّن لهم عنيّ ما أكلّمهم به. وعن مجاهد: ... {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} ، قال: عونًا. وقال ابن زيد: لأن الاثنين أحرى أن يُصَدَّقا من واحد، {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} ، قال مجاهد: حجّة، {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} . قال البغوي: أي: لا يصلون إليكما بقتل ولا سوء، لمكان آياتنا. {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ * فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ} واضحات، {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى} . قال ابن كثير: أي: مفتعل مصنوع، {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} الذي تدعونا إليه، {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ} وسيفصل بيني وبينكم ولهذا قال: {وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي: العقبى المحمودة في الدنيا والآخرة، {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} .

قوله عز وجل: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) } . قال ابن كثير: أمر فرعون وزيره هامان أن يوقد له على الطين، يعني يتّخذ له آجُرًّا لبناء الصرح، وهو القصر المنيف الرفيع العالي، كما قال في الآية الأخرى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} ، وذلك لأن فرعون بنى هذا الصرح الذي لم يُر في الدنيا بناء أعلى منه، وإنما أراد بهذا أن يظهر لرعيتّه تكذيب موسى فيما يزعمه من دعوى إله غير فرعون، ولهذا قال: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ، أي: في قوله: أن ثَمّ ربًّا غيري. وقوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} ، أي: طغوا وتجبّروا وأكثروا في الأرض الفساد، واعتقدوا أنه لا قيامة ولا مَعَاد، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} ، ولهذا قال تعالى: ها هنا: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} ، أي: أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة فلم يبق منهم أحد.

{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} لمن سلك وراءهم وأخذ بطريقتهم في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ} ، أي: فاجتمع عليهم خزي الدنيا موصولاً بذلّ الآخرة كما قال تعالى: {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} . وقوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} ، أي: وشرع الله لعنتهم ولعنة ملكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} ، قال البغوي: {مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} الملعونين. وقال ابن عباس من المشوّهين بسواد الوجوه وزرقة العيون. وقال قتادة: لعنوا في الدنيا والآخرة، قال: هو كقوله: {وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} . * * *

الدرس الرابع بعد المائتين

الدرس الرابع بعد المائتين {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) } .

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) } . قال البغوي: قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} ، يعني: قوم نوح، وعادًا، وثمود وغيرهم، كانوا قبل موسى، {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} ، يعني: ليبصروا بذلك الكتاب ويهتدوا به {وَهُدًى} من الضلال لمن عمل به، {وَرَحْمَةً} لمن آمن به، {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} بما فيه من المواعظ والبصائر. {وَمَا كُنتَ} يا محمد {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} يعني: بجانب الجبل الغربي. قال قتادة، والسدي: قال ابن عباس: يريد حيث ناجى موسى ربه، {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} يعني: عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه، {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} الحاضرين ذلك المقام فتذكره من ذات نفسك، {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً} خلقنا أممًا من بعد موسى عليه السلام {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} ، أي: طالت عليهم المهلة فنسوا عهد الله وميثاقه وتركوا أمره، وذلك أن الله تعالى قد عهد إلى موسى وقومه عهودًا في محمد - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به، فلما طال عليهم العمر وخلفت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها.

{وَمَا كُنتَ ثَاوِياً} مقيمًا في أهل مدين كمقام موسى وشعيب فيهم، {تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} تذّكرهم بالوعد والوعيد. قال مقاتل يقول: لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مدين، فتقرأ على أهل مكة خبرهم ... {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي: أرسلناك رسولاً، وأنزلنا عليك كتابًا فيه هذه الأخبار فتتلوها عليهم، ولولا ذلك لما علمتها ولم تخبرهم بها، {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} بناحية الجبل الذي كلّم الله عليه موسى، {إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} قال ابن كثير: أي: ما كنت مشاهدًا لشيء من ذلك، ولكن الله تعالى أوحاه إليك وأخبرك به رحمة منه بك وبالعباد بإرسالك إليهم {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . قوله عز وجل: {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) } . قال البغوي: {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ} عقوبة ونقمة، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الكفر والمعصية {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا} هلاّ {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . وجواب (لولا) محذوف: أي: لعاجلناهم بالعقوبة،

يعني: لولا أنهم يحتجّون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم؛ وقيل: معناه لَمَا بعثناك إليهم رسولاً، ولكن بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. {فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا} ، يعني: محمد - صلى الله عليه وسلم -، {قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} من الآيات، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} . قال مجاهد: يهود تأمر قريشًا أن تسأل محمدًا مثل ما أوتي موسى، يقول الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: قل: لقريش يقولوا لهم: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ} . وعن قتادة: قوله: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} ، قالت ذلك أعداء الله اليهود للإنجيل والفرقان. وعن الضحاك: {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} يعنون: الإنجيل والفرقان. وقال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن القوم الذين لو عذّبهم قبل قيام الحجّة عليهم لاحتجّوا بأنهم لم يأتهم رسول، أنهم لما جاءهم الحق من عنده على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، على وجه التعنّت والعناد، ... {لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} يعنون والله أعلم: من الآيات الكثيرة. {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ} ؟ أي: أو لم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة؟ وقالوا: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} ، أي: تعاونا، {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} ، أي: بكل منهما كافرون؛ ولشدّة التلازم والتصاحب والمقاربة بين موسى وهارون، دلّ ذكر أحدهما على الآخر. قال: وأما من قرأ: {سحران تظاهرا} ، فعن ابن عباس: يعنون: التوراة، والقرآن. انتهى ملخصًا. وقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، قال ابن زيد: هو أهدى من هذين الكتابين الذي بعث به موسى والذي بعث به محمد - صلى الله عليه وسلم -.

وقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} ، قال ابن كثير: أي: فإن لم يجيبوك عما قلت لهم ولم يتّبعوا الحق {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} أي بلا دليل ولا حجّة {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} أي: بغير حجّة مأخوذة من كتاب الله، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . وعن قتادة: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} ، قال: وصلّ الله لهم القول في هذا القرآن يخبرهم: كيف صنع بمن مضى وكيف هو صانع. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . قوله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) } . عن مجاهد قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ} إلى قوله {الْجَاهِلِينَ} قال هم: مسلمة أهل الكتاب. وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدّى حق الله وحقّ مواليه، ورجل كانت له أمة فأدّبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوّجها» . وقال ابن إسحاق: ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلّموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما أرادوا، دعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم

القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدّقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش فقالوا لهم: خيّبكم الله من ركب، بعثكم مَنْ وراءكم مِنْ أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدّقتموه فيما قال؟ ! ما نعلم ركبًا أحمق منكم، أو كما قالوا لهم. فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نَأْلُ أنفسنا خيرًا، إلى أن قال: ويقال: والله أعلم أن فيهم نزلت هذه الآيات: ... {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} . * * *

الدرس الخامس بعد المائتين

الدرس الخامس بعد المائتين {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ (66) فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا

يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) } . عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عمّ قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله» ، فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلّمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والله لأستغفرنّ لك ما لم أُنْه عنك» ، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى} ، وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} » . رواه ابن جرير وغيره. قوله عز وجل: {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) } . عن ابن عباس قوله: {إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} ، قال: هم أناس من قريش قالوا لمحمد: إن نتّبعك يتخطّفنا الناس فقال الله: {أَوَلَمْ نُمَكِّن

لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} ، قال قتادة: يقول: أو لم يكونوا آمنين في حرمهم لا يُغْزَوْنَ فيه ولا يخافون، {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} ، قال ابن عباس: ثمرات الأرض. قال ابن كثير: أي: من سائر الثمار مما حوله من الطائف وغيره، وكذلك المتاجر والأمتعة {رِزْقاً مِن لَّدُنَّا} ، أي: من عندنا، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ولهذا قالوا ما قالوا. وقال ابن زيد في قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ، قال: البطر: أشر أهل الغفلة، وأهل الباطل، والركوب لمعاصي الله؛ وقال: ذلك البطر في النعمة. {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً} ، يقول: فتلك دور القوم الذين أهلكناهم خربت فلم يعمر منها إلا أقلّها، {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} . وعن قتادة {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} . وأم القرى: مكة، وبعث الله إليهم رسولاً محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. قال البغوي: وخصّ الأمّ ببعثة الرسول فيها، لأن الرسول يبعث إلى الأشراف، والأشراف يسكنون المدائن والمواضع التي هي أمّ ما حولها. وعن ابن عباس: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ، قال الله: لم يهلك قرية بإيمان، ولكنه يهلك القرى بظلم إذا ظَلَمَ أهلها. قوله عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) } . عن قتادة قوله: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ} ، قال: هو المؤمن

سمع كتاب الله فصدّق به وآمن بما وعد الله فيه، {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وهو هذا الكافر ليس والله كالمؤمن، {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} أي: في عذاب الله. وقال مجاهد: أهل النار أُحْضِرُوها. قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) } . قال البغوي: قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} في الدنيا أنهم شركائي، {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} وجب عليهم العذاب، وهم رؤوس الضلالة. {رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} أي: دعوناهم إلى الغيّ وهم الأتباع، {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} أضللناهم كما ضللنا، {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} منهم {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} . بريء بعضهم من بعض وصاروا أعداء، كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} . {وَقِيلَ} للكفار: {ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ} ، أي: الأصنام لنخلّصكم من العذاب، {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} لم يجيبوهم، {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} . وجواب (لو) محذوف على تقدير: لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما رأوا العذاب. وقال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عما يوبّخ به الكفار المشركين يوم القيامة حيث يناديهم {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ؟ يعني: الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدار الدنيا من الأصنام والأنداد، هل ينصرونكم أو تنصرونه؟

وهذا على سبيل التقريع والتهديد، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} . قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ (66) فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) } . قال ابن كثير: النداء الأول عن سؤال التوحيد، وهذا فيه إثبات النبوّات ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم؟ وكيف كان حالكم معهم؟ وهذا كما يسأل العبد في قبره: مَنْ ربّك؟ ومن نبيّك؟ وما دينك؟ فأما المؤمن فيشهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأما الكافر فيقول: هاه، هاه لا أدري، ولهذا لا جواب له يوم القيامة، لأن من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ولهذا قال تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ} ، قال مجاهد: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ} الحجج فهم لا يتساءلون بالأنساب. قال البغوي: {فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ} : لا يجيبون. وقال قتادة لا يحتجّون. وقيل: يسكتون لا يسأل بعضهم بعضًا. وقوله: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} ، أي: في الدنيا {فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} أي: يوم القامة. و (عسى) من الله موجِبة، فإن هذا واقع بفضل الله ومنّته لا محالة. قوله عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ

وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) } . قال ابن كثير: يخبر الله تعالى: أنه المنفرد بالخلق والاختيار، وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب. قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} أي: ما يشاء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالأمور كلها خيرها وشرها بيده ومرجعها إليه. وقوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ، نفي على أصح القولين، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . إلى أن قال: ولهذا قال: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، أي: من الأصنام، والأنداد التي لا تخلق ولا تختار شيئًا، ثم قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، أي: هو المنفرد بالألوهية فلا معبود سواه، كما لا رب يخلق ما يشاء ويختار سواه. {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} ، أي: في جميع ما يفعله هو المحمود عليه بعدله وحكمته ورحمته، {وَلَهُ الْحُكْمُ} ، أي: الذي لا معقّب له لقهره وغلبته وحكمته ورحمته، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، أي: جميعكم يوم القيامة فيجزى كل عامل بعمله. قوله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) } .

قال في جامع البيان: ختم الأولى بقوله: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} والثانية بقوله: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} لمناسبة قوة السامعة بالليل وقوة الباصرة بالنهار. قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) } . قال ابن كثير: وهذا أيضًا نداء ثان على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد مع الله إلهًا آخر، يناديهم الرب تعالى على رؤوس الأشهاد: {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ، أي: في دار الدنيا، {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} ، قال مجاهد: يعني: رسولاً، {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} ، أي: على صحة ما ادّعيتموه من أن لله شركاء. {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} ، أي: لا إله غيره، فلم ينطقوا ولا يُحْرُو جوابًا، {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} . أي: ذهبوا فلم ينفعوهم. * * *

الدرس السادس بعد المائتين

الدرس السادس بعد المائتين {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ

هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (85) وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) } . عن قتادة: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى} كنا نحدث أنه كان ابن عمه أخي أبيه، وكان يسمى النور من حسن صوته بالتوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامريّ فأهلكه البغي، إنما بغى عليهم بكثرة ماله. وعن مجاهد: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} قال: مفاتح من جلود كمفاتح العيدان. وعن ابن عباس في قوله: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} ، قال: لتثقل بالعصبة. قال قتادة: ذكر لنا أن العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين. وعن مجاهد في قوله: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ، قال: المتبذّخين الأشِرين البَطِرين، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم. وقال: هو: فرح البغي. وعن ابن عباس: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، قال: أن تعمل فيها لآخرتك. وعن قتادة: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، قال: طلب الحلال. قال ابن

كثير: وقوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل، والنعمة الطائلة في طاعة ربك، والتقرّب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة. {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزَوْرِك عليك حقًا، فآت كل ذي حق حقه {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي: أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} أي: لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض وتسيء إلى خلق الله، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} . وقال ابن زيد في قوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ، قال: لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا. وقرأ: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} الآية. وعن مجاهد: {وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} كقوله: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} ، زرقًا سود الوجوه، والملائكة لا تسأل عنهم قد عرفتهم. وقال الحسن: لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ. قوله عز وجل: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) } . عن مجاهد: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} ، قال: على براذين بيض عليها سروج الأرجوان عليهم المعصفرات. وعن قتادة: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} . (ذُكر لنا أنه يخسف به كل يوم قامة، وأنه يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة) . {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ} ، أي: جند ينصرونه، وما عنده منعة يمتنع بها من الله، {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ

يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ} ، قال: ألم تر. وقال مجاهد: ألم تعلم. وقال ابن كثير: قال بعضهم: معناه ويلك اعلم وقواه. وقال: فلما خسف به أصبحوا يقولون: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} ، أي: ليس المال بدالّ على رضى الله عن صاحبه، فإن الله يعطي ويمنع ويضيّق ويوسّع، يخفض ويرفع، وله الحكمة التامّة والحجّة البالغة. وهذا كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم، وإن الله يعطي المال من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحبّ) . {لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} ، أي: لولا لطف الله بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا كما خسف به، لأن وددنا أن نكون مثله. {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، يعنون: أنه كان كافرًا ولا يفلح الكافرون عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة.

قوله عز وجل: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) } . عن مسلم البطين: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً} قال: العلوّ: التكبر في الأرض بغير الحق، والفساد: الأخذ بغير الحق. وعن ابن جريج قوله: {لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ} قال: تعظيمًا وتجبّرًا {وَلَا فَسَاداً} عملاً بالمعاصي. وعن قتادة: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي: الجنة للمتقين. وقوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} . قال ابن كثير: أي: ثواب الله خير من حسنة العبد، فكيف والله يضاعفه أضعافًا كثيرة؟ وهذا مقام الفضل؛ ثم قال: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهذا مقام العدل. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (85) وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) } . عن مجاهد في قوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، قال: إلى الجنة. وقال الحسن: أي والله إن له لمعادًا يبعثه الله يوم القيامة ويدخله الجنة.

وعن ابن عباس: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، يقول: لرادّك إلى الجنة، ثم سائلك عن القرآن؛ وعنه {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال: إلى مكة. قال ابن كثير: ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسرّ ذلك تارة برجوعه إلى مكة، وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلى أن قال: ولهذا فسّر ابن عباس تارة أخرى قوله: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} بالموت، وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت، وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين الإنس والجن. وقال البغوي: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} ، أي: يعلم من جاء بالهدى، وهذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنك لفي ضلال مبين، فقال الله عز وجل: {قُل} لهم: {رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى} يعني: نفسه، {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، يعني: المشركين. والله أعلم بالفريقين. قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} ، أي: يوحى إليك القرآن، {إِلا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} ، قال الفراء: هذا من الاستثناء المنقطع معناه: لكن ربك رحمك فأعطاك القرآن، {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ} ، أي: معيناً لهم على دينهم. وقال مقاتل: وذلك حين دُعي إلى دين آبائه، فذكّره الله نعمه ونهاه عن مظاهرهم على ما هم عليه، {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ} ، يعني: القرآن، {بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} إلى معرفته وتوحيده {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الخطاب في الظاهر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به أهل دينه، أي: لا تظاهروا الكافرين ولا توافقوهم.

وقال ابن كثير: وقوله: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، أي: لا تليق العبادة إلاَّ له ولا تنبغي الإلهية إلاَّ لعظمته. وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، إخبار بأنه الدائم، ثم الباقي الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} فعبّر بالوجه عن الذات وهكذا قوله ها هنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، أي: إلاَّ إياه. وقوله: {لَهُ الْحُكْمُ} ، أي: الملك والتصرّف ولا معقّب لحكمه. ... {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، أي: يوم معادكم فيجزيكم بأعمالكم. * * *

الدرس السابع بعد المائتين

الدرس السابع بعد المائتين [سورة العنكبوت] مكية، وهي تسع وستون آية بسم الله الرحمن الرحيم {آلم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ (4) مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ

خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) } . * * *

قوله عز وجل: {آلم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ

يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ (4) مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) } . قال البغوي: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ} أَظَنَّ الناسُ، {أَنْ يُتْرَكُوا} بغير اختبار ولا ابتلاء، {أَنْ يَقُولُوا} ، أي: بأن يقولوا، {آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم؟ كلا لنختبرنهم ليبَّين المخلص من المنافق، والصادق من الكاذب. وعن مجاهد: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} قال: ابتلينا الذين من قبلهم. وفي الحديث الصحيح: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل، فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء» . وقوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} . قال البغوي: والله أعلم بهم قبل الاختبار. ومعنى الآية: وليظهرنّ الله الصادقين من الكاذبين حتى يُوجِدَ معلومَه، وعن قتادة قوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} أي: أهل الشرك {أَن يَسْبِقُونَا} ، قال مجاهد: أن يعجزونا، {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} . قال ابن كثير: بئس ما يظنون. {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ} ، أي: في الدار الآخرة وعمل الصالحات، ورَجَا ما عند الله من الثواب الجزيل، فإن الله سيحقق له. رجاءه ويوفّيه عمله كاملاً موفّرًا، فإن ذلك كائن لا محالة لأنه سميع الدعاء بصير بكل الكائنات، ولهذا قال تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . وقوله تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} ، أي: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فإنما يعود نفع عمله على نفسه، فإن الله تعالى غني عن أفعال العباد، ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئًا، ولهذا قال تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . قال الحسن البصري: أن الرجل ليجاهد، وما ضرب يومًا من الدهر بسيف. ثم أخبر تعالى أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم ومع برّه وإحسانه بهم، يجازي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أحسن الجزاء، وهو: أنه يكفَّر عنهم أسوأ الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون. فيقبل القليل من الحسنات ويثب عليها الواحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويجزي على السيّئة بمثلها أو يعفو ويصفح، كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} ، وقال ها هنا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قوله عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) } . عن قتادة: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} إلى قوله: {فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، قال: نزلت في سعد بن أبي وقاص لما هاجر قالت أمه: والله لا يُظِلُّني بيت حتى يرجع، فأنزل الله في ذلك أن يحسن إليهما ولا يطيعهما في الشرك. وروى مسلم وغيره عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: نزلت في أربع آيات، فذكر قصته وقال: قالت أم سعد: أليس الله قد أمرك بالبر؟ والله لا أَطْعَمُ طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أموت أو تكفر. قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها، فنزلت: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا

لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . قال البغوي: ثم إنها مكثت يومًا وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت قد جهدت، ثم مكثت يومًا آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها فقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره: بالبر بوالديه والإحسان إليهما، وأن لا يطيعهما في الشرك، فذلك قوله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} . جاء في الحديث: «لا طاعة لمخلوق في معصية الله الخالق» .

ثم أوعد بالمصير إليه فقال: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} ، أي: في زمرة الصالحين. وهم: الأنبياء، والأولياء. قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {وَالَّذِينَ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، وذاك أن يؤدّوا فرائض الله ويجتنبوا محارمه، {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} في مدخل الصالحين. وذلك: الجنة. قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) } . عن ابن عباس قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} ، قال: أن يرتدّ عن دين الله إذا أوذي في الله. وعن مجاهد قوله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} ، قال: أناس يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا، فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الآخرة. قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) } . عن مجاهد قوله: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} ، قال: قول كفار قريش

بمكة لمن آمن منهم، يقول: قالوا: لا نبعث نحن ولا أنتم، فاتّبعونا إن كان عليكم شيء فهو علينا. وعن قتادة: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} ، أي: أوزارهم، {وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} ، يقول: أوزار من أضلّوا. وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» . وقوله تعالى: {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ، سؤال توبيخ وتقريع. * * *

الدرس الثامن بعد المائتين

الدرس الثامن بعد المائتين {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا

لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ

حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (15) } . عن ابن عباس قال: بعث نوح وهو لأربعين سنة، بث في قومه ألف سنة إلاَّ خمسين عامًا، وعاش بعد الطوفان ستين عامًا، حتى كثر الناس وفشوا. وعن مجاهد قال: قال لي ابن عمر: كم لبث نوح في قومه؟ قال: قلت: ألف سنة إلاَّ خمسين عامًا، قال: فإن الناس لم يزالوا في نقصان من أعمارهم وأحلامهم وأخلاقهم إلى يومك هذا. وقوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} ، قال قتادة: أبقاها الله آية للناس بأعلى الجوديّ. وقال ابن كثير: أو نوعها، وهذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} ، أي: وجعلنا نوعها رجومًا، فإن التي يرمى بها ليست هي زينة للسماء. قوله عز وجل: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ

الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) } . قال البغوي: قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيم} ، أي: وأرسلنا إبراهيم، ... {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} أطيعوه، وخافوه، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} أصنامًا، {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} تقولون كذبًا. قال مقاتل: تصنعون أصنامًا بأيدكم فتسمّونها آلهة، {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} لا يقدرون أن يرزقوكم {فَابْتَغُوا} فاطلبوا، {عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} مثل: عاد، وثمود وغيرهم فأهلكوا، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} . قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) } . عن قتادة في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} بالبعث بعد الموت. {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} خلق السماوات، والأرض، {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} ، أي: البعث بعد الموت. وعن ابن عباس قوله: {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} ، قال: هي: الحياة بعد الموت، وهو: النشور.

قال البغوي: فكما لم يتعذّر عليه إحداثها مبتدئًا، لا يتعذّر عليه إنشاؤها معيدًا، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} تُرَدّون. وقال ابن زيد في قوله: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء} قال: لا يعجزه أهل الأرضين في الأرضين، ولا أهل السماوات في السماوات إن عصوه، {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} . قال البغوي: أي: {مِن وَلِيٍّ} يمنعكم مني {وَلَا نَصِيرٍ} ينصركم من عذابي. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ} ، أي: بالقرآن والبعث، {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي} أي: لا نصيب لهم فيها {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، موجع: وهو عذاب النار. قوله عز وجل: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ... (27) } . وعن قتادة قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} قوم إبراهيم، {إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} ، قال كعب: ما حرقت منه إلا وثاقه، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

وعن قتادة: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} ، قال: صارت كل خلّة في الدنيا عداوة على أهلها يوم القيامة إلا خلّة المتّقين. وعن ابن عباس قوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} ، قال: صدّقه لوط، {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} ، قال: هو إبراهيم. وقال قتادة: هاجرا جميعًا من كوثى. وهي من ثواد الكوفة إلى الشام. وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} . عن قتادة قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} ، قال: عافية وعملاً صالحًا وثناء حسنًا، فلست بِلاَقٍ أحدًا من الملأ إلا يرضى إبراهيم ويتولاه. {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} . قوله عز وجل: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) } . عن عمرو بن دينار في قوله: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ} ، قال: ما نزل ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط. وعن أم هانئ قالت: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} ، قال: «كانوا يحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم» . رواه ابن جرير وغيره.

قوله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) } . عن ابن عباس قوله: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} إلى قوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا} ، قال: فجادل إبراهيم الملائكة في قوم لوط أن يتركوا، قال: فقال: أرأيتم إن كان فيها عشر أبيات من المسلمين أتتركونهم؟ فقالت الملائكة: ليس فيها عشر أبيات، ولا خمسة، ولا أربعة، ولا ثلاثة، ولا اثنان. قال: فحزن على لوط وأهل بيته فـ {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} فذلك قوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} ، فقالت الملائكة: يا إبراهيم أعرض عن هذا، إنه قد جاء أمر ربك، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود. قوله عز وجل: {وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) } .

عن قتادة قوله: {وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} ، قال: بالضيافة مخافة عليهم مما يعلم من شر قومه. وعن مجاهد قوله: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً} ، قال: عبرة. وقال ابن عباس: الآية البيّنة هي آثار منازلهم الخربة. قوله عز وجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) } . قال ابن كثير: وقوله: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} نهاهم عن العبث في الأرض بالفساد. وهو: السعي فيها والبغي على أهلها، وذلك أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، ويقطعون الطريق على الناس، هذا مع كفرهم بالله ورسوله، فأهلكهم الله برجفة عظيمة زلزلت عليهم بلادهم، وصيحة أخرجت القلوب من حناجرها، وعذاب يوم الظلّة الذي أزهق الأرواح من مستقرّها، إنه كان عذاب يوم عظيم. قوله عز وجل: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) } .

قال البغوي: {وَعَاداً وَثَمُودَ} ، أي: وأهلكنا عادًا وثمود. وعن قتادة وكانوا متبصّرين في ضلالتهم، معجبين بها. قال الفراء: كانوا عقلاء ذوي بصائر. وقوله تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} أي: فائتين من عذابنا {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} وهم عاد {وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} يعني: ثمود، {وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} وهو قارون وأصحابه، {وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا} وهم فرعون وهامان وجنودهما، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . * * *

الدرس التاسع بعد المائتين

الدرس التاسع بعد المائتين {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ

بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) } . * * *

قوله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (44) } . عن ابن عباس قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} إلى آخر الآية، قال: ذلك مثل ضربه الله لمن عبد غيره. وقال قتادة: هذا مثل ضربه للمشرك، مثل إلهه الذي يدعوه من دون الله كمثل بيت العنكبوت: واهن ضعيف لا ينفعه. وقال ابن زيد: لا يغني أولياؤهم عنهم شيئًا، كما لا يغني العنكبوت بيتها هذا. قال ابن كثير: ثم قال تعالى متوعدًا لمن عبد غيره وأشرك به: أنه تعالى يعلم ما هم عليه من الأعمال، ويعلم ما يشركون به من الأنداد، وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم، ثم قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} ، أي: وما يفهمها ويتدبّرها إلا الراسخون في العلم المتضلّعون منه. وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} ، قال: «العالم من لم يغفل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» . رواه

البغوي. وعن عمرو بن مرة قال: ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني لأني سمعت الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} . وقوله تعالى: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} . قال البغوي: أي: للحق وإظهار الحق، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} في خلقها، {لَآيَةً} لدلالة، {لِّلْمُؤْمِنِينَ} على قدرته وتوحيده. قوله عز وجل: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) } . عن ابن عباس قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} ، يقول: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله؛ وقال: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدًا. وعن عبد الله بن ربيعة قال: قال عبد الله بن عباس: هل تدري ما قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، قال: قلت: نعم، التسبيح، والتحميد، والتكبير في الصلاة، وقراءة القرآن ونحو ذلك، قال: لقد قلت قولاً عجبًا وما هو كذلك، ولكنه إنما يقول: ذكر الله إياكم عند ما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه، أكبر من ذكركم إياه. وعن ابن عون في قول الله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر. وعن ابن عباس في قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، قال: لها وجهان: ذكر الله أكبر مما سواه، وذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصحيح أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان

أحدهما أعظم من الآخر، ولما فيها من ذكر الله أكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} . فيجازيكم. قوله عز وجل: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) } . قال ابن زيد في قوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قال: ليست بمنسوخة. انتهى. وهذه الآية كقوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . قال ابن كثير: وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ، أي: حادوا عن وجه الحق، وعموا عن واضح الحجّة، وعاندوا وكابروا فحينئذٍ ينتقل من الجدال إلى الجلاد. وعن سعيد: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ * إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ، قال: أهل الحرب من لا عهد له جادله بالسيف. وعن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية فيفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا، وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون» . رواه ابن جرير وغيره.

وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} . قال البغوي: وكذلك يعني كما أنزلنا إليهم الكتاب: {أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} ، يعني: مؤمني أهل الكتاب، {وَمِنْ هَؤُلَاء} ، يعني: أهل مكة: {مَن يُؤْمِنُ بِهِ} وهم مؤمنو أهل مكة، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} وذلك أن اليهود وأهل مكة عرفوا أن محمدًا نبيّ، والقرآن حقّ فجحدوا. وقال قتادة: الجحود إنما يكون بعد المعرفة. {وَمَا كُنتَ تَتْلُو} يا محمد {مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} يعني: لم تكن تقرأ ولا تكتب قبل الوحي، {إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} ، قال قتادة: إذًا لقالوا إنما هذا شيء تعلّمه محمد وكتبه. وقال الحسن في قوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} القرآن، {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، يعني المؤمنين. قال ابن كثير: ولهذا جاء في صفة هذه الأمة: أناجيلهم في صدورهم. قوله عز وجل: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) } .

قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن المشركين في تعنّتهم وطلبهم {آيَاتٌ} يعنون: ترشدهم إلى أن محمدًا رسول الله كما أتى صالح بناقته، قال الله تعالى: {قُلْ} يا محمد: {إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ} أي: إنما أمر ذلك إلى الله. وقوله: {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: إنما بعثت نذيرًا لكم، بيّن النذارة فعليّ أن أبلغكم رسالة الله تعالى، و {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً} . ثم قال تعالى مبيّنًا كثرة جهلهم وسخافة عقلهم حيث طلبوا آيات تدلّهم على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما جاءهم، وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي هو أعظم من كل معجزة، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته، بل عن معارضة عشر سور من مثله، بل عن معارضة سورة منه، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أي: أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم ، الذي فيه خبر ما قبلهم، ونبأ ما بعدهم، وحكم ما بينهم، وأنت رجل أمّيّ لا تقرأ ولا تكتب، ولم تخالط أحدًا من أهل الكتاب، فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ببيان الصواب مما اختلفوا فيه وبالحق الواضح؟ انتهى ملخصًا. وذكر الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «ما من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» . وقال البغوي: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} في إنزال القرآن: {لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، أي: تذكيرًا وعظة لمن آمن وعمل بها، {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ

شَهِيداً} ، أنيّ رسوله وهذا القرآن كتابه، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} ، قال ابن عباس: بغير الله. وقال قتادة: بعبادة الشيطان، {وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . قال ابن كثير: في يوم القيامة سيجزيهم على ما فعلوا ويقابلهم على ما صنعوا في تكذيبهم بالحق واتباعهم الباطل، كذّبوا برسل الله مع قيام الأدلّة على صدقهم، وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل، فسيجزيهم على ذلك إنه حكيم عليم. * * *

الدرس العاشر بعد المائتين

الدرس العاشر بعد المائتين {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ

فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) } . * * *

قوله عز وجل: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (55) } . قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن جهل المشركين في استعجالهم عذاب الله أن يقع بهم، وبأس الله أن يحلَ عليهم، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، وقال ها هنا: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ} ، أي: لولا ما حتّم الله من تأخير العذاب إلى يوم القيامة، لجاءهم العذاب قريبًا سريعًا كما استعجلوه، ثم قال: {وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً} ، أي: فجأة، {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} ، أي: يستعجلون العذاب، وهو واقع بهم لا محالة. {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . قال ابن جرير: يقول جلّ ثناؤه: ويقول الله لهم {ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من معاصي الله وما يسخطه فيها. قوله عز وجل: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّن م ِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) } . قال البغوي: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} . قال مقاتل والكلبي: نزلت في ضعفاء مسلمي مكة، يقول: إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها إلى أرض المدينة، {إِنَّ أَرْضِي} يعني: المدينة، {وَاسِعَةٌ} آمنة. قال مجاهد: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} فهاجروا وجاهدوا فيها. وقال سعيد بن جبير: إذا عُمل في الأرض بالمعاصي فاخرجوا منها، فإن أرضي واسعة. وقال عطاء: إذا أُمرتم بالمعاصي فاهربوا فإن أرضي واسعة، وكذلك يجب على كل من كان في بلد يُعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك، أن يهاجر إلى حيث تتهيّأ له العبادة. انتهى. وعن أبي مجلز في هذه الآية: {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} ، قال: من الدواب ما لا يستطيع أن يدّخر لغد، فوقف رزقه كل يوم حتى يموت. وعن أبي هريرة مرفوعًا: «سافروا تربحوا، وصوموا تصحّوا، واغزوا تغنموا» . رواه أحمد. وروى البغوي بسنده عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أيها الناس ليس من شيء يقرّبكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به، وليس من شيء يقربكم إلى النار ويباعدكم عن الجنة إلا وقد نهيتكم عنه،

وإن الروح الأمين قد نفث في روعي: إنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقّوا الله وأجمِلوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته» . قوله عز وجل: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) } . قال ابن كثير: يقول تعالى مقرّرًا أنه لا إله إلا هو، لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره، معترفون بأنه المستقلّ بخلق السماوات والأرض، والشمس والقمر، وتسخير الليل والنهار، وأنه الخالق الرازق لعباده ومقدرّ آجالهم واختلافها واختلاف أرزاقهم، ففاوت بينهم، فمنهم الغنيّ والفقير، وهو العليم بما يصلح كُلاًّ منهم، ومَنْ يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستقلّ بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها، فإذا كان الأمر كذلك فلم يُعبد غيره ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته؛ وكثيرًا ما يقرّر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية، وقد كان المشركون يعترفون بذلك، كما يقولون في تلبيتهم: لبيّك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. انتهى. وقوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ

الْحَيَوَانُ} ، قال مجاهد: لا موت فيها. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ، أي: لآثروا ما يبقى على ما يفنى. قوله عز وجل: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) } . ذكر ابن إسحاق عن عكرمة بن أبي جهل أنه لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة ذهب فارًا منها، فلما ركب في البحر ليذهب إلى الحبشة اضطربت بهم السفينة فقال أهلها: يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء، فإنه لا ينجي ها هنا إلا هو، فقال عكرمة: والله لئن كان لا ينجي في البحر غيره فإنه لا ينجي في البرّ أيضًا غيره. اللهم لك عليّ عهد لئن خرجت لأذهبنّ فلأضعنّ يدي في يد محمد، فلأجدنّه رؤوفًا رحيمًا، فكان كذلك. وقال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها في البحر. وقال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها في البحر. وقوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ، أي: لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتّع بما يتمتّعون به في العاجلة، من غير نصيب في الآخرة. وعن قتادة في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ

حَوْلِهِمْ} ، قال: كان لهم في ذلك آية: إن الناس يغزون ويتخطفون وهم آمنون. {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} ، أي: بالشرك، {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} يجحدون؟ . وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ} ، أي: لا أحد أشدّ عقوبة ممن كذب على الله أو كذّب بكتابه، فالأول مفترٍ والثاني مكذّب، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} . {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} . قال ابن كثير: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} ، يعني: الرسول وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ، أي: طريقنا في الدنيا والآخرة. وقال الحسن: أفضل الجهاد مخالفة الهوى. قال البغوي: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} بالنصر والمعونة في دنياهم، وبالثواب والمغفرة في عقابهم. * * *

الدرس الحادي عشر بعد المائتين

الدرس الحادي عشر بعد المائتين [سورة الروم] مكية، وهي ستون آية بسم الله الرحمن الرحيم {آلم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا

بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) } . * * *

قوله عز وجل: {آلم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) } . قال ابن عباس: كان المسلمون يحبون أن تغلب الروم لأنهم أهل الكتاب، وكان المشركون يحبون أن تغلب فارس لأنهم أهل أوثان، قال فذكروا ذلك لأبي بكر، فذكره أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أما إنهم سَيُهْزَمُون» ، فذكر ذلك أبو بكر للمشركين قال: فقالوا: أفنجعل بيننا وبينكم أجلاً؟ فإن غلبوا كان لك كذا، وكذا، وإن غلبنا كان لنا كذا، وكذا، قال: فجعلوا بينه وبينهم أجلاً خمس سنين، قال: فمضت فلم يغلبوا، قال: فذكر ذلك أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «أفلا جعلته دون العشر» ؟ قال سعيد: والبضع: ما دون العشر. قال: فغُلِبَ الروم ثم غَلَبَتْ، قال فذلك قوله: {آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} ، قال: البضع: ما دون العشر، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} ، قال سفيان: فبلغني أنهم غلبوا يوم بدر. وعند الترمذي من حديث آخر: «وذلك قبل تحريم الرهان» . وقوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} ، عن ابن عباس قوله:

{ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، يعني: الكفار يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهّال. قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون (10) } . قال ابن كثير: يقول تعالى منبّهًا على التفكّر في مخلوقاته الدالّة على وجوده وانفراده بخلقها، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، فقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} ، يعني به: النظر، والتدبّر، والتأمّل لخلق الله الأشياء من العالم العلوي، والسفلي، وما بينهما من المخلوقات المتنوّعة، والأجناس المختلفة، فيعلموا أنها ما خُلقت سدى، ولا باطلاً، بل بالحق. وأنها مؤجّلة إلى أجل مسمّى. وهو: يوم القيامة، ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} . ثم نبّههم على صدق رسله فيما جاءوا عنه، بما أيّدهم به من المعجزات والدلائل الواضحات، من إهلاك من كفر بهم، ونجاة من صدّقهم، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} ، أي: بأفهامهم وعقولهم ونظرهم وسماع أخبار الماضيين؟ ولهذا قال: {فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ، أي: كانت الأمم الماضية، والقرون السالفة أشدّ منكم قوّة، أيها المبعوث

إليهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأكثر أموالاً وأولادًا، وما أوتيتم معشار ما أوتوا، ومكّنوا في الدنيا تمكينًا لم تبلغوا إليه، وعمروا فيها عمارًا طوالاً فعمروها أكثر منكم واستغلّوها أكثر من استغلالكم، ومع هذا فلما جاءتهم رسلهم بالبيّنات وفرحوا بما أوتوا، أخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق، ولا حالت أموالهم وأولادهم بينهم وبن بأس الله، ولا دفعوا عنهم مثقال ذرّة، وما كان الله ليظلمهم فيما أحلّ بهم من العذاب والنكال. {وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، أي: وإنما أوتوا من أنفسهم حيث كذّبوا بآيات الله واستهزؤوا بها، وما ذاك إلا بسبب ذنوبهم السالفة وتكذيبهم المتقدّم، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} . قوله عز وحل: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) } . يقول تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، أي: كما هو قادر على بداءته فهو قادر على إعادته، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، أي: يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله، ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} ، قال ابن عباس: ييأس المجرمون. وقال مجاهد: يفتضح المجرمون. وفي رواية: يكتئب المجرمون

{وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء} أي: ما شفعت فيهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى بل كفروا بهم. ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} ، قال قتادة: هي والله الفرقة التي لا اجتماع بعدها، ولهذا قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} ، قال مجاهد: ينعمون، {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} . وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} ، هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدّسة، وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده في هذا الأوقات المتعاقبة. قال ابن عباس: جمعت هاتان الآياتان مواقيت الصلاة {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} قال: المغرب والعشاء. {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الفجر، {وَعَشِيّاً} العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} الظهر. وقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} ، قال ابن مسعود: ويخرج النطفة من الرجل ميتة وهو حيّ، ويخرج الرجل منها حيًّا وهي ميتة. وقوله تعالى: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} ، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . * * *

الدرس الثاني عشر بعد المائتين

الدرس الثاني عشر بعد المائتين {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا

يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) } . * * *

وقوله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) } . عن قتادة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} ، خلق آدم عليه السلام من تراب: {ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} ، يعني: ذريته. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} ، خلقها لكم من ضلع من أضلاعه، ... {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} ، قال البغوي: وجعل بين الزوجين الموّدة والرحمة، فهما يتوادّان ويتراحمان، وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير رَحِمٍ بينهما: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في عظمة الله وقدرته. قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} ، يعني: اختلاف اللغات من العربية والعجمية وغيرهما: ... {وَأَلْوَانِكُمْ} ، أبيض، وأسود، وأحمر وأنتم ولد رجل واحد وامرأة واحدة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} ، قرأ حفص بكسر اللام: ... {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ} ، أي: تصرّفكم في طلب المعيشة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع نذير واعتبار.

قوله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) } . قال ابن كثير: يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدالة على عظمته أنه: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} ، أي: تارة تخافون مما يحدث بعده من أمطار مزعجة وصواعق مقلقة، وتارة ترجون وميضه. وما يأتي بعده من المطر المحتاج إليه؛ ولهذا قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ، وفي ذلك عبرة ودلالة واضحة على المعاد وقيام الساعة؛ ولهذا قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . وعن قتادة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} قامتا بأمره من غير عَمَدٍ: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} ، قال: دعاهم فخرجوا من الأرض. وقال ابن عباس: من القبور. قال ابن كثير: ثم قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} ، كقوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولاَ} ؛ وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتهد في اليمين قال: والذي تقوم السماء والأرض بأمره، أي: قائمة ثابتة بأمره لها وتسخيره إياها، ثم إذا كان يوم القيامة بدّلت الأرض غير الأرض والسماوات

، وخرجت الأموات من قبورها أحياء بأمره تعالى ودعائه إياهم، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} ، وعن ابن عباس قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} إلى: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} يقول: مطيعون، يعني: الحياة والنشور والموت وهم عاصون له فيما سوى ذلك من العبادة. {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، يقول: كل شيء عليه هيّن. وقال عكرمة: تعجّب الكفار من إحياء الله الموتى فنزلت: ... {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} إعادة الخلق أهون عليه من ابتدائه. عن مجاهد قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، قال: الإعادة أهون عليه من البداءة، والبداءة عليه هيّن. وعن ابن عباس قوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} ، يقول: ليس كمثله شيء. وعن قتادة: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} في السماوات والأرض، قال مَثَلُهُ إنه لا إله إلاَّ هو ولا رب غيره. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . قوله عز وجل: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) } . قال ابن كثير: هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به، العابدين معه غيره،

الجاعلين له شركاء من خلقه، وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له ملك له، كما كانوا يقولون: لبيّك لا شريك لك، إلاَّ شريكًا هو لك، تملكه وما ملك؛ فقال تعالى: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ} ، أي: تشهدونه وتفهمونه، {مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} ، أي: أيرضى أحدكم أن يكون عبده شريكًا له في ماله؟ فهو وهو فيه على السواء. ... {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} ، أي: تخافون أن يقاسموكم الأموال. قال أبو مجلز: إن مملوكك لا يخاف أن يقاسمك مالك وليس له، كذلك الله لا شريك له، والمعنى: أن أحدكم يأنف من ذلك فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه؟ {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، قال البغوي: ينظرون إلى هذه الدلائل بعقولهم. {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أشركوا بالله، {أهواءهم} في الشرك، {بِغَيْرِ عِلْمٍ} جهلاً بما كتب عليهم، {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} ، أي: أضله الله، {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} مانعين يمنعونهم من عذاب الله عز وجل. وقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حنيفًا} ، أي: أخلص دينك لله حنيفًا، مائلاً إلى التوحيد مستقيمًا عليه. قال ابن زيد في قوله: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قال: الإسلام مُذ خلقهم الله من آدم جميعًا يقرّون بذلك، وقرأ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا} ، قال: فهذا قول الله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ} بعد. وعن يزيد بن أبي مريم قال: (مرّ عمر بمعاذ بن جبل فقال: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث وهنّ المنجيات: الإخلاص وهو: الفطرة، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ، والصلاة وهي: الملّة، والطاعة وهي: العصمة. فقال عمر: صدقت) .

وقوله تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} ، قال مجاهد: لدين الله. وقال البخاري قوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} دين الله خلق الأولين دين الأولين، الدين والفطرة الإسلام. ثم ذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مولود يولد إلاَّ على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسّون فيها من جدعاء؟ - ثم يقول -: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} » . قال البغوي: فمن حمل الفطرة على الدين قال: معناه لا تبديل لدين الله، وهو خبر بمعنى النهي، أي: لا تبدلوا دين الله. قال مجاهد، وإبراهيم: معنى الآية: الزموا فطرة الله. أي: دين الله، واتبعوه ولا تبدلوا التوحيد بالشرك {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستقيم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . وقوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، يقول تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أنت يا محمد ومن اتبعك، {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} ، أي: راجعين إليه، {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بل كونوا من الموحدين المصلّين الطائعين. قال ابن جرير: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، يقول: ولا تكونوا من أهل الشرك بالله، بتضييعكم فرائضه، وركوبكم معاصيه، وخلافكم الدين الذي دعاكم إليه. وقوله: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} ، يقول: ولا تكونوا من المشركين الذين بدّلوا دينهم وخالفوه، {وَكَانُوا شِيَعاً} ، يقول: وكانوا أحزابًا فِرقًا كاليهود، والنصارى. وقوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، يقول: كل طائفة وفرقة من هؤلاء الذين فارقوا دينهم الحق، فأحدثوا البدع التي أحدثوا، {بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ،

يقول: بما هم به متمسّكون من المذهب، {فَرِحُونَ} مسرورون، يحسبون أن الصواب معهم دون غيرهم. انتهى ملخصًا. وقال ابن كثير: فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء وملل باطلة، وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء، وهذه الأمة أيضًا اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلا واحدة، وهم: أهل السنة والجماعة، المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه. كما رواه الحاكم في مستدركه أنه سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الفرقة الناجية منهم، فقال: «من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي» . * * *

الدرس الثالث عشر بعد المائتين

الدرس الثالث عشر بعد المائتين {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) } . قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن الناس إنهم في حال الاضطرار يدعون الله وحده لا شريك له، وأنه إذا أسبغ عليهم النعم إذا فريق منهم في حالة الاختيار يشركون بالله، ويعبدون معه غيره. وقوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} ، هي: لام العاقبة عند بعضهم، ولام التعليل عند آخرين، ولكنها تعليل لتقييض الله لهم ذلك ثم توعّدهم بقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} قال بعضهم: والله لو توعّدني حارس درب لخفتُ منه، فكيف والمتوعّد ها هنا هو الذي يقول للشيء: كن فيكون؟ . ثم قال تعالى: منكرًا عن المشركين فيما اختلفوا فيه من عبادة غيره بلا دليل ولا حجّة ولا برهان، {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} ، أي: حجّة، {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} أي: لم ينطق بما كانوا به يشركون؟ وهذا استفهام إنكار أي: لم يكن لهم شيء من ذلك. ثم قال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} ، هذا إنكار على الإنسان من حيث هو، إلا من عصمه الله ووفّقه، فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر وقال: {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ

لَفَرِحٌ فَخُورٌ} ، أي: يفرح في نفسه ويفخر على غيره، وإذا أصابته شدّة قنط وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير بالكلّيّة، قال الله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} ، أي: صبروا في الضرّاء وعملوا الصالحات في الرخاء، كما ثبت في الصحيح: «عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» . وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} ، أي: هو المتصرّف الفاعل لذلك بحكمته وعدله، فيوسّع على قوم ويضيّق على آخرين، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . قوله عز وجل: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) } . عن الحسن: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} ، قال: هو أن توفّيهم حقّهم إن كان عندك يسر، وإن لم يكن عندك {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} قل لهم الخير. وعن ابن عباس قوله: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} ، قال: هو ما يعطي الناس بينهم بعضهم بعضًا، يعطي الرجل الرجل العطيّة يريد أن يعطي أكثر منها. وقال مجاهد: هي الهدايا، وقال الضحاك في قوله: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} فهو ما يتعاطى الناس بينهم ويتهادون، يعطي الرجل العطيّة ليصيب منه أفضل منها، وهذا للناس عامة، وأما قوله: {وَلَا

تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} فهذا للنبي خاصة، لم يكن له أن يعطي إلا لله، ولم يكن يعطي ليعطى أكثر منه. وقال ابن عباس قوله: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} ، قال: هي: الهبة، يهب الشيء يريد أن يثاب عليه أفضل منه، فذلك الذي: لا يربو عند الله لا يؤجر فيه صاحبه، ولا إثم عليه {وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ} . قال: هي: الصدقة، {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} ، قال قتادة: هذا الذي يقبله الله ويضعفه لهم عشر أمثالها وأكثر من ذلك. قوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ (42) } . عن قتادة: قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} للبعث بعد الموت {هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ} ؟ لا والله، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} سبّح نفسه إذا قيل عليه البهتان. وعن الحسن: في قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} ، قال: أفسدهم الله بذنوبهم في بحر الأرض وبرّها بأعمالهم الخبيثة، {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، وقال قتادة: لعل رجعًا أن يرجع، لعلّ تائبًا أن يتوب، لعلّ مستعتبًا أن يستعتب. وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ} . قال البغوي: لتروا منازلهم ومساكنهم خاوية، {كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ} فأهلكوا بكفرهم.

قوله عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) } . عن قتادة: قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} الإِسلام، {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} فريق في الجنة، وفريق في السعير. وقوله تعالى: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: من كفر بالله فعليه أوزار كفره وآثام جحوده نعم ربه، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} ، يقول: فلأنفسهم يستعدّون ويسوّون المضجع ليسلموا من عقاب ربهم ولينجوا من عذابه. {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ} . قال ابن كثير: أي: يجازيهم مجازاة الفضل، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله. {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} ومع هذا هو العادل فيهم الذي لا يجور. * * *

الدرس الرابع عشر بعد المائتين

الدرس الرابع عشر بعد المائتين {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60) } . * * *

قوله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) } . قال ابن كثير: يذكر تعالى نعمه على خلقه في إرساله الرياح مبشّرات بين يدي رحمته بمجيء الغيث عقبها، ولهذا قال تعالى: {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} ، أي: المطر الذي ينزله فيحيي به البلاد والعباد، {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} ، أي: في البحر، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} ، أي: في التجارات، والمعايش. والسير من إقليم إلى إقليم، وقطر إلى قطر. ... {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، أي: تشكرون الله على ما أنعم به عليكم من النعم الظاهرة والباطنة التي لا تعد ولا تحصى. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه وإن كذّبه كثير من قومه ومن الناس، فقد كُذّبت الرسل المتقدّمون مع ما جاءوا أممهم به من الدلائل الواضحات، ولكن انتقم الله ممن كذّبهم وخالفهم وأنجى المؤمنين بهم {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ، أي: هو حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرّمًا وتفضلاً، كقوله تعالى: ... {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} . قوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء

كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ (53) } . قال عبيد بن عمير: الرياح أربع: يبعث الله ريحًا فتقمّ الأرض قمًا، ثم يبعث الله الريح الثانية فتثير سحابًا فيجعله في السماء كسفًا، ثم يبعث الله الريح الثالثة فيؤلّف بينه فيجعله ركامًا، ثم يبعث الله الريح الرابعة فتمطر. وعن قتادة: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} ، أي: قطعًا، {فَتَرَى الْوَدْقَ} ، قال مجاهد: القطر، {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} ، قال ابن كثير: أي: فترى المطر وهو القطر يخرج من بين ذلك السحاب. وقوله تعالى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} ، قال قتادة: قانطين. قال في جامع البيان: {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم} المطر، {مِّن قَبْلِهِ} تكرير للتأكيد، ومعنى التأكيد: الدلالة على بُعد عهدهم بالمطر واستحكام بأسهم، {لَمُبْلِسِينَ} آيسين. وقوله تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} ، قال البغوي: أراد برحمة الله المطر، أي: انظر إلى حسن تأثيره في الأرض، قال مقاتل: أثر رحمة الله. أي: أثر نعمته وهو النبت، {كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً} ، باردة مضرّة فأفسدت الزرع، {فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً} ، أي: رأوا

النبت والزرع مصفرًا بعد الخضرة، {لَّظَلُّوا} لصاروا، {مِن بَعْدِهِ} ، أي: من بعد اصفرار الزرع، {يَكْفُرُونَ} ، يجحدون ما سلف من النعمة. وعن قتادة قوله: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} هذا مثل ضربه الله للكافر، فكما لا يسمع الميت الدعاء كذلك لا يسمع الكافر، {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} ، يقول: لو أن أصمّ ولّى مدبرّا ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ولا ينتفع بما يسمع. وقال في جامع البيان: الأصمّ المقبل ربما يفطن من الكلام بمعونة مشاهدة القرائن شيئًا منه، بخلاف المدبر. ... {وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ} ، والكافر كمن لا عين له يضلّ الطريق، وليس بوسع أحد أن ينزع عنه العمى ويجعله بصيرًا، {إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} ما ينفع الإسماع إلا لمن علم الله أنه يصدّق بآياته وما طبع على قلبه {فَهُم مُّسْلِمُونَ} منقادون لما تأمرهم. قوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) } . قال البغوي: قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} ، قرئ: بضم الضاد، وفتحها. فالضم لغة: قريش. والفتح لغة: تميم. قال ابن حجر في (فتح الباري) : فالجمهور: بالضم. وقرأ عاصم، وحمزة: بالفتح. وقال الخليل: الضعف بالضم ما كان في الجسد، والفتح ما كان في العقل. وعن قتادة قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} ، أي: من نطفة، {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} : الشمط، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ، قال البغوي: من الضعف، والقوة،

والشباب، والشيبة، {وَهُوَ الْعَلِيمُ} بتدبير خلقه، {الْقَدِيرُ} على ما يشاء. قوله عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) } . عن قتادة: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} ، أي: يكذّبوك في الدنيا، وإنما يعني بقوله: يُؤْفَكُونَ} عن الصدق ويصدّون عنه إلى الكذب. قال ابن كثير: يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضًا، فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا، ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجّة عليهم، وأنهم لم ينتظروا حتى يُعذَر إليهم، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَانٌوا يُؤْفَكُون} ، {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} ، أي: فيرد عليهم المؤمنون العلماء في الآخرة، كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا، فيقولون لهم حين يحلفون ما لبثوا غير ساعة: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ} ، أي: في كتاب الأعمال، {إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} ، أي: من يوم خلقتم إلى أن بعثتم، {وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . قال الله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ} ، أي: يوم القيامة، {لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ} ، أي: اعتذارهم عما فعلوا، {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} ، أي: ولا هم يرجعون إلى الدنيا، كما قال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} .

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60) } . قال ابن كثير: يقول تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} ، أي: قد بيّنّا لهم الحق ووضّحناه لهم، وضربنا لهم فيه الأمثال ليتبيّنوا الحق ويتّبعوه، {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ} ، أي: لو رأوا أيّ آية كانت، سواء كانت باقتراحهم أو غيره لا يؤمنون بها ويعتقدون أنها سحر وباطل، كما قالوا في انشقاق القمر ونحوه كما قال تعالى: {الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} ، ولهذا قال ها هنا: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ، أي: اصبر على مخالفتهم وعنادهم، فإن الله تعالى منجز لك ما وعدك من نصره إياك عليهم، وجعله العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة، {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} ، أي: بل اثبت على ما بعثك الله به فإنه الحق الذي لا مرية فيه، ولا تعدل عنه وليس فيما سواه هدى يتبع، بل الحق كله منحصر فيه. قال سعيد عن قتادة: نادى رجل من الخوارج عليًا رضي الله عنه وهو في صلاة الغداة فقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، فأنصت له عليّ حتى فهم ما قال، فأجابه وهو في الصلاة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} . * * *

الدرس الخامس عشر بعد المائتين

الدرس الخامس عشر بعد المائتين [سورة لقمان] مكية، وهي أربع وثلاثون آية بسم الله الرحمن الرحيم {آلم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ

أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) } . * * *

قوله عز وجل: {آلم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) } . قال البغوي: ( {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآية، قال الكلبي، ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة، وكان يتّجر فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم، فيحدّث بها قريشًا، ويقول: إن محمدًا يحدّثكم بحديث: عاد، وثمود. وأنا أحدّثكم بحديث: رستم، واسفنديار، وأخبار الأكاسرة، فيستمعون حديثه ويتركون استماع القرآن، فأنزل الله هذه الآية. وروى ابن جرير وغيره عن أبي أمامة مرفوعًا: «لا يحلّ تعليم المغنّيات ولا بيعهنّ، ولا شراؤهنّ، وثمنهنّ حرام» ؛ وقد نزل تصديق ذلك في كتاب الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} ) إلى آخر

الآية. وقال قتادة: بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق، وما يضرّ على ما ينفع. وعن ابن عباس في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} ، قال: هو: الغناء ونحوه. وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} . وقال ابن كثير: أي: هذا المقبل على: اللهو، واللعب، والطرب إذا تليت عليه الآيات القرآنية، ولّى عنها وأعرض وأدبر وتَصَامم وما به من صمم، كأنّه ما سمعها لأنه يتأذّى بسماعها إذ لا انتفاع له بها ولا أرب له فيها: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، أي: يوم القيامة يؤلمه كما تألم بسماع كتاب الله وآياته: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . قوله عز وجل: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (11) } . قال البغوي: {هَذَا} ، يعني الذي ذكرت مما تعاينون: {خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} من آلهتكم التي تعبدونها، {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} . قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ

يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) } . عن مجاهد قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} قال: الفقه والعقل، والإصابة في القول من غير نبوّة، وقال عمرو بن قيس: كان لقمان عبدًا أسود غليظ الشفتين مصفّح القدمين، فأتاه رجل وهو في مجلس أناس يحدّثهم فقال له: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم؟ قال: نعم، قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني. وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} ، قلنا: يا رسول الله أيّنا لم يظلم نفسه؟ قال: «ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم، بشرك، أولم تسمعوا إلى قول لقمان: يا بنيّ لا تشرك بالله إن الشرك بالله لظلم عظيم» . وقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} ، قال ابن عباس: شدّة بعد شدّة وخلقًا بعد خلق. وقوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ، أي: فطامه في حولين، {أَنِ اشْكُرْ لِي}

بالتوحيد، {وَلِوَالِدَيْكَ} بالبرّ، {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} فأجازيك على عملك. قال سفيان بن عيينة: من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما. قال ابن جرير: فإن قال لنا قائل: ما وجه اعتراض هذا الكلام بين الخبر عن وصيتي لقمان ابنه؟ قيل: ذلك أيضًا وإن كان خبرًا من الله تعالى ذكره عن وصيته عباده به، وأنه إنما أوصى به لقمان ابنه فكان معنى الكلام: (وإذ قال لقمانُ لابنه وهو يَعِظُهُ: يا بُنيَّ لا تُشرك بِالله إن الشِّرك لظلم عظيم، ولا تطع في الشرك به والديك، وصاحبهما في الدنيا معروفًا، فإن الله وصّى بهما؛ واستؤنف الكلام على وجه الخبر من الله، وفيه هذا المعنى، فذلك وجه اعتراض ذلك بين الخبرين عن وصيته. انتهى. وعن قتادة: قوله: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} ، من خير، وشر، {فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ} ، أي: جبل، {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} ، أي: {لَطِيفٌ} باستخراجها، {خَبِيرٌ} بمستقرّها. وعن ابن جريج في قوله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} من الأذى في ذلك: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ، قال: إن ذلك مما عزم الله عليه من الأمور، يقول: مما أمر الله به من الأمور. وعن ابن عباس: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} ، يقول: ولا تتكبّر فتحقّر عباد الله وتعرض عنهم بوجهك إذا كلّموك. وعن الضحاك في قوله: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} ، قال: بالخيلاء، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ، قال مجاهد: {مُخْتَالٍ} متكبر، {فَخُورٍ} . قال: يعدّد ما أعطى الله وهو لا يشكر الله. {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} ، قال: التواضع، {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} ، قال قتادة:

أمره بالاقتصاد في صوته {إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} أوّله زفير، وآخره شهيق. وقد روي عن لقمان من الحكم والمواعظ أشياء كثيرة فمنها قوله: إن الله إذا استودع شيئًا حفظه. وقال: يا بنيّ إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك. وقال: الصمت حكم وقليل فاعله. وقال: يا بنيّ إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام - يعني: السلام - ثم اجلس في ناحيتهم، ولا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا في ذكر الله فَأجِلْ سهمك معهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فتحوّل عنهم إلى غيرهم. وقال خالد الربعيّ: كان لقمان عبدًا حبشيًا فدفع مولاه إليه شاة وقال: اذبحها وائتني بأطيب مضغتين منها. فأتاه باللسان، والقلب، ثم دفع إليه شاة أخرى وقال: اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها، فأتاه باللسان، والقلب، فسأله مولاه فقال: ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا. وعن عمر مولى غفرة قال: وقف رجل على لقمان الحكيم فقال: أنت لقمان، أنت عبد بني الحسحاس؟ قال: نعم، قال: أنت راعي الغنم؟ قال: نعم، قال: أنت الأسود؟ قال: أما سوادي فظاهر، فما الذي يعجبك من أمري؟ قال وطء الناس بساطك، وغشيهم بابك، ورضاهم بقولك! قال: يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك، قال لقمان: غَضِّي بصري، وكَفيّ لساني، وعفَة طعمتي، وحفظ فرجي، وقولي بصدقي، ووفائي بعهدي، وتكرمتي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي ما لا يعنيني، فذلك الذي صيرّني إلى ما ترى. والله أعلم. * * *

الدرس السادس عشر بعد المائتين

الدرس السادس عشر بعد المائتين {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا

نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) } . * * *

قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) } . قال في جامع البيان: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ} بأن جعله أسباب منافعكم، {وَمَا فِي الْأَرْضِ} ، {وَأَسْبَغَ} أوفى وأتمّ {عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً} محسوسة وما تعرفونه، {وَبَاطِنَةً} معقولة وما لا تعرفونه. وعن قتادة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} ليس معه من الله برهان ولا كتاب. قال البغوي: نزلت في النضر بن الحارث، وأبيّ بن خلف، وأمية بن خلف وأشباههم، كانوا يجادلون النبي - صلى الله عليه وسلم - في الله وفي صفاته بغير علم. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} ، قال الله عز وجل: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} وجواب (لو) محذوف، ومجازه: يدعوهم فيتبعونه. يعني: يتبعون الشيطان وإن {كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} . قوله تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} ، يعني: لله، أي: يخلص دينه لله،

ويفوّض أمره إلى الله، {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله، {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ، أي: اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ * وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً} ، أي: نمهلهم ليتمتّعوا بنعيم الدنيا قليلاً إلى انقضاء آجالهم {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} ثم نلجئهم ونردّهم في الآخرة، {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وهو: عذاب النار. قوله عز وجل: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) } . قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن هؤلاء المشركين: أنهم يعرفون أن الله خالقُ السماوات والأرض وحدَه لا شريك له، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها خَلْقٌ له وملك له، ولهذا قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، أي: إذ قامت عليكم الحجة باعترافكم، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} . ثم قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، أي: هو خلقه وملكه، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، أي: {الْغَنِيُّ} عما سواه وكل شيء فقير إليه، {الْحَمِيدُ} في جميع ما خلق، له الحمد في السماوات والأرض على ما خلق وشرع، وهو المحمود في الأمور كلها. وعن أبي رجاء قال: سألت الحسن عن هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} ، قال: لو جعل شجر الأرض أقلامًا، وجعل

البحور مدادًا، وقال الله: إنّ من أمري كذا، ومن أمري كذا، لنفد ماء البحور وتكسرتّ الأقلام. وقال قتادة: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، قال: لو كان شجر البرّ أقلامًا ومع البحر سبعة أبحر، ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه. وعن مجاهد قوله: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، يقول: كن فيكون للقليل والكثير. قال ابن جرير: وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ، يقول تعالى ذكره: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لما يقول هؤلاء المشركون ويفترون على ربهم، من ادعائهم له الشركاء والأنداد وغير ذلك من كلامهم وكلام غيرهم، {بَصِيرٌ} بما يعلمونه وغيرهم من الأعمال، وهو مجازيهم على ذلك جزاءهم. قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) } . عن قتادة قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} ، نقصان الليل في زيادة النهار، {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} ، نقصان النهار في زيادة الليل {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ، يقول: لذلك كله وقت معلوم لا يجاوزه ولا يعدوه.

وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} . عن مغيرة قال: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله، ألم تر إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ، {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ} . وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} قال قتادة: الختّار: الغدّار، كل غدّار بذمّته كفور بربه. قال البغوي: والختر: أسوأ الغدر: قال بعضهم: وإنما قال ها هنا: {فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} وقد قال فيما قبل: {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} لأنه ذكر ها هنا الموج وعظمته، ولا محالة يبقى لمثله أثر في الخيار، فيخفض شيئًا من غلوّ الكفر والظلم، وينزجر بعض الانزجار. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) } . عن قتادة قوله: {وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ذاكم الشيطان. وعن مجاهد: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد؟ وبلادنا محل جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث؟ وقد علمتُ متى

ولدت فأخبرني متى أموت؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} إلى آخر السورة) . رواه ابن جرير. وروى البخاري وغيره عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهنّ إلا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} » . * * *

الدرس السابع عشر بعد المائتين

الدرس السابع عشر بعد المائتين [سورة السجدة] مكية، وهي ثلاثون آية ... في الصحيحين عن أبي هريرة قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر يوم الجمعة: آلم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان) . بسم الله الرحمن الرحيم {آلم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا

تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً

تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ (30) } . * * *

قوله عز وجل: {آلم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) } . عن قتادة قوله: {آلم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ} لا شك فيه، وإنما معنى الكلام: أن هذا القرآن الذي أنزل على محمد لا شك فيه أنه من عند الله، وليس بشعر ولا سجع كاهن، ولا هو مما تخرّصه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كذّب جلّ ثناؤه بذلك قول الذين {قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ، وقول الذين قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} . وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} ، قال قتادة: كانوا أمّة أمّية لم يأتهم نذير قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -. قوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ

نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9) } . عن قتادة قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في اليوم السابع، {مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} . قال ابن كثير: أي: بل هو المالك لأزمة الأمور، الخالق لكلِّ شيء، المدبّر لكلّ شيء، القادر على كلّ شيء، فلا وليّ لخلقه سواه، ولا شفيع إلا من بعد إذنه {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} ، يعني: أيها العابدون غيره المتوكّلون على من عداه، تعالى وتقدس وتنزّه أن يكون له: نظير، أو شريك، أو وزير، أو نديد، أو عديل. لا إله إلا هو ولا ربَّ سواه. وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} ، قال مجاهد: يعني بذلك: نزول الأمر من السماء إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، وذلك مقداره ألف سنة لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام. وقوله تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} ، قال مجاهد: أتقن كل شيء خلقه. وقال ابن عباس: أتقنه وأحكمه. وعن قتادة: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ} وهو خلق آدم، {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ} والسلالة هي: الماء المهين الضعيف، قال مجاهد: نطفة الرجل. وقوله تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ} . قال البغوي: ثم سوّى خلقه {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} . ثم عاد إلى ذرّيتّه فقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ} بعد أن كنتم نطفًا {السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} ، يعني: لا تشكرون رب هذه النعم فتوحّدونه.

قوله عز وجل: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } . عن مجاهد: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} ، يقول: أئذا هلكنا. وعن قتادة: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، قال: قالوا: أئذا كنا عظامًا ورفاتًا أئنا لمبعوثون خلقًا جديدًا؟ وقال الضحاك: يكفرون بالبعث. وعن قتادة: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} قال: ملك الموت يتوفاكم ومعه أعوان من الملائكة. وقال مجاهد: طويت له الأرض فجعلت له مثل الطست يتناول منها حيث شاء. وقال ابن زيد في قوله ... {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} ، قال: قد حزنوا واستحيوا. وعن قتادة: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} ، قال: لو شاء الله لهدى الناس جميعًا، لو شاء الله لأنزل عليهم من السماء آية فظّلت أعناقهم لها خاضعين. {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} حقّ القول عليهم. وقوله تعالى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ} ، قال ابن عباس: تركناكم. وقال قتادة: نُسوا من كل خير، وأما الشر فلم يُنْسَوْا منه. وعن

أنس بن مالك: إن هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى القمّة. وعن مجاهد قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} يقومون يصلّون من الليل. وقال ابن عباس: {تَتَجَافَى} لذكر الله، كلما استيقظوا ذكروا الله تعالى، إما في الصلاة، وإما في قيام، أو في قعود، أو على جنوبهم، ثم يذكرون الله. وروى الإمام أحمد وغيره من حديث معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصوم جُنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، - ثم قرأ -: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} » . وعن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر» . قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} . متفق عليه. قوله عز وجل: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22) } . عم ابن عباس: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} ، يقول: مصائب الدنيا

وأسقامها وبلاؤها مما يبتلي الله به العباد حتى يتوبوا. وعن مجاهد: {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} يوم القيامة، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، قال أبو العالية: يتوبون. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} ، أي: لا أظلم ممن ذَكَّرَه الله بآياته وبيّنها له، ثم بعد ذلك تركها وجحدها وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها. قال قتادة: إياكم والإعراض عن ذكر الله، قال: من أعرض عن ذكره فقد اغترّ أكبر الغرة وأعوز أشد العَوَز، وعظم من أعظم الذنوب، ولهذا قال تعالى متهدّدًا لمن فعل ذلك: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} ، أي: سأنتقم ممن فعل ذلك أشدّ الانتقام. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) } . عن ابن عباس قال: قال نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أُرِيتُ ليلة أُسْرِيَ بي موسى بن عمران رَجُلاً آدم طوالاً أجعد كأنهُ من رجالِ شَنُوءَةَ، ورأيْتُ عيسى مَربُوعَ الخَلْق إلى الحُمرة والبياضِ سَبْطَ الرأسِ، ورأيْتُ مالِكًا خازن النَّارِ، والدَّجَّالَ فِي آياتٍ» أرَاهنَّ اللهُ إيَّاهُ. {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ} ، أنه قد رأى موسى، ولقي موسى ليلة أُسري به. رواه ابن جرير وغيره. وعن قتادة: {وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئمَّةً يَهدُونَ بأمْرِنا} ، قال: رؤساء في الخير. {لَمَّا صَبروا وكانُوا بآياتِنا يُوقِنُونَ} ، قال بعض العلماء: بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين.

قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ (30) } . عن ابن عباس: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} أو لم يتبيّن لهم، {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ} ، قال قتادة: عاد وثمود، وأنهم إليهم لا يرجعون؟ . وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} ؟ قال قتادة: الجُرُز: المغبّرة. وقال ابن عباس: الجُرُز: التي لا تمطر إلا مطرًا لا يغني عنها شيئًا، إلا مايأتيها من السيول. وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} ، أي: متى تُنْصَرُون علينا {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ؟ {قُلْ} لهم يا محمد: {يَوْمَ الْفَتْحِ} ، أي: إذا حلّ بكم العذاب، {لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ولا تبال بكلامهم، {وَانتَظِرْ} موعد النصر {إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ} حوادث الزمان عليك، وسترى عاقبة صبرك. قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} ، وقال تعالى: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} . * * *

الدرس الثامن عشر بعد المائتين

الدرس الثامن عشر بعد المائتين [سورة الأحزاب] مدنية، وهي ثلاث وسبعون آية ... عن زر قال: (قال أبيّ بن كعب: كم تعدّون سورة الأحزاب؟ قلت: ثلاثًا وسبعين آية، قال: فوالذي يحلف به أبيّ بن كعب، إن كانت لتعدل سورة البقرة وأطول، ولقد قرأنا منها: آية الرجم: الشيخ، والشيخة إذا زنيا فارجموهما) . بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ

وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً (8) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) } . قال ابن كثير: هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى، فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا، فَلأن يأتمر مَنْ دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى؛ وقد قال طَلْق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله. وعن قتادة: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} ، أي: هذا القرآن، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} . قال البغوي: حافظًا لك. قوله عز وجل: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (5) } . قال ابن كثير: يقول تعالى: موطئًا قبل المقصود المعنويّ أمرًا معروفًا حسّيًا

وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه، ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله: أنت عَلَيَّ كظهر أمي أمًّا له، كذلك لا يصير الدَّعيّ ولدًا للرجل إذا تبنَّاه فدعاه ابنًا له، فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} ، كقوله عز وجل: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ} الآية. قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} هذا هو المقصود بالنفي، فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تبنّاه قبل النبوّة فكان يقال له: زيد بن محمد، فأراد الله أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} ، كما قال تعالى في أثناء السورة: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} وقال ها هنا: ... {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} ، يعني: تبنّيكم لهم قولاً لا يقتضي أن يكون ابنًا حقيقيًّا، فإنه مخلوق من صلب رجل آخر، فما يمكن أن يكون له أبوان كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} . انتهى. وعن قتادة: {ادْعُوهُم لآبائهِمْ هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ} ، فإن لم تعلموا من أبوه فإنما هو أخوك ومولاك. {وَلَيْسَ عَليْكُمْ جُناحٌ فِيما أخْطأْتُمْ بِهِ} ، يقول: إذا دعوت الرجل لغير أبيه وأنت ترى أنه كذلك، {وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ، يقول الله: لا تدعه لغير أبيه متعمدًا، أما الخطأ فلا يؤاخذكم الله به، ولكن يؤاخذكم بما تعمّدت قلوبكم. قال مجاهد: فالعمد ما أُتي بعد البيان والنهي في هذا وغيره. وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال:

سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من ادّعى إلى غير أبيه وهو يعلمه فالجنة عليه حرام» . رواه البغوي وغيره. قوله عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً ... (6) } . قال ابن زيد: {النَّبيُّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنفُسهِمْ} كما أنت أولى بعبدك ما قضى فيهم من أمر جاز كما كلما قضيت على عبدك جاز. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، فأيّما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبة مَنْ كانوا، وإن ترك دَيْنًا أو ضَياعًا فليأتني فأنا مولاه» . رواه البخاري وغيره. وعن قتادة: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} يعظِّم بذلك حقّهنّ، وفي بعض القراءة: وهو: أب لهم. قال ابن زيد في قوله: {وأزْوَاجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} محرّمات عليهم. وعن قتادة: {وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ في كتاب اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنينَ والمُهاجِرِينَ} ، لبث المسلمون زمانًا يتوارثون بالهجرة، والأعرابي المسلم لا يرث من المهاجرين شيئًا، فأنزل الله هذه الآية فخلط المؤمنين بعضهم ببعض فصارت المواريث بالملل. وعن مجاهد قوله: {إلا أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً} ، قال حلفاؤكم الذين والى بينهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار إمساك بالمعروف والعقل

والنصر بينهم. قال ابن كثير وقوله تعالى: {إلا أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً} ، أي: ذهب الميراث، وبقي: النصر، والبرّ، والصلة، والإحسان، والوصيّة. قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً (8) } . عن مجاهد: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} ، قال: في ظهر آدم. وقال البغوي: قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} على الوفاء بما حملوا، وأن يصدّق بعضهم بعضًا ويبشّر بعضهم ببعض. قال مقاتل: أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله ويدعوا إلى عبادة الله ويصدّق بعضهم بعضًا وينصحوا لقومهم، {وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} خصّ هؤلاء الخمسة بالذكر من بين النبيّين لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولي العزم من الرسل انتهى. قال ابن كثير: فبدأ في هذه الآية بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه، ثم رتّبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم. وقال في قوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ

أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ، فذكر الطرفين والوسط الفاتح ومن بينهما على الترتيب. وعن ابن عباس قوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} ، قال: الميثاق الغليظ العهد. وعن مجاهد: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} ، قال: الرسل المؤدّين المبلغّين. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} ، أي: موجعًا. فنحن نشهد أن الرسل قد بلّغوا رسالات ربهم ونصحوا الأمم، وإن كذّبهم من كذّبهم من الجهلة والمعاندين، فما جاءت به الرسل هو الحق، ومن خالفهم فهو على الضلال، كما يقول أهل الجنة: {لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} . * * *

الدرس التاسع عشر بعد المائتين

الدرس التاسع عشر بعد المائتين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً (15) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً (16) قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ

عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً (25) وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) } . قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان في قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} . والجنود: قريش، وغطفان، وبنو قريظة، وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح الملائكة. وعن مجاهد: {إذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} قال: عيينة بن بدر في أهل نجد، {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} ، قال أبو سفيان قال: وواجهتهم قريظة. وعن قتادة: {وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ} شخصت. وعن عكرمة: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} ، قال: من الفزع. وعن الحسن: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} ، قال: ظنونًا مختلفة؛ ظنّ المنافقون أن محمدًا وأصحابه يستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله حق أنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وعن مجاهد قوله: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} ، قال: مُحِّصُوا. وقال البغوي: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} أي: عند ذلك اختُبِرَ المؤمنون بالحصر والقتال، ليتبيّن المخلص من المنافق. {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} حُرِّكُوا حركة شديدة.

قوله عز وجل: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً (15) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً (16) قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (17) } . عن قتادة قوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} ، قال: قال ذلك أناس من المنافقين: قد كان محمد يعدنا فتح فارس والروم، وقد حصرنا ها هنا حتى ما يستيطع أحدنا أن يبرز لحاجته، {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} . وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ} ، قال البغوي: وهم: أوس بن قيظي وأصحابه: يا أهل يثرب - يعني: المدينة. قال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض، ومدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ناحية منها. وفي بعض الأخبار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تسمّى المدينة يثرب، وقال: «هي طابة» ، كأنه كره هذا اللفظ - لا مقام لكم فارجعوا إلى منازلكم، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون: إن بيوتنا عورة. قال ابن عباس قالوا: بيوتنا مخليّة نخشى عليها السرق. {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} . وعن قتادة: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا} ، أي: لو دخل علهم من نواحي المدينة، {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} ، أي: الشرك، {لَآتَوْهَا} ، يقول: لأعطوها، {وَمَا

تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً} ، يقول: إلا أعطوه طيّبة به أنفسهم ما يحتبسونه، {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} ، قال: كان أناس غابوا عن وقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أصحاب بدر من الكرامة، والفضيلة فقالوا: لئن أشهدنا الله تعالى قتالاً لنقاتلنّ، فساق الله ذلك إليهم حتى كان في ناحية المدينة. {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً} وإنما الدنيا كلها قليل. وقوله تعالى: {قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ} . قال البغوي: يمنعكم من عذابه {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً} . قال ابن كثير: أي: ليس لهم ولا لغيرهم من دون الله مجير ولا مغيث. قوله عز وجل: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً (20) } . وعن قتادة: قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} ، قال: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم: ما محمد وأصحابه إلا آكلة رأس، ولو كانوا لحمًا لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا

هذا الرجل فإنه هالك. قال ابن إسحاق: حدّثنا يزيد بن رومان: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ} ، أي: أهل النفاق، {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً} أي: إلا دفعًا وتعذيرًا ... {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} ، أي: للضغن الذي في أنفسهم، {فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} ، أي: إعظامًا وفَرَقًا منه، {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} ، قال قتادة: أما عند القسمة فأشحّ قوم وأسوأ مقاسمة، أعطونا فإنا قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم، وأخذله للحق. قال ابن كثير: أي: ليس فيهم خير، قد جمعوا الجبن والكذب وقلّة الخبر، فهم كما قال في أمثالهم الشاعر: أفي السلم أعيار جفاء وغلظة ... وفي الحرب أمثال النساء العوارك ولهذا قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} . وقوله تعالى: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} ، قال البغوي: {يَحْسَبُونَ} ، يعني: هؤلاء المنافقين، {الأحْزَابَ} ، يعني: قريشًا، وغطفان، واليهود، {لَمْ يَذْهَبُوا} لم ينصرفوا عن قتالهم جبنًا وَفرَقًا، وقد انصرفوا، {وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ} ، أي: يرجعوا إليهم للقتال بعد الذهاب، {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ} ، أي: يتمنّوا لو كانوا في بادية مع الأعراب من الخوف والجبن، {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} أخباركم وما آل إليه أمركم، {وَلَوْ كَانُوا} ، يعني: هؤلاء المنافقين {فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا} تعذيرًا، أي: يقاتلون قليلاً يقيمون به عذرهم فيقولون: قد قاتلنا. قوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا

وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (24) } . قال ابن إسحاق: حدّثني يزيد بن رومان قال: ثم أقبل على المؤمنين فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} أن لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ولا عن مكان هو به، ... {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} ، يقول: وأكثر ذكر الله في الخوف والشدة والرخاء. وعن ابن عباس قوله: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ، قال: ذلك أن الله قال لهم في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} ، قال: فلما مسّهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق، تأوّل المؤمنون ذلك ولم يزدهم ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا. وقال ابن إسحاق: حدّثني يزيد بن رومان: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} ، أي: فوالله بما عاهدوه عليه، {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ} ، أي: فزع من عمله ورجع إلى ربه، كمن استشهد يوم بدر ويوم أحد، {وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ} ما وعد الله من نصره والشهادة على ما مضى عليه الصحابة {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} ، قال قتادة: يقول: ما شكّوا ما تردّدوا في دينهم ولا استبدلوا به غيره، {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} ، يقول: إن شاء أخرجهم من النفاق إلى الإيمان، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} .

قوله عز وجل: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً (25) وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) } . عن قتادة: قوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً} ، وذلك يوم أبي سفيان والأحزاب، ردّ الله أبا سفيان وأصحابه بغيظهم، ... {لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} بالجنود من عنده والريح التي بعث عليهم. وعن أبي سعيد الخدري قال: حُبِسْنا يوم الخندق عن الصلاة فلم نصلّ الظهر، ولا العصر، ولا المغرب، ولا العشاء، حتى كان بعد العشاء بهويّ كُفِينَا وأنزل الله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً فأقام الصلاة وصلّى الظهر فأحسن صلاتها كما كان يصلّيها في وقتها، ثم صلى العصر كذلك، ثم صلى المغرب كذلك، ثم صلى العشاء كذلك، جعل لكل صلاة إقامة وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف، {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} . رواه ابن جرير. قال ابن كثير: ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مؤيدًا منصورًا، ووضع الناس السلاح. فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة رضي الله عنها، إذ تبدّى له جبريل عليه الصلاة والسلام معتجرًا بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها قطيفة من ديباج، فقال له: وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «نعم» . قال: لكن الملائكة لم تضع أسلحتها، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم. ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة.

وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ} أي: حصونهم، وهم: بنو قريظة، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} ، قال ابن إسحاق: حدّثني يزيد بن رومان: ... {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} ، أي: قتل الرجال وسبي الذراري، والنساء، {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} ، قال ابن زيد في قوله: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} ، قال: قريظة والنضير أهل الكتاب، {وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا} يومئذٍ قال: خبير. وقال الحسن: هي: الروم، وفارس، وما فتح الله عليهم. وقال ابن جرير: يجوز أن يكون الجميع مرادًا، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} . * * *

الدرس العشرون بعد المائتين

الدرس العشرون بعد المائتين {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (31) يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ

ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) } . روى البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه قالت: فبدأ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ... «إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: «إن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} » إلى تمام الآيتين، فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله تعالى ورسوله والدار الآخرة؛ وفي رواية: (خيّرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعدّها علينا شيئًا) . وروى مسلم وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس ببابه جلُوس، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس، فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فدخلا والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس وحوله نساؤه وهو - صلى الله عليه وسلم - ساكت، فقال عمر رضي الله عنه: لأكلمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر - سألتني النفقة آنفًا فوجأت عنقها، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه وقال: «هن حولي يسألنني النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة كلاهما يقولان: تسألان النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عنده؟ فنهاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلن: ولله لا نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا المجلس ما

ليس عنده؛ قال: وأنزل الله عز وجل الخيار، فبدأ بعائشة رضي الله عنها. الحديث. قال قتادة: فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك فقال: ... {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} فقصره الله عليهن. قال عكرمة: وكان تحته يومئذٍ تسع نسوة: خمس من قُرَيش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية، وكانت تحته: صفية ابنة حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق. وقال ابن زيد: فاخترن الله ورسوله، إلا امرأة واحدة جويرة ذهبت. قوله عز وجل: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (31) } . قال ابن كثير: يقول تعالى واعظًا نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، واستقرارهنّ تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فناسب أن يخبرهنّ بحكمهنّ وتخصيصهنّ دون سائر النساء، بأن من يأت منهنّ بفاحشة مبيّنة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وهو النشوز وسوء الخُلُق، وعلى كل تقدير فهو شرط، والشرط لا يقتضي الوقوع، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} فلما كانت محسانهنّ رفيعة ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهنّ مغلّظًا، صيانة لجنابهنّ وحجابهنّ الرفيع، ولهذا قال تعالى: {مَن يَأْتِ

مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} . قال مالك عن زيد بن أسلم: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} ، قال: في الدنيا والآخرة، {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} ، أي: سهلاً هيّنًا. ثم ذكر عدله وفضله في قوله: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} ، أي: تطع الله ورسوله وتستجب، {نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} ، أي: في الجنة، فإنهن في منازل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعلى علّيّن فوق منازل جميع الخلائق، في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش. قوله عز وجل: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) } . قال البغوي: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء} ، قال ابن عباس: يريد ليس قدركنّ عندي مثل قدر غيركنّ من النساء الصالحات، أنتنّ أكرم عليّ وثوابكنّ أعظم لديّ، {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} الله أَطَعْتُنّه، {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} ، لا تُلِنَّ بالقول للرجال ولا ترقّقنّ الكلام، {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} ، أي: فجور، وشهوة. والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقابلة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع معهم. {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} يوجبه الدين والإسلام بتصريح وبيان من غير خضوع. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ، أي: إِلزَمْنَ بيوتكنّ فلا

تخرجن لغير حاجة. وعن قتادة: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} ، أي: إذا خرجتنّ من بيوتكن؛ قال: كانت لهنّ مشية وتكسّر وتغنُّج، يعني بذلك: الجاهليّة الأولى فنهاهنّ الله عن ذلك. وقال ابن زيد في قوله: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} ، يقول: التي كانت قبل الإسلام؛ قال: وفي الإسلام جاهليّة. وقال مقاتل: والتبرّج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشدّه فيواري: قلائدها، وقرطها، وعنقها، ويبدوا ذلك كله منها وذلك التبرج، ثم عمّت نساء المؤمنين في التبرّج. وقوله تعالى: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ، قال قتادة: فهم أهل بيت طهّرهم الله من السوء وخصّهم برحمة منه. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} نص في دخول أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهل البيت ها هنا، لأنهنّ سبب نزول هذه الآية. وروى مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله معه، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة رضي الله عنها فأدخلها معه، ثم جَاءَ عليّ رضي الله عنه فأدخله معه، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} . وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا خطيبًا بماء يدعى خمًّا، بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال: «أما بعد ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحثَّ على كتاب الله عز وجل

ورغّب فيه، ثم قال: «وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي» ثلاثًا؛ فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرِمَ الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم آل عليّ، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس رضي الله عنهم. قال: كل هؤلاء حُرِمَ الصدقة بعده؟ قال: نعم) رواه مسلم. وعن قتادة في قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} ، أي: السنّة. قال: يَمْتَنُّ عليهن بذلك. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} . قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) } . عن قتادة قال: (دخل نساءٌ على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلن: قد ذكركنّ الله في القرآن ولم نُذكر بشيء! أما فينا ما يُذكر؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} ) أي: المطيعين والمطيعات، {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} ، أي: الخائفين والخائفات، {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم

مَّغْفِرَةً} ، لذنوبهم، {وَأَجْراً عَظِيماً} في الجنة. وعن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله يُذكر الرجال ولا نُذكر! فنزلت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية. قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً (36) } . قال البغوي: نزلت في زينب بنت جحش الأسدية، وأخيها عبد الله بن جحش، وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - لمولاه زيد بن حارثة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى زيدًا في الجاهلية بعكاظ فأعتقه وتبنّاه، فلما خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب رضيت وظنّت أنه يخطبها لنفسه، فلما علمت أنه يخطبها لزيد أبت وقالت: أنا ابنة عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي، وكانت بيضاء جميلة فيها حدة، وكذلك كره أخوها ذلك، فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} ، يعني: عبد الله بن جحش، {وَلَا مُؤْمِنَةٍ} ، يعني: أخته زينب، {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} ، أي: إذا أراد الله ورسوله أمرًا وهو: نكاح زينب لزيد، {أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ، قال: والخيرة الاختيار؛ والمعنى: أن يريد غير ما أراد الله أو يمتنع مما أمر الله ورسوله به. قال ابن كثير: فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد ها هنا، ولا رأي، ولا قول. كما قال تبارك وتعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} . وفي الحديث: «والذي نفسي

بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» ؛ ولهذا شدّد في خلاف ذلك فقال: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} ، كقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قوله عز وجل: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) } . عن قتادة: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} بالإسلام، {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} أعتقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} ، قال: وكان يخفي في نفسه: ودّ أنه طلّقها. قال الحسن: ما أنزلت عليه آية كانت أشدّ عليه منها، قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} ، ولو كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كاتمًا شيئًا من الوحي لكتمها، {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} ، قال: خشي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - مقالة الناس. وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما: كان الله تعالى أعلم نبيّه - صلى الله عليه وسلم - أن زينب ستكون من أزواجه، فلما أتاه زيد يشكوها قال: {اتَّقِ اللَّهَ وأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} قال الله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} .

وعن أنس رضي الله عنه قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن حارثة: «اذهب فاذكرها عليَّ» . فانطلق حتى أتاها وهي تخمّر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، وأقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرها فولّيتها ظهري ونكصت على عقبيّ وقلت: يا زينب أبشري، أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أؤامر ربي عز وجل، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليها بغير إذن. وروى البخاري وغيره أن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقول: (زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات) . وقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} . قال البغوي: أي: حاجة من نكاحها، {زَوَّجْنَاكَهَا} وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبني تحل بعد الدخول وعن قتادة قوله: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} ، يقول: إذا طلقوهن؛ وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبنّى زيد بن حارثة، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} . قال البغوي: أي: كان قضاء الله ماضيًا وحكمه نافذًا وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} . قال ابن كثير: أي: فيما أحل الله له وأمره به من تزويج زينب التي طلقها

زيد بن حارثة. {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} ، أي: هذا حكم الله تعالى في الأنبياء قبله، لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حَرج، وهذا رَدٌّ على مَنْ تَوَهَّم مِن المنافقين نقصًا في تزويجه امرأة زيد مولاه ودَعيه، الذي كان قد تبناه. {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} ، أي: وكان أمره الذي يقدِّره كائنًا لا محالة، وواقعًا لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ} . قال البغوي: يعني: سنّة الله في الأنبياء الذين يبلغون رسالات الله، ... {وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ} أي: لا يخشون قالة الناس ولائمتهم فيما أحلّ الله لهم وفرض عليهم {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} ، حافظًا لأعمال خلقه ومحاسبهم. ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج زينب قال الناس: إن محمدًا تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، يعني: زيد بن حارثة , أي: ليس أبا أحد من رجالكم الذين لم يلدهم فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها. {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ختم الله به النبوة. وعن ابن عباس: أن الله تعالى لما حكم أن لا نبي بعده لم يعطه ولدا ذكرا يصير رجلاً، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} . وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها، إلا موضع لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها قال: ما أحسنها إلاَّ موضع هذه اللبنة، فإن موضع اللبنة ختم بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» . متفق عليه. * * *

الدرس الحادي والعشرون بعد المائتين

الدرس الحادي والعشرون بعد المائتين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (50) تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لَا يَحِلُّ لَكَ

النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) } . عن ابن عباس في قوله: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} ، يقول: لا يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلومًا، ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على عقله. قال: {فَاذْكُرُواْ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسرِّ والعلانية، وعلى كل حال. فقال: ... {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ، فإذا فعلتم ذلك صلّى عليكم هو وملائكته. قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} . قال ابن كثير: وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} ، هذا تهييج إلى الذكر. أي: إنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم، كقوله عز وجل: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله تعالى: مَنْ ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومَنْ ذكرني في مَلأ ذكرته في ملأ خير منه» . (والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد

عند الملائكة) . حكاه البخاري عن أبي العالية. ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عنه؛ وقال غيره: (الصلاة من الله عز وجل الرحمة) ؛ وقد يقال: لا منافاة بين القولين. والله أعلم. انتهى. وقال ابن زيد في قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ، قال: من الضلالة إلى الهدى. وعن قتادة قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} ، قال: تحيّة أهل الجنة: السلام {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} ، أي: الجنة. قال ابن كثير: وقوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} الظاهر أن المراد - والله أعلم -: {تَحِيَّتُهُمْ} ، أي: من الله تعالى. {يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} ، أي: يسلّم عليهم، كما قال عز وجل: {سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} . قال: وقد يستدلّ لقول قتادة بقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) } . عن قتادة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} على أمتك بالبلاغ ... {وَمُبَشِّراً} بالجنة، {وَنَذِيراً} بالنار، {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ} إلى شهادة أن لا إله إلا الله، {بِإِذْنِهِ} . قال ابن جرير: بأمره، {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} ، يقول: وضياء لخلقه، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ

أَذَاهُمْ} ، قال قتادة: أي: اصبر على أذاهم، {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (49) } . عن ابن عباس قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} فهذا في الرجل يتزوّج المرأة، ثم يطلّقها من قبل أن يمسّها، فإذا طلّقها واحدة بانت منه، ولا عدّة عليها تتزوج من شاءت، ثم قرأ: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} ، يقول: إن كان سمّى لها صداقًا، فليس لها إلا النصف، فإن لم يكن سمّى لها صداقًا، متّعها على قدر عسره ويسره، وهو: السراح الجميل؛ قال أكثر أهل العلم: إذا قال: كل امرأة أنكحها فهي طالق فنكح لا يقع الطلاق. ورُوي عن ابن مسعود: أنه يقع. وقال ابن عباس: كذبوا على ابن مسعود، إن كان قالها فزلّة من عالم؛ في الرجل يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق، يقول الله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ولم يقل: إذا طلّقتموهن ثم نكحتموهنّ. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (50) تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن

تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً (52) } . عن مجاهد قوله: {أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} ، قال: صدقاتهنّ. وقال ابن زيد: كان كل امرأة آتاها مهرًا فقد أحلها الله له. وعن أم هانئ قالت: خطبني النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعتذرت له بعذري، ثم أنزل الله عليه: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} إلى قوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} ، قالت: فلم أحلّ له، لم أهاجر معه كنت من الطلقاء. وقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} . قال البغوي: وكان النكاح ينعقد في حقّه - صلى الله عليه وسلم - بمعنى الهبة، من غير وليّ ولا شهود ولا مهر، وكان ذلك من خصائصه في النكاح، لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، كالزيادة على الأربع، ووجوب تخيير النساء كان من خصائصه لا مشاركة لأحد معه فيه. وعن مجاهد قوله: ... {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} بغير صداق، فلم يكن يفعل ذلك وأحلّ الله له خاصة من دون المؤمنين. وعن قتادة في قول الله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} ، قال: كان مما فرض الله عليهم أن لا تزوّج امرأة إلا بوليّ وصداق عند شاهدي عدل، ولا

يحل لهم من النساء إلا أربع وما ملكت أيمانهم. وقوله تعالى: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} . قال البغوي: وهذا يرجع إلى أول الآية، أي: أحللنا لك أزواجك، وما ملكت يمينك، والموهوبة لك، {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} وضيق، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . وعن ابن عباس قوله: {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ} ، يقول: تؤخّر. وقال مجاهد: تعزل بغير طلاق من أزواجك، {مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء} ، قال: تردّها إليك. قال قتادة: فجعله الله في حلّ من ذلك، أن يدع من يشاء منهنّ بغير قسم، وكان نبي الله يقسم، {ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} ، قال: إذا علمن أن هذا جاء من الله كان أطيب لأنفسهن وأقلّ لحزنهنّ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} . قال البغوي: من أمر النساء والميل إلى بعضهنّ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً} . وعن ابن عباس قوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} . قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج بعد نسائه الأول شيئًا) . قال قتادة: وهنّ التسع اللاتي اخترن الله ورسوله. قال ابن جرير: ولا دلالة على نسخ حكم إحدى الآيتين حكم الأخرى. وعن قتادة: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} ، أي: حفيظًا. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ

فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) } . عن مجاهد في قول الله: {إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} ، قال: متحيِّنين نضجه. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه قال: لمَّا تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدَّثون فإذا هو كأنَّهُ يَتَهَيَّأُ للقيامِ فلم يقوموا، فلمَّا رأى ذلك قام، فلمَّا قام، قام من قام وقعد ثلاثةُ نفر، فجاء النبِي - صلى الله عليه وسلم - لِيَدخُل فإذا القوم جلوسٌ ثم إنهم قاموا فانطلقوا، فجئت فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا} الآية. وعن عمر بن الخطاب قال: قلت: (يا رسول الله لو حجبت عن أمهات المؤمنين، فإنه يدخل عليك البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب) . رواه ابن جرير وغيره.

وقال ابن زيد في قوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} ، قال: ربما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل يقول: لو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفى تزوّجت فلانة بعده، قال: فكان ذلك يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزل القرآن: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} الآية. وقوله تعالى: {لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ} الآية. قال ابن كثير: لما أمر تبارك وتعالى النساء بالحجاب من الأجانب، بيَّن أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب منهم، كما استثناهم في سورة النور عند قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء} . انتهى. قال بعض المفسرين: لِم لَمْ يذكر العم والخال؟ لأنهما يجريان مجرى الوالدين. قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) } . قال أبو العالية: صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء. وقال ابن عباس: {يُصَلُّونَ} : يركعون. وقال سفيان بن عيينة وغيره: صلاة الرب: الرحمة، وصلاة الملائكة: الاستغفار؛ وقد قال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} . وعن كعب بن عجرة قال: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} قلنا: يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل

إبراهيم إنك حميد مجيد» . متفق عليه. واللفظ للبخاري. وعن أبي طلحة الأنصاري رضي اللَّهُ عنه أن رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جاء ذات يومٍ وَالسُّرورُ يُرَى في وجهِهِ فقالوا: يا رسول اللَّهِ إنا لنرى السُّرورَ في وجهك! فقال: «إنهُ أتاني الملك فقال: يا محمد أما يُرضيك أن ربك عز وجل يقول: إنه لا يُصلِّي عليك أحدٌ من أُمَّتك إلا صلَّيت عليهِ عشرًا، ولا يسلم عليك أحدٌ من أُمَّتك إلا سلَّمتُ عليه عَشرًا؟ - قال -: بلى» . رواه أحمد وغيره. * * *

الدرس الثاني والعشرون بعد المائتين

الدرس الثاني والعشرون بعد المائتين {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (59) لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ

ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (73) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (58) } . قال عكرمة: {الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، هم: أصحاب المقادير. وقال قتادة: سبحان الله ما زال أناس من جهلة بني آدم حتى تعاطوا أذى ربهم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول اللَّهُ عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يَسُبُّ الدهر وأنا الدهر، أُقَلِّبُ ليله ونهاره» . وعن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[الله] ، الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا بعدي فمن أَحَبَّهُم فَبِحُبِّي أحبَّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشَكَ أن يأخذه» . وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «أيّ الربا أربى عند الله» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم، - ثم قرأ -: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً ... مُّبِيناً} » . قال قتادة: فإياكم وأذى المؤمن، فإن الله يحوطه ويغضب له. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً

رَّحِيماً (59) لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) } . عن ابن عباس قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} ، أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههنّ من فوق رؤوسهنّ بالجلابيب ويبدين عينًا واحدة. وقال قتادة: أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب، {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} ، وقد كانت المملوكة إذا مرّت تناولوها بالإيذاء، فنهى الله الحرائر يتشبهن بالإماء. وعن عكرمة في قوله: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} قال: هم الزناة. {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} ، قال قتادة: الإرجاف: الكذب. وكانوا يقولون: أتاكم عدد وعدّه. {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} ، أي: لنحملنّك عليهم، لنحرّشك بهم، {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً} أي: بالمدنية، {مَلْعُونِينَ} على كل حال، {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} إذا هم أظهروا النفاق {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ} يقول: هكذا سنة الله فيهم إذا أذهبوا النفاق {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ ... تَبْدِيلاً} . قوله عز وجل: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) } .

قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا علم له بالساعة وإن سأله الناس عن ذلك، وأرشده أنه يردّ علمها إلى الله عز وجل. وقال البغوي: {وَمَا يُدْرِيكَ} ، أي: شيء يعلمك أمر الساعة، ومتى يكون قيامها؟ أي: أنت لا تعرفه، {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُون، قَرِيبًا} . وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ} يا محمد {عَنِ السَّاعَةِ} متى هي قائمة؟ قل لهم: إنما علم الساعة عند الله لا يعلم وقت قيامها غيره، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} ، يقول: وما يشعرك يا محمد لعلّ قيام الساعة يكون منك قريبًا، قد قرب وقت قيامها ودنا حينُ مجيئها. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا} ، قال قتادة: أي: رؤوسنا في الشرّ والشرك، {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) } . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن موسى كان رَجُلًا حيِيًّا ستيرًا، لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب في جلده، إما برص، وإما أدرة، وإما آفة، وإن الله عز وجل أراد أن يبرئه مما قالوا، فخلا يومًا وحده فخلع ثِيَابَهُ

على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله عز وجل، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا، أو أربعًا، أو خمسًا، - قال -: ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} » . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} قال: صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون عليه السلام، فقال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: أنت قتلته. كان ألين لنا منك، وأشدّ حياء، فآذوه من ذلك، فأمر الله الملائكة فحملته فمرّوا به على مجالس بني إسرائيل فتكلّمت بموته. وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم قسمًا فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أُرِيدَ بها وجهُ الله فقلت: يا عدوّ الله أما لأخبرنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قلت، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فاحمّر وجهه ثم قال: «رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» . وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} ، أي: عدلاً. قال قتادة: يعني به في منطقه وعمله كله. والسديد: الصدق. قال ابن عباس: مَنْ سَرّه أن يكون أكرم الناس فليتّق الله. قوله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (73) } .

قال ابن عباس: الأمانة الفرائض التي افترضها الله على العباد. وقال الضحاك: عن ابن عباس في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} ، قال: (فلما عُرضت على آدم قال: أيْ ربّ وما الأمانة؟ قال: قيل: إن أدّيتها جُزيت، وإن ضيّعتها عوقبت، قال: أيْ ربّ حملتها بما فيها، قال: فما مكث في الجنة إلا قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس حتى عمل بالمعصية، فأُخرج منها) . وعن الضحاك في قوله: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ} ، قال: آدم، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} ، قال: {ظَلُوماً} لنفسه، {جَهُولاً} فيما احتمل فيما بينه وبين ربه. وعن قتادة: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} هذان اللذان خاناها، {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} هذان اللذان أدّياها، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربعٌ إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانةٍ، وَصِدقُ حديثٍ، وَحسن خليقةٍ وعفةٌ طعمة» . رواه الإمام أحمد. * * *

الدرس الثالث والعشرون بعد المائتين

الدرس الثالث والعشرون بعد المائتين [سورة سبأ] وآياتها أربع وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (9) } .

قوله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) } . قال ابن كثير: يخبر تعالى عن نفسه الكريمة أن له الحمد المطلق في الدنيا والآخرة، لأنه المنعم المتفضّل على أهل الدنيا والآخرة، المالك لجميع ذلك، الحاكم في جميع ذلك، كما قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، ولهذا قال تعالى ها هنا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} ، أي: الجميع ملكه وعبيده وتحت تصرفه وقهره، كما قال تعالى: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى} ؛ ثم قال عز وجل: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} ، فهو المعبود أبدًا، المحمود على طول المدى. وقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ} ، أي: في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، {الْخَبِيرُ} الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه شيء. قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ

الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) } . قال ابن كثير: هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهنّ، مما أمر الله تعالى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد لَمَّا أنكره مَنْ أنكره من أهل الكفر والعناد، فإحداهن في سورة يونس عليه السلام وهي قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} ، والثانية هذه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} ، والثالثة في سورة التغابن وهي قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، فقال تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} ثم وصفه بما يؤكّد ذلك ويقرّره، فقال: {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} . قال مجاهد، وقتادة: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ} : لا يغيب عنه. أي: الجميع متدرّج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء، فالعظام وإن تلاشت وتفرّقت وتمزّقت، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة فإنه بكل شيء عليم؛ ثم بين حكمته في إعادة الأبدان، وقيام الساعة بقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} . {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} ، أي: سعوا في الصدّ عن سبيل الله تعالى وتكذيب رسله، {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} ، أي: لينعم السعداء من المؤمنين ويعذّب الأشقياء من الكافرين، كما قال عز وجل: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} . وقوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} ، هذه حكمة أخرى معطوفة على التي قبلها، وهي: أن المؤمنين بما أنزل على الرسل إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار، بالذي كانوا قد علموه من كتب الله تعالى في الدنيا، رأوه حينئذٍ عين اليقين ويقولون يومئذٍ أيضًا: {لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} ، ويقال أيضًا: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} ، {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} ، {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ، {الْعَزِيزِ} هو: المنيع الجناب الذي لا يغلب ولا يمانع، بل قد قهر كل شيء وغلبه، {الْحَمِيدِ} في جميع أقواله وأفعاله وشرعه، وقدره، وهو المحمود في ذلك كله جلّ وعلا. وقال البغوي: قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، يعني: مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال قتادة: هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - {الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} ، يعني: القرآن، {هُوَ الْحَقَّ} ، يعني: أنه من عند الله، {وَيَهْدِي} ، يعني: القرآن، {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وهو: الإِسلام. قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ

وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (9) } . قال ابن كثير: هذا إخبار من الله عز وجل عن استبعاد الكفرة الملحدين قيامَ الساعة، واستهزائهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في إخباره بذلك، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} ، أي: تفرّقت أجسادكم في الأرض وذهبت فيها كل مذهب وتمزقت كل ممزق {إِنَّكُمْ} أي: بعد هذا الحال {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، أي: تعودون أحياء ترزقون بعد ذلك، وهو في هذا الإخبار لا يخلو أمره من قسمين: إما أن يكون قد تعمّد الافتراء على الله تعالى أنه قد أوحى إليه ذلك، أو أنه لم يتعمّد لكن لَبَسَ عليه كما يَلْبِسُ على المعتوه والمجنون، ولهذا قالوا: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} ؟ قال الله عز وجل رادًّا عليهم: {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} ، أي: ليس الأمر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه، بل محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الصادق البارّ الراشد الذي جاء بالحق، وهم: الكذبة الجهلة الأغنياء، {فِي الْعَذَابِ} ، أي: الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله تعالى، {وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} من الحق في الدنيا. ثم قال منبهًا على قدرته في خلق السماوات والأرض فقال تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} ، أي: حيثما توجّهوا وذهبوا فالسماء مطلِّة عليهم، والأرض تحتهم، كما قال عز وجل: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ ... الْمَاهِدُونَ} . قال عبد بن حميد: أخبرنا عبد الرزاق عن مَعْمَر عن قتادة: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} ، قال: إنك إن نظرت عن يمينك أو عن شمالك، أو من بين يديك أو من خلفك، رأيت السماء والأرض.

وقوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ} أي: لو شئنا لفعلنا بهم ذلك لظلمهم وقدرتنا عليهم، ولكن نؤخّر ذلك لحلمنا وعفونا؛ ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} قال معمر عن قتادة: منيب: تائب. وقال سفيان عن قتادة: المنيب: المقبل إلى الله تعالى. أي: أن في النظر إلى خلق السماوات والأرض لدلالة لكل عبد فطن لبيب رجّاع إلى الله، على قدرة الله على بعث الأجساد ووقوع المعاد، لأن من قدر على خلق هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها، وهذه الأرضيين في انخفاضها وأطوالها وأعراضها، إنه لقادر على إعادة الأجسام ونشر الرميم من العظام، كما قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى} . وقال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . * * *

الدرس الرابع والعشرون بعد المائتين

الدرس الرابع والعشرون بعد المائتين {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) } .

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) } . عن ابن عباس قوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} ، يقول: سبّحي معه. قال ابن كثير: التأويب في اللغة هو: الترجيع، فأمرت الجبال والطير أن ترجّع معه بأصواتها. وعن قتادة: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} ، يسخّر له الحديد بغير نار، {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} دروع، وكان أول من صنعها داود، إنما كان قبل ذلك صفائح. {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} ، قال: كان يجعلها بغير نار ولا يقرعها بحديد ثم يسردها. والسرد: المسامير التي في الحِلَقِ. وعن مجاهد في قوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} ، قال: لا تصغر المسمار وتعظم الحلقة فتسلس، ولا تعظم المسمار وتصغر الحلقة فيفصم المسمار. قوله عز وجل: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) } . قال ابن زيد في قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} قال: كان له مركب من خشب، وكان فيه ألف ركن، في كل ركن ألف بيت تركب فيه الجنّ والإِنس، تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب هم والعصار،

فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به وساروا معه؛ يَقيل عند قوم بينه وبينهم شهر، ويمسي عند قوم بينه وبينهم شهر، ولا يدري القوم إلا وقد أظلّهم معه الجيوش والجنود. وقال الحسن: كان يغدو فيَقيل في إصطخر، ثم يروح منها فيكون رَواحها بكابل. وعن ابن عباس قوله: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} ، يعني: عين النحاس أُسليت. وقال قتادة: كانت بأرض اليمن. وقوله تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} ، قال قتادة: أي: يعدل منهم عن أمرنا، عما أمره به سليمان، {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} ، وقيل: إن الله عز وجل وكلّ بهم ملكًا بيده سوط من نار، فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته. قال الحسن: الجنّ: ولد إبليس، والإنس: ولد آدم، ومن هؤلاء مؤمنون، ومن هؤلاء مؤمنون، وهم شركاؤهم في الثواب والعقاب، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنًا فهو وليّ الله تعالى، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرًا فهو شيطان. وعن مجاهد في قوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ} قال: بنيان دون القصور، {وَتَمَاثِيلَ} ، قال: من نحاس، {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} ، قال الحسن: كالحياض. {وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} ، قال قتادة: عظام ثابتات في الأرض لا يزُلن عن أمكنتهنّ. وقال البغوي: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ} أي: المساجد والأبنية المرتفعة، {وَتَمَاثِيلَ} ، أي: صورًا من نحاس وصفر، وشبه، وزجاج، ورخام، قال: ولعلّها كانت مباحة في شريعتهم، كما أن عيسى كان يتّخذ صورًا من الطين فينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن الله، {وَجِفَانٍ} ، أي: قصاع، واحدتها: جفنة، {كَالْجَوَابِ} : كالحياض التي يجبى فيها الماء، واحدتها: جابية، {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} ، ثابتات لها قوائم لا تحركن عن أماكنها لعظمهنّ، ولا يزلن ولا يقلعن، وكان يصعد

عليها بالسلاليم. {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} ، أي: وقلنا: اعملوا آل داود شكرًا. مجازه: اعملوا يا آل داود بطاعة الله، شكرًا لله على نعمه. {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ، أي: العامل بطاعتي شكرًا لنعمتي. انتهى ملخصًا. قوله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) } . عن ابن عباس قوله: {إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} ، يقول: الأرض تأكل عصاه. وقال قتادة: كانت الجن تخبّر الإِنس أنهم كانوا يعلمون من الغيب أشياء، وأنهم يعلمون ما في غد، فابتُلوا بموت سليمان، فمات فلبث سنة على عصاه وهم لا يشعرون بموته، وهم مسخّرون تلك السنة يعملون دائبين. قوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) } . عن ابن عباس قال: إن رجلين سألا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سبأ، ما هو أرجل، أم امرأة، أم أرض؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «بل هو رجل ولد له عشرة، فسكن اليمن منهم ستة، والشام منهم أربعة. فأما اليمانيون: فمذحج، وكندة، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحِمْيَر. وأما الشامية: فلخم، وجذام، وعاملة، وغسان» . رواه أحمد وغيره.

وقال قتادة في قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} ، قال: كانت جنتان بين جبلين، فكانت المرأة تخرج مكتلها على رأسها فتمشي بين جبلين فيمتلئ مكتلها وما مسّت يدها، فلما طغوا بعث الله عليهم دابة يقال لها: جرذ، فنقبت عليهم ففرّقتهم فما بقي لهم إلا أثل وشيء من سدر قليل. وقال المغيرة بن حكيم: لما ملكت بلقيس جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم، قال: فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصر لها وتركتهم، فلما كثر الشر بينهم وندموا أتوها، فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها فأبت، فقالوا: لترجعنّ أو لنقتلنك، فقالت: إنكم لا تطيعونني، وليست لكم عقول، ولا تطيعوني، قالوا: فإنا نطيعك، وإنا لم نجد فينا خيرًا بعدك، فجاءت قال: فسدّت ما بين الجبلين فحبست الماء من وراء السد، وجعلت له أبوابًا بعضها فوق بعض وبنت من دونه بركة ضخمة، فجعلت فيها اثني عشر مخرجًا على عدّة أنهارهم، فلما جاء المطر احتبس السيل من وراء السد، فأمرت بالباب الأعلى ففُتح فجرى ماؤه في البركة، وأمرت بالبعر فألقي فيها فجعل بعض البعر يخرج أسرع من بعض، فلم تزل تضيق تلك الأنهار، وترسل البعر في الماء حتى خرج جميعًا معًا، فكانت تقسمه بينهم على ذلك، حتى كان من شأن سليمان وشأنها ما كان. وقال البغوي: والعرم - جمع عرمة - وهي: المسكر الذي يحبس به الماء. قال قتادة: لما ترك القوم أمر الله بعث الله عليهم جرذًا يسمى: (الخلد) فنقبه من أسفله حتى غرّق به جنتيهم، وخرب به أرضهم عقوبة بأعمالهم. وقال ابن عباس: أبدلهم الله مكان جنتهم {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ} ، والخمط: الأراك. قال قتادة: وأكله بريرة. وقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} ؟ قال مقاتل: هل يكافأ بعمله السيِّئ إلا الكفور لله في نعمه؟

قال ابن كثير: وقوله: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} ، لما كان أجودَ هذه الأشجار المبدل بها هو السّدْر قال: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} ، فهذا الذي صار أمر تينك الجنتين إليه، بعد الثمار النضيجة، والمناظر الحسنة، والظلال العميقة، والأنهار الجارية، تبدّلت إلى شجر الأراك، والطرفاء، والسّدْر ذي الشوك الكثير، والثمر القليل، وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله، وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ} . قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) } . عن مجاهد: {الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} ، قال: الشام. وقال الحسن في قوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} ، قال: قرى متواصلة؛ كان أحدهم يغدو فيَقيل في قرية، ويروح فيأوي إلى قرية أخرى. وعن مجاهد قوله: {قُرًى ظَاهِرَةً} ، قال: السروات. وقوله تعالى: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} . قال البغوي: أي: قدّرنا مسيرهم في الغدوّ والرواح على قدر نصف يوم، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار، {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} ، قال قتادة: لا يخالفون ظلمًا ولا جوعًا، {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} ، قال ابن عباس: فإنهم بطروا عيشهم وقالوا: لو كان جنى جناتنا أبعد مما هي، كان أجدر أن نشتهيه، فمُزِّقوا بين الشام، وسبأ. وبُدّلوا بجنتيهم: {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} . عن قتادة: {فَجَعَلْنَاهُمْ

أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} ، قال: قال عامر الشعبي: أما غسان: فقد لحقوا بالشام، وأما الأنصار: فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة: فلحقوا بتهامة، وأما الأزد: فلحقوا بعمان فمزّقهم الله كل ممزَّق؛ وقال الأعشي ميمون بن قيس: وفي ذاك للمؤتي أسوة ... ومأرب عفا عليها العرم رخام بَنَتْهُ لهم حِمْيَرٌ ... إذا ما نأى ماؤهم لم يرم فأروى الزروع وأعنابها ... على سعة ماؤهم إذ قسم صاروا أيادي ما يقدرو ... ن منه على شرب طفل فطم وعن قتادة قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ، كان مطرف يقول: نِعْمَ العبد الصبّار الشكور، الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله تعالى له قضاء إلاَّ كان خيرًا له، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلاَّ للمؤمن» . * * *

الدرس الخامس والعشرون بعد المائتين

الدرس الخامس والعشرون بعد المائتين {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (24) قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (29) قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ

الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) } . عن مجاهد: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} ، قال: ظن ظنًا فاتّبعوا ظنّه. وقال ابن زيد في قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} ، قال: أرأيت هؤلاء الذين كرّمتهم عليّ وفضّلتهم وشرّفتهم، لا تجد أكثرهم شاكرين، وكان ذلك ظنًا منه بغير علم، فقال الله: {فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ} ، قال الحسن: والله ما ضربهم بعصا ولا سيف ولا سوط، إلاَّ أمانيّ وغرورًا دعاهم إليها. وعن قتادة قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} ، قال: وإنما كان بلاء ليعلم الله الكافر من المؤمن. قال البغوي: وأراد علم الوقوع والظهور، وقد كان معلومًا عنده بالغيب، {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} رقيب. قوله عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) } . قال ابن كثير: بَيَّن تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا نظير له ولا شريك، بل هو المستقل بالأمر وحده، من غير مشارك ولا منازع ولا معارض، فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، أي: من

الآلهة التي عبدت من دونه: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ} ، كما قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} . وقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} أي: لا يملكون شيئًا استقلالاً ولا على سبيل الشركة، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} أي: وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور، بل الخلق كلهم فقراء إليه، عبيد لديه. قال قتادة في قوله عز وجل: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} من عون يعينه بشيء. ثم قال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أي: لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى، إلا بعد إذنه له في الشفاعة، كما قال عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} ، وقال جلّ وعلا: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} . ولهذا ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد ولد آدم، وأكرم شفيع عند الله تعالى - أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلّهم، أن يأتي لفصل القضاء، قال: «فأسجد لله تعالى، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تُسمع، وسل تُعْطَه واشفع تشفع» الحديث بتمامه. وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} . وهذا أيضًا مقام رفيع في العظمة، وهو: أنه تعالى إذا تكلم بالوحي، فيسمع أهل

السماوات كلامه، أرْعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي. قال ابن مسعود رضي الله عنه ومسروق وغيرهما: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم} أي: زال الفزع عنها. {قالوا ماذا قال ربكم} ؟ سأل بعضهم بعضًا: ماذا قال ربكم؟ فيخبر بذلك حملة العرش الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا؟ ولهذا قال تعالى: {قَالُوا الْحَقّ} ، أي: أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} . وروى البغوي وغيره عن النواس بن سَمْعان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، فإذا تكلم أخذت السماوات منه رجفة - أو قال: رعدة شديدة - خوفًا من الله تعالى، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدًا، فيكون أول مَنْ يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمرّ جبريل على الملائكة، كلما مَرّ بسماء يسأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: {قال الحقّ وهو العلي الكبير} . قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله» . وروى البخاري وغيره عن أبي هريرة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قضى الله تعالى الأمرَ في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوانَ فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا للذي قال: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} . قوله عز وجل: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (24) قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ

الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) } . عن قتادة: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، قال: قد قال ذلك أصحاب محمد للمشركين، والله ما أنا وأنتم على أمر واحد، إن أحد الفريقين لمهتد. وقال البغوي: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} ؟ فالرزق من السماوات المطر، ومن الأرض النبات، {قل الله} ، أي: إن لم يقولوا: رازقنا الله، فقل أنت: إن رازقكم هو الله، {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ليس هذا على طريق الشك ولكن على جهة الإنصاف في الحجاج، كما يقول القائل للآخر: أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق، وصاحبه كاذب. وعن قتادة: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا يوم القيامة ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا} ، أي: يقضي بيننا. وعن ابن عباس قوله: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} ، يقول: القاضي {قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء} . قال البغوي: أي: أعلموني الذين ألحقتموهم به، أي: بالله، شركاء في العبادة معه هل يخلقون؟ وهل يرزقون؟ {كَلا} لا يخلقون ولا يرزقون، بَلْ هُوَ اللَّهُ {الْعَزِيزُ} الغالب على أمره، {الْحَكِيمُ} في تدبيره لخلقه؛ فأنى يكون له شريك في ملكه؟ وعن قتادة قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} ، قال: أرسل الله محمدًا إلى العرب، والعجم، فأكرمُهم على الله أطوعُهم له. ذُكِر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبشة، وسلمان سابق فارس» .

قوله عز وجل: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (29) قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) } . عن قتادة قوله: {لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} ، قال: قال المشركون: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه من الكتاب والأنبياء. وقال ابن زيد في قوله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} ، يقول: بل مكركم بنا في الليل والنهار أيها العظماء الرؤساء: {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} ، قال ابن كثير: أي: نظراء وآلهة معه وتقيموا لنا شبهًا وأشياء من المحال تضلّونا بها، {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} ، أي: الجميع من السادة والأتباع، كل ندم على ما سلف منه، {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ

(35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) } . عن قتادة قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} ، قال: هم: رؤوسهم وقادتهم في الشر. وقال ابن زيد في قوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} ، قال: وهذا قول المشركين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، قالوا: لو لم يكن الله عنّا راضيًا لم يعطنا هذا، كما قال قارون: لولا أن الله رضي بي وبحالي ما أعطاني هذا. قال: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} ، قال قتادة: لا يعتبر الناس بكثرة المال والولد، لكن الكافر قد يعطى المال ورما حُبس عن المؤمن. وعن سعيد بن جبير {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} قال: ما كان في غير إسراف ولا تقتير. وروى البغوي وغيره من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا» . قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ

الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) } . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء الكفار بالله جميعًا ثم نقول للملائكة: أهؤلاء كانوا يعبدونكم من دوننا؟ فتتبرأ منهم الملائكة، قالوا سبحانك ربنا تنزيهًا لك وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء من الشركاء والأنداد، {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} لا نتخذ وليًّا دونك، {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} . قال البغوي: فإن قيل: هم كانوا يعبدون الملائكة فكيف وجه قوله: {يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} ، قيل: أراد أن الشياطين زيّنوا لهم عبادة الملائكة، فهم كانوا يطيعون الشياطين في عبادة الملائكة؛ فقوله: {يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أي: يطيعون الجن، {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} ، يعني: مصدقون للشياطين. ثم يقول الله: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً} بالشفاعة، ... {وَلَا ضَرّاً} بالعذاب، يريد أنهم عاجزون لا نفع عندهم ولا ضرّ. وقال ابن كثير: أي: لا يقع لكم نفع مما كنتم ترجون نفعه من الأنداد، والأوثان التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكربكم اليوم، لا يملكون لكم نفعًا ولا ضرًا , {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} وهم المشركون، {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} ، أي: يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا. * * *

الدرس السادس والعشرون بعد المائتين

الدرس السادس والعشرون بعد المائتين {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ (54) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) } . عن قتادة: {وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} أي: يقرؤونها {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ} ما أنزل الله على العرب كتابًا قبل القرآن ولا بعث إليهم نبيًّا قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -. {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} يخبركم أنه أعطى القوم ما لم يعطكم من القوة وغير ذلك، {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} . قال البغوي: أي: إنكاري وتغييري عليهم، يحذّر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية. قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) } .

عن قتادة قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ} وتلك الواحدة: {أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} رجلاً ورجلين. وقال ابن كثير: يقول تبارك وتعالى: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} ، أي: إنما آمركم بواحدة وهي: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} ، أي: تقوموا قيامًا خالصًا لله عزّ وجلّ من غير هوى ولا عصبيّة، فيسأل بعضكم بعضًا: هل بمحمد من جنون؟ فينصح بعضكم بعضًا، {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} ، أي: ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه ويتفكّر في ذلك؛ ولهذا قال تعالى: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} . وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} . روى الإمام أحمد من حديث بريدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوًا يأتيهم، فبعثوا رجلاً يتراءى لهم، فبينما هم كذلك أبصر العدو، فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه أيها الناس أتيتم، أيها الناس أتيتم، ثلاث مرات» ؛ وقال - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت أنا والساعة جميعًا، إن كادت لتسبقني» . وعن قتادة: قوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ} ، أي: جعل، {فَهُوَ لَكُمْ} ، يقول: لم أسألكم على الإِسلام جعلاً، {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} بالوحي، {عَلامُ الْغُيُوبِ} ، قال ابن كثير: وقوله عز وجل: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} ، أي: بالوحي، {عَلامُ الْغُيُوبِ} ،

كقوله تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ، أي: يرسل الملك على من يشاء من عباده من أهل الأرض، وهو علام الغيوب فلا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض. وقوله تبارك وتعالى: {قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} ، أي: جاء الحق من الله والشرع العظيم، وذهب الباطل وزهق واضمحلّ، كقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} ، ولهذا لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد الحرام يوم الفتح، ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة، جعل يطعن الصنم منها بسنّ قوسه ويقرأ: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} ، {قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} . وقوله تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} ، قال البغوي: وذلك أن كفار مكة كانوا يقولون له: إنك قد ضللت حين تركت دين آبائك، فقال الله تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} ، أي: إثم ضلالتي على نفسي، {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} من القرآن والحكمة، {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} . قوله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ (54) } .

عن قتادة عن الحسن قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} ، قال: فزعوا يوم القيامة حين خرجوا من قبورهم. وقال قتادة: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} حين عاينوا عذاب الله. قال البغوي: وفي الآية حذف تقديره: لرأيت أمرًا تعتبر به. وعن مجاهد: قوله: {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} ، قالوا: آمنا بالله. وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون حين عاينوا عذاب الله: {آمَنَّا بِهِ} ، يعني: آمنا بالله وبكتابه ورسوله. وعن ابن عباس: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} ، قال: يسألون الرَدّ وليس بحين رَدّ. وعن سعيد: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} ، قال: التناول. وعن مجاهد: قوله: {مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ} من الآخرة إلى الدنيا. وعن قتادة: ... {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ} ، أي: بالإيمان في الدنيا. {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} ، أي: يرجمون بالظنّ يقولون: لا بعث ولا جنّة ولا نار. وعن مجاهد في قوله: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} ، قال: قولهم: ساحر، بل هو كاهن، بل هو شاعر. {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} ، قال: من مال أو ولد أو زهرة، {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ} ، قال البغوي: يعني: بنظرائهم ومن كان على مثل حالهم من الكفار، أي: لم يقبل منهم الإِيمان والتوبة في وقت اليأس، ... {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ} من البعث ونزول العذاب بهم، {مُّرِيبٍ} موقع لهم الريبة والتهمة. قال قتادة: إياكم والشك والريبة، فإن من مات على شك بُعث عليه، ومن مات على يقين بُعث عليه. * * *

الدرس السابع والعشرون بعد المائتين

الدرس السابع والعشرون بعد المائتين [سورة فاطر] وآياتها خمس أربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ

الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) } . * * *

قوله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) } . قال ابن عباس: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، أي: بديع السماوات والأرض؛ وقال: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فَطَرتها، أي: بدأتها. {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} ، قال قتادة: بعضهم له جناحان وبعضهم ثلاثة وبعضهم أربعة. {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} ، قال السدي: يزيد في أجنحتهم ما يشاء؛ وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل عليه السلام ليلة الإسراء وله ستّمائة جناح، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب. وعن قتادة: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} ، أي: من خير، {فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} فلا يستطيع أحد حبسها، {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد» . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِن يُكَذِّبُوكَ

فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) } . عن قتادة: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} ، يعزي نبيّه كما تسمعون. وعن ابن عباس في قوله: {وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ، يقول: الشيطان. وعن قتادة قوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} فإنه حقّ على كل مسلم عداوته، وعداوته أن يعاديه بطاعة الله، {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} وحزبه أولياؤه، {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} ، أي: ليسوقهم إلى النار فهذه عداوته. وقوله تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} ، قال الحسن: الشيطان زيّن لهم. {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ، أي: لا يحزنك ذلك عليهم، {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} . وقال ابن كثير: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} ، يعني: الكفار والفجّار يعملون أعمالاً سيّئة، وهم في ذلك يعتقدون ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا، أي: أفمن كان هكذا قد أضلّه الله، ألك فيه حيلة؟ لا حيلة لك فيه، ... {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} ، أي: بقَدَرِه كان ذلك، {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ، أي: لا تأسف على ذلك فإن الله حكيم في قدره، إنما يُضلّ ويَهدي من يَهدي، لما له في ذلك من الحجّة البالغة والعلم التام، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} .

قوله عز وجل: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) } . عن قتادة: قوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} ، قال: يرسل الرياح فتسوق السحاب، فأحيا الله به هذه الأرض الميتة بهذا الماء، فكذلك يبعثه يوم القيامة. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} ، يقول: فليعزز بطاعة الله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} لا يقبل الله قولاً إلا بعمل، مَنْ قال وأحسن العمل قَبِلَ الله منه. وعن ... عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إذا حدّثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله تعالى إن العبد المسلم إذا قال: سبحان الله وبحمده، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تبارك الله، أخذهنّ ملك فجعلهنّ تحت جناحيه ثم صعد بهنّ إلى السماء، فلا يمرّ بهنّ على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهنّ، حتى يجيء

بهن وجهَ الرحمن، ثم قرأ عبد الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . رواه ابن جرير. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: والذين يكسبون السيّئات لهم عذاب جهنم. وقوله: {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} ، يقول: وعمل هؤلاء المشركين يبور، فيبطل فيذهب لأنه لم يكن لله فلم ينفع عامله. وعن قتادة: {وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} يعني: آدم {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} يعني: ذرّيّته، {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً} فزوّج بعضكم بعضًا. وقال ابن زيد في قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} ، قال: ألا ترى الإِنسان يعيش مائة سنة، وآخر حين يولد؟ وقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} قال قتادة: والأُجاج: المرّ {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} أي: منهما جمعيًا، {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} هذا اللؤلؤ {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} فيه السفن مقبلة ومدبرة بريح واحدة؛ قيل: نسب اللؤلؤ إليهما لأنه يكون في البحر الأُجاج عيون عذبة، فيكون اللؤلؤ من بين ذلك. وعن قتادة: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} زيادة هذا في نقصان هذا، ونقصان هذا في زيادة هذا. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى} لأجل معلوم وحدّ لا يقصر دونه ولا يتعدّاه {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} .

قال ابن جرير: وقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} ، يقول: الذي يفعل هذه الأفعال معبودكم - أيها الناس - الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو الله ربكم. وقوله: {لَهُ الْمُلْكُ} ، يقول تعالى ذكره: له الملك التامّ الذي لا شيء إلا وهو في ملكه وسلطانه. وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} ، يقول تعالى ذكره: والذين تعبدون - أيها الناس - من دون ربكم - الذي هذه الصفة التي ذكرها في هذه الآيات صفته - {مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} ، يقول: ما يملكون قشر نواة فما فوقها. وعن قتادة: قوله: {إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} ، أي: ما قبلوا ذلك عنكم ولا نفعوكم فيه، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} إياهم ولا يرضون ولا يقرّون به. {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} ، والله هو الخبير أنه سيكون هذا منهم يوم القيامة. انتهى. وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} ، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ

سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} . * * *

الدرس الثامن والعشرون بعد المائتين

الدرس الثامن والعشرون بعد المائتين {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ

إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (37) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) } . عن ابن عباس: قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} ، يقول: يكون عليه وزر لا يجد أحدًا يحمل عنه من وزره شيئًا. وعن قتادة: قوله: {وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} ، أي: من يعمل صالحًا فإنما يعمله لنفسه. وقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ} ، قال ابن زيد: هذا مثل ضربه الله، فالمؤمن بصير في دين الله، والكافر أعمى، كما لا يستوي الظلّ ولا الحرور، ولا الأحياء ولا الأموات. وقال ابن عباس: هو مثل ضربه الله لأهل الطاعة وأهل المعصية، يقول: وما يستوي الأعمى والظلمات والحرور ولا الأموات، فهو مثل

أهل المعصية، ولا يستوي البصير ولا النور، ولا الظلّ والأحياء، فهو مثل أهل الطاعة. وعن قتادة: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} كذلك الكافر لا يسمع ولا ينتفع بما يسمع. وقال البغوي: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ} حتى يتّعظ ويجيب، {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُور} ، يعني: الكفار شبّههم بالأموات في القبور حين لم يجيبوا، {إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ} ما أنت إلا منذر تخوّفهم بالنار. {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ} ما من أمة فيما مضى، {إِلَّا خلَا} سلف، {فِيهَا نَذِيرٌ} نبيّ منذر، {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ} بالكتب، ... {وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} الواضح؛ كرّر ذلك الكتاب بعد ذكر الزبر على طريق التأكيد. {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} ، أي: إنكاري. وقال ابن كثير: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: ومع هذا كله كذّب أولئك رسلهم فيما جاؤوهم به، فأخذتهم، أي: بالعقاب والنكال، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} ، أي: فيكف رأيت إنكاري عليهم عظيمًا شديدًا بليغًا. والله أعلم. قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) } . عن قتادة في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} أحمر، وأخضر، وأصفر. {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ} ، أي: طرائق بيض، {وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} ، أي: جبال حمر وبيض، {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} هو: الأسود. يعني: لونه كما اختلف ألوان هذه اختلف ألوان الناس، والدواب، والأنعام كذلك.

وعن ابن عباس: قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} ، قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير. وقال قتادة: كان يقال: كفى بالرهبة علمًا. وقال ابن مسعود: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال سعيد ابن جبير: الخشية: هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل. وقال ابن عباس: العالم بالرحمن من عباده، من لم يشرك به شيئًا، وأحلّ حلاله وحرّم حرامه، وحفظ وصيّته، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) } . عن قتادة قال: كان مطرف إذا مرّ بهذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} ، يقول: هذه آية القرّاء {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} . وعن قتادة: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} إنه غفور لذنوبهم، شكور لحسناتهم. قوله عز وجل: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) } . عن قتادة: قوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} الكتب التي خلت قبله.

وعن ابن عباس: قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} إلى قوله: {الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} هم: أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ورّثهم الله كل كتاب أنزله. وقال ابن مسعود: (هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابًا يسيرًا، وثلث يجيئون بذنوب عظام، حتى يقول: ما هؤلاء؟ وهو أعلم تبارك وتعالى، فتقول الملائكة: هؤلاء جاءوا بذنوب عظام، إلا أنهم لم يشركوا بك، فيقول الرب: أدخِلوا هؤلاء في سعة رحمتي؛ وتلا عبد الله هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} ) . وعن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} . فأما السابق بالخيرات فيدخلها بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابًا يسيرًا، وأما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغمّ والحزن فذلك قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} . رواه ابن جرير وغيره. قال الزجاج: أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو لمَعاد. وعن قتادة: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ} ، أقاموا فلا يتحولون، {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} ، أي: وجع، {وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} ، قال ابن عباس: اللغوب: العناء. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (37) } . عن قتادة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ} بالموت {فَيَمُوتُوا} لأنهم لو ماتوا لاستراحوا {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} . وروى ابن

جرير وغيره عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، لكن ناسًا - أو كما قال - تصيبهم النار بذنوبهم - أو قال: بخطاياهم - فيميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحمًا أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثّوا على أهل الجنة فقال: يا أهل الجنة: أفيضوا عليهم، فيَنبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل» . فقال رجل من القوم: حينئذٍ كأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان بالبادية. قوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ} ، أي: يصيحون فيها يقولون: ... {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فيقول الله لهم توبيخًا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} ، قال ابن عباس: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم أربعون سنة. قال مسروق: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَعْذَرَ الله عز وجل إلى امرئ أخّر عمره حتى بلغ ستّين سنة» . رواه البخاري وغيره، وقال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجّة، فنعوذ بالله أن نعيِّر بطول العمر، قد نزلت هذه الآية: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} وإنّ فيهم لابن ثماني عشرة سنة. وقال ابن زيد في قوله: {وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} ، قال: النذير: النبيّ، وقرأ: {هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى} . قال ابن كثير: وقوله تعالى: {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} ، أي: ذوقوا عذاب النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدّة أعماركم، فما لكم اليوم ناصر ينقذكم. * * *

الدرس التاسع والعشرون بعد المائتين

الدرس التاسع والعشرون بعد المائتين {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (45) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً (39) } . قال ابن كثير: يخبر تعالى بعلم غيب السماوات والأرض، وأنه يعلم ما تكنّه السرائر وما تنطوي عليه الضمائر، وسيجازَى كلّ بعمله؛ ثم قال عز وجل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ} ، أي: يخلف قوم لآخرين قبلهم، وجيل لجيل قبلهم، {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} ، أي: فإنما يعود وبال ذلك على نفسه دون غيره، {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا} ، أي: كلّما استمرّوا على كفرهم أبغضهم الله تعالى، وكلّما استمرّوا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، بخلاف المؤمنين فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحَسُن عمله، ارتفعت درجته ومنزلته في الجنة وأحبه خالقه. قوله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) } . قال ابن كثير: يقول تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للمشركين: {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، أي: من الأصنام والأنداد، ... {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} ، أي: ألهم شيء من ذلك؟ ما

يملكون من قطمير. وقوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} ، أي: أم أنزلنا عليهم كتابًا بما يقولونه من الشرك والكفر؟ ليس الأمر كذلك، {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا} ، أي: بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي غرور، وباطل، وزور. ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عند أمره وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا} ، أي: أن تضطربا عن أماكنهما، كما قال عز وجل: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ} ، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ} ؛ {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} ، أي: لا يقدر على قوامهما وإبقائهما إلا هو، وهو مع ذلك حليم غفور، أي: يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم فيؤخر وينظر ويؤجل ولا يعجل، ويستر آخرين ويغفر، ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} . قال: وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، أو النار، لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» . قوله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) } .

قال البغوي: قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، يعني: كفار مكة لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، وأقسموا بالله وقالوا: لو أتانا رسول الله لنكونن أهدى دينًا منهم، وذلك قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما بُعث محمد كذبوه فأنزل الله عز وجل {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ} رسول، {لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} ، يعني: من اليهود والنصارى {وَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ} محمد - صلى الله عليه وسلم -، {مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً} ، أي: ما زادهم مجيئه إلاَّ تباعدًا عن الهدى. {اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ} نَصَبَ (استكباراً) على البدل من (النفور) . {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} ، يعني: العمل القبيح، أضيف المكر إلى صفته؛ قال الكلبي: هو اجتماعهم على الشرك وقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -. {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ} ، أي: لا يحل ولا يحيط المكر السيئ، {إِلا بِأَهْلِهِ} فقتلوا يوم بدر. وقال ابن عباس: عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك. والمعنى: إن وبال مكرهم راجع عليهم، {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ} إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مضى من الكفار؟ قال ابن كثير: وقال محمد بن كعب القُرَظِي: ثلاث من فعلهن لم ينجُ حتى ينزل به من: مكر، أو بغي، أو نكث. وتصديقها في كتاب الله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} . {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ، {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} . وقوله تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} قال بعضهم: والتبديل: تغيير الصورة مع بقاء المادة، والتحويل: نقل الشيء من مكان إلى مكان آخر. قال ابن كثير: وقوله عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ} ، يعني: عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} ، أي: لا تغير ولا تبدل، بل هي جارية كذلك في كل مكذب، {وَلَنْ تَجِدَ

لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} ، أي: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ} ، ولا يكشف ذلك عنهم، ويحوله عنهم أحد. والله أعلم. قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (45) } . عن قتادة: {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} يخبركم: أنه أعطى القوم ما لم يعطكم. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ} . قال البغوي: أي: ليفوت عنه {مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} ، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا} من الجرائم، {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا} ، يعني: على ظهر الأرض كناية عن غير مذكور، {مِنْ دَابَّةٍ} كما كان في زمان نوح، أهلك الله ما على ظهر الأرض إلا من كان في سفينة نوح. {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أهل طاعته وأهل معصيته. وقال ابن كثير: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي: ولكن يُنْظرهُم إلى يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذٍ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهلَ الطاعة، وبالعقاب أهل المعصية، ولهذا قال تبارك تعالى: ... {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} . * * *

الدرس الثلاثون بعد المائتين

الدرس الثلاثون بعد المائتين [سورة يس] مكية وهي ثلاث وثمانون آية ... روى البزار وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لكل شيء قلبًا، وقلب القرآن يس» . وعن جُنْدَب بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله عز وجل، غفر له» . رواه ابن حبان في صحيحه. بسم الله الرحمن الرحيم {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً

فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (19) وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (24) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ (28) إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ (31) وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) } . * * *

{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ ... نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) } . عن قتادة: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} قَسَمٌ، كما تسمعون، {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: على الإسلام {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} ، قال البغوي: قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص: (تنزيل) بنصب اللام كأنه قال: نزل تنزيلاً. وقرأ الآخرون: بالرفع، أي: هو تنزيل العزيز الرحيم. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} يعني بهم: العرب؛ فإنه ما أتاهم من نذير من قبله. وذكرهم وحدهم لا ينفي مَنْ عداهم، كما أن ذكر بعض الأفراد لا ينفي العموم. وقد تقدم ذكر الآيات والأحاديث المتواترة الدالة على عموم بعثته - صلى الله عليه وسلم - عند قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} .

وقال البغوي: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} ، وجب العذاب، {عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} ، هذا كقوله: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . وعن قتادة: قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ} ، أي: فهم مضلّلون عن كل خير، {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} ، قال: ضلالات، {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} هدى ولا ينتفعون به. وعن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدًا لأفعلنّ ولأفعلنّ، فأنزلت: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ} إلى ... {فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} قال: فكانوا يقولون: هذا محمد فيقول: أين هو، أين هو؟ لا يبصر. وقوله تعالى: {وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} ، قال قتادة: واتباع الذكر: اتباع القرآن. وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} ، قال قتادة: مِنْ عَمَلٍ. وعن مجاهد: {مَا قَدَّمُوا} أعمالهم وآثارهم، قال: خُطاهم بأرجلهم. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قُرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا بني سلمة دِياركم تُكْتَبْ آثَارُكُمْ» . رواه مسلم وغيره. وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرُها وأجْرُ من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجُورِهم شَيءٌ ومن سن في الإسلام سُنة سَيِّئة كان عليه وِزْرُها وَوِزْرُ من عَمِل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ» . وعن قتادة قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} محصى عند الله في كتاب.

قوله عز وجل: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (19) } . قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس، وعن كعب الأحبار، وعن وهب بن منبه قال: كان بمدينة أنطاكية فرعون من الفراعنة يقال له أبطيحس، يعبد الأصنام صاحب شرك، فبعث الله المرسلين وهم ثلاثة: صادق، ومصدوق، وسلوم. فقدم إليه وإلى أهل مدينته اثنان فكذبوهما ثم عزز الله بثالث، فلما دعته الرسل ونادته بأمر الله وصدعت بالذي أمرت به وعابت دينه وما هم عليه، قال لهم: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، قالت لهم الرسل: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ، أي: أعمالكم معكم. وعن قتادة: {أَئِن ذُكِّرْتُم} ، أي: إن ذكرناكم الله تطيرتم بنا؟ {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} . قوله عز وجل: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (24) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) } .

قال البغوي: قوله عز وجل: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} وهو حبيب النجار. وقال السدي: كان قصّارًا. وقال وهب: كان رجلاً يعمل الحرير، وكان سقيمًا قد أسرع فيه الجذام، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان مؤمنًا ذا صدقة، يجمع كسبه إذا أمسى فيقسمه نصفين، فيطعم نصفًا لعياله، ويتصدّق بنصفه، فلما بلغه أن قومه قد قصدوا قتل المرسلين جاءهم، {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ، قال قتادة: كان حبيب في غار يعبد الله، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم فأظهر دينه، فلما انتهى حبيب إلى الرسل قال لهم: تسألون على هذا أجرًا؟ قالوا: لا. فأقبل على قومه: فـ {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ} فلما قال ذلك قالوا له: وأنت مخالف لديننا ومتابع دين هؤلاء الرسل ومؤمن بإلههم؟ فقال: {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ؟ . وقال ابن إسحاق فيما بلغه: ناداهم بخلاف ما هم عليه من عبادة الأصنام، وأظهر لهم دينه وعبادة ربه، وأخبرهم أنه لا يملك نفعه ولا ضره غيره، فقال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} ؟ ثم عابها، فقال: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} وشدة، {لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ} الذي كفرتم به، ... {فَاسْمَعُونِ} ، قال: فوثبوا وثبة رجل واحد فقتلوه، واستضعفوه لضعفه وسقمه، ولم يكن أحد يدفع عنه، {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} ، قال ابن مسعود: قال الله له: ادخل الجنة، فدخلها حيًّا يرزق فيها، قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونَصَبَها، فلما أفضى إلى رحمة الله وجنته وكرامته، {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} ، قال قتادة: فلا تلقى المؤمن إلا ناصحًا ولا تلقاه غاشًّا. قوله عز وجل: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ (28) إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى

الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ (31) وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) } . قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن مسعود قال: غضب الله له - يعني لهذا المؤمن لاستضعافه إياه - غضبة لم تُبْقِ من القوم شيئًا، فعجَّل لهم النقمة بما استحلوا منه، وقال: {وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ} ، يقول: ما كاثرناهم بالجموع، أي: الأمر أيسر علينا من ذلك، {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} فأهلك الله ذلك الملك وأهل أنطاكية، فبادوا عن وجه الأرض، فلم تبق منهم باقية. وعن قتادة: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} ، أي: يا حسرة العباد على أنفسها على ما ضيعت من أمر الله وفرطّت في جنب الله، {مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} ، قال مجاهد: كانت حسرة عليهم استهزاؤهم بالرسل. وعن قتادة: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} ، قال: عاد، وثمود، وقارون، وقرون بين ذلك كثيرًا، {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} ، أي: يوم القيامة. * * *

الدرس الواحد والثلاثون بعد المائتين

الدرس الواحد والثلاثون بعد المائتين {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (47) } . * * *

قوله عز وجل: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) } . يقول تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ} ، أي: دلالة واضحة على وحدانية الله تعالى وقدرته التامّة وإحيائه الموتى، {الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} بالمطر، {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً} يعني: الحنطة وغيرها، {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ} بساتين {مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ} أي: من ثمر المذكور {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أي: لم تعمل الثمر. وقال في جامع البيان: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أي: الثمر لم تعمله أيدي الناس، بل خَلْقُ الله، ولهذا قال: {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} ؟ وعن بعض: أن (ما) موصولة، عطف على ثمره، والمراد ما يُتّخذ منه كالدبس. ... {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ} الأنواع {كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} الذكر والأنثى، {وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} من مخلوقات شتّى. قوله عز وجل: {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) } .

قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} ، قال البغوي: وذلك أن الأصل هي الظلمة، والنهار دخلٌ، فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل فتظهر الظلمة. وعن قتادة قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} ، قال: وقت واحد لا تعدوه. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد عند غروب الشمس، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا ذرّ أتدري أين تغرب الشمس» ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله تعالى: ... {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا * ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} » . رواه البخاري وغيره. وفي رواية أحمد: «فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عز وجل، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فترجع إلى مطلعها، وذلك مستقرها، - ثم قرأ -: ... {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} » . وفي رواية البغوي: «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يُقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} » . قال ابن جرير: وقوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، يقول: هذا الذي وصفنا من جري الشمس لمستقرٍّ لها، تقدير العزيز في انتقامه من أعدائه العليم بمصالح خلقه وغير ذلك من الأشياء كلها، لا تخفى عليه خافية. وعن الحسن في قوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} قال: كعذق النخلة إذا قدم فانحنى.

وقال ابن كثير: ثم قال جل وعلا: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} ، أي: جعلناه يسير سيرًا آخر يُستدلّ به على مضيّ الشهور، كما أن الشمس يُعرف بها الليل والنهار، كما قال عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ * مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . وقوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ} ، قال مجاهد: لكل منهما حدّ لا يعدوه ولا يقصّر دونه، إذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا، وإذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان هذا. {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} قال الضحاك: لا يذهب الليل من ها هنا حتى يجيء النهار من ها هنا. ... {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ، قال ابن عباس: يجرون في فَلَكَةٍ كَفَلَكَةِ المغزل. وقال مجاهد: الفَلَكُ كحديدة الرَّحى، أو كفلكة المغزل لا يدور المغزل إلا بها، ولا تدور إلا به. قوله عز وجل: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (44) } . قال البغوي: والمراد بالذرية: الآباء، والأجداد. واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد. {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ، أي: المملوء، وأراد سفينة نوح، وهؤلاء من نسل من حُمل مع نوح، وكانوا في أصلابهم. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: تدرون ما: {وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} ؟ قلنا: لا، قال: هي

السفن جُعلت لهم من بعد سفينة نوح على مثلها. وقال السدي: ألا ترى أنه قال: {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ} ؟ قال قتادة: أي: لا مغيث لهم، {إِلا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} ، أي: إلى الموت. قال البغوي: يعني: إلا أن يرحمهم ويمتّعهم على حين آجالهم. قوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (47) } . قال البغوي: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} ، قال ابن عباس: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} يعني: الآخرة فاعملوا لها {وَمَا خَلْفَكُمْ} يعني: الدنيا فاحذروها، ولا تغترّوا بها. وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم {وَمَا خَلْفَكُمْ} عذاب الآخرة، وهو قول قتادة، ومقاتل. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} والجواب محذوف تقديره: إذا قيل لهم هذا أعرضوا عن دليله ما بعده. {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} أي: دلالة على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، {إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} . {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ} أعطاكم الله {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ} أنرزق {مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} ؟ وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة: أنفقوا على المساكين مما زعمتم من أموالكم أنه لله وهو ما جعلوه لله من حروثهم وأنعامهم، قالوا: {أَنُطْعِمُ} أنرزق {مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} رزقه ثم لم يرزقه مع قدرته عليه، فنحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله، وهذا إنما يتمسّك به البخلاء يقولون: لا نعطي من حرمه الله؛ وهذا الذي يزعمون باطل لأن

الله أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء، فمنع الدنيا من الفقير لا بُخْلاً، وأمر الغنيّ بالإنفاق لا حاجةً إلى ماله ولكن ليبلو الغنيّ بالفقير فيما أمر وفرض له في مال الغنيّ، ولا اعتراض على مشيئة الله وحكمه في خلقه، {إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ، يقول الكفار للمؤمنين: ما أنتم إلا في خطأ بيّن في اتباعكم محمدًا وترك ما نحن عليه. انتهى. والله أعلم. * * *

الدرس الثاني والثلاثون بعد المائتين

الدرس الثاني والثلاثون بعد المائتين {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ (69) لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ

الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) } . * * *

قوله عز وجل: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) } . قال البغوي: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} ، أي: القيامة، والبعث. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . قال الله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ} ، أي: ينتظرون {إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى، {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} ، يعني: يختصمون في أمر الدنيا من البيع والشراء، ويتكلمون في المجالس والأسواق. قال: ورُوينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويناه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يَطْعَمُها» . وعن قتادة: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} ، أي: فيما في أيديهم، {وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} قال: أعلجوا عن ذلك. قوله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (54) } . قال البغوي: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} وهي النفخة الأخيرة نفخة البعث، وبين النفختين أربعون سنة.

وعن قتادة: {فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ} ، أي: القبور. {إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} ، يقول: يخرجون، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} ، قال: هذا قول أهل الضلالة والرقدة ما بين النفختين، {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} ، قال: أهل الهدى، {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} . قال البغوي: وقال أهل المعاني: إن الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها، صار عذاب القبر في جنبها كالنوم، فقالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا. وقوله تعالى: {إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} ، يعني: النفخة الأخيرة {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . قوله عز وجل: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ (58) } . عن ابن عباس: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} ، قال: افتضاض الأبكار، {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ} ، قال: هي السُّرُر في الحِجال، {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ} ، قال البغوي: يتمنون ويشتهون. {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ، أي: يسلم الله عليهم {قَوْلاً} ، أي: يقول الله لهم قولاً. ثم روى بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: «بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربّ تبارك وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله: {سَلامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» .

قوله عز وجل: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) } . عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان يوم القيامة، أمر الله جهنم فيخرج منها عُنق ساطع مظلم، ثم يقول: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} الآية، إلى قوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ، {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} فيتميز الناس ويجثون، وهي قول الله: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} » الآية. رواه ابن جرير. وقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} قال البغوي: ألم آمركم يا بني آدم: {أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} ، أي: لا تطيعوا الشيطان في معصية الله؟ {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهر العداوة {وَأَنْ اعْبُدُونِي} أطيعوني ووحّدوني {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} . {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً} أي: خلقًا كثيرًا، {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس؟ ويقال لهم لما دنوا من النار: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} بها في الدنيا، {اصْلَوْهَا} : ادخلوها {الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} هذا حين ينكر الكفار كفرهم وتكذيبهم الرسل بقولهم: ما كنا مشركين، فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم. انتهى.

وروى مسلم وغيره في حديث أبي هريرة (الطويل) : «ثم يلقى الثالث فيقول: ما أنت؟ فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيّك وبكتابك، وصمت وصلّيت وتصدّقت، ويثني بخير ما استطاع، قال: فيقال له: ألا نبعث عليك شاهدًا؟ فيفكر في نفسه: من الذي يشهد عليه؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي قال: فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، وذلك المنافق ليعذر من نفسه، وذلك الذي يسخط الله تعالى عليه» . قوله عز وجل: {وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ (69) لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) } . {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} ، أي: الطريق، {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} ، يقول: لو شئنا لتركناهم عميًا يتردّدون، {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} أي: لأقعدناهم على أرجلهم {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} فلم يستطيعوا أن يتقدموا ولا يتأخروا، {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} يقول: من نمد له في العمر ننكسه في الخلق {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} ، يعني: الهرم، {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} . قال البغوي: فيعتبروا، ويعلموا أن الذي قدر على تصريف أحوال الناس يقدر على البعث بعد الموت. وعن قتادة قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} ، قال: قيل لعائشة: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: (كان أبغض الحديث إليه، غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس، فيجعل آخره أوله، وأوله آخره، فقال أبو بكر: أنه ليس

هكذا، فقال نبي الله: «إني والله ما أنا بشاعر، ولا ينبغي لي» ، والبيت المشار إليه قول طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} قال البغوي {إِنْ هُوَ} . يعني: القرآن، {إِلَّا ذِكْرٌ} موعظة، {وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} في: الفرائض، والحدود، والأحكام. {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً} ، يعني: مؤمنًا حي القلب لأن الكافر كالميت في أنه لا يتدبر ولا يتفكر. {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ} وتجب حجة العذاب، {عَلَى الْكَافِرِينَ} ، قال ابن كثير: أي: هو رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين. قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) } . قال البغوي: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} تولينا خلقه بإبداعنا من غير إعانة أحد، {أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ضابطون قاهرون، أي: لم يخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها، بل هي مسخرة لهم،

وهي قوله: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} سخرناها لهم {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} ، أي: ما يركبون وهي الإبل، {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} لحمانها. {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} ، أي: من أصوافها وأوبارها ونسلها وَمَشَارِب من ألبانها، {أَفَلا يَشْكُرُونَ} رب هذه النعم؟ وقال ابن جرير يقول: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} نعمتي هذه وإحساني إليهم بطاعتي، وإفراد الألوهية لي والعبادة، وترك طاعة الشيطان وعبادة الأصنام؟ وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} . قال ابن كثير: يقول تعالى منكرًا على المشركين في اتخاذهم الأنداد آلهة مع الله، يبتغون بذلك أن تنصرهم تلك الآلهة وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى. قال الله تعالى: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} ، أي: لا تقدر الآلهة على نصر عابديها، بل هي أضعف من ذلك وأقل وأذل، وأحقر وأدحر، بل لا تقدر على الانتصار لأنفسها، ولا الانتقام ممن أرادها بسوء؛ لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل. وقوله تبارك وتعالى: {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} ، قال مجاهد: يعني: عند الحساب، يريد أن هذه الأصنام محشورة مجموعة يوم القيامة، محضرة عند حساب عابديها، ليكون ذلك أبلغ في حزنهم، وأدل عليهم في إقامة الحجة عليهم. وقال قتادة: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} ، يعني: الآلهة، {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} ، والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا وهي لا تسوق إليهم خيرًا، ولا تدفع عنهم شرًا. وقوله تعالى: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} ، أي: تكذيبهم لك وكفرهم بالله، {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وسنجازيهم على أعمالهم. قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ

الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) } . قال مجاهد وغيره: جاء أبيّ بن خلف - لعنه الله - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يده عظم رميم، وهو يفته ويذروه في الهواء وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «نعم. يميتك الله تعالى ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار» ، ونزلت هذه الآيات من آخر سورة يس: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ} إلى آخرهن. وقوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} ، قال البغوي: جدل بالباطل بين الخصومة، يعني: إنه مخلوق من نطفة، ثم يخاصم. فكيف لا يتفكر في بدوّ خلقه حتى يدع الخصومة! {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} بدء أمره {قالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} بالية؟ {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً} . قال ابن عباس: هما شجرتان يقال لإحداهما: المرخ. والأخرى: العفار، فمن أراد منهم النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار فتخرج منهما النار بإذن الله عز وجل؛ تقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} ، أي: تقدحون، وتوقدون النار من ذلك الشجر. ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان، فقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِر عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} ، أي: قل: بلى، هو قادر على ذلك، {وَهُوَ الْخَلاقُ} يخلق

خلقًا بعد خلق، {الْعَلِيم} بجميع ما خلق. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ} ملك، {كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (قُمت مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقرأ السبعَ الطوال في سبع ركعاتٍ وكان إذا رفع رأسه من الركوع قال: «سمع اللَّهُ لمن حمده - ثم قال -: الحمد لله ذي الملكوتِ والجبروتِ، والكبرياءِ والعظمة» ؛ وكان ركوعه مثل قيامه، وسجوده مثل ركوعه، فانصرف وقد كادت تنكَسِرُ رجلاي) . رواه أحمد. وفي حديث عوف بن مالك عند أبي داود: (ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه: «سبحان ذي الملكوت والجبروت، والكبرياء والعظمة» ؛ ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك) . وعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقرأوا على موتاكم سورة يس» . رواه البغوي وغيره. والله أعلم. * * *

الدرس الثالث والثلاثون بعد المائتين

الدرس الثالث والثلاثون بعد المائتين [سورة الصافات] مكية، وهي مائة وثمانون آية ... عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات) . رواه النسائي. بسم الله الرحمن الرحيم {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا

لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ (36) بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ (45) بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ

الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) } . * * *

قوله عز وجل: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) } . عن قتادة: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً} ، قال: قسم، أقسم الله بخلق ثم خلق {وَالصَّافَّاتِ} الملائكة صفوفًا في السماء. وعن مجاهد في قوله: ... {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} ، قال: الملائكة، {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} ، قال: الملائكة. وعن قتادة: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} وقع القسم على هذا، {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} . {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} قال: مشارق الشمس في الشتاء والصيف. قوله عز وجل: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) } . عن قتادة قوله: {وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} ، قال: مُنِعُوهَا، {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً} قذفًا، قذفًا بالشهب، {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} أي: دائم، {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} من نار، وثقوبه: ضوءه. قال ابن عباس: لا يقتلون بشهاب ولا يموتون، ولكنهم تحرقهم من غير قتل وتخلل وتجرح. قوله عز وجل: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً

يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) } . قال ابن جرير: {فَاسْتَفْتِهِمْ} ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: فاستفت يا محمد هؤلاء المشركين الذين ينكرون البعث بعد الممات، والنشور بعد البلاء، يقول: فسلهم: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} ، يقول: أخلقهم أشدّ خلقًا أم من عددنا خلقه من: الملائكة، والشياطين، والسماوات والأرض؟ وعن ابن عباس قوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ} ، قال: هو الطين الحر الجيد اللزق. وعن قتادة: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} ، قال: عجب محمد عليه السلام من هذا القرآن حين أعطيه وسخر منه أهل الضلالة. {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ} أي: لا ينتفعون ولا يبصرون {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} يسخرون منها ويستهزئون. {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} تكذيبًا بالبعث، {قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} أي: صاغرون، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} قال السدي: هي النفخة {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ * وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} ، قال قتادة: يدين الله فيه العباد بأعمالهم، {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ، يعني: يوم القيامة. وعن ابن عباس قوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} يعني: أتباعهم ومن اتبعهم من الظلمة، {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} ، قال قتادة:

الأصنام {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} قال ابن عباس يقول: وجهوهم. وقال ابن مسعود: وليس أحد من الخلق كان يعبد من دون الله شيئًا إلا وهو مرفوع له يتبعه، قال: فيلقى اليهود فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد عزيرًا؟ فيقول: هل يسركم الماء؟ فيقولون: نعم. فيريهم جهنم وهي كهيئة السراب، ثم قرأ: {إنا عَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً} ، قال: ثم يلقى النصارى فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: المسيح، فيقول: هل يسركم الماء؟ فيقولون: نعم. فيريهم جهنم وهي كهيئة السراب، ثم كذلك لمن كان يعبد من دون الله شيئًا، ثم قرأ عبد الله: ... {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} . وعن قتادة قوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} لا والله لا يتناصرون، ولا يدفع بعضهم عن بعض، {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} في عذاب الله. قوله عز وجل: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ (36) بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) } . عن ابن عباس: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} ، يقولون: كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا، لأنا كنا أذلاء وكنتم أعزاء. وقال مجاهد: يعني: عن الحق، والكفار تقوله للشياطين، {قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ، قال ابن كثير: تقول القادة من الجن والإنس للأتباع: ما الأمر كما تزعمون؟ بل كانت قلوبكم منكرة

للإيمان، قابلة للكفر والعصيان، {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي: من حجة على صحة ما دعوناكم إليه. {بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} ، يقول الكبراء للمستضعفين: حقت علينا كلمة الله إنا من الأشقياء الذائقين للعذاب يوم القيامة، {فَأَغْوَيْنَاكُمْ} ، أي: دعوناكم إلى الضلالة، {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} ، أي: فدعوناكم إلى ما نحن فيه، فاستجبتم لنا؛ قال الله تبارك وتعالى: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} ، أي: الجميع في النار، كل بحسبه، {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا} ، أي: في الدنيا، {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} ، أي: أن يقولوها، كما يقولها المؤمنون. وعن قتادة: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} ، يعنون: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، {بَلْ جَاء بِالْحَقِّ} بالقرآن، ... {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} ، أي: صدق من كان قبله من المرسلين. قال البغوي: أي: أنه أتى بما أتى به المرسلون قبله. قوله عز وجل: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ (45) بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ (49) } . قال ابن كثير: يقول تعالى مخاطبًا للناس: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، ثم استثنى من ذلك عباده المخلصين، كما قال

تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . وعن قتادة: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ، قال: هذه ثنية الله، {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ} في الجنة، {فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ} ، قال قتادة: كأس من خمر جارية، والمعين هي: الجارية، {بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ} ، قال مجاهد: وجع بطن. {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} ، قال قتادة: يقول: ليس فيها وجع بطن، ولا صداع رأس. وقال السدي: لا تنزف عقولهم. وعن قتادة: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} ، قال: قصر طرفهنّ على أزواجهنّ فلا يردن غيرهم. وعن السدي في قوله: {عِينٌ} ، قال: عظام الأعين، {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} ، قال: البيض حين يقشّر قبل أن تمسّه الأيدي. قوله عز وجل: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) } . عن قتادة: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} ، قال: أهل الجنة. وعن ابن عباس قوله: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ} ، قال: هو الرجل المشرك يكون له الصاحب في الدنيا من أهل الإيمان فيقول له المشرك: إنك لتصدّق بأنك مبعوث من بعد الموت {أَئِذَا كُنَّا

تُرَاباً} ؟ فلما أن صاروا إلى الآخرة وأدخل المؤمن الجنة، وأدخل المشرك النار. {فَاطَّلَعَ} المؤمن فرأى صاحبه {فِي سَوَاء الْجَحِيمِ} وسطها {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} . قال قتادة: أي: في عذاب الله، {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} . قال ابن كثير: هذا من كلام المؤمن، مغتبطًا بما أعطاه الله تعالى من الخلد في الجنة، والإقامة في دار الكرامة بلا موت فيها ولا عذاب. ولهذا قال عز وجل: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، وعن قتادة: قوله: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} إلى قوله: {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، قال: هذا قول أهل الجنة. قوله عز وجل: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) } . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {لِمِثْلِ هَذَا} الذي أعطيت هؤلاء المؤمنين من الكرامة في الآخرة، {فَلْيَعْمَلْ} في الدنيا لأنفسهم ... {الْعَامِلُونَ} ليدركوا ما أدرك هؤلاء بطاعة ربهم. وعن قتادة: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} ؟ حتى بلغ: {فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} ، قال: لما ذكر شجرة الزقوم افتتن الظلمة فقالوا: ينبّئكم صاحبكم هذا أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجرة، فأنزل الله ما تسمعون: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي

أَصْلِ الْجَحِيمِ} ، غُذّيت بالنار ومنها خُلقت، {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} شبّهه بذلك، {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ} ، قال ابن عباس: يعني: شرب الحميم على الزقوم، وقال السدي: الشوب: الخلط. وهو: المزج. وعن قتادة: قوله: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} فهم في عناء وعذاب من نار جهنم وتلا هذه الآية: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} . [وقوله] {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} ، قال مجاهد: أي: يسرعون إسراعًا في ذلك. * * *

الدرس الرابع والثلاثون بعد المائتين

الدرس الرابع والثلاثون بعد المائتين {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ (72) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى

إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ (72) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) } . قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} ، أي: من الأمم الخالية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} الكافرين أي: كان عاقبتهم العذاب، {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ، قال السدي: الذين استخلصهم الله. قال ابن جرير: واستثنى عباد الله من المنذرين لأن معنى الكلام: فانظر كيف أهلكنا المنذرين إلا عباد الله المؤمنين، فلذلك حسن استثناؤهم منهم. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) } . عن قتادة: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} قال: أجابه الله. وعن السدي: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} قال: من الغرق. وعن الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} ، قال: «سام، وحام، ويافث» . قال قتادة: فالناس كلهم من ذرية نوح. وعن ابن عباس قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} ، يقول: يُذْكَرُ بخير، {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ

نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} . قال مقاتل: جزاه الله بإحسانه الثناء الحسن في العالمين. وعن قتادة: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} ، قال: أنجاه الله ومن معه في السفينة وأغرق بقيّة قومه. قوله عز وجل: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) } . عن ابن عباس: قوله: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} ، يقول من أهل دينه. وقال مجاهد: على منهاجه وسنّته. وعن قتادة: {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} واللهِ من الشرك، {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال ابن كثير: أنكر عليهم عبادة الأصنام والأنداد، ولهذا قال: {أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال قتادة: يعني: ما ظنكم أنه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم معه غيره؟ وقال البغوي: وقوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} قال ابن عباس: كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجّة في أنها غير معبودة، وكان لهم من الغد عيد ومجمع، وكانوا يدخلون على أصنامهم ويفرشون لهم

الفراش، ويضعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم زعموا التبرك عليه، فإذا انصرفوا من عيدهم أكلوه، فقالوا لإبراهيم: ألا تخرج غدًا معنا إلى عيدنا؟ فنظر إلى النجوم فقال: إني سقيم. قال ابن عباس: مطعون، وكانوا يفرّون من الطاعون فرارًا عظيمًا. {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} إلى عيدهم، فدخل إبراهيم على الأصنام فكسرها، كما قال الله تعالى: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} مال إليها ميلة في خفية فقال استهزاء بها: {أَلا تَأْكُلُونَ} ، يعني: الطعام الذي بين أيديكم، {مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} ، أي: كان يضربهم بيده اليمنى لأنها أقوى على العمل من الشمال، {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} يسرعون، وذلك أنهم أخبروا بصنيع إبراهيم بآلهتهم فأسرعوا إليه ليأخذوه. قال لهم إبراهيم على وجه الحجاج: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} بأيديكم. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} بأيديكم من الأصنام، {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} ، قال مقاتل: بنوا له حائطًا من الحجر طوله في السماء ثلاثون ذراعًا، وعرضه عشرون ذراعًا، وملأوه من الحطب، وأوقدوا فيه النار فطرحوه فيها. {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} شرًّا، وهو: أن يحرقوه، {فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ} ، أي: المقهورين حيث سلَّم الله تعالى إبراهيم وردّ كيدهم. انتهى ملخصًا. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام غير ثلاث كذبات: اثنتين في ذات الله تعالى قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وقوله في سارة: هي أختي» . متفق عليه. قوله عز وجل: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ

عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) } . قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: أنه بعدما نصره الله تعالى على قومه وأيس من إيمانهم بعدما شاهدوا من الآيات العظيمة، هاجر من بين أظهرهم، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} ، يعني: أولادًا مطيعين يكونون عوضًا من قومه وعشريته الذين فارقهم، قال الله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} وهذا الغلام هو: إسماعيل عليه السلام، فإنه أول ولد بُشّر به إبراهيم، وهو أكبر من إسحاق، باتفاق المسلمين، وأهل الكتاب. وعن ابن عباس: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} لما شبّ حتى بلغ سعيه، سعى إبراهيم. قال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل؟ فقال: يا أصيمع، أين ذهب عقلك؟ متى كان إسحاق بمكّة؟ إنما كان إسماعيل بمكّة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه. وقال ابن إسحاق وغيره: فلما أُمر إبراهيم بذلك قال لابنه: يا بنيّ خذ الحبل والمدية ننطلق إلى هذا الشعب نحتطب، فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما أُمر {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} . {فَلَمَّا أَسْلَمَا} انقاد وخضعا لأمر الله تعالى. قال قتادة: أسلم إبراهيم ابنه وأسلم الابن نفسه، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} ، قال ابن عباس: أضجعه على جبينه على الأرض. وعن قتادة: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} ، أي: وكبّه لِفِيه وأخذ الشفرة {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} حتى بلغ: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} .

وقوله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ، قال ابن كثير: أي: هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجًا ومخرجًا، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ} ، أي: الاختبار الواضح الجليّ حيث أمر بذبح ولده فسارع إلى ذلك. وقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} ، قال مجاهد: سمّاه عظيمًا لأنه متقبَّل. قال ابن عباس: الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الذي قرّبه ابن آدم. وقال ابن زيد في قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} ، قال: سأل إبراهيم فقال: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} ، قال: فترك الله عليه الثناء الحسن في الآخِرين، كما ترك اللسان السوء على فرعون وأشباهه، كذلك ترك اللسان الصدق والثناء الصالح على هؤلاء. {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} . قال ابن كثير: لما تقدّمت البشارة بالذبيح وهو: إسماعيل. عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق، وقد ذكرت في سورتي هود، والحجر. وقوله تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} ، كقوله تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

الدرس الخامس والثلاثون بعد المائتين

الدرس الخامس والثلاثون بعد المائتين {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) } . وعن قتادة: {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أي: من آل فرعون، {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} : التوراة، {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} : الإسلام. قوله عز وجل: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) } . عن مجاهد في قوله: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} ، قال: ربًّا. وقال ابن زيد: بعل صنم كانوا يعبدونه، كانوا ببعلبك وهم وراء دمشق وكان بها البعل الذي كانوا يعبدون. وقال ابن إسحاق عن وهب بن منبه: أن الله قبض حِزْقيل، وعظمت في بني إسرائيل أحداث، ونُسوا ما كان من عهد الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها دون الله، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران

نبيًّا. وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يُبعثون إليهم بتجديد ما نُسوا من التوراة، فكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل، يقال له: أحاب، وكان اسم امرأته: أربل، وكان يسمع منه ويصدّقه، وكان إلياس يقيم له أمره، وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنمًا يعبدونه من دون الله يقال له: بعل. قال ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول: ما كان بعل إلا امرأة يعبدونها من دون الله. يقول الله لمحمد: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ} فجعل إلياس يدعوهم إلى الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئًا إلا ما كان من ذلك الملك، والملوك متفرّقة بالشام، كل ملك له ناحية منها يأكلها، فقال ذلك الملك - الذي كان إلياس معه يقوّم له أمره ويراه على هدى من بين أصحابه - يومًا: يا إلياس، والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلاً، والله ما أرى فلانًا وفلانًا بعد، وملوكًا من ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان من دون الله، إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون، ويشربون، وينعمون مملكين ما ينقص دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل، وما نرى لنا عليهم من فضل، فيزعمون - والله أعلم - أن إلياس استرجع، وقام شعر رأسه وجلده، ثم رفضه وخرج عنه، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه، عبد الأوثان، وصنع ما يصنعون، فقال إلياس: اللهمّ إن بني إسرائيل قد أبوا إلا أن يكفروا بك، والعبادة لغيرك، فغيّر ما بهم من نعمتك، أو كما قال. وقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ، قال ابن جرير يقول: فإنهم لمحضرون في عذاب الله فيشهدونه، إلا عباد الله الذين

أخلصهم من العذاب، {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} ، يقول: وأبقينا عليه الثناء الحسن في الآخرين من الأمم بعده. وعن السدي: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} قال: إلياس. قوله عز وجل: {وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) . عن قتادة: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ} ، قال: نعم والله، صباح ومساء يطؤونها وطأ. من أخذ من المدينة إلى الشام، أخذ على سدوم قرية قوم لوط. وقال ابن زيد في قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ، قال: أفلا تفتكرون ما أصابهم في معاصي الله أن يصيبكم ما أصابهم؟ . قوله عز وجل: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) } . عن قتادة في قوله: {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} كنا نحدث أنه: الموقر. {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} ، قال: فاحتبست السفينة فعلم القوم أنما احتبست من حدث أحدثوه، فتساهموا فقرع يونس فرمي بنفسه، ... {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} أي: في ضعة. قال ابن زيد: والمليم: المذنب. وعن ابن عباس قوله: {فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} يقول: من المقروعين. وقال البغوي: وقوله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، أي: من جملة رسل الله،

{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ، يعني: هرب. قال ابن عباس، ووهب: كان يونس وعد قومه العذاب، فلما تأخر عنهم العذاب خرج كالمتواري منهم، فقصد البحر فركب السفينة، فاحتبست السفينة. فقال الملاحون: ها هنا عبد أبق من سيده، فاقترعوا ثلاثًا، فوقعت القرعة على يونس، فقال يونس: أنا الآبق، وزج نفسه في الماء. وقال ابن كثير: {فَسَاهَمَ} أي: قارع {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} ، أي: المغلوبين. وذلك أن السفينة تَلَعَّبَت بها الأمواج من كل جانب، وأشرفوا على الغرق، فساهموا على من تقع عليه القرعة يلقى في البحر، لتخف بهم السفينة، فوقعت القرعة على نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات، وهم يضنون به أن يلقى من بينهم، فتجرد من ثيابه ليلقي نفسه وهم يأبون عليه ذلك. وأمر الله تعالى حوتا من البحر الأخضر أن يشق البحار، وأن يلتقم يونس عليه السلام، فلا يَهْشِمُ له لحمًا ولا يكسر له عظمًا، فجاء ذلك الحوت وألقى يونس نفسه، فالتقمه الحوت وذهب به فطاف به البحار كلّها، ولما استقرّ يونس في بطن الحوت، حسب أنه قد مات ثم حرّك رأسه ورجليه وأطرافه فإذا هو حيّ، فقام فصلّى في بطن الحوت، وكان من جملة دعائه: يا ربّ اتخذت لك مسجدًا في موضع لم يبلغه أحد من الناس. وعن قتادة: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ} كان كثير الصلاة في الرخاء فنجَّاه الله بذلك. قال: وقد كان يقال في الحكمة: أن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا ما عَثَرَ، فإذا صُرِعَ وُجِدَ مُتَّكِأً. وعن أنس مرفوعًا: «أن يونس النبيّ حين بدا له أن يدعو الله بالكلمات حين ناداه وهو في بطن الحوت فقال: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فأقبلت الدعوة تحت العرش، فقالت الملائكة: يا ربّ هذا صوت ضعيف معروف في بلاد غريبة، قال: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: يا رب ومن هو؟ قال: ذلك عبدي يونس. قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يُرفع له عمل متقبَّل ودعوة مستجابة! قالوا: يا رب أو لا يُرحم

بما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ ! قال: بلى. فأمر الحوت فطرحه بالعراء» . رواه ابن جرير. وعن قتادة: قوله: {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} لصار له بطن الحوت قبرًا إلى يوم القيامة. {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء} ، قال: بأرض ليس فيها شيء ولا نبات. وعن ابن عباس قال: خرج به - يعني: الحوت - حتى لفظه في ساحل البحر، فطرحه مثل الصبيّ المنغوس لم ينقص من خلقه شيء. وعن السدي: {وَهُوَ سَقِيمٌ} كهيئة الصبيّ. وعن سعيد بن جبير في قوله: {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} ، قال: كل شيء ينبت على وجه الأرض ليس له ساق. قال قتادة: كنا نحدّث أنها الدبّاء - هذا القرع الذي رأيتم - أنبتها الله عليه يأكل منها. وعن ابن عباس في قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} ، قال: بل يزيدون، كانوا مائة ألف وثلاثين ألفًا. قال قتادة: أرسل إلى أهل نينوى من أهل الموصل قال: قال الحسن: بعثه الله قبل أن يصيبه ما أصابه {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} : الموت. * * *

الدرس السادس والثلاثون بعد المائتين

الدرس السادس والثلاثون بعد المائتين {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنْ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) } . * * *

قوله عز وجل: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) } . عن قتادة: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} يعني: مشركي قريش. قال ابن زيد: سلهم. وقال السدي: كانوا يعبدون الملائكة. قال ابن كثير: وقوله تبارك وتعالى: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} أي: كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث وما شاهدوا خلقهم! ؟ كقوله جل وعلا: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} . وعن قتادة: {أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ} ، يقول: من كذبهم: {لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ؟ يقول: كيف يجعل لكم البنين ولنفسه البنات؟ {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} ، أي: عذر بيّن. وعن السدي في قوله: {سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} ، قال: حجّة. {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} . {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} ، قال مجاهد: قال كفار قريش: الملائكة بنات الله فسأل أبو بكر: من أمهاتهنّ؟ فقالوا بنات سروات الجنّ، {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} إنها ستحضر الحساب. وقال السدي: إن هؤلاء الذين قالوا هذا، {لَمُحْضَرُونَ} : لمعذبون.

قال ابن كثير: وقوله جلّت عظمته: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، أي: تعالى وتقدّس وتنزّه عن أن يكون له ولد، وعما يصفه به الظالمون الملحدون علوًّا كبيرًا. وقوله تعالى: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء منقطع، وهو من مثبت إلا أن يكون الضمير في قوله تعالى: {عَمَّا يَصِفُونَ} عائدًا على الناس جميعهم، ثم استثنى منهم المخلَصين، وهم: المتّبعون للحقّ المنزل. قوله عز وجل: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنْ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) } . عن ابن عباس قوله: {مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} يقول: ما أنتم بفاتنين على أوثانكم أحدًا إلا من قد سبق له أنه صال الجحيم. وقال الحسن: ما أنتم عليه بمضلّين إلا من كان في علم الله أنه سيصلى الجحيم. وعن السدي في قوله: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} ، قال الملائكة. وعن عائشة قالت: قال نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما في سماء الدنيا موضع قدم إلا عليه ملك ساجد، أو قائم فذلك قول الملائكة: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} » . رواه ابن جرير. وعن قتادة قوله: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنْ الْأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} ، قال: قد قالت هذه الأمة ذاك قبل أن يبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -: لو كان

عندنا ذكر من الأوّلين، لكنا عباد الله المخلَصين، فلما جاءهم محمد كفروا به. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ، وقال ابن عباس: لما جاء المشركون من أهل مكة ذكر الأوّلين وعلم الآخرين كفروا بالكتاب، ... {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} يقول: قد جاءكم محمد بذلك فكفروا بالقرآن، وبما جاء به محمد. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) } . عن قتادة: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ، قال: سبق هذا من الله لهم أن ينصرهم. وعن السدي في قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} ، يقول: بالحجج. {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} ، قال: حتى يوم بدر. وقال ابن زيد في قوله: {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ، يقول: أنظرهم فسوف يبصرون ما لهم بعد اليوم، يقول: يبصرون يوم القيامة ما ضيّعوا من أمر الله، وكفرهم بالله ورسوله وكتابه؛ قال: (فأبْصِرْهُمْ) (وأَبْصِرْ) واحد. وقال البغوي: {وَأَبْصِرْهُمْ} إذا نزل بهم العذاب، {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ، فقالوا: متى هذا العذاب؟ فقال الله عز وجل: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} ، قال: وذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين صبّح أهل خيبر: «الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» . ثم كرّر ما ذكر تأكيدًا لوعيد العذاب، فقال: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ} العذاب إذا نزل بهم: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} .

قوله عز وجل: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) } . عن قتادة: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، أي: عما يكذبون، يسبّح نفسه إذا قيل عليه البهتان، {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سلّمتم عليّ فسلّموا على المرسلين، فإنما أنا رسول من المرسلين» . وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من أحبّ أن يَكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه في مجلسه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . * * *

الدرس السابع والثلاثون بعد المائتين

الدرس السابع والثلاثون بعد المائتين [سورة ص] مكية، وهي ثمان وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ (19)

وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (29) } . * * *

قوله عز وجل: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ (11) } . عن ابن عباس: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} ذي الشرف. وعن قتادة: {ذِي الذِّكْرِ} ، أي: ما ذكر فيه. قال ابن كثير: ولا منافاة بين القولين، فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير، والإعذار، والإنذار. وعن قتادة: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} ، أي: في حميّة وفراق؛ قال: ها هنا وقع القَسَم. وقوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} قال ابن عباس: ليس بحين تَرَوٍّ ولا فرار، ضُبِطَ القوم. وقال قتادة: نادى القوم على غير حين نداء، وأرادوا التوبة حين عاينوا عذاب الله، فلم يقبل منهم ذلك. وقوله تعالى: {وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} قال قتادة: يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ، قال: عجب المشركون أن دُعوا إلى الله وحده وقالوا: يسمع لحاجاتنا جميعًا إله

واحد؟ {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} . وعن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته. فبعث إليه فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، فخشي أبو جهل إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرفق له عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسًا قرب عمه فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم، وتقول، وتقول. قال: فأكثروا عليه القول، وتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدّي إليهم بها العَجَمُ الجزية» ! . ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: كلمة واحدة! (نعم وأبيك عشرًا) ، فقالوا: وما هي؟ فقال أبو طالب: وأيّ كلمة هي يا ابن أخي؟ قال: «لا إله إلا الله» . قال: فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ! قال: ونزلت من هذا الموضع إلى قوله: {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} . وقوله تعالى: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} ، قال البغوي: أي: انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب، ويقول بعضهم لبعض: {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} ، أي: اثبتوا على عبادة آلهتكم، {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} ، أي: الأَمر يراد بنا، وذلك أن عمر لما أسلم وحصل للمسلمين قوة لمكانه قالوا: إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد لشيء يُراد بنا. وعن

ابن عباس قوله: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} ، يعني: النصرانية، فقالوا: لو كان هذا القرآن حقًا أخبرتنا به النصارى، وعن قتادة: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} أي: في ديننا هذا ولا في زماننا قطّ، {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} إلا شيء تخلّقه. وقال ابن زيد قالوا: إن هذا إلا كذب. {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} ، قال البغوي: القرآن، {مِن بَيْنِنَا} وليس بأكبرنا ولا أشرفنا؟ يقوله أهل مكة؛ قال الله عزّ وجلّ: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي} ، أي: وحيي وما أنزلت، {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} ، ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول. {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} ، يعني: نعمة ربك، يعني: مفاتيح النبوّة يعطونها من شاءوا؟ ونظيره: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} ، أي: نبوّة ربك؟ {الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} العزيز في ملكه، الوهّاب وهب النبوّة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، {أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} ، أي: ليس لهم ذلك، {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} ، أي: إن ادّعوا شيئًا من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء، فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون. قال مجاهد، وقتادة: أراد بالأسباب: أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء، وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو طريق فهو سببه، وهذا أمر توبيخ وتعجيز. {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} أي: هؤلاء الذين يقولون هذا القول جند هنالك، (وما) صلة، {مَهْزُومٌ} مغلوب، {مِّنَ الْأَحْزَابِ} ، أي: من جملة الأجناد، يعني: قريشًا. قال قتادة: أخبر الله تعالى نبيّه - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكّة أنه سيهزم جند المشركين وقال: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فجاء تأويلها يوم بدر، وهنالك إشارة إلى بدر ومصارعهم، {مِّنَ الْأَحْزَابِ} ، أي: من جملة الأحزاب. أي: هم من القرون الماضية الذين تحزّبوا وتجمّعوا على الأنبياء بالتكذيب، فقُهروا وأُهلكوا. انتهى.

قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) } . عن ابن عباس: {وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} ، قال: كانت ملاعب يلعب له تحتها. وقال مجاهد: كان يمدّ الرجل مستلقيًا على الأرض ثم يشدّ يديه ورجليه ورأسه على الأرض بالأوتاد. وعن قتادة: {إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} ، قال: هؤلاء كلّهم قد كذّبوا الرسل فحقّ عليهم العذاب، {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} ، يعني: أمة محمد، {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} ، يعني: الساعة ما لها من رجوع ولا ارتداد، {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} ، أي: نصيبنا، حظّنا من العذاب قبل يوم القيامة، قال: قد قال ذلك أبو جهل: اللهم إن كان ما يقول محمد حقًّا فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم. وقوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ، يقول تعالى: اصبر يا محمد على ما يقول قومك، فإن الرفعة والعاقبة لك، كما كانت للرسل قبلك. وعن مجاهد قوله: {ذَا الْأَيْدِ} ، قال: ذا القوة في طاعة الله، {إِنَّهُ أَوَّابٌ} إنه رجاع عن الذنوب. وقال قتادة: كان مطيعًا لله كثير الصلاة. {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} ، قال: يسبّحن مع داود إذا سبّح بالعشيّ والإشراق، {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} مسخرة، {كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} ، أي: مطيع. ... {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} ، قال ابن كثير: أي: جعلنا له ملكًا كاملاً من جميع ما يحتاج إليه

الملوك. وقال السدي: كان يحرسه كل يوم وليلة أربعة الآف، {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} ، قال: النبوة، {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} ، قال مجاهد: إصابة القضاء وفهمه. قوله عز وجل: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) } . عن قتادة: {وَلَا تُشْطِطْ} ، أي: لا تمل، {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ} إلى عدله وخيره. وعن وهب بن منبه: {إِنَّ هَذَا أَخِي} ، أي: على ديني {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} قال ابن زيد: أعطنيها، طلقها لي أنكحها وخل سبيلها {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} قال: قهرني. وعن ابن عباس قوله: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} ، قال: إن داود قال: يارب قد أعطيت إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب من الذكر ما لوددت أنك أعطيتني مثله، قال: إني ابتليتهم بما لم أبتلك به، فإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم به، وأعطيتك كما أعطيتهم. قال: نعم. قال له: اعمل حتى أرى بلاءك، فكان ما شاء الله أن يكون، وطال ذلك عليه فكاد أن ينساه، فبينا هو في محرابه إذ وقعت عليه حمامة من ذهب فأراد أن يأخذها، فطارت إلى كوة المحراب فذهب ليأخذها فطارت، فاطلع من

الكوة فرأى امرأة تغتسل فنزل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من المحراب، فأرسل إليها فجاءته، فسألها عن زوجها وعن شأنها، فأخبرته: أن زوجها غائب، فكتب إلى أمير تلك السَّرية أن يُؤَمِّره على السرايا ليهلك زوجها، ففعل، فكان يُصاب أصحابه وينجو، وربما نُصروا، وإن الله عزّ وجلّ لما رأى الذي وقع فيه داود، أراد أن يستنقذه ; فبينما داود ذات يوم في محرابه، إذ تسوّر عليه الخصمان من قبل وجهه، فلما رآهما وهو يقرأ فزع وسكت. وقال: لقد استضعفت في ملكي حتى إن الناس يتسوّرون عليّ محرابي، قالا له: {لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} ، ولم يكن لنا بد من أن نأتيك، فاسمع منا. قال أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} أنثى، {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} ، يريد أن يتمم بها مائة، ويتركني ليس لي شيء. {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} ، قال: إن دعوت ودعا كان أكثر، وإن بطشت وبطش كان أشد مني، فذلك قوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} ، قال له داود: أنت كنت أحوج إلى نعجتك منه {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} إلى قوله: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} ونسي نفسه - صلى الله عليه وسلم -. فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر، فرآه داود وظن أنما فتن، {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} . وعن عكرمة عن ابن عباس أنه قال في السجدة في ص: (ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها) . رواه البخاري وغيره. وعن قتادة: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} الذنب، {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} أي: حسن مصير. قال ابن كثير: أي: وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله عز وجل بها وحسن مرجع. وهو الدرجات العالية في الجنة لنوبته وعدله التام في ملكه، كما جاء في الصحيح: «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه

يمين، الذين يقسطون في أهليهم وما ولوا» . وعن السدي {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ} ملكه في الأرض {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} ، يعني: بالعدل، والإنصاف {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} ، أي: لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب. قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (29) } . عن ابن عباس: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} ، قال: لا لثواب ولا لعقاب. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} . وقال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنا نعطى في الآخرة من الخير مثل ما تعطون، فنزلت هذه الآية: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ؟ قال ابن كثير: ولمّا كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة، والمآخذ العقلية الصريحة، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} ، أي: ذوو العقول. قال الحسن البصري: والله ما تَدَبُّرُه بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كلّه، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل. * * *

الدرس الثامن والثلاثون بعد المائتين

الدرس الثامن والثلاثون بعد المائتين {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) } . * * *

قوله عز وجل: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) } . عن ابن عباس: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ، قال: الأوّاب: المسبّح. وقال قتادة: كان مطيعًا لله كثير الصلاة. وعن قتادة: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} ، يعني: الخيل. قال ابن زيد: والصفن أن تقوم على ثلاث وترفع رجلاً واحدة حتى يكون طرف الحافر على الأرض. قال البغوي: والجياد: الخيار السراع. واحدها: جواد. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد الخيل السوابق. قوله تعالى: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} ، أي: آثرت حب الخير وأراد بالخير الخيل، وسمّيت الخيل خيرًا لأنه معقود بنواصيها الخير: الأجر، والمغنم. قال مقاتل: {حُبَّ الْخَيْرِ} ، يعني: المال، فهي الخيل التي عرضت عليه، {عَن ذِكْرِ رَبِّي} يعني: الصلاة، وهي صلاة العصر، {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي: توارت الشمس بالحجاب، أي: استترت بما يحجبها عن الأبصار، {رُدُّوهَا عَلَيَّ} أي: ردّوا الخيل عليّ، فردّوها، {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} . انتهى. قال إبراهيم التيمي: كانت الخيل التي شغلت سليمان عليه الصلاة والسلام عشرين ألف فرس فعقرها. وقال الحسن: فلما عقر الخيل أبدله الله خيرًا منها وأسرع، وهي: الريح تجري بأمره كيف يشاء. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ

الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) } . عن السديّ في قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} قال: لقد ابتلينا {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} ، قال: الشيطان حين جلس على كرسيّه أربعين يومًا قال: كان لسليمان مائة امرأة. وكانت امرأة منهنّ يقال لها جرادة، وهي أبرّ نسائه عنده، وآمنهنّ عنده، وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه، ولم يأتمن عليه أحدًا من الناس غيرها ; فجاءته يومًا من الأيام، فقالت: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وأنا أحبّ أن تقضي له إذا جاءك. فقال لها: نعم. ولم يفعل. فابتُلي وأعطاها خاتمه، ودخل المخرج، فخرج الشيطان في صورته. فقال: هاتي الخاتم. فأعطته. فجاء حتى جلس على مجلس سليمان، وخرج سليمان بعد، فسألها أن تعطيه خاتمه، فقالت: ألم تأخذه من قبل؟ قال: لا، وخرج مكانه تائهًا ; قال: ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يومًا. فأنكر الناس أحكامه، فاجتمع قرّاء بني إسرائيل وعلماؤهم، فجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا: إنا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان قد ذهب عقله، وأنكرنا أحكامه. قال: فبكى النساء عند ذلك، قال: فأقبلوا يمشون حتى أتوه، فأحدقوا به، ثم نشروا التوراة، فقرأوا، فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفته والخاتم معه، ثم طار حتى ذهب إلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر، فابتلعه حوت من حيتان البحر. قال: وأقبل سليمان في حالته التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيّادي البحر، وهو جائع، وقد اشتدّ جوعه، فاستطعمه من صيدهم، قال: إني أنا سليمان، فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجّه، فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر، فلام الصيّادون صاحبهم الذي ضربه، فقالوا: بئس ما صنعت حيث ضربته، قال: إنه زعم أنه سليمان، فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم، ولم

يشغله ما كان به من الضرر، حتى قام إلى شطّ البحر، فشقّ بطونهما فجعل يغسل، فوجد خاتمه في بطن إحداهما، فأخذه فلبسه، فردّ الله عليه بهاؤه وملكه، وجاءت الطير حتى حامت عليه، فعرف القوم أنه سليمان، فقام القوم يعتذرون مما صنعوا، فقال: ما أحمدكم على عذركم، ولا ألومكم على ما كان منكم، كان هذا الأمر لا بدّ منه. قال: فجاء حتى أتى ملكه، فأرسل إلى الشيطان فجيء به، وسخّر له الريح والشياطين يومئذٍ، ولم تكن سُخِّرت له قبل ذلك، وهو قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ، قال: وبعث إلى الشيطان فأتي به، فأمر به فجُعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه فأقفل عليه بقفل، وختم عليه بخاتمه، ثم أمر به، فألقي في البحر، فهو فيه حتى تقوم الساعة. وقوله تعالى: {ثُمَّ أَنَابَ} ، قال البغوي: أي: رجع إلى ملكه بعد أربعين يومًا فلما رجع، {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن عفريتًا من الجنّ تفلّت عليّ البارحة - أو كلمة نحوها - ليقطع عليّ الصلاة، فأمكنني الله تبارك وتعالى منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلّكم، فذكرت قول أخي سليمان عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي} . قال روح: فردّه خاسئًا» . متفق عليه. وفي رواية أحمد من حديث أبي سعيد: «ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطًا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل» . وقال الضحاك في قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} فإنه دعا يوم دعا ولم يكن في ملكه الريح وكل بنّاء وغوّاص من الشياطين، فدعا ربه عند

توبته واستغفاره، فوهب الله له ما سأل فتمّ ملكه. وعن قتادة: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ} قال: سريعة طيّبة، ليست بعاصفة ولا بطيئة. وقال ابن زيد: الرخاء الليّنة. وعن ابن عباس: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء} قال: يعني بالرخاء المطيعة {حَيْثُ أَصَابَ} يقول: حيث أراد. انتهى عليها. وعن قتادة: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ} قال: يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل {وَغَوَّاصٍ} يستخرجون الحليّ من البحر {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} ، قال: مردة الشياطين في الأغلال. وعن الحسن في قوله: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، قال: المُلك الذي أعطيناك، فأعط ما شئت وامنع ما شئت، فليس عليك تبعة ولا حساب. {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} . قال ابن كثير: لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان عليه الصلاة والسلام في الدنيا، نبّه تعالى على أنه ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة أيضًا فقال تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} ، أي: في الدار الآخرة. * * *

الدرس التاسع والثلاثون بعد المائتين

الدرس التاسع والثلاثون بعد المائتين {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ

يَخْتَصِمُونَ (69) إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) } . * * *

قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) } . عن قتادة: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} حتى بلغ: {بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} ، ذهاب المال والأهل والضرّ الذي أصابه في جسده. قال: ابتلي سبع سنين وأشهرًا مُلقى على كُناسة لبني إسرائيل تختلف الدوابّ في جسده، ففرّج الله عنه وعظّم له الأجر وأحسن عليه الثناء. {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} ، قال: ضرب برجله الأرض فإذا عينان تنبعان، فشرب من إحداهما، واغتسل من الأخرى؛ قال وهب: فأذهب الله عنه كل ما كان به من البلاء. وعن قتادة: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ} ، قال: قال الحسن فأحياهم الله بأعيانهم وزادّهم مثلهم {رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ} . وعن مجاهد: قيل له: إن شئت أحييناهم لك، وإن شئت كانوا لك في الآخرة، وتعطى مثلهم في الدين، فاختار أن يكونوا في الآخرة. ومثلهم في الدين. وعن قتادة: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ} ، قال: كانت امرأته قد عَرَضت له بأمر، وأرادها إبليس على شيء، فقال: لو تكلمت بكذا وكذا، وإنما حملها عليها الجزع - فحلف نبي الله: لِئن الله شفاه ليجلِدنَّها مائة جلدة قال: فأمر بغصن فيه تسعة وتسعون قضيبًا، والأصل تكملة المِائَة، فضربها ضربة واحدة، فأبرّ نبيُّ الله، وخَفَّفَ الله عن أمَتِهِ، والله رحيم. قال ابن كثير: وهذا من الفرج والمخرج

لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه، ولهذا قال جل وعلا: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} . قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ (54) } . عن ابن عباس قوله: {أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} ، يقول: أولي القوة في العبادة {وَالْأَبْصَارِ} ، يقول: الفقه في الدين. وقال مجاهد: {الْأَيْدِي} القوة في أمر الله، {وَالْأَبْصَارِ} العقول. وقال السدي: {الْأَيْدِي} : القوة في طاعة الله، {وَالْأَبْصَارِ} : البصر بعقولهم. وعن قتادة: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} ، قال: بهذه أخلصهم الله، كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله. وقوله تعالى: {هَذَا ذِكْرٌ} ، أي: شرف وذكر جميل يذكرون به أبدًا. وعن السدي: {هَذَا ذِكْرٌ} ، قال: القرآن. {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} ، قال الحسن: منقلب، {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ} ، قال الحسن: أبواب تكلم، فتكلم: انفتحي انغلقي. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» . رواه مسلم. ... {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} ، قال قتادة: قصرن طرفهن على

أزواجهنّ فلا يردن غيرهم. {أَتْرَابٌ} قال: سنّ واحدة. {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} . قال ابن كثير: أي: هذا الذي من صفة الجنّة التي وعدها لعباده المتّقين التي يصيرون إليها بعد نشورهم، وقيامهم من قبورهم، وسلامتهم من النار. وعن قتادة: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} أي: ما له انقطاع. قوله عز وجل: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) } . قال البغوي: {هَذَا} ، أي: الأمر هذا، {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} الكافرين {لَشَرَّ مَآبٍ} مرجع {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها {فَبِئْسَ الْمِهَادُ} . {هَذَا} ، أي: العذاب. {فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} ، قال الفرّاء: أي: هذا حميم وغسّاق فليذوقوه. والحميم: الماء الحارّ الذي انتهى حرّه. وقال ابن عباس: الغسّاق: الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرّها. وقال قتادة: هو ما يغسق. أي: يسيل من القيح والصديد من جلود أهل النار ولحومهم وفروج الزناة. {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ} ، مثله. أي: مثل الحميم والغسّاق، {أَزْوَاجٌ} ، أي: أصناف أخر من العذاب.

{هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} ، قال ابن عباس: {هَذَا} هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للكفار: {هَذَا} ، يعني: الأتباع، {فَوْجٌ} جماعة، {مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} النار، أي: داخلوها كما أنتم دخلتموها. قال الكلبي: إنهم يُضربون بالمقامع حتى يوقعوا أنفسهم في النار خوفًا من تلك المقامع فقالت القادة: {لَا مَرْحَباً بِهِمْ} ، يعني: بالأتباع، {إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} ، أي: داخلوها كما صلينا، {قَالُوا} ، فقال الأتباع للقادة: {بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} ، يقول الأتباع للقادة: أنتم بدأتم بالكفر قبلنا وشرعتم وسننتموه لنا {فَبِئْسَ الْقَرَارُ} ، أي: فبئس دار القرار جهنم. {قَالُوا} يعني: الأتباع: {رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا} ، أي: شرعه وسنّه لنا: {فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ} ، أي: ضعّف عليه العذاب. قال ابن مسعود: يعني: حيّات، وأفاعي. وقالوا وهم في النار: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم} في الدنيا ... {مِّنَ الْأَشْرَارِ} ، يعنون: فقراء المؤمنين. ثم ذكروا أنهم كانوا يسخرون من هؤلاء فقالوا: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً} ؟ قال الفراء: هذا من الاستفهام الذي معناه التوبيخ والتعجّب {أَمْ زَاغَتْ} أي مالت {عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} ؟ ومجاز الآية: ما لنا لا نرى هؤلاء الذين اتّخذناهم سخريًّا لم يدخلوا معنا النار؟ أم دخلوها فزاغت عنهم أبصارنا فلم نرهم حين دخلوا؟ {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} ، أي: تخاصم أهل النار في النار لحقّ. {قُلْ} يا محمد لمشركي مكّة: {إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ} مخوّف، {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} . انتهى ملخصًا. قوله عز وجل: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ

الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) } . قال ابن كثير: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} ، أي: خبر عظيم وشأن بليغ، وهو: إرسال الله تعالى إيّاي إليكم، {أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} أي: غافلون. قال مجاهد، وشريح القاضي، والسدي في قوله عز وجل: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} يعني: القرآن. وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي: لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى في شأن آدم، وامتناع إبليس من السجود له ومحاجّته ربه في تفضيله عليه؟ انتهى. وعن قتادة: قوله: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى} ، قال: هم الملائكة، كانت خصومتهم في شأن آدم حين قال ربك للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ} حتى بلغ: {سَاجِدِينَ} ، وحين قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} حتى بلغ: {وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} ففي هذا اختصم الملأ الأعلى. وفي حديث معاذ الطويل عند الإِمام أحمد قال - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني قمت من الليل فصلّيت ما قدّر لي، فنعست في صلاتي حتى استيقظت، فإذا أنا بربّي عزّ وجلّ في أحسن صورة، فقال: يا محمد أتدري فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا ربّ؟ أعادها ثلاثًا، فرأيته وضع كفّه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري، فتجلّى لي كلّ شيء وعرفت، فقال: يا محمد فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفّارات. قال: وما الكفارات؟ قلت: نقل الأقدام

إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات» . الحديث. قال ابن كثير: وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في القرآن، فإن هذا قد فُسّر، وأما الاختصام الذي في القرآن، فقد فُسّر بعد هذا، وهو قوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} إلى آخر القصة. وعن ابن عمر قال: (خلق الله أربعة بيده: العرش، وعدن، والقلم، وآدم. ثم قال لكلّ شيء: كن فكان) . رواه ابن جرير. وعن قتادة قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} ، قال: علم عدوّ الله أنه ليست له عزّة. وعن مجاهد: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} ، يقول الله: الحقّ منّي وأقول الحقّ. قال ابن كثير: وهذه الآية كقوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . قوله عز وجل: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) } . قال ابن زيد في قوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} ، قل: لا أسألكم على القرآن أجرًا تعطوني شيئًا، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أتخرص

وأتكلّف ما لم يأمرني الله به. وعن مسروق قال: أتينا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس من علم شيئًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم؛ فإن الله عز وجل قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} . وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} يعني: القرآن ذكر لجميع المكلّفين من الإنس والجنّ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} خبره وصدقه، {بَعْدَ حِينٍ} ، قال عكرمة: يعني: يوم القيامة. وقال الكلبي: من بقي علم ذلك إذا ظهر أمره وعلا، ومن مات علمه بعد موته. قال الحسن بن آدم: عند الموت يأتيك الخبر اليقين. * * *

الدرس الأربعون بعد المائتين

الدرس الأربعون بعد المائتين [سورة الزمر] مكية، وهي خمس وسبعون آية ... عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول: ما يريد أن يفطر. ويفطر حتى نقول: ما يريد أن يصوم. وكان يقرأ في كل ليلة: بني إسرائيل، والزمر) . رواه النسائي. بسم الله الرحمن الرحيم {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا

هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) } . * * *

قوله عز وجل: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ ... إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) } . عن قتادة: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} شهادة أن لا إله إلا الله. وعن مجاهد في قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، قال: قريش تقول للأوثان، ومَنْ قَبْلَهُمْ تقوله للملائكة، ولعيسى ابن مريم، ولعزير. وعن قتادة: قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، قالوا: ما نعبد هؤلاء، {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا} إلا ليشفعوا لنا عند الله. قال ابن كثير:

وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه. وعن قتادة: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ} نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، ثم لحمًا، ثم أنبت الشعر؛ أطوار الخلق في ظلمات ثلاث: المشيمة، والرحم، والبطن. {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} قال ابن كثير: أي: هذا الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، وخلقكم وخلق آباءكم، هو الربّ {لَهُ الْمُلْكُ} والمتصرّف في جميع ذلك، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، أي: الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، ... {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} فكيف تعبدون معه غيره؟ أين يُذهب بعقولكم؟ وقوله تعالى: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أي: لا يحبّه، ولا يأمر به، {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} ، قال السدي: إن تطيعوا يرضه لكم. وقال ابن كثير: أي: يحبّه لكم، ويزدكم من فضله {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، قال السدي: لا يؤخذ أحد بذنب أحد. وقال ابن كثير: أي: لا تحمل نفس عن نفس شيئًا، بل كل مطالب بأمر نفسه. {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، أي: فلا تخفى عليه خافية. قوله عز وجل: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (9) } . عن قتادة: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ} ، قال: الوجع، والبلاء، والشدة. {دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} ، قال: مستغيثًا به، {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ} ، قال السدي: إذا أصابته عافية

أو خير {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ} . قال ابن جرير: يقول: ترك الذي كان يدعو الله من قبل أن يكشف ما كان به من ضرّ، {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً} ، يعني: توحيده، {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} ، أي: من أهل النار الماكثين فيها. انتهى ملخصًا. وعن قتادة: قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً} أوّله، وأوسطه وآخره. وقال ابن عباس: يعني: بالقنوت: الطاعة. وعن ابن عمر: أنه كان إذا سئل عن القنوت قال: لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن، وطول القيام. وقرأ: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} ، وعن ابن عباس في قوله: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} ، قال: يحذر عقاب الآخرة، {وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} ، يقول: ويرجو أن يرحمه الله فيدخله الجنّة. وقال ابن كثير: يقول عزّ وجلّ: أمّن هذه صفته كمن أشرك بالله وجعل له أندادًا؟ لا يستوون عند الله. وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} أي: هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أندادًا ليضلّ عن سبيله؟ ... {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} . قوله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ

الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) } . قال مقاتل في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} ، يعني: الجنة. قلت: وهذه الآية كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ ... يَعْمَلُونَ} . وعن مجاهد قوله: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} فهاجروا واعتزلوا الأوثان. وعن قتادة: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} لا والله ما هناكم مكيال ولا ميزان، {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ} ، قال البغوي: مخلصًا له التوحيد لا أشرك به شيئًا. {وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} من هذه الأمة. {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} وعبدت غيره، {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وهذا حين دعي إلى دين آبائه. ... {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} أمر توبيخ وتهديد، وقال ابن كثير: يقول تعالى: قل يا محمد - وأنت رسول الله -: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ، وهو يوم القيامة - وهذا شَرْط - ومعناه: التعريض بغيره بطريق الأولى والأحرى. وعن ابن عباس قوله: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، قال: هم: الكفار الذين خلقهم الله للنار، وخلق النار لهم، فزالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة. وقال ابن زيد: هؤلاء أهل النار، خسروا أنفسهم في الدنيا وخسروا الأهل، فلم يجدوا في النار أهلاً وقد كان لهم في الدنيا أهل. {أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .

وقوله تعالى: {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} كقوله تعالى: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} ، [وكقوله] {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} ، قال ابن كثير: أي: إنما يقص خبر هذا الكائن لا محالة ليخوف به عباده، لينزحوا عن المحارم والمآثم. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) } . قال البغوي: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} الأوثان: {أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} رجعوا إلى عبادة الله، {لَهُمُ الْبُشْرَى} في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وعن قتادة: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وأحسنه: طاعة الله، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} . {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} بكفره {أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} قال ابن كثير: يقول تعالى: أفمن كتب الله أنه شقيّ تنقذه مما هو فيه من الضلال والهلاك؟ أي: لا يهديه أحد من بعد الله، لأنه من يضلل الله فلا هادي له، ومن يهده فلا مضلّ له؛ ثم أخبر عزّ وجلّ عن عباده السعداء: أن لهم غرفًا في الجنة، وهي: القصور الشاهقة، {مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} طباق فوق طباق، مزخرفات عاليات، {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} . وعن علي رضي الله عنه

قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن في الجنة لغُرفًا يُرى بُطونها من ظُهورها، وَظُهورها من بُطونها» , فقال أعرابيٌّ: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن أطاب الكلام، وأطعم الطَّعام، وصلى باللَّيلِ والنَّاسُ نيام» . رواه أحمد وغيره. * * *

الدرس الحادي والأربعون بعد المائتين

الدرس الحادي والأربعون بعد المائتين {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) } . * * *

قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) } . قال البغوي: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ} أدخل ذلك الماء، {يَنَابِيعَ} عيونًا وركايا فِي الأرْضِ. قال الشعبي: كل ماء في الأرض فمن السماء. {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أحمر، وأصفر، وأخضر. {ثُمَّ يَهِيجُ} ييبس {فَتَرَاه} بعد خضرته ونضرته {مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} فتاتًا متكسرًا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ} . {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} وسعه لقبول الحق، {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} كمن قسى الله قلبه. {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ، قال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله عز وجل على قوم إلا نزع منهم الرحمة. وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفمن شرح الله صدره للإِسلام فهو على نور من ربه» . قلنا: يا رسول الله كيف انشراح صدره؟ قال: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح» ! قلنا: يا رسول الله وما علامة ذلك؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهّب للموت قبل نزول الموت» . رواه البغوي وغيره.

قوله عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) } . عن قتادة قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} الآية تشبه الآية، والحرف يشبه الحرف. وقال سعيد بن جبير: يشبه بعضه بعضًا، ويصدق بعضه بعضًا، ويدلّ بعضه على بعض. وعن ابن عباس قوله: ... {مَّثَانِيَ} قال: كتاب الله مثاني، ثنى فيه الأمر مرارًا. وقال قتادة: ثنى الله فيه: الفرائض والقضاء والحدود. وقال ابن زيد: {مَّثَانِيَ} مردد، ردّد ذكر موسى في القرآن، وصالح، وهود، والأنبياء. وقال معمر: تلا قتادة - رحمه الله -: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، قال: هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله عز وجل بأن تقشعرّ جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئنّ قلوبهم إلى ذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما هذا من أهل البدع، وهذا من الشيطان. وقوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} ، أي: شدّته يوم القيامة. قال مجاهد: يجرّ على وجهه في النار؛ ومجاز الآية: أفمن يتّقي بوجهه سوء العذاب كمن هو

آمن من العذاب؟ وقيل: يعني: تقول الخزنة للظالمين: {ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} ، أي: وباله. {كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من قبل كفار مكة، كذّبوا الرسل، {فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} يعني: وهم آمنون غافلون عن العذاب {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ} العذاب والهوان {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا ... يَعْلَمُونَ} . قوله عز وجل {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) } . عن مجاهد: {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} غير ذي لَبْس. وقال ابن عباس: غير مختلف. وقال ابن كثير: ويقول تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} ، أي: بيّنّا للناس فيه بضرب الأمثال، {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فإن المثل يقرّب المعنى إلى الأذهان. وقوله جلّ وعلا: {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أي: هو قرآن

بلسان عربيّ مبين، لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ولا لَبْس. بل هو بيان ووضوح وبرهان؛ وإنما جعله الله تعالى كذلك وأنزله بذلك، {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ، أي: يحذرون ما فيه من الوعيد ويعملون بما فيه من الوعد. وعن قتادة: قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ} ، قال: هذا المشرك يتنازعه الشياطين. {وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ} ، قال: هو المؤمن أخلص الدعوة لله والعبادة. وقال ابن زيد: أرأيت الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون؟ كلهم سيِّئ الخلق، ليس منهم واحد إلا تلقاه آخذًا بطرف من مال لاستخدامه أسوأهم والذي لا يملكه إلا واحد، فإنما هذا مثل ضربه الله لهؤلاء الذين يعبدون الآلهة وجعلوا لها في أعناقهم حقوقًا، فضربه الله مثلاً لهم وللذي يعبده وحده {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . قال البغوي: وهذا استفهام إنكار، أي: لا يستويان. ثم قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، أي: لله الحمد كلّه دون غيره من المعبودين {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ما يصيرون إليه. {إِنَّكَ مَيِّتٌ} أي: ستموت، {وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} ، أي: سيموتون، {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} ، قال ابن عباس: يعني: المحقّ والمبطل، والظالم والمظلوم. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} ، هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصدّيق رضي الله عنه عند موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى تحقق الناس موته، مع قوله عزّ وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} . * * *

الدرس الثاني والأربعون بعد المائتين

الدرس الثاني والأربعون بعد المائتين {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ (37) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (40) إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ

جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) } . * * *

قوله عز وجل: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) } . قال البغوي: قوله عز وجل: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} فزعم أن له ولدًا، أو شريكًا، {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} بالقرآن {إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى} منزل ومقام، {لِّلْكَافِرِينَ} ؟ استفهام بمعنى التقرير. وعن قتادة: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ} ، قال: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بالقرآن، {وَصَدَّقَ بِهِ} المؤمنون. وقال مجاهد: هم أهل القرآن يجيئون به يوم القيامة يقولون: هذا الذي أعطيتمونا فاتبعنا ما فيه. وعن ابن عباس: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ، يقول: اتقوا الشرك. وقال ابن زيد: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ألهم ذنوب؟ أي: ربّ، نعم، {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقرأ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى أن بلغ: {وَمَغْفِرَةٌ} لئلا ييأس من له الذنوب أن لا يكونوا منهم، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ، وقرأ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى آخر الآية. قوله عز وجل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ

أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ (37) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (40) } . عن السدي: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} ؟ يقول: محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} ، يقول: بآلهتهم التي كانوا يعبدون. وعن قتادة: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} حتى بلغ: {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} ، يعني: الأصنام، {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} ؟ قال ابن كثير: كانوا يعترفون أن الله عزّ وجلّ هو الخالق للأشياء كلّها، ومع هذا يعبدون معه غيره. وعن ابن عباس مرفوعًا: «من أحبّ أن يكون أقوى الناس فليتوكّل على الله، ومن أحبّ أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله عزّ وجلّ أوثق منه بما في يديه، ومن أحبّ أن يكون أكرم الناس فليتّق الله عزّ وجلّ» . وعن مجاهد: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} على ناحيتكم. وقال ابن كثير: أي: على طريقكم؛ وهذا تهديد ووعيد. {إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} . قوله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا

فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (48) } . عن سعيد بن جبير في قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} ، قال: يجمع بين أرواح الأحياء، وأرواح الأموات، فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} إلى أجسادها. قال ابن زيد: فالنوم وفاة، {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} ، قال السدي: إلى بقية آجالها. وعن قتادة: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء} الآلهة ... {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً} الشفاعة. وعن مجاهد قوله: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} ، قال: لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. وعن قتادة: قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أي: كفرت قلوبهم واستكبرت، {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} الآلهة {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل افتتح صلاته: «اللهم رب جبرائيل ومكيائيل وإسرافيل فاطر السماوات

والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» . رواه مسلم وغيره. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} ، قال مقاتل: ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة. قال السدي: ظنّوا أنها حسنات فبدت لهم سيئات. قال البغوي: والمعنى: أنهم كانوا يتقرّبون إلى الله بعبادة الأصنام، فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} ، أي: مساوئ أعمالهم من الشرك والظلم بأولياء الله، {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} . قوله عز وجل: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) } . عن قتادة: قوله: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أي: على خبر عندي، {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} ، أي: بلاء، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . وعن السدي: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} ، الأمم الماضية، {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاء} ، قال: من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.

وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: أَوَلَم يعلم - يا محمد - هؤلاء الذين كشفنا ضرّهم فقالوا: إنما أوتيناه على علم منا، أن الشدّة والرخاء والسعة والضيق والبلاء بيد الله دون كلّ من سواه؟ {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ} ، فيوسعه عليه، {وَيَقْدِرُ} ذلك على من يشاء من عباده فيضيّقه، وأن ذلك من حجج الله على عباده ليعتبروا به ويتذكّروا ويعلموا أن الرغبة إليه والرهبة دون الآلهة والأنداد؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . * * *

الدرس الثالث والأربعون بعد المائتين

الدرس الثالث والأربعون بعد المائتين {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي

السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) } . * * *

قوله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) } . عن ابن عباس: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} ، وذلك أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أنه مَنْ عبد الأوثان ودعا مع الله إلهًا آخر، وقتل النفس التي حرّم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس التي حرّم الله ونحن أهل الشرك؟ فأنزل الله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} ، يقول: لا تيأسوا من رحمتي {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} قال: ... {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} ، وإنما يعاتب الله أولي الألباب، وإنما الحلال والحرام لأهل الإِيمان، فإيّاهم عاتب وإياهم أمر إن أسرف أحدهم على نفسه أن لا يقنط من رحمة الله، وأن ينيب ولا

يبطئ بالتوبة من ذلك الإِسراف والذنب الذي عمله، وقد ذكر الله في سورة آل عمران أن المؤمنين حين سألوا الله المغفرة فقالوا: {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} ، فينبغي أن يعلم أنهم قد كانوا يصيبون الإسراف فأمرهم بالتوبة من إسرافهم. وعن القرظيّ أنه قال في هذه الآية: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} ، قال: هي للناس أجمعين. وعن قتادة: قوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} ، أي: أقبلوا إلى ربكم. وقال ابن زيد: الإنابة: الرجوع إلى الطاعة والنزوع عما كانوا عليه، ألا تراه يقول: ... {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} ، وعن السدي: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} ، يقول: ما أُمرتم به في الكتاب، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} ، قال: تركت من أمر الله، {وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} ، يقول: من المستهزئين. قال قتادة: فلم يكفه أن ضيّع طاعة الله حتى جعل يسخر بأهل طاعة الله، هذا قول صنف منهم: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} هذا قول صنف آخر: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} ، رجعة إلى الدنيا، {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ، قال: هذا صنف آخر؛ يقول الله ردًّا لقولهم: {بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} . وقال ابن زيد في قوله: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ} ، قال: بأعمالهم، والآخرون يحملون أوزارهم يوم القيامة {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} . قوله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ

الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) } . قال البغوي: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي: الأشياء كلها موكولة إليه، فهو القائم بحفظها، {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، أي: مفاتيح خزائن السماوات والأرض. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} قال مقاتل: وذلك أن كفار قريش دعوه إلى دين آبائه {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} أي: الذي عملته قبل الشرك، وهذا خطاب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمراد من غيره. وقيل: هذا أدب من الله لنبيّه وتهديد لغيره لأن الله تعالى عصمه من الشرك ... {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} ، لإنعامه عليك. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، ما عظّموه حقّ عظمته حين أشركوا به غيره. ثم أخبر عن عظمته فقال: {وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . انتهى ملخصًا. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ... «يقبض الله تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك. أين ملوك الأرض؟» . متفق عليه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السماوات على إصبع، والأرضين

على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله: « {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} » . متفق عليه. قوله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) } . عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ينفخ في الصور ثلاث نفخات. الأولى: نفخة الفزع. والثانية: نفخة الصعق. والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين تبارك وتعالى. يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع، فتفزع أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله» . قال أبو هريرة: يا رسول الله فمن استثنى حين يقول: {فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ} ؟ قال: «أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمّنهم؛ ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق، فيصعق أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله فإذا هم خامدون؛ ثم يأتي ملك الموت إلى الجبّار تبارك وتعالى فيقول: يا رب، قد مات أهل السماوات والأرض إلا من شئت، فيقول له - وهو أعلم -: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحيّ

الذي لا تموت، وبقي حملة عرشك، وبقي جبريل، وميكائيل. فيقول الله: فليمت جبريل، وميكائيل. فيقول: يا رب يموت جبريل وميكائيل! فيقول الله له: اسكت إني كتبت الموت على من كان تحت عرشي؛ ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا رب قد مات جبريل، وميكائيل، فيقول الله - وهو أعلم -: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت، وبقي حملة عرشك وبقيت أنا. فيقول الله: فليمت حملة العرش. فيموتون. ويأمر الله العرش فيقبض الصور فيقول: أي رب قد مات حملة عرشك. فيقول - وهو أعلم -: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت، وبقيت أنا. فيقول الله: أنت من خلقي، خلقتك لما رأيت، فمت لا تحيى. فيموت» . رواه ابن جرير. وعن قتادة: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} ، قال نبيّ الله: «بين النفختين أربعون» ، قال: قال أصحابه: فما سألناه عن ذلك؛ ولا زادنا على ذلك؛ غير أنهم كانوا يرون من رأيهم أنها: أربعون سنة. وذكر لنا أنه يبعث في تلك الأربعين مطر يقال له: مطر الحياة، حتى تطيب الأرض وتهتزّ، وتنبت أجساد الناس نبات البقل، ثم ينفخ فيه الثانية فإذا هم قيام ينظرون. وعن الحسن قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كأني أنفض رأسي من التراب أول خارج، فألتفت فلا أرى أحدًا إلا موسى متعلّقًا بالعرش، فلا أدري أممن استثنى الله لا تصيبه النفخة لعلمه الصعقة أو بُعث قبلي» . وعن قتادة: قوله: {وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} ، قال: فما يتضارّون في نوره إلا كما يتضارّون في الشمس في اليوم الصحو الذي لا دخن فيه. {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} قال: كتاب أعمالهم، {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} قال ابن كثير: قال ابن عباس: يشهدون على الأمم بأنهم بلّغوهم رسالات الله إليهم، {وَالشُّهَدَاءِ} ، أي: الشهداء من الملائكة، والحفظة على أعمال العباد من خير وشر {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ} أي: بالعدل {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} ، قال عطاء: يريد أني عالم بأفعالهم لا أحتاج إلى كاتب ولا إلى شاهد.

قوله عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) } . عن قتادة: قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} ، قال: جماعات، {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ، قال ابن كثير: أي: بمجرّد وصولهم إليها فتحت لهم أبوابها سريعًا، {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} - على وجه التقريع والتوبيخ -: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} ، في الصحيحين من حديث جرير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أضواء كوكب درّيّ، لا يبولون ولا يتغوّطون ولا يتمخّطون،

أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الإِلوة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستّون ذراعًا في السماء» . وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أول شفيع، وأنا أول من يقرع باب الجنّة» . رواه مسلم. وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} حتى إذا انتهوا إلى بابها إذا هم بشجرة يخرج من أصلها عينان، فعمدوا إلى إحداهما فشربوا منها كأنما أمروا بها، فخرج ما في بطونهم من قذر أو أذى أو قذى، ثم عمدوا إلى الأخرى فتوضأوا منها كأنما أمروا بها، فجرت عليهم نضرة النعيم، فلن تشعث رؤوسهم بعدها أبدًا، ولن تبلى ثيابهم بعدها، ثم دخلوا الجنة فتلقّتهم الولدان كأنهم اللؤلؤ المكنون فيقولون: أبشر. أعدّ الله لك كذا، وأعد لك كذا، وكذا، ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه: جندل اللؤلؤ الأحمر، والأصفر، والأخضر يتلألأ كأنه البرق، فلولا أن الله قضى أن لا يذهب بصره لذهب، ثم يأتي بعضهم إلى بعض أزواجه فيقول: أبشري. قد قدم فلان ابن فلان، فيسمّيه باسمه واسم أبيه. فتقول: أنت رأيته، أنت رأيته؟ ! فيستخفّها الفرح حتى تقوم فتجلس على أُسْكُفَّة بابها فيدخل فيتكئ على سريره ويقرأ هذه الآية: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} وعن مجاهد: قوله: {طِبْتُمْ} ، قال: كنتم طيّبين في طاعة الله. وقال ابن زيد في قوله: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} ، قال: أرض الجنّة، وقرأ: {أَنَّ

الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ، وعن السدي: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء} ، ننزل منها حيث نشاء. وعن قتادة: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم} ، أي: بين الخلائق، {بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: فتح أو الخلق بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ، وختم بالحمد فقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . * * *

الدرس الرابع والأربعون بعد المائتين

الدرس الرابع والأربعون بعد المائتين [سورة المؤمن] مكية، وهي خمسة وثمانون آية ... قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلاً فمرّ بأثر غيث، فبينما هو يسير فيه ويتعجّب منه إذ هبط على روضات دمثات فقال: عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب منه وأعجب، فقيل له: إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل آل حم في القرآن) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لكلّ شيء لباب، ولباب القرآن الحواميم) . بسم الله الرحمن الرحيم {حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا

بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ (11) ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً

فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) } . * * *

قوله عز وجل: {حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) } . عن أبي إسحاق قال: جاء رجل إلى عمر فقال: إني قتلت فهل لي من توبة؟ قال: نعم، اعمل لا تيأس. ثم قرأ: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} . وعن ابن عباس قوله: {ذِي الطَّوْلِ} يقول: ذي السعة والغنى. وقال ثابت البناني: كنت مع مصعب بن الزبير في سواد الكوفة، فدخلت حائطًا أصلي ركعتين، فافتتحت حم المؤمن حتى بلغت: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ، فإذا رجل خلفي على بغلة شهباء، عليه مقطعات يمنية فقال: إذا قلت: {غَافِرِ الذَّنبِ} ، فقل: يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي، وإذا قلت: {وَقَابِلِ التَّوْبِ} ، فقل: يا قابل التوب اقبل توبتي، وإذا قلت: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} ، فقل: يا شديد العقاب لا تعاقبني. قال: فالتفت فلم أر أحدًا. وقوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} قال قتادة: أسفارهم فيها ومجيئهم وذهابهم، {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ} قال: الكفار. {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} ليقتلوه {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} قال: شديدُ والله {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} .

قال البغوي: يعني: كما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة، حقت عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا من قومك، {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} . قوله عز وجل: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) } . قال البغوي: قوله عز وجل: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} ، حملة العرش والطائفون به وهم: الكروبيون، وهم: سادة الملائكة. قال ابن عباس: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام، ويروى أن أقدامهم في تخوم الأرضين، والأرضون والسماوات إلى حجزهم، وهم يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبوح قدوس، رب الملائكة والروح. قال: وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، ما بين شحمة أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام. وعن قتادة: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} أي: طاعتك

{وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} قال مطرف: وجدنا أغش عباد الله لعباد الله: الشياطين، ووجدنا: أنصح عباد الله لعباد الله: الملائكة. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ (11) ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) } . عن قتادة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} يقول: لمقت الله أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا، فتركوه، وأبوا أن يقبلوا، أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة. {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} قال قتادة: كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما: حياتان وموتتان. {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} ، قال: فهل إلى كرة إلى الدنيا؟ قال البغوي: أي: من خروج من النار فنصلح أعمالنا ونعمل بطاعتك؟ قال الله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} ، وفيه متروك استغني عنه لدلالة الظاهر عليه، مجازه فأجيبوا: أن لا سبيل إلى ذلك. قوله عز وجل {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ

عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) } . عن السدي: {إِلَّا مَن يُنِيبُ} ، قال: من يقبل إلى طاعة الله. وقوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} ، قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن عظمته وكبريائه وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها، كما قال تعالى: {مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} . وعن قتادة قوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} ، قال: الوحي، {مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} ، قال: يوم تلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض، والخالق والخلق. وقال ابن زيد في قوله: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} ، قال: يوم القيامة، وقرأ: {أَزِفَتْ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} . {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} ، قال قتادة: قد وقعت القلوب في الحناجر من المخالفة، فلا هي تخرج ولا تعود إلى أمكنتها. وعن السدي: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} ، قال: شخصت أفئدتهم عن أمكنتها، فنشبت في حلوقهم فلم تخرج من أجوافهم فيموتوا، ولم ترجع إلى أمكنتها فتستقر. {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ} ، قال: من يعنيه أمرهم ولا شفيع لهم.

وقال ابن كثير: وقوله سبحانه وتعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} أي: ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم، ولا شفيع يشفع فيهم، بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ} ، إذا نظرت إليها - يريد الخيانة - أم لا، {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} ، إذا قدرت عليها - أتزني بها - أم لا. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} أي: بالعدل، {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} ، من الأصنام، والأوثان، والأنداد، {لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} ، أي: لا يملكون شيئًا ولا يحكمون بشيء، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . قوله عز وجل: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) } . عن قتادة: {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} ، يقيهم ولا ينفعهم. * * *

الدرس الخامس والأربعون بعد المائتين

الدرس الخامس والأربعون بعد المائتين {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ

مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43} فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا

بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) } . عن قتادة: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} ، أي: أمركم الذي أنتم عليه، {أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} ، والفساد عنده أن يعمل بطاعة الله. قوله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ

مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) } . عن السدي: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} قال: هو ابن عم فرعون: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} قال ابن إسحاق: بعصاه وبيده. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بفناء الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذه بمنكبيه ودفعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} ؟ رواه البخاري. وقوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} ، أي: يوم القيامة. وفي حديث الصور: «فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأفطار فتتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع، ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضًا، وهو الذي يقول الله: {يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} . وعن السدي: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ} ، قال موسى: مِن قَبْلُ} بالبيِّنات، قال البغوي: يعني قوله: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ، {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} ، قال ابن عباس: من عبادة الله وحده لا شريك له، {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} ، مات، {قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ

يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} مشرك ... {مُرْتَابٌ} شاك. {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} ، قال الزجاج: هذا تفسير للمسرف المرتاب. يعني: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} أي: في إبطالها بالتكذيب {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} حجة {أَتَاهُم} من الله {كَبُرَ مَقْتًا} أي: كبر ذلك الجدال مقتًا {عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} ، قال قتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق. قوله عز وجل: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) } . عن قتادة: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} ، وكان أول من بنى بهذا الآجرّ وطبخه {لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي: أبواب السماوات {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} قال ابن جرير: يقول: وإني لأظن موسى كاذبًا فيما يقول ويدعي من أن له في السماء ربًا أرسله إلينا. {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} ، قال قتادة: فعل ذلك به، زين له سوء عمله وصد عن السبيل، {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} ، أي: في ضلال وخسار. قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى

الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) } . عن قتادة: {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} ، استقرت الجنة بأهلها، واستقرّت النار بأهلها. {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، قال قتادة: لا والله ما هناكم مكيال ولا ميزان. وعن مجاهد قوله: {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} ، قال: الإيمان بالله، {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} ؟ قال ابن زيد: هذا مؤمن آل فرعون يدعونه إلى دينهم والإقامة معهم، {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} . {لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ} ، قال قتادة: أي: لا ينفع ولا بضر: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} ، أي: المشركون. وقال ابن وهب: قال ابن زيد في قوله: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} ، فقلت له: أو ذلك في الآخرة؟ قال: نعم. وعن السدي: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} ، قال: أجعل أمري إلى الله، {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} . وعن قتادة: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} ، قال: كان قبطيًا من قوم فرعون، فنجا مع موسى {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} قال السدي: قوم فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} قال: بلغني أن أرواح قوم فرعون في أجواف طير سود تعرض على النار غدوًا وعشيًا حتى تقوم الساعة {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} قال ابن عباس: يريد ألوان العذاب، غير الذي كانوا يعذبون به منذ أغرقوا.

قوله عز وجل {وَإِذْ يَتَحَاجّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) } . قال البغوي: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} ، أي: اذكر يا محمد لقومك إذ يختصمون. يعني: أهل النار في النار، {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} ، في الدنيا، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} ، قال ابن كثير: أي: قسطًا تتحملونه عنا. {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} ، أي: قسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كل منا. قال البغوي: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ} حين اشتد عليهم العذاب ... {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} . {قَالُوا} ، يعني: خزنة جهنم لهم {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا} أنتم إذًا ربكم أي: إنا لا ندعو لكم، لأنهم علموا أنه لا يخفف عنهم العذاب، قال الله تعالى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} ، أي: يبطل ويضل ولا ينفعهم. قوله عز وجل: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53)

هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) } . عن السدي: قول الله {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قد كانت الأنبياء المؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون، وذلك أن نلك الأمة التي تفعل ذلك بالأنبياء والمؤمنين لا تذهب حتى يبعث الله قومًا فينتصر بهم لأولئك الذين قتلوهم. وعن قتادة: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} من ملائكة الله وأنبيائه والمؤمنين به. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} قال مقاتل: الهدى من الضلالة. يعني: التوراة. {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ، أي: العقول السليمة، {فَاصْبِرْ} ، يا محمد على أذى قومك، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} وسينصرك عليهم ويظهر دينه {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} قال البغوي: هذا تعبد من الله ليزيده به درجة وليصير سنة لمن بعده {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} . * * *

الدرس السادس والأربعون بعد المائتين

الدرس السادس والأربعون بعد المائتين {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن

يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) } . عن قتادة: قوله {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} لم يأتهم بذاك سلطان. {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} ، قال ابن عباس ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والعظمة، {مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} ، قال مجاهد: {مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} ، مقتضي ذلك الكبر، لأن الله عز وجل مذلهم. {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مع عظمهما {أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ، قال البغوي: حيث لا يستدلون بذلك على توحيد خالقها؛ وقال ابن كثير: يقول تعالى منبهًا على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة، وأن ذلك سهل عليه يسير لديه، بأنه خلق السماوات والأرض وخلقها أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة، فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما دونه بطريق

الأولى والأخرى. كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . ثم قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ} ، أي: ما أقل ما يتذكر كثير من الناس. ثم قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ} ، أي: لكائنة وواقعة، {لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} . قوله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (68) } . عن ابن عباس قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، يقول: وحدوني أغفر

لكم. وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدعاء هو العبادة، - وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} » . رواه ابن جرير. وعن السدي: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} ، قال: عن دعائي، {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} قال: صاغرين. وقوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ، أي: فكيف تعبدون معه غيره؟ وعن ابن عباس قال: من قال لا إله إلا الله، فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين. فذلك قوله: ... {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال ابن كثير: يقول تعالى: {قُلْ} ، يا محمد لهؤلاء المشركين: إن الله عز وجل ينهى أن يعبد أحد سواه من الأصنام، والأنداد، والأوثان. وقد بين تبارك وتعالى أنه لا يستحق العبادة أحد سواه في قوله - جلت عظمته -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} ، أي: هو الذي يقلبكم في هذه الأطوار كلها وحده لا شريك له، وعن أمره وتدبيره وتقديره يكون ذلك كله. وقوله تعالى: {وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ} ، قال البغوي: من قبل أن يصير شيخًا، {وَلِتَبْلُغُوا} ، جميعًا، {أَجَلا مُسَمًّى} ، وقتًا معلومًا محدودًا لا تجاوزونه، يريد

أجل الحياة إلى الموت، {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، أي: لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته. قال ابن كثير: ثم قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، أي: هو المتفرد بذلك، لا يقدر على ذلك أحد سواه، {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي: لا يخالف ولا يمانع، بل ما شاء كان لا محالة. قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) } . قال ابن زيد في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} قال: عن الحق، قال: هؤلاء المشركون. وعن مجاهد في قوله: {يُسْجَرُونَ} ، قال: يوقد بهم النار. وقوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} . قال ابن جرير يقول: ثم قيل: أين الذين كنتم تشركون بعبادتكم إياها من دون الله من آلهتكم وأوثانكم، حتى يغيثوكم فينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب؟ فإن المعبود يغيث من عبد وخدمه، وإنما يقال هذا لهم توبيخا وتقريعًا

على ما كان منهم في الدنيا من الكفر بالله وطاعة الشيطان، فأجاب المساكين عند ذلك فقالوا: {ضَلُّواْ عَنَّا} ، يقول: عدلوا عنا، فأخذوا غير طريقنا، وتركونا في هذا البلاء، بل ما ضلوا عنا، ولكنا لم نكن ندعوا من قبل في الدنيا شيئًا. أي: لم نكن نعبد شيئًا؛ يقول الله تعالى ذكره: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} ، يقول: كما أضل هؤلاء الذين ضل عنهم في جهنم ما كانوا يعبدون في الدنيا، من دون الله من الآلهة والأوثان آلهتهم وأوثانهم، كذلك يضل الله أهل الكفر به عنه وعن رحمته وعبادته، فلا يرحمهم فينجيهم من النار، ولا يغيثهم فيخفف عنهم ما هم فيه من البلاء. وعن مجاهد: {ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} ، قال: تبطرون وتأشرون، {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} . قوله عز وجل: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ

إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) } . قال البغوي: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بنصرك، {حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من العذاب في حياتك، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} ، قبل أن يحل بهم، {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} . قال ابن كثير: أي: فنذيقهم العذاب الشديد في الآخرة. ثم قال تعالى: مسليًا له، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} ، وهم أكثر، {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} ، أي: ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بخارق للعادات، إلا أن يأذن الله له في ذلك، {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} وهو عذابه {قُضِيَ بِالْحَقِّ} فينجي المؤمنون ويهلك الكافرون. ولهذا قال عز وجل: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} . وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} ، قال ابن كثير: ... {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي: حججه وبراهينه في الآفاق وفي أنفسكم {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} أي: لا تقدرون على إنكار شيء من آياته، إلا أن تعاندوا وتكابروا. وقال البغوي: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ} يعني: مصانعهم وقصورهم، {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} ، لم ينفعهم، {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا} ، رضوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ. قال مجاهد: هو قولهم: نحن أعلم، لن نبعث ولن نعذب. سمي ذلك: علمًا على ما يدعونه ويزعمونه، وهو في الحقيقة: جهل. {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .

{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} ، يعني: تبرأنا مما كنا نعدل بالله. {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} عذابنا، {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} ، وتلك السنة أنهم إذا عاينوا عذاب الله آمنوا ولا ينفعهم إيمانهم عند معاينة العذاب. {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} ، بذهاب نعيم الدارين، قال الزجاج: الكافر خاسر في كل وقت، ولكنهم تبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب. * * *

الدرس السابع والأربعون بعد المائتين

الدرس السابع والأربعون بعد المائتين [سورة فصلت] مكية، وهي أربع وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم ... {حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ

أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) } . * * *

قوله عز وجل: {حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) } . قال ابن إسحاق في السيرة: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القُرَظي قال: حُدِّثْتُ أن عتبة بن ربيعة - وكان سيدًا - قال يومًا وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيَّها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيدون ويكثرون. فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلّمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم وعبت آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها؟ قال: فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قل يا أبا الوليد أسمع» قال: يا ابن أخي إنما تريدُ بما جئتَ به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الأطباء، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع

على الرجل حتى يُدَاوَى منه - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمع منه قال: «أفرغت يا أبا الوليد» ؟ قال: نعم. قال: «فاستمع مني» . قال: أفعل. قال: «بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} » ، ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها وهو يقرؤها عليه، فلما سمع عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يستمع منه، حتى انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة منها فسجد ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك» . فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبا الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكُهُ ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! قال: هذا رأيي، فاصنعوا ما بدا لكم. وفي رواية البغوي من حديث جابر رضي الله عنه: (قال عتبة: ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر، ولا كهانة، ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب) .

وقوله تعالى: {تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} ، قال السدي: بينت آياته. وعن مجاهد في قوله: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} ، قال: عليها أغطية كالجعبة للنبل، {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} ، قال السدي: صمم. وعن قتادة قوله: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ، قال: لا يقرّون بها، وكان يقال: إن الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك، وقد كان أهل الردّة بعد نبيّ الله قالوا: أما الصلاة فنصلِّي، وأما الزكاة فوالله لا نغصب أموالنا. فقال أبو بكر: (والله لا أفرق بين شيء جمع الله بينه، والله لو منعوني عقالاً مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه) . وعن السدي {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي: لا يدينون بالزكاة، وقال: لو زكوا وهم مشركون لم ينفعهم. وعن ابن عباس: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} يقول: غير منقصوص. قوله عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) } . قال ابن عباس: خلق الله الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحى الأرض، ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والرمال، والجماد والآكام في يومين آخرين، فذلك قوله

تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} . وعن قتادة: {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} ، قال: من سأل فهو كما قال الله. وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} ، قال البغوي: أي: ائتيا ما آمركما، أي: افعلاه، {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} . وعن مجاهد في قوله: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا} قال: ما أمر الله به وأراده. وعن السدي {وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} قال: ثم زين السماء بالكواكب فجعلها زينة {وَحِفْظاً} من الشياطين {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} . قوله عز وجل: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) } . عن قتادة في قوله: {صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} ، قال: يقول: أنذرتكم وقيعة مثل: وقيعة عاد وثمود، قال: عذاب مثل: عذاب عاد وثمود. {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} ، قال ابن عباس: الرسل التي كانت قبل هود والرسل الذين كانوا بعده، بعث الله قبله رسلاً، وبعث من بعده رسلاً.

وعن مجاهد في قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} ، قال: شديدة: {فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} مشائم. قال قتادة: {فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} والله كانت مشئومات على القوم. {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} بينا لهم سبيل الخير والشر، {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} ، قال ابن زيد: استحبّوا الضلالة على الهدى. وعن السدي: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} ، قال: الهوان، {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . * * *

الدرس الثامن والأربعون بعد المائتين

الدرس الثامن والأربعون بعد المائتين {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (32) } . * * *

قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ (24) } . عن قتادة: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} ، قال: عليهم وزعة تردّ أولاهم على أُخراهم. قال في جامع البيان: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} ، (ما) مزيدة لتأكيد ظرفيته للشهادة، أي: إنما تقع فيه البتة، {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من المعاصي. وعن أنس رضي الله عنه قال: ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فقال: «ألا تَسْأَلُونِي من أي شيء ضَحِكْتُ» ؟ قالوا: يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال: ... «عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة! يقول: أي رب أليس وعدتني أن لا تظلمني؟ قال: بلى. فيقول: فإني لا أقبل علي شاهدًا إلا من نفسي. فيقول الله تبارك وتعالى: أليس كفى بي شهيدًا، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال: فيردد هذا الكلام مرارًا قال: فيختم على فيه، وتتكلم أركانه بما كان يعمل، فيقول: بعدًا لكنّ وسحقًا عنكنّ كنت أجادل» . رواه مسلم وغيره. وعن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تجيئون يوم القيامة على أفواهكم الفدام، وإن أول ما

يتكلم من الآدمي فخذه وكفه» . رواه ابن جرير وغيره. وعن السدي: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ} ، أي: تسخفون منها. وعن قتادة: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ} ، يقول: وما كنتم تظنون، {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} حتى بلغ: {كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} . والله إن عليك يا ابن آدم لشهودًا غير متهمة من بدنك، فراقبهم واتق الله في سر أمرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، الظلمة عنده ضوء، والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظنّ فليفعل ولا قوّة إلا بالله. وعن عبد الله بن مسعود قال: إني لمستتر بأستار الكعبة، إذ دخل ثلاثة نفر: ثقفي، وختناه قرشيان، قليل فقه قلوبهما كثير شحوم بطونهما، فتحدثوا بينهم بحديث فقال أحدهم: أترى الله يسمع ما قلنا؟ فقال الآخر: إنه يسمع إذا رفعنا، ولا يسمع إذا خفضنا. وقال الآخر: إذا كان يسمع منه شيئًا فهو يسمعه كله. قال: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فنزلت هذه الآية: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ} ، فقرأ حتى بلغ: {وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} . رواه ابن جرير وغيره. وعن معمر قال: تلا الحسن: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} فقال: إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم، فأما المؤمن فأحسن بالله الظن، فأحسن العمل. وأما الكافر، والمنافق فأساء الظن، فأساءا العمل. وعن قتادة: الظن ظنان: ظنّ منج، وظنّ مُرْدٍ. قال: ... {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} قال: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} وهذا الظنّ المنجي ظنًا يقينًا. وقال: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} ، هذا ظنّ مُرْدٍ. وقال الكافرون: {إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} ؛ وذُكر لنا أن نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول - ويروي ذلك عن ربه -:

«عَبْدِي غير ظنِّه بِي، وأنا مَعَهُ إذَا دَعانِي» . قوله تعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} ، قال البغوي: {وَإِن يَسْتَعْتِبُوا} ، يسترضوا ويطلبوا العتبى، {فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} ، المرضيين. والمعتب: الذي قبل أعتابه وأجيب إلى ما سأل. قوله عز وجل: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) } . عن مجاهد: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء} قال: شياطين، {فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ، قال السدي: من أمر الدنيا، {وَمَا خَلْفَهُمْ} ، من أمر الآخرة، {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} ، قال: العذاب، {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} ، وعن ابن عباس قوله: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} ، قال: هذا قول المشركين قالوا: لا تتبعوا هذا القرآن والهوا عنه. وعن مجاهد: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} ، قال: المكاء والتصفير وتخليط من القول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ قريش تفعله. {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال البغوي: وهو: الشرك بالله. وعن علي رضي الله عنه في قوله: {رَبَّنَا أَرِنَا

الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ} قال: إبليس، وابن آدم الذي قتل أخاه {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ} ، قال ابن عباس: ليكونا أشد عذابًا منًا. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (32) } . عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ، قال: قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام. وقال عكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله. وعن مجاهد: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ، قال: أسلموا ثم لم يشركوا به حتى لحقوا به. وعن الزهري قال: تلا عمر رضي الله عنه على المنبر، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ، قال: استقاموا والله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب. وقال قتادة: استقاموا على طاعة الله. وكان الحسن إذا تلاها قال: اللهم فأنت ربّنا فارزقنا الاستقامة. وعن مجاهد: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} عند الموت، {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} قال: {أَلَّا تَخَافُوا} ما تَقْدُمُون عليه من أمر الآخرة، {وَلَا تَحْزَنُوا} ، على ما خلّفتم من دنياكم فإنا نخلفكم في ذلك كلّه {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} . وعن السدي: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا، ونحن أولياؤكم في الآخرة، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} ، قال ابن كثير: أي: مهما طلبتم وجدتم وحضر بين أيديكم كما اخترتم،

{نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} ، أي: ضيافة وعطاء وإنعامًا من غفور لذنوبكم، {رَّحِيمٍ} ، بكم. وفي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» . قلنا: يا رسول الله كلنا نكره الموت! قال: «ليس ذلك كراهية الموت، ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله تعالى بما هو صائر إليه، فليس شيء أحبّ إليه من أن يكون قد لقي الله تعالى فأحبّ الله لقاءه - قال -: وإن الفاجر أو الكافر إذا حضر جاءه بما هو صائر إليه من الشر أو ما يلقى من الشرّ فكره لقاء الله فكره الله لقاءه» . رواه أحمد وغيره. * * *

الدرس التاسع والأربعون بعد المائتين

الدرس التاسع والأربعون بعد المائتين {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ

فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ (54) } . * * *

قوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) } . عن معمر قال: تلا الحسن: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، قال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب الخلق إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته وقال: إنني من المسلمين، فهذا خليفة الله. وقوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ، قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم، {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ، قال قتادة: كأنه وليّ قريب. وعن ابن عباس قوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} ، يقول: الذين أعد الله لهم الجنة. قال قتادة: ذكر لنا أن أبا بكر رضي الله عنه شتمه رجل ونبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - شاهد، فعفا عنه ساعة، ثم إن أبا بكر جاش به الغضب، فردّ عليه، فقام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فاتبعه أبو بكر فقال: يا رسول الله شتمني الرجل، فعفوت وصفحت وأنت قاعد، فلما أخذت أنتصر قمت يا نبيّ الله؟ فقال نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه كان يرد عنك ملك من الملائكة، فلما قربت تنتصر ذهب الملك وجاء الشيطان،

فوالله ما كنت لأجالس الشيطان يا أبا بكر» . قال ابن زيد: {وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ} قال: هذا الغضب. وقال السدي: وسوسة وحديث النفس ... {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ َمن الشيطان الرجيم} . قوله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) } . قال ابن كثير: لما كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلويّ والسفليّ، نبّه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده، تحت قهره وتسخيره، فقال: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، أي: ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإنه لا يغفر أن يشرك به؛ ولهذا قال تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} أي: عن إفراد العبادة له وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره ... {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} يعني: الملائكة {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} . وعن قتادة قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} أي: غبراء متهشمة. {فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} ، يعرف الغيث في صحتها وربوها وقال مجاهد: {اهتزت} : بالنبات {وَرَبَتْ} ، يقول: انتفخت. {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} قال السدي: كما يحيي الأرض بالمطر كذلك يحيي الموتى بالماء يوم القيامة بين النفختين {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (46) } . قال ابن زيد في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} قال: هؤلاء أهل الشرك، وقال: الإلحاد: الكفر، والشرك. وقال ابن عباس: هو أن يوضع الكلام على غير موضعه. {أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . قال ابن كثير: أي: أيستوي هذا وهذا؟ {لا يستويان} . ثم قال عز وجل للكفرة: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . عن قتادة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ} ، كفروا بالقرآن، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} ، يقول: أعزه الله لأنه كلامه، وحفظه من الباطل، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} ، الباطل: إبليس، لا يستطيع أن ينقص منه حقًا ولا يزيد فيه باطلاً. وقال ابن كثير: أي: ليس للبطلان إليه سبيل، لأنه منزل من رب العالمين، ولهذا قال: {تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . وعن قتادة: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} ، يعزي نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما تسمعون، يقول: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} . {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} .

وعن سعيد بن جبير في قوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} ، قال: الرسول: عربي. واللسان: أعجمي. وقال السدي: يقول: بينت آياته، {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} ، نحن قوم عرب ما لنا وللعجمة؟ {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء} ، قال: القرآن، {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} ، قال: صمم، {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} ، قال: عميت قلوبهم عنده، {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} . قال مجاهد: بعيد من قلوبهم. قال البغوي: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} ، فمصدق ومكذب، كما اختلف قومك في كتابك {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} في تأخير العذاب عن المكذبين بالقرآن، {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} ، لفزغ من عذابهم وعجل إهلاكهم {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} . وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} قال ابن كثير: أي: إنما يعود نفع ذلك على نفسه {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} أي: إنما يرجع وبال ذلك عليه {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} . قوله عز وجل: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ

اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ (54) } . * * * قوله عز وجل: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (48) } . قال البغوي: يقول: يرد إليه علم الساعة كما يرد إليه علم الثمار والنتاج. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ} . قال ابن عباس: يقول: أعلمناك. وقال السدي: قالوا: أطعناك، {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} ، على أن لك شريكًا، {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} ، استيقنوا أنه ليس لهم ملجأ. قوله عز وجل: {لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ

آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ (54) } . قال ابن زيد في قوله: {لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ} ، قال: لا يمل {مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} ، قال السدي: قانط من الخير، {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} ، قال مجاهد: أي: بعملي، وأنا محقوق بهذا، {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى} قال السدي يقول: غنىً {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ} قال السدي: يقول {أَعْرَضَ} صد بوجهه {وَنَأى بِجَانِبِهِ} يقول: تباعد {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} . يقول ابن كثير: وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ} أي: هذا القرآن {مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} ، خلاف للحق، بعيد عنه. {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} ، قال قتادة: يعني: وقائع الله في الأمم، {وَفِي أَنفُسِهِمْ} يوم بدر {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} قال مقاتل: أو لم يكف بربك شاهدًا أن القرآن من الله؟ {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ} في شك من البعث {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} فلا يخفى عليه خافية ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى. ـــــــــ انتهى الجزء الثالث بحمد الله، ويليه الجزء الرابع ـــــــــ

تَألِيفُ فَضَيلةِ الشَّيْخِ العَلاَّمةِ فَيْصَلَ بِنَ عَبدِ العَزِيزِ آل مُبَارَك ت 1376هـ رَحِمَهُ اللهُ الجزء الرابع من سورة الشورى إلى سورة الناس

الدرس الخمسون بعد المائتين

الدرس الخمسون بعد المائتين [سورة الشورى] مكية وهي ثلاث وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ

بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ (19) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ

حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) } . * * *

قوله عز وجل: {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) } . قال البغوي: سئل الحسين بن الفضل: لم قطع {حم * عسق} ولم يقطع {كهيعص} ؟ فقال: لأنها سور أوائلها {حم} فجرت مجرى نظائرها فكان: {حم} مبتدأ و {عسق} خبره، لأنهما عُدَّا آيتين، وأخواتهما مثل: {كهيعص} و {المص} و {المر} ، عدت آية واحدة وعن قتادة: قوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} أي: من عظمة الله وجلاله. وعن ابن عباس: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} ، قال: والملائكة يسبحون له من عظمته. وعن السدي في قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ} قال: للمؤمنين. يقول عز وجل: {أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} لذنوب مؤمني عباده، الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد توبتهم منها. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)

أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) } . قال ابن كثير: وقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء} ، يعني: المشركين {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أي: شهيد على أعمالهم، يحصيها ويعدها عدًّا وسيجزيهم بها أوفى الجزاء. {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} ، أي: إنما أنت نذير، والله على كل شيء وكيل. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} قال البغوي: {وَكَذَلِكَ} مثل ما ذكرنا، {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} مكة، يعني: أهلها، {وَمَنْ حَوْلَهَا} يعني: قرى الأرض كلها {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} أي: تنذرهم بيوم الجمع وهو يوم القيامة، يجمع الله الأولين والآخرين وأهل السماوات والأرضين {لا رَيْبَ فِيهِ} لا شك في الجمع أنه كائن ثم بعد الجمع يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير. {وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، قال ابن عباس: على دين واحد {وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} في دين الإسلام {وَالظَّالِمُونَ} الكافرون {مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ} يدفع عنهم العذاب، {وَلَا نَصِيرٍ} يمنعهم من النار. {أَمِ اتَّخَذُوا} بل اتخذوا أي: الكافرون {مِن دُونِهِ} ، أي: من دون الله {أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقال

ابن كثير: ينكر تعالى على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، ويخبر أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، فإنه هو القادر على إحياء الموتى وهو على كل شيء قدير، {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ، أي: مهما اختلفتم فيه من الأمور {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ، أي: هو الحاكم فيه. وعن ابن عباس: قوله: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} ، يقول: يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها. وعن مجاهد في قوله: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} ، قال: نسل بعد نسل من الناس والأنعام. وقال ابن كثير: أي: يخلقكم فيه، أي: في ذلك الخلق على هذه الصفة، لا يزال يذرؤكم فيه، ذكوًرا وإناثًا، خلقًا من بعد خلق، وجيلاً بعد جيل، ونسلاً بعد نسل، من الناس والأنعام. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، أي: كخالق الأزواج كلها شيء، لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وعن السدي: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال: خزائن السموات والأرض {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: فإلى من له مقاليد السموات والأرض، الذي صفته ما وصفت لكم في هذه الآيات أيها الناس فارغبوا، وإياه فاعبدوا مخلصين له الدين لا الأوثان والآلهة والأصنام التي لا تملك ضرًا ولا نفعًا. قوله عز وجل: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ

كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) } . عن مجاهد قوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} ، قال: ما أوصاك به وأنبياءه كلهم دين واحد. وعن السدي في قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} قال: اعملوا به {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} قال قتادة: اعلموا أن الفرقة هلكة، وأن الجماعة ثقة. {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} ، قال: أنكرها المشركون وكبر عليهم شهادة أن لا إله إلاَّ الله فصادمها إبليس وجنوده، فأبى الله تبارك وتعالى أن يمضيها وينصرها ويفلجها ويظهرها على من ناوأها. وعن مجاهد قوله: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ} أي: يصطفي إليه من يشاء من خلقه {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} ، قال السدي: من يقبل إلى طاعة الله. {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} ، قال ابن جرير: يقول: بغيًا من بعضكم على بعض، وحسدًا وعداوة على

طلب الدنيا. وعن السدي: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ، قال: يوم القيامة يقضي بينهم، {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ} ، قال: اليهود والنصارى، {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} ، {فَلِذَلِكَ فَادْعُ} أي: إلى ما وصينا به الأنبياء من التوحيد {وَاسْتَقِمْ} على الدين {كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} كما أمرني الله. وقوله: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} ، أي: هو المعبود لا إله غيره، {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} كقوله تعالى: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} ؛ {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} ، قال مجاهد: لا خصومة، {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . قال ابن كثير: اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات، كل منها منفصلة عن التي قبلها حكم برأسها، قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنها أيضًا عشرة فصول كهذه. وعن مجاهد: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} ، قال: طمع رجال بأن تعود الجاهلية، {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} وقال قتادة: هم: اليهود النصارى قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم. وعن مجاهد قوله: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} ، قال: العدل، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} . وقال مقاتل: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الساعة ذات يوم وعنده قوم من المشركين، فقالوا تكذيبًا: متى تكون الساعة؟ فأنزل الله هذه الآية: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} . قوله عز وجل: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ

العَزِيزُ (19) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا ... وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) } . عن ابن عباس: قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} إلى: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} ، قال: يقول: من كان إنما يعمل للدنيا نؤته منها. وقال ابن زيد: الحرث: العمل، من عمل للآخرة أعطاه الله، ومن عمل للدنيا أعطاه الله. قال في جامع البيان: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء} بل لهم آلهة وهم الشياطين، والهمزة للتحقيق والتثبيت. {شَرَعُوا} أظهروا لهم {مِّنَ الدِّينِ} غير دين الإسلام، {مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} وهذا إضراب عن قوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ} إلى آخره، {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ} القضاء السابق بتأجيل العذاب إلى القيامة، {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} بين المؤمنين والكافرين في الدنيا. وعن ابن عباس قوله {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قال: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرابة في جميع قريش، فلما كذبوه وأبوا أن يتابعوه قال: «يا قوم إذا أبيتم أن تتابعوني فاحفظوا قرابتي فيكم، لا يكن غيركم من

العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم» . وقال ابن زيد في قوله: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} قال: من يعمل خيرًا نزد له. الاقتراف: العمل {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} قال قتادة: غفور للذنوب، شكور للحسنات ويضاعفها. قال في جامع البيان: {أَمْ يَقُولُونَ} بل يقولون، إضراب آخر أشد من قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء} . {افْتَرَى} محمد - صلى الله عليه وسلم - {كَذِباً} ؟ {فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} ، قال قتادة: فينسيك القرآن. قال ابن كثير: لو افتريت عليه كذبًا كما يزعم الجاهلون. وقوله تعالى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} قال ابن جرير: وقوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} في موضع رفع بالابتداء ولكنه حذفت منه الواو في المصحف كما حذفت من قوله: {سَنَدْعُ ... الزَّبَانِيَةَ} . وقوله تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} قال البغوي: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: ويجيب الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات إذا دعوه {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} سوى ثواب أعمالهم، تفضلاً منه. {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} . * * *

الدرس الحادي والخمسون بعد المائتين

الدرس الحادي والخمسون بعد المائتين {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41)

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ (53) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (35) } . عن قتادة: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} الآية، قال: كان يقال: خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك؛ وقال: ذكر أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين قحط المطر، وقنط الناس، قال: مطرتم {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} . وعن قتادة: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الآية، ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «لا يصيب ابن آدم خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر» . وعن مجاهد قوله: {الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ} ، قال: السفن

{كَالْأَعْلَامِ} قال: كالجبال. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} ، أي: لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا فإنهم مقهورون بقدرتنا. قوله عز وجل: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) } . قال البغوي: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} يتشاورن فيما يبدو لهم ولا يعجلون. وعن السدي في قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} ، قال: ينتصرون ممن بغى عليهم، من غير أن يعتدوا. ... {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} إذا شتمك بشتيمه فاشتمه مثلها من غير أن تعتدي. وقال الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان له على الله أجر فليقم، فلا يقوم إلا من عفا، ثم قرأ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} . قال ابن عباس: الذين يبدؤون بالظلم.

وقوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ، قال ابن كثير: أي: صبر على الأذى وستر السيئة فإن {ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} . قال سعيد بن جبير: يعني لمن حق الأمور التي أمر الله تعالى بها. قوله عز وجل: {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) } . عن السدي في قوله: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} ، يقول: إلى الدنيا {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} قال البغوي: أي: على النار {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} قال ابن عباس: يعني بالخفي: الذليل، {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، قال السدي: غبنوا أنفسهم وأهليهم في الجنة. وقال ابن كثير: خسروا أنفسهم، وفرق بينهم وبين أهاليهم

فخسروهم {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} . وعن السدي: {مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ} تلجؤون إليه، {وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ} ، يقول: من عز تعتزون. وعن قتادة: قوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} قادر والله ربنا على ذلك أن يهب للرجل ذكورًا ليست معهم أنثى وأن يهب للرجل ذكرانًا وإناثًا فيجمعهم له جميعًا {وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً} لا يولد له {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} . قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) } . قال ابن كثير: هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله عز وجل وهو: أنه تبارك وتعالى يقذف في روع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» . وقوله تعالى: {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها؛ وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال

لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «ما كلم الله أحدًا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحًا» . كذا جاء في الحديث؛ وكان قد قتل يوم أحد، ولكن هذا في عالم البرزخ؛ والاية إنما هي في الدار الدنيا. وقوله عز وجل: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} كما ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} فهو علي عليم خبير حكيم. وقوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} ، يعني: القرآن {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} ، أي: على التفصيل الذي شرع لك في القرآن، {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ} ، أي: القرآن {نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ} ، أي: يا محمد {لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو الحق القويم، ثم فسره بقوله تعالى: {صِرَاطِ اللَّهِ} ، أي: شرعه الذي أمر به {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي: ربهما ومالكهما والمتصرف فيهما والحاكم الذي لا معقب لحكمه {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} . * * *

الدرس الثاني والخمسون بعد المائتين

الدرس الثاني والخمسون بعد المائتين [سورة الزخرف] مكية، وهي تسع وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ

لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) } . * * *

قوله عز وجل: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) } . عن السدي: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} هو هذا الكتاب. قال قتادة: مُبِينِ والله بركته وهداه ورشده. وعن عطية بن سعد في قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} ، يعني: القرآن، في أم الكتاب الذي عند الله منه نُسِخَ. وعن قتادة: {لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} يخبر عن منزلته وفضله وشرفه. وعن مجاهد في قول الله عز وجل {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} قال: يكذبون بالقرآن لا يعاقبون عليه. وعن ابن عباس قوله {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ} يقول: أحسبتم أن نصفح عنكم ولما تفعلوا ما أمرتم به؟ وقال قتادة: والله لو كان هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا، فدعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء الله من ذلك. {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} لاستهزاء قومك، {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً} أي: أقوى من قومك {وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} قال قتادة: عقوبة الأولين. قوله عز وجل: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً

مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (14) } . قال ابن كثير: يقول تعالى: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره، {مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله وحده لا شريك له، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد؛ ثم قال تعالى: ... {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} أي: فراشًا، {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . وعن قتادة: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} كما أحيا الله هذه الأرض الميتة بهذا الماء، وكذلك تبعثون يوم القيامة. {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} ، قال البغوي: أي: الأصناف كلها، {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} في البر والبحر ... {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} ذكر الكناية لأنه ردها إلى (ما) {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} بتسخير المراكب في البر والبحر ... {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} مطيقين، {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} ، قال ابن كثير: أي: لصائرون إليه بعد مماتنا، وإليه مسيرنا الأكبر؛ وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي في قوله تعالى: ... {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى: {وَرِيشاً وَلِبَاسُ

التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} ، وعن قتادة: ... {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} يعلّمكم كيف تقولون إذا ركبتم في الفلك، تقولون {بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} وإذا ركبتم الإبل قلتم: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} ويعلّمكم ما تقولون إذا نزلتم من الفلك والأنعام جميعًا تقولون: (اللهم أنزلنا منزلاً مباركًا وأنت خير المنزِلين) . قوله عز وجل: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) } . عن مجاهد في قول الله عز وجل: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} ، قال: ولدًا، وبنات من الملائكة، وعن قتادة: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} ، أي: عدلاً؛ وقال

البغوي: أي: نصيبًا وبعضًا، وهو قولهم: الملائكة بنات الله؛ ومعنى الجعل: ها هنا الحكم بالشيء، والقول كما تقول: جعلت زيدًا أفضل الناس. {إِنَّ الْإِنسَانَ} ، يعني: الكافر، {لَكَفُورٌ} جحود لنعم الله {مُّبِينٌ} ظاهر الكفران. {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} هذا استفهام توبيخ وإنكار، يقول: اتخذ ربكم لنفسه البنات وأصفاكم بالبنين؟ كقوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً} . {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} أي: بما جعل لله بشرًا، وذلك أن ولد كل شيء يشبهه يعني: إذا بشر أحدهم بالبنات - كما ذكر في سورة النحل -: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} من الغيظ والحزن. {أَوَمَن يُنَشَّأُ} ، أي: يربى {فِي الْحِلْيَةِ} في الزينة -، يعني: النساء - {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} للحجة من ضعفهن ومتعهن. قال قتادة: قلما تتكلم امرأة تريد أن تتكلم بحجتها، إلا تكلمت بالحجة عليها؛ مجازه: أو من ينشؤ في الحلية يجعلونه بنات الله؟ . {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} ، أي: أحضروا خلقهم حين خلقوا {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} على الملائكة أنهم بنات الله، {وَيُسْأَلُونَ} عنها. {وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} ، يعنى: الملائكة، {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ} ، أي: من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله، {فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} ، {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ} على دين وملة، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} جعلوا أنفسهم بإتباع آبائهم مهتدون {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} أغنياؤها ورؤساؤها، {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} بهم {قَالَ أَوَلَوْ

جِئْتُكُم بِأَهْدَى} بدين أصوب {مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ} قال الزجاج: قال لهم: أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم، وإن جئتكم بأهدى منه؟ فأبوا أن يقبلوه {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} انتهى ملخصًا. وعن قتادة: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} ، قال: شر والله أخذهم بخسف وغرق، ثم أهلكم فأدخلهم النار. * * *

الدرس الثالث والخمسون بعد المائتين

الدرس الثالث والخمسون بعد المائتين {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) } . * * *

قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) } . عن قتادة: قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} ، قال: كايدهم، كانوا يقولون: الله ربنا، ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن: الله، فلم يبرأ من ربه {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} قال: التوحيد، والإخلاص ولا يزال في وريثه من يوحد الله ويعبده {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: يتوبون أو يذكرون. وعن السدي: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} قال: لا إله إلاَّ الله. قال في جامع البيان: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء} أي: قومك، فإنهم من عقب إبراهيم {حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ} القرآن {وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} ظاهر الرسالة، {وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} . قوله عز وجل: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) } .

وعن ابن عباس قوله: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ، قال: يعني بالعظيم: الوليد بن المغيرة القرشي، أو حبيب بن عمرو الثقفي؛ وبالقريتين: مكة، والطائف. وقال ابن زيد: كان أحد العظيمين عروة بن مسعود الثقفي. وعن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدًا رسولاً، أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد، قال: فأنزل الله عز وجل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ} ، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} يعني: أهل الكتب الماضية، أبشر كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أتتكم، وإن كانوا بشرًا فلا ينكروا أن يكون محمد رسولاً. قال: ثم قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي: ليسوا من أهل السماء كما قلتم. قال: فلما كرر الله عليهم الحجج قالوا: وإذا كان بشرًا فغير محمد كان أحق بالرسالة: فلولا {نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ، يقولون: أشرف من محمد - صلى الله عليه وسلم -، يعنون الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان يسمى ريحانة قريش، هذا من مكة ومسعود بن عمرو الثقفي من أهل الطائف؛ قال: يقول الله عز وجل ردًا عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} . أنا أفعل ما شئت. وعن قتادة: قال: قال الله تبارك وتعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ} فتلقاه ضعيف الحيلة عيي اللسان، وهو مبسوط له في الرزق، وتلقاه شديد الحيلة بسيط اللسان. قال جل ثناؤه: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} كما قسم بينهم صورهم، {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} قال: ملكة. وقال السدي: يستخدم بعضهم بعضًا في السخرة. وقال ابن زيد: هم بنو آدم جميعًا وهذا عبد هذا، ورفع هذا

على هذا درجة، فهو يسخره بالعمل يستعمله به. {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} ، قال السدي يقول: الجنة خير مما يجمعون في الدنيا. وعن الحسن في قوله: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، قال: لولا أن يكون الناس كفارًا أجمعون يميلون إلى الدنيا، لجعل الله تبارك وتعالى الذي قال. ثم قال: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها؛ وما فعل ذلك، فكيف لو فعله؟ وعن قتادة: {لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ} السقف أعلى البيوت، {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} ، أي: درجًا عليها يصعدون. قال ابن زيد: {مِّن فَضَّةٍ} . {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ} ، قال: الأبواب من فضة، والسرر من فضة. وعن ابن عباس: {وَزُخْرُفاً} وهو الذهب. وقال ابن زيد في قوله: {وَزُخْرُفاً} لجعلنا هذا لأهل الكفر، يعني: لبيوتهم سقفًا من فضة وما ذكر معها؛ قال: والزخرف: سمي هذا الذي سمي السقف والمعارج والأبواب والسرر من الأثاث والفرش والمتاع. وعن قتادة: {وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} خصوصًا. وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة» . قوله عز وجل: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن

قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) } . قال البغوي: قوله عز وجل: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} ، أي: يعرض عن ذكر الرحمن، فلم يخف عقابه ولم يرج ثوابه. قال القرظي: يول ظهره عن ذكر الرحمن، وهو: القرآن. قال أبو عبيدة: يُظْلِم بصره عنه {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} نسبب له شيطانًا، ونضمه إليه ونسلطه عليه، {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} لا يفارقه يزين له العمى ويخيل إليه أنه على الهدى {وَإِنَّهُمْ} يعني: الشياطين {لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} ويحسب كفار بني آدم أنهم على هدى، ... {حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ} لقرينه {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} أي: بعد ما بين المشرق والمغرب، فغلب اسم أحدهما على الآخر، كما يقال: القمران والعمران {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ} في الآخرة {إِذ ظَّلَمْتُمْ} أشركتم في الدنيا {أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} لا ينفعكم الاشتراك في العذاب، لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ؟ يعني: الكافرين الذين حقت عليهم كلمة العذاب لا يؤمنون، {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} بأن نميتك قبل أن نعذبهم، {فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} بالقتل بعدك {أَوْ نُرِيَنَّكَ} في حياتك {الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} من العذاب {فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ} قادرون متى شئنا عذبناهم، وأراد به مشركي مكة انتقم منهم يوم بدر {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ} ، أي: القرآن، {لَذِكْرٌ لَّكَ} لشرف لك {وَلِقَوْمِكَ} من قريش، {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} عن حقه وأداء شكره. وقال مجاهد: القوم هم العرب، فالقرآن لهم شرف إذ نزل بلغتهم، ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب، حتى يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم قوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ،

قال أكثر المفسرين: سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد؟ ومعنى الأمر بالسؤال: التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله عز وجل. انتهى ملخصًا. وقال ابن كثير: وقوله سبحانه وتعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ، أي: جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه، من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد، كقوله جلت عظمته: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} . قال مجاهد في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا، وهذا كأنه تفسير لا تلاوة. والله أعلم. * * *

الدرس الرابع والخمسون بعد المائتين

الدرس الرابع والخمسون بعد المائتين {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ

الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (50) } . قال البغوي: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} استهزاء {وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها {وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ} بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس، فكانت هذه دلالات لموسى وعذابًا لهم فكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم {وَقَالُوا} لموسى لما عاينوا العذاب {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} يا أيها العالم الحاذق - لأن السحر عندهم كان علمًا عظيمًا -: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} ، أي: بما أخبرتنا من عهده إليك، إن آمنا كشف عنا العذاب، فاسأله يكشف عنا العذاب، {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} مؤمنون، فدعا موسى فكشف عنهم فلم يؤمنوا، فذلك قوله عز وجل: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} ينقضون عهدهم ويصرون على كفرهم. قوله عز وجل: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي

هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) } . عن قتادة: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} ، قال: كانت لهم جنات وأنهار ماء. وعن السدي قوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} ، قال: بل أنا خير من هذا. وعن قتادة: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} ، قال: ضعيف: {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} ، أي: عيي اللسان. {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} ، أي: أقلبة من ذهب، {أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} أي: متتابعين. {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} قال البغوي: أي: وجدهن جهالاً فأطاعوه، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} . {فَلَمَّا آسَفُونَا} أغضبونا، {انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} متقدمين يتعظ بهم الآخرون، {وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} عبرة وعظة لمن بقي بعدهم. وعن معمر: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} قال: سلفًا إلى النار. وقال مجاهد: قوم فرعون سلفًا لكفار أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ... {وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} ، قال عبرة لمن بعدهم. قوله عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي

تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) } . عن ابن عباس: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قال: يعني: قريشًا لما قيل لهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ، فقالت له قريش: فما ابن مريم؟ قال: «ذاك عبد الله ورسوله» ، فقالوا: والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه ربًا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربًا، فقال الله عز وجل: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} . وعن مجاهد: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} ، قال: يضجون. وعن السدي في قوله: ... {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ، قال: خاصموه فقالوا: يزعم أن كل من عبد من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة، هؤلاء قد عبدوا من دون الله؛ قال: فأنزل الله براءة عيسى. وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» . ثُمَّ قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً} الآيَةَ رواه ابن جرير وغيره. وعن قتادة: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} ، يعني بذلك: عيسى ابن مريم، ما عدا ذلك عيسى ابن مريم، إن كان إلا عبدًا أنعم الله عليه {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: آية، {وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} قال: يخلف بعضهم بعضًا مكان بني آدم: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} قال: نزول عيسى ابن مريم: علم للساعة القيامة. {وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أي: الإنجيل {قَالَ

قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ} قال السدي: النبوة، {وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} قال مجاهد: من تبديل التوراة. وعن السدي في قوله: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ} قال: اليهود والنصارى {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} عذاب يوم القيامة. قوله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) } . عن ابن عباس قوله: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} فكل خلة هي عداوة، إلا خلة المتقين. وعن قتادة قال: حدثنا المعتمر عن أبيه قال: سمعت أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع، فينادي مناد يا عباد الله: {لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} فيرجوها الناس كلهم قال: فيتبعها {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} قال: فيئس الناس منها غير المسلمين. وعن قتادة: ... {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} أي: تنعمون. وقوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} ، قال السدي: الأكواب التي ليست لها آذان. وقال ابن كثير: {وَأَكْوَابٍ} وهي آنية الشراب،

أي: من ذهب لا خراطيم لها ولا عرى. وفي الحديث المتفق عليه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» . وعن شعبة قال: أدنى أهل الجنة منزلةً من له قصر فيه سبعون ألف خادم، مع كل خادم صحفة سوى ما في يد صاحبه، لو فتح بابه فضافه أهل الدنيا لأوسعهم. وعن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رجل: يا رسول الله أفي الجنة خيل؟ فإني أحب الخيل فقال: «إن يدخلك الله الجنة، فلا تشاء أن تركب فرسًا من ياقوته حمراء تطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت» ، وقال أعرابي: يا رسول الله أفي الجنة إبل؟ فإني أحب الإبل. فقال: «يا أعرابي، إن يدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك» . قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) } .

وعن قتادة: {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} ، قال: آيسون. وقال السدي: متغير حالهم. وعن ابن عباس: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} فأجابهم بعد ألف سنة: {إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} . وعن السدي: {لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ} قال: الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} . {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} قال مجاهد: مجمعون إن كادوا شرًا كدنًا مثله. وقال ابن زيد: محكمون لأمرنا. وقال بعض المفسرين: ثم عاد إلى توبيخ قريش وتجهيلهم والتعجيب من حالهم فقال: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً} والإبرام: الإحكام، والمعنى: أنهم كلما أحكموا أمرًا بالمكر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فإنا نحكم أمرًا في محاذاتهم. وعن السدي: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} قال: الحفظة. قوله عز وجل: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) } . عن السدي: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} ، قال: لو أن له ولدًا كنت أول من عبده بأن له ولدًا، ولكن لا ولد له. قال ابن كثير: والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضًا كما قال تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً

لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ، قال البغوي: ثم نزه نفسه فقال: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} عما يقولون من الكذب {فَذَرْهُمْ ... يَخُوضُوا} في باطلهم، {وَيَلْعَبُوا} في دنياهم {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} ، يعني: يوم القيامة. {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} ، قال قتادة: يعبد في السماء والأرض لا إله إلا هو {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في تدبير خلقه، {الْعَلِيمُ} بمصالحهم. وعن مجاهد: قوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} ، قال: عيسى وعزير والملائكة. قوله: {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ} قال: كلمة الإخلاص {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن الله حق وعزير والملائكة يقول: لا يشفع عيسى وعزير والملائكة، {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ} وهو يعلم الحق. وقال قتادة: الملائكة وعيسى والعزير قد عبدوا من دون الله، ولهم شفاعة عند الله ومنزله. وقال ابن كثير: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} ، أي: من الأصنام والأوثان: {الشفاعة} ، أي: لا يقدرون على الشفاعة لهم، {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} هذا استثناء منقطع أي: لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. قال البغوي: وأراد بشهادة الحق قول: لا إله إلا الله كلمة التوحيد، وهم يعلمون بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم. {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} يصرفون عن عبادته: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} ، يعني: قول محمد - صلى الله عليه وسلم - شاكيًا إلى ربه: {يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ} قرأ عاصم، وحمزة: وقيله بجر اللام، على معنى: وعنده علم الساعة، وعلم: قيله يا رب إن

هؤلاء قوم لا يؤمنون. وعن قتادة: قال الله تبارك وتعالى يعزي نبيه - صلى الله عليه وسلم - {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ثم أمره بقتالهم. وقال ابن كثير: {وَقُلْ سَلَامٌ} ، أي: لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيء ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلاً وقولاً {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} . * * *

الدرس الخامس والخمسون بعد المائتين

الدرس الخامس والخمسون بعد المائتين [سورة الدخان] مكية، وهي تسع وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا

مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ (33) } . * * *

قوله عز وجل: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) } . عن قتادة: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} ليلة القدر ونزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، ونزلت التوراة لست ليال مضت من رمضان، ونزل الإنجيل لثمان عشرة مضت من رمضان، ونزل القرآن لسبع وعشرين مضت من رمضان. وقال ابن زيد: أنزل الله القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نجومًا في عشرين سنة. وقيل للحسن: ليلة القدر في كل رمضان هي؟ قال: إي والله، إنها لفي كل رمضان، وإنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل أجل وأمل ورزق إلى مثلها. وقال ابن كثير: وقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ، أي: في ليلة القدر، يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها {أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} قال ابن عباس: رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل. قال ابن جرير: وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، يقول: لا معبود لكم أيها الناس غير رب السموات والأرض وما بينهما، فلا تعبدوا غيره، فإنه لا تصلح العبادة لغيره، ولا تنبغي لشيء سواه.

قوله عز وجل: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16) } . عن قتادة: {فَارْتَقِبْ} ، أي: فانتظر. وعن مسروق قال: دخلنا المسجد فإذا رجل يقص على أصحابه ويقول: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} تدرون ما ذلك الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ أسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام، قال: فأتينا ابن مسعود فذكرنا له ذلك وكان مضطجعًا ففزع فقعد فقال: (إن الله عز وجل قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، سأحدثكم عن ذلك: إن قريشًا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان، قال الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، فقالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} ، قال الله جل ثناؤه: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} ، قال: فعادوا يوم بدر فانتقم الله منهم) . وعن مجاهد: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} ، قال: الجدب، وإمساك المطر عن كفار قريش، إلى قوله: {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} وروى مسلم من حديث أبى سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:

«لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا» . وهذا الحديث لا ينافي وقوع الدخان بكفار قريش، فذلك قد وقع، وهذا منتظر. وقوله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} قال البغوي: من أين لهم التذكير والاتعاظ؟ يقول: كيف يتذكرون ويتعظون؟ {وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ} طاهر الصدق، يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} ، أعرضوا عنه {وَقَالُوا مُعَلَّمٌ} أي: يعلمه بشر {مَّجْنُونٌ} ، قال الله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} أي: عذاب الجوع {قَلِيلاً} ، أي: زمانًا يسيرًا، قال مقاتل: إلى يوم بدر {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} إلى كفركم {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} وهو يوم بدر {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} ، وهذا قول ابن مسعود وأكثر العلماء. وقال الحسن: يوم القيامة. قال ابن كثير: والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشته أيضًا. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم

مُّتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ (33) } . عن قتادة: قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} ، يعني: موسى عليه السلام، {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} ، قال مجاهد: أرسلوا معي بني إسرائيل، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} ، قال البغوي: على الوحي، {وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} لا تتجبروا عليه بترك طاعته {إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} ببرهان بين على صدق قولي؛ فلما قال ذلك توعدوه بالقتل فقال: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ} أن تقتلون {وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} فاتركون لا معي ولا علي. وقال ابن عباس: فاعتزلوا أذاي باليد واللسان، فلم يؤمنوا، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} فأجابه الله وأمره أن يسري فقال: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً} أي: ببني إسرائيل، {إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} يتبعكم فرعون وقومه، {وَاتْرُكْ الْبَحْرَ} إذا قطعته أنت وأصحابك {رَهْواً} ساكنًا على حالته وهيئته. قال قتادة: لما قطع موسى البحر عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: اترك البحر رهواً كما هو إنهم جند مغرقون. ثم ذكر ما تركوا بمصر فقال: {كَمْ تَرَكُوا} يعني: بعد الغرق ... {مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} مجلس شريف. قال قتادة: الكريم: الحسن، {وَنَعْمَةٍ} متعة وعيش لين {كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} ناعمين. وفاكهين: أشرين بطرين، {كَذَلِكَ} ،

قال الكلبي: كذلك أفعل بمن عصاني {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} يعني: بني إسرائيل {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ} وذلك أن المؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض أربعين صباحًا وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقدهم ولا لهم على الأرض عمل صالح فتبكي الأرض عليهم. ثم ساق بسنده عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من عبد إلا له في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل فيه عمله، فإذا مات فقداه وبكيا عليه، - ثم تلا -: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} » لم ينظروا حين أخذهم العذاب لتوبة ولا لغيرها {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} قتل الأبناء، واستحياء النساء، والتعب في العمل، {مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ} ، يعني: مؤمني بني إسرائيل {عَلَى عِلْمٍ} ، بهم، {عَلَى الْعَالَمِينَ} على عالمي زمانهم {وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ} ، قال قتادة: نعمة بينة من فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى والنعم التي أنعمها عليهم. وقال ابن زيد: ابتلاهم بالرخاء والشدة وقرأ: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} . انتهى ملخصًا. والله أعلم. * * *

الدرس السادس والخمسون بعد المائتين

الدرس السادس والخمسون بعد المائتين {وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاء لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (41) إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ (59) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّ هَؤُلَاء لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (41) إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) } . عن قتادة: {إِنَّ هَؤُلَاء لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} ، قال: قد قال مشركوا العرب، {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} أي: بمبعوثين. وعن مجاهد في قول الله عز وجل: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} ، قال: الحميري. قال البغوي: وكان سار بالجيوش حتى حير الحيرة وبنى سمرقند، وكان من ملوك اليمن، سمي تبعًا لكثرة أتباعه، وكل واحد منهم يسمى: تبعًا لأنه يتبع صاحبه، وكان هذا الملك يعبد النار فأسلم ودعا قومه إلى الإسلام وهم حمير فكذبوه، وكان من خبره ما ذكره محمد بن إسحاق وغيره؛ وذكر عكرمة عن ابن عباس قال: كان تبع الآخر - وهو أبو كرب أسعد بن مالك - حين أقبل من المشرق وجعل طريقه على المدينة، وقد كان حين مر بها خلف بين أظهرهم ابنًا له فقتل غيلة، فقدمها وهو مجمع على خرابها واستئصال أهلها، فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا ذلك من أمره، فخرجوا لقتاله، وكان الأنصار يقاتلونه

بالنهار ويفرون بالليل، فأعجبه ذلك وقال: إن هؤلاء لكرام، فبينما هو كذلك إذ جاءه حبران اسمهما كعب وأسد من أحبار بني قريظة عالمان وكانا ابني عم حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها فقالا له: أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينهما ولم نأمن عليك عاجل العقوبة فإنها مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش اسمه محمد مولده مكة وهذه دار هجرته، ومنزلك الذي أنت به يكون به من القتل والجراح أمر كبير في أصحابه وفي عدوهم، قال تبع: من يقاتله وهو نبي؟ ! قالا: يسير إليه قومه فيقتتلون ها هنا؛ فتناهى لقولهما عما كان يريد بالمدينة، ثم إنهما دعواه إلى دينهما فأجابهما واتبعهما على دينهما وأكرمهما وانصرف عن المدينة، وخرج بهما ونفر من اليهود عائدين إلى اليمن، فأتاه في الطريق نفر من هذيل وقالوا: إنا ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة قال: أي بيت؟ قالوا: بيت بمكة وإنما تريد هذيل هلاكه لأنهم عرفوا أنه لم يرده أحد قط بسوء إلا هلك، فذكر ذلك للأحبار فقالوا: ما نعلم لله في الأرض بيتًا غير هذا البيت، فاتخذه مسجدًا وانسك عنده وانحر واحلق رأسك، وما أراد القوم إلا هلاكك، لأنه ما ناوأه أحد قط إلا هلك، فأكرمه واصنع عنده ما يصنع أهله، فلما قالوا له ذلك، أخذ النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم صلبهم، فلما قدم مكة نزل الشعب - شعب البطائح - وكسا البيت الوصائل - وهو أول من كسا البيت - ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة، وأقام به ستة أيام، وطاف به وحلق وانصرف، فلما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بين ذلك وبينه، وقالوا: لا تدخل علينا وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه، وقال: إنه دين خير من دينكم، قالوا: فحاكمنا إلى النار، وكانت باليمن نار في أسفل جبل يتحاكمون إليها فيما يختلفون فيه، فتأكل الظالم ولا تضر المظلوم، فقال تبع: أتفقتم، فخرج القوم بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما، حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه،

فخرجت النار فأقبلت حتى غشيتهم، فأكلت الأوثان وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما من أعناقهما يتلوان التوراة، تعرق جباههما لم تضرهما، ونكصت النار حتى رجعت إلى مخرجها، الذي خرجت منه، فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، فمن هنالك كان أصل اليهودية في اليمن. وذكر أبو حاتم عن الرقاشي قال: كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة، آمن بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، وذكر لنا أن كعبًا كان يقول: ذم الله قومه ولم يذمه وكانت عائشة تقول: لا تسبوا تبعًا، فإنه كان رجلاً صالحًا. وقال ابن كثير: وكان مما يحفظ من شعره: شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرًا له وابن عم وجاهدت بالسيف أعداءه ... وفرجت عن صدره كل غم قال: وذكر أنه ملك على قومه ثلاثمائة سنة وست وعشرين سنة، ولم يكن في حمير أطول مدة منه، وتوفي قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو من سبعمائة سنة؛ ثم لما توفي عاد قومه إلى عبادة النيران والأصنام، فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ. وقوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} ، قال قتادة: يوم يفصل فيه بين الناس بأعمالهم، {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَن

رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ، قال قتادة: انقطعت الأسباب يومئذٍ بابن آدم وصار الناس إلى أعمالهم، فمن أصاب يومئذٍ خيرًا سعد به آخر ما عليه، ومن أصاب يومئذٍ شرًا شقي به آخر ما عليه. قوله عز وجل: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ ... (50) } . عن همام بن الحارث أن أبا الدرداء كان يقرئ رجلاً: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ} فقال: طعام اليتيم، فقال أبو الدرداء: قل: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر. وعن ابن عباس في قوله: {كَالْمُهْلِ} ماء غليظ كدردي الزيت؛ وعنه: أنه رأى فضة قد أذيبت فقال: هذا المهل. وعن مجاهد قوله: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} ، قال: خذوه فادفعوه، {إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ} ، قال قتادة: وسط النار. وعن عكرمة قال: لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا جهل - لعنه الله - فقال: «إن الله تعالى أمرني أن أقول لك: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} » ، قال: فنزع ثوبه من يده وقال: ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء، ولقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم، قال: فقتله الله تعالى يوم بدر وأذله وعيره بكلمته وأنزل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} . قال البغوي: {إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ} تشكون فيه ولا تؤمنون به. قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)

يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ (59) } . عن قتادة: قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} أي: والله أمين من الشيطان والأوصاب والأحزان {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ} قال ابن كثير: وهو رقيق الحرير كالقمصان ونحوها {وَإِسْتَبْرَقٍ} وهو ما فيه بريق ولمعان، وذلك كالرياش وما يلبس على أعالي القماش ... {مُّتَقَابِلِينَ} أي: على السرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره. {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم} قال البغوي: أي: كما أكرمناهم بما وصفنا من الجنات والعيون واللباس، كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم {بِحُورٍ عِينٍ} قال قتادة: بيض عين {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} أمِنوا من الموت والأوصاب والشيطان، {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} ، قال ابن كثير: هذا استثناء يؤكد النفي، فإنه استثناء منقطع ومعناه: أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدًا، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت» . وعن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقال لأهل الجنة: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا

أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا» . رواه مسلم وغيره. وقوله تعالى: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أي: ومع هذا النعيم، نجاهم من العذاب الأليم {فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اعملوا وسددوا وقاربوا، واعلموا أن أحدًا لن يدخله عمله الجنة» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ ! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» . وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} ، أي: القرآن، {بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتفهمون ويتعظون ويعملون؛ ثم قال تعالى مسليًا لرسوله وواعدًا له بالنصر: {فَارْتَقِبْ} أي: انتظر {إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ} ، أي: فيسيعلمون لمن تكون العاقبة. * * *

الدرس السابع والخمسون بعد المائتين

الدرس السابع والخمسون بعد المائتين [سورة الجاثية] مكية، وهي ٍسبع وثلاثون آية بسم الله الرحمن الرحيم {حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (9) مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئاً وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) } .

قوله عز وجل: {حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) } . قال ابن كثير: يرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه وقدرته العظيمة التي خلق بها السموات والأرض وما فيها من المخلوقات المختلفة والأجناس والأنواع من: الملائكة، والجن، والإنس، والدواب، والطيور، والوحوش، والسباع، والحشرات، وما في البحر من الأصناف المتنوعة. {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} في تعاقبهما دائبين لا يفتران، هذا بظلامه وهذا بضيائه، {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ} تبارك وتعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه، وسماه رزقًا لأن به يحصل الرزق {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء. وقوله عز وجل: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} أي: جنوبًا وشمالاً ودبورًا وصبًا برية وبحرية، ليلية ونهارية، ومنها ما هو للمطر، ومنها ما هو للقاح، ومنها ما هو غذاء للأرواح، ومنها ما هو عقيم لا ينتج وقال سبحانه وتعالى أولاً {لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} ثم {يُوقِنُونَ} ثم {يَعْقِلُونَ} وهو ترق من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى، وهذه الايات شبيهة بآية البقرة، وهو قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا

يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . قوله عز وجل: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (9) مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئاً وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (11) } . قال ابن كثير: يقول تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} يعني: القرآن، بما فيه من الحجج والبينات: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} أي: متضمنة الحق من الحق، فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون لها، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} ؟ ثم قال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} ، أي: أفاك في قوله، كذاب حلاف مهين، {أَثِيمٍ} في فعله وقلبه، كفر بآيات الله؛ ولهذا قال: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ} أي: تقرأ عليه {ثُمَّ يُصِرُّ} أي: على كفره وجحوده استكبارًا وعنادًا: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} أي: كأنه ما سمعها، {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فأخبره أن له عند الله تعالى يوم القيامة عذابًا أليمًا موجعًا، {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً} ، أي: إذا حفظ شيئًا من القرآن كفر به واتخذه سخريًا وهزوًا {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} ، أي: في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به؛ ثم فسر العذاب الحاصل له يوم معاده فقال: {مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} ، أي: كل من اتصف بذلك سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة، {وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئاً} أي: لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم

{وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء} أي: ولا تغني عنهم الآلهة التي عبدوها من دون الله شيئًا {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . ثم قال تبارك وتعالى: {هَذَا هُدًى} يعني: القرآن {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} . قوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) } . قال ابن كثير: يذكر تعالى نعمه على عبيده فيما سخر لهم من البحر {لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} وهي السفن {فِيهِ بِأَمْرِهِ} تعالى، فإنه هو الذي أمر البحر بحملها {وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} ، أي: في المتاجر والمكاسب، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، أي: على حصول المنافع المجلوبة إليكم من الأقاليم النائية والآفاق القاصية، ثم قال عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ، أي: من الكواكب والجبال والبحار والأنهار، وجميع ما تنتفعون به، أي: الجميع من فضله وإحسانه ولهذا قال: {جَمِيعاً مِّنْهُ} ، أي: من عنده وحده لا شريك له في ذلك، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} . وقوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ} ، أي: ليصفحوا عنهم ويتحملوا الأذى منهم، وكان هذا في ابتداء الإسلام، أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ليكون ذلك كالتأليف لهم، ثم لما أصروا

على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد. وقال البغوي: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ} أي: لا يخافون وقائع الله ولا يبالون نقمته. قال ابن كثير: وقوله تبارك وتعالى: {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، أي: إذا صفحوا عنهم في الدنيا، فإن الله عز وجل مجازيهم بأعمالكم السيئة في الاخرة، ولهذا قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أي: تعودون إليه يوم القيامة، فتعرضون بأعمالكم عليه فيجزيكم بأعمالكم خيرها وشرها. والله سبحانه وتعالى أعلم. * * *

الدرس الثامن والخمسون بعد المائتين

الدرس الثامن والخمسون بعد المائتين {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ (20) أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا

كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (34) ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) } . * * *

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ ... وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ (20) } . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {وَلَقَدْ آتَيْنَا} يا محمد {بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} يعني: التوراة والإنجيل {وَالْحُكْمَ} يعني: الفهم بالكتاب والعلم بالسنن التي لم تنزل في الكتاب، {وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} ، قال ابن عباس: لم يكن أحد من العالمين في زمانهم أكرم على الله ولا أحب إليه منهم. وعن قتادة: قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} ، والشريعة: الفرائض والحدود والأمر والنهي، {فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . وقال ابن زيد في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ} قال: الشريعة الدين وقرأ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} قال: فنوح أولهم، وأنت آخرهم. وقال في قوله: ... {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ} قال: القرآن. قال: هذا كله إنما هو في القلب. قال: والسمع والبصر في القلب وقرأ: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}

وليس ببصر الدنيا ولا بسمعها. قوله عز وجل: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) } . عن قتادة: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ} لعمري لقد تفرق القوم في الدنيا، وتفرقوا عند الموت، فتباينوا في المصير. وقال البغوي: {أًمْ حَسِبَ} بل حسب {الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} اكتسبوا المعاصي والكفر {أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} نزلت في نفر من مشركي مكة قالوا للمؤمنين: لئن كان ما تقولون حقًا لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا {سَوَاء مَّحْيَاهُم} يعني: أحسبوا أن حياة الكافرين ومماتهم، كحياة المؤمنين وموتهم سواء؟ كلا {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} بئس ما يقضون. وعن ابن عباس: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ، قال: ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان. وقال قتادة: لا يهوى شيئًا إلا ركبه، لا يخاف الله، {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} . قال ابن عباس: أضله الله في سابق علمه. قال ابن كثير: وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} يحتمل قولين أحدهما: وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك، والآخر: وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه؛ والثاني يستلزم الأول ولا ينعكس. {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ

غِشَاوَةً} ، أي: فلا يسمع ما ينفعه ولا يعي شيئًا يهتدي به ولا يرى حجة يستضيء بها ولهذا قال تعالى: {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} . قوله عز وجل: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) } . عن قتادة: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} ، أي: لعمري هذا قول مشركي العرب. وعن أبي هريرة مرفوعًا قال: «كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، هو الذي يهلكنا يميتنا ويحيينا، فقال الله في كتابه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} ، قال: فيسبون الدهر، فقال الله تبارك وتعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار» . رواه ابن جرير. وقال ابن كثير: يخبر تعالى عن قول الدهرية ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} ، أي: ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وما ثم معاد ولا قيامة؛ وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون المعاد، وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم وهم ينكرون البداءة والرجعة، وتقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} ،

قال الله تعالى: {وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} ، أي: يتوهمون ويتخيلون. قوله عز وجل: {وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (34) ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) } . قال ابن زيد في قوله: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} ، قال: هذا يوم القيامة جاثية على ركبهم. قال ابن كثير: وقوله عز وجل: {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} يعني: كتاب أعمالها، كقوله جل جلاله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء} ولهذا قال سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} ، أي: يستحضر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص، كقوله جل جلاله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ

هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} . وقوله عز وجل: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم. وعن ابن عباس: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ} نترككم. وفي الحديث: «قال الله تعالى للجَنةِ أَنْتِ رَحْمَتِى أَرْحَمُ بِكِ من أشاءُ وقال للنَّار: أَنتِ عذابي أُعذِّب بك من أشاءُ ولِكُلِّيكما عليّ مِلؤُها» . وقوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، قال ابن جرير: يقول: وله العظمة والسلطان في السموات والأرض دون ما سواه من الآلهة والأنداد، وهو العزيز في نقمته من أعدائه، القاهر كل ما دونه ولا يقهره شيء، الحكيم في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم فيما شاء كيف شاء.

الدرس التاسع والخمسون بعد المائتين

الدرس التاسع والخمسون بعد المائتين [سورة الأحقاف] مكية، وهي خمس وثلاثون آية بسم الله الرحمن الرحيم {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا

إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (20) } . * * *

قوله عز وجل: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ

عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) } . قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين، ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام، والحكمة في الأقوال والأفعال، ثم قال تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} ، أي: لا على وجه العبث والباطل {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: وإلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص، قال البغوي: يعني: يوم القيامة، وهو الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا} خوفوا به في القرآن {مُعْرِضُونَ} . {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، قال الكلبي: أي: بقية من علم يؤثر عن الأولين، أو سند إليهم. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} ، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} . {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} . قوله عز وجل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا

رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) } . قال البغوي: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} يسمون القرآن سحرًا {أَمْ يَقُولُونَ ... افْتَرَاهُ} محمد من قبل نفسه؟ فقال الله عز وجل: {قُلْ} يا محمد: {إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} لا تقدرون أن تردوا عني عذابه إن عذبني على افترائي، فكيف أفتري على الله من أجلكم؟ {هُوَ أَعْلَمُ} أي: الله أعلم {بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن والقول فيه: إنه سحر، {كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أن القرآن جاء من عنده {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} في تأخير العذاب عنكم. قال الزجاج: هذا دعاء لهم إلى التوبة، معناه: إن الله عز وجل غفور لمن تاب منكم رحيم به، {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ} أي: لست بأول مرسل، قبلي كثير من الأنبياء فكيف تنكرون نبوتي؟ {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} قال ابن عباس: فأنزل الله بعد هذا: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} . قال ابن كثير: وقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ، أي: ما أتبع إلا ما ينزله الله علي من الوحي {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: بين النذارة، أمري ظاهر لكل ذي لب وعقل {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} قال البغوي: معناه: أخبروني ماذا تقولون {إِن كَانَ} ، يعني: القرآن، {مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ} أيها المشركون، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} عن مسروق: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} يخاصم به الذين كفروا من أهل مكة، التوراة مثل القرآن وموسى مثل محمد - صلى الله عليه وسلم - {فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} قال: آمن هذا الذي من بني إسرائيل بنبيه وكتابه {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أنتم فكذبتم نبيكم وكتابكم. وقال

قتادة: كنا نحدث أنه عبد الله بن سلام آمن بكتاب الله وبرسوله وبالإسلام، وكان من أحبار اليهود. قال ابن كثير: وهذا الشاهد اسم جنس يعم عبد الله بن سلام رضي الله عنه وغيره فإن هذه الآية مكية نزلت قبل إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه وعن قتادة: {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} ، قال: قال ذاك أناس من المشركين: نحن أعز ونحن ونحن، فلو كان خيرًا ما سبقنا إليه فلان وفلان، فإن الله يختص برحمته من يشاء. قال البغوي: قال الله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} ، يعني: بالقرآن، كما اهتدى أهل الإيمان {فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} كما قالوا: أساطير الأولين {وَمِن قَبْلِهِ} ، أي: ومن قبل القرآن {كِتَابُ مُوسَى} ، يعني: التوراة إمامًا يقتدى به {وَرَحْمَةً} من الله لمن آمن به {وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ} أي: القرآن مصدق للكتب التي قبله {لِّسَاناً عَرَبِيّاً} نصب على الحال وقيل: بلسان عربي {لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} قال ابن كثير: أي: مشتمل على النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين. قوله عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) } . عن قتادة: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} ، يقول حملته مشقة ووضعته مشقة. وعن ابن عباس: قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد

وعشرون شهرًا، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرًا، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين، لأن الله تعالى يقول {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً} . وقال ابن كثير: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي: قوي وشب وارتجل {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} أي: تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه، ويقال: إنه لا يتغير غالبًا عما يكون عليه ابن الأربعين. قال مسروق: إذا بلغت الأربعين فخذ حذرك. وقال الحجاج بن عبد الله الحكمي أحد أمراء بني أمية بدمشق: تركت المعاصي والذنوب أربعين سنة حياء من الناس، ثم تركتها حياء من الله عز وجل. وعن قتادة: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} حتى بلغ: {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وقد مضى من سيىء عمله ما مضى {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} قال البغوي: يعني: أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا، وكلها حسن، والأحسن بمعنى الحسن فيثيبهم عليها {وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ} فلا نعاقبهم عليها {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} مع أصحاب الجنة {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} وهو قوله عز وجل: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} . قوله عز وجل: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (20) } .

عن الحسن في قوله: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} ، قال: هو الكافر الفاجر العاق لوالديه، المكذب بالبعث. وقال ابن زيد في قوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} قال: درج أهل النار يذهب سفالاً ودرج أهل الجنة يذهب علوًّا. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو مضطجع على رمال حصير، قد أثر الرمال بجنبه، فقلت: يا رسول الله ادع الله ليوسع على أمتك، فإن فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله فقال: «أولئك قوم قد عجلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا» . وقال أبو مجلز: ليفقدن أقوام حسنات كانت لهم في الدنيا، فيقال لهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} . والله أعلم. * * *

الدرس الستون بعد المائتين

الدرس الستون بعد المائتين {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ

مُّبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) } . * * *

قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) } . قال البغوي: قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} يعني: هودًا {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} قال ابن عباس: الأحقاف واد بين عمان ومهرة. وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضر موت، بموضع يقال له مهرة، وإليها تنسب الإبل المهرية، وكانوا أهل عمل سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إرم. قال قتادة: ذكر لنا أن عادًا كانوا حيًا باليمن، وكانوا أهل رمل

مشرقين على البحر بأرض يقال لها: الشحر، والأحقاف: جمع حقف، وهي المستطيل المعوج من الرمال؛ قال ابن زيد: هي ما استطال من الرمل ولم يبلغ أن يكون جبلاً؛ قال الكسائي: هي ما استطال من الرمل {وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ} مضت الرسل {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ} أي: من قبل هود {وَمِنْ خَلْفِهِ} إلى قومهم {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} لتصرفنا: {عَنْ آلِهَتِنَا} أي: عن عبادتها: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أن العذاب نازل بنا {قَالَ} هود: {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ} وهو يعلم متى يأتيكم العذاب {وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ} من الوحي إليكم ... {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} . {فَلَمَّا رَأَوْهُ} ، يعني: ما يوعدون به من العذاب {عَارِضاً} سحابًا {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} فخرجت عليهم سحابة سوداء من واد لهم يقال له: المغيث، وكانوا قد حبس عنهم المطر، فلما رأوها استبشروا {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} ، يقول الله تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} فجعلت الريح تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} مرت به من رجال عاد وأموالها، {بِأَمْرِ رَبِّهَا} فأول ما عرفوا أنها عذاب رأوا ما كان خارجًا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم وصرعتهم، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال، وكانوا تحت الرمل، سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال، فاحتملتهم فرمت بهم في البحر. ثم ساق بسنده عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه بياض لهواته، وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عرف ذلك في وجهه فقلت: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية! فقال: «يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ

مُّمْطِرُنَا} » الآية، {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} لأن السكان والأنعام بادت بالريح، فلم يبق إلا هود ومن آمن معه {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} . {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} ، يعني: فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان، وطول العمر، وكثرة المال، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم} يا أهل مكة من القرى كحجر ثمود، وأرض سدوم، ونحوهما. {وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ} الحجج والبينات، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم فلم يرجعوا فأهلكناهم؛ يخوف مشركي مكة. {فَلَوْلَا} فهلا {نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً} ، يعني: الأوثان التي اتخذوها آلهة يتقربون بها إلى الله عز وجل، {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} ، قال مقاتل: بل ضلت الآلهة عنهم فلم تنفعهم عند نزول العذاب {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} ، أي: كذبهم الذي كانوا يقولون أنها تقربهم إلى الله عز وجل وتشفع لهم، {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} يكذبون أنها آلهة. انتهى ملخصًا. وقال ابن كثير: {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} أي: كذبهم {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: وافتراؤهم في اتخاذهم إياهم آلهة، وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها واعتمادهم عليها. قوله عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ

مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (32) } . قال البغوي: قوله عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} لما مات أبو طالب خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه، فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: لما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف - وهم يومئذٍ سادة ثقيف وأشرافهم - وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم به من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة: إن كان الله أرسلك؟ وقال الآخر: ما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله ما أكلمك كلمة أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرًا من أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عندهم وقد يئس من خير ثقيف وقال لهم: إن فعلتم ما فعلتم فاكتموه عليّ وكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ قومه فيزيدهم عليه ذلك، فلم يفعلوا وأغووا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما فيه، فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه، فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف، ولقد لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك المرأة من بني جمح فقال لها: «ماذا لقينا من أحمائك» ؟ . فلما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك

هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» . فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت رحمهما، فدعوا غلامًا لهما نصرانيًا يقال له: عداس، فقالا له: خذ قطفًا من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل ذلك عداس؛ ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده قال: «بسم الله» ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة! فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك» ؟ قال: أنا نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى» ؟ قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذاك أخي، كان نبيًا وأنا نبي» . فأكب عداس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبل رأسه ويديه وقدميه. قال: فيقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك؛ فلما جاءهم عداس قالا له: ويلك ياعداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ ! قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، فقالا: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه. ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا لما سمعوا، فقص الله خبرهم عليه فقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ} الآية،

ثم ساق بسنده عن ابن عباس قال: (انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، فأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء؟ فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} فأنزل الله على نبيه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} وإنما أوحي إليه قول الجن. قوله عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا} ، قالوا: صه وروي في الحديث: «إن الجن ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون» ، {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} ، قال بعضهم لبعض: {أَنصِتُوا} واسكتوا لنستمع إلى قراءته فأنصتوا واستمعوا القرآن، {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} مخوفين داعين بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، قال عطاء: كان دينهم اليهودية، لذلك قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى} ، {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} ، يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ... {وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فاستجاب لهم من قومهم نحو من سبعين رجلاً من الجن

فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوافوه في البطحاء فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم، {وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} لا يعجز الله فيفوته، {وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء} أنصار يمنعونه من الله، {أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} . انتهى ملخصًا. وقال ابن كثير: فدعوا قومهم بالترغيب والترهيب، ولهذا نجح في كثير منهم، وجاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفودًا وفودًا. والله أعلم. قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) } . قال البغوي: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} لم يعجز عن إبداعهن. وقال ابن كثير: يقول تعالى: أولم يروا هؤلاء المنكرون للبعث يوم القيامة، المستبعدون لقيام الأجساد يوم المعاد: {أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} ، أي: ولم يلوّثه خلقهن، بل قال لها: كوني فكانت، بلا ممانعة ولا مخالفة بل طائعة مجيبة خائفة وجلة، أفليس ذلك {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} ، قال عطاء الخراساني: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن زيد في قوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} ، قال: كل الرسل كانوا أولي عزم، لم يتخذ الله رسولاً إلا كان ذا عزم، فاصبر كما صبروا. وقال بعضهم: الأنبياء كلهم أولوا عزم إلا يونس بن متى، لعجلة كانت منه ألا ترى أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} . وقال البغوي: قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} ،

أي: ولا تستعجل العذاب لهم، فإنه نازل بهم لا محالة؛ كان ضجر بعض الضجر، فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم، فأمر بالصبر وترك الاستعجال، ثم أخبر عن قرب العذاب فقال: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب في الآخرة {لَمْ يَلْبَثُوا} في الدنيا {إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} ، أي: إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من نهار، لأن ما يمضي وإن كان طويلاً كأنه لم يكن، ثم قال: {بَلَاغٌ} ، أي: هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ من الله إليكم، والبلاغ بمعنى التبليغ، {فَهَلْ يُهْلَكُ} بالعذاب إذا نزل: {إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} الخارجون من أمر الله. قال الزجاج: تأويله: لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون؛ ولهذا قال قوم: ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية. وقال ابن كثير: وقوله تعالى: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} ، أي: لا يهلك على الله إلا هالك، وهذا من عدله عز وجل أنه لا يعذب إلا من يستحق العذاب. والله أعلم. * * *

الدرس الحادي والستون بعد المائتين

الدرس الحادي والستون بعد المائتين [سورة محمد - صلى الله عليه وسلم -] مدنية وهي ثمان وثلاثون آية بسم الله الرحمن الرحيم ... {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (12)

وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ (15) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) } . * * *

قوله عز وجل: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) } . قال البغوي: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أبطلها فلم يقبلها، وأراد بالأعمال ما فعلوا من إطعام الطعام وصلة الأرحام. وقال الضحاك: أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وجعل الدائرة عليهم. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} قال سفيان الثوري: يعني: لم يخالفوه في شيء {وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} حالهم؛ قال ابن عباس: عصمهم أيام حياتهم، {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} الشيطان {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ} ، يعني: القرآن {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أشكالهم. قال الزجاج: كذلك يبين الله أمثال حسنات المؤمنين، وإضلال أعمال الكافرين. وقال ابن كثير: أي: إنما أبطلنا أعمال الكفار وتجاوزنا عن سيئات الأبرار وأصلحنا شؤونهم، لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل، أي: اختاروا الباطل على الحق، {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} ، أي: يبين لهم مآل أعمالهم وما يصيرون إليه في معادهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

قوله عز وجل: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) } . قال البغوي: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} نصب على الإغراء، أي: فاضربوا رقابهم، يعني: أعناقهم، {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} بالغتم في القتل وقهرتموهم {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} يعني: في الأسر حتى لا يفلتوا منكم، والأسر يكون بعد المبالغة في القتل، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} ، {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} يعني: بعد أن تأسروهم فإما أن تَمُنّوا عليهم منا بإطلاقهم من غير عوض، وإما أن تفادوهم فداء. وقوله تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي: آلاتها وأثقالها. وقال الكلبي: حتى يسلموا ويسالموا. وعن مجاهد قوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} ، قال: حتى يخرج عيسى ابن مريم، فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة من الذئب، ولا تقرض فأرة جرابًا، وتذهب العداوة من الأشياء كلها، ذلك ظهور الإسلام على الدين كله. وعن قتادة: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} ، قال: الحرب من كان يقاتلهم، سماهم حربًا. {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ}

أي: والله بجنوده الكثيرة كل خلقه له جند، ولو سلط أضعف خلقه لكان جندًا، {وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} ، {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} ، قال ابن زيد: بلغنا عن غير واحد قال: يدخل أهل الجنة الجنة ولهم أعرف بمنازلهم فيها من منازلهم في الدنيا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، قال قتادة: حق على الله أن يعطي من سأله وينصر من نصره. وقال ابن زيد في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ} قال: شقاء لهم {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} قال: الضلالة التي أضلهم الله لم يهدهم كما هدى الآخرين. وعن مجاهد في قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} ، قال: مثل ما دمرت به القرون الأولى، وعيد من الله لهم. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} قال: وليهم، {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} ، قال ابن كثير: ولهذا لما قال أبو سفيان صخر بن حرب رئيس المشركين يوم أحد حين سأل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلم يُجَبْ، وقال: أما هؤلاء فقد هلكوا، وأجابه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كذبت يا عدو الله، بل أبقى الله لك ما يسوءك، وإن الذين عددت لأحياء، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون مثلة لم آمر بها ولم أنه عنها، ثم ذهب يرتجز ويقول: اعل هبل اعل هبل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تجيبوه» ؟ ، فقالوا: يا رسول الله وما نقول؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «قولوا: الله أعلى وأجل» ، ثم قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تجيبوه» ؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» . قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (12)

وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ (15) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) } . عن قتادة: قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} ، قال: هي: مكة. عن عكرمة عن ابن عباس أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من مكة إلى الغار - أراه قال -: التفت إلى مكة فقال: «أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب بلاد الله إليّ، فلو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك» ؛ فأعتى الأعداء من عتا على الله في حرمه، أو قتل غير قاتله، أو قتل بدخول الجاهلية، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} . رواه ابن جرير.

قال البغوي: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي: صفتها {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ} آجن متغير منتن، {وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ} لذيدة {لِّلشَّارِبِينَ} لم تدنسها الأرجل والأيدي {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} أي: من مكان في هذا النعيم، كمن هو خالد في النار؟ {وَسُقُوا مَاء حَمِيماً} شديد الحر {فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} فخرجت من أدبارهم {وَمِنْهُم} يعني: من هؤلاء الكفار {مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} وهم: المنافقون يستمعون قولك فلا يعونه ولا يفهمونه تهاونًا به وتغافلاً، {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} من الصحابة {مَاذَا قَالَ} محمد {آنِفاً} يعني: الآن؟ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلم يؤمنوا {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} في الكفر والنفاق {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} يعني: المؤمنين {زَادَهُمْ} ما قال الرسول {هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} وفقهم للعمل بما أمرهم به وهو التقوى. قال سعيد بن جبير: وآتاهم ثواب تقواهم. {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً} وساق بسنده عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنى مطغيًا، أو فقرا منسيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر» . قوله عز وجل: {فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا} ، أي: أماراتها وعلاماتها؛ وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - من أشراط الساعة. انتهى ملخصًا؛ ثم ساق بسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:

«بعثت أنا والساعة كهاتين» يعني: أصبعه الوسطى والتي تلي الإبهام. وسأله أعرابي: متى الساعة؟ قال: «فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة» ، قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» . وقوله تعالى: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} ، أي: فمن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذ جاءتهم الساعة؟ نظيره {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} . وعن قتادة: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ} هؤلاء المنافقون دخل رجلان: رجل ممن عقل عن الله وانتفع بما يسمع، ورجل لم يعقل عن الله فلم ينتفع بما سمع. كان يقال: الناس ثلاثة: فسامع عامل، وسامع عاقل، وسامع تارك. وقال في جامع البيان: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ، أي: إذا علمت حال الفريقين فاثبت على التوحيد. وقال البخاري: باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فبدأ بالعلم. قال الحافظ ابن حجر: قوله: باب العلم قبل القول والعمل، قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به فهو متقدم عليهما لأنه مصحح للنية المصححة للعمل؛ قوله: فبدأ بالعلم، أي: حيث قال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ، ثم قال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} والخطاب وإن كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو متناول لأمته. انتهى. وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطأي

وعمدي، وكل ذلك عندي» . وكان يقول: «يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» . وعن عاصم الأحول قال سمعت عبد الله بن سرخس قال: (أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكلت معه من طعامه فقلت: غفر الله لك يا رسول الله، فقال: «ولك» فقلت: أستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، ولكم وقرأ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ، قال البغوي: هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة حيث أمر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لذنوبهم، وهو الشفيع المجاب فيهم {مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} ، أي: عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه منهم شيء. * * *

الدرس الثاني والستون بعد المائتين

الدرس الثاني والستون بعد المائتين {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ

لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) } . * * *

قوله عز وجل: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) } . قال البغوي: قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} حرصًا منهم على الجهاد: {لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} تأمرنا بالجهاد، {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} ، قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين، {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ، يعني: المنافقين، {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} شزرًا بتحديق شديد كراهية منهم للقتال، وجبنًا عن لقاء العدو، {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} كما ينظر الشاخص بصره عند الموت {فَأَوْلَى لَهُمْ} وعيد وتهديد، ومعنى قولهم في التهديد: أولى لك، أي: وليك وقاربك ما تكره. ثم قال: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} ، وهذا ابتداء محذوف الخبر. وقال ابن كثير: {فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} ، أي: وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا في الحالة الراهنة. {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} ، أي: جد الحال وحضر القتال، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} ، أي: خلصوا إليه النية {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} . وقال في

جامع البيان: {فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} ، أي: كان الأولى بهم طاعة الله وقول معروف بالإجابة، أو معناه: فالويل لهم من التولي، وأصله: أولاه الله ما يكرهه، واللام مزيدة، أي: هذا الويل لهم. ثم قال: {طَاعَةٌ} ، أي: آمرهم طاعة، أو طاعة خير لهم، {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} جد الأمر وفرض القتال، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} في الإيمان والطاعة {لَكَانَ} الصدق ... {خَيْراً لَّهُمْ} . وقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} ، قال بعض المفسرين: هل يتوقع منكم {إِن تَوَلَّيْتُمْ} وأعرضتم عن الدين، أو توليتم أمور الناس، {أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بالمعاصي والافتراق بعد الاجتماع على الإسلام: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ، بالقتل والعقوق. وعن قتادة: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ، يقول: فهل عسيتم كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله، ألم يسفكوا الدم الحرام، وقطّعوا الأرحام، وعصوا الرحمن؟ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} إذًا والله يجدون في القرآن زاجرًا عن معصية الله، لو تدبره القوم فعقلوه، ولكنهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا عند ذلك. وقال خالد بن معدان: ما من آدمي إلا وله أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه وما يصلحه من معيشته، وعينان في قلبه لدينه وما وعد الله من الغيب، فإذا أراد الله بعبده خيرًا أبصرت عيناه اللتان في قلبه، وإذا أراد الله بعبده غير ذلك طمس عليهما، فذلك قوله: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ، وعن عروة بن الزبير قال: (تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ، فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتى يكون الله عز وجل يفتحها؛ فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى وُلِّيَ، فاستعان به) .

قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) } . عن ابن عباس: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم} هم أهل النفاق. وعن قتادة: {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} يقول: زين لهم {وَأَمْلَى لَهُمْ} قال البغوي: مد لهم في الأمل، وعن ابن عباس: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} قال: هم أهل النفاق، وقد عرفهم إياهم في سورة براءة. وقال ابن زيد في قوله: {وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ} ، قال: هؤلاء المنافقون، وقد أراه الله إياهم، وأمرهم أن يخرجوا من المسجد، قالوا: إلا إن تمسكوا بلا إله إلا الله حقنت دماؤهم، ونكحوا ونُوكحوا بها. وقوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} ، قال ابن كثير: أي: فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم. وفي الحديث: «ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله

تعالى جلبابها، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر» . وقال ابن زيد في قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ} ، قال: نختبركم البلوى الاختباري، وقرأ: {ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} لا يختبرون. {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} . قال البغوي: نظهرها ونكشفها. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ، أي: دين الله {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} خالفوه، {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى} كاليهود والمنافقين وغيرهم {لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} ، فلا يضرون إلا أنفسهم، {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} ، فلا تنفعهم في الآخرة. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) } . عن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} الآية، من استطاع منكم أن لا يبطل عملاً صالحًا عمله بعمل سيئ،

فليفعل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن الخير ينسخ الشر، والشر ينسخ الخير، وإن ملاك الأعمال خواتيمها. وعن مجاهد: {فَلَا تَهِنُوا} ، قال: لا تضعفوا، {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} ، قال قتادة: لا تكونوا أول الطائفتين صرعت لصاحبتها ودعتها إلى الموادعة، {وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ} أولى بالله منهم {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} . قال ابن كثير: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ} ، أي: في حال علوكم على عدوكم، فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين ورأى الإمام في المهادنة والمصالحة مصلحة فله أن يفعل ذلك كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صده كفار قريش عن مكة. وعن ابن عباس قوله: {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} ، يقول: لن يظلمكم أجور أعمالكم. وقال مجاهد: لن ينقصكم. وقوله تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أي: هذا حاصلها. {وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} أن تتركوا المعاصي وتفعلوا الطاعات {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} في الآخرة، {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} بمسألة جميعها {تَبْخَلُوا} بها فلا تعطوها {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} قال قتادة: قد علم الله أن في مسألة المال خروج الأضغان. وقال ابن زيد في قوله: {هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء} ، قال: ليس بالله - تعالى ذكره - إليكم حاجة، وأنتم أحوج إليه. وعن قتادة: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} ، قال: إن تولوا عن طاعة الله. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} ، قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب على فخذ سلمان قال:

«هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس» . رواه ابن جرير وغيره والله أعلم. * * *

الدرس الثالث والستون بعد المائتين

الدرس الثالث والستون بعد المائتين [سورة الفتح] مدنية، وهي تسع وعشرون آية عن معاوية بن قرة قال: سمعت عبد الله بن مغفل يقول: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح في سيره سورة الفتح على راحلته فرجع فيها قال معاوية: لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت قراءته. متفق عليه. بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (2) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً

وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً (15) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً (17) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (2) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) } . عن أنس بن مالك في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} قال: نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرجعه من الحديبية وقد حيل بينهم وبين نسكهم، فنحر الهدي بالحديبية، وأصحابه مخالطو الكآبة والحزن، فقال: «لقد أنزل عليّ آية أحب إليّ من الدنيا جميعًا - فقرأ -: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} - إلى قوله -: ... {عَزِيزاً حَكِيماً} » ، فقال: أصحابه: هنيئًا لك يا رسول الله، قد بين الله لنا ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله هذه الآية بعدها: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} إلى قوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} . رواه ابن جرير وغيره.

وعن ابن عباس في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} ، قال: السكنية: الرحمة، {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} ، قال: إن الله جل ثناؤه بعث نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوا بها زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} ، قال فأوثق إيمان أهل الأرض وأهل السموات وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله. قال البغوي: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ} الطمأنينة والوقار، {فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} لئلاً تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم. قوله عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) } . عن قتادة: قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} يقول: شاهدًا على أمته على أنه قد بلغهم، ومبشرًا بالجنة لمن أطاع الله، ونذيرًا من النار. وعن ابن عباس: {وَتُعَزِّرُوهُ} يعني: الإجلال {وَتُوَقِّرُوهُ} يعني: التعظيم. قال ابن جرير: ومعنى التعزير في هذا الموضع: التقوية بالنصرة والمعونة، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال. قال البغوي: هذه الكنايات راجعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وها هنا وقف {وَتُسَبِّحُوهُ} ، أي: تسبحوا الله يريد تصلّوا له {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} بالغداة والعشي قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليؤمنوا ويعزروه ويوقروه ويسبحوه: بالياء فيهن

لقوله: {فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} وقرأ الآخرون: بالتاء فيهن. {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} يا محمد بالحديبية على أن لا يفروا {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ، قال ابن عباس: {يَدُ اللَّهِ} بالوفاء لما وعدهم من الخير، {فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ، وقال السدي: كانوا يأخذون بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبايعونه، ويدُ اللهِ فوق أيديهم في المبايعة: قال ابن جرير في قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وجهان من التأويل أحدهما: يد الله فوق

أيديهم عند البيعة، لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ والآخر: قوة الله فوق قوتهم في نصرة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم إنما بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نصرته على العدو. وقوله تعالى: {فَمَن نَّكَثَ} أي: نقض العهد، {فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أي: وباله راجع عليه {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} وهو الجنة؛ وقرأ حفص: بضم هاء عليه. قوله عز وجل: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً (15) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً (17) } . عن مجاهد في قوله: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا

وَأَهْلُونَا} ، قال: أعراب المدينة كجهينة ومزينة استتبعهم لخروجه إلى مكة، قالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوه فقتلوا أصحابه فنقاتلهم، فاعتلوا بالشغل. وعن قتادة قوله {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} إلى قوله: {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} قال: ظنوا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أنهم لن يرجعوا من وجههم ذلك، وأنهم سيهلكون فذاك الذي خلفهم عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} قال: فاسدين. وقال ابن زيد: البور: الذي ليس فيه من الخير شيء. وعن مجاهد قال: رجع - يعني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مكة، فوعده الله مغانم كثيرة، فعجل له خيبر فقال المخلفون: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} وهي: المغانم {لِتَأْخُذُوهَا} التي قال الله جل ثناؤه: {إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} وعرض عليهم قتال قوم أولي بأس شديد. وعن مقسم قال: لما وعدهم الله أن يفتح عليهم خيبر، وكان الله قد وعدها من شهد الحديبية، لم يعط أحدًا غيرهم منها شيئًا، فلما علم المنافقون أنها الغنيمة قالوا: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} يقول: ما وعدهم. وعن قتادة {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ} الآية، وهم الذين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية؛ ذكر لنا أن المشركين لما صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية عن المسجد الحرام والهدي، قال المقداد: (إنا والله لا نقول كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فلما سمع ذلك أصحاب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - تبايعوا على ما قال، فلما رأى ذلك نبي - صلى الله عليه وسلم - صالح قريشًا ورجع من عامه ذلك) . وعن قتادة: قوله: {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ} ، أي: إنما جعلت الغنيمة لأهل الجهاد، وإنما كانت غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ليس لغيرهم فيها نصيب. وقوله تعالى: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ

تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} ، قيل: هوازن وثقيف، وقيل: بنو حنيفة، وقيل: فارس والروم. قال ابن جرير: وجائز أن يكون عنى بذلك بعض هذه الأجناس، وجائز أن يكون عنى بهم غيرهم، ولا قول فيه أصح من أن يقال كما قال الله جل ثناؤه: إنهم سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد. وعن قتادة: قال: ثم عذر الله أهل العذر من الناس فقال: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} ، قال: هذا كله في الجهاد. * * *

الدرس الرابع والستون بعد المائتين

الدرس الرابع والستون بعد المائتين {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ

الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ... وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) } . * * *

قوله عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (20) وَأُخْرَى ... لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) } . عن عكرمة مولى ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشًا على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب من يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليهم ولكني أدلك على رجل هو أعز بها مني: عثمان بن عفان؛ فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرًا لهذا البيت معظمًا لحرمته؛ فخرج عثمان إلى مكة فتلقاه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها، فنزل عن دابته فجعله بين يديه، ثم ردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان عظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين أن عثمان قد قتل. قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بلغه أن عثمان قد قتل قال: «لا نبرح

حتى نناجز القوم» ، ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت، فكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفر فبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة كان جابر بن عبد الله يقول: لكأني أنظر إليه لاصقًا بإبط ناقته قد اختبأ إليها يستتر بها من الناس؛ ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل. رواه ابن جرير. عن جابر قال: كنا يوم الحديبية ألفًا وأربعمائة فَبَايَعْنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا نفر، ولم نبايعه على الموت، قال: فبايعناه كلنا إلا الجد بن قيس. وعن قتادة: قوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أي: الصبر والوقار، {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} وهي خيبر {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} ، قال البغوي: من أموال يهود خيبر {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} ، وعن مجاهد: قوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} ، قال: المغانم الكثيرة التي وعدوا: ما يأخذونها إلى اليوم. {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} ، قال: عجل لكم خيبر. وعن قتادة: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ} عن بيوتهم وعيالهم بالمدينة حين ساروا إلى الحديبية وإلى خيبر {وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} يقول: وذلك آية للمؤمنين: كف أيدي الناس عن عيالهم {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} . وعن الحسن: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} قال: هي فارس والروم. وقال قتادة: بلغنا أنها: مكة، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} . قوله عز وجل: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ

أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) } . عن قتادة: قوله: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} ، يعني: كفار قريش؛ قال الله: {ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً} ينصرهم من الله. وعن عبد الله بن مغفل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان جالسًا في أصل شجرة بالحديبية وعلى ظهره غصن من أغصان الشجرة، فرفعتهما عن ظهره، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بين يديه، وسهيل بن عمرو - وهو صاحب المشركين - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» ، فأمسك سهيل بيده فقال: ما نعرف (الرحمن) اكتب في قصتنا ما نعرف. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اكتب بسمك اللهم» فكتب فقال: «هذا ما صالح محمد رسول الله وأهل مكة» فأمسك سهيل بيده فقال: لقد ظلمناك إن كنت رسولاً، اكتب في قصتنا ما نعرف. قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وأنا رسول الله» ، فخرج علينا ثلاثون شابًا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل خرجتم في أمان أحد» ؟ قالوا: لا، فخلى سبيلهم. قال: فأنزل الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} . رواه ابن جرير. وقال قتادة: ذكر لنا أن

رجلاً يقال له: ابن زنيم اطلع على الثنية من الحديبية، فرماه المشركون بسهم فقتلوه، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلاً فأتوه باثني عشر من الكفار فقال لهم: «هل لكم علي عهد؟ هل لكم علي ذمة؟» قالوا: لا، فأرسلهم وأنزل الله تعالى في ذلك: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم} الاية. قوله: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً} قال قتادة: محبوسًا {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} قال: وأقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي، حتى إذا كانوا بالحديبية صدهم المشركون فصالحهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يرجع من عامه ذلك ثم يرجع من العالم المقبل فيكون بمكة ثلاث ليال، ولا يدخلها إلا بسلاح الراكب، ولا يخرج بأحد من أهلها. فنحروا الهدي وحلقوا وقصروا. {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ} حتى بلغ: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} هذا حين رد محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أن يدخلوا مكة، فكان بها رجال مؤمنون ونساء مؤمنات، فكره الله أن يؤذوا ويوطئوا بغير علم. قال البغوي: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ} ، يعني: المستضعفين بمكة {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} لم تعرفوهم {أَن تَطَؤُوهُمْ} بالقتل وتوقعوا بهم، {فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، قال ابن زيد: معرة، يعني: إثم. وقال ابن إسحاق: عزم الدية، وقيل: الكفارة، لأن الله أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب - إذا لم يعلم إيمانه - الكفارة دون الدية، فقال: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} ، وقيل: هو أن المشركين

يعيبونكم ويقولون: قتلوا أهل ديتهم؛ والمعرة: المشقة، يقول: لولا أن تطئوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم فليزمكم بها كفارة ويلحقكم سبة، وجواب (لولا) محذوف تقديره: لأذن لكم في دخولها، ولكنه حال بينكم وبين ذلك، {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} يعني: حال بينكم وبين ذلك ليدخل {فِي رَحْمَتِهِ} في دين الإسلام {مَن يَشَاءُ} من أهل مكة بعد الصلح قبل أن تدخلوا {لَوْ تَزَيَّلُوا} لو تميزوا، يعني: المؤمنين من الكفار {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ، وقال قتادة: إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة. وعن الزهري قال: كانت حميتهم التي ذكر الله {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} أنهم لم يقروا أنه: بسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} ، قال: بسم الله الرحمن الرحيم. وعن علي في قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال: لا إله إلا الله. وعن عطاء الخرساني: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وعن علي الأزدي قال: كنت مع ابن عمر بين مكة ومنى، فسمع الناس يقولون: لا إله إلا الله، والله أكبر، فقال: هي هي، فقلت: ما هي؟ قال: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} الإخلاص {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} قال قتادة: وكان المسلمون أحق بها وكانوا أهلها، أي: التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} . قوله عز وجل: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)

مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) } . عن مجاهد في قوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} ، قال: أري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين؛ وقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ وقال قتادة: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يطوف بالبيت وأصحابه وصدق الله رؤياه فقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} . وقال ابن زيد في قوله: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} ، قال: رده لمكان من بين أظهرهم من المؤمنين والمؤمنات، وأخبره: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} من يريد أن يهديه. وعن الزهري قوله: {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} ، يعني: صلح الحديبية، وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنه وضعت الحرب وأمن الناس كلهم بعضهم بعضًا، التقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئًا إلا دخل فيه، فلقد دخل في تينك السنين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. وعن مجاهد في قوله: {مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} ، قال: النحر بالحديبية، ورجعوا فافتتحوا خيبر ثم اعتمروا بعد ذلك، فكان تصديق رؤياه في السنة القابلة. وقال ابن جرير: والصواب أن يعم صلح الحديبية وفتح خيبر.

وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} ، أي: على أنك نبي صالح صادق وسينصرك ويظهر دينك. وقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} ، قال البغوي: تم الكلام ها هنا. قال ابن عباس: شهد له بالرسالة. وعن قتادة في قوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} ألقى الله في قلوبهم الرحمة بعضهم لبعض، {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} ، قال عكرمة: هو أثر التراب. وقال مجاهد: هو الخشوع والتواضع. وقال مقاتل: هو النور يوم القيامة. قال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس. وعن قتادة في قوله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} قال: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} . وعن الضحاك في قول الله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} الآية، قال: هذا مثلهم في التوراة ومثل آخر في الإنجيل {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} قال: ما يخرج بجنب الحقلة فيتم وينهى {فَآزَرَهُ} قال: فشده وأعانه. وقوله: {عَلَى سُوقِهِ} قال: أصوله. وقال ابن زيد في قوله: {فَآزَرَهُ} اجتمع ذلك فالتف؛ وكذلك المؤمنون خرجوا وهم قليل ضعفاء فلم يزل الله يزيد فيهم ويزيدهم بالإسلام، كما زيد هذا الزرع بأولاده، ... {فَآزَرَهُ} فكان مثلاً للمؤمنين {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} ، قال: يعجب الزراع حسنه {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} بالمؤمنين لكثرتهم. قال ابن جرير: وإنما جمع الشطء لأنه أريد به من يدخل في دين محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} . * * *

الدرس الخامس والستون بعد المائتين

الدرس الخامس والستون بعد المائتين [سورة الحجرات] مدنية، وهي ثمان عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا

عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) } .

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) } . عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} يقول: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. وقال قتادة: ذكر لنا أن ناسًا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا لوضع كذا وكذا قال: فكره الله عز وجل ذلك وقدح فيه. وقال مجاهد: لا تفتأتوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء حتى يقضيه الله على لسانه. وعن عبد الله بن الزبير قال: (قدم ركب من بني تميم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر: أمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أُمِّرًا لأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} حتى انقضت الآية. رواه البخاري. وعن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا، أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية حتى يستفهمه.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده في بيته منكسًا رأسه فقال له: ما شأنك؟ فقال: شرٌّ - كان يرفع صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حبط عمله فهو من أهل النار - فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنه قال: كذا وكذا فقال اذهب إليه فقل له: «إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة» . رواه البخاري وغيره. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} ، قال قتادة: أخلص الله قلوبهم فيما أحب. وعن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها أفضل أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي الله عنه: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} . وقال ابن إسحاق: فلما دخل وفد بني تميم المسجد، نادوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء حجراته: أن اخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صاحبهم، فخرج إليهم فقالوا: يا محمد جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: «قد أذنت لخطيبكم فليقل» ؛ فقام عطارد بن حاجب فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل والمن وهو أهله، الذي جعلنا ملوكًا ووهب لنا أموالاً عظامًا نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثره عددًا وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برؤوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا، وإنا نعرف بذلك أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لثابت بن قيس بن الشماس: «قم فأجب الرجل في خطبته» ، فقام ثابت بن قيس فقال: الحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض، خلقه قضى فيهن أمره، ووسع

كرسيه علمه ولم يك شيء قط إلا من فضله، ثم كان من فضله أن جعلنا ملوكًا واصطفى منا خير خلقه رسولاً، أكرمه نسبًا، وأصدقه حديثًا، وأفضله حسبًا، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على وحيه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قومه وذي رحمه أكرم الناس حسبًا، وأحسن الناس وجوهًا، وخير الناس فعالاً، ثم كان أول الخلق إجابة، واستجاب لله حين دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدًا وكان قتله علينا يسيرًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم. فقام الزبرقان بن بدر فقال: نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل الغر يتبع ونحن يطعم عند القحط مطعمنا ... من الشواء إذا لم يؤنس القزع بما ترى الناس تأتينا سراتهم ... من كل أرض هويًا ثم نسطع فنحر الكوم عبطًا في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا فلا ترانا إلى حي نفاخرهم ... إلا استفادوا فكانوا الرأس يقتطع فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع أنا أبينا ولا يأبى لنا أحد ... أنا كذلك عند الفخر نرتفع

قال ابن إسحاق: وكان حسان غائبًا فبعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال حسان: جاءني رسوله فأخبرني أنه إنما دعاني لأجيب شاعر بني تميم، فخرجت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أقول: منعنا رسول الله إذ دخل وسطنا ... على أنف راض من معد وراغم منعناه لما حل بين بيوتنا ... بأسيافنا من كل باغ وظالم لبيت حريد عزه وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم هل المجد إلا السود والعود والندى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم قال: فلما انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقام شاعر القوم فقال ما قال، عرضت في قوله، وقلت على نحو ما قال، قال: فلما فرغ الزبرقان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت: «قم يا حسان فأجب الرجل فيما قال» فقام حسان فقال: إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع يرضى بهم كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير يصطنع قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع لا يرقع الناس ما أو هت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما وقعوا

إن سابقوا الناس يومًا فإن سبقهم ... أو وازنوا أهل محمد بالندى متعوا أعفة ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطبعون ولا يرديهم طمعوا لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسهم من مطمع طبع إذا نصبنا لحي لم ندب لهم ... كما يدب إلى الوحشية الذرع نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزعانف من أظفارها خشعوا لا يفخرون إذا نالوا عدوهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع كأنهم في الوغى والموت مكتنع ... أسد بحلبة في أرساغها فدع خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا ... ولا يكن همك الأمر الذي منعوا قال ابن إسحاق: فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله قال الأقرع بن حابس واللات إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أحلى من أصواتنا، قال: وقد كان الأقرع بن حابس وعيينة شهداء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة وحنينًا والطائف، فلما قدم وفد بني تميم كانا معهم، وقال حسان بن ثابت أيضًا: بني دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالاً عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول ما بين ظئر وخادم فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن تقسموا في المغانم فلا تجعلوا لله ندًا وأسلموا ... ولا تلبسوا زيًا كزي الأعاجم

قال ابن إسحاق: (فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحسن جوائزهم، وفيهم نزل القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} ) . انتهى ملخصًا. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) } . عن ابن عباس: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} الآية، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث الوليد بن عقبة بن أبي ميعط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات، وإنه لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا ليتلقوا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنه لما حدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه، رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبًا شديدًا، فبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا: يا رسول الله إنا حُدِّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا إنما رده كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، فأنزل الله عذرهم في الكتاب فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} . رواه ابن جرير. قال قتادة: فكان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «التبين من الله، والعجلة من

الشيطان» . {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} قال البغوي: لأثمتم وهلكتم. قال قتادة: هؤلاء أصحاب نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، لو أطاعهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - {فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} فأنتم والله أسخف رأيًا وأطيش عقولاً، اتهم رجل رأيه وانتصح كتاب الله، فإن كتاب الله ثقة لمن أخذ به وانتهى إليه، وإنما سوى كتاب الله تغرير. وقال ابن زيد في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} ، قال: حببه إليهم وحسنه في قلوبهم، {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ} ، قال: الكذب {وَالْعِصْيَانَ} قال: عصيان النبي - صلى الله عليه وسلم - {أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} من أين كان هذا؟ قال: {فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} ، قال: والمنافقون سماهم الله أجمعين في القرآن: الكاذبين، قال: والفاسق الكاذب في كتاب الله كله. وقال ابن كثير: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ} وهي الذنوب الكبار، {وَالْعِصْيَانَ} وهي جميع المعاصي، وهذا تدريج لكمال النعمة. قوله عز وجل: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) } . قال ابن عباس: فإن الله سبحانه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين إذا اقتتلت طائفتان

من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله، وينصف بعضهم من بعض، فإن أجابوا حكم فيهم بكتاب الله حتى ينصف المظلوم من الظالم فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ، فحق على إمام المؤمنين أن يجاهدهم ويقاتلهم حتى يفيئوا إلى أمر الله، ويقروا بحكم الله، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ، قال البغوي: في الدين والولاية، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} إذا اختلفا واقتتلا {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . ثم ساق بسنده عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» . * * *

الدرس السادس والستون بعد المائتين

الدرس السادس والستون بعد المائتين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) } . وعن مجاهد: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ} ، قال: لا يهزأ قوم بقوم. وقال ابن كثير: ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ... «الكبر بطر الحق وغمص الناس» ورُوي: «وغمط الناس» ؛ والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم. وعن ابن عباس قوله: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} ، يقول: لا يطعن بعضكم على بعض. عن الشعبي قال: حدثني أبو جبيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} ، قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدًا منهم باسم من تلك الأسماء، قالوا: يا رسول الله إنه يغضب من هذا. فنزلت: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . رواه أحمد وغيره. وعن

عكرمة في قوله: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} هو الرجل للرجل: يا فاسق، يا منافق. قال ابن كثير: قوله جل وعلا: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} أي: بئس الصفة والاسم الفسوق، وهو التنابز بالألقاب - كما كان أهل الجاهلية يتداعون - بعدما دخلتم في الإسلام وعقلتموه. {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} ، أي: من هذا {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . وعن ابن عباس: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ} يقول: نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن شرًا، {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ، قال سفيان الثوري: الظن ظنان: أحدهما: إثم. وهو: أن تظن وتتكلم به، والآخر ليس بإثم وهو: أن تظن ولا تتكلم. وعن ابن عباس: ... {وَلَا تَجَسَّسُوا} قال: نهى الله المؤمن أن يتبع عورات المؤمنين. وقال مجاهد: خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله. وقوله تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} . عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله عن الغيبة قال: «ذكرك أخاك بما يكره» ، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» . رواه ابن جرير وغيره. وعن ابن عباس: قوله: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} ؟ قال: حرم الله على المؤمن أن يغتاب المؤمن بشيء كما حرم الميتة. وعن قتادة: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} ، يقول: كما أنت كاره لو وجدت جيفته مُدوّدة أن تأكل منها فكذلك فاكره غيبته وهو حي {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أيها الناس! إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل: بر تقي كريم على الله تعالى، ورجل: فاجر

شقي هين على الله إن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ ... خَبِيرٌ} » . وعن مجاهد: قوله: {شُعُوباً} قال: النسب البعيد {وَقَبَائِلَ} دون ذلك، {لِتَعَارَفُوا} ، قال: جعلنا هذا لتعارفوا فلان بن فلان من كذا وكذا. وعن عقبة بن عامر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أنسابكم هذه ليست بمساب على أحد، وإنما أنتم ولد آدم، طف الصاع لم تملئوه ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين أو عمل صالح، حسب الرجل أن يكون فاحشًا بذيًا بخيلاً جبانًا» . رواه ابن جرير. وعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أكرم؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم» قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: «فأكرم الناس: يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله» ، قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: «فعن معادن العرب تسألوني» ؟ قالوا: نعم، قال: «فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» . رواه البخاري. وعن درّة بنت أبي لهب قالت: قام رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر فقال يا رسول الله أيّ الناس خير؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «خير الناس أقرؤهم وأتقاهم لله عز وجل، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر

وأوصلهم للرحم» . رواه أحمد. قوله عز وجل: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) } . عن الزهري: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} إن الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل. وعن قتادة: قوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ

تُؤْمِنُوا} ولعمري ما عمت هذه الآية الأعراب، إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، ولكن إنما أنزلت في حي من أحياء العرب امتنوا بإسلامهم على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فقال الله لا تقولوا آمنا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا حتى يبلغ في قلوبكم. {وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} ، يقول: لن يظلمكم من أعمالكم شيئًا. وعن مجاهد: قوله: {لَا يَلِتْكُم} لا ينقصكم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال قتادة: غفور للذنوب الكثيرة، رحيم بعباده. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} لم يشكوا في دينهم {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} ، قال ابن زيد: صدقوا إيمانهم بأعمالهم. قال ابن كثير: وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} أي: أتخبرونه بما في ضمائركم؟ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي: لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وعن حبيب بن أبي عمرة قال: كان بشر بن غالب ولبيد بن عطارد عند الحجاج جالسين، فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد: نزلت في قومك بني تميم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ} ، فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: إنه لو علم بآخر الآية أجابه {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} قالوا: أسلمنا ولم نقاتلك، بنو أسد. قال ابن كثير: ثم كرر الإخبار بعلمه بجميع الكائنات وبصره بأعمال المخلوقات فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . * * *

الدرس السابع والستون بعد المائتين

الدرس السابع والستون بعد المائتين [سورة ق] مكية، وهي خمس وأربعون آية قال ابن كثير: هذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح وروى أبو داود وغيره عن أوس الثقفي قال: (سألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يحزبون القرآن؟ فقالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده) . وروى مسلم وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان يقرأ في العيد بـ (ق) و (اقتربت) ، وكان يخطب (بقاف) كل جمعة) . قال ابن كثير: والقصد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بهذه السورة في المجامع مع الكبار كالعيد والجمع، لاشتمالها على ابتداء الخلق، والبعث والنشور، والمعاد والقيام، والحساب والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب. والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10) رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ

الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ (45) } . * * *

قوله عز وجل: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10) رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) } . عن سعيد بن جبير: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ، يقول: والقرآن الكريم، {بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ} ، قال البغوي: يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} غريب، {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} ، قال الضحاك: قالوا: كيف يحيينا الله وقد صرنا عظامًا ورفاتًا وضللنا في الأرض؟ وعن ابن عباس قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} ، يقول: ما تأكل الأرض من لحومهم وأبصارهم وعظامهم وأشعارهم، {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} قال البغوي: وهو اللوح المحفوظ. وقال ابن كثير: {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} وحافظ لذلك، فالعلم

شامل والكتاب أيضًا فيه كل الأشياء مضبوطة. وعن قتادة: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ} ، أي: كذبوا بالقرآن، {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} ، يقول: فهم في أمر مختلط عليهم ملتبس، لا يعرفون حقه من باطله، {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} ، أي: ليس فيها شقوق، كقوله تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} . {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} أي: بسطناها {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} قال قتادة: والرواسي الجبال {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي: من كل نوع حسن. وعن قتادة: قوله: {تَبْصِرَةً} نعمة من الله يبصرها العباد، ... {وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} ، أي: مقبل إلى الله بقلبه، {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} بساتين، {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} قال ابن جرير: من البر والشعير وسائر أنواع الحبوب. وعن ابن عباس قوله: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} ، قال: النخل الطوال {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} يقول: بعض على بعض، {رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} أي: كما أحيينا الأرض بعد موتها كذلك نحيي الموتى بعد ذهابهم {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} قال البغوي: وجب لهم عذابي. ثم أنزل جوابًا لقولهم: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} ، {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} يعني: أعجزنا حين خلقناهم أولاً فنعيا بالإعادة؟ وهذا تقريع لهم لأنهم اعترفوا بالخلق الأول وأنكروا البعث {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} ، أي: في شك {مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو البعث بعد الموت. قال قتادة: فصار الناس فيه رجلين: مكذب ومصدق.

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) } . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} ما تحدث به نفسه، فلا يخفى علينا سرائره وضمائر قلبه {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ، قال مجاهد: هو الذي يكون في الحلق. قال البغوي: لأن أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضًا، ولا يحجب علم الله شيء. {إِذْ يَتَلَقَّى

الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} ، قال مجاهد: رصيد، عن اليمين الذي يكتب الحسنات، وعن الشمال الذي يكتب السئات. قال سفيان: بلغني أن كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا أذنب قال له: لا تعجل لعله يستغفر. وقال ابن زيد في قوله: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ، قال: جعل معه من يكتب كل ما لفظ به، وهو معه رقيب. قال البغوي: رقيب: حافظ. عتيد: حاضر أينما كان. وعن أبي وائل قال: لما كان أبو بكر رضي الله عنه يقضي قالت عائشة رضي الله عنها: هذا كما قال الشاعر: إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر. وقال أبو بكر رضي الله عنه: لا تقولي ذلك، ولكنه كما قال عز وجل: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} . وعن عثمان رضي الله عنه أنه خطب فقرأ هذه الآية: {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} ، قال: سائق يسوقها إلى الله، وشاهد يشهد عليها بما عملت. وعن قتادة: قوله: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ} ، قال: عاين الآخرة {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ، قال ابن كثير: أي: قوي، قال الله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} ، وقال ابن زيد في قوله:

{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} إلى آخر الآية، قال: هذا سائقه الذي وكل به. وقال ابن كثير: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} ، أي: معد محضر بلا زيادة ولا نقصان. واختار ابن جرير أن يعم السائق والشهيد. قال مجاهد يقول: هذا الذي وكلتني به من ابن آدم حاضر عندي، وقد أحضرته وأحضرت ديوان أعماله. وقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} ، قال الزجاج: هذا أمر للسائق والشهيد. وعن ابن عباس: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} ، قال: قرينه: شيطانه. قال ابن زيد: تبرأ منه. وعن ابن عباس في قوله: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} ، قال: إنهم اعتذروا بغير عذر، فأبطل الله حجتهم ورد عليهم قولهم. وقال أبو عمران في قول الله: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} ، قال: بالقرآن. وعن مجاهد قوله: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} قد قضيت ما أنا قاض، {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} . وعن ابن عباس قوله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} ؟ قال ابن عباس: إن الله الملك تبارك وتعالى قد سبقت كلمته: {لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فلما بعث الناس وأحضروا، وسيق أعداء الله إلى النار زمرًا، جعلوا يقتحمون في جهنم فوجًا فوجًا، لا يلقى في جهنم شيء إلا ذهب فيها، ولا يملأها شيء، قالت: ألست قد أقسمت لتملأني من الجنة والناس أجمعين؟ فوضع قدمه، فقالت حين وضع قدمه فيها: قد قد فإني قد امتلأت فليس لي مزيد؛ ولم يكن يملأها شيء حتى وجدت مس ما وضع عليها، فتضايقت حين جعل عليها ما جعل فامتلأت، فما فيها موضع إبرة. وعن قتادة: قوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} يقول: وأدنيت {غَيْرَ بَعِيدٍ} ، {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} قال قتادة: أي: مطيع لله كثير الصلاة {حَفِيظٍ} لما استودعه الله من حقه ونعمته. وقال ابن زيد: الأواب: التواب الذي يؤوب إلى طاعة الله ويرجع إليها؛ {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء

بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} قال قتادة: أي: منيب إلى ربه مقبل {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} قال: سلموا من عذاب الله وسلم عليهم. {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} خلدوا والله فلا يموتون، وأقاموا فلا يظعنون ونعموا فلا يبأسون؛ {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} ، قال أنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله الكريم. وقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} ، قال مجاهد: عملوا. وعن قتادة: قوله: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ} ، قال: حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله لهم مدركًا. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} ، قال بعض المفسرين: وفي الآية ترتيب حسن، لأنه إن كان ذا قلب ذكي يستخرج المعاني بتدبره وفكره فذاك، وإلا فلا بد أن يكون مستمعًا مصغيًا إلى كلام المنذر ليحصل له التذكر. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا

يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ (45) } . عن قتادة: قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآية. أكذب الله اليهود والنصارى وأهل الفرى على الله، وذلك أنهم قالوا: أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السابع، وذلك عندهم يوم السبت وهم يسمونه يوم الراحة، قال: فأكذبهم الله وقال: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} ، قال مجاهد: نصب. وقال ابن زيد: لم يمسنا في ذلك عناء، ذلك اللغوب {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} ، قال قتادة: صلاة الفجر، وصلاة العصر. وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا؛ - ثم قرأ -: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} » . متفق عليه. وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أي: صل له {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} قال ابن عباس: هو التسبيح بعد الصلاة. وعن قتادة: ... {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} ، قال: كنا نحدث أنه ينادي من بيت المقدس من الصخرة، وهي أوسط الأرض، قال بريدة: ملك ينادي يقول: يا أيها الناس هلموا إلى الحساب، قال فيقبلون كما قال الله: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} ، {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} قال البغوي: وهي الصيحة الأخيرة، {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} من القبور {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ

أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} فيه تهديد للكفار وتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وعن قتادة: قوله: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} فإن الله عز وجل كره الجبرية ونهى عنها وقدم فيها. وعن ابن عباس قال قالوا: يا رسول الله لو خوفتنا، فنزلت: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} ، وكان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعودك يا بر يا رحيم. * * *

الدرس الثامن والستون بعد المائتين

الدرس الثامن والستون بعد المائتين [سورة الذاريات] مكية، وهي ستون آية بسم الله الرحمن الرحيم {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ

إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) } . * * *

قوله عز وجل: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ ... عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)

ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) } . عن عليّ في قول الله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} قال: هي الرياح. قيل له: ما الْحَامِلاتِ وِقْراً؟ قال: هي السحاب. قيل: فما الْجَارِيَاتِ يُسْراً؟ قال: هي السفن. قيل: فما الْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً؟ قال: الملائكة. وعن قتادة: قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} ، وذلك يوم القيامة، يوم يدان الناس فيه بأعمالهم. وعن ابن عباس: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ} ، قال: ذات الخَلْق الحسن. وعن قتادة: قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} ، قال: مصدّق بهذا القرآن ومكذّب. وقال ابن زيد: يتخرّصون يقولون: هذا سحر. ويقولون: هذا أساطير الأولين، فبأي قولهم يؤخذ؟ {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} . وعن الحسن: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} ، قال: يُصرف عنه من صُرف. وعن ابن عباس: قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} ، يقول: لُعن المرتابون. وعن مجاهد: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} ، قال: الذين يتخرّصون الكذب، {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} ، قلبه في كنانة. وقال ابن زيد: {سَاهُونَ} ، عما أتاهم وعما نزل عليهم، وعما أمرهم الله تبارك وتعالى. وعن مجاهد: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} ، يقولون: متى يوم الدين؟ ويكون يوم الدين، {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} ، كما يُفتن الذهب في النار. وعن ابن عباس: قوله: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} ، قال: فتنهم أنهم سألوا عن يوم الدين وهم موقوفون على النار، {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} ، فقالوا حين وُقفوا: يا ويلنا هذا يوم الدين. قال الله تبارك وتعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} . وعن قتادة: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} ، ذوقوا عذابكم، {هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} . قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23) } . قال البغوي: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ} ، ما أعطاهم. {رَبُّهُمْ} من الخير والكرامة. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} قبل دخولهم الجنة. {مُحْسِنِينَ} في الدنيا. وعن ابن عباس: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} ، قال: لم يكن يمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئًا. وقال الحسن: كابدوا قيام الليل {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قال: مدّوا في الصلاة ونشطوا، حتى كان الاستغفار بِسَحَرٍ. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ، قال: السائل الذي يسأل، والمحروم المحارف. وقال الضحاك: والمحروم هو الرجل المحارف الذي لا يكون له مال إلا ذهب، قضى الله له ذلك. وعن قتادة: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} هذان فقيرا أهل الإسلام: سائل يسأل في كفّه، وفقير متعفّف، ولكليهما عليك حقّ يا ابن آدم. وروى ابن جرير عن الزهريّ [أن النبي - صلى الله عليه وسلم -] قال: «ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان» . قالوا: فمن المسكين يا رسول الله؟ قال: «الذي

لا يجد غنى ولا يعلم بحاجته فيتصدّق عليه، فذلك المحروم» . وقال ابن زيد: المحروم: المصاب ثمره وزرعه، وقرأ: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} ، حتى بلغ: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} . وقال أصحاب الجنة: {إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} ، وقال زيد بن أسلم: ليس ذلك بالزكاة، ولكن ذلك مما ينفقون من أموالهم بعد إخراج الزكاة؛ والمحروم الذي يصاب زرعه أو ثمره أو نسل ماشيته، فيكون له حقّ على من لم يصيبه ذلك من المسلمين. قال ابن جرير: والصواب أن الآية عامة في كلّ من حرم الرزق واحتاج. وقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} ، قال قتادة: معتبر لمن اعتبر. وعن ابن الزبير: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ، قال: سبيل الخلاء والبول. وقال ابن زيد في قوله: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ، وقرأ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} قال: وفينا آيات كثيرة هذا: السمع، والبصر، واللسان، والقلب يجعل الله فيه العقل. وعن الضحاك في قوله: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ} ، قال: المطر. وقال مجاهد: الجنّة في السماء {وَمَا تُوعَدُونَ} من خيرٍ أو شرّ. وقيل: إن أرزاقكم في الدنيا، {وَمَا تُوعَدُونَ} ، في العقبى كلّها مقدّرة مكتوبة في السماء. وعن الحسن في قوله: ... {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قاتل الله أقوامًا أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدّقوه» .

قوله عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (46) } . قال في جامع البيان: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} ، فيه تعظيم لشأن الحديث، وتنبيه على أنه إنما عرفه بالوحي، {الْمُكْرَمِينَ} ، عند الله تعالى وعند إبراهيم عليه السلام. قال مجاهد: أكرمهم إبراهيم وأمر أهله لهم بالعجل حينئذ. وعن قتادة: قوله: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ} ، قال: كان عامة مال نبيّ الله إبراهيم عليه السلام البقر. وعن ابن عباس: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} ، يقول: في صيحة، {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} ، قال السدي: لما بشّر جبريل سارة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، ضربت جبهتها عجبًا. {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} ! قال الضحاك: لا تلد، {قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ} ، قال البغوي: أي: كما قلنا لك قال ربك: إنك

ستلدين غلامًا، {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} . {قَالَ} ، إبراهيم: {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} ، قال ابن عباس: المسوّمة الحجارة المختومة، يكون الحجر أبيض فيه نقطة سوداء، ويكون الحجر أسود فيه نقطة بيضاء، فذلك تسويمها، {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} ، قال قتادة: لو كان فيها من ذلك لأنجاهم الله، ليعلموا أن الإيمان عند الله محفوظ لا ضيعة على أهله. قال البغوي: وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعًا، لأنه ما من مؤمن إلا هو مسلم. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} أي: جعلناها عبرة بما أنزلنا بهم من العذاب والنكال وحجارة السجّيل، وجعلنا محلّتهم بحيرة منتنة خبيثة، ففي ذلك عبرة للمؤمنين. وقوله تعالى: {وَفِي مُوسَى} ، أي: وتركنا في إرسال موسى آية وعبرة {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} قال ابن كثير: أي: بدليل باهر وحجّة قاطعة، {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} ، قال قتادة: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} غلب عدو الله على قومه، وقال ابن زيد: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} قال: بمجموعته التي معه، {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} ، قال ابن جرير: والمليم هو الذي قد أتى ما يلام عليه من الفعل. قال البغوي: أي: آت بما يلام عليه من دعوى الربوبيّة وتكذيب الرسل، {وَفِي عَادٍ} ، أي: وفي إهلاك عاد أيضًا آية، {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} ، وهي التي لا خير فيها ولا بركة، وتلقّح شجًرا ولا تحمل مطرًا. وعن

ابن عباس: قوله: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} قال: كالشيء الهالك {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ} ، قال ابن كثير: وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام، فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار، {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ} ، أي: من هرب ولا نهوض {وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} ، قال قتادة: ما كانت عندهم من قوّة يمتنعون بها من عذاب الله عز وجل، ... {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ} ، قال ابن كثير: وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} . قوله عز وجل: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) } . عن ابن عباس: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} ، يقول: بقوّة. {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} ، قال ابن كثير: أي: قد وسّعنا أرجاءها ورفعناها بغير عمد {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} ، قال البغوي: بسطناها ومهّدناها لكم، {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} الباسطون نحن. قال ابن

عباس نِعْمَ ما وَطَّأْتُ لعبادي. وقال مجاهد في قوله: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، قال: الكفر والإيمان، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلالة، والليل والنهار فوالسماء والأرض، والإنس والجنّ. وقال ابن زيد: ذكر وأنثى ذلك الزوجان. وقال البغوي: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، فتعلمون أن خالق الأزواج فرد {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} ، فاهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة، {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} ولاتجعلوا مع الله إلهاً آخر {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} ، {كَذَلِكَ} ، أي: كما كذبك قومك يا محمد وقالوا: ساحر أو مجنون، {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} ، قال البغوي: والألف فيه للتوبيخ. قال ابن كثير: أي: أوصى بعضهم بعضًا بهذه المقالة، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} ، أي: لكن هم قوم طغاة تشابهت قلوبهم، فقال متأخّرهم كما قال متقدّمهم. قال الله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ، يا محمد {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} ، يعني: فما نلومك على ذلك. {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ، أي: إنما تنتفع بها القلوب المؤمنة. وعن عليّ بن أبي طالب في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، أي: إلا لآمرهم أن يعبدون وأدعوهم لعبادتي. قال السدي من العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع، {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، هذا منهم عبادة، وليس ينفعهم مع الشرك. قال ابن كثير: ومعنى الآية: أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتمّ الجزاء، ومن عصاه عذّبه أشدّ العذاب؛ وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم. وعن أبي هريرة مرفوعًا: (قال الله

تعالى: يا ابن آدم، تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسدّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك) . رواه أحمد وغيره. وعن ابن عباس: قوله: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، يقول: الشديد {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً} ، يقول: دلوًا {مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} ، يقول: للذين ظلموا عذابًا مثل عذاب أصحابهم. وقال ابن زيد: يقول: لهم سَجْلٌ من عذاب الله، وقد فعل هذا بأصحابهم من قبلهم، فلهم عذاب مثل عذاب أصحابهم، {فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} ، قال ابن كثير: أي: فلا يستعجلون ذلك فإنه واقع لا محال، {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} ، يعني: يوم القيامة. * * *

الدرس التاسع والستون بعد المائتين

الدرس التاسع والستون بعد المائتين [سورة الطور] مكية، وهي تسع وأربعون آية في الصحيحين عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ} ، (كاد قلبي أن يطير) . قال ابن كثير: وجبير بن مطعم قد قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وقعة بدر في فداء الأسارى، وكان إذ ذاك مشركًا. بسم الله الرحمن الرحيم {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِن دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ

الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ (40) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِن يَرَوْا كِسْفاً مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ... (49) } . * * *

قوله عز وجل: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِن دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (16) } . قال البغوي: {وَالطُّورِ} أراد به الجبل الذي كَلَّم الله عليه موسى عليه السلام. قال ابن كثير: فالطور هو الجبل الذي يكون فيه أشجار. وعن مجاهد في قوله: {وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} ، قال: صحف. قال قتادة: والمسطور: المكتوب. {فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ} . قال البغوي: الرَقّ ما يُكتب فيه. وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنّ رجلاً قال له: ما البيت المعمور؟ قال: (بيت في السماء يقال له: الضراح، وهو بحيال الكعبة من فوقها، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض) . وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته إلى السماء السابعة: «ثم رُفع بي إلى البيت المعمور، وإذًا هو يدخله كل

يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه آخر ما عليهم» . وعن علي قال: السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ: السماء. وقال ابن زيد في قوله: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} قال: الموقد. وقرأ: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} . وعن ابن عباس في قوله: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} ، قال: المحبوس. وعن علي: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} ، قال: بحر في السماء تحت العرش. وقال قتادة: المسجور المملوء. وعن جعفر بن زيد العبيدي قال: خرج عمر يعسّ في المدينة ذات ليلة، فمر بدار رجل من المسلمين، فوافقه قائمًا يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ: {وَالطُّورِ} حتى بلغ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ} ، قال: (قسم وربِّ الكعبة حق، فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث مليًا، ثم رجع إلى منزله، فمكث شهرًا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه رضي الله عنه) . وعن قتادة: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} ، وذلك يوم القيامة {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً} مورها: تحريكها. وقال مجاهد: تدور دورًا. {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً * فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} ، قال البغوي: يخوضون في الباطل يلعبون غافلين لاهين. وعن ابن عباس: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} ، قال: يُدفع بأعناقهم حتى يردوا النار. قال البغوي: فإذا دنوا منها قال لهم خزنتها: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} ، في الدنيا {أَفَسِحْرٌ هَذَا} ؟ وذلك أنهم كانوا ينسبون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى السحر، وإلى أنه يغطي على الأبصار بالسحر فَوُبِّخوا به وقيل لهم: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} . {اصْلَوْهَا} قاسوا شدتها {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} ، الصبر والجزع، {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .

قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) } . قال البغوي: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ} ، معجبين بذلك ناعمين بما آتاهم ربهم، {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} . وعن ابن عباس في هذه الآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ، قال: إن الله تبارك وتعالى يدفع للمؤمن ذريته وإن كانوا دونه في العمل، ليقر الله بهم عينه؛ {وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} ، يقول: ما نقصناهم، {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} ، قال ابن كثير: أي: مرتهن بعمله، أي: لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس سواء كان أبا أو ابنًا، {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} ، قال قتادة: إنما كان اللغو والباطل في الدنيا، {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} ذكر لنا أن رجلاً قال: يا نبي الله، هذا الخادم فكيف المخدوم؟ قال: «والذي نفس محمد بيده، إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» . {وَأَقْبَلَ

بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} قال ابن زيد: عذاب النار. قال ابن جرير: وقوله {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ} يقول: إنا كنا في الدنيا من قبل يومنا هذا {نَدْعُوهُ} يقول: نعبده مخلصين له الدين لا نشرك به شيئًا {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} يعني: اللطيف بعباده، الرحيم بخلقه أن يعذبهم بعد توبتهم. قوله عز وجل: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ (40) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) } . قال البغوي: {فَذَكِّرْ} ، يا محمد بالقرآن. {فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} ، نزلت في الذين اقتسموا عِقبَات مكة، يرمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكهانة والسحر والجنون والشعر. وعن ابن عباس: إن قريشًا لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك، كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم، فأنزل الله في ذلك من قولهم: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} ؛ قال

البغوي: حوادث الدهر. {قُلْ تَرَبَّصُوا} ، انتظروا {فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} حتى يأتي أمر الله فيكم. {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم} ، عقولهم، {بِهَذَا} ، وذلك أن عظماء قريش كانوا يوصفون بالأحلام والعقول، فأزرى الله بعقولهم حين لم تميز لهم معرفة الحق من الباطل، {أَمْ هُمْ} بَلْ هُمْ: {قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} ، أي: تخلق القرآن من تلقاء نفسه {بَل لَّا يُؤْمِنُونَ} بالقرآن {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} . وقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ، يعني: أُوجِدُوا من غير مُوجِد أم هم أَوجَدُوا أنفسهم؟ أي: لا هذا ولا هذا، بل الله هو الذي خلقهم وأوجدهم. {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ} ، قال ابن كثير: وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله، وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له. {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} ؟ أي: المحاسبون للخلائق؟ ليس الأمر كذلك. وعن ابن عباس: قوله: {أم هم المسيطرون} ، يقول: المسلطون. {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} الوحي {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} ، حجة بينة. {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} ؟ قال البغوي: هذا إنكار عليهم حين جعلوا لله ما يكرهون. وعن قتادة: قوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} ، يقول: هل سألت هؤلاء القوم أجرًا فجهدهم فلا يستطيعون الإسلام؟ {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ؟ قال ابن عباس معناه: أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس به؟ {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} ، مكرًا بك ليهلكوك، {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} ، قال البغوي: أي: هم المجزيون بكيدهم، يريد: أن ضرر ذلك يعود عليهم، {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} يرزقهم وينصرهم {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

قوله عز وجل: {وَإِن يَرَوْا كِسْفاً مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) } . عن قتادة: قوله: {وَإِن يَرَوْا كِسْفاً} ، يقول: وإن يروا قطعًا، {مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} ، يقول: لا يصدقوا بحديث ولا يؤمنوا بآيات، {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} ؛ قال ابن كثير: وذلك يوم القيامة. {يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} . وقوله تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} أي: ما يصيبهم في الدنيا من المصائب فإنما عذاب للفاجر وكفارة للمؤمن {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} قال ابن جرير: يقول جل ثناؤه: فإنك بمرأى منا، نراك ونرى عملك، ونحن نحوطك ونحفظك. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قال أبو الأحوص: سبحان الله وبحمده. وقال ابن زيد: إذا قام لصلاة ليل أو نهار {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} قال الضحاك: صلاة الصبح. * * *

الدرس السبعون بعد المائتين

الدرس السبعون بعد المائتين [سورة النجم] مكية، وهي اثنان وستون آية في الصحيحين عن ابن مسعود قال: (أول سورة أنزلت فيها سجدة {وَالنَّجْمِ} ، فسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجد من خلفه، إلا رجلاً رأيته أخذ كفًا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرًا) . بسم الله الرحمن الرحيم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ

وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى (27) وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى (34) أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتْ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) } . * * *

قوله عز وجل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) } . عن ابن عباس: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} يعني: الثريا إذا سقطت وغابت. وقال مجاهد: هي نجوم السماء كلها حين تغرب. وقال الضحاك: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} إذا رمي به الشياطين. وعن ابن عباس: يعني: النجوم التي يرمى بها الشياطين. قال ابن القيم: (وهذا قول الحسن وهو أظهر الأقوال، لما بين المقسم به والمقسم عليه من التناسب) . انتهى. قال الشعبي وغيره: الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق. وعن قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فقال عتبة بن أبي لهب: كفرت برب النجم، فقال: «أما تخاف أن يأكلك كلب الله» ؟ فخرج في تجارة إلى اليمن، فبينما هم قد عرسوا إذ يسمع صوت الأسد فقال لأصحابه: إني مأكول فأحدقوا به، وضرب على أصمختهم فناموا، فجاء حتى أخذه فما سمعوا إلا صوته. قال البغوي: وجواب القسم قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} ، يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -،

ما ضل عن طريق الهدى {وَمَا غَوَى} ، قال ابن كثير: والغاوي: هو العالم بالحق العادل عنه إلى غيره، وعن قتادة: قوله: ... {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} أي: ما ينطق عن هواه {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، قال: يوحي الله تبارك وتعالى إلى جبريل، ويوحي جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} ، يعني: جبريل، {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} ذو خلق طويل حسن، {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} الأفق: الذي يأتي منه النهار. وعن الربيع: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} ، قال: السماء {الْأَعْلَى} ، يعني: جبريل عليه السلام. وعن قتادة: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} ، يعني: جبريل، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} ، قال مجاهد: قيد أو قدر قوسين. وعن ابن مسعود في هذه الآية: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأيت جبريل له ستمائة جناح» . وعن مسروق قال: قلت لعائشة: ما قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ؟ فقالت: (إنما ذلك جبريل، كان يأتيه في صورة الرجال، وإنه أتاه هذه المرة في صورته فسد أفق السماء) . وقال ابن زيد في قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ، قال: أوحى جبريل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى الله إليه. وعن قتادة في قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ، قال: رأى جبريل في صورته، وهو الذي رآه نزلة أخرى. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... «رأيت جبريل عند سدرة المنتهى له ستمائة جناح» . وقال البغوي: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} قرأ أبو جعفر: ما كذَّب أي: ما كذب قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما رأى بعينه تلك الليلة، بل صدقه وحققه، وقرأ الآخرون

بالتخفيف. أي: ما كذب فؤاد محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي رأى بل صدقه، مجازه: ما كذب الفؤاد فيما رأى. انتهى ملخصًا. وعن قتادة: قال: قال نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما انتهيت إلى السماء السابعة أتيت على إبراهيم فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أبوك إبراهيم، فسلمت عليه فقال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، قال: ثم رفعت لي سدرة المنتهى. فحدّث نبي الله أن نبقها مثل قلال هجر، وأن ورقها مثل آذان الفيلة» . وعن ابن عباس: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأيتها حتى استثبتها ثم حال دونها فراش من ذهب» . وعن الربيع: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال: غشيها نور الرب، وغشيتها الملائكة، من حب الله مثل الغربان حين يقعن على الشجرة. قوله: مثل الغربان: أي: الغرانيق البيض. وعن ابن عباس في قوله {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} قال: ما زاغ يمينًا ولا شمالاً، ولا طغى ولا جاوز ما أمر به {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال ابن

مسعود: (رأى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رفرفًا أخضر من الجنة قد سدّ الأفق) وقال ابن زيد في قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} ، قال: جبريل، رآه في خلقه الذي يكون به في السماوات، قدر قوسين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيما بينه وبينه. قوله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى (27) وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) } . قال البغوي: قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} ، هذه أسماء أصنام اتخذوها آلهة يعبدونها، اشتقوا لها أسماء من أسماء الله تعالى فقالوا: من الله اللات، ومن العزيز: العزى. وقال ابن عباس: كان اللات رجلاً يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره. قال ابن إسحاق: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي لها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها، فكانت لقريش ولبني كنانة العزى بنخلة، وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم؛ وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجابها بني معتب، وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب، على ساحل البحر من ناحية المشلّل بقديد؛ وكانت ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان

ببلادهم من العرب بتبالة؛ وكانت قلس لطيء ومن يليها بجبل طيء بين سلمى وأجأ؛ وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له: ريام؛ وكانت رضاء بيتًا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم؛ وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بسنداد. وقال البغوي: ومعنى الآية: أفرأيتم أخبرونا أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله تعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. وقال الكلبي: كان المشركون بمكة يقولون: الأصنام والملائكة بنات الله، وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره ذلك. فقال الله تعالى منكرًا عليهم، {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} ، قال ابن عباس: جائرة. {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} ، قال ابن كثير: أي: ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظ نفوسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين، {وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} ، أي: البيان بالكتاب والرسول أنها ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار. {أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} أيظن الكافر أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام؟ {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى * وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ} ، ممن يعبدهم هؤلاء الكفار ويرجون شفاعهم عند الله، {لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ} ، في الشفاعة {لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى} ، أي: من أهل التوحيد. وقال ابن كثير: {أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} ، أي: ليس كل من تمنى خيرًا حصل له، {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} .

قوله عز وجل: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) } . عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدركه ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» . وعن قتادة: قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} ، ما كان بين الحدّين لم يبلغ حدّ الدنيا ولا حدّ الآخرة موجبة، قد أوجب الله لأهلها النار، أو فاحشة يقام عليه الحدّ في الدنيا. وقال ابن زيد في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} ، قد غفرت ذلك لهم إذ {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ} ، قال مجاهد: كنحو قوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} ، أي: ترك المعاصي وفعل الطاعات. قال البغوي: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} ، لا تبرئوها عن الآثام ولا تمدحوها بحسن أعمالها {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} . قوله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى (34) أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ

وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتْ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) } . قال البغوي: قوله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} ، نزلت في الوليد بن المغيرة، كان قد اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - على دينه، فعيره بعض المشركين وقال له: أتركت دين الأشياخ وضللتهم؟ قال: إني خشيت عذاب الله؛ فضمن الذي عاتبه إن هو أعطى كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه تمامه، فأنزل الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} أدبر عن الإيمان {وَأَعْطَى} صاحبه {قَلِيلاً وَأَكْدَى} بخل بالباقي؛ وأصله من الكدية، وهي حجر يظهر في البئر يمنع من الحفر {أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} ، ما غاب عنه، ويعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه؟ {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ} يخبر، {بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} ، يعني: أسفار التوراة {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} ، تمم وأكمل ما أمر به؛ ثم بين ما في صحفهما فقال: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى، ومعناه: لا تؤخذ نفس بإثم غيرها {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} عمل {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} ، في ميزانه يوم القيامة {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى} الأكمل الأتم {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} ، أي: منتهى الخلق ومصيرهم إليه.

{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} ، قال مجاهد: أضحك أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار، {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى} ، من كل حيوان، {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} أي: الخلق الثاني للبعث يوم القيامة {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} قال أبو صالح: {أَغْنَى} الناس بالأموال {وَأَقْنَى} أي: أعطى القنية وأصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية، {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} وهو كوكب خلف الجوزاء وكانت خزاعة تعبدها ... {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} ، وهم قوم هود وثمود، {فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} ، لطول دعوة نوح إياهم وعتوهم على الله بالمعصية والتكذيب، {وَالْمُؤْتَفِكَةَ} ، يعني: قرى قوم لوط {أَهْوَى} أسقط، أي: أهواها جبريل بعد ما رفعها إلى السماء، {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} ، يعني: الحجارة {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ} نعم ربك أيها الإنسان {تَتَمَارَى} تشك وتجادل؟ {هَذَا نَذِيرٌ} ، يعني: محمدًا، {مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى} ، أي: رسول من الرسل، أرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم. {أَزِفَتْ الْآزِفَةُ} ، دنت القيامة واقتربت الساعة، {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} ، أي: لا يكشف عنها ولا يظهرها غيره {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} يعني: القرآن {تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ} استهزاء {وَلَا تَبْكُونَ} لما فيه من الوعد والوعيد ... {وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} ، لاهون غافلون. وقال عكرمة: هو الغناء بلغة أهل اليمن، وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا. {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} ، أي: واعبدوه. انتهى ملخصًا. والله أعلم. * * *

الدرس الحادي والسبعون بعد المائتين

الدرس الحادي والسبعون بعد المائتين [سورة القمر] مكية، وهي خمس وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (7) مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ (19) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ

بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) } . * * *

قوله عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (7) مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) } . عن أنس بن مالك: (أن أهل مكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آية فأراهم القمر شقّتين، حتى رأوا حراء بينهما) . متفق عليه. وعند ابن جرير من حديث ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، فسلوا السفار فسألوهم فقالوا: نعم، قد رأيناه فأنزل الله تبارك وتعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} . وعن قتادة: قوله: {وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} ، قال: إذا رأى أهل الضلالة آية من آيات الله قالوا: إنما هذا عمل السحر يوشك هذا أن يستمرّ ويذهب {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} أي: واقع بأهل الخير الخير وبأهل الشرّ الشرّ {وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي: هذا القرآن. قال سفيان: المزدجر المنتهى. {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} ، قال البغوي: يعني: القرآن حكمة تامّة، وقد بلغت الغاية

في الزجر، {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} وهذه كقوله تعالى: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} . {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} ، قال ابن كثير: أعرض عنهم وانتظرهم، {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ} وهو موقف الحساب، {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} ، أي: ذليلة أبصارهم، {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} ، قال قتادة: عامدين إلى الداعي، {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} ، وهذه الآية كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} . قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17) } . عن مجاهد: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} ، قالوا: استطير جنونًا. وقال ابن زيد في قوله: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} قال: اتهموه وزجروه وأوعدوه وقرأ: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} . وعن سفيان: {فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} ، قال: ماء السماء وماء الأرض. وعن قتادة في قوله: {ذَاتِ أَلْوَاحٍ} قال: معاريض السفينة {وَدُسُرٍ} ، قال: دسرت بمسامير. وقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} قال ابن كثير: أي: بأمرنا بمرأى منا وتحت حفظنا

وكلاءتنا، {جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ} أي: جزاء لهم على كفرهم بالله، وانتصارًا لنوح عليه السلام. وعن قتادة في قوله: {وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً} ، قال: ألقى الله سفينة نوح على الجوديّ حتى أدركها أوائل هذه الأمة. وقال البغوي: {وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً} ، يعني: الفعلة التي فعلنا. قال ابن كثير: والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفن، كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} وقال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} . وقوله تعالى: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ، قال البغوي: أي: متذكّر متّعظ خائف مثل عقوبتهم، {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} ، أي: إنذاري. وقال ابن كثير: أي: كيف كان عذابي لمن كفر بي وكذّب رسلي، ولم يتّعظ بما جاءت به نذري وكيف انتصرت لهم وأخذت لهم بالثأر، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} ، أي: سهّلنا لفظه ويسّرنا معناه لمن أراده ليتذكّر الناس، كما قال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} . {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي: فهل من متذكّر بهذا القرآن الذي قد يسّر الله حفظه ومعناه؟ وعن ابن عباس: لولا أن الله يسّره على لسان

الآدميين، ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلّم بكلام الله عز وجل. وعن قطر الورّاق في قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ، قال: هل من طالب علم فيُعانُ عليه؟ قال الحافظ ابن حجر: وقد تكرّر في هذه السورة قوله: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} بحسب تكرّر القصص من أخبار الأمم، استدعاء لأفهام السامعين ليعتبروا. قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ (19) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (22) } . قال ابن زيد في قوله: {رِيحاً صَرْصَراً} قال: الصرصر: الشديدة. وقال قتادة: الصرصر: الباردة. قال ابن جرير: وهي الشديدة العصوف في بَرْدِ التي لصوْتِها صرير. وعن قتادة: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} قال: النحس الشؤم {مُّسْتَمِرٍّ} يستمرّ بهم إلى نار جهنم. وعن مجاهد في قوله: {تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} قال: سقطت رؤوسهم كأمثال الأخبية، وتفرّدت عن أعناقهم. قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (32) } .

قال البغوي: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} ، بالإنذار الذي جاءهم به صالح {فَقَالُوا أَبَشَراً} آدميًا، {مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ} ، ونحن جماعة كثيرة {إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ} ، مبين، ضلال: خطأ وذهاب عن الصواب {وَسُعُرٍ} ، قال ابن عباس: عذاب. وقال الفراء: جنون. {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} بطلاً متكبّر ... {سَيَعْلَمُونَ غَداً} ، حين ينزل بهم العذاب، {مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ * إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} ، أي: باعثوها ومخرجوها من الهضبة التي سألوا أن يخرجها منها، {فِتْنَةً لَّهُمْ} ، محنة واختبارًا، {فَارْتَقِبْهُمْ} ، فانتظر ما هم صانعون، {وَاصْطَبِرْ * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} ، وبين الناقة، {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} ، قال مجاهد: يعني يحضرون الماء إذا غابت الناقة، فإذا جاءت حضروا اللبن، {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى} ، فتناول الناقة بسفيه، {فَعَقَرَ} . انتهى ملخصًا. وعن الضحاك في قوله: {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} ، قال: هو الشوك الذي تحظر به العرب حول مواشيها من السباع. قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (40) } . عن قتادة: قوله: {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} ، لم يصدّقوه، {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} ، وذكر لنا أن جبريل عليه السلام استأذن ربه في عقوبتهم ليلة أتوا لوطًا، وأنهم عالجوا الباب ليدخلوا عليه فصفقهم بجناحه وتركهم عميًا يتردّدون،

{فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} ، يقول: استقر بهم إلى نار جهنم. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) } . عن قتادة: قوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} ، يقول: عزيز في نقمته إذا انتقم، {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} ، يقول: ليس كفّاركم خيرًا من قوم نوح ولوط. وقال ابن زيد في قوله: {أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ} ، في كتاب الله براءة مما تخافون، {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ، قال عمر: لما نزلت، {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} ، جعلت أقول: أيّ جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يثب في الدرع ويقول: «سيهزم الجمع ويولّون الدبر» . {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} ، قال البغوي: أي: أعظم داهية وبليّة، وأشدّ مرارة من الأسر والقتل يوم بدر. قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ

وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) } . قال الحسين بن فضل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ} ، في الدنيا ونار في الآخرة، {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} ، قال ابن عباس: إني أجد في كتاب الله قومًا يسحبون في النار على وجوههم، يقال لهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} ، لأنهم كانوا يكذبون بالقدر. وعن أبي هريرة أن قريشًا خاصمت النبي - صلى الله عليه وسلم - في القدر، فأنزل الله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} ، قال ابن عباس: يريد أن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. وقال ابن زيد في قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ، قال: أشياعكم من أهل الكفر من الأمم الماضية، يقول: فهل من أحد يتذكّر وكلّ شيء فعلوه في الزبر؟ قال ابن كثير: أي: مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} أي: من أعمالهم، {مُسْتَطَرٌ} أي: مجموع عليهم ومسطر في صحائفهم. ذكر أن رجلاً عمل ذنبًا فاستصغره، فأتاه آت في منامه فقال له: لا تحقرنّ من الذنوب صغيرا ... إن الصغير غدًا يعود كبيرا إن الصغير ولو تقادم عهده ... عند الإله مسطّر تسطيرا فازجر هواك عن البطالة لا تكن ... صعب القياد وشمّرن تشميرا إن المحبّ إذا أحبّ إلهه ... طار الفؤاد وأُلهم التفكيرا فاسأل هدايتك الإِله بنيّة ... فكفى بربك هاديًا ونصيرا

وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} ، قال جعفر الصادق: مدح الله المكان بالصدق، فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق. وروى مسلم وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا» . والله أعلم. * * *

الدرس الثاني والسبعون بعد المائتين

الدرس الثاني والسبعون بعد المائتين [سورة الرحمن] مكية، وهي ثمان وسبعون آية عن جابر قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا فقال: «لقد قرأتها على الجنّ ليلة الجنّ فكانوا أحسن مردودًا منكم، كنت كلما أتيت على قوله: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذّب فلك الحمد» . رواه الترمذي. وعن عليّ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لكل شيء عروس، وعروس القرآن: الرحمن» . رواه البيهقي في شعب الإيمان. بسم الله الرحمن الرحيم {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا

الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ

قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78) } . * * *

قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) } . عن قتادة: أنه قال في تفسير قوله: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} نعمة والله وعظيمة {خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} قال ابن زيد: البيان: الكلام. {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} قال ابن عباس: يجريان بعدد وحساب ومنازل {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} ، قال مجاهد: النجم هو: الكوكب وهذه الآية كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} . وقوله تعالى: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} ، قال مجاهد: العدل {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} قال قتادة: اعدل يا ابن آدم كما تحبّ أن يعدل عليك، وأوف كما تحبّ أن يوفّى لك، فإن بالعدل صلاح الناس. وكان ابن عباس يقول: يا معشر الموالي، إنكم قد ولّيتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم، هذا المكيال، والميزان، {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} قال ابن زيد: تخسيره نقصه {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} قال مجاهد: للخلائق {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ

الْأَكْمَامِ} ، قال ابن زيد: هو الطلع قبل أن ينفتق، {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} ، قال مجاهد: العصف الورق من كل شيء، والريحان الرزق؛ وقال الحسن: هو ريحانكم الذي يشمّ. قال البغوي: كلها مدفوعات بالردّ على الفاكهة؛ وقرأ ابن عامر: بنصب الباء والنون و (ذا) بالألف. وقرأ حمزة والكسائي (والريحان) : بالجر عطفًا على (العصف) فذكر قوت الناس والأنعام، ثم خاطب الجن والإنس فقال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، أيها الثقلان؟ يريد من هذه الأشياء المذكورة؛ وكرر هذه الآية في هذه السورة تقريرًا للنعمة وتأكيدًا في التذكير بها على عادة العرب في الإبلاغ والإشباع، يعدّد على الخلق آلاءه ويفصل بين كل نعمتين بما ينبّههم عليها. قوله عز وجل: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) } . عن قتادة: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} ، قال: من طين له صلصلة كان يابسًا. وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجانّ من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» . رواه مسلم وغيره. وقال ابن زيد: المارج: اللهب. وعن مجاهد: قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} ، قال: مشرق الشتاء ومغربه، ومشرق الصيف ومغربه.

وعن ابن عباس: قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} ، يقول: أرسل. وقال ابن زيد في قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ} ، قال: منعهما أن يلتقيا بالبرزخ الذي جعل بينهما من الأرض. قال ابن كثير: والمراد بقوله البحرين: الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس. قال وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أي: من مجموعهما، فإذا وجد ذلك من أحدهما كفى، كما قال تعالى: ... {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} ، والرسل إنما كانوا في الإنس خاصة دون الجنّ. وعن ابن عباس قال: إذا أمطرت السماء فتحت الأصداف في البحر أفواهها، فما وقع فيها -، يعني: من قطر - فهو اللؤلؤ. وعن قتادة: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، قال: اللؤلؤ: الكبار من اللؤلؤ، والمرجان: الصغار منه. وعن ابن مسعود قال: المرجان: الخرز الأحمر. وعن قتادة: قوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} ، يعني: السفن. وقال مجاهد: ما رفع قطعة من السفن فهي منشآت، وإذا لم يرفع قلعها فليست بمنشآت. قوله عز وجل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ

إِنسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ... (45) } . قال ابن عباس: {ذُو الْجَلَالِ} ، العظمة والكبرياء. وعن قتادة: قوله: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ، لا يستغني عنه أهل السماء ولا أهل الأرض، يحيي حيًّا ويميت ميتًا، ويربّي صغيرًا ويذلّ كبيرًا، وهو يسأل حاجات الصالحين ومنتهى شكواهم. وروى ابن جرير عن منيب بن عبد الله الأزديّ قال: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ، فقلنا يا رسول الله وما ذاك الشأن؟ قال: «من شأنه أن يغفر ذنبًا، ويفرّج كربًا، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين» . وعن ابن عباس: قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} ، قال: وعيد من الله للعباد، وليس بالله شغل. وقال الضحاك بن مزاحم: إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشقّقت بأهلها، ونزل من فيها من الملائكة فأحاطوا بالأرض ومن عليها، ثم بالثانية، ثم بالثالثة، ثم بالرابعة، ثم بالخامسة، ثم بالسادسة، ثم بالسابعة، فصفّوا صفًّا دون صف، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم، فإذا رآها أهل

الأرض ندّوا، فلا يأتون قطرًا من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قول الله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} ، وذلك قوله: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} . وقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} ، وذلك قوله: {وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} . وعن مجاهد: قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} ، قال: اللهب المنقطع {وَنُحَاسٌ} . قال: يذاب الصفر من فوق رؤوسهم. وعن قتادة في قوله: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} قال: هي اليوم خضراء ولونها يومئذٍ الحمرة. وعن مجاهد: {كَالدِّهَانِ} قال: كالدهن. وعن قتادة في قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ} قال: حفظ الله عز وجل عليهم أعمالهم، {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} قال: زرق العيون سود الوجوه {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} قال ابن عباس: يؤخذ ناصيته وقدميه، فيكسر كما يكسر الحطب في التنور {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} ، قال: الآني: ما اشتدّ غليانه ونضجه. قوله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاء

رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) } . عن ابن عباس: قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} قال: وعد الله جلّ ثناؤه المؤمنين الذين خافوا مقامه فأدّوا فرائضه الجنّة قال: والخائف من ركب طاعة الله وترك معصيته. وقال ابن زيد: مقامه حين يقوم العباد يوم القيامة وقرأ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وعن مجاهد: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} أغصان. وقال عكرمة: ظلّ الأغصان. وقال الضحاك: ذواتا ألوان من الفاكهة {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} ، قال الحسن: إحداهما التسنيم، والأخرى السلسبيل. وقوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: فيهما من كل نوع من الفاكهة ضربان {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} قال ابن مسعود: قد أُخبرتم بالبطائن، فكيف لو أُخبرتم بالظهائر؟ وعن قتادة: قوله: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} ، ثمارهما دانية لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك، ذكر لنا أن نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده، لا يقطع رجل ثمرة من الجنّة فتصل إلى فيه، حتى يبدل الله مكانها خيرًا منها» . وعن مجاهد في قوله: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} ، قال: قصرن طرفهنّ عن الرجال، فلا ينظرن إلا إلى أزواجهنّ {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} ، قال: لم يمسّهنّ. وروى ابن جرير عن ابن مسعود مرفوعًا قال: «إن المرأة من أهل الجنة ليُرى بياض ساقها من وراء سبعين حلّة من حرير وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} أما الياقوت فإنه لو أدخلت فيه سلكًا ثم استصفيته لرأيته من ورائه» . وعن السدي في قوله: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} قال: صفاء وحسن المرجان. وعن قتادة: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ

وَالْمَرْجَانُ} صفاء الياقوت في بياض المرجان {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} ؟ قال: عملوا خيرًا فجوزوا خيرًا. قوله عز وجل: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78) } . قال ابن زيد في قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ، جنّتا السابقين، فقرأ: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} فقرأ حتى بلغ: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ} ثم رجع إلى أصحاب اليمين فقال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} ، فذكر فضلهما وما فيهما. وعن عبد الله بن قيس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... «جنّتان من فضّة آنيتهما وما فيهما، وجنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنّة عَدْنٍ» . متفق عليه. وقال ابن زيد في قوله: ... {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} ، هما أدنى من هاتين، لأَصحاب اليمين. وعن ابن عباس: قوله {مُدْهَامَّتَانِ} قال: خضراوان من الريّ، {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} بالماء. قال ابن جرير: يعني: فوّارتان. وعن سعيد بن جبير قال: نخل الجنّة جذوعها من ذهب، وعروقها من ذهب، وكرانيفها من زمرّد، وسفعها كسوة لأهل الجنّة، ورطبها

كالدلاء أشدّ بياضًا من اللبن، وألين من الزبد وأحلى من العسل ليس له عجم. وعن قتادة في قوله: {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} ، قال: خيرات في الأخلاق، حسان في الوجوه، {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} قال الضحاك: الحوراء العيناء الحسناء. وقال مجاهد: {حُورٌ} بيض {مَّقْصُورَاتٌ} على أزواجهنّ فلا يردن غيرهم {فِي الْخِيَامِ} قال: لا يبرحن الخيام. وقال عمر بن الخطاب: الخيام درّ مجوّف. وعن سعيد بن جبير في قوله: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} ، قال: رياض الجنّة. وقال ابن عباس الرفرف فضول المجالس والبسط {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} ، قال: الزرابيّ. وقال مجاهد: هو الديباج. وعن ابن عباس: قوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ، يقول: ذو العظمة والكبرياء. * * *

الدرس الثالث والسبعون بعد المائتين

الدرس الثالث والسبعون بعد المائتين [سورة الواقعة] مكية، وهي ست وتسعون آية عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت! قال: «شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون» . رواه الترمذي. وعن جابر بن سمرة قال: (كان رسول الله يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلّون اليوم، ولكنه كان يخفف، كانت صلاته أخفّ من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر: (الواقعة) ونحوها من السور) . رواه أحمد. بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً (5) فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً (6) وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (18) لَا

يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً (25) إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30) وَمَاء مَّسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً (37) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ (43) لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ (52) فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) } . * * *

قوله عز وجل: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً (5) فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً (6) وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً (26) } . عن ابن عباس في قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} و {الطَّامَّةُ} ... و {الصَّاخَّةُ} ، ونحو هذا من أسماء {الْقِيَامَةِ} عظّمة الله وحذّره عباده. وعن قتادة: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي: ليس لها مثنويّة ولا رجعة ولا ارتداد. وقوله: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} قال: أَسْمَعَتِ القريبِ والبعيدَ. {خَافِضَةٌ} أقوامًا إلى عذاب الله و {رَّافِعَةٌ} ، أقوامًا إلى كرامة الله، {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً} ، قال: زلزلت زلزالاً. وعن مجاهد: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} ، قال: كما يُبَسُّ السويق. وقال ابن زيد: صارت كثيبًا مهيلاً كما قال الله. وعن مجاهد في قوله:

{فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً} قال: شعاع الشمس يدخل من الكوّة ليس بشيء. وعن عليّ رضي الله عنه في قوله: {فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً} ، كوهج الغبار يسطع ثم يذهب، فلا يبقى منه شيء. وعن قتادة: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً} قال: منازل الناس يوم القيامة. {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أي: ماذا لهم وماذا أعدّ لهم {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} أي: ماذا لهم وماذا أعدّ لهم {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} أي: من كلّ أمّة. وعن عثمان بن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} ثم قال: أوّلهم رواحًا إلى المسجد، وأوّلهم خروجًا في سبيل الله. وروى الإِمام أحمد عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون من السابقون إلى ظلّ الله يوم القيامة» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «الذين إذا أُعطوا الحقّ قبلوه، وإذا سُئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» . وعن الحسن أنه أتى على هذه الآية: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} ، فقال: أما السابقون فقد مضوا، ولكن اللهمّ اجعلنا من أصحاب اليمين. وعن ابن عباس: {عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} ، قال: مرمولة بالذهب. وقال عكرمة: مشبّكة بالدرّ والياقوت. {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} قال مجاهد: لا يناظر أحدهم في قفا صاحبه. {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} ، قال: لا يموتون. وعن قتادة في قوله: ... {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} قال: الأكواب التي دون الأباريق ليس لها عرى، {وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} أي: من خمر جارية {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} ليس لها وجع رأس، {وَلَا يُنزِفُونَ} ، لا يغلب أحد على عقله. وقال البغوي: {وَلَا يُنزِفُونَ} ، ولا يسكرون؛ هذا إذا قرئ بفتح الزاي، ومن كسرها فمعناها: لا ينفد شرابهم. وقال ابن عباس: في الخمر أربع خصال: السكر، والصدع، والقيء، والبول. فذكر الله تعالى خمر الجنّة ونزّهها عن هذه الخصال. وعن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله: {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} قال: «صفاؤهن كصفاء الدرّ الذي في الأصداف الذي لا تمسّه

الأيدي» . رواه ابن جرير. قال البغوي: ويروى أن الحوراء إذا مشت ليسمع تقديس الخلاخيل من ساقيها، وتمجيد الأسورة من ساعديها، وأن عقد الياقوت ليضحك من نحرها، وفي رجليها نعلان من ذهب، شراكهما من لؤلؤ، يصرّان بالتسبيح. {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً} قال عطاء: يحيّي بعضهم بعضًا بالسلام. قوله عز وجل: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30) وَمَاء مَّسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً (37) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (40) } . عن قتادة في قوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} أي: ماذا لهم وماذا أعدّ لهم {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} قال: كنا نحدّث: أنه الموقر الذي لا شوك فيه. {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} ، كنا نحدّث أنه الموز. وقال معمر بن المثنى: هو عند العرب شجر عظام كثير الشوك. وقال مجاهد: {مَّنضُودٍ} أي: متراكم الثمر. قال ابن عباس: يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمر أحلى من العسل. وروى النجار عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم، قال: أقبل أعرابيّ يومًا فقال: يا رسول الله ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وما هي» ؟ قال: السدر فإن له شوكًا

مؤذيًا؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أليس الله تعالى يقول: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} خضد الله شوكه، فجعل مكان كلّ شوكة ثمرة فإنها لتنبت ثمرًا وتنفق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لونًا من طعام، ما فيها لون يشبه الآخر» . وعن أبي هريرة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها، اقرأوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} » . متفق عليه. وعن سفيان: {وَمَاء مَّسْكُوبٍ} قال: يجري في غير أخدود. وعن قتادة في قوله: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} ، قال: لا يمنعه شوك ولا بعد. وقوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} ، قال ابن كثير: أي: عالية وطئية ناعمة. وقوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء} ، قال أبو عبيدة: يعني بذلك: الحور العين. وعن الحسن قال: أتت عجوز فقالت: يا رسول الله ادعوا الله تعالى أن يدخلني الجنة، فقال: «يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز» . فولّت تبكي، قال: «أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} » . رواه الترمذي. وعن ابن عباس: {عُرُباً أَتْرَاباً} ، قال: العُرب: المتحبّبات المتودّدات إلى أزواجهن. والأتراب: المستويات. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشدّ كوكب درّيّ في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة،

وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، هم على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء» . متفق عليه. وقوله تعالى: {ثُلَّةٌ} ، أي: جماعة، {مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} قال الحسن: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ} من الأمم، {وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. قوله عز وجل: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ (43) لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ (52) فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ (62) } . عن قتادة: قوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} ، أي: ماذا لهم وماذا أعدّ لهم {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} كنا نحدّث أنها ظلّ الدخان {لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} قال: لا بارد المنزل، ولا كريم المنظر. وقال الضحاك: كلّ شراب ليس بعذب فليس بكريم. وعن ابن عباس: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} يقول: منعمين ... {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} قال الضحاك: يعني: الشرك. وقال مجاهد: يدمنون على الذنب. وعن ابن عباس قوله: {شُرْبَ الْهِيمِ} قال:

الإبل العطاش. وقال عكرمة: هي الإبل المراض تمصّ الماء مصًا ولا تروى. وقوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} ، قال ابن كثير: أي: هذا الذي وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم، كما قال تعالى في حقّ المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} . وقال البغوي: {هَذَا نُزُلُهُمْ} ، يعني: ما ذكر من الزقّوم، والحميم: رزقهم وغذاؤهم، وما أعدّ لهم يوم الدين، يوم يجازون بأعمالهم؛ ثم احتجّ عليهم في البعث فقال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} قال مقاتل: خلقناكم ولم تكونوا شيئًا وأنتم تعلمون ذلك {فَلَوْلَا} فهلا {تُصَدِّقُونَ} بالبعث؟ {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} ما تصبّون في الأرحام من النطف {أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ} ، يعني: أأنتم تخلقون ما تمنون بشرًا، {أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} ؟ {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} بمغلوبين عاجزين عن إهلاككم وإبدالكم بأمثالكم فذلك قوله عز وجل: {عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} يعني: نأتي بخلق مثلكم بدلاً منكم. {وَنُنشِئَكُمْ} نخلقكم {فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} من الصور. وقال الحسن: أي: نبدّل صفاتكم فنجعلكم قردة وخنازير. {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} ولم تكونوا شيئًا {فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ} إني قادر على إعادتكم كما قدرت على إبدائكم. قوله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) }

قال البغوي: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} ، يعني: تثيرون من الأرض وتلقون فيها من البذور، {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} تنبتونه {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} المنبتون؟ وعن حجر المنذريّ أنه كان إذا قرأ: {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} وأمثالها ويقول: بل أنت يا رب. {لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} ، قال الكسائي: هو تلهّف على ما فات، وهو من الأضداد. وقال ابن كثير: أي: لو جعلناه حطامًا لظلتم تفكّهون في المقالة، تنوّعون كلامكم فتقولون تارة: إنا لمغرمون، وتارة تقولون: بل نحن محرومون. قال البغوي: والغرام: العذاب. وقال الضحاك، وابن كيسان: غرمنا أموالنا وصار ما أنفقنا غرمًا علينا، والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض، وهو قوله: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} محدودن ممنوعون، أي: حُرِمْنا ما كنا نطلبه من الربح في الرزق. وقال ابن زيد: المزن: السحاب. وقال الحسن: {أُجَاجاً} مرًّا. وقال ابن عباس شديد الملوحة. وعن قتادة: قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} للنار الكبرى. ذكر لنا أن نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم» . قالوا: يا نبي الله إن كانت لكافية. قال: «قد ضُربت بالماء ضربتين لينتفع بها بنو آدم ويدنوا منها» . {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} ، قال: للمرمل المسافر. وعن مجاهد: {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} للمستمتعين: المسافر، والحاضر، لكلّ طعام لا يصلحه إلا النار. وقال ابن زيد: المقوي: الجائع.

وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} ، قال ابن كثير: أي: الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة: الماء الزلال العذب البارد، ولو شاء جعله ملحًا أجاجًا كالبحار المغرقة، وخلق النار المحرقة وجعل ذلك مصلحة للعباد وجعل هذه منفعة لهم في معاش دنياهم وزجرًا لهم في المعاد. * * *

الدرس الرابع والسبعون بعد المائتين

الدرس الرابع والسبعون بعد المائتين {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) } . * * *

قوله عز وجل: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ... (82) } . قال جمهور المفسرين: هذا قسم من الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه و (لا) مزيدة لتأكيد القسم. وعن مجاهد: قوله: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ، قال: في السماء؛ وهذه الآية كقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} . وعن ابن عباس قال: نزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين بعد، وتلا هذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ، قال: نزل متفرّقًا. وقال الحسن: أراد انكدار النجوم وانتثارها يوم القيامة. وقال ابن كثير: وقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} ، أي: وإن هذا القسم الذي أقسمت به {لَقَسَمٌ} عظيم {لَّوْ تَعْلَمُونَ} عظمته لعظّمتم المقسم به عليه {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} . قال البغوي: ... {إِنَّهُ} يعني: هذا الكتاب، وهو موضع القسم {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} عزيز مكرّم لأنه كلام الله؛ قال بعض أهل المعاني: الكريم الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير. {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} مصون عند الله في اللوح المحفوظ. وعن ابن عباس قال: إذا أراد الله أن ينزل كتابًا نسخته السفرة فـ {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} يعني: الملائكة. وعن قتادة: قوله: {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} ذاكم عند ربّ العالمين، فأما عندكم فيمسّه المشرك النجس والمنافق

الرجس. وفي الموطّأ أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: «أن لا يمسّ القرآن إلا طاهر» . وعن جابر بن زيد في قوله: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال: القرآن ينزل من ذلك الكتاب. وقال الضحاك: زعموا أن الشياطين تنزّلت به على محمد، فأخبرهم الله أنها لا تقدر على ذلك وما تستطيعه، وما ينبغي لهم أن ينزلوا بهذا وهو محجوب عنهم، وقرأ قول الله: {وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} . قلت: وهذا كقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} . وعن ابن عباس: قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ} ، يقول: مكذّبون غير مصدّقين {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} ، يقول: شكركم {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} ، وقال الحسن في هذه الآية: خسر عبد لا يكون حظّه من كتاب الله إلا التكذيب. وعن ابن عباس أنه كان يقرأ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} ، ثم قال: ما مطر الناس ليلة قطّ إلا أصبح بعض الناس مشركين يقولون: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذا وكذا. وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني قال: صلّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطِرْنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطِرْنَا بَنَوْءِ كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» .

قوله عز وجل: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) } . قال ابن كثير: يقول تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ} الروح {الْحُلْقُومَ} أي: الحلق {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أي: إلى المحتضَر وما يكابده من سكرات الموت {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أي: بملائكتنا {وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ} أي: ولكن لا ترونهم، كما قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} . وعن ابن عباس قوله: {فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} يقول: غير محاسَبين. وقال ابن زيد في قوله: {تَرْجِعُونَهَا} قال: لتلك النفس {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} قال البغوي: أي: تردّون نفس هذا الميت إلى جسده بعدما بلغت الحلقوم، فأجاب عن قوله: ... {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} وعن قوله: {فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} بجواب واحد معناه: إن كان الأمر كما تقولون: أنه لا بعث ولا حساب ولا إله يجازي، فهلا تردّون نفس من يعزّ عليكم إذا بلغت الحلقوم؟ وإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إلى غيركم، وهو الله عز وجل فآمِنوا به. ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت وبيّن درجاتهم فقال: {فَأَمَّا إِن

كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} . وعن سعيد بن جبير في قوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} ، قال: الروح: الفرح. والريحان: الرزق؛ قال قتادة: يتلقّى به عند الموت. {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} ، قال: سلام من عند الله، سلّمت عليه ملائكة الله. وقال ابن زيد: سَلِمَ مما يكون. وقال مقاتل: هو أن الله تعالى يتجاوز عن سيِّئاتهم ويقبل حسناتهم. وعن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله كأنّ على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر - مرتين أو ثلاثًا ثم قال -: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزلت إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان - قال -: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرّون بها - يعني: على ملأ من الملائكة - إلا قالوا: ما هذه الروح الطيّبة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمّونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح له فيشيّعه من كلِّ سماء مقرّبوها إلى السماء التي تليها، حتى يُنتهى به إلى السماء السابعة فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في علّيّين وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى

- قال -: فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدّقت، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه وحسن الثياب طيّب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرّك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربِّ أقم الساعة، ربِّ أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي. وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزلت إليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح، فجلسوا منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على الأرض، فيصعدون بها فلا يمرّون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمّى بها في الدنيا، حتى يُنتهى بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له - ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} فيقول الله: اكتبوا كتابه في سجّين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحًا - ثم قرأ -: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فيقولان له: ما

هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار فيأتيه من حرّها وسَمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: ومن أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشرّ! فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تُقِمِ الساعة» . رواه أحمد وغيره. وفي رواية: «ثم يقيّض له أعمى أصمّ أبكم، وفي يده مرزبّة لو ضرب بها جبلاً لكان ترابًا، فيضربه ضربة فيصير ترابًا، ثم يعيده الله عز وجل كما كان، فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الشياطين» . وله من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيّبة كانت في الجسد الطيّب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان، وربّ غير غضبان، قال: فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان فيقولون: مرحبًا بالروح الطيّبة كانت في الجسد الطيّب، ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان وربّ غير غضبان، قال: فلا يزال يقال لها ذلك حتى يُنتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغسّاق، وآخر من شكله أزواج» . الحديث. وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} ، قال البغوي: {إِنَّ هَذَا} يعني: ما ذكر من قصة المحتضرين {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أي: الحقّ اليقين. وقال ابن

كثير: أي: أن هذا الخبر لهو حقّ اليقين الذي لا مرية فيه ولا محيد لأحدّ عنه {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . وعن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال: «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجعلوها في سجودكم» . رواه أحمد وغيره. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» . * * *

الدرس الخامس والسبعون بعد المائتين

الدرس الخامس والسبعون بعد المائتين [سورة الحديد] مدنية، وهي تسع وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى

وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) } . * * *

قوله عز وجل: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ... (6) } . عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو عند النوم: «اللهمّ ربّ السماوات السبع وربّ العرش العظيم، ربّنا وربّ كلّ شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحبّ والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شرّ كلّ شيء أنت آخذ بناصيته أنت الأوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر» . رواه أحمد وغيره. وعن عكرمة في قوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} ، قال: قصر هذا في طول هذا، وطول هذا في قصر هذا. {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} قال ابن كثير: أي: يعلم السرائر إن دقّت وإن خفيت. قوله عز وجل: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى

عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) } . قال ابن كثير: أمر تعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل، والدوام والثبات على ذلك والاستمرار، وحثّ على الإنفاق، {مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي: مما هو معكم على سبيل العارية، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم، وقال: فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفًا عنك؛ وساق حديث عبد الله بن الشّخّير قال: انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: « {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» . رواه مسلم. وعن مجاهد قوله: {مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ، قال: من الضلالة إلى الهدى. وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال البغوي: أي: شيء لكم في ترك الإِنفاق في سبيل الله وبالجهاد فقال: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ} ، يعني: فتح مكة في قول أكثر المفسّرين. وقال الشعبي: هو صلح الحديبية. قال ابن كثير: وقد يستدلّ لهذا القول بما روى الإمام أحمد عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام

سبقتمونا بها، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغتم أعمالهم» . قال ابن كثير: ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد كان بين صلح الحديبية وفتح مكة. وعن قتادة: {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} قال: الجنة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ، قال ابن كثير: أي: فلخبرته فاوت بين ثوابهم. قوله عز وجل: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) } . قال البغوي: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم} ، يعني: على الصراط، {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} ، يعني: عن أيمانهم؛ قال بعضهم: أراد جميع جوانبهم، فعبر بالبعض عن الكلّ، وذلك دليلهم إلى الجنة. وقال قتادة: ذكر لنا

أن نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عَدَن أبين وصنعاء ودون ذلك، حتى أن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه» . وقال ابن مسعود: (يؤتون من نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورًا مَنْ نوره على إبهامه فيطفأ مرّة ويوقد مرّة) . وقال الضحاك، ومقاتل: {يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} كتبهم، يريد أن كتبهم التي أعطوها بإيمانهم ونورهم بين أيديهم، وتقول لهم الملائكة: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} نستضيء من نوركم، وذلك أن الله تعالى يعطي المؤمنين نورًا على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضًا نورًا خديعة لهم، وهو قوله عز وجل: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} فبينا هم يمشون إذ بعث الله عليهم ريحًا وظلمة فأطفأت نور المنافقين، فذلك قوله: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} مخافة أن يُسلبوا نورهم كما سُلب نور المنافقين {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} فاطلبوا هناك لأنفسكم نورًا، فإنه لا سبيل لكم إلا الاقتباس من نورنا، فيرجعون في طلب النور فلا يجدون شيئًا فينصرفون إليهم ليلقوهم فيميز بينهم وبين المؤمنين؛ وهو قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} وهو حائط بين الجنة والنار {لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} ، أي: في باطن ذلك السور الرحمة وهي: الجنة، {وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} وهو: النار {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} في الدنيا نصلّي ونصوم؟ {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} ، أهلكتموها بالنفاق والكفر، واستعملتموها في المعاصي والشهوات وكلّها فتنة {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالإِيمان والتوبة {وَارْتَبْتُمْ} تشكّكتم {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} الأباطيل وما كنتم تتمنّون من نزول الدوائر

بالمؤمنين {حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ} ، يعني: الموت، {وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ، يعني: الشيطان. قال قتادة: ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، يعني: المشركين {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ} صاحبكم وأولى بكم لما أسلفتم من الذنوب، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . انتهى ملخصًا. والله أعلم. قوله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) } . عن قتادة: قوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} الآية، ذكر لنا أن شدّاد بن أوس كان يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أول ما يرفع من الناس الخشوع» . قال ابن كثير: يقول تعالى: أما آن للمؤمنين: {أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} أي: تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه؟ {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} ، قال ابن عباس: مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله. قال البغوي: والمعنى: أن الله عز وجل ينهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود والذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر ... {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني:

الذين تركوا الإِيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فيه إشارة إلى أن الله تعالى يليّن القلوب بعد قسوتها برحمته كما يحيي الأرض بعد جدبها {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} أي: المتصدّقين والمتصدّقات {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} بالصدقة والنفقة في سبيل الله عز وجل {يُضَاعَفُ لَهُمْ} ذلك القرض {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} ثواب حسن وهو الجنة {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} قال مجاهد: كلّ من آمن بالله ورسله فهو صدّيق، وتلا هذه الآية. وعن ابن عباس في قوله: ... {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ، قال: هذه مفصولة. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ} أي: في جنات النعيم، كما جاء في الصحيحين: «إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربك إطّلاعه فقال: ماذا تريدون؟ فقالوا: نحبّ أن تردّنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنُقتَل كما قُتلنا أوّل مرّة، فقال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون» . وقوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} ، أي: لهم عند الله أجر جزيل ونور عظيم، {يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} لما ذكر السعداء ومآلهم، عطف بذكر الأشقياء وبيّن حالهم. والله المستعان. * * *

الدرس السادس والسبعون بعد المائتين

الدرس السادس والسبعون بعد المائتين {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ

أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) } . * * *

قوله عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) } . قال البغوي: قوله عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} ، أي: أن الحياة في هذه الدار، {لَعِبٌ} باطل لا حاصل له، {وَلَهْوٌ} فرح ثم ينقضي، {وَزِينَة} منظر تتزيّنون به، {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} يفخر به بعضكم على بعض، {وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ} ، أي: مباهاة بكثرة الأموال والأولاد، ثم ضرب لها مثلاً فقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} ، أي: الزرّاع {نَبَاتُهُ} ما نبت من ذلك الغيث {ثُمَّ يَهِيجُ} ييبس، {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} بعد خضرته ونضرته، {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} يتحطّم ويتكسّر بعد يبسه ويفنى، {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} ، قال مقاتل: لأعداء الله، {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} لأوليائه وأهل طاعته، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ، قال سعيد بن جبير: {مَتَاعُ الْغُرُورِ} لمن لم يشتغل فيها بطلب الآخرة، ومن اشتغل بها فله: {مَتَاعُ} بلاغ إلى ما هو خير منه. وقال في جامع البيان: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} الزرّاع، أو الكافرون، فإنهم أشدّ إعجابًا بخضرة الدنيا، ولم يذكر ابن جرير غير الثاني؛ وقال بعض المفسرين:

ومعنى إعجاب الكفار: أنهم جحدوا نعمة الله فيه بعد أن راق في نظرهم، فبعث الله عليهم العاهة فصيّره كَلا شيء، ومن جعل الكفّار بمعنى الزرّاع فظاهر. قاله ابن مسعود. وقال ابن كثير: يقول تعالى موهنًا أمر الحياة الدنيا ومحقّرًا لها: ... {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} ، أي: إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} . قال: وقوله تعالى: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} ، أي: يعجب الزرّاع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث، وكما يعجب الزرّاع ذلك، كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفّار، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها. وقوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: {سَابِقُوا} أيها الناس إلى عمل يوجب لكم: {مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ} هذه الجنة: {لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} ، يعني: الذين وحّدوا الله وصدّقوا رسله، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ، قال البغوي: فبيّن أن أحدًا لا يدخل الجنّة إلا بفضل الله. قوله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ

يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) } . عن ابن عباس: قوله: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} ، قال: هو شيء قد فرغ منه قبل أن تبرأ النفس. قال قتادة: أما: {مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ} فالسنون، وأما: {فِي أَنفُسِكُمْ} فهذه الأمراض والأوصاب {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} من قبل أن نخلقها. وقال الحسن: كلّ مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن تبرأ النسمة، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، قال ابن كثير: أي: أن علمه تعالى الأشياء قبل كونها، وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله عز وجل، لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن، لو كان كيف يكون. وعن ابن عباس: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} من الدنيا، {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} منها. وقال عكرمة: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرًا، والحزن صبرًا. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ، قال البغوي: {مُخْتَالٍ} متكبّر بما أوتي من الدنيا {فَخُورٍ} يفخر به على الناس. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} ، أي: يبخلون بالواجب ويأمرون الناس بذلك. وقال ابن كثير: أي: يفعلون المنكر ويحضّون الناس عليه، {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} . قوله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ... (25) } . عن قتادة: {الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} ، قال: الميزان

العدل. وقال ابن زيد: الميزان ما يعمل الناس ويتعاطون عليه في الدنيا من معايشهم التي يأخذون ويعطون، يأخذون بميزان، ويعطون بميزان، يعرف ما يأخذ وما يعطي. قال: والكتاب فيه دين الناس الذي يعملون ويتركون، فالكتاب للآخرة، والميزان للدنيا. {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} ، قال: البأس الشديد: السيوف والسلاح الذي يقاتل الناس به. ... {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} بعد يحفرون به الأرض والجبال وغير ذلك. قال البغوي: روي عن ابن عمر يرفعه: «إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد، والنار، والماء، والملح» . وقال أهل المعاني: معنى قوله: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ} أنشأنا وأحدثنا، أي: أخرج لهم الحديد من المعادن وعلّمهم صنعته. وعن مجاهد: قوله: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وجُنّة وسلاح، وأنزله ليعلم الله من ينصره. وقال البغوي: أي: أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم هذه لأشياء ليتعامل الناس بالحقّ والعدل، {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} وليرى الله {مَن يَنصُرُهُ} أي: دينه {وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} أي: قام بنصرة الدين ولم ير الله ولا الآخرة، وإنما يحمد ويثاب من أطاع الله بالغيب {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} . قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) } . عن ابن عباس قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلّوا التوراة والإِنجيل، وكان

فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل، فقيل لملكهم: ما نجد شيئًا أشدّ علينا من شتم يشتمنا هؤلاء، إنهم يقرؤون: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} هؤلاء الآيات مع ما يعيبونا به في قراءتهم، فادعهم فليقرؤوا كما نقرأ وليؤمنوا كما آمنا به، قال: فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل، أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدّلوا منها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك؟ فدعونا، قال: فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا، فلا نردّ عليهم. وقالت طائفة منهم: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما تشرب الوحوش فإن قدرتم علينا بأرضكم فاقتلونا. وقالت طائفة: ابنوا لنا دورًا في الفيافي، ونحتفر الآبار، ونحترث البقول، فلا نردّ عليكم، ولا نمرّ بكم، وليس أحد من أولئك إلا وله حميم فيهم. قال: ففعلوا ذلك، فأنزل الله جلّ ثناؤه: ... {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} ، والآخرون قالوا: نتعبّد كما تعبّد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتّخذ دورًا كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم. قال: فلما بعث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق منهم إلا قليل، انحطّ رجل من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وجاء صاحب الدار من داره، وآمنوا وصدّقوه فقال الله جلّ ثناؤه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} . قال ابن جرير: لإيمانهم بعيسى، وتصديقهم بالتوراة، والإنجيل، وإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وتصديقهم به. قال: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} : القرآن وإتباعهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقال: {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . وعن قتادة: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} فهاتان من الله، والرهبانية ابتدعها القوم من أنفسهم، ولم تُكتب عليهم، ولكن ابتغوا بذلك وأرادوا رضوان الله، {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ

رِعَايَتِهَا} ، ذكر لنا أنهم رفضوا النساء واتّخذوا الصوامع. وقال ابن زيد: ابتدعوها ابتغاء رضوان الله تطوّعًا {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} ، قال: الذين رعوا ذلك الحقّ. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} ، أي: فما قاموا بما التزموه حقّ القيام. وهذا ذمّ لهم من وجهين، أحدهما: في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله. والثاني: عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة. وقال ابن جرير وقوله: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} ، يقول تعالى ذكره: فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسله، من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على ابتغائهم رضوان الله وإيمانهم به وبرسوله في الآخرة {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ} أهل معاص وخروج عن طاعته والإِيمان به. انتهى. قال بعضهم: الصوفية وزان أولئك. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) } . عن مجاهد: قوله: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} قال: ضعفين. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي فله أجران، وعبد مملوك أدّى حقّ الله وحقّ مواليه فله أجران، ورجل أدّب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوّجها فله أجران» . وعنه أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل المسلمين واليهود

والنصارى، كمثل رجل استعمل قومًا يعملون له عملاً يومًا إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا إلى نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا أكملوا بقيّة عملكم وخذوا أجركم كاملاً، فأبوا وتركوا واستأجر آخرين بعدهم، فقال: أكملوا بقيّة يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حين صلّوا العصر، قالوا: ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه. فقال: أكملوا بقيّة عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير، فأبوا فأستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقيّة يومهم حتى غابت الشمس، فاستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور» . رواه البخاري. وعن ابن عباس: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} ، قال: الفرقان واتباعهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ} ، قال قتادة: حسد الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب المؤمنين منهم فأنزل الله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} ، وقال مجاهد: قالت اليهود: يوشك أن يخرج منا نبيّ يقطع الأيدي والأرجل، فلما خرج من العرب كفروا به فأنزل الله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} ، قال البغوي: أي: ليعلم و (لا) صلة {أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ} أي: ليعلم الذين يؤمنوا أنهم لا أجر لهم ولا نصيب لهم في فضل الله، {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . * * *

الدرس السابع والسبعون بعد المائتين

الدرس السابع والسبعون بعد المائتين [سورة المجادلة] مدنية، وهي اثنتان وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن

ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (16) لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ

قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) } . * * *

قوله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) } . روى الإِمام أحمد وغيره عن عائشة قالت: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلّمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى آخر الآية) . وفي رواية ابن أبي حاتم قالت: (تبارك الذي أوعى سمعه كلّ شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تقول: يا رسول الله أكل مالي وأفنى شبابي ونشرت له بطني، حتى إذا كبرت سنّي وانقطع ولدي ظاهَرَ منّي! اللهم إني أشكو إليك. قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي

زَوْجِهَا} قالت: وزوجها أوس بن الصامت) . وفي رواية: (وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإياه تنعشني به؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «حرمت عليه» . فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أراك إلا قد حرمت عليه، ولم أومر في شأنك شيء» . فقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدّة حالي، وإن لي صبية صغارًا إن أرسلتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا، اللهمّ إني أشكو إليك؛ فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} الآيات) . وعن قتادة في قول الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} ، قال: ذاك أوس بن الصامت ظاهر من امرأته خولة بنت ثعلبة؛ قالت: يا رسول الله كبر سنّي ورقّ عظمي وظاهر منّي زوجي؛ قال: فأنزل الله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم} إلى قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} يريد أن يغشى بعد قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} فدعاه إليه نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «هل تستطيع أن تعتق رقبة» ؟ قال: لا. قال: ... «أفتسطيع أن تصوم شهرين متتابعين» ؟ قال: إنه إذا أخطأه أن يأكل كل يوم ثلاث مرات لَكَلّ بَصَرُهُ، قال: «أتستطيع أن تطعم ستين مسكينًا» ؟ قال: لا، إلا أن يعينني فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعون وصلاة؛ فأعانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمسة عشر صاعًا. وجمع الله له أمره، {وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وعن أبي قلابة قال: كان الظهار طلاقًا في الجاهلية، الذي إذا تكلّم به أحدهم لم يرجع في امرأته أبدًا، فأنزل الله عز وجل فيه ما أنزل. وعن قتادة: {مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} ، قال: الزور الكذب، {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} . قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً

فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } . عن قتادة: قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يقول: يعادون الله ورسوله {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} خُزُوا كما خزي الذين من قبلهم. قال ابن كثير: كما فعل بمن أشبههم ممن قبلهم، {وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي: واضحات {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي: في مقابلة ما استكبروا عن إتّباع شرع الله {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} أي: ضبطه الله وحفظه عليهم، وهم قد نسوا ما كانوا عملوا، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي: لا يغيب عنه شيء. ثم قال تعالى مخبرًا عن إحاطة علمه بخلقه وإطّلاعه عليهم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ} أي: من سرّ ثلاثة: {إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ، كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} ، فهو سبحانه وتعالى مطّلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء. ثم قال تعالى: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، قال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم. وقال الضحاك: هو فوق العرش، وعلمه معهم أينما كانوا.

قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) } . عن مجاهد في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} ، قال: اليهود. وقال مقاتل: كان بين النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وبين اليهود موادعة، وكانوا إذا مرّ بهم الرجل من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - جلسوا يتناجون بينهم حتى يظنّ المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره المؤمن، فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم، فنهاهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن النجوى فلم ينتهوا، فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} . وعن مجاهد في قوله: {وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} ، قال: يقولون: سام عليكم. وفي حديث أنس عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سلّم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: وعليك» . قال ابن زيد: السام الموت. وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} ، قال البغوي: يريدون: لو كان نبيًّا حقًّا لعذّبنا الله بما نقول. قال الله عز وجل: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . وعن قتادة: قوله: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} ، كان المنافقون يتناجون بينهم، وكان ذلك يغيظ المؤمنون ويكبر عليهم، فأنزل الله في ذلك القرآن. وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون ثالثهما، فإن ذلك يحزنه» . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) } . عن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} ، كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلاً ضنّوا بمجلسهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض، {وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} يقول: إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} إن بالعلم لأهله فضلاً، وإن له على أهله حقًا، ولعمري لِلحقّ عليك أيها العالم فضل، والله معطي كلّ ذي فضل فضله. وكان مطرف بن عبد الله بن الشّخّير يقول: فضل العلم أحبّ إليّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع. وعن مجاهد في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} ، قال: نهوا عن مناجاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حتى يتصدّقوا، فلم يناجه إلا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قدّم دينارًا فتصدّق به، ثم أنزلت الرخصة. وعن قتادة: قال: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فريضتان واجبتان لا رجعة لأحد فيهما، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الصدقة في النجوى.

قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (16) لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) } . عن قتادة: قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم} ، إلى آخر الآية. قال: هم المنافقون تولّوا اليهود وناصحوهم، {مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} ، قال البغوي: يعني: المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاية، ولا من اليهود والكافرين، كما قال: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} . {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كذبة {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يستجنون بها من القتل ويدفعون بها عن

أنفسهم وأموالهم. وعن قتادة في قوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} قال: إن المنافق يحلف له يوم القيامة كما حلف لأوليائه في الدنيا {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ} ، قال البغوي: غلب واستولى {عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} ، الأسفلين، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} ، قال الزجاج: غلبة الرسل على نوعين: من بُعث منهم بالحرب فهو غالب في الحرب، ومن لم يؤمر بالحرب فهو غالب بالحجّة. وقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} ، قال ابن كثير: أي: لا يوادّون المحادّين ولو كانوا من الأقربين. وقال في جامع البيان: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، يعني: لا يجتمع الإِيمان ومحبّة أعداء الله تعالى: {أُوْلَئِكَ} ، الذين لم يوادّوهم، {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} ، أثبته فيها {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} . قال ابن جرير: يقول: وقوّاهم ببرهان منه، ونور وهدى، {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} ، قال ابن جرير: رضي الله عنهم بطاعتهم إياه في الدنيا، {وَرَضُوا عَنْهُ} ، في الآخرة بإدخاله إياهم الجنة، {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} يقول: أولئك الذين هذه صفتهم جند الله وأولياؤه {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . * * *

الدرس الثامن والسبعون بعد المائتين

الدرس الثامن والسبعون بعد المائتين [سورة الحشر] مدنية، وهي أربع وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن

دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (10) أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (12) لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ

يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) } . * * *

قوله عز وجل: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) } . عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: سورة النضير. وقال البغوي: قال المفسرون: نزلت هذه السورة في بني النضير وذلك أن النّبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المدينة، فصالحته بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، فقبل ذلك رسول الله منهم، فلما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرًا وظهر على المشركين قالت بنو النضير: والله إنه النبيّ وجدنا نعته في التوراة، لا نردّ له رأيه، فلما غزا أحدًا وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبًا من اليهود إلى مكة، فأتوا قريشًا فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون

كلمتهم واحدة على محمد، ودخل أبو سفيان في أربعين، وكعب في أربعين من اليهود المسجد الحرام، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأمتار والكعبة، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة، ونزل جبريل فأخبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بما تعاقد عليه كعب، وأبو سفيان، فأمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة، وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - اطّلع منهم على خيانة، حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمريّ في منصرفه من بئر معونة، فهمّوا بطرح حجر عليه من فوق الحصن، فعصمه الله وأخبره بذلك، فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير، وكانوا بقرية يقال لها: زهرة. فلما سار إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف، فقالوا: يا محمد داهية على إثر داهية، وباكية على إثر باكية؟ قال: ... «نعم» قالوا: ذرنا نبكي شجونًا ثم ائتمر بأمرك، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ... «اخرجوا من المدينة» . فقالوا: الموت أقرب إلينا من ذلك، فتنادوا بالحرب وأذّنوا بالقتال، ودسّ المنافقون عبد الله بن أبيّ بن سلول وأصحابه إليهم أن لا يخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصركم، ولئن أخرجتم لنخرجنّ معكم، فدربوا على الأزقة وحصّنوها، ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسلوا إليه: أن اخرج في ثلاثين رجلاً من أصحابك وليخرج منا ثلاثين، حتى نلتقي بمكان نَصَفٍ بيننا وبينك، فيستمعوا منك فإن صدّقوك وآمنوا بك آمنا كلّنا، فخرج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثين من أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حبرًا من اليهود، حتى إذا كانوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض: كيف تتخلّصون إليه ومعه ثلاثون رجلاً من أصحابه، كلّهم يحب أن يموت قبله؟ فأرسلوا إليه: كيف نفهم ونحون ستّون رجلاً؟ اخرج في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فيستمعوا منك، فإن آمنوا بك آمنا كلّنا بك وصدّقناك، فخرج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة من أصحابه، وخرج

ثلاثة من اليهود، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها، وهو رجل مسلم من الأنصار، فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل أخوها سريعًا حتى أدرك النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فسارّه بخبرهم قبل أن يصل إليهم فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلح فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة، فصالحهم على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلّت الإِبل من أموالهم إلا الحلقة وهي السلاح، ففعلوا وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات، وأريحا، إلا أهل بيتين منهم آل الحقيق، وآل حييّ بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة منهم بالحيرة، فذلك قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} . قال ابن عباس: من شكّ أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية. انتهى ملخصًا. وعن قتادة: قوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} جعلوا يخربونها من أجوافها، وجعل المؤمنون يخربون من ظاهرها. قال الزهري: لما صالحوا النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا لا يعجبهم خشبة إلا أخذوها. وعن يزيد بن رومان: {وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء} وكان لهم من الله نقمة، {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} ، أي: بالسيف، {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} مع ذلك. وعن مجاهد في قوله: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ} ، قال: نخلة. قال: نهى بعض المهاجرين بعضًا عن قطع النخل وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين، ونزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإِثم، وإنما قطعه وتركه بإذنه. وعن قتادة: قوله: {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} الآية. يقول: ما قطعتم إليها واديًا ولا سرتم إليها سيرًا، وإنما كان حوائط لبني النضير، طعمة أطعمها الله رسوله. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (كانت أموال بني النضير مما

أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصة، فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في الدراع والسلاح عدّة في سبيل الله عز وجل) . متفق عليه. قوله عز وجل: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (10) } . عن قتادة: قوله: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ، بلغني أنها الجزية. والخراج: خَراج أهل القرى. وعن مالك بن أوس بن الحدثان قال: (قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} ، حتى بلغ: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، ثم قال: هذه لهؤلاء؛ ثم قال: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الآية. ثم قال: هذه الآية لهؤلاء؛ ثم قرأ: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ، حتى بلغ: {لِلْفُقَرَاء} . {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ} ، {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} ثم قال: استوعبت هذه الآية المسلمين عامّة، فليس

أحد إلا له فيها حقّ، ثم قال: لئن عشت ليأتينّ الراعي وهو يسير حمره نصيبه لم يعرق فيها جبينه) . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} ، وهم الأنصار توطّنوا المدينة وآمنوا قبل قدوم المهاجرين عليهم، {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} ، أي: حزازة وغيظًا وحسدًا، {مِّمَّا أُوتُوا} ، أي: مما أعطى المهاجرون دونهم من الفيء، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وعن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بريء من الشح من أدّى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة» . رواه ابن جرير. وعن أبي هريرة: (أن رجلاً من الأنصار بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نوّمي الصبية وأطفئي المصباح، وقرّبي للضيف ما عندك. قال: فنزلت هذه الآية) . وعن قتادة: قال: ثم ذكر الله الطائفة الثالثة فقال: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا} ، حتى بلغ: {إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ، إنما أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يؤمروا بسبّهم. قال ابن كثير: وما أحسن ما استنبط الإِمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة: أن الرافضيّ الذي يسبّ الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب.

قوله عز وجل: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (12) لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (17) } . عن قتادة: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} ، قال: تجد أهل الباطل مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم، مختلفة أعمالهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحقّ. وعن ابن عباس قوله: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، يعني: بني قينقاع. وعن مجاهد: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ} عامّة الناس. وعن عليّ رضي الله عنه قال: (إن راهبًا تعبّد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأة فأجنّها ولها إخوة، فقال لإِخوتها: عليكم بهذا القسّ فيداويها، فجاؤوا بها قال: فداواها وكانت عنده ن فبينما هو يومًا عندها إذ أعجبته، فأتاها فحملت فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك، إنك أعييتني، أنا صنعت بك هذا فأطعني أنجّك مما صنعتُ بك، اسجد لي سجدة، فسجد له فلما سجد له قال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين) .

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) } . عن قتادة: قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ما زال ربّكم يقرّب الساعة حتى جعلها كغد، وغد يوم القيامة. وعن سفيان: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} قال: نسوا حقّ الله {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} قال: حظّ أنفسهم. وعن ابن عباس قوله: {لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ، قال: يقول: لو أنّي أنزلت هذا القرآن على جبل حمّلته إياه، تصدّع وخشع من ثِقله، ومن خشية الله، فأمر الله عزّ وجلّ الناس إذا أنزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشّع، قال: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} . وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: هو المعبود الذي لا تصح العبادة إلا له، المَلِكُ الذي لا ملك فوقه ولا

شيء إلا دونه. وقال قتادة: {الْقُدُّوسُ} ، أي: المبارك. وقال وهب بن منبه: أي: الطاهر. وقال ابن جريج: تقدّسه الملائكة. وقال قتادة في قوله: ... {السَّلَامُ} ، الله السلام. قال ابن كثير: {السَّلَامُ} ، أي: من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله. {الْمُؤْمِنُ} ، قال قتادة: أمن بقوله أنه حق. وقال ابن زيد: {الْمُؤْمِنُ} ، المصدّق الموقن؛ آمن الناس بربهم فسمّاهم مؤمنين، وآمن الربّ الكريم لهم بإيمانهم صدّقهم أن يسمى ذلك الاسم. وعن ابن عباس في قوله: {الْمُهَيْمِنُ} ، قال: الشهيد. وقال قتادة: {الْجَبَّارُ} ، الذي جبر خلقه على ما يشاء. {الْمُتَكَبِّرُ} ، يعني: عن كل سوء. {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ

الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} ، قال ابن كثير: الخَلْقُ التقدير، والبرء هو: الفرى وهو التنفيذ وإبراز ما قدّره وقرّره إلى الوجود. وعن جابر بن زيد قال: إن اسم الله الأعظم هو: (الله) ألم تسمع الله يقول: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وعن معقل بن يسار عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكلّ الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة» . رواه أحمد والترمذي. والله أعلم. * * *

الدرس التاسع والسبعون بعد المائتين

الدرس التاسع والسبعون بعد المائتين [سورة الممتحنة] مدنية، وآياتها ثلاث عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (1) إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً

وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (1) إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) } . قال ابن إسحاق: حدّثني محمد بن جعفر بن الزُّبير وغيره من علمائنا قال: (لما أجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأمر في السير إليهم، ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلاً على أن تبلّغه لقريش، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليّ بن أبي طالب والزُّبير بن العوّام فقال: «أدركا امرأة قد كتب معها حاطب كتابًا إلى قريش، يحذّرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم» .

فخرجا حتى أدركاها بالحليفة - حليفة بني أبي أحمد - فاستنزلاها بالحليفة فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئًا، فقال لها عليّ بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كُذِبْنا، ولتخرجنّ لنا هذا الكتاب، أو لنكشفنّك، فلما رأت الجدّ منه قالت: أعرِض، فأعرّض، فحلّت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه، فأتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاطبًا، فقال: «يا حاطب ما حملك على هذا» ؟ قال: يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله وبرسوله ما غيّرت ولا بدّلت، ولكني كنت امرءًا ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطّلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ؛ فأنزل الله عز وجل في حاطب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ، إلى آخر القصة. قال البغوي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ} يعني: القرآن، {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} من مكة {أَنْ تُؤْمِنُوا} أي: لأن آمنتم كأنه قال: يفعلون ذلك لإيمانكم بالله ربكم، {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} ، هذا شرط. جوابه متقدّم وهو قوله: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} قال مقاتل:

بالنصيحة {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} ، أخطأ طريق الهدى {إِن يَثْقَفُوكُمْ} يظفروا بكم، {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالضرب والقتل {وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ} بالشتم {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} ، كما كفروا، يقول: لا تناصحوهم فإنهم لا يناصحونكم ولا يوادّونكم. {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} ، الذين عصيتم الله لأجلهم، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} ، فيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معصيته النار، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} ، من أهل الإِيمان، {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ} من المشركين، {إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} ، جحدنا وأنكرنا دينكم، {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ، يأمر حاطبًا والمؤمنين بالإقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، والذين معه من المؤمنين في التبرّؤ من المشركين، {إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} يعني: لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان قد قال لأبيه: لأستغفرنّ لك، ثم تبرأ منه، {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} ، يقول إبراهيم لأبيه: ما أغني عنك ولا أدفع عنك عذاب الله إن عصيته وأشركت به، {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} يقوله إبراهيم ومن معه من المؤمنين: {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} ، قال الزجاج: لا تظهرهم علينا فيظنّوا أنهم على الحقّ فيفتتنوا. وقال مجاهد: لا تعذّبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولون: لو كان هؤلاء على الحقّ ما أصابهم ذلك، {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} ، أي: في إبراهيم ومن معه، {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} ، هذا بدل من قوله: {لَكُمْ} ، وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة، {وَمَن يَتَوَلَّ} ، يُعرض عن الإِيمان ويوالي الكفار، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} عن خلقه، {الْحَمِيدُ} إلى أوليائه وأهل طاعته. أ. هـ. ملخصًا.

قال ابن كثير: وقوله تعالى ومن يتولّ، أي: عما أمره الله به {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} كقوله تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} . وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: (الغنيّ الذي قد كمل في غناه وهو الله، هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفؤ وليس كمثله شيء سبحان الله الواحد القهار. والحميد: المستحمد إلى خلقه، أي: هو المحمود في جميع أقواله وأفعاله لا إله غيره ولا ربّ سواه) . قوله عز وجل: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) } . قال ابن زيد في قوله: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} ، قال: هؤلاء المشركون وقد فعل، قد أدخلهم الله في السلم وجعل بينهم مودّة حين كان الإِسلام حين الفتح. وقال البغوي: قال مقاتل: فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنين أقرباؤهم المشركين وأظهروا لهم العدواة والبراءة، فعلم الله شدّة وجد المؤمنين بذلك، فأنزل الله عز وجل: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم} أي: من كفار مكة مودّة، ففعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخوانًا وخالطوهم وناكحوهم ... {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

ثم رخّص الله عز وجل في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ} ، أي: لا ينهاكم الله عن برّ الذين لم يقاتلوكم {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} تعدلوا فيهم بالإِحسان والبرّ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . قال ابن عباس: نزلت في خزاعة، كانوا قد صالحوا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدًا، فرخّص الله في برّهم. وعن مجاهد: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} ، قال: كفار أهل مكة. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) } . عن أبي نضرة الأسدي قال: سُئِلَ ابن عباس: كيف كان امتحان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النساء؟ قال: (كان يمتحنهنّ بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حبًّا لله ورسوله) . وعن المسور بن مخرمة ومروان [ابن الحكم]- في قصة الحديبية - قالا: (لما كتب سهيل بن عمرو يومئذٍ، كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخلّّيت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النّبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فردّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد

من الرجال إلا ردّه في تلك المدة وإن كان مسلمًا، وجاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ مهاجرة وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهنّ: {إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ ... لَهُنَّ} ) . وعن مجاهد: {وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا} وآتوا أزواجهنّ صدقاتهنّ. وقال ابن زيد في قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} ولها زوج، ثم لأنه فرّق بينهما الإِسلام، إذا استبرأتم أرحامهنّ {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} قال الزهري: فطلق عمر امرأتين كانتا له بمكة. وعن مجاهد في قول الله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} قال: ما ذهب من أزواج أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهنّ وليمسكوهنّ، وما ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بمثل ذلك في صلح كان بين محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} ، قال الزهري: فأمسك رسول الله النساء وردّ الرجال، وسأل الذي أمره الله أن يسأل من صدقات النساء من حبسوا منهنّ، وأن يردّوا عليهم مثل الذي يردّون عليهم إن هم فعلوا، ولولا الذي حكم الله به من هذا الحكم ردّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النساء كما ردّ الرجال، ولولا الهدنة والعهد الذي كان بينه وبين قريش يوم الحديبية أمسك النساء ولم يردد إليهم صداقًا، وكذلك يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد. قال الزهري: أما المؤمنون فأقرّوا بحكم الله، وأما المشركون فأبوا أن يقرّوا فأنزل الله عز وجل: {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا} ، فأمر الله المؤمنين أن يردّوا الصداق إذا ذهبت امرأة من المسلمين ولها زوج أن يردّ المسلمون إليه صداق امرأته من صداق إن كان في أيديهم مما أمروا أن يردّوا إلى المشركين.

قال مجاهد: {فَعَاقَبْتُمْ} أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم، {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا} ، يعني: مهر مثلها. قال ابن كثير: وهذا لا ينافي الأول، إن أمكن الأول فهو الأولى، وإلا فمن الغنائم التي تؤخذ من أيدي الكفار. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) } . عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} ، إلى قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قد بايعتك كلامًا» ، ولا والله ما مسّت يده يد امرأة في المبايعة قطّ، ما يبايعهنّ إلا بقوله: «قد بايعتك على ذلك» . رواه البخاري. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: جاءت أميمة بنت رفيعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبايعه على الإِسلام فقال: «أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئًا، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تبرّجي تبرّج الجاهليّة الأولى» . وعن ابن عباس: قوله: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} ، يقول: لا يلحقن بأزواجهنّ غير أولادهم، وقال البغوي: ليس المراد منه نهيهنّ عن

الزنا، لأن النهي عن الزنا قد تقدم ذكره، بل المراد منه أن تلتقط مولودًا وتقول لزوجها: هذا ولدي منك؛ فهو البهتان المفترى بين أيديهنّ وأرجلهنّ، لأن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها. وعن ابن عباس: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} ، يعني: من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم، أو يبعثهم الله. وقال الحسن: الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات. وعن مجاهد في قوله: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} ، قال: من ثواب الآخرة، حين تبيّن لهم عملهم وعاينوا النار. قال ابن كثير: ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة كما نهى عنها في أولها فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ، يعني: اليهود والنصارى وسائر الكفار، ممن غضب الله عليه ولعنه، فكيف توالوا منهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاءً و {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} ، أي: من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عز وجل. * * *

الدرس الثمانون بعد المائتين

الدرس الثمانون بعد المائتين [سورة الصف] مدنية، وآياتها أربع عشر آية عن عبد الله بن سلام قال: (تذاكرنا أيّكم يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسأله أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلينا رجلاً رجلاً فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة) . رواه أحمد. بسم الله الرحمن الرحيم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)

يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) } . * * *

قوله عز وجل: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ (4) } . عن ابن عباس في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله دلّنا على أحبّ الأعمال إليه فنعمله، فأخبر الله نبيّه: أن أحبّ الأعمال إليه إيمان بالله لا شكّ فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقرّوا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين وشقّ عليهم أمره فقال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} . وعن مجاهد في قول الله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} إلى قوله: {مَّرْصُوصٌ} فيما بين ذلك، في نفر من الأنصار فيهم عبد الله بن رواحة، قالوا: في مجلس: لو نعلم، أي الأعمال أحبّ إلى الله لعملنا بها حتى نموت، فأنزل الله هذا فيهم، فقال عبد الله بن رواحة: لا أزال حبيسًا في سبيل الله حتى أموت، فقتل شهيدًا. وعن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} ، يؤدّبهم ويعلّمهم كما تسمعون، {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ} ، وكانت رجال تخبر في القتال بشيء لم يفعلوه ولم يبلغوه، فوعظهم الله في ذلك موعظة بليغة. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} إنكار على من يعد وعدًا أو يقول قولاً لا يفي به، ولهذا استدلّ بهذه الآية الكريمة، من

ذهب من علماء السلف إلى أنه يحب الوفاء بالوعد مطلقًا، سواء ترتّب عليه عزم للموعود أم لا، واحتجّوا أيضًا من السنَّة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدّث كذب، وإذا اؤتمن خان» . وقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} ، قال البغوي: أي: عظم ذلك في المقت والبغض عند الله، أي: إن الله يبغض بغضًا شديدًا أن تقولوا ما لا تفعلون، بأن تعدوا من أنفسكم شيئًا ثم لم تفوا به؛ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} أي: يصفّون أنفسهم عند القتال صفًا ولا يزولون عن أماكنهم، {كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} . وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة يضحك الله إليهم: الرجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفّوا في الصلاة، والقوم إذا صفّوا للقتال» . رواه أحمد، وابن ماجة. وقال قتادة: {كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} ألم تر إلى صاحب البنيان كيف لا يحبّ أن يختلف بنيانه، كذلك الله تبارك وتعالى لا يحبّ أن يختلف أمره، وإن الله وصف المؤمنين في قتالهم وصفّهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله فإنه عصمة لمن أخذ به. قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ

الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) } . قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله موسى بن عمران عليه السلام أنه قال لقومه: {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} ، أي: لم توصلون الأذى إليّ وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة؟ وفي هذا تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر ولهذا قال: «رحمة الله على موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» . وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يوصلوا إليه أذى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} . وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ، أي: فلما عدلوا عن إتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى وأسكنها الشكّ والحيرة والخذلان، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، وقال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} ، ولهذا قال تعالى في هذه الآية: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} يعني: التوراة قد بشّرت بي وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأنا مبشّر بمن بعدي وهو

الرسول النبيّ الأميّ العربيّ المكيّ أحمد، فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشّرًا بمحمد، وهو: أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبّوة. وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن لي أسماء أنا: محمد، وأنا: أحمد، وأنا: الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا: الحاشر الذي يحشر الناس على قدميّ، وأنا: العاقب» ؛ وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} الآية. وقال محمد بن إسحاق حدّثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال: «دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام» . {فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ} ، قال ابن كثير: يقول تعالى: أي لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله ويجعل له أندادًا وشركاء، وهو يدعى إلى التوحيد والإِخلاص، ولهذا قال تعالى: ... {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . ثم قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي: يحاولون أن يردّوا الحقّ بالباطل، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه، وكما أن هذا مستحيل كذلك ذلك مستحيل، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .

قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره الله: {الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمدًا {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} يعني: ببيان الحقّ {وَدِينِ الْحَقِّ} ، يعني: وبدين الله، وهو الإسلام. وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} يقول: ليظهر دينه الحقّ الذي أرسل به رسوله على كلّ دين سواه، وذلك عند نزول عيسى ابن مريم، وحين تصير الملّة واحدة، فلا يكون دين غير الإسلام. كما حدثنا ابن حميد قال: حدّثنا مهران عن سفيان عن أبي المقدام ثابت بن هرمز عن أبي هريرة: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} قال: خروج عيسى ابن مريم. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) } . عن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ، فلولا أن الله بينّها ودلّ عليها المؤمنين لتلهّف عليها رجال أن يكونوا يعلمونها، وقد دلّكم الله عليها وأعلمكم إياها فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، قال ابن كثير: أي: من تجارة الدنيا والكدّ لها والتصدّي لها وحدها. ثم قال تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، أي: إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم عليه غفرت لكم

الزلات، وأدخلتكم الجنّات، والمساكن الطيّبات، والدرجات العاليات، ولهذا قال تعالى: {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . ثم قال تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} ، أي: وأزيدكم على ذلك زيادة تحبّونها وهي: {نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} ، أي: إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه، تكفّل الله بنصركم. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . وقوله تعالى: {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} ، أي: عاجل، فهذه الزيادة هي: خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة لمن أطاع الله ورسوله ونصر الحقّ ودينه، ولهذا قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} . وعن قتادة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} ، قال: قد كانت لله أنصار من هذه الأمة تجاهد على كتابه وحقّه، وذُكر لنا أنه بايعه ليلة العقبة اثنان وسبعون رجلاً من الأنصار، ذُكر لنا أن بعضهم قال: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعون على محاربة العرب كلّها أو يسلموا. ذكر لنا أن رجلاً قال: يا نبيّ الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال: «أشترط لربي أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما منعتم منه أنفسكم وأبناءكم» . قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا نبيّ الله؟ قال: «لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة» ففعلوا، ففعل الله. وقال: إن الحواريين كلهم من قريش: أبو بكر، وعمر، وعليّ، وحمزة، وجعفر، وأبو عبيدة، وعثمان بن مظعون، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام. وعن مجاهد في قوله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} ، قال: من يتبعني إلى الله؟ {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} ، عن مجاهد: {فَأَيَّدْنَا

الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} قال: قوّينا {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} من آمن مع عيسى - صلى الله عليه وسلم -. قال النخعيّ: أصبحت حجّة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - كلمة الله وروحه. وعن ابن عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلي أصحابه - وهم في بيت اثنا عشر رجلاً - من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال: إن منكم من سيكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيّكم يُلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شابّ من أحدثهم سنًا فقال: أنا، فقال له: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشابّ، فقال أنا، قال: نعم أنت ذاك، فألقي عليه شبه عيسى، ورُفع عيسى من رَوْزَنَة في البيت إلى السماء، وجاء الطلب من اليهود وأخذوا شبهه فقتلوه وصلبوه، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، فتفرّقوا ثلاث فرق، فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء المسلمون؛ فتظاهرت الطائفتان الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإِسلام طامسًا حتى بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، {فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} يعني: الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى والطائفة التي آمنت في زمن عيسى {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} في إظهار محمد دينهم على دين الكفار {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} . * * *

الدرس الحادي والثمانون بعد المائتين

الدرس الحادي والثمانون بعد المائتين [سورة الجمعة] مدنية، وهي إحدى عشرة آية روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الجمعة: سورة الجمعة والمنافقين) . بسم الله الرحمن الرحيم {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ

وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) } . * * *

قوله عز وجل: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) } . عن قتادة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ} ، قال: كان هذا الحيّ من العرب أمة أمية ليس فيها كتاب يقرؤونه، فبعث الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رحمة وهدى يهديهم به، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} . قال ابن جرير: يقول: ويطهّرهم من دنس الكفر، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} قال قتادة: السنّة. وقال ابن زيد: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} كما صنع بالأولين {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} قال ابن كثير: وذلك أن العرب كانوا قديمًا متمسّكين بدين إبراهيم الخليل عليه السلام، فبدّلوه وغيّروه وقلبوه وخالفوه، واستبدلوا بالتوحيد شركًا وباليقين شكًّا، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله، وكذلك أهل الكتاب قد بدّلوا كتبهم وحرّفوها وغيّروها وأوّلوها، فبعث الله محمدًا صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق، فيه هدايتهم والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من معاشهم ومعادهم، والدعوة لهم إلى ما يقرّبهم إلى الجنة ورضا الله عنهم، والنهي عما يقرّبهم إلى النار وسخط الله تعالى. حاكم فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الأصول والفروع.

وعن مجاهد في قوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} ، قال: الأعاجم. وعن أبي هريرة قال: كنا جلوس عند النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فنزلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} ، قال رجل من هؤلاء: يا رسول الله، قال: فلم يراجعه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حتى سأله مرتين أو ثلاثاً، قال: وفينا سليمان الفارسيّ فوضع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يده على سلمان فقال: «لو كان الإِيمان عند الثريا، لناله رجال من هؤلاء» . رواه ابن جرير. وقال ابن زيد: «هؤلاء» كلّ من كان بعد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، كلّ من دخل في الإسلام من العرب والعجم. وعن مجاهد في قول الله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} ، قال: من ردف الإِسلام من الناس كلُّهم. وعن سهل بن سعد الساعديّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب» . ثم قرأ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} يعني: بقية من بقي من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. رواه ابن أبي حاتم. قال في جامع البيان: وكلّ من أسلم صار منهم. قال: المسلمين كلّهم أمة واحدة. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره. وقوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ، يعني: ما أعطاه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من النبوّة العظيمة، وما خصّ به أمته من بعثه - صلى الله عليه وسلم -. قوله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ

النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) } . عن قتادة: قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} ، قال: يحمل كتابًا لا يدري ماذا عليه ولا ماذا فيه. قال الضحاك: ضرب الله هذا مثلاً للذين أُعطوا التوراة ثم كفروا. وقال ابن عباس: والأسفار: الكتب، فجعل الله مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يتّبع ما فيه كمثل الحمار يحمل كتاب الله الثقيل لا يدري ما فيه، ثم قال: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} الآية. وفي الحديث الصحيح: «من تكلّم يوم الجمعة والإِمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا» . قال ابن كثير: ثم قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: إن كنتم تزعمون أنكم على هدى، وأن محمدًا وأصحابه على ضلالة فادعوا بالموت على الضالّ من الفئتين {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: فيما تزعمونه قال الله تعالى: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: بما يعملون لهم من الكفر والظلم والفجور، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} . وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، كقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} ، قال قتادة: إن الله أذلّ ابن آدم بالموت. وفي معجم الطبراني عن الحسن عن سمرة مرفوعًا: «مثل الذي يفرّ من

الموت كمثل الثعلب تطلبه الأرض بدين فجاء يسعى، حتى إذا أعيا وانبهر دخل جحره فقالت له الأرض: يا ثعلب ديني، فخرج له حصاص، فلم يزل كذلك حتى تقطّعت عنقه فمات» . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) } . عن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، والسعي يا ابن آدم أن تسعى بقلبك وعملك، وهو السير إليها. وعن سالم بن عبد الله قال: كان عمر رضي الله عنه يقرأها: فامضوا إلى ذكر الله. وقال ابن زيد: إذا سمعتم الدعاء الأول فأجيبوا إلى ذلك وأسرعوا ولا تبطئوا، ولم يكن في زمان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلا أذانان: أذان حين يجلس على المنبر، وأذان حين تقام الصلاة. وعن سعيد بن المسيب: {إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، قال: فهي موعظة الإِمام. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة، فإذا خرج الإِمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» . وعن أبي أيوب الأنصاريّ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:

«من اغتسل يوم الجمعة، ومسّ من طيب أهله إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له، ولم يؤذِ أحدًا، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلّي، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى» . رواه أحمد. قال ابن كثير: اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني، وقال: فأما النداء الأول الذي زاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فإنما كان هذا لكثرة الناس، كما رواه البخاريّ عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوّله إذا جلس الإِمام على المنبر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي وبكر، وعمر، فلما كان عثمان بعد زمن وكثر الناس، زاد النداء الثاني على الزوراء، يعني: يؤذّن على الدار التي تسمى الزوراء، وكانت أرفع دار بالمدينة بقرب المسجد. وعن الضحاك في قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} ، قال: هذا إذن من الله، فمن شاء خرج ومن شاء جلس. وقال ابن زيد: أذن الله لهم إذا فرغوا من الصلاة فقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} . وكان عراك بن مالك إذا صلّى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: (اللهمّ إني أجبت دعوتك، وصلّيت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين) . وعن أبي مالك قال: (قدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع، خشوا أن يُسْبَقُوا إليه، قال: فنزلت: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا

وَتَرَكُوكَ قَائِماً} ) . وعن جابر بن عبد الله قال: (كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة، فمرّت عير تحمل الطعام، فخرج الناس إلا اثني عشر رجلاً، فنزلت آية الجمعة) . قال قتادة: لو اتّبع آخرهم أوّلهم لألتهب عليهم الوادي نارًا. وعن مجاهد قال: اللهو: الطبل. وروى أبو داود في المراسيل عن مقاتل بن حيان قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين، حتى إذا كان يوم والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب وقد صلّوا الجمعة، فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة قد قدم بتجارة، يعني: فانفضّوا ولم يبق معه إلا نفر يسير) . قال ابن كثير: وقوله تعالى: {قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ} أي: الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة، {خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ، أي: لمن توكّل عليه وطلب الرزق في وقته. * * *

الدرس الثاني والثمانون بعد المائتين

الدرس الثاني والثمانون بعد المائتين [سورة المنافقون] مدنية، وهي إحدى عشر آية بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ

اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) } . * * *

قوله عز وجل: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) } . قال البغوي: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ} ، يعني: عبد الله بن أبيّ بن سلول وأصحابه، {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} ، لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا و {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} ، سترة {فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ، منعوا الناس عن الجهاد والإِيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا} أقرّوا باللسان، {ثُمَّ كَفَرُوا} إذا خلوا إلى المشركين، {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} ، بالكفر، {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} الإِيمان {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} ، يعني: أن لهم أجسامًا ومناظر، {وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} فتحسب أنه صدق. قال عبد الله بن عباس: كان عبد الله بن أبيّ جسيمًا فصيحًا ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام، {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي: لا يسمعون صوتًا في العسكر بأن نادى مناد، أو انفلتت دابّة، أو أنشدت ضالّة إلا ظنّوا من جبنهم وسوء ظنهم أنهم يرادون بذلك، وظنوا أنهم قد أُتوا لما في قلوبهم من الرعب، ثم

قال: {هُمُ الْعَدُوُّ} هذا ابتداء وخبره {فَاحْذَرْهُمْ} ولا تأمنهم {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} لعنهم الله {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} يصدفون عن الحقّ. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن للمنافقين علامات يُعرفون بها: تحيّتهم لعنة، وطعامهم نهبة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربون المساجد إلا هجرًا، ولا يأتون الصلاة إلا دبرًا، مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون، خشب بالليل صخب بالنهار» . رواه أحمد. قوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) } . قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة -، يعني: مرجعه من أحد - وكان عبد الله بن أبيّ ابن سلول له مقام يقومه كل جمعة، لا ينكر شرفًا له من نفسه ومن قومه، وكان فيهم شريفًا، إذا جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله بين أظهركم، أكرمكم الله به وأعزّكم به فانصروه وعزّروه واسمعوا له وأطيعوا ثم يجلس؛ حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع -، يعني: مرجعه بثلث الجيش - ورجع الناس، قام يفعل ذلك كما كان يفعله، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا: اجلس أي عدوّ الله، لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطّى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بحرًا

أن قمت أشدد أمره، فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ويلك مالك؟ قال: قمت أشدد أمره فوثب عليّ رجال من أصحابه يجذبونني ويعنّفونني، لكأنما قلت بحرًا أن قمت أشدد أمره قالوا: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي. وقال قتادة: (أنزلت هذه الآية في عبد الله بن أُبيّ، وذلك أن غلامًا من قرابته انطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحدّثه بحديث عنه وأمر شديد، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو يحلف ويتبرّأ من ذلك، وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعذلوه، وأنزل الله فيه ما تسمعون، وقيل لعبد الله: لو أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل يلوي رأسه، أي: لست فاعلاً) . وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدّثني محمد بن يحيى بن حبان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة في قصة بني المصطلق: فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقيم هناك، اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاريّ - وكان أجيرًا لعمر بن الخطاب - وسنان بن يزيد، قال ابن إسحاق: فحدّثني محمد بن يحيى بن حبان قال: ازدحما على الماء فاقتتلا، فقال سنان: يا معشر الأنصار، وقال الجهجاه: يا معشر المهاجرين، وزيد ابن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبيّ، فلما سمعها قال: قد شاورونا في بلادنا، والله ما مَثَلُنا وجلابيب قريب هذه إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، ثم أقبل على من عنده من قومه وقال: هذا ما صنعتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو كففتم عنهم لتحوّلوا عنكم من بلادكم إلى غيرها؛ فسمعها زيد بن أرقم رضي الله عنه، فذهب بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غُلَيْمٌ، وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخبره الخبر فقال: عمر يا رسول الله مر عبّاد بن بشر فليضرب عنقه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

«فكيف إذا تحدّث الناس يا عمر أن محمدًا يقتل أصحابه؟ لا، ولكن نادِ يا عمر بالرحيل» . فلما بلغ عبد الله بن أبيّ أن ذلك قد بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه فاعتذر إليه وحلف بالله ما قال ما قال عليه زيد بن أرقم، وكان عند قومه بمكان فقالوا: يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل؛ وراح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهجّرًا في ساعة كان لا يروح فيها، فلقيه أسيد بن الحضير رضي الله عنه فسلّم عليه بتحيّة النبوّة ثم قال: والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبيّ؟ زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعزّ منها الأذلّ» ، قال: فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل؛ ثم قال: أرفق به يا رسول الله، فوالله لقد جاء الله بك وإننا لننظم له الخرز لنتوّجه فإنه ليرى أن قد سلبته ملكًا. فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس حتى أمسوا وليلته حتى أصبحوا، وصدر يومه حتى اشتدّ الضحى، ثم نزل بالناس يشغلهم عما كان من الحديث، فلم يأمن الناس أن وجدوا مسّ الأرض فناموا، ونزلت سورة المنافقين. وفي روايته عند الإِمام أحمد قال: فأتيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فحلف عبد الله بن أبيّ أنه لم يكن شيء من ذلك، فلامني قومي وقالوا: ما أردت إلى هذا. فانطلقت فنمت كئيبًا حزينًا، فأرسل إليّ نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن الله قد أنزل عذرك وصدقك» ، قال: فنزلت هذه الآية: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} حتى بلغ: {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} . وذكر عكرمة وغيره أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله على باب المدينة واستلّ سيفه، فجعل الناس يمرّون عليه، فلما جاء أبوه عبد الله بن أبيّ قال له ابنه: وراءك، فقال: مالك ويلك؟ ! فقال: والله لا تجوز من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد الله بن أبيّ ابنه، فقال ابنه: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعن عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبرّ بوالده منّي، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبيّ يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخل النار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا» . وجعل بعد ذلك اليوم إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه، ويأخذونه ويعنّفونه ويتوعّدونه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم من شأنهم: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلتُه يوم أمرتني بقتله، لأرعدت له آنفٌ لو أمرتُها اليوم بقتله لَقَتَلْتَهُ» ؟ ، فقال عمر: قد والله علمت لأمْرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم بركة من أمري. رواه ابن جرير. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) } . عن الضحاك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} قال: الصلوات الخمس. وعن ابن عباس: قال: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال يجب عليه فيه الزكاة أن يزكّي؟ وإذا أطاق الحجّ أن يحجّ من قبل أن يأتيه الموت

فيسأل ربه الكرّة فلا يُعطاها؟ فقال رجل: أما تتّقي الله؟ يسأل المؤمن الكرّة؟ قال: نعم، أقرأ عليكم قرآنًا؟ فقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} ، قال: أؤدّي زكاة مالي. {وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} ، قال: أحجّ، فقال الرجل: فما الذي يوجب عليّ الحجّ؟ قال: راحلة تحمله، ونفقة تبلغه. وقال الضحاك في قوله: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} ، إلى آخر السورة: هو الرجل المؤمن، نزل به الموت وله مال كثير لم يزكّه ولم يحجّ منه ولم يعط منه حقّ الله يسأل الرجعة عند الموت ليتصدّق من ماله ويزكّي، قال الله: {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ، قال ابن جرير: يقول: والله ذو خبرة وعلم بأعمال عبيده هو يجمعها، محيط لا يخفى عليه شيء، وهو مجازيهم بها، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. * * *

الدرس الثالث والثمانون بعد المائتين

الدرس الثالث والثمانون بعد المائتين [سورة التغابن] مدنية، وهي ثمان عشرة آية وقال عطاء: مكية إلا قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} إلى آخر السورة. بسم الله الرحمن الرحيم {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ

صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) } . * * *

قوله عز وجل: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) } . قال ابن عباس: إن الله خلق بني آدم مؤمنًا وكافرًا، ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنًا وكافرًا، والمعنى: أن الله تعالى علم ما هم عاملون، فخلقهم على ذلك وأمرهم بالإيمان، وهو البصير بمن يستحقّ الهداية ممن يستحقّ الضلال، وهو الشهيد على أعمالهم، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي: بالعدل والحكمة ... {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي: أحسن أشكالكم {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: المرجع والمآب {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، قال ابن جرير: يقول جلّ ثناؤه: والله ذو علم بضمائر صدور عباده وما تنطوي عليه نفوسهم الذي هو أخفى من السر، لا يعزب عنه شيء من ذلك. قوله عز وجل: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ

ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) } . قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن الكفار والمشركين والملحدين، أنهم يزعمون أنهم لا يبعثون {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} أي: لتخبرنّ بجميع أعمالكم، جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي: بعثكم ومجازاتكم، وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم بربّه عزّ وجلّ على وقوع المعاد ووجوده. {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} وهو القرآن ... {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} قال قتادة: هو يوم القيامة، وهو يوم التغابن غبن أهل الجنة أهل النار. وقال مقاتل بن حيان: لا غبن أعظم من أن يدخل هؤلاء الجنة ويذهب بأولئك إلى النار. قال ابن كثير: وقد فسّر بذلك قوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . قوله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ

فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) } . عن ابن عباس: قوله: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ، يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم أنما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وعن أبي ظبيان قال: كنا عند علقمة فقرئ عنده هذه الآية: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ، فسئل عن ذلك فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيسلّم لذلك ويرضى. وفي الحديث المتفق عليه: «عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا، وإن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» . قال ابن كثير: وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ، أمر بطاعة الله ورسوله فيما شرع، وفِعْلِ ما به أمر، وتَرْكِ ما عنه نهى وزجر. ثم قال تعالى: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، أي: إن نكلتم عن العمل، فإنما عليه ما حُمّل من البلاغ، وعليكم ما حُمّلتم من السمع والطاعة، قال الزهريّ: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. ثم قال تعالى مخبرًا أنه: الأحد الصمد الذي لا إله غيره، فقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فالأول خبر عن التوحيد، ومعناه معنى الطلب، أي: وحّدوا الإِلهية له وأخلصوها لديه، وتوكّلوا عليه، كما قال تعالى: ... {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ

وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) } . عن عكرمة قال: سأل رجل ابن عباس عن هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} ، قال: هؤلاء رجال أسلموا فأرادوا أن يأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأوا الناس قد فقهوا في الدين همّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله جلّ ثناؤه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ} الآية. وقال عطاء: (نزلت سورة التغابن كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} نزلت في عوف بن مالك الأشجعيّ، كان ذا أهل وولد فكان إذا أراد أن يغزو، بكوا إليه ورقّقوه، وقالوا: إلى ما تدعنا؟ فيرقّ ويقيم، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} الآية كلها بالمدينة في عوف بن مالك، وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة) . وعن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} الآية، قال: منهم من لا يأمر بطاعة الله ولا ينهى عن

معصيته، وكانوا يبطّئون عن الهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الجهاد. وقال ابن زيد في قوله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ} ، قال يقول: عدوًّا لكم في دينكم فاحذروهم على دينكم. وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} ، أي: اختبار وابتلاء، {وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} . وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذهما فرفعهما فوضعهما في حجره ثم قال: «صدق الله ورسوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} رأيت هذين فلم أصبر، ثم أخذ من خطبته» . رواه ابن جرير وغيره. وعن قتادة: قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} هذه رخصة من الله والله رحيم بعباده. وكان الله جل ثناؤه أنزل قبل ذلك: {اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} وحقّ تقاته أن يطاع فلا يعصى، ثم خفّف الله تعالى ذكره عن عباده فأنزل الرخصة بعد ذلك فقال: ... {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} ، فيما استطعت يا ابن آدم عليها بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فيما استطعتم. وقوله تعالى: {وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ} ، قال ابن كثير: أي: وابذلوا مما رزقكم الله على الأقارب والفقراء والمساكين وذوي الحاجات وأحسنوا إلى خلق

الله كما أحسن الله إليكم يكن خيرًا لكم في الدنيا والآخرة، وإن لا تفعلوا يكن شرًّا لكم في الدنيا والآخرة. قال البغوي: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} حتى يعطي حقّ الله من ماله {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وعن ابن مسعود: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} ، قال: أن يعمد إلى مال غيره فيأكله. وقوله تعالى: {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ، يكفّر عنكم سيّئاتكم {وَاللَّهُ شَكُورٌ} ، أي: يجزي على القليل بالكثير {حَلِيمٌ} يستر ويصفح ويغفر {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: ما يغيب عن أبصار الناس وما يشاهدونه ... {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: العزيز في ملكه، الحكيم في أمره. * * *

الدرس الرابع والثمانون بعد المائتين

الدرس الرابع والثمانون بعد المائتين [سورة الطلاق] مدنية، وهي اثنتا عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ

أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) } . قال ابن كثير: خوطب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أوّلاً تشريفًا وتكريمًا، ثم خاطب الأمة تبعًا فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} . وقال ابن مسعود: الطلاق للعدّة طاهرًا من غير جماع. وعن مجاهد: أن رجلاً سأل ابن عباس فقال له أنه طلّق امرأته مائة، فقال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، ولم تتّق الله فيجعل لك مخرجًا وقرأ هذه الآية: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ} من قبل عدّتهنّ. وعن الحسن في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، قال: طاهرًا من غير حيض، أو حاملاً قد استبان حملها. وعن مجاهد في قول الله عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، قال: لطهرهنّ. وعن الضحاك في قول الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قال: العدّة القرء، والقرء: الحيض، والطاهر: الطاهر من

غير جماع، ثم تستقبل ثلاث حيضات. وعن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} والعدّة أن يطلّقها طاهرًا من غير جماع. وقال طاووس: إذا أردت الطلاق فطلّقها حين تطهر قبل أن تمسّها تطليقة واحدة، لا ينبغي لك أن تزيد عليها، حتى تخلو ثلاثة قروء فإن واحدة تبينها. وقال ابن زيد في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، قال: إذا طلّقها للعدّة كان ملكها بيدك، من طلّق للعدّة جعل الله له في ذلك فسحة، وجعل له ملكًا إن أراد أن يرجع قبل أن تنقضي العدّة ارتجع. وعن السدي في قوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، قال: طاهرًا في غير جماع، فإن كانت لا تحيض، فعند غرّة كلّ هلال. وعن ابن عمر قال: طلَّقت امرأتي وهي حائض، فأتى عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره بذلك فقال: «مره فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلّقها قبل أن يجامعها، وإن شاء أمسكها، فإنها العّدة التي قال الله عز وجل» . رواه ابن جرير وغيره. وعن ابن عباس في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} يقول: لا يطلّقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه، ولكن يتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلّقها تطليقة، فإن كانت تحيض فعدّتها ثلاث حيضات، وإن كانت لا تحيض فعدّتها ثلاث أشهر، وإن كانت حاملاً فعدّتها أن تضع حملها. وعن السدي: قوله: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} ، قال: احفظوا العدّة، {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} حتى تنقضي عدّتهن. وقال ابن جريج: قال عطاء إن أذن لها أن تعتدّ في غير بيته فتعتدّ في بيت أهلها فقد شاركها إذًا في الإثم، ثم تلا: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} ، قلت: هذه الآية في هذه؟ قال: نعم. وقال الضحاك: ليس لها أن تخرج إلا بإذنه، وليس للزوج أن يخرجها ما كانت في العدّة، فإن خرجت فلا سكنى لها ولا نفقة. وعن قتادة: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} وذلك إن طلّقها واحدة أو اثنتين،

لها العدّة والنفقة والسكنى، ما لم يطلقها ثلاثًا. وعن ابن عباس قال الله: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} ، قال: الفاحشة المبيّنة أن تبذوا على أهلها. وفي رواية: الفاحشة هي: المعصية. قال ابن جرير: فالزنا من ذلك، والسرق والبذاء على الأحماء، وخروجها متحوّلة عن منزلها الذي يلزمها أن تعتدّ فيه منه، فأيّ ذلك فعلت وهي في عدّتها فلزوجها إخراجها من بيتها، ذلك لإِتيانها بالفاحشة التي ركبتها. وعن الضحاك في قول الله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} ، يقول: تلك طاعة الله فلا تعتدوها يقول: من كان على غير هذه فقد ظلم نفسه. عن الزهريّ: (أن فاطمة بنت قيس كانت تحت أبي حفص المخزومي، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمّر عليًّا على بعض اليمن، فخرج معه فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها، وأمر عيّاش بن أبي ربيعة المخزوميّ والحارث بن هشام أن ينفقا عليها، فقالا: لا والله ما لها علينا نفقة إلا أن نتكون حاملاً، فأتت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فلم يجعل لها نفقة إلا أن تكون حاملاً واستأذنته في الانتقال فقالت: أين أنتقل يا رسول الله؟ قال: «عند ابن أمّ مكتوم» . وكان أعمى تضع ثيابها عنده ولا يبصرها، فلم تزل هناك حتى أنكحها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد حين مضت عدّتها، فأرسل إليها مروان بن الحكم يسألها عن هذا الحديث فأخبرته، فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة وسنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها، فقالت فاطمة: بيني وبينكم الكتاب قال الله جلّ ثناؤه: ... {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} حتى بلغ: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} ، قالت: فأيّ أمر يحدث بعد الثلاث؟ وإنما هو في مراجعة الرجل امرأته) . رواه ابن جرير. وعن قتادة: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} أي: مراجعة. وقال ابن زيد: لعلّ الله يحدث في قلبك تراجع زوجتك.

وعن الضحاك: قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ، يقول: إذا انقضت عدّتها قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة، أو ثلاثة أشهر إن لم تكن تحيض يقول: فراجع إن كنت تريد المراجعة قبل أن تنقضي العدّة بإمساك بمعروف، والمعروف: أن تحسن صحبتها، أو تسريح بإحسان، والتسريح بإحسان: أن تدعها حتى تمضي عدّتها ويعطيها مهرًا إن كان لها عليه إذا طلّقها، فذلك التسريح بإحسان، والمتعة على قدر الميسرة. وقال ابن عباس: إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدّتها أشهد رجلين كما قال الله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} عند الطلاق وعند المراجعة، فإن راجعها فهي عنده على تطليقتين، وإن لم يراجعها فإذا انقضت عدّتها فقد بانت منه بواحدة، وهي أملك بنفسها، ثم تتزوّج من شاءت، هو أو غيره. وعن السدي في قوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} قال: اشهدوا على الحقّ، {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} ، قال عكرمة: من طلّق كما أمره الله يجعل له مخرجًا. وعن ابن عباس: قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} يقول سبحانه: من كلّ كرب في الدنيا والآخرة، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} ، قال مسروق: من حيث لا يدري. وعن الضحاك في قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} ، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} ، قال: يعني بالمخرج واليسر إذا طلّق واحدة ثم سكت عنها، فإن شاء راجعها بشهادة رجلين عدلين، فذلك اليسر الذي قال الله، وإن مضت عدّتها ولم يراجعها، كان خاطبًا من الخطّاب، وهذا الذي أمر الله به وهكذا طلاق السنَّة؛ فأما من طلّق عند كلّ حيضة فقد أخطأ السنّة، وعصى الربّ وأخذ العسر. وعن سالم بن أبي الجعد في قوله: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} ، قال: نزلت في رجل من أشجع أصابه الجهد فأتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «اتّق الله وأصبر» . فرجع فوجد ابنًا له كان أسيرًا قد فقد من أيديهم وأصاب أعنزًا، فجاء فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل تطيب لي يا رسول الله؟ قال:

«نعم» . وعن الربيع بن خيثم: {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} ، قال: من كل شيء ضاق على الناس. وعن قتادة: {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} ، قال من شبهات الأمور، والكرب عند الموت {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} من حيث لا يأمل ولا يرجو، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، قال البغوي: يتّق الله فيما نابه كفاه ما أهمّه. وروينا أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أنكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خِماصًا وتروح بِطانًا» . {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} ، أي: منفّذ أمره مُمْضٍ في خلقه قضاءه. {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} ، أي: جعل الله لكلّ شيء من الشدّة والرخاء أجلاً ينتهي إليه. وفي حديث ابن عباس: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك» . الحديث. قوله عز وجل: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ

أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) } . عن الزهري: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} ، قال: في كِبَرِها أن يكون ذلك من الكِبَر، فإنها تعتدّ حين ترتاب ثلاثة أشهر، فأما إذا ارتفعت حيضة المرأة وهي شابّة، فإنه يتأنّى بها حتى ينظر حامل هي أم غير حامل، فإن استبان حملها فأجلها أن تضع حملها، فإن لم يستبن حملها فحتى يستبين بها وأقصى ذلك سنة. وعن أبيّ بن كعب أنه قال: يا رسول الله إن عددًا من عدد النساء لم تُذكر في الكتاب: الصغار، والكبار، وأولات الأحمال، فأنزل الله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ؛ وفي رواية: لما نزلت هذه الآية: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قلت: يا رسول الله المتوفّى عنها زوجها، والمطلّقة؟ قال: «نعم» . رواه ابن جرير. وعن عكرمة قال: إن من الريبة المرأة المستحاضة والتي لا يستقيم لها الحيض، تحيض في الشهر مرارًا وفي الأشهر مرة، فعدّتها ثلاثة أشهر. {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} ، قال البغوي: يسهّل عليه أمر الدنيا والآخرة، {ذَلِكَ} ، يعني: ما ذكر من الأحكام، {أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} . وعن السدي في قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} ، قال: المرأة يطلّقها، فعليه أن يسكنها، وينفق عليها. وعن

مجاهد في قوله: {مِّن وُجْدِكُمْ} قال: من سعتكم. وعن سعيد قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} فإن لم تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه. وعن مجاهد: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} ، قال: في المسكن. وعن ابن عباس في قوله: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فهذه المرأة يطلّقها زوجها، فيبتّ طلاقها وهي حامل، فيأمره الله أن يسكنها، وينفق عليها حتى تضع، وإن أرضعت حتى تفطم، وإن أبان طلاقها وليس بها حمل، فلها السكنى حتى تنقضي عدّتها ولا نفقة. وكذلك المرأة يموت عنها زوجها فإن كانت حاملاً أنفق عليها من نصيب ذي بطنها إذا كان ميراث، وإن لم يكن ميراث أنفق عليها الوارث حتى تضع وتفطم ولدها، كما قال الله عز وجل: ... {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِك} فإن لم تكن حاملاً فإن نفقتها كانت من مالها. وعن قتادة: قوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} هي أحقّ بولدها أن تأخذه بما كنت مسترضعًا به غيرها. وعن الضحاك أنه قال في الرضاع: إذا قام على شيء فأمّ الصبيّ أحقّ به، فإن شاءت أرضعته وإن شاءت تركته، إلا أن لا يقبل من غيرها، فإذا كان كذلك أجبرت على رضاعه. وعن السدي في قوله: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ} ، قال: اصنعوا المعروف فيما بينكم {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} قال: إن أبت الأم أن ترضع ولدها إذا طلّقها أبوه، التمس له مرضعة أخرى؛ الأم أحقّ إذا رضيت من أجر الرضاع بما يرضى به غيرها، فلا ينبغي لها أن يُنتزع منها. وقال سفيان: إن هي أبت أن ترضعه ولم تُوَاتِكَ فيما بينها وبينك، عاسرتك في الأجر فاسترضع له أخرى. وقال ابن زيد في قول الله: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى * لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} قال: فرض لها من قدر ما يجد، فقالت: لا أرضى هذا، قال: وهذا بعد الفراق، فأما وهي زوجته فإنها ترضع له طائعة ومكرهة إن شاءت وإن أبت، فقال لها: ليس

لي زيادة على هذا إن أحببت أن ترضعي بهذا فأرضعي، وإن كرهت استرضعت ولدي، فهذا قوله: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} . وعن السدي: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} ، قال: من سعة موجده، {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} ، قال: من قتر عليه رزقه {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} قال ابن زيد: فرض لها من قدر ما يجد. وعن مجاهد: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} قال: على المطلّقة إذا أرضعت له. وعن السدي في قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} قال يقول: لا يكلّف الفقير مثل ما يكلف الغنيّ. وعن سفيان: ... {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} بعد الشدّة الرخاء. وعن أبي سنان قال: سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة فقيل له: (إنه يلبس الغليظ من الثياب ويأكل أخشن الطعام. فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول: انظر ما يصنع إذا هو أخذها؛ فما لبث أن لبس ألين الثياب، وأكل أطيب الطعام فجاء الرسول فأخبره فقال: رحمه الله تأوّل هذه الآية: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} . قوله عز وجل: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) } . عن السدي في قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} قال: غيّرت وعصت. وعن ابن عباس: قوله: {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً} يقول: لم

نرحم، {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} قال السدي: عقوبة أمرها. وقال ابن زيد: ذاقت عاقبة ما عملت من الشرّ {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} قال مجاهد: جزاء أمرها {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ} قال السدي: ذوي العقول {الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} قال ابن كثير: يعني: القرآن كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وقوله تعالى: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} ، قال بعضهم: {رَّسُولاً} منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة، لأن الرسول هو الذي بلّغ الذكر؛ وقال ابن جرير: الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر، يعني: تفسيرًا له، ولهذا قال تعالى: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} ، أي: في حالة كونها بيّنة واضحة جليّة، {لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ، وقال تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} أي: من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإِيمان والعلم، {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} ، قال البغويّ: يعني: الجنة التي لا ينقطع نعيمها؛ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى: ذلك الله الذي خلق سبع سماوات لا ما تعبده المشركون من الآلهة والأوثان التي لا تقدر على خلق شيء. وعن ابن مسعود قال: (خلق الله سبع سماوات غلظ، كلّ واحدة مسيرة خمسمائة عام، وبين

كلّ واحدة منهنّ خمسمائة عام، وفوق السبع السماوات الماء والله جلّ ثناؤه فوق الماء، لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم، والأرض سبع وبين كلّ أرض خمسمائة عام) ، وغلظ كلّ أرض خمسمائة عام. وعن مجاهد قوله: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} ، قال: بين الأرض السابعة إلى السماء السابعة. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي: سبعًا أيضًا، كما ثبت في الصحيحين: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين» . وفي صحيح البخاري: «خسف به إلى سبع أرضين» . ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم، فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع وخالف القرآن والحديث. قال البغوي: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} في العدد، {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} بالوحي من السماء السابعة إلى الأرض السفلى. قال أهل المعاني: هو ما يدبّر فيهنّ من عجيب تدبيره، فينزل المطر، ويخرج النبات، ويأتي بالليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوان على اختلاف هيئاتها وينقلها من حال إلى حال. وقال قتادة: في كلّ أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه. {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} فلا يخفى عليه شيء. * * *

الدرس الخامس والثمانون بعد المائتين

الدرس الخامس والثمانون بعد المائتين [سورة التحريم] مدنية، وهي اثنتا عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ

يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً (5) } . عن زيد بن أسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه، قال: فقالت: أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي؟ فجعلها عليه حرامًا، فقالت: يا رسول الله كيف تحرّم عليك الحلال؟ فحلف لها بالله لا يصيبها، فأنزل الله عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} قال زيد: فقوله: «أنت عليّ حرام» لغو. رواه ابن جرير. وعن مسروق قال: آلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحرّم، فعوتب في التحريم وأُمر بالكفّارة في اليمين. وعن ابن عباس في قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أمر الله النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين إذا حرّموا شيئًا مما أحلّ الله لهم، أن يكفّروا أيمانهم بإطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، وليس يدخل ذلك في طلاق. وعن سعيد بن جبير أن ابن عباس كان يقول: في الحرام يمين يكفّرها، وقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ

فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . وعن قتادة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ؟ الآية قال: (كان حرّم فتاته القبطيّة - أم ولده إبراهيم يقال لها مارية - في يوم حفصة، وأسرّ ذلك إليها، فاطّلعت عليه عائشة، وكانتا تظاهران على نساء النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فأحلّ الله له ما حرّم على نفسه، فأمر أن يكفّر عن يمينه، عوقب في ذلك فقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . قال قتادة: وكان الحسن يقول: حرّمها عليه فجعل الله فيها كفارة يمين) . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي عليّ حرامًا، قال: كذبت ليست عليك بحرام، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ؟ أغلظ الكفّارات عتق رقبة) . رواه النسائي. وعن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ؟ قال حرّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرّيته. قال ابن كثير: ومن ها هنا ذهب من ذهب من الفقهاء ممن قال بوجوب الكفّارة على من حرّم جاريته أو زوجته، أو طعامًا أو شرابًا، أو ملبسًا أو شيئًا من المباحات، وهو مذهب الإِمام أحمد وطائفة؛ وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفّارة فيما عدا الزوجة والجارية، إذا حرّم عينيهما أو أطلق التحريم فيهما، في قول؛ فأما إذا نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الأمة، نفذ فيهما. انتهى. وعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث عند زينب بنت جَحش، ويشرب عندها عسلاً، فتواطأت أنا وحفصة: أنّ أَيَّتَنَا دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلتقل له: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له

فقال: «لا، بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدًا» . وفي رواية: فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} لعائشة وحفصة. ... {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} لقوله: «بل شربت ... عسلاً» . رواه البخاري. وقال ابن زيد في قوله: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} قوله لها: «لا تذكريه» . {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} وكان كريمًا - صلى الله عليه وسلم - {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا} ؟ ولم تشكّ أن صاحبتها أخبرت عنها، {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} . وعن ابن عباس قوله: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} يقول: زاغت قلوبكما، يقول: قد أثمت قلوبكما وعن قتادة: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي: مالت قلوبكما. قال في جامع البيان: أي: إن تتوبا فقد حقّ لكما ذلك، فإنه قد عدلت عن الحقّ قلوبكما وصدر منكما ما يوجب التوبة. {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} بما يسوءه {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ولم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - اللتين قال الله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} حتى يحجّ عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإِداوة، فتبرّز ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضّأ، فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اللتان قال الله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ؟ فقال عمر: واعجبًا لك يا ابن عباس - قال الزهريّ كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه، قال: - هي عائشة وحفصة. قال: ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنا معشر قرش قومًا تغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في دار

أمية بن زيد بالعوالي، قال: فغضبت يومًا على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، قال: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: نعم. قلت: وتهجره إحداكنّ اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسر، أفتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تسأليه شيئًا وسليني من مالي ما بدا لك، ولا يغرّنّك أن كانت جارتك هي أوسم وأحبّ إلى رسول الله منك - يريد عائشة - قال: وكان لي جار من الأنصار وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل يومًا وأنزل يومًا، فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك، وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يومًا ثم أتى عِشاء فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم، فقلت: وما ذاك؟ جاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول، طلّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظنّ هذا كائنًا؛ حتى إذا صلّيت الصبح شددت عليّ ثيابي، ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت: أطلّقكنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: لا أدري، هو هذا معتزل في هذه المشربة، فأتيت غلامًا له أسود فقلت: استأذن لعمّه، فدخل الغلام ثم خرج إليّ فقال: ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست عنده قليلاً ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إليّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، فخرجت فجلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إليّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، فولّيت مدبرًا فإذا الغلام يدعوني فقال: ادخل قد أذن لك، فدخلت فسلّمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذ هو متّكئ على رمل حصير - وفي رواية رمال حصير - قد أثّر في جنبه، فقلت: أطلّقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه

إليّ وقال: «لا» . فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش قومًا نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يومًا فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسرت، أفتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ فتبسّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت: لا يغرّنّك أن كانت جارتك هي أوسم وأحبّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك، فتبسّم أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: «نعم» . فجلست فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت في البيت شيئًا يرد البصر إلا أهبة مقامه فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسّع على أمتك، فقد وسّع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسًا وقال: «أفي شكّ أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا» . فقلت: استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم أن لا يدخل عليهنّ شهرًا من شدّة موجدته عليهنّ، حتى عاتبه الله عز وجل) . متفق عليه. واللفظ لأحمد. وفي رواية لمسلم: (لما اعتزل نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه دخلت المسجد، فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، وذلك قبل أن يؤمر بالحجاب، فقلت: لأعلمّن ذلك اليوم. فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة ووعظه إياهما، إلى أن قال فقالت: يا رسول الله ما يشقّ عليك من أمر النساء؟ فإن كنت طلّقتهنّ فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكاييل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلّما تكلّمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدّق قولي، فنزلت هذه الآية: آية التخيير {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ

أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} ، {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} فقلت: أطلّقتهنّ؟ قال: «لا» . فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلّق نساءه، ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. وعند البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الغيرة عليه فقلت لهن: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} فنزلت هذه الآية. وعند أبي حاتم قال عمر بن الخطاب: بلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فاستقريتهنّ أقول: لتكفّنّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ليبدلنّه الله أزواجًا خيرًا منكنّ، حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين -، يعني: أم سلمة - فقالت: يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ؟ فأمسكت، فأنزل الله عز وجل: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} . وقال ابن زيد في قول الله: {قَانِتَاتٍ} ، قال: مطيعات. وعن ابن عباس في قوله: {سَائِحَاتٍ} قال: صائمات. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} أي: منهن ثيّبات وأبكارًا، ليكون ذلك أشهى إلى النفس، فإن التنوّع يبسط النفس، ولهذا قال: {ثَيِّبَاتٍ} ومنهن {وَأَبْكَاراً} . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (7)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) } . عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} ، قال: علّموهم وأدّبوهم. وقال ابن عباس: اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومروا أهليكم بالذكر ينجّيكم الله من النار. وقال قتادة: مروهم بطاعة الله، وانهوهم عن معصية الله. وعن قتادة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} ، قال: هي الصادقة الناصحة. وقال عمر بن الخطاب: هو العبد يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه أبدًا. وقال مجاهد: يستغفرون ثم لا يعودون. وعن أبيّ بن كعب قال: (قيل لنا أشياء تكون في آخر هذه الأمة عند اقتراب الساعة منها: نكاح الرجل امرأته أو أمته في دبرها، وذلك مما حرّم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله، ومنها نكاح المرأة المرأة، وذلك مما حرّم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله، وليس لهؤلاء صلاة ما أقاموا على هذا حتى يتوبوا إلى الله توبة نصوحًا) . قال زرّ فقلت لأبيّ بن كعب: فما التوبة النصوح؟ فقال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: «هو الندم على الذنب حين يفرط منك، فتستغفر الله بندامتك منه عند الحاضر، ثم لا تعود إليه أبدًا» . رواه ابن أبي حاتم. قال العلماء: التوبة النصوح: أن يقلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل؛ ثم إن كان الحقّ لآدمي ردّه إليه بطريقة. {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} قال البغوي: أي: لا يعذّبهم الله بدخول النار، {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} على الصراط {يَقُولُونَ} إذا طفئ نور المنافقين {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ... (12) } . عن قتادة: قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} ، قال: أمر الله نبيّه عليه السلام أن يجاهد الكفار بالسيف، ويغلظ على المنافقين بالحدود {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} ، قال ابن جرير: يقول: واشدد عليهم في ذات الله {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . وعن ابن عباس: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} ، قال: كان خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تطلع على سرّ نوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، فكان ذلك من أمرها؛ وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدًا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ

شَيْئاً} . وقال عكرمة: كانت خيانتهما أنهما كانتا مشركتين {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} ، قال قتادة: لم يغن صلاح هذين عن هاتين شيئًا، وامرأة فرعون لم يضرّها كفر فرعون. قال في جامع البيان: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ} أي: جعل امرأة نوح وامرأة لوط مثلاً لهم، أو مثّل لهم مثلاً مثل امرأة نوح في أن قرابة أحد وإن كان نبيًّا لا ينفع مع الكفر؛ قيل: هذا تخويف لعائشة وحفصة. انتهى وقال بعضهم: وفي ضمن التمثيلين تعريض بما مرّ في أول السورة من حال عائشة وحفصة وإشارة إلى أن من حقّهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين لا الكافرتين. وقال البغوي: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} لم يدفعا عنهما مع نبوّتهما عذاب الله، {وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} قطع الله بهذه الآية طمع كلّ من يركب المعصية أن ينفعه صلاح غيره؛ ثم أخبر أن معصية غيره لا تضرّه إذا كان مطيعًا فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} ، وهي: آسية بنت مزاحم. قال المفسرون: لما غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون، فلما تبيّن لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس. قال سلمان: (كانت امرأة فرعون تعذّب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلّتها الملائكة {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} فكشف الله لها عن بيتها في الجنة حتى رأته) . وفي القصة: أن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها، فلما أتوها بالصخرة {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} فأبصرت بيتها في الجنّة من درّة وانتزع روحها، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألمًا. قال ابن كثير: فقولها: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} ، قال العلماء:

اختارت الجار قبل الدار {وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} أي: خلّصني منه فإني أبرأ إليك من عمله {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} ، قال قتادة: يقول: آمنت بعيسى وهو كلمة الله {وَكُتُبِهِ} يعني: التوراة والإِنجيل {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} من المطيعين. وفي الصحيح عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا: آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» . وعن ابن عباس قال: خطّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض أربعة خطوط وقال: «أتدرون ما هذا» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» . رواه أحمد. وروى ابن عساكر عن ابن عمر قال: (جاء جبريل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمرّت خديجة فقال: إن الله يقرئها السلام، ويبشّرها ببيت في الجنة من قصب، بعيد من اللهب، لا نَصَبَ فيه ولا صَخَبَ، من لؤلؤة جوفاء، بين بيت مريم بنت عمران، وبيت آسية بنت مزاحم) . والله أعلم. * * *

الدرس السادس والثمانون بعد المائتين

الدرس السادس والثمانون بعد المائتين [سورة الملك] مكية، وهي ثلاثون آية روى أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى غفر له: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} » . بسم الله الرحمن الرحيم {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ

كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ (30) } . * * *

قوله عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) } . قال ابن كثير: يمجّد تعالى نفسه الكريمة ويخبر أنه بيده الملك، أي: هو المتصرّف في جميع المخلوقات بما يشاء، لا معقب لحكمه ولا يُسأل عما يفعل لقهره وحكمته وعدله، ولهذا قال تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وعن قتادة في قوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ، قال: أذلّ الله ابن آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ودار فناء، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء. وقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ، قال الفضيل بن عياض: {أَحْسَنُ عَمَلاً} أخلصه وأصوبه، وقال: العمل لا يُقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، فالخالص إذا كان لله، والصواب إذا كان على السنّة. {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} قال قتادة: من اختلاف {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} يقول: هل ترى من خلل يا ابن آدم؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً} قال: صاغرًا {وَهُوَ حَسِيرٌ} ، يقول: معيّ لم ير خللاً ولا تفاوتًا، {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} قال: إن الله جلّ ثناؤه إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال:

خلقها زينة للسماء الدنيا ورجومًا للشيطاطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن ينال منها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظّه، وأضاع نصيبه وتكلّف ما لا علم به. قوله عز وجل: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) } . عن مجاهد: {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ} يقول: تغلي كما يغلي القدر {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} ، قال ابن عباس: تكاد يفارق بعضها بعضًا وتتفطر. وقال ابن زيد: {مِنَ الْغَيْظِ} على أهل معاصي الله غضبًا لله وانتقامًا له. وعن ابن عباس: قوله: {فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} ، يقول: بعدًا. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره إن الذين يخافون ربهم بالغيب يقول وهم لم يروه: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} يقول: لهم عفو من الله عن ذنوبهم {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} ، يقول وثواب من الله لهم على خشيتهم إياه بالغيب جزيل. وقال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه، إذا كان غائبًا عن الناس، فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات حيث لا يراه أحد إلا الله تعالى، بأنه له {مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} ، أي: تكفّر عنه ذنوبه، ويجازى بالثواب الجزيل، كما ثبت في الصحيحين: «سبعة يظلّهم الله في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلا ظلّه» . فذكر منهم: «رجلاً دعته امرأة

ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجلاً تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» . قوله عز وجل: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (22) } . قال البغوي: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، قال ابن عباس: نزلت في المشركين، كانوا ينالون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيخبره جبريل عليه السلام بما قالوا، فقال بعضهم لبعض: أسرّوا قولكم كي لا يسمع إله محمد، فقال الله جلّ ذكره: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} ألا يعلم ما في الصدور مَنْ خَلَقَها؟ {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً} سهلاً لا يمتنع المشي فيها، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} ، قال مجاهد: في طرقها وفجاجها، {وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} ، أي: وإليه تبعثون من قبوركم. ثم خوّف الكفار فقال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} ، قال ابن عباس: أي: عذاب من في السماء إن عصيتموه {أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ

تَمُورُ} قال الحسن: تتحرّك بأهلها {أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} ريحًا ذات حجارة كما فعل بقوم لوط، {فَسَتَعْلَمُونَ} في الآخرة وعند الموت {كَيْفَ نَذِيرِ} ، أي: إنذاري إذا عانيتم العذاب {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} ، أي: إنكاري عليهم بالعذاب، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} تصفّ أجنحتها في الهواء {وَيَقْبِضْنَ} أجنحتهنّ بعد البسط {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في حال القبض والبسط {إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} . {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ} ؟ استفهام إنكار {يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ} يمنعكم من عذابه، {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} ، أي: في غرور من الشيطان. {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} أي: من الذي يرزقكم المطر إن أمسك الله عنكم؟ {بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ} تماد في الضلال {وَنُفُورٍ} تباعد من الحقّ. ثم ضرب مثلاً فقال: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ} راكبًا رأسه في الضلالة والجهالة، أعمى العين والقلب لا يبصر يمينًا ولا شمالاً وهو الكافر؛ قال قتادة: راكبًا على المعاصي في الدنيا، فحشره الله على وجهه يوم القيامة {أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً} معتدلاً يبصر الطريق وهو {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو المؤمن؛ قال قتادة: يمشي يوم القيامة سويًّا. انتهى ملخصًا. قوله عز وجل: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ (30) } .

قال ابن كثير: وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ} أي: ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} أي: العقول والإِدراك {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي: قلّما تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره، {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} ، أي: بثّكم ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها، مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم وألوانكم، وحلاكم وأشكالكم وصوركم، {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ، أي: تجمعون بعد هذا التفرّق والشتات، يجمعكم كما فرّقكم ويعيدكم كما بدأكم. ثم قال تعالى مخبرًا عن الكفار المنكرين للمعاد المستبعدين وقوعه {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، أي: متى يقع هذا الذي تخبرنا بكونه من الاجتماع بعد هذا التفرق؟ {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} أي: لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلا الله عز وجل، لكنه أمرني أن أخبركم أنّ هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} ، أي: وإنما عليّ البلاغ، وقد أدّيته إليكم. قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، أي: لما قامت القيامة وشاهدها الكفار ورأوا أن الأمر كان قريبًا، لأن كل ما هو آتٍ آتٍ وإن طال زمنه فلما وقع ما كذّبوا به ساءهم ذلك لما يعلمون ما لهم هناك من الشر، أي: فأحاط بهم ذلك وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وبدا لهم سيّئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ: {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي: تستعجلون. {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ؟ أي: خلّصوا أنفسكم فإنه لا منقذ لكم من الله إلا بالتوبة والإِنابة والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم

وقوع ما تتمنّون لنا من العذاب والنكال، فسواء عذّبنا الله أو رحمنا فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم. ثم قال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} أي: آمنّا بربّ العالمين الرحمن الرحيم، وعليه توكّلنا في جميع أمورنا، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} ولهذا قال تعالى: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ، أي: منا ومنكم، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة. ثم قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} ، أي: ذاهبًا في الأرض إلى أسفل فلا ينال بالفؤوس الحداد، ولا السواعد الشداد، والغائر عكس النابع، ولهذا قال تعالى: {فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ} ؟ ، أي: نبع سائح جار على وجه الأرض، أي: لا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل، فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض بحسب ما يحتاج العباد إليه من القلّة والكثرة، فللَّه الحمد والمنّة. * * *

الدرس السابع والثمانون بعد المائتين

الدرس السابع والثمانون بعد المائتين [سورة نون] مكية، وهي اثنتان وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ

بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ (46) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (52) } . * * *

قوله عز وجل: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) } . عن ابن عباس: قال: (أول ما خلق الله من شيء القلم، فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء، فخلقت منه السماوات، ثم خلق النون فبسطت الأرض على ظهر النون، فتحرّكت الأرض فمادت، فأثبتت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض، وقرأ: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} ) . وعن مجاهد قال: كان يقال: النون الحوت الذي تحت الأرض السابعة. وقال ابن زيد في قول الله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} قال: هذا قسم أقسم الله به {وَمَا يَسْطُرُونَ} وما يكتبون.

قال ابن القيم: (أقسم بالكتاب وآلته وهو القلم، والأقلام متفاوتة في الرتب، فأعلاها وأجلّها قدرًا: قلم القدر السابق الذي كتب الله به مقادير الخلائق. الثاني: قلم الوحي هو: الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه. الثالث: قلم التوقيع عن الله ورسوله، وهو: قلم الفقهاء والمفتين. الرابع: قلم طبّ الأبدان. الخامس: قلم التوقيع عن الملوك أو نوّابهم. السادس: قلم الحساب. السابع: قلم الحكم الذي تثبت به الحقوق. الثامن: قلم الشهادة. التاسع: قلم التعبير. العاشر: قلم تواريخ العالم. الحادي عشر: قلم اللغة. الثاني عشر: القلم الجامع، وهو قلم الردّ على المبطلين ورفع سنّة المحقّين) . انتهى ملخصًا. {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} ، قال البغوي: هذا جواب لقولهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} . وقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} ، قال ابن جرير: غير منقوص ولا مقطوع؛ {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، قال ابن عباس: يقول: إنك على دين عظيم وهو الإسلام. وقالت عائشة: كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن. وقال ابن زيد في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قال: أدب القرآن. قال ابن كثير: ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سجيّة له، وخلقًا تطبّعه وترك طبعه الجبليّ، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم، وكلّ خلق جميل. وفي الصحيحين عن أنس قال: (خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما

قال لي: أفّ قطّ، ولا قال لشيء فعلته: لِمَ فعلتَه؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلتَه) . وعن الضحاك في قوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} يقول: ترى ويرون {بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ} يقول: إنكم أولى بالشيطان {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} قال مجاهد: ودّوا لو تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحقّ فيما يسألونك. وعن ابن عباس: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ} ، والمهين: الكذّاب، {هَمَّازٍ} ، يعني: الاغتياب؛ وقال قتادة: يأكل لحوم المسلمين، {مَّشَّاء بِنَمِيمٍ} ينقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض، {مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: بخيل بالمال ضنين به عن الحقوق {مُعْتَدٍ} ، قال قتادة: معتد في عمله، {أَثِيمٍ} بربّه {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} ، قال الحسن: فاحش الخلق لئيم الضريبة. وروى ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تبكي السماء من عبد أصحّ الله جسمه، وأرحب جوفه، وأعطاه من الدنيا معصمًا، فكان للناس ظلومًا، فذلك العتلّ الزنيم» . قال ابن جرير: ومعنى (بعد) في هذا الموضوع معنى (مع) ، أي: مع العتلّ زنيم. وقال سعيد بن جبير: الزنيم: الذي يُعرف بالشّر كما تُعرف الشاة بزنمتها الملصق. وقال سعيد بن المسيّب: هو الملصق على القوم ليس منهم. وقال الكلبيّ: هو الأخنس بن شريق، وأصله من ثقيف وعداده في بني زهرة. وقال أبو رزين: الزنيم الفاجر. وفي الصحيحين عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعّف؛ ألا أنبئكم بأهل النار؟ كلّ عتلّ جوّاظ مستكبر» . قال أهل اللغة: الجوّاظ الجموع المنوع.

وقوله تعالى: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ، قال ابن كثير: يقول تعالى: هذا مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين، كفر بآيات الله عز وجل وأعرض عنها، وزعم أنها كذب. وعن قتادة: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} ، قال: سنسمه على أنفه. وعن عبد الله بن عمرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن العبد يكتب مؤمنًا أحقابًا ثم أحقابًا ثم يموت والله عليه ساخط، وإن العبد يكتب كافرًا أحقابًا ثم أحقابًا ثم يموت والله عليه راض، ومن مات همّازًا لمّازًا ملقّبًا للناس كان علامته يوم القيامة أن يسمه الله على الخرطوم من كلا الشفتين» . رواه ابن أبي حاتم. قوله عز وجل: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) } . قال البغوي: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} ، يعني: اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع، {كَمَا بَلَوْنَا} ، ابتلينا، {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} . وقال قتادة: كانت الجنة لشيخ وكان

يتصدّق، فكان بنوه ينهونه عن الصدقة، وكان يمسك قوت سنة وينفق ويتصدّق بالفضل، فلما مات أبوهم غدوا عليها فقالوا: {لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ} . وقال سعيد بن جبير: هي أرض باليمن يقال لها: خضروان من صنعاء على ستة أميال. وعن ابن عباس في قوله: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} ، قال: الصريم: الليل؛ وفي رواية كالرماد الأسود. وعن قتادة: قوله: {فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} ، يقول: يسرّون، {أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} ، قال مجاهد: على جدّ قادرين في أنفسهم. وقال سفيان: على حنق. {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} ، قال قتادة: أي: أضللنا الطريق، {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} ، بل جوزينا فحُرمنا. {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} ، قال ابن عباس: أَعْدَلُهُمْ، {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} ، قال مجاهد: يقول: تستثنون، فكان التسبيح فيهم الاستنثاء. قال ابن جرير: هو قول القائل: إن شاء الله. قال ابن كثير: وقيل معناه، أي: هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم؟ {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ، أتوا بالطاعة حيث لا تنفع. {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} ، قال ابن كثير: قيل: رغبوا في بدلها لهم في الدنيا. وقيل: احتبسوا ثوابها في الدار الآخرة. وقال البغوي: قال عبد الله بن مسعود: بلغني أن القوم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق، فأبدلهم بها جنة يقال لها: الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منه عنقودًا واحدًا. قال الله تعالى: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} أي: كفعلنا

بهم نفعل بمن تعدّى حدودنا وخالف أمرنا ... {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . قال ابن كثير: أي: هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم، وعذاب الآخرة أشقّ. وقال ابن جرير: وقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ، يقول: لو كان هؤلاء المشركون يعلمون أن عقوبة الله لأهل الشرك به أكبر من عقوبته لهم في الدنيا لارتدعوا وتابوا وأنابوا، ولكنهم بذلك جهّال لا يعلمون. قوله عز وجل: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) } . قال البغوي: ثم أخبر بما أعدّه للمتقين فقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ، فقال المشركون: إنا نعطى في الآخرة أفضل مما تعطون، فقال الله تكذيبًا لهم، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ} نزل من عند الله {فِيهِ تَدْرُسُونَ} تقرؤون {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ} في ذلك الكتاب {لَمَا تَخَيَّرُونَ} تختارون وتشتهون {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ} عهود ومواثيق {عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} مؤكّدة عاهدناكم عليها فاستوثقتم بها منا فلا تنقطع إلى يوم القيامة {إِنَّ ... لَكُمْ} كَسَرَ (إنّ) لدخول اللام في الخير في ذلك العهد {لَمَا تَحْكُمُونَ} لأنفسكم من الخير والكرامة.

{سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} قال ابن كثير: أي: قل لهم: من هو المتضمنّ المتكفّل بهذا؟ قال ابن عباس: يقول: أيّهم بذلك كفيل؟ {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء} أي: من الأصنام والأنداد، {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} . {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} ، قال ابن عباس: (عن أمر عظيم، يقول: حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال، وكشفه دخول الآخرة وكشف الأمر عنه وهي أشدّ ساعة في يوم القيامة) . وعن عبد الله بن مسعود قال: (ينادي مناد يوم القيامة: أليس عدلاً من ربكم أن خلقكم ثم صوّركم ثم رزقكم ثم تولّيتم غيره أن يولي كلّ عبد منكم ما تولّى؟ فيقولون: بلى. قال: فيمثل لكلّ قوم آلهتهم التي كانوا يعبدونها حتى توردهم النار، ويبقى أهل الدعوة فيقول بعضهم لبعض: ماذا تنتظرون؟ ذهب الناس، فيقولون: ننتظر أن ينادي بنا، فيجيء إليهم في صورة، قال: فذكر منها ما شاء الله، فيكشف عما شاء الله أن يكشف، قال: فيخرّون سجّدًا إلا المنافقين، فإنه يصير فقار أصلابهم عظمًا واحدًا مثل صياصي البقر، فيقال لهم: ارفعوا رؤوسكم إلى نوركم) ؛ ثم ذكر قصة فيها طول. رواه ابن جرير. وفي رواية قال: (يتمثّل الله للخلق يوم القيامة حتى يمرّ المسلمون، فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله لا نشرك به شيئًا فينتهرهم مرّتين أو ثلاثًا، فيقول: هل تعرفون ربّكم؟ فيقولون: سبحانه، إذا اعترف إلينا عرفناه، قال: فعند ذلك يكشف عن ساق فلا يبقى مؤمن إلا خرّ لله ساجدًا، ويبقى المنافقون ظهورهم طبق واحد كأنما فيها السفافيد، فيقولون: ربنا، فيقول: قد كنتم تدعون إلى السجود وأنتم سالمون) .

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدريّ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا» . وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يأخذ الله للمظلوم من الظالم، حتى إذا لم يبق تبعه لأحد عند أحد، جعل الله ملكًا من الملائكة على صورة عزير، فتتبعه اليهود، وجعل الله ملكًا من الملائكة على صورة عيسى فتتبعه النصارى، ثم نادى مناد أَسْمَعَ الخلائق كلّهم، فقال: ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله، فلا يبقى أحد كان يعبد من دون الله شيئًا، إلا مثّل له آلهته بن يديه، ثم قادتهم إلى النار، حتى إذا لم يبق إلا المؤمنون فيهم المنافقون، قال الله جلّ ثناؤه: أيها الناس ذهب الناس، ذهب الناس، الحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون: والله مالنا إله إلا الله، وما كنا نعبد إلهًا غيره، وهو الله ثبّتهم، ثم يقول لهم الثانية مثل ذلك: الحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون: مثل ذلك، فيقال: هل بينكم وبين ربّكم من آية تعرفونها؟ فيقولون: نعم، فيتجلّى لهم من عظمته ما يعرفونه أنه ربّهم فيخرّون له سجّدًا على وجوههم، ويقع كل منافق على قفاه، ويجعل الله أصلابهم كصياصي البقر» . وعن سعيد بن جبير في قوله: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} ، قال: كانوا يسمعون: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، فلا يجيبوك. قوله عز وجل: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ (46) أَمْ

عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (52) } . قال البغوي: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} ، أي: فدعني والمكذّبين بالقرآن وخلّ بيني وبينهم. قال الزجاج: معناه لا تشغل قلبك وَكِلْهُ إليّ فإني أكفيك أمره {سَنَسْتَدْرِجُهُم} سنأخذهم بالعذاب من حيث لا يشعرون. وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد - صلى الله عليه وسلم -: كِلْ يا محمد أمر هؤلاء المكذّبين بالقرآن إليّ، وهذا كقول القائل لآخر غيره يتوعّد رجلاً: دعني وإياه، وخلّني وإياه، بمعنى أنه من وراء مساءته. ... {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} ، قال ابن جرير: قويّ شديد. وفي الصحيحين عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} . قال في جامع البيان: سمّى الاستدراج كيدًا لأنه في صورة الكيد. {أَمْ تَسْأَلُهُمْ} ، يا محمد، {أَجْراً} ، على الهداية، {فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} ، غرامة مثقلون بحملها فلذا يعرضون عنك؛ و (أم) منفصلة والهمز للإنكار {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ} علم الغيب {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ، فلا يحتاجون إليك وإلى علمك. {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} ، بإمهالهم، {وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} ، يونس عليه السلام في العجلة والضجر، {إِذْ نَادَى} في بطن الحوت، {وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن

رَّبِّهِ} بقبول توبته {لَنُبِذَ بِالْعَرَاء} ، لطرح بالقضاء من بطن الحوت {وَهُوَ مَذْمُومٌ} ، حال كونه مجرمًا ملومًا، يعني: لمّا تداركه برحمته نبذه على حال غير حال الذم واللوم {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} اصطفاه {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} من الأنبياء. وعن ابن عباس في قوله: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} ، يقول: ينفذونك بأبصارهم من شدّة النظر، وعن ابن مسعود أنه كان يقرأ: (وإن يكاد الذين كفروا ليزهقونك) . وقال الكلبيّ {لَيُزْلِقُونَكَ} ليصرعونك. وعن الضحاك: ينفذونك بأبصارهم من العداوة والبغضاء. وقال ابن كثير: أي: يعينونك بأبصارهم، بمعنى: يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك وحمايته إياك منهم؛ وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حقّ بأمر الله عز وجل. وعن ابن عباس عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «العين حقّ ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا» . رواه مسلم وغيره. وقوله تعالى: {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} أي: أن هذا النظر كان يشتدّ منهم في حال قراءة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - القرآن حسدًا على ما أوتي من النبوّة ... {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} ، تنفيرًا عنه مع علمهم بأنه أعقلهم؛ ثم قال تعالى: {وَمَا هُوَ} ، أي: القرآن، {إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} ، الجنّ والإنس، فكيف يمكن نسبة من جاء بمثله إلى الجنون؟ والله المستعان. * * *

الدرس الثامن والثمانون بعد المائتين

الدرس الثامن والثمانون بعد المائتين [سورة الحاقة] مكية، وهي اثنتان وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8) وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ

الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) } . * * *

قوله عز وجل: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8) وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) } . قال ابن عباس: {الْحَاقَّةُ} ، من أسماء يوم القيامة عظّمه الله وحذّره عباده. وقال قتادة: {الْحَاقَّةُ} يعني: الساعة أحقّت لكل عامل عمله. وقال البغوي: سميت حاقّة لأنها حُقّت فلا كاذبة لها {مَا الْحَاقَّةُ} هذا استفهام معناه التفخيم لشأنها {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} ، قال سفيان: ما في القرآن {وَمَا يُدْرِيكَ} فلم يخبره، وما كان {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد أخبره. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} قال قتادة: أي: بالساعة {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} قال: بعث الله عليهم صيحة فأهمدتهم {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} قال ابن عباس: يقول: بريح مهلكة باردة، عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة، دائمة لا تفتر؛ وقال: ما أرسل الله من ريح قطّ إلا بمكيال، ولا أنزل قطرة قطّ إلا بمثقال، إلا يوم نوح ويوم عاد، فإن الماء يوم نوح طغى على خزانه فلم يكن لهم عليه سبيل، ثم قرأ: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} وإن الريح عتت على خزانها فلم يكن لهم عليها سبيل، ثم قرأ: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} ،

يقول: تباعًا، {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} . وفي الصحيحين: «نُصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدبور» . {فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} ؟ قال ابن كثير: أي: هلّ تحسّ منهم من أحد من بقاياهم أو من ينتسب إليهم؟ بل بادوا عن آخرهم، ولم يجعل الله لهم خلفًا. وعن قتادة: قوله: {وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} قرية قوم لوط {بِالْخَاطِئَةِ} قال مجاهد: الخطايا ... {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} قال ابن كثير: أي: كلّ كذّب رسولّ الله إليهم، {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} قال ابن عباس: يعني: أخذة شديدة. وعن قتادة: قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ذاكم زمن نوح طغى الماء على كلّ شيء خمس عشرة ذراعًا بقدر كلّ شيء. قال ابن زيد: والجارية سفينة نوح التي حملهم فيها {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} قال قتادة: فأبقاها الله تذكرة وعبرة وآية حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة وكم من سفينة قد كانت بعد سفينة نوح قد صارت رمادًا {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} إن غفلت عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله. وقال ابن كثير: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} وهي السفينة الجارية على وجه الماء {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} عاد الضمير على الجنس لدلالة المعنى عليه، أي: وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيّار الماء في البحار، كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} .

قوله عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18) } . قال البغوي: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} وهي: النفخة الأولى {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} رفعت عن أماكنها {فَدُكَّتَا} كسرتا {دَكَّةً} كسرة {وَاحِدَةً} فصارتا هباء منثورًا {وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} قال ابن عباس: يعني ضعيفة {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} يقول: والملك على حافات السماء حين تشقّق. وعن سعيد بن جبير: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} قال: على ما لم يَهِ منها. ... {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} ، قال ابن إسحاق: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «هم اليوم أربعة - يعني: حملة العرش - وإذا كان يوم القيامة أيّدهم الله بأربعة آخرين فكانوا ثمانية، وقد قال الله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} » ؛ قال ميسرة: أرجلهم في التخوم لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور. وعن جابر ابن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أذن لي أن أحدّث عن مَلِكٍ من ملائكة الله تعالى من حملة العرش: إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» . رواه أبو داود وغيره. وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} ، قال ابن كثير: أي:

تعرضون على عالم السرّ والنجوى الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر، ولهذا قال تعالى: {لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإنه أخفّ عليكم في الحساب غدًا أن تحاسِبوا أنفسكم اليوم وتَزينوا للعرض الأكبر، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} . وروى الإمام أحمد عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان: فجدال ومعاذير، وأما الثالثة: فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذٌ بيمنه وآخذٌ بشماله» . قوله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ (37) } . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: فأما من أَعطى كتاب أعماله بيمينه

فيقول: تعالوا اقرؤوا كتابيه. وقال ابن كثير: يخبر تعالى عن سعادة من يؤتى كتابه يوم القيامة بيمينه وفرحه بذلك، وأنه من شدّة فرحه يقول لكلّ من لقيه: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} ، أي: خذوا اقرؤوا كتابي، لأنه يعلم أن الذي فيه خير؛ قال: ومعنى: {هَاؤُمُ} هاكم. وعن قتادة: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ} ظنّ ظنًّا يقينًا فنفعه الله بظنّه، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} . قال قتادة: دنت فلا يردّ أيديهم عنها بُعْدٌ ولا شوك. وروى الطبراني عن سلمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، أدخلوه جنّة عالية قطوفها دانية» . وقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} ، قال قتادة: إن أيامكم هذه أيام خالية تؤدّي إلى أيام باقية، فاعملوا في هذه الأيام وقدّموا فيها خيرًا إن استطعتم، ولا قوّة إلا بالله» . وفي الصحيح عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اعملوا وسدّدوا وقاربوا، واعلموا أن أحدًا منكم لن يدخله عمله الجنّة» . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ ! قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل» . {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} ، قال ابن السائب: تلوى يده اليسرى خلف ظهره ثم يعطى كتابه {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} ، قال البغوي: يقول: يا ليت الموتة التي متّها في الدنيا {كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} الفارغة من كلّ ما بعدها، والقاطعة للحياة، فلم أَحْيَ بعدها. قال قتادة: يتمنّى الموت، ولم يكن شيء في الدنيا عنده أكره من الموت. {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} قال ابن زيد: سلطان الدنيا. وعن مجاهد قوله: {هَلَكَ عَنِّي

سُلْطَانِيهْ} قال: حجّتي. وقال قتادة: أما والله ما كلّ من دخل النار كان أمير قرية يجيبها، ولكن الله خلقهم وسلّطهم على أقرانهم وأمرهم بطاعة الله، ونهاهم عن معصية الله. وقال الفضيل بن عياض: إذا قال الربّ عز وجل: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} ، ابتدره سبعون ألف ملك أيّهم يجعل الغلّ في عنقه {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} قال ابن عباس: تسلك في دبره حتى تخرج من منخريه حتى لا يقوم على رجليه. {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} ، قال ابن جرير: يعني: في الدار الآخرة، قريب يدفع عنه ويعنه مما هو فيه من البلاء. قلت: وهذه الآية كقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} . وعن قتادة: قوله: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} ، شرّ الطعام وأخبثه وأبشعه. وعن ابن عباس: قوله: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} ، صديد أهل النار، {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ} ، قال البغوي: أي: الكافرون. قوله عز وجل: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) } .

قال ابن زيد في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} ، أقسم بالأشياء حتى أقسم يما تبصرون وما لا تبصرون. قال ابن القيّم: (وهذا أعمّ قسم وقع في القرآن، فإنه يعمّ العلويّات والسفليّات، والدنيا والآخرة) . {إِنَّهُ} ، قال البغوي: يعني: القرآن. {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ، أي: تلاوة {رَسُولٍ كَرِيمٍ} يعني: محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن كثير: أضافه إليه على معنى التبليغ، لأن الرسول من شأنه أن يبلّغ عن المرسِل، ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكيّ. وعن قتادة: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} طهّره الله من ذلك وعصمه. {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} طهّره من الكهانة وعصمه، {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} ، قال ابن كثير: يقول تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} ، أي: محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لو كان كما يزعمون مفتريًا علينا فزاد في الرسالة أو نقص منها، أو قال شيئًا من عنده فنسبه إلينا، وليس كذلك لعاجلناه بالعقوبة. وقال ابن جرير: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} محمد بعض الأقاويل الباطلة، وتكذّب علينا {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} يقول: أخذنا منه بالقوّة منا والقدرة {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ} ، نياط القلب. وعن ابن عباس: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} يقول: عرق القلب. وقال مجاهد: حبل القلب الذي في الظهر {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} . وعن قتادة: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} قال: القرآن. {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} قال قتادة: ذاكم يوم القيامة.

{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} ، قال ابن كثير: أي: الخبر الصدق الحقّ، الذي لا مرية فيه ولا شكّ ولا ريب، {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . وروى الإِمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال: (خرجت أتعرّض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقّة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن. فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش، فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} ، فقلت: كاهن. فقرأ: {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} إلى آخر السورة، فوقع الإِسلام في قلبي كلّ موقع) . * * *

الدرس التاسع والثمانون بعد المائتين

الدرس التاسع والثمانون بعد المائتين [سورة المعارج] مكية، وهي أربع وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَرَاهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُم

بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44) } * * *

قوله عز وجل: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَرَاهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) } . عن ابن عباس: قوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} ، قال: ذاك سؤال الكفار عن عذاب الله، وهو واقع. وعن قتادة: قوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} ، قال: سأل عذاب الله أقوام فبين الله على من يقع فقال: {لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} ، قال مجاهد: معارج السماء، {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ، قال: منتهى أمره من أسفل الأرض ومن الأرض إلى منتهى أمره من فوق السموات مقدار خمسين ألف سنة، ويوم كان مقداره يعني بذلك: نزول الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، فذلك مقداره ألف سنة، لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام. وعن ابن عباس قال: (غلظ كل أرض خمسمائة عام، وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام، فذلك سبعة آلاف عام؛ وغلظ كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء إلى السماء خمسمائة عام، فذلك أربعة عشر ألف عام؛ وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام، فذلك قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ

خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ) . قلت: ويشهد لهذا القول ما رواه الإمام أحمد وغيره عن عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله فسألوه الفردوس» . وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا سألتم الله الجنة فسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن» . وقال البغوي: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} ، يعني: جبريل عليه السلام {إِلَيْهِ} أي: إلى الله عز وجل {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} من سني الدنيا، لو صعد غير الملك من بني آدم من منتهى أمر الله تعالى من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمر الله تعالى من فوق السماء السابعة لما صعد في أقل من خمسين ألف سنة، والملك يقطع ذلك كله في ساعة واحدة. وقال ابن زيد في قوله: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} قال: هذا حين كان يأمره بالعفو عنهم لا يكافئهم، فلما أمر بالجهاد والغلظة عليهم أمر بالشدة والقتل حتى يتركوا، ونسخ هذا. وقال ابن جرير: وهذا الذي قاله ابن زيد أنه كان أمر بالعفو بهذه الآية ثم نسخ ذلك قول لا وجه له، لأنه لا دلالة على صحة ما قال من بعض الأوجه التي تصح منها الدعاوى، وليس في أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر الجميل على أذى المشركين ما يوجب أن يكون ذلك أمرًا منه له به في بعض الأحوال، بل كان ذلك أمرًا من الله له به في

كل الأحوال، لأنه لم يزل - صلى الله عليه وسلم - من لدن بعثه الله إلى أن اخترمه في أذى منهم، وهو في كل ذلك صابر على ما يلقى منهم من أذى، قبل أن يأذن الله له بحربهم وبعد إذنه له بذلك. وقال ابن كثير: وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} ، أي: اصبر يا محمد على تكذيب قومك لك واستعجالهم العذاب استبعادًا لوقوعه، كقوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} ولهذا قال: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً} أي: وقوع العذاب وقيام الساعة يراه الكفرة بعيد الوقوع، بمعنى: مستحيل الوقوع، {وَنَرَاهُ قَرِيباً} ، قال البغوي: لأن ما هو آت قريب، وهو يوم القيامة. {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ} قال مجاهد: كعكر الزيت، وقال قتادة: تتحول يومئذٍ لونًا آخر إلى الحمرة {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} ، قال: كالصوف، {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} يشغل كل إنسان بنفسه عن الناس. وعن ابن عباس قوله: {يُبَصَّرُونَهُمْ} قال: يعرف بعضهم بعضًا، ويتعارفون بينهم، ثم يفر بعضهم من بعض يقول: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} . وقال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ} أي: لا يسأل القريب قريبه عن حاله وهو يراه في أسوأ الأحوال، فتشغله نفسه عن غيره {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ} قال ابن زيد: فصيلته عشيرته {وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ} ذلك الفداء من عذاب الله. قال قتادة: الأحب فالأحب، والأقرب فالأقرب من أهله وعشيرته لشدائد ذلك اليوم.

قال البغوي: {كَلَّا} لا ينجيه من عذاب الله شيء، ثم ابتدأ فقال: {إِنَّهَا لَظَى} وهي اسم من أسماء جهنم {نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى} ، قال قتادة: أي: نزاعة لهامته ومكارم خلقه وأطرافه. وقال الضحاك: تبري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئًا. وقال الحسن: تحرق كل شيء منه ويبقى فؤاده نضيجًا. وعن قتادة: قوله: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} أدبر عن طاعة الله وتولى عن كتاب الله وعن حقه ... {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} كان جموعًا قمومًا للخبيث. وقال ابن عباس: ... {تَدْعُو} الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب. وقال البغوي: {وَجَمَعَ} أي: جمع المال ... {فَأَوْعَى} أمسكه في الوعاء ولم يؤد حق الله منه. قوله عز وجل: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ (35) } . عن ابن عباس: قوله: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} ، قال: هو الذي قال الله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} ، قال ابن جرير: والهلع: شدة الجزع مع شدة الحرص والضجر. وقال ابن كيسان: خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويهرب مما يكره، ثم تعبده بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره. وعن قتادة: قوله: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ

هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} ذكر لنا أن دانيال نعت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: يصلون صلاة لو صلاها قوم نوح ما غرقوا، أو عاد ما أرسلت عليهم الريح العقيم، أو ثمود ما أخذتهم الصيحة، فعليكم بالصلاة فإنها خُلُقٌ للمؤمنين حَسَنٌ. وعن إبراهيم: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} ، قال: المكتوبة. وعن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ، يقول: هو سوى الصدقة، يصل بها رحمًا، أو يقري بها ضيفًا، أو يحمل بها كلاً، أو يعين بها محرومًا؛ وقال: المحروم هو: المحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه فلا يسأل الناس. وقال ابن زيد: المحروم المصاب ثمره وزرعه. وقال قتادة: السائل: الذي سأل بكفه. والمحروم: المتعفف، ولكليهما عليك حق يا ابن آدم. {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} قال ابن كثير: أي: لا يأمنه أحد ممن غفل عن الله أمره إلا بأمان من الله تبارك وتعالى. {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} ، قال ابن جرير: فمن التمس لفرجه منكم سوى زوجته أو ملك يمينه، ففاعلو ذلك هم العادون الذين عدوا ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم، فهم الملومون. {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} ، قال ابن كثير: أي: إذا اؤتمنوا لم يخونوا وإذا عاهدوا لم يغدروا. وقال ابن جرير: راعون: يرقبون ذلك

ويحفظونه فيضيعونه. {وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} ، قال ابن كثير: أي: محافظون عليها لا يزيدون فيها ولا ينقصون منها ولا يكتمونها. قلت: وهذه الآية كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} . {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، قال ابن كثير: أي: على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها؛ فافتتح الكلام بذكر الصلاة واختتمه بذكرها، فدل على الاعتناء بها والتنويه بشرفها، ولهذا قال: {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} . قوله عز وجل: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44) } . عن ابن عباس: قوله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} ، قال: قبلك ينظرون، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} قال: العزين: العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين عنه يستنبئون به. وقال قتادة: {عِزِينَ} أي: فرق حول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرغبون في كتاب الله ولا في نبيه. وروى ابن جرير عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج على أصحابه وهم حلق حلق فقال: «ما لي أراكم

عزين» ؟ قال البغوي: والعزين: جماعات في تفرقة، واحدتها عزة. {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} ، قال ابن عباس: معناه: أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي كما يدخلها المسلمون ويتنعم فيها، وقد كذب نبيّي؟ {كَلَّا} لا يدخلونها؛ ثم ابتدأ فقال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} أي: من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، نبه الناس على أنهم خلقوا من أصل واحد، وإنما يتفاضلون ويستوجبون الجنة بالإيمان والطاعة. وعن قتادة: قوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} إنما خلقت من قذر يا ابن آدم، فاتق الله. {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} ما يفوتنا منهم أحد، وعن ابن عباس في قوله: ربّ المشارق والمغارب، قال: «إن الشمس تطلع كل سنة في ثلاثمائة وستين كوة، تطلع كل يوم في كوة، لا ترجع إلى تلك الكوة إلا ذلك اليوم من العام المقبل، ولا تطلع إلا وهي كارهة، تقول: رب لا تطلعني على عبادك، فإني أراهم يعصونك» . {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} عن قتادة: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} ، أي: من القبور، {سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} ، قال: إلى علم يسعون، {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} ، قال ابن كثير: أي: في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة، {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} ، قال قتادة: {ذَلِكَ الْيَوْمُ} يوم القيامة {الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} .

الدرس التسعون بعد المائتين

الدرس التسعون بعد المائتين [سورة نوح] مكية، وهي ثمان وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً (12) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً (16) وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً (20) قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً (21)

وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً (25) وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً (28) } . * * *

قوله عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4) } . عن قتادة: قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} قال: أرسل الله المرسلين بأن يعبد الله وحده، وأن تتّقى محارمه، وأن يطاع أمره. وعن مجاهد في قول الله: {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ، قال: ما قد خطّ من الأجل، فإذا جاء أجل الله لا يؤخّر. وقال ابن كثير: يقول تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام: أنه أرسله إلى قومه، آمرًا له أن ينذرهم بأس الله قبل حلوله بهم، فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم، ولهذا قال: {أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: بين النذارة ظاهر الأمر واضحه، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} ، أي: اتركوا محارمه واجتنبوا مآثمه، {وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به وأنهاكم عنه {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} ، أي: إذا فعلتم ما آمركم به وصدقتم ما أرسلت به إليكم غفر الله لكم ذنوبكم، {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ، أي: يمد في أعماركم، ويدرأ عنكم العذاب. {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، أي: بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة. انتهى. ملخصًا. قوله عز وجل: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا

ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً (12) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً (16) وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً (20) } . عن قتادة: قوله: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً} ، قال: بلغنا أنهم كانوا يذهب الرجل بابنه إلى نوح فيقول لابنه: احذر هذا لا يغوينك، فأراني قد ذهب بي أبي إليه وأنا مثلك فحذرني كما حذرتك. وقال ابن زيد في قوله: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} لئلا يسمعوا كلام نوح عليه السلام: {وَأَصَرُّوا} ، قال: الإصرار: إقامتهم على الشرك والكفر. وعن مجاهد: قوله: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} قال: الجهار الكلام المعلن به {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ} قال: صحت {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} ، قال: فيما بيني وبينهم. وعن قتادة في قوله: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} إلى قوله: {وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} قال: رأى نوح قومًا تجرعت أعناقهم حرصًا على الدنيا، فقال: هلموا إلى طاعة الله، فإن فيها درك الدنيا والآخرة. وعن مجاهد: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} قال: لا ترون لله عظمة. وقال ابن عباس: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته؟ وقال ابن زيد: الوقار: الطاعة. وعن قتادة: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} طورًا نطفة، وطورًا علقة، وطورًا مضغة، وطورًا عظامًا، ثم كسى العظام لحمًا ثم أنشاه خلقًا آخر أنبت به الشعر، فتبارك الله أحسن الخالقين. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ

نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} ، قال ابن كثير: وكل هذا مما ينبههم به نوح عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السموات والأرض، ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية، فهو الخالق الرازق، جعل السماء بناء والأرض مهادًا، وأوسع على خلقه من رزقه، فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به أحد، لأنه لا نظير له، ولا عديل له، ولا ند ولا كفؤء ولا صاحبة ولا ولد، ولا وزير ولا مشير، بل هو العلي الكبير. قوله عز وجل: {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً (24) } . قال البغوي: {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} يعني: لم يجيبوا دعوتي. {وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً} يعني: اتبع السفلة والفقراء القادة والرؤساء الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالاً في الدنيا، وعقوبة في الآخرة: {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} ، أي: كبيرًا عظيمًا. قال ابن عباس: قالوا قولاً عظيمًا. وقال الضحاك: افتروا على الله وكذبوا رسله. {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} ، قال محمد بن قيس: كانوا قومًا صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال:

إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر فعبدوهم. وعن قتادة: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} ، قال: كان ود لهذا الحي من كلب بدومة الجندل، وكانت سواع لهذيل برياط، وكان يغوث لبني غطيف من مراد بالجرف، وكان يعوق لهمدان، وكان نسر لذي الكلاع من حمير، قال: كانت آلهة تعبدها قوم نوح ثم عبدتها العرب بعد ذلك. وعن ابن عباس: أن تلك الأوثان دفنها الطوفان وطمها التراب، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} ، يعني: الأصنام التي اتخذوها، أضلوا بها خلقًا كثيرًا، فإنه استمرت عبادتها في القرون إلى زماننا هذا في العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم؛ وقد قال الخليل عليه السلام في دعائه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ} ، وقوله: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً} دعاء منه على قومه لتمردهم وكفرهم وعنادهم، كما دعا موسى على فرعون وملئه في قوله: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} وقد استجاب الله لكل من النبيين في قومه، وأغرق أمته بتكذيبهم لما جاءهم به. قوله عز وجل: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً (25) وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً (28) } . عن سفيان: قوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} ، وعن قتادة في قوله: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} أما والله ما دعا عليهم حتى أتاه الوحي من السماء

أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فعند ذلك دعا عليهم نبي الله نوح فقال: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً ... كَفَّاراً} ؛ ثم دعا دعوة عامة فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} ، قال مجاهد: إلا خسارًا. وعن عبيد بن عمير الليثي أنه كان يحدّث أنه بلغه: (أنهم كانوا يبطشون به -، يعني: قوم نوح - فيخنقونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى إذا تمادوا في المعصية، وعظمت في الأرض منهم الخطيئة، وتطاول عليه عليهم الشأن، واشتد عليهم من البلاء، وانتظر النجل بعد النجل، فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من القرن الذي قبله، حتى إن كان الآخر منهم ليقول: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونًا، لا يقبلون منه شيئًا، حتى شكى ذلك من أمرهم نوح إلى الله تعالى، كما قص الله علينا في كتابه: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً} إلى آخر القصة، حتى قال: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} إلى آخر القصة. فلما شكى ذلك منهم نوح إلى الله واستنصره عليهم أوحى الله إليه: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} ، أي: بعد اليوم: {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} فأقبل نوح على عمل الفلك ولهى عن قومه، وجعل يقطع الخشب، ويضرب الحديد، ويهيء عدة الفلك، من القار وغيره مما لا يصلحه إلَّا هو، وجعل قومه يمرّون به وهو في ذلك من عمله فيسخرون منه ويستهزئون به فيقول: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} .

قال: ويقلون له فيما بلغني: يا نوح قد صرت نجارًا بعد النبوة؟ قال وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم ولد؛ قال: ويزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج، وأن يصنعه أزور، وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعًا، وأن يجعله ثلاثة أطباق سفلاً ووسطًا وعلوًا، وأن يجعل فيه كوى؛ ففعل نوح كما أمره الله، حتى إذا فرغ منه، وقد عهد الله إليه: {إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} . وروى ابن جرير عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو رحم الله أحدًا من قوم نوح لرحم أم الصبي» ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، حتى كان آخر زمانه وغرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها ثم جعل يعمل سفينته فيسخرون منه ويقولون: يعمل سفينة في البر فكيف تجري؟ فيقول: سوف تعلمون؛ فلما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك، خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبًا شديدًا، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثي الجبل، فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بين بيديها حتى ذهب بها الماء فلو رحم الله منهم أحدًا لرحم أم الصبي» . والله أعلم. * * *

الدرس الحادي والتسعون بعد المائتين

الدرس الحادي والتسعون بعد المائتين [سورة الجن] مكية، وهي ثمان وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ

يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) } . * * *

قوله عز وجل: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) } . قال ابن عباس: (انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فقالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فانطلقوا فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حدث. قال: فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء؛ فانطلق النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنخلة وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي

حال بينكم وبين خبر السماء. قال فهنالك حين رجعوا إلى قومهم قالوا: يا قومنا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} قال: فأنزل الله إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} وإنما أوحي إليه قول الجن. وقال الضحاك في قوله: قال: {أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} هو قول الله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ} . وعن ابن عباس في قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} يقول: فعله وأمره وقدرته، وعن مجاهد في قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} قل جلال ربنا، وقال الحسن: غنى ربنا. وعن مجاهد أيضًا: قال: ذكره، وقال سعيد بن جبير: أي: تعالى ربنا. قال البغوي يقال: جد الرجل أي: عظم، ومنه قول أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة، وآل عمران جد فينا، أي: عظم قدره. {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} ، قال البغوي جاهلنا {عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} كذبًا وعدوانًا، وهو وصفه بالشريك والولد. {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} ، قال البغوي: أي: ما حسبنا أن الإنس والجن يتمالون على الكذب على الله في نسبة الصاحبة والولد إليه. وعن معمر: قال: تلا قتادة: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} ، فقال: عصاه والله سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس. وعن الحسن في قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} ، قال: كان الرجل منهم إذا نزل الوادي فبات به قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه. {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} ، قال ابن زيد: خوفًا. وقال قتادة: قال الله: {فَزَادُوهُمْ

رَهَقاً} أي: إثمًا، وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة. {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} بعد موته. وقال الكلبىّ. ظن كفّار الجنّ كما ظنّ كفرة الإنس: أن لا يبعث الله رسولاً. {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} ، قال سعيد بن جبير: (كانت الجن تستمع، فلما رجموا قالوا: إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض. قال: فذهبوا يطلبون حتى رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - خارجاً من سوق عكاظ يصلّي بأصحابه الفجر، فذهبوا إلى قومهم منذرين) . وقال ابن زيد في قوله: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} حتى بلغ: {فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} فلما وجدوا ذلك رجعوا إلى إبليس فقالوا: منع منا السمع، فقال لهم: بأن السماء لم تحرس قط إلا على أحد أمرين: إما لعذاب يريد الله أن ينزله على أهل الأرض بغتة، وإما نبي مرشد مصلح. قال: فذلك قول الله: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} . {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} قال ابن عباس: أهواء شتى، منا المسلم ومنا المشرك. وقال قتادة: أهواء مختلفة. {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} ، قال البغوي: {وَأَنَّا ظَنَنَّا} علمنا وأيقنا {أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ} ، أي: لن نفوته إن أراد بنا أمرًا {وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} إن طلبنا. {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً} قال ابن عباس: لا يخاف نقصًا من حسناته، ولا زيادة في سيئاته. ... {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} ، قال: العادلون عن الحق الذين جعلوا لله ندًا. {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} ، قال البغوي: أي: قصدوا طريق الحق وتوخوه، {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ} الذين كفروا {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} كانوا وقود النار يوم القيامة.

قوله عز وجل: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) } . قال البغوي: ثم رجع إلى كفار مكة فقال: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} ، قال مجاهد: طريقة الإسلام {لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً} ، قال: نافعًا كثيرًا، لأعطيناهم مالاً كثيرًا، {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} قال: لنبتليهم به. وقال عمر رضي الله عنه: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة. {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} ، قال ابن عباس: شاقًا. وقال قتادة: عذابًا لا راحة فيه. وعن ابن عباس: {عَذَاباً صَعَداً} ، قال: جبل في جهنم. وعن قتادة: قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه أن يوحد الله وحده. وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} ، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا} أيها الناس {مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ولا تشركوا به فيها شيئًا، ولكن أفردوا له التوحيد وأخلصوا له العبادة. وعن قتادة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} ، قال: تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه

ويظهره على من ناوأه. وقال الحسن: لما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لاإله إلا الله» ، ويدعو الناس إلى ربهم، كادت العرب تكون عليه جميعًا. وقال ابن عباس: {لِبَداً} أعواقًا. وقال العوفى عن ابن عباس: لما سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يتلو القرآن، كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه يتلو القرآن، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} يستمعون القرآن. {كَادُوا} يعني: الجن {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} أي: يؤكب بعضهم بعضًا ويزدحمون حرصًا على استماع القرآن. قال ابن حجر العسقلاني: (والمعنى أن الجن تزاحموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استمعوا القرآن، وهو المعتمد) . انتهى. {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} ، أي: قال لهم الرسول لما آذوه وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه، ليبطلوا ما جاء به من الحق، واجتمعوا على عدواته {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} ، أي: إنما أعبد ربي وحده لا شريك له، وأستجير به، وأتوكل عليه، {وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} . وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً} ، أي: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ، وعبد من عباد الله ليس لي من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم، بل المرجع في ذلك كلّه إلى الله عز وجل. ثم أخبر عن نفسه أيضًا أنه لن يجيره من الله أحد: أي: لو عصيته فإنه لا يقدر أحد على إنقاذي من عذابه، {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} ، قال مجاهد: ملجأ. وعن قتادة: {إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} فذلك الذي أملك بلاغاً من الله ورسالاته. {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً * حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} ، قال ابن كثير: أي: حتى إذا

رأى هؤلاء المشركون من الجنّ والإِنس ما يوعدون يوم القيامة، فسيعلمون يومئذٍ من أضعف ناصرًا وأقلّ عددًا، هم أم المؤمنون الموحّدون لله تعالى، أي: بل المشركون لا ناصر لهم بالكلية وهم أقلّ عددًا من جنود الله عز وجل. قوله عز وجل: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) } . قال ابن كثير: يقول تعالى آمرًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للناس أنه لا علم له بوقت الساعة، ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} ، أي: مدّة طويلة، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} ، قال ابن عباس: فأعلم الله سبحانه الرسل من الغيب: الوحي، أظهرهم عليه بما أوحى إليهم من غيبه، وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره. وقال ابن زيد: ينزل من غيبه ما شاء على الأنبياء، أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغيب: القرآن؛ قال: وحدّثنا فيه بالغيب بما يكون يوم القيامة. وعن الضحاك: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ، قال: كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث إليه الملك بعث ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه، أن يتشبّه الشيطان على صورة الملك. وعن إبراهيم: {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ، قال: ملائكة يحفظونهم من بين أيديهم ومن خلفهم. وقال ابن عباس: هي معقّبات من الملائكة يحفظون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان، حتى يتبيّن الذي أرسل به إليهم وذلك حين يقول: {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} . وعن قتادة: {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} ، ليعلم نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - أن الرسل قد أبلغت عن الله، وأن الله حفظها ودفع عنها. وقال

البغوي: أي: ليعلم الرسول أن الملائكة قد أبلغوا رسالات ربهم، {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} ، أي: علم الله ما عند الرسل، فلم يَخْفَ عليه شيء. {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} . قال ابن كثير: ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا إلى الله عز وجل، وهو قول حكاه ابن الجوزيّ في زاد المسير، ويكون المعنى في ذلك: أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكّنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} ، ويكون ذلك كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} ، وكقوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} ، إلى أمثال ذلك من العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعًا لا محالة؛ ولهذا قال بعد هذا: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} ، قال ابن عباس: أحصى ما خلق وعرف عدد ما خلق، فلم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذرّ والخردل. * * *

الدرس الثاني والتسعون بعد المائتين

الدرس الثاني والتسعون بعد المائتين [سورة المزمل] مكية، وهي عشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً (17) السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن

فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ... (20) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً (14) } . عن قتادة: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ، أي: المتزمّل في ثيابه. وعن ابن عباس: قوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} ، فأمر الله نبيّه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليل، فشقّ ذلك على المؤمنين، ثم خفّف عنهم فرحمهم، وأنزل الله بعد هذا: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} إلى قوله: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فوسّع الله - وله الحمد - ولم يضيّق. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: (لما نزلت أول المزمّل كانوا يقومون نحوًا من قيامهم في شهر رمضان، وكان بين أوّلها وآخرها نحوًا من سنة) . وعن مجاهد في قول الله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} ، قال: ترسّل فيه ترسّلاً. وقال ابن عباس: بيّنه بيانًا. وعن الحسن في قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} ، قال: العمل به. وقال قتادة: ثقيلٌ واللهِ، فرائضُه وحدودُه. وعن هشام ابن عروة عن أبيه: (أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته، وضعت جرانها فما

تستطيع أن تحرّك حتى يسرّى عنه) . وقال ابن زيد: هو واللهِ ثقيلٌ مبارَكٌ القرآن، كما ثَقُلَ في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة. وعن مجاهد: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} ، قال: إذا قمت من الليل فهو ناشئة. وقال قتادة: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة، وقالت عائشة: القيام بعد النوم. وقال ابن زيد في قوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً} ، قال: إن مصلّي الليل القائم بالليل {أَشَدُّ وَطْءاً} طمأنينة، أفرغ له قلبًا {وَأَقْوَمُ قِيلاً} ، قال: أقوم قراءة لفراغه من الدنيا. {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} ، قال: لحوائجك {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} ، قال ابن عباس: أخلص له إخلاصًا. وقال قتادة: أخلص له العبادة والدعوة. وقال الحسن: ابتل نفسك واجتهد. {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} ، قال البغوي: قيّمًا بأمورك ففوّضها إليه، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} ، قال ابن كثير: يقول تعالى آمرًا رسوله بالصبر على ما يقوله من كذّبه من سفهاء قومه، وأن يهجرهم {هَجْراً جَمِيلاً} وهو الذي لا عتاب معه. ثم قال متوعّدًا لهم: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} أي: دعني والمكذّبين المترفين أصحاب الأموال، فإنهم على الطاعة أقدر من غيرهم، وهم يطالبون من الحقوق بما ليس عند غيرهم. {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} أي: رويدًا كما قال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} .

وعن قتادة: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً} أي: قيودًا {وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} ، قال ابن عباس: شرك يأخذ بالحلق فلا يدخل ولا يخرج. {وَعَذَاباً أَلِيماً} . {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً} ، قال ابن عباس: الكثيب المهيل: الرمل السائل؛ قال ابن كثير:، أي: تصير ككثبان الرمل بعدما كانت حجارة صمّاء، ثم إنها تنسف نسفًا فلا يبقى منها شيء إلا ذهب، حتى تصير الأرض {قَاعاً صَفْصَفاً * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً} . قوله عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً (17) السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) } . قال ابن كثير: ثم قال تعالى مخاطبًا لكفار مكة، والمراد سائر الناس: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} ، قال قتادة: شديدًا، {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} ، يقول: كيف تتّقون يومًا وأنتم قد كفرتم به ولا تصدقون به؟ وقال الضحاك في قوله: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} كان ابن مسعود يقول: (إذا كان يوم القيامة دعا ربُّنا الملِكُ آدَمَ فيقول: يا آدم قم فابعث بعث النار، فيقول آدم: أي ربّ لا علم لي إلا ما علّمتني، فيقول الله له: أخرج من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فيساقون إلى النار سودًا مقرّنين زرقًا كالحين، فيشيب هنالك كلّ وليد) .

قال البغوي: ثم وصف هول ذلك اليوم فقال: {السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ} متشقّق لنزول الملائكة؛ {بِهِ} ، أي: بذلك المكان. {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} . {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} ، قال قتادة: بطاعة الله. وقال البغوي: {إِنَّ هَذِهِ} ، أي: آيات القرآن {تَذْكِرَةٌ} تذكير وموعظة {فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} بالإِيمان والطاعة. قوله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20) } . قال البغوي: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} أقلّ. {مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ} ، يعني: المؤمنين، وكانوا يقومون معه. {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ، قال عطاء: يريد: لا يفوته علم ما تفعلون، أي: أنه يعلم مقادير الليل والنهار، فيعلم القدر الذي تقومون من الليل. {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} ، قال الحسن: قاموا حتى انتفخت أقدامهم فنزل: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} لن تطيقوه. ... {فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ، يعني: في الصلاة. {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، قال قتادة: ثم أنبأنا بخصال: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ

مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة، فقام نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء، ثم أنزل التخفيف في آخرها فصار قيام الليل تطوّعًا بعد فريضة. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فهما فريضتان واجبتان لا رخصة لأحد فيهما فأدّوهما إلى الله تعالى ذكره. {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} ، قال ابن زيد: القرض النوافل سوى الزكاة {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً} ، قال البغوي: تجدوا ثوابه في الآخرة أفضل مما أعطيتم {وَأَعْظَمَ أَجْراً} من الذي أخذتم ولم تقدّموه. ثم ساق بسنده عن الحارث بن سويد قال: قال عبد الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيّكم ماله أحبّ إليه من مال وارثه» ؟ قالوا: يا رسول الله ما منّا أحد إلا ماله أحبّ إليه من مال وارثه، قال: «اعلموا ما تقولون» . قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله، قال: «ما منكم من رجل إلا مال وارثه أحبّ إليه من ماله» ، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: «إنما مال أحدكم ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر» . وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} ، أي: لذنوبكم، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وفي الصحيحين وغيرهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ينزل الله تبارك وتعالى في كلّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فاغفر له» ؟ . وروى أحمد وغيره عن أبي هريرة قلنا: يا رسول الله إذا رأيناك رقّت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد، فقال: «لو أنكم تكونون على كلّ

حال على الحال التي كنتم عليها عندي، لصافحنكم الملائكة بأكفّهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر ... لهم» . قلنا: يا رسول الله حدّثنا عن الجنّة ما بناؤها؟ قال: «لَبِنَةُ ذهب ولَبِنَةُ فضّة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه. ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول لها الربّ عز وجل: وعزّتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين» . * * *

الدرس الثالث والتسعون بعد المائتين

الدرس الثالث والتسعون بعد المائتين [سورة المدثر] مكية، وهي ست وخمسون آية بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً

كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِّلْبَشَرِ (36) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) } . * * *

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) } . عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحدّث عن فترة الوحي: «بينا أنا أمشى، سمعت صوتًا من السماء فرفعت رأسي، فإذا أنا بالملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض، فجئشت منه فَرَقًا، وجئت فقلت: زملوني زملوني. فدثروني فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} - قال: - ثم تتابع الوحي» . وعن قتادة: {قُمْ فَأَنذِرْ} ، أي: أنذر عذاب الله ووقائعه في الأمم وشدّة نقمته. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: وربك يا محمد فعظّم بعبادته والرغبة إليه في حاجاتك دون غيره من الآلهة والأنداد. {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، قال قتادة: يقول: طهّرها من المعاصي. وعن ابن عباس: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، قال: من الإِثم ثم قال: نقيّ الثياب في كلام العرب. وعن مجاهد في قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، قال: عملك فأصلح. وقال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهّرون، فأمره أن يتطهّر ويطهّر ثيابه. وعن مجاهد: قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ، قال: الأوثان. {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} ، قال ابن عباس: لا تعط عطيّة تلتمس بها أفضل منها. قال الضحاك: هما ربوان: حلال وحرام. فأما الحلال: فالهدايا، وأما الحرام: فالربا. وقال: هي

للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - خاصّة. {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} ، قال ابن زيد: حُمِّلَ أمرًا عظيمًا محاربة العرب ثم العجم من بعد العرب في الله. وعن مجاهد: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} ، قال: إذا نفخ في الصور: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} ، قال ابن عباس: يقول: شديد. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته يستمع متى يؤمر ينفخ فيه» ؟ فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف نقول؟ فقال: «تقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكّلنا» . وعن قتادة: قال الله تعالى ذكره: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} فبيّن الله على من يقع على الكافرين غير يسير. قوله عز وجل: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) } . عن مجاهد: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} ، قال: نزلت في الوليد ابن المغيرة. قال قتادة: أخرجه الله من بطن أمه وحيدًا لا مال له ولا ولد فرزقه المال والولد والثروة والنساء، {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً} ، قال مجاهد: كان بنوه عشرة لا يغيبون، {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} ، من المال والولد. قال سفيان: بسط له. {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا} .

قال البغوي: {ثُمَّ يَطْمَعُ} يرجو {أَنْ أَزِيدَ} ، أي: أزيده مالاً وولدًا وتمهيدًا، {كَلَّا} لا أفعل ولا أزيده؛ وقالوا: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. وعن ابن عباس قوله: {إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً} ، قال: جَحودًا. {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} ، قال مجاهد: مشقّة من العذاب. وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصَعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفًا، ثم يهوي كذلك منه أبدًا» . رواه ابن جرير. {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} ، قال البغوي: (وذلك أن الله تعالى لما أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم -: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} إلى قوله: {الْمَصِيرُ} قام النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى. ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش: صبأ والله الوليد، والله لتصبأنّ قريش كلهم - وكان يقال للوليد: ريحانة قريش - فقال لهم أبو جهل: أنا أكفيكموه؛ فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزينًا، فقال له الوليد: ما لي أراك حزينًا يابن أخي؟ قال: وما يمنعني أن لا أحزن، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك، ويزعمون أنك زينت كلام محمد وأنك تدخل على

ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم؟ فغضب الوليد فقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالاً وولدًا؟ وهل يشبع محمد وأصحابه من الطعام، فيكون لهم فضل؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أن محمداً مجنون، فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه قط تكهن؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئًا من الكذب؟ قالوا: لا - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمى الأمين قبل النبوة من صدقه - قالت قريش للوليد: فما هو؟ فتفكر في نفسه ثم نظر ثم عبس فقال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فهو ساحر، وما يقوله سحر يؤثر. فذلك قوله عز وجل: {إِنَّهُ فَكَّرَ} في محمد والقرآن {وَقَدَّرَ} في نفسه ماذا يمكنه أن يقول في محمد والقرآن: {فَقُتِلَ} لعن. وقال الزهري: عذب، {كَيْفَ قَدَّرَ} على طريق التعجب والإنكار والتوبيخ، {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} كرره للتأكيد، {ثُمَّ نَظَرَ} في طلب ما يدفع من القرآن ويرده، {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} كلح وقطب وجهه فنظر بكراهية شديدة كالمتهم المتفكر في شيء. {ثُمَّ أَدْبَرَ} عن الإيمان {وَاسْتَكْبَرَ} تكبر حين دعي إليه {فَقَالَ إِنْ هَذَا} ما هذا الذي يقرأه محمد {إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} يروى ويحكى عن السحرة، {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} ، يعني: يسارًا وجبرًا، فهو يأثره عنهما. قال الله تعالى: {سَأُصْلِيهِ} سأدخله {سَقَرَ} وسقر: اسم من أسماء جهنم، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} ، قال السدي: {لَا تُبْقِي} لهم لحمًا: {وَلَا تَذَرُ} لهم عظمًا. وقال مجاهد:

كلما احترقوا جددوا، {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ} ، قال ابن عباس: تحرق بشرة الإنسان. وقال ابن زيد: النار تغير ألوانهم، {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} ، قال ابن زيد: خزنتها تسعة عشر. قوله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِّلْبَشَرِ (36) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) } . قال ابن عباس وغيره: لما نزلت: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أماتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبر أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدهم - أي: الشجعان - أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من خزنة جهنم؟ قال أبو الأشد الجمحي: أنا أكفيكم منهم سبعة عشرة، فاكفوني أنتم اثنين، فأنزل الله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} . قال ابن عباس: وإنها في التوراة والإنجيل: تسعة عشر، فأراد الله أن يستيقن أهل الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانًا. {وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} ، قال ابن جرير: ولا يشك أهل التوراة والإنجيل في حقيقة ذلك، والمؤمنون بالله من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} نفاق {وَالْكَافِرُونَ} بالله من مشركي قريش: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} ؟ قال ابن زيد: يقولون: حين يخوفنا بهؤلاء التسعة عشر.

{كَذَلِكَ} ، قال البغوي: أي: كما أضل الله من أنكر عدد الخزنة وهدي من صدق {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} ، قال مقاتل: هذا جواب أبي جهل حين قال: أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر؟ قال عطاء: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} ، يعني: من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار، لا يعلم عدتهم إلا الله؛ والمعنى: أن تسعة عشر هم خزنة النار، ولهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمهم إلا الله عز وجل. ثم رجع إلى ذكر سقر فقال: {وَمَا هِيَ} ، يعني: النار، {إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} إلا تذكرة وموعظة للناس، {كَلَّا وَالْقَمَرِ} هذا قسم يقول: حقًا. {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} ، قال مجاهد: يعني جهنم: {نَذِيراً لِّلْبَشَرِ} ، قال الحسن: والله ما أنذر الناس بشيء أدهى منها. {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} ، قال ابن عباس: من شاء اتبع طاعة الله، ومن شاء تأخر عنها. قوله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) } . عن ابن عباس: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ، يقول: مأخوذة بعملها. {إِلَّا

أَصْحَابَ الْيَمِينِ} ، قال قتادة: علق الناس كلهم إلا أصحاب اليمين. وقال ابن زيد: لا يرتهنون بذنوبهم، ولكن يغفرها الله لهم. {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} قال قتادة يقول: كلما غوى غاوٍ غوينا معه {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} ، قال البغوي: هو: الموت، قال الله: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} روى ابن جرير عن ابن مسعود في قصة ذكرها من الشفاعة قال: (ثم تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون والمؤمنون، ويشفعهم الله فيقول: أنا أنا أرحم الراحمين، فيخرج من النار أكثر مما أخرج من جميع الخلق من النار، ثم يقول: أنا أرحم الراحمين؛ - ثم قرأ عبد الله يا أيها الكفار -: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} وعقد بيده أربعًا ثم قال: هل ترون في هؤلاء من خير؟ إلا ما يترك فيها أحد فيه خير) . وعن قتادة: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} ، أي: في هذا القرآن؟ {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} ، قال ابن عباس: هي: الرماة. قال قتادة: وهم: الرماة القناص. وقال أبو هريرة: هو: الأسد، قال ابن كثير، أي: كأنهم في نفارهم عن الحق وإعراضهم عنه حمر من حمر الوحش، إذا فرت ممن يريد صيدها. وعن مجاهد: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} ، قال: إلى فلان من رب العالمين. وقال قتادة: قال ذلك قائلون من الناس: يا محمد إن سرك أن نتبعك فائتنا بكتاب خاصة إلى فلان نؤمر فيه بإتباعك. قال البغوي: فقال الله تعالى: {كَلَّا} لا يؤتون الصحف، {بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} ، قال قتادة: إنما

أفسدهم أنهم كانوا لا يصدقون بالآخرة، ولا يخافونها. قال البغوي: والمعنى: أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا هذه الآيات بعد قيام الأدلة {كَلَّا} حقًَا. {إِنَّهُ} ، يعني: القرآن. {تَذْكِرَةٌ} موعظة. {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} أتعظ به. {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} ، قال مقاتل: إلا أن يشاء الله لهم الهدى. {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} ، أي: أهل أن تتقي محارمه، وأهل أن يغفر لمن اتقاه. ثم ساق بسنده عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في هذه الآية: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} ، قال: «قال ربكم عز وجل: أنا أهل أن أتقى ولا يشرك بي غيري وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي أن أغفر له» . * * *

الدرس الرابع والتسعون بعد المائتين

الدرس الرابع والتسعون بعد المائتين [سورة القيامة] مكية، وهي أربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) } . * * *

قوله عز وجل: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ... (15) } . قال أبو هشام الرفاعي: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: قوله: {لَا أُقْسِمُ} توكيد للقسم، كقوله: لا والله. وعن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: ممن أنت؟ فقلت: من أهل العراق، فقال: أيهم؟ فقلت: من بني أسد، فقال: من حريبهم أو ممن أنعم الله عليهم؟ فقلت: لا بل ممن أنعم الله عليهم، فقال لي: سل، فقلت: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فقال: يقسم ربك بما شاء من خلقه. وعن قتادة: قوله: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} ، قال: أقسم بهما جميعًا. وعن سعيد بن حبير في قوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} ، قال: تلوم على الخير والشر. وقال مجاهد: تندم على ما فات من الخير وتلوم عليه. وقال الحسن: أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة. قال مقاتل: هي النفس الكافرة تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر الله في الدنيا. {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ} ، قال البغوي: نزلت في عدي بن ربيعة حليف بني زهرة ختن الأخنس بن شويق الثقفي، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم اكفني جاري السوء» ، يعني: عديًا، والأخنس، وذلك أن عدي بن ربيعة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد حدثني عن القيامة، متى تكون وكيف حالها وأمرها؟ فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن بك، أو يجمع الله العظام؟ فأنزل الله عز وجل: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ} ، يعني: الكافر {أَلَّن نَجْمَعَ

عِظَامَهُ} بعد التفرق والبلى فنحييه، {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} ، قال الزجاج وابن قتيبة: معناه ظن الكافر أن لا نقدر على جمع عظامه، بلى نقدر على أن نعيد السلاميات على صغرها فنؤلف بينها حتى نسوي البنان، فمن قدر على جمع صغار العظام فهو على جمع كبارها أقدر. وعن ابن عباس: قوله: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} ، قال: نجعله خفًا أو حافرًا. وقال الضحاك: البنان: الأصابع. وعن عكرمة: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ، قال: قدمًا لا ينزع عن فجور. وقال ابن عباس يقول: الكافر يكذب بالحساب يسأل أيان يوم القيامة. وقال قتادة يقول: متى يوم القيامة؟ {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} ، قال مجاهد: عند الموت. وقال قتادة: شخص البصر: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} ، قال: ذهب ضوءه فلا ضوء له {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} قال مجاهد: كورًا يوم القيامة: {يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} أي: المهرب. وعن ابن عباس قوله: {كَلَّا لَا وَزَرَ} يعني: لا حصن ولا ملجأ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} قال قتادة: أي: المنتهي. وقال ابن زيد: استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. {يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} ، قال مجاهد: بأول عمله وآخره. وعن ابن عباس قوله: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} ، يقول: سمعه وبصره ويداه ورجلاه. وقال قتادة: شاهد عليها بعملها. وعن سعيد بن جبير: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ، قال: شاهد على نفسه ولو اعتذر. قوله عز وجل: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) } . عن ابن عباس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل عليه القرآن تعجل، يريد حفظه، فقال الله تعالى ذكره: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ، وقال ابن عباس: هكذا، وحرك شفتيه. {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} ، قال: في صدرك، {وَقُرْآنَهُ} ، قال: تقرؤه بعد. {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أنزلناه إليك. {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ، قال:

فاستمع قرآنه. {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، قال: تبيانه بلسانك، فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل) . قوله عز وجل: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) } . عن قتادة: قوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} اختار أكثر الناس العاجلة إلا من رحم الله وعصم. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} ، قال ابن زيد: الناضرة: الناعمة. وقال الحسن: حسنة. وقال مجاهد: مسرورة. {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، قال الحسن: تنظر إلى الخالق، وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق. وقال عطية العوفي: هم ينظرون إلى الله، لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره محيط بهم؛ فذلك قوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} . وفي الصحيحين عن جرير قال: نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، ولا قبل غروبها فافعلوا» . وفي الصحيحين أيضًا عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» . وروى مسلم عن جابر في حديثه: «إن الله يتجلى للمؤمنين، يضحك - يعني: في عرصات يوم القيامة -» . قال ابن كثير: ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم عز وجل في العرصات، وفي روضات الجنات.

عن مجاهد: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} ، قال: كاشرة. وقال قتادة: كالحة. وقال ابن زيد: عابسة. {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} ، قال مجاهد: واهية. وقال قتادة: شر. وقال ابن زيد: تظن أنها ستدخل النار، قال: تلك الفاقرة. وقال البغوي: الفاقرة الداهية العظيمة، والأمر الشديد يكسر فقار الظهر. قوله عز وجل: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) } . قال البغوي: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ} ، يعني: النفس، كناية عن غير مذكور، {التَّرَاقِيَ} تحشرج بها عند الموت {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: وقال أهله: من ذا يرقيه ليشفيه مما قد نزل به؟ وطلبوا له الأطباء والمداوين، فلم يغنوا عنه من أمر الله الذي قد نزل شيئًا. وعن قتادة: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} ، أي: استيقن. وقال ابن زيد: ليس أحد من خلق الله يدفع الموت ولا ينكره، ولكن لا يدري يموت من ذلك المرض أو من غيره، فالظن كما ها هنا هذا. {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} ، قال الحسن: لفهما أمر الله. وقال أبو مالك: هما ساقاه إذا ضمت إحدهما بالأخرى. وقال قتادة: ماتت رجلاه فلا يحملانه إلى شيء، فقد كان عليهما جوالاً. وعن ابن عباس قوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} يقول: آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحم الله. وقال مجاهد: هو أمر الدنيا والآخرة عند الموت.

{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} قال البغوي: أي: مرجع العباد إلى الله يساقون إليه. وعن قتادة: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} لا صدق لكتاب الله، ولا صلى لله. {وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} كذب بكتاب الله، وتولى عن طاعة الله. {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} ، أي: يتبختر، وهو أبو جهل بن هشام كانت مشيته. قال ابن جرير: ومنه الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مشت أمتي المطيطاء» ، وذلك أن يلقي الرجل بيديه ويتكفأ. وقال سعيد عن قتادة: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وعيد على وعيد كما تسمعون، زعم أن هذا أنزل في عدو الله أبي جهل، ذكر لنا: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بمجامع ثيابه فقال: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} فقال عدو الله أبو جهل: أيوعدني محمد؟ والله ما تستطيع لي أنت ولا ربك شيئًا، والله لأنا أعز من مشى بين جبليها. قال: فلما كان يوم بدر أشرف عليهم فقال: لا يصد الله بعد هذا اليوم؛ وضرب الله عنقه وقتله شر قتلة. وعن ابن عباس: قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} ؟ قال: هملاً. وقال مجاهد: لا يؤمر ولا ينهى؟ {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} ، قال البغوي: فجعل فيه الروح وسوى خلقه، {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ} الذي فعل هذا {بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ؟ وعن ابن عباس: أنه مر بهذه الآية: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ؟ قال: سبحانك فبلى. * * *

الدرس الخامس والتسعون بعد المائتين

الدرس الخامس والتسعون بعد المائتين [سورة الإنسان] مدنية، وهي إحدى وثلاثون آية بسم الله الرحمن الرحيم {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ

وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (31) } . * * *

قوله عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) } . عن قتادة: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ} آدم أتى عليه. {حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} ؟ قال: كان آدم - صلى الله عليه وسلم - آخر ما خلق من الخلق. {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} ، قال مجاهد: خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة. وقال الربيع: إذا اجتمع ماء الرجل وماء المرأة فهو أمشاج. وقال ابن جرير: وقوله: {نَّبْتَلِيهِ} نختبره. ... {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} قال ابن كثير: أي: جعلنا له سمعًا وبصرًا يتمكن بهما من الطاعة والمعصية. وقوله جل وعلا: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي: بيناه له ووضحناه وبصرناه به، كقوله جل وعلا: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وكقوله جل وعلا: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أي: بينا له طريق الخير وطريق الشر. وقوله تعالى: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} منصوب على الحال من الهاء في قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} تقديره: فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل

الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» . قوله عز وجل: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً (22) } . قال ابن كثير: يخبر تعالى عما أرصده للكافرين - من السلاسل والأغلال والسعير، وهو اللهب والحريق - في نار جهنم، كما قال تعالى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} . ولما ذكر ما أعده لهؤلاء الأشقياء من السعير، قال بعده: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة، مع ما يضاف

إلى ذلك من اللذاذة في الجنة. قال الحسن: برد الكافور في طيب الزنجبيل، ولهذا قال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} أي: هذا الذي مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور، هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفًا بلا مزج. وعن قتادة: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} ، قال: مستقيد ماؤها لهم، يفجرونها حيث شاءوا. {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم، فسماهم الله بذلك: {الْأَبْرَارَ} ، فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض. وفي الحديث الصحيح: ... «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» . وعن مجاهد: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} ، قال: وهم يشتهونه: {مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} ، قال قتادة: كان أسراهم يومئذٍ المشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه. وقال مجاهد: الأسير هو: المحبوس. {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً} ، قال: أما أنهم ما تكلموا به، ولكن الله علمه من قلوبهم فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب. {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} ، قال ابن عباس: طويلاً. وقال قتادة: عبست فيه الوجوه وقبضت ما بين أعينها كراهية ذلك اليوم. {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} نضرة في وجهوهم وسرورًا في قلوبهم. {وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} ، يقول: {وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا} على طاعة الله وصبروا عن معصيته ومحارمه. {جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} كنا نحدث أنها الحجال فيها الأسرة. قال الله: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً} يعلم الله أن شدة الحر تؤذي، وشدة القر تؤذي، فوقاهم الله أذاهما. {قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ} ، قال: هي من فضة وصفاؤها صفاء القوارير وبياض الفضة، {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} قال: لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك.

{وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا} ، أي: صفاء القوارير في بياض الفضة. {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} قدرت على ري القوم. {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} ، قال ابن كثير، أي: يسقون - يعني: الأبرار أيضًا - في هذه الأكواب، {كَأْساً} ، أي: خمرًا. {كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور وهو بارد، وتارة بالزنجبيل وهو حار ليعتدل الأمر، وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة، ومن هذا تارة، وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صرفًا. وعن قتادة: قوله: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} رفيعة، يشربها المقربون صرفًا، وتمزج لسائر أهل الجنة، وعن مجاهد: {عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} قال: سلسة الجرية. وعن قتادة: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} أي: لا يموتون. {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} ، قال: من كثرتهم وحسنهم. {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} ، قال البغوي، أي: إذا رأيت ببصرك ونظرت به: {ثَمَّ} ، يعني: في الجنة: {رَأَيْتَ نَعِيماً} لا يوصف {وَمُلْكاً كَبِيراً} ، قال ابن كثير: وثبت في الصحيح: أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجًا، وآخر أهل الجنة دخولاً إليها: (إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها) . {عَالِيَهُمْ} ، أي: فوقهم {ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} ، قال ابن كثير، أي: لباس أهل الجنة فيها الحرير، ومنه سندس وهو رفيع الحرير، كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم، والإستبرق منه ما فيه بريق

ولمعان، وهو مما يلي الظاهر، كما هو المعهود في اللباس {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وهذه صفة الأبرار، وأما المقربون فكما قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} . ولما ذكر تعالى زينة الظاهر بالحرير والحلي قال بعده: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} ، أي: طهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى، وسائر الأخلاق الرديئة؛ كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (إذا انتهى أهل الجنة إلى باب الجنة وجدوا هناك عينين، فكأنما ألهموا ذلك، فشربوا من إحداهما فأذهب الله ما في بطونهم من أذى، ثم اغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم) ؛ فأخبر سبحانه وتعالى بحالهم الظاهر وجمالهم الباطن. وعن قتادة: قوله: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} غفر لهم الذنب وشكر لهم السعي؛ وقال: لقد شكر الله سعيًا قليلاً. قوله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (31) } . قال البغوي: قوله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً} قال ابن

عباس: متفرقًا آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة. {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} ، قال ابن كثير: فالآثم هو الفاجر في أفعاله، والكفور هو الكافر قلبه. {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} إلى أول النهار وآخره: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} ، كقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} . {إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} ، يعني: يوم القيامة، {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} ، قال ابن عباس: خلقهم. وقال الحسن: يعني: أوصالهم، شددنا بعضهما إلى بعض بالعروق والعصب {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} كقوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً} . وعن قتادة في قوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} قال: إن هذه السورة تذكرة، {فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} قال البغوي: وسيلة للطاعة. {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} أي: لستم تشاءون إلا بمشيئة الله عز وجل، لأن الأمر إليه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} ، قال ابن كثير، أي: عليم بمن يستحق الهداية فيسرها له ويقيض له أسبابها، ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، {يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . * * *

الدرس السادس والتسعون بعد المائتين

الدرس السادس والتسعون بعد المائتين [سورة الْمُرْسَلَاتِ] مكية، وهي خمسون آية ... عن أم الفضل: (أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب: بالمرسلات عرفًا) . متفق عليه. بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً (25) أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً (27) وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (28) انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ

شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) } . * * *

قوله عز وجل: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (15) } . عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غار بمنى، إذ نزلت عليه: {وَالْمُرْسَلَاتِ} فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت علينا حية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقتلوها» فابتدرناها فذهبت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وقيت شركم كما وقيتم شرها» . متفق عليه. وعن ابن عباس: قوله: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً} ، يعني: الريح. وعن صالح بن بريدة في قوله: {عُرْفاً} ، قال: يتبع بعضها بعضًا. وقال البغوي: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً} ، يعني: الرياح أرسلت متتابعة كعرف الفرس. وعن قتادة: {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً} ، قال: الرياح. وعن مجاهد: {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً} ، قال: الريح. وقال الحسن: هي الرياح التي يرسلها الله بشرًا بين يدي رحمته. وعن ابن عباس: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً} ، قال: الملائكة. قال البغوي: تأتي بما يفرق بين الحق والباطل، {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً} ، قال قتادة: هي الملائكة تلقي الذكر على الرسل وتبلغه، {عُذْراً أَوْ نُذْراً} ، قال: {عُذْراً} من الله، {أَوْ نُذْراً} منه إلى

خلقه. وقال في جامع البيان: أي: لإعذار المحقين، وإنذار المبطلين، {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} ، قال ابن كثير: هذا هو المقسم عليه بهذه الأقسام، أي: ما وعدتم به من قيام الساعة، والنفخ في الصور، وبعث الأجساد، وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ومجازاة كل عامل بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، إن هذا كله {لَوَاقِعٌ} ، أي: لكائن لا محالة. قال البغوي: ثم ذكر متى يقع فقال: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} محي نورها، {وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ} شقت {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} قلعت من أماكنها {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} جمعت لميقات يوم معلوم. وقال في جامع البيان: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} جمعت وعين لها وقت ينحصرون فيه للشهادة على أممهم، {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} ، قال البغوي: أخرت، وضرب الأجل لجمعهم؛ تعجب العباد من ذلك اليوم؛ ثم بين فقال: {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} ، قال ابن عباس: يوم فصل الرحمن بين الخلائق. وقال ابن كثير: يقول تعالى: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} الرسل وأرجئ أمرها حتى تقوم الساعة، كما قال تعالى: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وهو يوم الفصل، كما قال تعالى: {ليَوْمُ الْفَصْلِ} انظر في الآية. ثم قال تعالى معظمًا لشأنه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي: ويل لهم من عذاب الله غدًا. قوله عز وجل: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي

قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً (25) أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً (27) وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (28) } . قال ابن كثير: يقول تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} ، يعني: من المكذبين للرسل المخالفين لما جاؤوهم به، {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} ، أي: ممن أشبههم، ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} . قال ابن جرير: ثم قال تعالى ممتنًا على خلقه ومحتجًا على الإعادة بالبداءة، {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ} قال البغوي: يعني: النطفة. {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} يعني: الرحم، {إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} وهو وقت الولادة {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} أي: المقدرون {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً} قال ابن عباس: كنا أحياء وأمواتًا. وقال الشعبي: بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} ، يعني: الجبال، {وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً} عذبًا {وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} ، قال مقاتل: وهذا كله أعجب من البعث الذي تكذبون به. قوله عز وجل: {انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (40) } .

قال البغوي: ثم أخبر أنه يقال لهم يوم القيامة: {انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} في الدنيا {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} ، يعني: دخان جهنم إذا ارتفع انشعب وافترق ثلاث فرق، {لَا ظَلِيلٍ} يظلّ من الحرّ {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} . قال الكلبي: لا يردّ جهنّم عنكم، والمعنى: أنهم إذا استظلوا بذلك الظّل لم يدفع عنهم حرّ اللهب، {إِنَّهَا} يعني: جهنّم {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} . قال ابن عباس يقول: كالقصر العظيم، {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} ، قال البغوي: جمع الأصفر، يعني: لون النار، وقيل: الصفر معناها: السود لأنه جاء في الحديث: «أن شرر نار جهنم أسود كالقير» ، والعرب تسمي سود الإبل صفرًا لأنه يشرب سوادها شيء من صفرة. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ} أي: في القيامة لأن فيها مواقف، ففي بعضها يختصمون ويتكلمون وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} ، قال ابن كثير: وعرصات القيامة حالات، والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة وعن هذه الحالة تارة ليدل على شدة الأهوال والزلازل يومئذٍ ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} . وقوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ * فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} وهذه مخاطبة من الخالق تعالى لعباده، يقول لهم: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} ، يعني: أنه جمعهم بقدرته في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر. وقوله تعالى: {فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} تهديد وشديد ووعيد أكيد: أي: إن قدرتم على أن تخلصوا من قبضتي وتنجوا من حكمي فافعلوا، فإنكم لا تقدرون

على ذلك، كما قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . وقال عبد الله بن عمرو: إنا نحدث يومئذٍ: (أنها تخرج عنق من النار فتنطلق، حتى إذا كانت بين ظهراني الناس نادت: أيها الناس إني بعثت إلى ثلاثة، أنا أعرف منهم من الأب بولده: الذي جعل مع الله إلهًا آخر، وكل جبار عنيد، وكل شيطان مريد؛ فتطوى عليهم فتقذف بهم في النار) . قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (45) } . قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن عباده المتقين الذين عبدوه بأداء الواجبات وترك المحرمات، أنهم يوم القيامة يكونون في جنات وعيون، أي: بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من ظلل اليحموم، وهو الدخان الأسود المنتن، وقوله: {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي: من سائر أنواع الثمار مهما طلبوا وجدوا، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، أي: يقال لهم ذلك على سبيل الإحسان إليهم. ثم قال تعالى مخبرًا خبرًا مستأنفًا {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ} ، أي: هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} . قوله عز وجل: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) } .

قال ابن كثير: وقوله تعالى: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ} خطاب للمكذبين بيوم الدين؛ وأمرهم أمر تهديد ووعيد، فقال تعالى: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً} أي: مدة قليلة قريبة قصيرة {إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ} أي: ثم تساقون إلى نار جهنم التي تقدم ذكرها. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} ، كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} . وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} أي: إذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة امتنعوا من ذلك واستكبروا عنه، ولهذا قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} . ثم قال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي: إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن فبأي كلام يؤمنون به؟ كقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} ؟ انتهى. آمنا بالله وآياته. وعن أبي هريرة مرفوعًا: «من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقل: بلى، وإنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ: {لا أقسم بيوم القيامة} فانتهى إلى: ... {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فليقل: بلى. ومن قرأ: {وَالْمُرْسَلَاتِ} فبلغ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} فليقل: آمنا بالله» . رواه البغوي وغيره. والله أعلم. * * *

الدرس السابع والتسعون بعد المائتين

الدرس السابع والتسعون بعد المائتين [سورة النبأ] مكية، وهي أربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً (17) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً (21) لِلْطَّاغِينَ مَآباً (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً (23) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزَاء وِفَاقاً (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً (29) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَكَأْساً دِهَاقاً (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً (35) جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَاباً (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37)

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً (40) } . * * *

قوله عز وجل: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً (16) } . قال الحسن: (لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلوا يتساءلون بينهم، فأنزل الله: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} يعني: الخبر العظيم) . قال قتادة: وهو البعث بعد الموت. وقال ابن زيد في قوله: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} ، قال: يوم القيامة؛ قال قالوا: هذا اليوم الذي تزعمون أنا نحيا فيه وآباؤنا؟ قال: فهم فيه مختلفون لا يؤمنون به، فقال الله: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} يوم القيامة لا يؤمنون به. قال قتادة: فصار الناس فيه فريقين: مصدق، ومكذب، فأما الموت فقد أقروا به لمعاينتهم إياه، واختلفوا في البعث بعد الموت. {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} ، قال البغوي: {كَلَّا} نفي، يقول: هم سيعلمون عاقبة تكذيبهم حين تكشف الأمور، {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} وعيد على أثر وعيد. وقال في جامع البيان: {كَلَّا} ردع عن هذا التساؤل والاختلاف، {سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} تكرير للمبالغة و {ثُمَّ} للإشعار بأن الوعيد الثاني أشد.

قال ابن كثير: ثم شرع تبارك وتعالى يبين قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة والأمور العجيبة الدالة على قدرته على ما يشاء من أمر المعاد وغيره فقال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} ، أي: ممهدة للخلائق ذلولاً لهم قارة ساكنة ثابتة، {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} ، أي: جعلها لها أوتادًا أرساها بها وثبتها وقررها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها، ثم قال: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} ، يعني: ذكرًا وأنثى يتمتع كل منهما بالآخر ويحصل التناسل، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} . وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي: قطعًا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} أي: يغشى الناس ظلامه وسواده، {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} أي: جعلناه مشرقًا نيرًا مضيئًا، ليتمكن الناس من التصرف فيه والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب. وقوله تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} يعني: السموات السبع في اتساعها وارتفاعها، وإحكامها وإتقانها، وتزينها بالكواكب الثوابت والسيارات، ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} يعني: الشمس المنيرة على جميع العالم، التي يتوهج ضوؤها لأهل الأرض كلها. وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} أي: السحاب، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} . وقوله جل وعلا: {مَاء ثَجَّاجاً} قال مجاهد: منصبًّا. وقوله تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} ، أي: لنخرج بهذا الماء الكثير الطيب النافع المبارك حبًا يدخر للأناسي والأنعام {وَنَبَاتاً} ، أي: خضرًا يؤكل

رطبًا {وَجَنَّاتٍ} ، أي: بساتين وحدائق من ثمرات متنوعة وألوان مختلفة وطعوم وروائح متفاوتة، وإن كان ذلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعًا، ولهذا قال: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} ، قال ابن عباس وغيره: {أَلْفَافاً} مجتمعة، وهذه كقوله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . قوله عز وجل: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً (17) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً (21) لِلْطَّاغِينَ مَآباً (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً (23) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزَاء وِفَاقاً (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً (29) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً (30) } . عن قتادة: قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} وهو يوم عظمه الله يفصل الله فيه بين الأولين والآخرين بأعمالهم، {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} ، قال مجاهد: زمرًا زمرًا، {وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً} ، قال ابن كثير: أي: طرقًا ومسالك لنزول الملائكة، {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} ، أي: يخيل إلى الناظر أنها شيء وليست بشيء. وكان الحسن إذا تلا هذه الآية: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} ، قال: ألا إن على الباب الرصد، فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجيء بجواز احتبس. وقال قتادة: يعلمنا أنه لا سبيل إلى الجنة حتى يقطع النار. {لِلْطَّاغِينَ مَآباً} ، أي: نزلاً ومأوى، {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} وهو مالا انقطاع له، كلما مضى

حقب جاء حقب بعده، وذكر لنا أن الحقب ثمانون سنة من سني الآخرة. وعن الربيع: {لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} فاستثنى من الشراب: الحميم، ومن البرد: الغساق. وقال مجاهد: هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده وعن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أن دلوًا من غساق يهراق إلى الدنيا لأنتن أهل الدنيا» . رواه ابن جرير. وعن ابن عباس: قوله: {جَزَاء وِفَاقاً} يقول: وافق أعمالهم. قال قتادة وافق الجزاء أعمال القوم أعمال السوء {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً} قال ابن زيد: لا يؤمنون بالبعث ولا بالحساب. وقال قتادة: لا يخافون حسابًا {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً} قال البغوي: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: بما جاء به الأنبياء {كِذَّاباً} يعني: تكذيبًا. {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} أي: وكل شيء من الأعمال بيناه في اللوح المحفوظ. وقال ابن كثير: أي: وقد علمنا أعمال العباد وكتبناها عليهم وسنجزيهم على ذلك إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. وعن قتادة: ... {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} ذكر لنا أن عبد الله بن عمرو كان يقول: ما نزلت على أهل النار آية أشد منها: {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} فهم في مزيد من عذاب الله أبدًا. قوله عز وجل: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَكَأْساً دِهَاقاً (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً (35) جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَاباً (36) رَبِّ

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً (40) } . عن قتادة: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} ، أي: والله مفازًا من النار إلى الجنة، ومن عذاب الله إلى رحمته {حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} يعني: بذلك النساء أترابًا لسن واحدة. وقال ابن جريج: الكواعب: النواهد. وقال ابن زيد: هي التي قد نهدت وكعب ثديها {وَكَأْساً دِهَاقاً} ، قال: الدهاق المملوءة. وقال ابن عباس: الملأى المتتابعة. وعن قتادة {لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً} قال: باطلاً وإثمًا {جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَاباً} أي: عطاء كثيرًا، فجزاهم بالعمل اليسير الخير الجسيم الذي لا انقطاع له. {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} أي: كلامًا. قال مقاتل: لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه. {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} ، أي: جبريل عليه السلام، {وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} ، قال ابن عباس يقول: إلا من أذن له الرب بشهادة أن لا إله إلا الله، وهي منتهي الصواب. وعن مجاهد: {وَقَالَ صَوَاباً} ، قال: حقًا في الدنيا وعمل به. {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} ، قال البغوي: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} الكائن الواقع، يعني: يوم القيامة، {فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} مرجعًا وسبيلاً بطاعته، أي: فمن شاء رجع إلى الله بطاعته. {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} ، يعني: العذاب في الآخرة، وكل ما هو آت قريب، {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}

أي كل امرئ يرى في ذلك اليوم ما قدم من العمل مثبتًا في صحيفته، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} ، قال عبد الله بن عمرو: (إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وحشرت الدواب والبهائم والوحوش، ثم يجعل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء تنطحها، فإذا فرغ من القصاص قيل لها: كوني ترابًا، فعند ذلك يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} ) .

الدرس الثامن والتسعون بعد المائتين

الدرس الثامن والتسعون بعد المائتين [سورة النازعات] مكية، وهي ست وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى (26) أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ

الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (36) فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) } . * * *

قوله عز وجل: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (14) } . عن ابن مسعود: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} ، قال: الملائكة، قال ابن عباس: تنزع الأنفس. قال البغوي: يعني: الملائكة تنزع أرواح الكفار من أجسادهم، كما يغرق النازع في القوس فيبلغ بها غاية المدى. وقال سعيد بن جبير: نزعت أرواحهم ثم غرقت ثم قذف بها في النار. وعن ابن عباس: ... {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} ، قال: الملائكة حين تنشط نفسه. قال البغوي: هي الملائكة تنشط نفس المؤمن، أي: تحل حلاً رفيقًا فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير، وقال ابن القيّم: النازعات التي تنزع الأرواح من الأجساد، والنزع: اجتذاب النفس بقوة؛ والناشطات التي تنشطها، أي: تخرجها بسرعة وخفّة؛ والنزع مشترك بين نفوس بني آدم والإغراق يختصّ بالكافر. وعن مجاهد: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً} ، قال: الملائكة ينزلون من السماء مسرعين. وعن مجاهد: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} ، قال: الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح، {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} ، قال ابن عباس: هم الملائكة وكّلوا بأمور عرّفهم الله عز وجل العمل بها. قال البغوي: وجواب هذه الأقسام محذوف على تقدير: لتبعثن ولتحاسبنّ. وعن ابن عباس: قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} ، يقول:

النفخة الأولى، وقوله: {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} ، يقول: النفخة الثانية. قال الحسن: أما الأولى: فتميت الأحياء، وأما الثانية: فتحي الموتى، ثم تلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} . وعن قتادة: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} ، يقول: خائفة، وجفت مما عاينت يومئذٍ، {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} ، يقول: ذليلة. وقوله تعالى: {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} ، قال البغوي: يقولون - يعني: المنكرين للبعث، إذا قيل لهم إنكم مبعوثون من بعد الموت -؟ : {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} ؟ قال ابن عباس يقول: ائنا لنحيا بعد موتتنا، ونبعث من مكاننا هذا؟ وقال قتادة: أي: مردودون خلقاً جديداً؟ وقال البغوي: {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} ، أي: إلى أول الحال وابتداء الأمر، فنصير أحياء بعد الموت كما كنا؟ تقول العرب: راجع فلان في حافرته، أي: رجع من حيث جاء، والحافرة عندهم اسم لابتداء الشيء وأول الشيء. وعن ابن عباس: {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} فالنخرة: الفانية البالية. وعن قتادة: {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً} تكذيباً بالبعث ناخرة بالية {قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} ، أي: راجعة خاسرة. قال ابن زيد: وأي كرّة أخسر منها؟ أُحْيُوا ثم صاروا إلى النار فكانت كرّة سوء. {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} قال: الزجرة: النفخة في الصور {فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} قال: ظهر الأرض فوق بطنها. قال قتادة: لما تباعد البعث في أعين القوم قال الله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} يقول: فإذا هم على الأرض بعد ما كانوا في جوفها. قال البغوي: والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض: ساهرة، قال بعض أهل اللغة: تراهم سمّوها ساهرة لأن فيها نوم الحيوان وسهرها.

قوله عز وجل: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى (26) } . قال ابن كثير: قوله تعالى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} ، أي: هل سمعت بخبره، {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} ، أي: كلّمه نداء، {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} ، أي: المطهّر، {طُوًى} وهو اسم الوادي. قال قتادة: كنا نحدّث أنه قدّس مرتين، {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} ، قال ابن زيد: إلى أن تسلم؛ قال: والتزكّي في القرآن كلّه الإسلام. {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} ، قال البغوي: أدعوك إلى عبادة ربك وتوحيده، فتخشى عقابه، {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} ، قال مجاهد: عصاه ويده {فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} ، قال مجاهد: يعمل بالفساد {فَحَشَرَ فَنَادَى} قال ابن زيد: صرخ وحشر قومه فنادى فيهم، فلما اجتموا قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} ، قال قتادة: عقوبة الدنيا والآخرة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى} . قال ابن كثير: أي: لمن يتّعظ وينزجر. قوله عز وجل: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) } .

قال ابن كثير: يقول تعالى محتجًّا على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه {أَأَنتُمْ} أيها الناس {أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء} ؟ يعني: بل السماء أشد خلقاً منكم، كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} . قال البغوي: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء} ، يعني: أخلقكم بعد الموت أشدّ عندكم وفي تقديركم أم السماء؟ وهما في قدرة الله واحد. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {بَنَاهَا} فسّره بقوله: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} قال مجاهد: رفع بناءها بغير عمد {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} قال ابن عباس: أظلم ليلها، {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} ، قال مجاهد: نورها. {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} ، قال ابن عباس: وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء، ثم استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات، ثم دحى الأرض بعد ذلك، {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} . قال ابن كثير: وقوله تعالى: {مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} ، أي: دحى الأرض، فأنبع عيونها، وأظهر مكنونها، وأخرج أنهارها، وأنبت زروعها وأشجارها وثمارها، وثبّت جبالها لتستقرّ بأهلها ويقرّ قرارها، كلّ ذلك متاعاً لخلقه، ولما يحتاجون إليه من الأنعام التي يأكلونها ويركبونها مدّة احتياجهم إليها في هذه الدار إلى أن ينتهي الأمد وينقضي الأجل. قوله عز وجل: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (36) فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ

الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) } . عن ابن عباس: قوله: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} من أسماء يوم القيامة، عظّمه الله وحذّره عباده. قال البغوي: والطامّة عند العرب الداهية التي لا تستطاع، {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى} ما عمل في الدنيا من خير وشرّ، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} ، قال مقاتل: يكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق، {فَأَمَّا مَن طَغَى} ، قال مجاهد: عصى وآثر الحياة الدنيا، {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} ، قال مقاتل: هو الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها، {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} . {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} ، قال البغوي: متى ظهورها وثبوتها {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} لست في شيء من علمها وذكرها: أي: لا تعلمها {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} أي: منتهى علمها عند الله ... {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} أي: إنما ينفع إنذارك من يخافها ... {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} ، قال قتادة: وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة. * * *

الدرس التاسع والتسعين بعد المائتين

الدرس التاسع والتسعين بعد المائتين [سورة عبس] مكية، وهي اثنتان وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْباً (30) وَفَاكِهَةً وَأَبّاً (31) مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) } .

قوله عز وجل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) } . عن ابن عباس: قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى} ، قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هاشم، والعباس بن عبد المطلب، وكان يتصدّى لهم كثيرًا رجاء أن يؤمنوا، فأقبل إليه رجل أعمى يقال له: عبد الله بن أم مكتوم يمشي وهو يناجيهم، فجعل عبد الله يستقرىء النبي - صلى الله عليه وسلم - آية من القرآن وقال: يا رسول الله علمني مما علّمك الله فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبس في وجهه وتولّى، وكره كلامه وأقبل على الآخرين، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعض بصره ثم خفق برأسه، ثم أنزل الله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} . فلما نزل فيه أكرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلّمه وقال له: «ما حاجتك؟ هل تريد من شيء» ؟ وإذا ذهب من عنده قال له: « هل لك حاجة في شيء» ؟ وذلك لما أنزل الله: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} .

قال ابن زيد: كان يقال: لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتم من الوحي شيئًا كتم هذا عن نفسه؛ قال: وكان يتصدّق كهذا الشريف في جاهليّته رجاء أن يسلم، وكان عن هذا يتلهّى. قال البغوي: {عَبَسَ} كلح {وَتَوَلَّى} أعرض بوجهه، {أَن جَاءهُ الْأَعْمَى} وهو ابن أم مكتوم، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} يتطهّر من الذنوب بالعمل الصالح وما يتعلّمه منك، {أَوْ يَذَّكَّرُ} يتّعظ ... {فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} ، {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} ، قال ابن عباس: عن الله وعن الإيمان بما لَهُ من المال، {فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى} تتعرض له وتقبل وتصغي إلى كلامه، {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} أن لا يؤمن ويهتدي، إن عليك إلاَّ البلاغ. {وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى} يمشي، يعني: ابن أمّ مكتوم {وَهُوَ يَخْشَى} الله عز وجل {فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} تتشاغل وتعرض عنه. {كَلَّا} زجر: أي: لا تفعل بعدها مثلها {إِنَّهَا} ، يعني: هذه الموعظة؛ وقال مقاتل: آيات القرآن، {تَذْكِرَةٌ} موعظة وتذكير للخلق {فَمَن شَاء} من عباد الله {ذَكَرَهُ} أي: اتّعظ به. ثم أخبر عن جلالته عنده فقال: {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} يعني: اللوح المحفوظ {مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ} لا يمسّها إلاَّ المطهرون {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} ، قال ابن عباس: هم الملائكة {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} قال البغوي: أي: كرام على الله بررة مطيعين. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاقّ له أجران» . رواه الجماعة. قوله عز وجل: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ

شَقّاً (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْباً (30) وَفَاكِهَةً وَأَبّاً (31) مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) } . قال مجاهد: ما كان في القرآن: قتل الإنسان أو فعل بالإنسان، فإنما عني به الكافر. قال البغوي: {مَا أَكْفَرَهُ} ما أشد كفره بالله مع كثرة إحسانه إليه وأياديه عنده، على طريق التعجّب. قال الزجاج معناه: اعجبوا أنتم من كفره. وقال الكلبيّ ومقاتل: هو (ما) الاستفهام، يعني: أيّ شيء حمله على الكفر؟ ثم بين من أمره ما كان ينبغي معه أن يعلم أن الله خلقه فقال: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} . وقال ابن كثير: ثم بين تعالى له كيف خلقه من الشيء الحقير، وأنه قادر على إعادته كما بدأه فقال تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} ، قال البغوي: أطوارًا: من نطفة ثم علقة إلى آخر خلقه {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} قال ابن عباس: يعني بذلك: خروجه من بطن أمه يسره له. وقال مجاهد: هو كقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} . {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} ، قال البغوي: جعل له قبرًا يوارى فيه {ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} أحياه بعد موته، {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} ، قال البغوي {كَلَّا} رد عليه، أي: ليس كما يقول ويظن هذا الكافر. وقال الحسن: حقًا، {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} ، أي: لم يفعل ما أمره الله به ربه، ولما يؤد ما فرض عليه. ولما ذكر خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر فقال: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} كيف قدره ربه ودبره له وجعله سببًا لحياته. وقال مجاهد: إلى مدخله ومخرجه. ثم بين فقال: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً} ، يعني: المطر، {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً} بالنبات {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً} ، أي: الحبوب التي يتغذى بها

{وَعِنَباً وَقَضْباً} وهو القت الرطب، سمى بذلك لأنه يقضب في كل أيام: أي: يقطع. {وَزَيْتُوناً} وهو ما يعصر منه الزيت، {وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ} بساتين {غُلْباً} غلاظ الأشجار. وقال مجاهد: الغلب: الشجر الملتف بعضه في بعض. {وَفَاكِهَةً} يريد: ألوان الفاكهة. {وَأَبّاً} ، يعني: الكلأ والمرعى الذي لم يزرعه الناس. قال قتادة: الفاكهة لكم، والأب لأنعامكم. وعن إبراهيم التيمي قال: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} فقال: (أيّ سماء تظلني، وأيّ أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟) وعن أنس قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} فلما أتى على هذه الآية: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} ، قال: (قد عرفنا الفاكهة فما الأب؟ فقال: لعمرك يا ابن الخطاب، إن هذا لهو التكلف) ؛ قال ابن كثير: وهذا محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه، وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض، لقوله: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} . وقوله تعالى: {مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} ، أي: عيشة لكم ولأنعامكم في هذه الدار إلى يوم القيامة. قوله عز وجل: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) } .

عن ابن عباس في قوله: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ} ، قال: (هذا من أسماء يوم القيامة، عظمه الله وحذره عباده) . قال البغوي: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ} ، يعني: صيحة القيامة، سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع: أي: تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} لا يلتفت إلى واحد منهم لشغله بنفسه. وقال عكرمة: يلقى الرجل زوجته فيقول: يا هذه أيّ بعل كنت لك؟ فتقول: نعم البعل، وتثني بخير ما استطاعت، فيقول لها: فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبيها لي لعلي أنجو مما ترين، فتقول له: ما أيسر ما طلبت، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئًا، أتخوف مثل الذي تخاف. قال: وإن الرجل ليلقى ابنه فيتعلق به فيقول: يا بني: أيّ والد كنت لك؟ فيثني بخير فيقول له: يا بني إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى، فيقول ولده: يا أبت ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل الذي تخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئًا يقول الله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} . وعن عروة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً» فقالت: يا رسول الله فكيف بالعوارت؟ فقال: « {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} » . رواه النسائي. وقال ابن زيد في قول الله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ، قال: شأن قد شغله عن صاحبه. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} ، قال: هؤلاء أهل الجنة: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} ، قال: هذه وجوه أهل النار؛ قال: والقترة من الغبرة وهما واحد، فأما في الدنيا فإن القترة ما ارتفع فحلق بالسماء رفعته الريح، تسميه

العرب: القترة؛ وما كان أسفل في الأرض فهو الغبرة. وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يلجم الكافر العرق، ثم تقع الغبرة على وجوههم» - قال: - فهو قوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} . وقال ابن عباس: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} ، أي: يغشاها سواد الوجوه. وقال البغوي: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} مشرقة مضيئة. {ضَاحِكَةٌ} بالسرور، {مُّسْتَبْشِرَةٌ} فرحة بما نالت من كرامة الله عز وجل. {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} سواد وكآبة مما يشاهدون من الغم والهم، {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} تعلوها وتغشاها ظلمة وكسوف، {أُوْلَئِكَ} الذين يصنع بهم هذا: {هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} . * * *

الدرس الثلاثمائة

الدرس الثلاثمائة [سورة التكوير] مكية، وهي تسع وعشرون آية ... عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين، فليقرأ إذا الشمس كوّرت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقّت» . رواه أحمد وغيره. بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)

وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) } .

قوله عز وجل: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14) } . وعن أبي العالية: قال: قال أبيّ بن كعب: (ست آيات قبل يوم القيامة، بينا الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت واحترقت، وفزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن، واختلطت الدواب والطير والوحش، وماجوا بعضهم في بعض. {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} قال: اختلطت {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} قال: أهملها أهلها {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} ، قال: قالت الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، قال: فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجج قال: فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، قال: فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم) . وعن ابن عباس. {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ، يقول: أظلمت. قال قتادة: ذهب ضوءها فلا ضوء لها. وقال الزجاج: لفت كما تلف العمامة، {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} قال البغوي: أي: تناثرت من السماء وتساقطت على الأرض {وَإِذَا

الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} ، قال ابن جرير: سيرها الله فكانت سرابًا وهباء منبثًا، {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} ، قال الحسن: سيبها أهلها فلم تصر ولم تحلب، ولم يكن في الدنيا مال أعجب إليهم منها، {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} ، قال ابن عباس: حشر البهائم موتها، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} ، قال ابن عباس: كور الله الشمس والقمر والنجوم في البحر، فبعث عليها ريحًا دبورًا فنفخه حتى يصير نارًا، فذلك قوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} . {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} ، قال عمر بن الخطاب: هما الرجلان يعملان العمل يدخلان به الجنة أو النار وقرأ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} ، قال: ضرباءهم. وقال مجاهد: الأمثال من الناس جمع بينهم. وقال قتادة: لحق كل إنسان بشيعته. وقال الشعبي: زوجت الأرواح الأجساد. وعن أبي العالية في قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ، قال: سيأتي أولها والناس ينظرون وسيأتي آخرها إذا النفوس زُوِّجت. وعن قتادة: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} هي في بعض القراءة: سألت، {بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} لا بذنب؛ كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ويغذو كلبه، فعاب الله ذلك عليهم. قال البغوي: ومعناه تسأل الموؤدة فيقال لها: بأي ذنب قتلت؟ ومعنى سؤالها توبيخ قاتلها، لأنها تقول: قتلت بغير ذنب. {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} ، قال قتادة: صحفك يا ابن آدم تملي ما فيها ثم تطوى، ثم تنشر عليك يوم القيامة. {وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ} ، قال السدي: كشفت. وقال الفراء: نزعت فطويت. وعن قتادة: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} سعرها غضب الله وخطايا بني آدم. {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} ، قال ابن جرير: قربت وأدنيت. {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} ، قال قتادة: من عمل. وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما نزلت: {إِذَا

الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ، قال عمر لما بلغ: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} : لهذا جرى الحديث. قال البغوي: وهذا جواب قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وما بعدها. قوله عز وجل: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) } . عن قتادة: قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} ، قال: هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار. وقال: الخنس هي: النجوم تخنس بالنهار، و {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} سيرهن إذا غبن. وقال ابن زيد: الخنس إنها تخنس: تتأخر عن مطلعها، هي تتأخر كل عام، لها في كل عام تأخر عن تعجيل ذلك الطلوع تخنس عنه والكنس: تكنس بالنهار فلا ترى. قال: والجواري تجري بعد؛ فهذا: الخُنَّس الجوارِ الكُنَّس. وقال ابن القيم: (أقسم سبحانه بالنجوم في أحوالها الثلاثة: من طلوعها وجريانها وغروبها) . وعن ابن عباس قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} ، يقول: إذا أدبر. وقال الحسن يقول: أقبل بظلامه، ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ورجحه ابن كثير. {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} ، قال قتادة: إذا أضاء وأقبل، {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ، يعني: جبريل. قال ابن كثير: يعني أن هذا القرآن لتبليغ {رَسُولٍ

كَرِيمٍ} ، أي: ملك شريف، {ذِي قُوَّةٍ} كقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ} ، أي: شديد الخلق شديد البطش والفعل، {عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} ، أي: له مكانة عند الله عز وجل ومنزلة رفيعة، {مُطَاعٍ ثَمَّ} ، أي: له وجاهة وهو مسموع القول في الملأ الأعلى، {أَمِينٍ} ، قال البغوي: على وحي الله ورسالته إلى أنبيائه. {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} ، يقول لأهل مكة: {وَمَا صَاحِبُكُم} ، يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، {بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ} ، يعني: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام على صورته {بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق؛ قاله مجاهد، وقتادة. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} ، أي: وما محمد على ما أنزله الله إليه بظنين: أي: بمتهم؛ ومنهم من قرأ ذلك بالضاد: أي: ببخيل، بل يبذله لكل أحد. وقال قتادة: كان القرآن غيبًا فأنزله الله على محمد، فما ضن به على الناس بل نشره وبلغه وبذله لكل من أراده. {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} ، يقول: فأين تعدلون عن كتابي وطاعتي، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} ، قال مجاهد: يتبع الحق، {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، قال البغوي: أعلمهم أن المشيئة في التوفيق إليه، وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله، وفيه إعلام أن أحدًا لا يعمل خيرًا إلا بتوفيق الله، ولا ضرًا إلا بخذلانه. * * *

[سورة الانفطار]

[سورة الانفطار] مكية، وهي تسع عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) } . * * *

قوله عز وجل: {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) } . قال البغوي: {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ} انشقت {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} تساقطت. {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} فجر بعضها في بعض واختلط العذب بالملح فصارت بحرًا واحدًا. {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} ، قال ابن عباس: بحثت. {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} قال القرظي {مَّا قَدَّمَتْ} ما علمت، وأما ما أَخَّرَتْ: فالسنة يسنها الرجل يعمل بها من بعده، {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} ، قال قتادة: شيء ما غر ابن آدم، هذا العدو الشيطان. سمع عمر رجلاً يقرأ: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} فقال عمر: الجهل. وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} روى الإمام أحمد عن بشر بن جحاش القرشي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصق يومًا في كفه، فوضع عليها أصبعه ثم قال: «قال الله عز وجل: يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى

إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق؛ وأنى أوان الصدقة» ؟ وعن مجاهد في قول الله: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} ، قال: في أيّ شبه أب، أو أم، أو عم، أو خال. {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} ، قال: بالحساب. {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ينهاكم عن التعري، فاستحيوا عن التعري، فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات: الغائط، والجنابة، والغسل، فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه، أو بجرم حائط، أو ببعيره» . رواه البزار. وفي رواية ابن أبي حاتم: «أو ليستره أخوه» . قوله عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) } . قال البغوي: قوله عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} الأبرار: الذين بروا وصدقوا في إيمانهم، بأداء فرائض الله عز وجل واجتناب معاصيه. {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} روي أن سليمان بن عبد الملك قال لأبي حازم: ليت شعري، ما لنا عند الله؟ قال: أعرض عملك على كتاب الله، فإنك تعلم مالك عند الله. قال: فأين أجده في كتاب الله؟ فقال: عنده قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي

جَحِيمٍ} ، قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: رحمة الله قريب من المحسنين. قوله عز وجل: {يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها {يَوْمَ الدِّينِ} يوم القيامة {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} ؛ ثم عظم ذلك اليوم فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} ؛ ثم كرر تفخيمًا لشأنه فقال: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} ، قال قتادة: والأمر والله اليوم لله، لكنه يومئذٍ لا ينازعه أحد؛ ليس ثم أحد يومئذٍ يقضي شيئًا ولا يصنع إلا رب العالمين؛ قال ابن كثير: ولهذا قال: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} ، كقوله: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} . * * *

الدرس الواحد بعد الثلاثمائة

الدرس الواحد بعد الثلاثمائة [سورة المطففين] مكية، وهي ست وثلاثون آية بسم الله الرحمن الرحيم {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا

الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) } . * * *

قوله عز وجل: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) } . عن هلال بن طلق قال: بينما أنا أسير مع ابن عمر فقلت: من أحسن الناس هيئة وأوفاهم كيلاً أهل مكة وأهل المدينة؛ قال: حق لهم، أما سمعت الله تعالى يقول: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} . وعن ابن عباس: (قال لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدنية كانوا من أخبث الناس كيلاً فأنزل الله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} فحسنوا الكيل بعد ذلك) . وعن ابن عمر قال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، إن أهل المدينة ليوفون الكيل، قال: وما يمنعهم أن يوفوا الكيل، وقد قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} حتى بلغ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ؟ وعن عكرمة قال: أشهد أن كل كيال ووزان في النار، فقيل له في ذلك فقال: إنه ليس منهم أحد يزن كما يتزن، ولا يكيل كما يكتال، وقد قال الله: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} . قال الزجاج: المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل. {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} ؛ قال البغوي: أي: كالوا لهم ووزنزا لهم {يُخْسِرُونَ} ، أي: ينقصون، {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقوم الناس لرب

العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» . متفق عليه. وعن أبي أمامة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل، ويزاد في حرها كذا وكذا، تغلي منها الهوام كما تغلي القدور، يعرقون فيها على قدر خطاياهم، فمنهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ساقيه، ومنهم من يبلغ إلى وسطه، ومنهم من يلجمه العرق» . رواه أحمد. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبشير الغفاري: «كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين مقدار ثلاثمائة سنة من أيام الدنيا، لا يأتيهم خبر من السماء ولا يؤمر فيهم بأمر» ؟ قال بشير: المستعان الله يا رسول الله. قال: «إذا أنت أويت إلى فراشك فتعوذ بالله من كرب يوم القيامة، وسوء الحساب» . رواه ابن جرير. قوله عز وجل: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) } . عن قتادة: قوله: {إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} ذكر أن عبد الله ابن عمر كان يقول: هي الأرض السفلى، فيها أوراح الكفار، وأعمالهم أعمال السوء. وقال ابن

كثير: يقول تعالى: حقًا إن كتاب الكفار {لَفِي سِجِّينٍ} ، أي: أن مصيرهم ومأواهم لفي سجين، مأخوذ من السجن وهو الضيق ولهذا عظم أمره فقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} أي: هو أمر عظيم، وسجن مقيم، وعذاب أليم. انتهى ملخصًا. وقال الزجاج في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} ، أي: ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك. {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} ، قال البغوي: ليس هذا تفسير السجين، بل هو بيان الكتاب المذكور في قوله: {إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ} ، قال قتادة: رقم لهم بشرّ. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ، قال ابن كثير: أي: ليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله ووحيه، وتنزيله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرين الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا، ولهذا قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب صقل منها، فإن عاد عادت حتى تعظم في قلبه فذلك الران الذي قال الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . رواه ابن جرير. وعن قتادة: قوله: ... {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أعمال السوء: أي والله ذنب على ذنب وذنب على ذنب حتى مات قلبه واسود. وقال ابن

زيد: غلب على قلوبهم ذنوبهم فلا يخلص إليها معها خير. وعن قتادة: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} هو لا ينظر إليهم ولا يزكيهم ... {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وقال الحسين بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته، وقال الإمام مالك: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه. قال البغوي: ثم أخبر أن الكفار مع كونهم محجوبين عن الله يدخلون النار فقال: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا} ، أي: هذا العذاب {الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} . قوله عز وجل: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) } . عن قتادة: قوله: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} قال: عليون فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى، وقال ابن عباس: أعمالهم في كتاب عند الله في السماء. وقال كعب الأحبار: إن الروح المؤمنة إذا قبضت صعد بها، ففتحت لها أبواب السماء وتلقتها الملائكة بالبشرى، ثم عرجوا معها حتى ينتهوا إلى العرش، فيخرج لها من عند العرش رَقّ فيرقم ثم يختم بمعرفتها النجاة بحساب يوم القيامة، وتشهد الملائكة المقربون.

قال البغوي: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} إلى ما أعطاهم الله من الكرامة والنعمة {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} ، قال الحسن: النضرة في الوجه، والسرور في القلب. {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} ، قال ابن عباس: يعني بالرحيق: الخمر، طيب الله لهم الخمر فكان آخر شيء جعل فيها تختم بمسك. وعن قتادة: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} ، قال: عاقبته مسك يمزج لهم بالكافور، ويختم بالمسك. ... {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} ، قال عطاء: فليستبق المستبقون. وعن ابن عباس: قوله: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} صرفًا، ويمزج فيها لمن دونهم. وعن الحسن في قوله: ... {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} ، قال: خفايا أخفاها الله لأهل الجنة. وقال ابن عباس: هذا مما قال الله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} . قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) } . عن قتادة: قوله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} في الدين، يقولون: والله إن هؤلاء لكذبة وما هم على شيء. استهزاء بهم، {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} ، قال ابن جرير: يقول: كان بعضهم يغمز بعضًا بالمؤمن استهزاء به وسخرية، {وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ} ، قال ابن عباس: معجبين، {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ} ، قال ابن كثير: أي: لكونهم على غير دينهم، قال

الله تعالى: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} ، قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: وما بعث هؤلاء الكفار القائلون للمؤمنين: {إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ} حافظين عليهم بأعمالهم، يقول: إنما كلفوا الإيمان بالله والعمل بطاعته، ولم يُجعلوا رقباء على غيرهم يحفظون عليهم أعمالهم وينتقدونها. وعن ابن عباس: قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} ، قال: يعني: السرر المرفوعة عليها الحجال. وكان ابن عباس يقول: (إن السور الذي بين الجنة والنار يفتح لهم فيه أبواب، فينظر المؤمنون إلى أهل النار والمؤمنون على السور ينظرون كيف يعذبون فيضحكون منهم) ، فيكون ذلك مما أقر به أعينهم كيف ينتقم الله منهم. وعن مجاهد: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ} ، قال: جزي. وعن سفيان: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ، حين كانوا يسخرون؟ قال البغوي: ومعنى الاستفهام ها هنا: التقرير. وقال ابن كثير: وقوله تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ؟ أي: هل جوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والتنقيص أم لا؟ يعني: قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله. * * *

[سورة الانشقاق]

[سورة الانشقاق] مكية، وهي خمس وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم ... {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً (11) وَيَصْلَى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) } . * * *

قوله عز وجل: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً (11) وَيَصْلَى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً (15) } . عن أبي رافع قال: (صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} فسجد فقلت له، فقال: سجدت خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه) . متفق عليه. قال البغوي: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} انشقاقها من علامات القيامة {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} أي: سمعت أمر ربها بالانشقاق وأطاعته، من الإذن: وهو الاستماع {وَحُقَّتْ} أي: وحق لها أن تطيع ربها {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} مد الأديم وزيد في سعتها، {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} قال مجاهد: أخرجت ما فيها من الموتى؛ وقال قتادة: أخرجت أثقالها وما فيها، {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} . {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} ، وقال قتادة: إن كدحك يا ابن آدم لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل، ولا قوة إلا بالله. وقال ابن زيد: {كَدْحاً} : العمل {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ

حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من نوقش الحساب عذب» ، فقلت: يا رسول الله أفليس قال الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} قال: «ليس ذاك بالحساب، ولكن ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب» . متفق عليه. وعن قتادة: {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} ، قال: إلى أهل أعد الله لهم في الجنة. وعن مجاهد: قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ} ، قال: يجعل يده من وراء ظهره، {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً} ، قال ابن جرير: وقوله: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً} يقول: فسوف ينادي بالهلاك وهو أن يقول: واثبوراه واويلاه {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} قال قتادة: أي: في الدنيا، {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} أن لن ينقلب، يقول: أن لن يبعث. قال البغوي: ثم قال: {بَلَى} ، أي: ليس كما ظن، بل يحور إلينا ويبعث، {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} من يوم خلقه إلى أن بعثه. قوله عز وجل: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) } . عن ابن عباس: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} قال: هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} وما جمع {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} يقول: إذا استوى. {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ} يقول: حالاً بعد حال. قال ابن زيد: الآخرة بعد

الأولى {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} قال: بهذا الحديث وبهذا الأمر. {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} ، قال مجاهد: يكتمون، {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قال ابن كثير: أي: فأخبرهم يا محمد بأن الله عز وجل قد أعد لهم عذابًا أليماً. وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} هذا استثناء منقطع، يعني: لكن {الَّذِينَ آمَنُواْ} أي: بقلوبهم {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أي: بجوارحهم {لَهُمْ أَجْرٌ} أي: في الدار الآخرة {غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال البغوي: غير مقطوع ولا منقوص. * * *

الدرس الثاني بعد الثلاثمائة

الدرس الثاني بعد الثلاثمائة [سورة البروج] مكية، وهي اثنتان وعشرون آية ... عن أبي هريرة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العشاء الآخرة: بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق) . رواه أحمد. بسم الله الرحمن الرحيم {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22) } . * * *

قوله عز وجل: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) } . عن مجاهد: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ} ، قال: النجوم. وقال ابن جرير: ذات منازل الشمس والقمر، وقال ابن عباس: قصور في السماء {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} قال قتادة: يعني: يوم القيامة. وقوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} قال ابن عباس: (الشاهد محمد والمشهود يوم القيامة ثم قرأ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} . وقال مجاهد: الشاهد: ابن آدم، والمشهود: يوم القيامة. وعن ابن عباس في قوله: {وَشَاهِدٍ} يقول: الله: {وَمَشْهُودٍ} يقول: يوم القيامة. وقال وابن عمرو بن الزبير: الشاهد يوم الذبح، والمشهود يوم الجمعة. وعن أبي هريرة أنه قال في هذه الآية: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} قال: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، والموعود يوم القيامة. وروى مرفوعًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} يوم القيامة، {وَشَاهِدٍ} يوم الجمعة، وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا

أعطاه إياه، ولا يستعيذ فيها من شر إلا أعاذه {وَمَشْهُودٍ} يوم عرفة» . وعن أبي الدراداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكثروا عليّ الصلاة يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة» . رواه ابن جرير. قال ابن القيم: (فالشاهد هو: المطلع والرقيب والمخبر، والمشهود هو: المطلع عليه المخبر به المشاهد، إلى أن قال: فكل ما وقع عليه اسم: شاهد ومشهود، فهو داخل في هذا القسم، فلا وجه لتخصيص بعض الأنواع أو الأعيان إلا على سبيل التمثيل) . عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني كبر سني وحضر أجلي، فادفع إلي غلامًا لأعلمه السحر، فدفع إليه غلامًا كان يعلمه السحر؛ وكان الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر. قال: فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر؛ قال فأخذ حجرًا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل

هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك فقال: أي بني أنت أفضل مني وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ. فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم، وكان للملك جليس فعمي، فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة فقال: اشفني ولك ما ها هنا أجمع، فقال: ما أنا أشفي أحدًا، وإنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي، فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله، قال: أولك رب غيري؟ قال: نعم ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فبعث إليه فقال: أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أحدًا إنما يشفي الله عز وجل، قال: أنا؟ قال: لا، قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه أيضًا بالعذاب، فلم يزل به حتى دل على الراهب؛ فأتى بالراهب فقال: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض؛ وقال للغلام: ارجع عن دينك فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا وقال: إذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه، فذهبوا به فلما علوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى. فبعث به مع نفر في قرقور فقال: إذا لججتم به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر، فلججوا به البحر فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون؛ وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى؛ ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني وإلا فإنك لا تستطيع قتلي؛ قال: وما هو؟ قال:

تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهمًا من كنانتي، ثم قل: باسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني، ففعل ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه، وقال: بسم الله رب الغلام فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم. فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها. قال فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه فإنك على الحق» . رواه أحمد وغيره. وعن ابن عباس: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} حرقوا المؤمنين والمؤمنات، {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} ، قال ابن كثير: وذلك أن الجزاء من جنس العمل. قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} . قوله عز وجل: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22) } . قال البغوي: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} قال ابن عباس: إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظلمة لشديد {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} أي: يخلقهم أولاً في الدنيا ثم

يعيدهم أحياء بعد الموت {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} قال ابن عباس يقول: الحبيب {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} قال البغوي: قرأ حمزة والكسائي: (المجيد) بالجر على صفة الْعَرْشِ أي: السرير العظيم؛ وقيل: أراد حسنه فوصفه بالمجد كما وصفه بالكرم، فقال: (رب العرش الكريم) ومعناه: الكمال، والعرش أحسن الأشياء وأكملها. وقرأ الآخرون: بالرفع على صفة ذو العرش، فقال: لما يريد لا يعجزه شيء يريده، ولا يمتنع منه شيء طلبه. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} أي: هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس، وأنزل عليهم من النقمة التي لم يردها عنهم أحد؟ وهذا تقرير لقوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} . وعن عمرو بن ميمون قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة تقرأ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} فقام يسمع فقال: «نعم قد جاءني» . رواه ابن أبي حاتم. {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} قال البغوي: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} من قومك يا محمد، {فِي تَكْذِيبٍ} لك وللقرآن كدأب من قبلهم ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} عالم بهم لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، يقدر أن ينزل بهم ما أنزل بمن كان قبلهم. {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ} كريم شريف كثير الخير، ليس كما زعم المشركون أنه شعر وكهانة، {فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} وهو أم الكتاب ومنه تنسخ الكتب {مَّحْفُوظٍ} من الشياطين ومن الزيادة فيه والنقصان. قال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش. * * *

[سورة الطارق]

[سورة الطارق] مكية، وهي سبع عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم ... {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) } . * * *

قوله عز وجل: {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) } . قال ابن كثير: يقسم تبارك وتعالى بالسماء وما جعل فيها من الكواكب النيرة، ولهذا قال تعالى: {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ} ثم قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} ثم فسره بقوله: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} قال قتادة وغيره: إنما سمي النجم طارقًا لأنه إنما يرى بالليل ويختفي بالنهار. {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} قال البغوي: ما كل نفس إلا عليها حافظ وهي لغة هذيل يجعلون {لَّمَّا} بمنزلة (إلا) يقولون: نشدتك الله لما قمت أي: إلا قمت. وعن قتادة: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} حفظة يحفظون عملك ورزقك وأجلك، إذا توفيته يا ابن آدم قبضت إلى ربك. وقال الكلبي: حافظ من الله يحفظها ويحفظ قولها وفعلها، حتى يدفعها ويسلمها إلى المقادير، ثم يخلي عنها. {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} ، قال البغوي: أي: فليتفكر من أيّ شيء خلقه ربه {خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ} مدفوق: أي: مصبوب في الرحم، وهو: المني. وقال ابن كثير: يخرج دفقًا من الرجل ومن المرأة، فيتولد منهما الولد بإذن الله عز وجل؛

ولهذا قال: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} ، يعني: صلب الرجل، وترائب المرأة وهو صدرها. وقال قتادة: يخرج من بين صلب الرجل ونحره. {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} ، قال: على بعثه وإعادته. {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} ، قال: إن هذه السرائر مختبرة، فأسروا خيرًا أو أعلنوه إن استطعتم ولا قوة إلا بالله، {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} ، قال: {مِن قُوَّةٍ} يمتنع بها {وَلَا نَاصِرٍ} ينصره من الله. قوله عز وجل: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) } . عن قتادة: قوله: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ} قال: ترجع بأرزاق العباد كل عام، لولا ذلك هلكوا وهلكت مواشيهم. وقال الضحاك: يعني: المطر. {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} قال قتادة: تصدع عن الثمار وعن النبات كما رأيتم. {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} ، قال ابن عباس: يقول: حق. {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} قال مجاهد: باللعب، وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنها ستكون فتن» ، قلنا: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله» . الحديث. قال ابن كثير: ثم أخبر عن الكافرين بأنهم يكذبون به ويصدون عن سبيله فقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} ، أي: يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن،

{وَأَكِيدُ كَيْداً} ، قال البغوي: وكيد الله استدراجه إياهم من حيث لا يعلمون. قال ابن كثير: ثم قال تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} أي: أَنْظِرْهُمْ ولا تستعجل لهم {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} أي: قليلاً. أي: وسترى ماذا حلّ بهم من العذاب والنكال والعقوبة والهلاك كما قال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} . وقال في جامع البيان: {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} إمهالاً يسيراً كرّر وخالف بين الفعلين لزيادة التسكين والتصبير، والحمد لله رب العالمين. * * *

الدرس الثالث بعد الثلاثمائة

الدرس الثالث بعد الثلاثمائة [سورة الأعلى] مكية، وهي تسع عشر آية عن النعمان بن بشير: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما) . رواه مسلم وغيرهم. بسم الله الرحمن الرحيم {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى (5) سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى (6) إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) } . * * *

قوله عز وجل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى (5) سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى (6) إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) } . عن قتادة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ذكر لنا أن نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأها قال: «سبحان ربي الأعلى» . وعن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجعلوها في ركوعكم» فلما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، قال: «اجعلوها في سجودكم» . وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} أي: خلق الخليقة وسوّى كل مخلوق على هيئته {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} أي: قدّر قدراً وهدى الخلائق إليه. {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى} قال قتادة: يعود يبسًا بعد خضرة. وقال ابن عباس: هشيماً متغيراً. وعن مجاهد: قوله: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى} قال: كان يتذكّر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى. وقال قتادة: كان - صلى الله عليه وسلم - لا ينسى شيئاً إلاَّ ما شاء الله.

قال البغوي: وهو ما نسخ الله تلاوته من القرآن، كما قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} . {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} قال ابن عباس: نيسرك لأن تعمل خيرًا {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} قال ابن كثير: أي: ذكر حيث تنفع التذكرة، ومن ها هنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله. {سَيَذَّكَّرُ} سيتعظ {مَن يَخْشَى} الله عز وجل {وَيَتَجَنَّبُهَا} ، أي: الذكرى، ويتباعد عنها {الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا} فيستريح {وَلَا يَحْيَى} حياة تنفعه. قوله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) } . عن ابن عباس: قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} ، يقول: من تزكى من الشرك {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} يقول: الصلوات الخمس. وعن الحسن في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} قال: من كان عمله زاكيًا. {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} قال قتادة: فاختار الناس العاجلة إلا من عصم الله. {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} قال: تتابعت كتب الله كما تسمعون: إن الآخرة خير وأبقى. وعن أبي الخلد قال: (أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست ليال خلون من رمضان، وأنزل الزبور لاثنتي عشرة ليلة، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة ليلة، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين) . وفي

حديث أبي ذر المشهور قلت: يا رسول الله فهل في الدنيا شيء مما كان في أيدي إبراهيم وموسى؟ قال: «نعم، اقرأ يا أبا ذر: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} » . * * *

[سورة الغاشية]

[سورة الغاشية] مكية، وهي ست وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم ... {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) } . * * *

قوله عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) } . قال ابن عباس: (الغاشية من أسماء يوم القيامة، عظمه الله وحذره عباده) . {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} ، قال قتادة: ذليلة، {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} ، قال الحسن: لم تعمل لله في الدنيا فأعملها في النار، {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} ، قال: أنى طبخها منذ يوم خلق الله الدنيا. {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ} ، قال ابن عباس: الضريع: الشبرق. قال عكرمة: هي شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض، فإذا كان الربيع سمتها قريش الشبرق، فإذا هاج العود سمتها الضريع {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ} . {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ} أي: يعرف النعيم فيها {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} قال سفيان: قد رضيت بعملها {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} قال ابن عباس: يقول لا تسمع أذى ولا باطلاً {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} . أي: سارحة. قال ابن كثير: وهذه نكرة في سياق الإثبات وليس المراد بها عينًا واحدة، وإنما هذا جنس، يعني: فيها عيون جاريات {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} ، قال ابن عباس: ألواحها من ذهب، مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة ما لم يجيء أهلها، فإذا أراد أن

يجلس عليها تواضعت له حتى يجلس عليها ثم ترتفع إلى موضعها؛ {وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ} عندهم {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} قال قتادة: والنمارق الوسائد {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} قال ابن عباس: الزرابي: البسط. قال البغوي: يعني: البسط العريضة. قال ابن عباس: هي الطنافس التي لها خمل، واحدتها: زربية، {مَبْثُوثَةٌ} مبسوطة. انتهى. قلت: وهي الزوالي بلسان بعض أهل الوقت. قوله عز وجل: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) } . قال البغوي: قال أهل التفسير: لما نعت الله تعالى في هذه السورة ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الكفر وكذبوه، فذكر لهم الله تعالى صنعه فقال: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} . وكانت الإبل أعظم عيش العرب لهم فيها منافع كثيرة، فلما صنع لهم ذلك في الدنيا صنع لأهل الجنة فيها ما صنع، وتكلمت الحكماء في وجه تخصيص الإبل من بين سائر الحيوانات، فقال مقاتل: لأنهم لم يروا بهيمة قط أعظم منها، ولم يشاهد الفيل إلا الشاذ منهم. وقال الكلبي: لأنها تنهض بحملها وهي باركة. وقال قتادة: ذكر الله ارتفاع سرر الجنة وفرشها فقالوا: كيف نصعدها؟ فأنزل الله هذه الآية. وسئل الحسن عن هذه الآية، وقيل له: الفيل أعظم في الأعجوبة، فقال: أما الفيل فالعرب بعيدة العهد بها، ثم هو خنزير لا يركب ظهرها ولا يؤكل لحمها، ولا يحلب درها، والإبل من أعز مال العرب وأنفسها، تأكل النوى والقت، وتخرج اللبن، وهو مع عظمها تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للقائد الضعيف، حتى إن الصبي الصغير يأخذ بزمامها فيذهب بها حيث شاء. وكان شريح القاضي

يقول: اخرجوا بنا إلى كناسة حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت. وقوله تعالى: {وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ} أي: عن الأرض حتى لا ينالها شيء يغيرها، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} ؟ وعن قتادة: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} تصاعد إلى الجبل الصخر عامة يومك فإذا أفضيت إلى أعلاه أفضيت إلى عيون متفجرة وثمار متهدلة ثم لم تحرثه الأيدي ولم تعمله نعمة من الله وبلغة إلى أجل، {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} ، أي: بسطت، يقول: أليس الذي خلق هذا بقادر على أن يخلق ما أراد في الجنة؟ {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} قال ابن كثير: أي: فذكر يا محمد الناس بما أرسلت به إليهم، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب. ولهذا قال: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} قال ابن عباس: يقول: لست عليهم بجبار. وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله، - ثم قرأ -: {إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطرٍ} » . رواه ابن جرير وغيره. وعن مجاهد: قوله: {إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ} ، قال: حسابه على الله {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} ، قال ابن جرير: وهو عذاب جهنم. وعن قتادة: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} ، يقول: إن إلى الله الإياب وعليه الحساب. * * *

الدرس الرابع بعد الثلاثمائة

الدرس الرابع بعد الثلاثمائة [سورة الفجر] مكية، وهي ثلاثون آية بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً (21) وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) } . * * *

قوله عز وجل: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) } . وعن عبد الله بن الزبير أنه قال: {وَالْفَجْرِ} : قسم أقسم الله به. وقال عكرمة: الفجر فجر الصبح. {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} ، قال ابن عباس: هن الليالي الأول من ذي الحجة. قال مسروق: هي أفضل أيام السنة. وعن مجاهد: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} ، قال: كل خلق الله شفع: السماء والأرض والبر والبحر، والجن والإنس، والشمس والقمر، والله الوتر وحده. وعن قتادة: قوله: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} إن من الصلاة شفعًا، وإن منها وترًا. وعن ابن عباس: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} ، يقول: إذا ذهب. {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ} ، قال: لذي عقل، لذي نهى. قال ابن جرير: وقوله: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ} ، يقول تعالى ذكره: هل فيما أقسمت به من هذه الأمور مقنع لذي حجر. وإنما عنى بذلك: أن في هذا القرآن مكتفى لمن عقل عن ربه بما هو أغلظ منه في الأقسام. وقال ابن كثير: وقوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ} أي: لذي عقل ولبّ ودين وحجى، وإنما سميّ العقل حجرًا لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من

الأفعال والأقوال. انتهى. قال بعض الحكماء: العقل للقلب بمنزلة الروح للجسد. وعن قتادة: قوله {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} قال: كنا نحدّث أن إرم قبيلة من عاد مملكة عاد. وقال ابن إسحاق: عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح. وعن قتادة: قوله: {ذَاتِ الْعِمَادِ} ، قال: كانوا أهل عمود لا يقيمون سيارة. وقال الكلبيّ: وكانوا أهل عمد وخيام، وماشية سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا أهل جنان وزرع. وعن قتادة: قوله: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} ذكر أنهم كانوا اثنتي عشرة ذراعاً طولاً في السماء. وقال البغوي: أي: لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوّة وهم الذين قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} وعن ابن عباس: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} ، يعني: ثمود قوم صالح كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، وقال قتادة: نقبوا الصخر. وعن مجاهد: قوله: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} ، قال: كان يوتد الناس بالأوتاد، {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ} ، قال البغوي: يعني: عادًا، وثمود، وفرعون عملوا في الأرض بالمعاصي وتجبّروا، {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} ، قال مجاهد: ما عذّبوا به. {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} ، قال ابن عباس: يقول: يرى ويسمع. قوله عز وجل: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً (20) } .

وعن قتادة: قوله: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} وحقّ له {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} ما أسرع كفر بني آدم! يقول الله جلّ ثناؤه: {كَلَّا} إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا أهين من أهنت بقلّتها، ولكن إنما أكرم من أكرمت بطاعتي، وأهين من أهنت بمعصيتي. {بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً} ، قال: الميراث، {أَكْلاً لَّمّاً} ، أي: شديداً. وقال بكر بن عبد الله: اللمّ الاعتداء في الميراث، يأكل ميراثه وميراث غيره. {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} ، قال قتادة: أي: حبًّا شديدًا. قوله عز وجل: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً (21) وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) } . قال ابن كثير: يخبر تعالى عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة، فقال تعالى: {كَلَّا} ، أي: حقاً، {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً} ، قال ابن جرير: يعني: إذا رجت وزلزلت وحرّكت تحريكاً بعد تحريك، {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} ، يقول تعالى ذكره: وإذ جاء ربك يا محمد وأملاكه صفوفًا صفًّا بعد صفّ. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وزيد في سعتها كذا وكذا، وجمع الخلائق بصعيد واحد جنَّهمُ وإنسهم، فإذا كان ذلك اليوم قيضت هذه السماء الدنيا عن أهلها على وجه الأرض، ولأهل السماء وحدهم أكثر

من أهل الأرض جنهم وإنسهم بالضعف، فإذا نثروا على وجه الأرض، فزعوا منهم فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولهم، ويقولون: سبحان ربنا، ليس فينا وهو آت؛ ثم تقاض السماء الثانية، ولأهل السماء الثانية وحدهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن جميع أهل الأرض بضعف جنهم وإنسهم. فإذا نثروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض، فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولهم، ويقولون: سبحان ربنا، ليس فينا وهو آت، ثم تقاض السموات سماء سماء، كلما قيضت سماء عن أهلها كانت أكثر من أهل السموات التي تحتها ومن جميع أهل الأرض بضعف، فإذا نثروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض، فيقولون لهم مثل ذلك، ويرجعون إليهم مثل ذلك حتى تقاض السماء السابعة، فلأهل السماء السابعة أكثر من أهل ست سموات ومن جميع أهل الأرض بضعف فيجيء الله فيهم والأمم جثيّ صفوف، وينادي مناد: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحمادون لله على كل حال. قال: فيقومون فيسرحون إلى الجنة؛ ثم ينادي الثانية: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون؟ فيسرحون إلى الجنة؛ ثم ينادي الثالثة: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار؟ فيقومون فيسرحون إلى الجنة. فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة، خرج عنق من النار فأشرف على الخلائق له عينان تبصران، ولسان فصيح فيقول: إني وكلت منكم بثلاثة: بكل جبار عنيد، فيلقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم، فتحبس بهم في جهنم، ثم يخرج ثانية فيقول: إني وكلت منكم بمن آذى الله ورسوله، فيلتقطهم لقط الطير حب السمسم، فيحبس بهم في جهنم، ثم يخرج ثالثة - قال عوف: قال أبو المنهال: حسبت أنه يقول -: وكلت

بأصحاب التصاوير فيلتقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم، فيحبس بهم في جهنم، فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة ومن هؤلاء ثلاثة، نشرت الصحف، ووضعت الموازين، ودعي الخلائق للحساب) . رواه ابن جرير. وقال الضحاك ابن مزاحم: إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا بأهلها ونزل من فيها من الملائكة وأحاطوا بالأرض ومن عليها، ثم الثانية ، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، فصفوا صفًا دون صف، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم، فإذا رأها أهل الأرض ندوا، فلا يأتون قطرًا من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قول الله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} ، وذلك قوله: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} . وعن ابن مسعود في قوله: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} ، قال: (جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يقودونها) . {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} ، قال ابن عباس: يقول: وكيف له؟ وعن الحسن في قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} ، قال: علم الله أنه صادق، هناك حياة طويلة لا موت فيها آخر ما عليه؛ {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} ، قال: قد علم الله أن في الدنيا عذابًا ووثاقًا فقال: {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} في الدنيا، {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} في الدنيا. وعن قتادة: قوله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله، {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} ، قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب قال:

حدثنا ابن يمان عن أسامة بن زيد عن أبيه قال: (بشرت بالجنة عند الموت، ويوم الجمع، وعند البعث) . وعن قتادة: قوله: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} ، قال: ادخلي في عبادي الصالحين {وَادْخُلِي جَنَّتِي} . * * *

[سورة البلد]

[سورة البلد] مكية، وهي عشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (20) } . * * * قوله عز وجل: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) } . عن ابن عباس في قوله: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} يعني: مكة {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} يعني: بذلك نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، أحل الله له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء ويستحي من شاء، وقال في جامع البيان: قيل معناه: أقسم بمكة حين حلولك

فيها، فيكون تعظيمًا للمقسم به. وقال ابن القيم: (وعلى كل حال فهي جملة اعتراض في أثناء القسم، موقعها من أحسن موقع وألطفه فهذا القسم متضمن لتعظيم نبيه ورسوله) . ... {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} ، قال مجاهد: الولد آدم {وَمَا وَلَدَ} ولده. {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} قال ابن عباس: يقول: في نصب. وقال قتادة: لا يلقى ابن آدم إلا مكابد أمر الدنيا والآخرة. وعن ابن عباس قال: يعني: حمله وولادته، ورضاعه وفصاله، ونبت أسنانه وحياته ومعاشه، كل ذلك شدة؛ قال ابن القيم: (ولا راحة له إلا في الجنة) . {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} ، قال قتادة: ابن آدم يظن أن لن يسأل عن هذا المال: من أين اكتسبه؟ وأين أنفقه؟ {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} أي: كثيرًا. {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} ؟ قال: نعمٌ من الله متظاهرة يقررك بها كيما تشكره، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} قال مجاهد: سبيل الخير والشر. قوله عز وجل: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (20) } . عن قتادة: قوله: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} إنها قحمة شديدة فاقتحموها بطاعة الله {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرقاب أيها أعظم أجرًا؟ قال: «أكثرها ثمنًا» . قال قتادة: ثم أخبر عن اقتحامها فقال: {فَكُّ رَقَبَةٍ *

أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} يقول: يوم يشتهى فيه الطعام. وقال ابن عباس: {فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} قال: ذي مجاعة {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} قال ابن زيد: ذا قرابة {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} قال ابن عباس: الذي ليس له شيء يقيه من التراب. {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} على أمر الله ... {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} لعباد الله: أي: ثم هو مع هذه الأوصاف الجميلة، مؤمن بقلبه محتسب ثواب ذلك عند الله. {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} ، أي: أصحاب اليمين الذين يؤخذ بهم إلى الجنة. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} ، أي: يؤخذ بهم ذات الشمال، {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} ، قال قتادة: أي مطبقة أطبقها الله عليهم، فلا ضوء فيها ولا فرج ولا خروج منها آخر الأبد. * * *

الدرس الخامس بعد الثلاثمائة

الدرس الخامس بعد الثلاثمائة [سورة الشمس] مكية، وهي خمس عشر آية في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: «هلا صليت بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ؟» ، يعني: في العشاء الآخرة. بسم الله الرحمن الرحيم ... {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) } . * * *

قوله عز وجل: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10) } . عن قتادة: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} قال: هذا النهار {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} يتلوها صبيحة الهلال فإذا سقطت الشمس رؤي الهلال {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} قال: إذا غشيها النهار. قال البغوي: يعني: إذا جلى الظلمة، كناية عن غير مذكور. {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} قال قتادة: إذا غشاها الليل {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا} وبناؤها: خلقها. وعن مجاهد: {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا} قال: الله بنى السماء {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} قال: دحاها، وقال ابن زيد: بسطها {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} قال مجاهد: عرفها. وقال ابن عباس: علمها الطاعة والمعصية. {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} يقول: قد أفلح من زكى الله نفسه {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} يقول: وقد خاب من دسى الله نفسه فأضله. وقال قتادة: من عمل خيرًا زكاها بطاعة الله؛ قال: قد وقع القسم ها هنا: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} . وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: « {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} » . قال: «اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها» . وقال قتادة: {قَدْ أَفْلَحَ} من زكى نفسه بعمل صالح ... {وَقَدْ خَابَ مَن

دَسَّاهَا} قال: آثمها وأفجرها. وقال الحسن: أهلكها وأضلها وحملها على المعصية. قال ابن القيم: (وهذا يستلزم القول الأول، فإن العبد إذا زكى نفسه ودساها، فإنما يزكيها بعد تزكية الله لها بتوفيقه وإعانته، وإنما يدسيها بعد تدسية الله لها بخذلانه والتخلية بينه وبين نفسه، فتضمنت الآيتان الرد على القدرية والجبرية) . انتهى ملخصًا. قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ... (15) } . قال ابن زيد في قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} قال: بطغيانهم وبمعصيتهم. {إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا} قدار بن سالف. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ... «انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة» . رواه ابن جرير وغيره. وعن قتادة في قوله: {إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا} ، يعنى: أحيمر ثمود. {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} قسم الله الذي قسم لها من هذا الماء، {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا} أي: فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء. {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} قال الحسن: لا يخاف الله من أحد تبعة في إهلاكهم وعن أبي الطفيل قال: (قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت من الصادقين، فقال لهم صالح: اخرجوا إلى هضبة من الأرض، فخرجوا فإذا هي تمتخض كما

تمتخض الحامل، ثم إنها انفرجت فخرجت من وسطها الناقة، فقال صالح: {هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} فلما ملوها عقروها؛ فقال لهم: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} . وعن جابر قال: لما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح فكانت - يعني: الناقة - ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يومًا ويشربون لبنها يومًا، فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم، إلا رجلاً واحدًا كان في حرم الله» فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: «أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه» . رواه أحمد. وعن قتادة: (أن صالحًا قال لهم حين عقروا الناقة: تمتعوا ثلاثة أيام؛ قال لهم: آية هلاككم أن تصبح وجوهكم مصفرة، ثم تصبح اليوم الثاني محمرة، ثم تصبح اليوم الثالث مسودة، فأصبحت كذلك) . قال ابن كثير: وأصبح ثمود يوم الخميس، وهو اليوم الأول من أيام النظرة، ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح عليه السلام، وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل وهو يوم الجمعة ووجوههم محمرة، وأصبحوا في اليوم الثالث من

أيام المتاع وهو يوم السبت ووجوههم مسودة، فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحنطوا، وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه - عياذًا بالله من ذلك - لا يدرون ماذا يفعل بهم، ولا كيف يأتيهم العذاب، وأشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحدة، فأصبحوا في دارهم جاثمين. * * *

[سورة الليل]

[سورة الليل] مكية، وهي إحدى وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم ... {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) } . * * * قوله عز وجل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) } . عن قتادة: قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} ، قال: آيتان عظيمان يكورهما الله على الخلائق، {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى} ، قال في بعض الحروف: (والذكر والأنثى) . وعن الحسن أنه كان يقرؤها: (وما خلق الذكر والأنثى) ، يقول:

والذي خلق الذكر والأنثى. قال أبو عمرو: وأهل مكة يقولون للرب: سبحان ما سبحت له. وعن قتادة: قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} ، يقول: لمختلف؛ قال وقع القسم ها هنا: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَن أَعْطَى} حق الله واتقى محارم الله التي نهى عنها {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي: بالمجازاة على ذلك. وقال ابن عباس: {وَصَدَّقَ} بالخلف من الله. وقال مجاهد: بالجنة. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} قال ابن عباس: يعني: للخير. قال ابن القيم: (فسرت الحسنى: بلا إله إلا الله، وبالجنة، وبالخلف، وهي ترجع إلى أفضل الأعمال وأفضل الجزاء، فرجع التصديق بالحسنى إلى التصديق بالإيمان وجزائه) . انتهى ملخصًا. {وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} أي: بخل بماله، واستغنى عن ربه عز وجل، {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي: بالجزاء في الدار الآخرة {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أي: لطريق الشر {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} قال قتادة: إذا تردى في النار. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة في بقيع الغرقد، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة، فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: «ما منكم من واحد وما من نفس منفوسة، إلا كتب مكانها من الجنة والنار - أو - إلا قد كتبت شقية أو سعيدة» . فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى أهل الشقاء. فقال: «أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاء فييسرون إلى عمل أهل الشقاء - ثم قرأ -: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} » . رواه الجماعة. وفي

رواية: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» . قوله عز وجل: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) } . عن قتادة: قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} ، يقول: على الله البيان: بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته، {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى * فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} ، قال مجاهد: توهج، {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، قال ابن كثير: أي: لا يدخلها دخولاً يحيط به من جميع جوانبه {إِلَّا الْأَشْقَى} ثم فسره فقال: {الَّذِي كَذَّبَ} ، أي: بقلبه، {وَتَوَلَّى} ، أي: عن العمل بجوارحه وأركانه؛ {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} ، قال البغوي: يطلب أن يكون عند الله زاكيًا لا رياء ولا سمعة. {وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى} يد يكافئه عليها، {إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} بما يعطيه الله عز وجل في الآخرة من الجنة والكرامة جزاء على ما فعل. قال ابن إسحاق: (كان بلال لبعض بني جمح، وكان صادق الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد. قال: فمر به أبو بكر يومًا وهم يصنعون به ذلك، وكانت دار أبي بكر في بني جمح، فقال لأمية: ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين؟ قال: أنت أفسدته فأنقذه مما

ترى. قال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك أعطيكه. قال: قد فعلت: فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذه فأعتقه، ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر ست رقاب، بلال سابعهم، فقال المشركون: ما فعل ذلك أبو بكر لبلال إلا ليدٍ كانت لبلال عنده، فأنزل الله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} . * * *

الدرس السادس بعد الثلاثمائة

الدرس السادس بعد الثلاثمائة [سورة الضحى] مكية وهي إحدى عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) } . * * * عن قتادة: {وَالضُّحَى} ، ساعة من ساعات النهار، {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} ، سكن بالخلق، {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ، قال ابن عباس: يقول: ما تركك ربك وما أبغضك. قال قتادة: (أبطأ عليه جبريل فقال المشركون: قد قلاه ربه وودّعه، فأنزل الله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى} ) . قال ابن

كثير: وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار، ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس في الدنيا وأعظمهم لها إطراحًا كما هو معلوم بالضرورة من سيرته. وعن قتادة: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، وذلك يوم القيامة، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} قال: كانت هذه منازل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعثه الله سبحانه وتعالى. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى} كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . وعن قتادة: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} أي: لا تظلم {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} قال: ردّ السائل برحمة ولين {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} قال مجاهد: بالنبوّة. وعن أبي نضرة قال: (كان المسلمون يرون أن من شكر النعم أن يحدّث بها) . * * *

[سورة الشرح]

[سورة الشرح] مكية، وهي ثمان آيات بسم الله الرحمن الرحيم ... {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) } . * * * قال ابن كثير: يقول تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} يعني: أما شرحنا لك صدرك؟ أي: نوّرناه وجعلناه فسيحًا رحيبًا واسعًا؟ كقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} . وعن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله ما أوّل ما رأيت من أمر النبوّة؟ فاستوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا وقال: «لقد سألت يا أبا هريرة، إنّي في الصحراء ابن عشر سنين وأشهر، وإذا بكلام فوق رأسي، وإذا رجل يقول لرجل: أهو هو؟ فاستقبلاني بوجوه لم أرها قطّ، وأرواح لم أجدها من خلق قطّ، وثياب لم أرها على أحد قطّ، فأقبلا إليّ يمشيان حتى أخذ كلّ واحد مِنهما بعضدي لا أجد لأحدهما مسًّا فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعاني بلا هصر ولا قصر، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغلّ والحسد، فأخرج شيئًا كهيئة العلقة،

ثم نبذها فطرحها، فقال له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي أخرج شبه الغضّة، ثم هز إبهام رجلي اليمنى، فقال: أُعْدُ وأسلم، فرجعت بها أعدو رقة على الصغير ورحمة للكبير» . رواه عبد الله ابن الإِمام أحمد. وعن قتادة: قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} كان للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذنوب قد أثقلته فغفرها الله له. وقال ابن زيد شرح له صدره، وغفر له ذنبه الذي كان قبل أن ينبّأ، فوضعه. وعن مجاهد: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال: لا أُذكر إلا ذُكِرْتَ معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. وعن قتادة في قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ، قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ابدءوا بالعبودية وثَنُّوا بالرسالة» ؛ قال معمر: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. وعن الحسن قال: خرج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يومًا مسرورًا فرحًا وهو يضحك، وهو يقول: «لن يَغلب عسر يسرين، لن يَغلب عسر يسرين» . {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} . قال مجاهد: يتبع اليسر العسر. وعن ابن عباس: قوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} ، يقول: فإذا فرغت مما فرض عليك من الصلاة فسل الله وارغب إليه وانصب له. وعن مجاهد: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} ، قال: إذا فرغت من أمر الدنيا فانصب، قال: فصلّ، {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} ، قال: اجعل رغبتك ونيّتك إلى ربك. وفي الحديث: «لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان» . * * *

[سورة التين]

[سورة التين] مكية، وهي ثمان آيات بسم الله الرحمن الرحيم ... {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) } . * * * عن البراء بن عازب قال: (سمعت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في سفره في إحدى الركعتين: بالتين والزيتون، فما سمعت أحدًا أحس صوتًا أو قراءة منه) . متفق عليه. وعن الحسن في قول الله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} ، قال: تينكم هذا الذي يؤكل، وزيتونكم هذا الذي يعصر. {وَطُورِ سِينِينَ} ، قال: جبل موسى. {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} ، قال: البلد الحرام. قال مجاهد: مكّة. {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ، قال قتادة: وقع القسم ها هنا؛ قال ابن عباس: في أعدل خلق؛ وقال قتادة: في أحسن صورة. {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} ، قال ابن عباس: إلى أرذل العمر. وعن عكرمة قال: من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر، ثم قرأ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . وعن مجاهد: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} ، قال: إلى النار

{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} إلا من آمن. وقال الحسن: هو كقوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . قال ابن القيّم: (والصحيح أن أسفل سافلين: النار) . وعن الكلبي: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} ؟ إنما يعني: الإِنسان، يقول: خلقتك في أحسن تقويم، {فَمَا يُكَذِّبُكَ} أيها الإِنسان، {بَعْدُ بِالدِّينِ} ؟ قال عكرمة: الحساب. {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ؟ قال البغوي: والمعنى: ألا تتفكّر في صورتك وشبابك وهرمك فتعتبر وتقول: أن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني، فما الذي يكذّبك بالمجازاة بعد هذه الحجج؟ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} أقضى القاضين؟ وروينا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قرأ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فانتهى إلى آخرها: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» . * * *

الدرس السابع بعد الثلاثمائة

الدرس السابع بعد الثلاثمائة [سورة العلق] مكية، وهي تسع عشر آية بسم الله الرحمن الرحيم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَه (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) } * * * قوله عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) } . عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: (أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من

الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنّث فيه - وهو التعبّد - الليالي ذوات العدد، ويتزوّد لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوّده لمثلها حتى فجأه الوحي وهو في غار حراء فجاءه الملك فيه فقال: {اقْرَأْ} . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقلت: «ما أنا بقارئ» . - قال -: «فأخذني فغطّني حتى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ} . فقلت: ما أنا بقارئ، فغطّني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ} . قلت: ما أنا بقارئ، فغطّني الثالثة حتى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ، حتى بلغ: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} » ، قال: فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: «زمّلوني زمّلوني» . فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع؛ فقال: «يا خديجة ما لي» ؟ وأخبرها الخبر وقال: «قد خشيت على نفسي» . فقالت له: كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل وهو ابن عمّ خديجة أخي أبيها، وكان امرءًا قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربيّ، وكتب بالعربية من الإِنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة: يا ابن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى ليتني فيها جذعًا ليتني أكون حيًّا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أومُخْرِجِيّ هم» ؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قطّ بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزّرًا؛ ثم لم ينشب ورقة أن توفي. وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلَما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدّى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقًّا، فيسكن بذلك جأشه وتقرّ نفسه، فيرجع فإذا طالت

عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدّى له جبريل فقال له مثل ذلك) . متفق عليه واللفظ لأحمد. وعن قتادة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} قرأ حتى بلغ: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ، قال: القلم نعمة من الله عظيمة، لولا ذلك لم يقم ولم يصلح عيش. وقال ابن زيد في قوله: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} قال: علّم الإِنسان خطًّا بالقلم. قال ابن كثير: والقلم تارة يكون في الأذهان، وتارة في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان. قوله عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَه (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) } . قال البغوي: {كَلَّا} ، حقًّا، {إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى} ، ليتجاوز حدّه وليستكبر على ربه، {أَن} ، لأن {رَّآهُ اسْتَغْنَى} أن رأى نفسه غنيًا، {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} ، أي: المرجع في الآخرة. وعن قتادة: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى} ، نزلت في عدوّ الله أبي جهل، وذلك لأنه قال: لئن رأيت محمدًا يصلّي لأطأنّ على عنقه، فأنزل الله ما تسمعون. وكان يقال: لكلّ أمّة فرعون، وفرعون هذه الأمّة: أبو جهل. {أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} ، قال: محمد كان على الهدى وأمر بالتقوى. {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، يعني: أبا جهل. {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى *

كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} ، قال ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي عند المقام فمرّ به أبو جهل بن هشام فقال: يا محمد ألم أنهك عن هذا؟ وتوعّده، فأغلظ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهره، فقال: يا محمد بأيّ شيء تهدّدني؟ أما والله إنّي لأكثر هذا الوادي ناديًا، فأنزل الله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قال ابن عباس: لو دعا ناديه أخذته زبانية العذاب من ساعته. {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} ، قال البغوي: {كَلَّا} ليس الأمر ما عليه أبو جهل، {لَا تُطِعْهُ} في ترك الصلاة، {وَاسْجُدْ} وصلّ لله، {وَاقْتَرِبْ} من الله. وساق الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء» . قال: ومعنى: {أَرَأَيْتَ} ها هنا: تعجيبًا للمخاطب، وكرّر هذه اللفظة للتأكيد؛ قال: وتقدير نظم الآية: أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلّى وهو على الهدى أمر بالتقوى، والناهي مكذّب متولّ عن الإِيمان؟ أي: فما أعجب من هذا! {أَلَمْ يَعْلَمْ} ، يعني: أبا جهل، {بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} ذلك فيجازيه؟ {كَلَّا} لا يعلم ذلك، {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ} عن إيذاء محمد - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبه {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} لنأخذنّ بناصيته فلنجرّنّه إلى النار كما قال: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} يقال: سفعت بالشيء إذا أخذته وجذبته جذبًا شديدًا. والنصاية: شعر مقدّم الرأس. ثم قال على البدل {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} أي: صاحبها كاذب خاطئ. قال ابن عباس: (لما نهى أبو جهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة، انتهره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو جهل: أتنتهرني؟ فوالله لأملأنّ عليك هذا الوادي إن شئت

خيلاً جردًا ورجالاً مردًا) ؛ قال الله عز وجل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} أي: قومه وعشيرته، أي: فلينتصر بهم. {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} ، قال ابن عباس: يريد زبانية جهنّم، سمّوا بها لأنهم يدفعون أهل النار إليها. وروى ابن جرير وغيره عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. فقال: واللات والعزّى لئن رأيته يصلّي كذلك لأطأنّ على رقبته، ولأعفّرنّ وجهه في التراب، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلّي ليطأ على رقبته، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتّقي بيديه، فقيل له: مالك؟ فقال: إنّ بيني وبينه خندقًا من نار، وهولاً وأجنحة؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا» . * * *

[سورة القدر]

[سورة القدر] مكية، وهي خمس آيات بسم الله الرحمن الرحيم ... {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) } . * * * عن ابن عباس: قال: (نزل القرآن كلّه جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئًا، أنزله منه حتى جمعه، وكان بين أوله وآخره عشرون سنة) . وقال ابن كثير: يخبر تعالى أنه أنزل القرآن ليلة القدر، وهي الليلة المباركة التي قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} ، وهي ليلة القدر، وهي من شهر رمضان، كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} . قال ابن عباس وغيره: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصّلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال تعالى معظّمًا لشأن ليلة القدر التي اختصها بإنزال القرآن العظيم فيها

فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} . وعن مجاهد: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ} ليلة الحكم. قال الحسن: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ، فيها يقضي الله كلّ أجل وعمل ورزق إلى مثلها. وعن مجاهد: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} قال: عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر. قال قتادة: {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ، ليس فيها ليلة القدر. {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} قال قتادة: يقضي فيها ما يكون في السنة إلى مثلها. {سَلَامٌ هِيَ} ، قال: خير كلّها {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} ، إلى مطلع الفجر. وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر» . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه» . وقد اختلف العلماء في تعيينها، والجمهور أنها ليلة سبع وعشرين، وما استنبطه بعضهم من عدد كلمات السورة وقد وافق قوله فيها: ... {هِيَ} سابع كلمة بعد العشرين؛ قال ابن عطية: (إنه من ملح التفاسير، وليس من متين العلم) . والله أعلم. * * *

الدرس الثامن بعد الثلاثمائة

الدرس الثامن بعد الثلاثمائة [سورة البينة] مدنية، وهي ثمان آيات بسم الله الرحمن الرحيم {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) } . * * *

قوله عز وجل: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) } . عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأبيّ بن كعب: «إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} » . قال: وسمّاني لك؟ قال: «نعم» . فبكى. متفق عليه. وفي حديث مالك بن عمرو بن ثابت عند الإمام أحمد قال: (لما نزلت: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} ، إلى آخرها قال جبريل: يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيًّا) . الحديث. وعن الترمذيّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لي: «إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن» . فقرأ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} فقرأ فيها: (ولو أن ابن آدم سأل واديًا من مال فأعطيه لسأل ثانيًا، ولو سأل ثانيًا فأعطيه لسأل ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب. وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهوديّة ولا النصرانيّة، ومن يفعل خيرًا فلن يُكْفَرَهُ) .

قال ابن كثير: وإنما قرأ عليه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - هذه السورة تثبتًا له وزيادة لإِيمانه فإنه كان قد أنكر على عبد الله بن مسعود قراءة شيء من القرآن على خلاف ما أقرأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرفعه إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فاستقرأهما، وقال لكلّ منهما: «أصبت» . قال أبيّ: فأخذني من الشكّ وَلاءٌ إذ كنت في الجاهليّة، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدره، قال أبيّ: ففضت عَرقًا وكأنما أنظر إلى الله فرقًا؛ وأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل أتاه فقال: (إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف. فقلت: أسأل الله معافاته ومغفرته. فقال: على حرفين. فلم يزل حتى قال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمّتك القرآن على سبعة أحرف) . فلما نزلت هذه السورة وفيها: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} قرأها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار، لا قراءة تعلّم واستذكار. والله أعلم. وهذا كما أن عمر بن الخطاب لما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية عن تلك الأسئلة، وكان فيما قال: أولم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: «بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا» ؟ . قال: لا، قال: «فإنك آتيه ومطوّف به» . فلما رجعوا من الحديبية وأنزل الله على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - سورة الفتح، دعا عمر بن الخطاب فقرأها عليه، وفيها قوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} الآية. انتهى. وعن مجاهد في قول الله: {مُنفَكِّينَ} ، قال: لم يكونوا لينتهوا حتى يتبيّن لهم الحقّ. وعن قتادة في قوله: {مُنفَكِّينَ} قال: منتهين عما هم فيه، {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي: هذا القرآن {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} يذكر القرآن بأحسن الذكر ويثني عليه بأحسن الثناء. وقال ابن كثير: أما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى، والمشركون عبدة الأوثان والنيران من العرب والعجم. وقال مجاهد:

لم يكونوا ... {مُنفَكِّينَ} ، يعني: منتهين حتى يتبيّن لهم الحقّ؛ وهكذا قال قتادة: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي: هذا القرآن، ولهذا قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} ، ثم فسّر البيّنة بقوله: {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} ، يعني: محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وما يتلوه من القرآن العظيم الذي هو مكتتب في الملأ الأعلى في صحف مطهّرة، كقوله: {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} . وقوله تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} ، قال ابن جرير: أي: في الصحف المطهّرة {كُتُبٌ} ، من الله {قَيِّمَةٌ} عادلة مستقيمة ليس فيها خطأ لأنها من عند الله عز وجل. وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} ، كقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ} ، يعني: بذلك أهل الكتب المنزّلة على الأمم قبلنا، ما أقام الله عليهم الحجج والبيّنات تفرّقوا واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم، واختلفوا اختلافًا كثيرًا كما جاء في الحديث المرويّ من طرق: «أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وأن النصارى اختلفوا على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلا واحدة» . قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي» . انتهى. قال البغوي: ثم ذكر ما أمروا به في كتبهم فقال: {وَمَا أُمِرُوا} ، يعني: هؤلاء الكفار، {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} ، يعني: إلا أن يعبدوا الله، {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، قال

ابن عباس: ما أمروا في التوراة والإِنجيل إلا بالإِخلاص في العبادة لله موحّدين {حُنَفَاء} ، مائلين عن الأديان كلّها إلى دين الإسلام، {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} ، المكتوبة في أوقاتها، {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} ، عند محلّها و {وَذَلِكَ} الذي أمروا به {دِينُ الْقَيِّمَةِ} ، أي: الملّة والشريعة المستقيمة. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) } . وهذه الآيات كقوله تعالى: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} ، وكقوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} ، أي: هذا الجزاء لمن خاف ربه واتقاه بفعل طاعته وترك معصيته. وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله عز وجل يقول لأهل الجنّة: يا أهل الجنّة، فيقولون: لبيّك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربّ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا ربّ وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا» . متفق عليه. * * *

[سورة الزلزلة]

[سورة الزلزلة] مدنية، وهي ثمان آيات بسم الله الرحمن الرحيم ... {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8) } . * * * عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن و {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل ربع القرآن» . رواه البزار. قال ابن جرير: يقول تعالى

ذكره: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} ، لقيام الساعة، {زِلْزَالَهَا} فرجّت رجًّا. وعن سعيد قال: زلزلت الأرض على عهد عبد الله فقال لها عبد الله: مالك؟ أما إنها لو تكلّمت قامت الساعة. وعن ابن عباس: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} قال: الموتى. {وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا} قال: الكافر. {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال سفيان: ما عمل عليها من خير أو شرّ {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} قال: أعلمها ذلك. وقال ابن عباس: أوحى إليها. وعن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال: «أتدرون ما أخبارها» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كلّ عبد أو أمة ما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها» . رواه أحمد، والترمذي. وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} . وقوله تعالى: {لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} ، قال ابن عباس: ليروا جزاء أعمالهم، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ، وعن صعصعة بن معاوية أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} قال: ... «حسبي، لا أبالي أن لا أسمع غيرها» . رواه أحمد وغيره.

قال البغوي: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمّها: الجامعة الفاذّة، حين سئل عن زكاة الحمير فقال: «ما أنزل عليّ فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذّة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} » . * * *

الدرس التاسع بعد الثلاثمائة

الدرس التاسع بعد الثلاثمائة [سورة العاديات] مكية، وهي إحدى عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (11) } . * * * عن ابن عباس في قوله: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} ، قال: الخيل؛ قال قتادة: هي الخيل عدت حتى ضبحت. {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} ، قال: هي الخيل؛ وقال الكلبي: تقدح بحوافرها حتى يخرج منها النار. ... {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً} قال: أغارت حين أصبحت {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} قال: أثرن بحوافرها نقع التراب. {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} قال: وسطن جمع القوم.

{إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} قال: لكفور. قال ابن كثير: هذا هو المقسم عليه، بمعنى: أنه لنعم ربه لكفور جحود. قال ابن القيم: (وأصل اللفظ: منع الحقّ، والخير، وعبارات المفسّرين تدور على هذا المعنى. وقيل: هو البخيل الذي يمنع رفده، ويجيع عبده، ولا يعطي في النائبة) . انتهى ملخصًا. وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} قال قتادة: يقول: إن الله على لذلك لشهيد. قال ابن كثير: ويحتمل أن يعود الضمير على الإِنسان، قاله محمد بن كعب القرظيّ؛ قلت: وهذا هو المتبادر للذهن، ويؤيّده سياق الضمائر، فإن قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} للإِنسان، فافتتح الخير عن الإنسان بكونه كنودًا، ثم ثنّاه بكونه شهيدًا على ذلك، ثم ختمه بكونه بخيلاً بماله لحبّه إيّاه. وقال ابن زيد في قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} ، قال: الخير الدنيا، وقرأ: {إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} . {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} ، قال البغوي: {أَفَلَا يَعْلَمُ} هذا الإنسان {إِذَا بُعْثِرَ} أثير وأخرج، {مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} ، قال ابن عباس: يقول: أبرز. {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} ، قال الزجاج: الله خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره، ولكن المعنى: أنه يجاريهم على كفرهم في ذلك اليوم. * * *

[سورة القارعة]

[سورة القارعة] مكية، وهي إحدى عشر آية بسم الله الرحمن الرحيم ... {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) } . * * * عن ابن عباس في قوله: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} ، قال: هي الساعة. قال البغوي: {الْقَارِعَةُ} اسم من أسماء القيامة إلى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} . قال الحسن: هذا وعيد بعد وعيد. {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} . قال قتادة: كنا نحدّث أنّ علم اليقين: أنْ يعلم أنّ الله باعثه بعد الموت. قال البغوي: وجواب (لو) محذوف، أي: لو تعلمون علمًا يقينًا، لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتفاخر. {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا

عَيْنَ الْيَقِينِ} قال البغوي: أي: ترونها بأبصاركم من بعيد، ثم لترونها مشاهدة. وقال ابن كثير: هذا تفسير الوعيد المتقدّم، وهو قوله: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ، توعّدهم بهذا الحال، وهو رؤية النار التي إذا زفرت زفرة واحدة خرّ كلّ ملك مقرّب ونبيّ مرسل على ركبتيه من المهابة والعظمة، ومعاينة الأهوال. {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} ، قال قتادة: إن الله عز وجل سائل كلّ عبد عما استودعه من نعمه وحقَّه. * * *

[سورة التكاثر]

[سورة التكاثر] مكية، وهي ثمان آيات بسم الله الرحمن الرحيم ... {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) } * * * عن عبد الله بن الشخير قال: انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: « {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، يقول ابن آدم: مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» . رواه أحمد وغيره، وفي رواية لمسلم: «وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» . وعن قتادة: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} ، قال: كانوا يقولون: نحن أكثر من بني فلان ونحن أقدم من بني فلان، وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم. وعن علي قال: كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه الآية: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} إلى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} . قال الحسن: هذا وعيد بعد وعيد. {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} ، قال قتادة: كنا نحدث أن علم اليقين: أن يعلم أن الله باعثه بعد الموت. قال البغوي: وجواب لو محذوف أي: لو تعلمون علمًا يقينًا لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتفاخر. {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} قال البغوي: أي: ترونها بأبصاركم من بعيد ثم لترونها مشاهدة. وقال ابن كثر: هذا تفسير الوعيد المتقدم وهو قوله {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} توعدهم بهذا الحال وهو رؤية أهل النار التي إذا زفرت زفرة واحدة خر كل ملك مقرب ونبي مرسل على ركبتيه من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال. {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال قتادة: إن الله عز وجل بمسائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه. * * * [سورة العصر] مكية وهي ثلاث آيات بسم الله الرحمن الرحيم ... {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } * * * قال ابن كثير: ذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب، وذلك قبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذا المدّة؟ فقال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال: وما هي؟ فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ؛ ففكّر مسيلمة هنيهة ثم قال: لقد أنزل عليّ مثلها، فقال له عمرو: وما هو؟ فقال: يا وَبَر يا وَبَر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر نقر. ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أنّي أعلم أنّك تكذب. قال الشافعيّ رحمه الله: لو تدبّر الناس هذه السورة لوسعتهم. وعن ابن عباس في قوله: {وَالْعَصْرِ} ، قال: العصر ساعة من ساعات النهار. وقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أي: خسران. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال مجاهد: إلا من آمن. {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا

بِالصَّبْرِ} قال قتادة: الحقّ كتاب الله، والصبر طاعة الله. وقال ابن القيّم: (ولمّا كان الإِنسان له قوّتان: قوة العلم، وقوة العمل؛ وله حالتان: حالة يأتمر فيها بأمر غيره، وحالة يأمر فيها غيره، استثنى سبحانه من كمّل قوته العلمية بالإِيمان، وقوته العملية بالعمل الصالح، وانقاد لأمر غيره له بذلك، وأمر غيره به، من الإِنسان الذي هو في خسر؛ فإن العبد له حالتان: حالة كمال في نفسه، وحال تكميل لغيره، وكماله وتكميله موقوف على أمرين: علم بالحقّ، وصبر عليه؛ فتضمَّنت الآية جميع مراتب الكمال الإِنسانيّ من العلم النافع، والعمل الصالح، والإِحسان إلى نفسه بذلك، وإلى أخيه به، وانقياده، وقبوله لمن يأمره بذلك) . * * *

[سورة الهمزة]

[سورة الهمزة] مكية، وهي تسع آيات بسم الله الرحمن الرحيم {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9) } . * * * عن قتادة: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} أما الهمزة: فآكل لحوم الناس، وأما اللمزة: فالطعّان عليهم. قال ابن إسحاق: ما زلنا نسمع أن سورة الهمزة نزلت في أميّة بن خلف. وقال مجاهد: هي عامّة في حقّ كلّ مَنْ هذه صفته. قال البغوي: ثم وصفه فقال: {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ} ، أحصاه {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} في الدنيا، يظنّ أنه لا يموت مع يساره. {كَلَّا} ردّ عليه أي: لا يخلده ماله {لَيُنبَذَنَّ} ليطرحنّ ... {فِي الْحُطَمَةِ} في جهنّم، والحطمة من أسماء النار، سمّيت حطمة: لأنها تحطم العظام وتكسرها. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ

الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} أي: التي يبلغ ألمها ووجعها إلى القلوب ... {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} مطبقة مغلقة {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} قال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم ثم سدّت بأوتاد من حديد من نار، حتى يرجع عليهم غمّها وحرّها، فلا يفتح عليهم باب ولا يدخل عليهم روح. والممدّدة: من صفة العمد، أي: مطوّلة فتكون أرسخ من القصيرة؛ عياذًا بالله من ذلك. * * *

الدرس العاشر بعد الثلاثمائة

الدرس العاشر بعد الثلاثمائة [سورة الفيل] مكية، وهي خمس آيات بسم الله الرحمن الرحيم {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5) } . * * * عن ابن مسعود في قوله: {طَيْراً أَبَابِيلَ} قال: فرق. وقال ابن عباس: هي التي يتبع بعضها بعضًا. وقال قتادة: الأبابيل: الكثيرة. قال ابن عباس: وكانت طيرًا لها خراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب. وقال عبد بن عمير: هي طير سود بحرية، في أظافرها ومناقرها الحجارة. قال ابن إسحاق: ثم إن أبرهة بنى القُلَّيْس بصنعاء، فبنى كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشيّ: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمُنتهٍ حتى أصرف إليها حجّ العرب،

فلما تحدّثت العرب بذلك غضب رجل من النسأة الذين كانوا ينسأون الشهور على العرب في الجاهلية، فخرج حتى أتى القُليس، فقعد فيها -، يعني: أحدث - ثم خرج فلحق بأرضه، فأخبر بذلك أبرهة، قال: من صنع هذا؟ فيقل له: صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكّة، لما سمع قولك: أصرف إليها حاج العرب؛ فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرنّ إلى البيت حتى يهدمه. ثم أمر الحبشة فتهيّأت وتجهّزت، ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفُظِعوا به، ورأوا جهاده حقًّا عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام، فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم، يقال له: ذو نَفْر، دعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده، فأجابه إلى ذلك من أجابه ثم عرض له، فقاتله، فهزم ذو نَفْر وأصحابه وأخذ فأتي به أسيرًا، فلما أراد قتله قال له ذو نَفْر: أيها الملك لا تقتلني، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرًا لك من قتلي، فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلاً حليمًا. ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم، عرض له نفيل بن حبيب في قبيلتي خثعم شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ نفيل أسيرًا، فأتي به فلما همّ بقتله قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم وناهس بالسمع والطاعة ; فخلَّى سبيله وخرج به معه يدلّه، حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف فقالوا له: أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيننا هذا بالبيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكّة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم، فبعثوا معهم أبا رغال يدلّه على الطريق إلى مكة؛ فخرج معه حتى أنزله المغمس، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فرجمت قبره العرب.

فلما نزل أبرهة المغمّس بعث رجلاً من الحبشة على خيل له حتى انتهى إلى مكّة، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم - وهو يومئذٍ كبير قريش وسيّدها - فهمّت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك، وبعث أبرهة حناطة الحميريّ إلى مكّة وقال له: سل عن سيّد أهل هذا البلد وشريفها ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم ترضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي فأتني به. فلما دخل حناطة مكّة، سأل عن سيّد قريش وشريفها فقيل له: عبد المطلب بن هاشم، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخلّ بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه. فقال حناطة: فانطلق معي إليه فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر، فسأل عن ذي نفر - وكان له صديقًا - حتى دخل عليه وهو في محبسه فقال له: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوًّا أو عشيًّا؟ ما عندنا غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيسًا سائس الفيل صديق لي، وسأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقّك، وأساله أن يستأذن لك على الملك، فتكلّمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك. فقال: حسبي، فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيّد قريش وصاحب عير مكّة، يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما استطعت. فقال: أفعل. فكلّم أنيس أبرهة فأذن له، وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم

وأعظمهم، فلما رآه أبرهة أجلّه وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك؟ فقال: حاجتي أن يردّ عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك. قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلَّمتني، أتكلّمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلّمني فيه؟ قال له عبد المطلب: إني أنا ربّ الإِبل، وإن للبيت ربًّا سيمنعه. قال: ما كان لمتنع منّي، قال: أنت وذاك. فردّ أبرهة على عبد المطّلب الإِبل التي أصاب له. فلما انصرف عبد المطلب إلى قريش أخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرزّ في شعف الجبال والشعاب، تخوّفًا عليهم من معرّة الجيش، ثم قام عبد المطّلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله، ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة: لاهمّ إن العبد يمنع ... رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم أبدًا محالك إن كنت تاركهم وقبلتنا ... فأمر ما بدالك ثم أرسل عبد المطّلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرّزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكّة إذا دخلها ; فلما أصبح أبرهة تهيّأ لدخول مكّة وهيّأ فيله وعبّأ جيشه - وكان اسم الفيل محمودًا -، وأبرهة مجمع لهدم البيت، ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجّهوا الفيل إلى مكّة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال: أبرك محمود وارجع راشدًا فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه فبرك الفيل وخرج نفيل بن حبيب يشتدّ حتى أصعد في الجبل. وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فنزعوه بها ليقوم فأبى، فوجّهوه

راجعًا إلى اليمن فقام يهرول، ووجّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجّهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجّهوه إلى مكّة فبرك؛ فأرسل الله تعالى عليهم طيرًا من البحر، أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كلّ طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمص، والعدس، لا تصيب منهم أحدًا إلا هلك، وليس كلّهم أصابت؛ وخرجوا هاربين يتبدرون الطريق الذي منه جاءوا، ويسألون عن نفيل بن حبيب، ليدلّهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته: أين المفرّ والإِله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب وقال أيضًا: ألا حُيّيت عنا يا رُدَيْنَا ... نَعِمْناكُمْ مع الإِصباح عَيْنا أتانا قابس منكم عشاء ... فلم يقدر لقابسكم لَدينا رُدَيْنَةُ لو رأيت ولا تريه ... لدى جَنْب المحصّب ما رأينا إذًا لعذرتِني وحمدتِ أمري ... ولم تأسَيْ على ما فات بينا حمدتُ الله إذا أبصرت طيرًا ... وخفت حجارة تلقى علينا وكلِّ القوم يسأل عن نفيل ... كأنّ عليّ للحبشان دَيْنا فخرجوا يتساقطون بكلّ طريق ويهلكون بكل مهلك على كلّ منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط أنامله أنملة أنملة، كلّما سقطت أنملة أتبعتها منه مدّة تمثّ قيحًا ودمَا، حتى قدموا به صنعاء، وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه. فلما بعث الله تعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، كان مما يعدّ الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ما ردّ عنهم من أمر الحبشة، فقال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} . وقال: {لِإِيلَافِ

قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} أي: لئلا يغيّر شيئًا من حالهم التي كانوا عليها، لما أراد الله بهم من الخير لو قبلوه، فلما ردّ الله الحبشة عن مكة وأصابهم بما أصابهم من النقمة، أعظمت العرب قريشًا وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم، فقالوا: في ذلك أشعارًا، فقال عبد الله بن الزبعريّ: تنكلوا عن بطن مكة إنها ... كانت قديمًا لا يرام حريمها لم تخلق الشعرى ليالي حرمت ... إذ لا عزيز من الأنام يرومها سائل أمير الجيش عنها ما رأى ... ولسوف يُنْبي الجاهلين عليمُها ستون ألفًا لم يؤوبوا أرضهم ... ولم يعش بعد الإِياب سقيمُها كانت بها عادٌ وجُرْهُمُ قبلهم ... والله من فوق العباد يُقيمها وقال أبو قيس بن الأسلت: فقوموا فصلّوا ربّكم وتمسّحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب فعندكم منه بلاء مصدّقٌ ... غداة أبا يكسوم هادي الكتائب كتيبة بالسهل تمشي ورجله ... على القاذفات في رؤوس المناقب فلما أتاكم نصر ذي العرش ردّهم ... جنودُ المليك بين سافٍ وحاصِب فولّوا سراعًا هاربين ولم يؤب ... إلى أهله ملحبش غير عاصب [انتهى ملخصًا] * * *

[سورة قريش]

[سورة قريش] مكية، وهي أربع آيات بسم الله الرحمن الرحيم {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ... (4) } . * * * قال الزجاج: المعنى: جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، أي: أهلك أصحاب الفيل لتبقى قريش وما ألفوا من رحلة الشتاء والصيف. وعن مجاهد: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} قال: نعمتي على قريش {إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ} قال: إيلافهم ذلك فلا يشقّ عليهم. وعن ابن عباس في قوله: {إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ} يقول: لزومهم. وعن أبي صالح: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ} ، قال: كانوا تجّارًا، فعلم الله حبّهم للشام. وعن قتادة: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} قال: عادة قريش، عادتهم رحلة الشتاء والصيف. قال ابن زيد: كانت لهم رحلتان: الصيف إلى الشام، والشتاء إلى اليمن. {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} ، قال قتادة: كانوا يقولون: نحن من حرمة الله، فلا يعرض لهم أحد. قال ابن كثير: وقوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} ، أي: فليوحّدوه بالعبادة وحده لا شريك

له، ولا يعبدوا من دونه صنمًا ولا ندًّا ولا وثنًا؛ ولهذا من استجاب لهذا الأمر جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة، ومن عصاه سلبهما منه؛ كما قال تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} . انتهى ملخصًا. * * *

الدرس الحادي عشر بعد الثلاثمائة

الدرس الحادي عشر بعد الثلاثمائة [سورة الماعون] مكية، وهي سبع آيات بسم الله الرحمن الرحيم {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ... (7) } . * * * قال في جامع البيان: {أَرَأَيْتَ} الاستفهام للتعجّب، {الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} بالجزاء والبعث. {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} ، قال قتادة: يقهره ويظلمه، {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} ، قال ابن كثير: يعني: الفقير الذي لا شيء له يقوم بأوده وكفايته. {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ، قال ابن عباس: الذين يؤخّرونها عن وقتها. وقال ابن أبزى: الذين يؤخّرون الصلاة المكتوبة حتى تخرج من الوقت. وعن مجاهد: {عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ، قال: لاهون. وقال الضحاك في قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} ، يعني: المنافقين، {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} ، قال ابن عباس: العارية. وقال ابن عباس: {الْمَاعُونَ} ما يتعاطى الناس بينهم من الفأس، والقِدرْ، والدلو، وأشباه ذلك. * * *

[سورة الكوثر]

[سورة الكوثر] مكية، وهي ثلاث آيات بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) } . * * * قال ابن عمر: (الكوثر نهر في الجنّة حافتاه ذهب وفضّة، يجري على الدرّ والياقوت ماؤه، أشدّ بياضًا من اللبن وأحلى من العسل) . وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دخلت الجنّة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك أذفر، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله عز وجل» . متفق عليه واللفظ لأحمد. وعن مجاهد: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، قال: الصلاة المكتوبة ونحر البدن. و {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ، قال ابن عباس: يقول: عدوّك. وعن يزيد بن رومان قال: كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له فإذا هلك انقطع ذكره، فأنزل الله هذه السورة) . * * *

[سورة الكافرون]

[سورة الكافرون] مكية، وهي ست آيات بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) } . * * * روى مسلم عن أبي هريرة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعتي الفجر: ... {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ) . وروى أحمد وغيره أن أبيّ بن كعب قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . قال البغوي: نزلت في رهط من قريش قالوا: يا محمد هلمّ فاتبع ديننا ونتّبع دينك ونشركك في أمرنا كلّه، تعبد آلهتنا ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيرًا كنا قد شركناك فيه أخذنا حظّنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرًا كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظّك منه؛ فقال: «معاذ الله أن أشرك به غيره» . قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك، فقال: «حتى أنظر ما يأتي من عند

ربّي» . فأنزل الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلى آخر السورة؛ فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم ثم قرأها عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك وآذوه وأصحابه. ومعنى الآية: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} في الحال {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في الحال {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} في الاستقبال {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في الاستقبال؛ وهذا الخطاب لمن سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون. {لَكُمْ دِينُكُمْ} الشرك {وَلِيَ دِينِ} الإِسلام. * * *

[سورة النصر]

[سورة النصر] مدنية، وهي ثلاث آيات بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3) } . * * * عن مجاهد: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ، فتح مكّة، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} ، قال: زمرًا زمرًا، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} ، قال: اعلم أنك ستموت عند ذلك. وعن قتادة: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ، قرأها كلّها، قال ابن عباس: (هذه السورة عَلَمٌ وحَدٌ حَدُّه الله لنبيّه - صلى الله عليه وسلم - ونعى له نفسه، أي: أنك لن تعيش بعدها إلا قليلاً) ، قال قتادة: (والله ما عاش بعد ذلك إلا قليلاً، سنتين ثم توفّي - صلى الله عليه وسلم -) . وقال مجاهد: لما نزلت: [ {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ] ونعيت إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - نفسه، [كان] لا يقوم من مجلس يجلس فيه حتى يقول: «سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» . وروى الطبراني وغيره عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ، حتى ختم

السورة قال: نعيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه حين نزلت؛ قال: فأخذ بأشدّ ما كان قطّ اجتهادًا في أمر الآخرة. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بعد ذلك جاء الفتح ونصر الله وجاء أهل اليمن» . فقال رجل: يا رسول الله وما أهل اليمن؟ قال: «قوم رقيقة قلوبهم ليّنة طباعهم الإِيمان يَمان والفقه ... يَمان» ؛ وفي رواية: «والحكمة يمانيّة» . * * *

[سورة المسد]

[سورة المسد] مكية، وهي خمس آيات {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5) } . * * * عن قتادة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أي: خسرت {وَتَبَّ} قال ابن كثير: الأول: دعاء عليه، والثاني: خبر عنه. وقال ابن عباس: لما نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصفا ثم نادى: «يا صباحاه» . فاجتمع الناس إليه، فبين رجل يجيء وبين آخر يبعث رسوله، فقال: «يا بني هاشم، يا بني عبد المطّلب، يا بني فهر، يا بني، يا بني، أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد تغير عليكم صدّقتموني» ؟ قالوا: نعم. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» . فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا دعوتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . وعن ربيعة بن عباد الديلي قال: رأيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في

الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفحلوا» ، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمّه أبو لهب. وعن مجاهد: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} ، قال: ما كسب ولده، وعن ابن عباس أنه رأى يومًا ولد أبي لهب يقتتلون فجعل يحجز بينهم ويقول: هؤلاء مما كسب. {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} ، قال ابن عباس: كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، {فِي جِيدِهَا} ، أي: عنقها {حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} ، قال ابن زيد: من شجر ينبت باليمن يقال له: مسد. قال الضحاك وغيره: في الدنيا من ليف، وفي الآخرة من نار. وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: (لما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهد وهي تقول: مذمّمًا أبينا ودينه قلبنا وأمره عصينا. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف عليك أن تراك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنها لن تراني» . وقرأ قرآنًا اعتصم به، كما قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً} ، فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني، قال: لا وربّ هذا البيت ما هجاك؛ فولّت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيّدها) . رواه ابن أبي حاتم. والله أعلم. * * *

الدرس الثاني عشر بعد الثلاثمائة

الدرس الثاني عشر بعد الثلاثمائة [سورة الإخلاص] مكيّة، وهي أربع آيات بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) } . * * * عن أبيّ بن كعب أن المشركين قالوا للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} . رواه أحمد وغيره. زاد ابن جرير: قال: ( {الصَّمَدُ} الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله عز وجل لا يموت ولا يورث. {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، ولم يكن له شبيه ولا عديل وليس كمثله شيء) .

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لكلّ شيء نسبة، ونسبة الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} ، والصمد: ليس بأجوف» . رواه الطبراني. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً على سريّة، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «سلوه لأيّ شيء يصنع ذلك» ؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن عزّ وجلّ، وأنا أحبّ أن أقرأ بها، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «أخبروه أن الله تعالى يحبّه» . متفق عليه. وعن أبي سعيد أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يردّدها، فلما أصبح جاء إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له - وكأن الرجل يتقالّها - فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن» . رواه البخاري. وعن أبي هريرة قال: أقبلت مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فسمع رجلاً يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وجبت» . قلت: وما جبت؟ قال: «الجنّة» . رواه مالك، والترمذي، والنسائي. وعن عبد الله بن خبيب قال: أصابنا عطش وظلمة فانتظرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يصلّي بنا فخرج فأخذ بيدي فقال: «قل» . فسكتّ قال: ... «قل» . قلت: ما أقول؟ قال: « {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوّذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثًا، تكفيك كلّ يوم مرتين» . رواه عبد الله بن الإِمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. وعن معاذ بن أنس الجهنيّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى يختمها عشر مرات، بنى الله له قصرًا في الجنّة» . فقال عمر: إذًا نستكثر يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الله أكثر وأطيب» . وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد فإذا رجل يصلّي يدعو يقول: اللهمّ إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، قال: «والذي نفسي بيده لقد سأله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب» . رواه أهل السنن. وعن عائشة: (أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه كلّ ليلة، جمع كفّيه ثم نفث فيهما وقرأ فيهما: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرّات) . رواه البخاري وغيره. قوله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، قال ابن جرير: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء

السائلين عن نسب ربك وصفته، {هُوَ اللَّهُ} الذي له عبادة كلّ شيء، لا تنبغي العبادة إلا له ولا تصلح لشيء سواه. وقال ابن كثير: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، يعني: هو الواحد الأحد الذي لا نظير له، ولا وزير ولا نديد ولا شبيه ولا عديل؛ ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإِثبات إلا على الله عز وجل، لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله. قوله عز وجل: {اللَّهُ الصَّمَدُ} قال ابن عباس: (الصمد: الذي ليس بأجوف) . وقال الشعبي: (الصمد: الذي لا يطعَم الطعام) . وقال أبو العالية: (الصمد: الذي لم يلد ولم يولد) . وعن ابن عباس في قوله: {الصَّمَدُ} ، يقول: (السيّد: الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغنيّ الذي قد كمل في غناه، والجبّار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه هذه صفته لا تنبغي إلا له) . وقال قتادة: (الصمد الدائم) . قال ابن كثير: وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني في كتاب السنّة له، بعد إيراده كثيرًا من هذه الأقوال: وكلّ هذه صحيحة، وهي صفات ربّنا عزّ وجلّ، هو الذي يصمد إليه في الحوائج، وهو الذي قد انتهى سؤدده، وهو الصمد: الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي بعد خلقه. قوله عز وجل: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} أي: ليس له ولد ولا والد؛ قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً *

وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} . وفي صحيح البخاري عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم» . قوله عز وجل: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} قال ابن عباس: ليس كمثله شيء فسبحان الله الواحد القهّار. وعن مجاهد: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، قال: صاحبة؛ وقد قال تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ، وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله عز وجل: كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته؛ وأما شتمه إيّاي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوًا أحد» . قال أبو العباس بن سريج في تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم - في سورة قل هو الله أحد إنها تعدل ثلث القرآن: (إن الله أنزل القرآن على ثلاثة أقسام: ثلث منه أحكام، وثلث

منه وعد ووعيد، وثلث منه الأسماء والصفات؛ وهذه السورة جمعت القسم الثالث) . قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: وهذا القول هو الصواب. قلت: ويحسن إعادة ذكر الأسماء الحسنى ها هنا، ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنّة، وهو وتر يحبّ الوتر» . زاد الترمذي بعد قوله: وهو قوله: «وهو وتر يحبّ الوتر: هو الله الذي لا إله إلا هو: الرحمن، الرحيم، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفّار، القهّار، الوهّاب، الرزّاق، الفتّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العليّ، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحقّ، الوكيل، القويّ، المتين، الوليّ، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحيّ، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البَرّ، التوّاب، المنتقم، العفوّ، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغنيّ، المغني، المعطي، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور» . * * *

الدرس الثالث عشر بعد الثلاثمائة

الدرس الثالث عشر بعد الثلاثمائة [سورة الفلق] مكية، وهي خمس آيات بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) } . * * * [سورة الناس] مكية، وهي ست آيات بسم الله الرحمن الرحيم ... {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) } . * * *

عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهنّ قطّ؟ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} » . رواه مسلم وغيره. وفي رواية لأحمد: بينا أنا أقود برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نقب من تلك النقاب، إذ قال لي: «يا عقبة ألا تركب» ؟ قال: فأشفقت أن تكون معصية، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركبت هنيّة ثم قال: «يا عقبة، ألا أعلّمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس» ؟ قلت: بلى يا رسول الله. فأقرأني: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ؛ ثم أقيمت الصلاة فتقدّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ بهما، ثم مرّ بي فقال: «كيف رأيت يا عقبة؟ اقرأ بهما كلّما نمت وكلّما قمت» . وفي رواية: (أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن أقرأ بالمعوّذات في دبر كلّ صلاة) . وللنسائي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الناس لم يتعوّذوا بمثل هذين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} » . وروى الترمذي وغيره عن أبي سعيد: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوّذ من أعين الجانّ، وأعين الإِنسان، فلما نزلت المعوّذتان أخذ بهما وترك ما سواهما) . قوله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ

غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) } . عن الحسن في هذه الآية: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، قال: الفلق الصبح. {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} ، قال ابن كثير: أي: من شرّ جميع المخلوقات. {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} ، قال الحسن: أول الليل إذا أظلم. {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} ، قال: السواحر، والسحرة. {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} ، قال قتادة: من شرّ عينه ونفسه. وعن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحر، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن - قال سفيان: وهذا أشدّ ما يكون من السحر إذا كان كذا - فقال: «يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته؟ أتاني رجلان فقعدا أحدهما عند رأسي والآخر عند رجليّ، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب. قال: ومن طبَّه؟ قال: لَبيد بن الأعصم - رجل من بني زريق حليف ليهود كان منافقًا - وقال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاطة. قال: وأين؟ قال: في جفّ طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان» . قالت: فأتى البئر حتى استخرجه، فقال: «هذه البئر التي أُريتُنها» . وكأن ماءها نقاعة الحناء، كأن نخلها رؤوس الشياطين. قال: فاستخرج. فقالت: أفلا تنشّرت؟ وفي رواية لمسلم: أفلا أحرقته؟ - قال القرطبي: يعني لبيد - فقال: «أمَّا اللهُ فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرًّا» . رواه البخاري. وروى البغوي عن زيد بن أرقم قال: (سحر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رجل من اليهود فاشتكى لذلك أيامًا، فأتاه جبريل فقال: إن رجلاً من اليهود سحرك وعقد لك عقدًا، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًّا فاستخرجها فجاء بها، فجعل كلّما حلّ عقدة وجد لذلك خفّة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنما نشط من عقال؛ فما ذكر لليهوديّ ولا

رآه في وجهه قطّ) . قال مقاتل والكلبيّ: كان في وتد عقد عليه إحدى عشرة عقدة؛ وقيل: كانت العقد مقرونة بالإِبر، فأنزل الله هاتين السورتين، وهي إحدى عشرة آية، كلّما قرأ آية انحلّت عقدة، حتى انحلّت العقد كلّها، فقام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كأنما نشط من عقال. وساق بسنده عن أبي سعيد أن جبريل عليه السلام أتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا محمد اشتكيت؟ قال: «نعم» . قال: بسم الله أرقيك، من كلّ شيء يؤذيك، من شرّ كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك) . قوله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) } . قال ابن كثير: هذه ثلاث صفات من صفات الربّ عزّ وجلّ: الربوبية، والملك، والإِلهية، فهو ربّ كلّ شيء ومليكه وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقة له، مملوكة عبيد له، فأمر المستعيذ أن يتعوّذ بالمتّصف بهذه الصفات من شرّ الوسواس الخنّاس وهو: الشيطان الموكل بالإِنسان، فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يزيّن له الفواحش ولا يألوه جهدًا في الخبال، والمعصوم من عصمه الله. وعن ابن عباس في قوله: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} ، قال: (الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس) . وقال قتادة: يعني: الشيطان يوسوس في صدر ابن آدم ويخنس إذا ذكر الله.

قال البغوي: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} بالكلام الخفيّ الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع. {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} ، يعني: يدخل في الجنّيّ كما يدخل في الإنسيّ، ويوسوس الجنّيّ كما يوسوس الإنسيّ. قال الكلبي وقوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} أراد بالنّاس ما ذكر من بعد، وهو: الجِنّة والنّاس، فسمّى الجن ناسًا رجالاً فقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} . وقد ذكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدّث: جاء قوم من الجنّ فوقعوا فقيل: من أنتم؟ قالوا: أناس من الجنّ. وهذا معنى قول الفرّاء. قال بعضهم: ثبت أن الوسواس للإِنسان من الإِنسان كالوسوسة للشيطان من الشيطان؛ فجعل الوسواس من فعل الجنّة والناس جميعًا، كما قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} ؛ كأنه أمر أن يستعيذ من شرّ الجنّ والإِنس جميعًا. انتهى. وقال بعضهم: فكما أن شيطان الجنّ يوسوس تارة ويخنس أخرى، فكذلك شيطان الإِنس يرى نفسه كالناصح المشفق. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني لأحدّث نفسي بالشيء لأن أخِرّ من السماء أحبّ إليّ من أتكلم به، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «الله أكبر الله أكبر، والحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة» . رواه أحمد وغيره. والله أعلم.

(مناسبة لطيفة) وقع في حديث أبي ذرّ الطويل المشهور: أن عدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر؛ وفي رواية: خمسة عشر؛ وفي رواية: بضعة عشر. وقد رواه أحمد وغيره مختصرًا ومطوّلاً. قال محمد بن الحسين الآجريّ: حدّثنا أبو بكر بن محمد الفريابيّ إملاء في شهر رجب سنة سبع وتسعين ومائتين، حدّثنا إبراهيم بن هشام ابن يحيى الغساني، حدّثنا أبي عن جدّه عن أبي إدريس الخولانيّ عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: دخلت المسجد فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس وحده فجلست إليه فقلت: يا رسول الله إنّك أمرتني بالصلاة. قال: «الصلاة خيرٌ موضوع، فاستكثر أو استقلّ» . قال قلت: يا رسول الله فأيّ الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله، وجهاد في سبيله» . فقلت: يا رسول الله فأيّ المؤمنين أفضل؟ قال: «أحسنهم خلقًا» . قلت: يا: رسول الله فأيّ المسلمين أسلم؟ قال: «من سلم الناس من لسانه ... ويده» فقلت: يا رسول الله فأي الهجرة أفضل؟ قال: «من هجر السيّئات» . قلت: يا رسول الله أيّ الصلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت» . قلت: يا رسول الله أي الصيام أفضل؟ قال: «فرض مجزئ وعند الله أضعاف كثيرة» ، قلت: يا رسول الله فأيّ الجهاد أفضل؟ قال: «من عقر جواده وأهريق دمه» . قلت: يا رسول الله فأيّ الرقاب أفضل؟ قال: «أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها» . قلت: يا رسول الله فأيّ الصدقة أفضل؟ قال:

«جهد من مقلّ أو سر فقير» . قلت: يا رسول الله فأيّ آية ما أنزل عليك أعظم؟ قال: «آية الكرسي - ثم قال: - يا أبا ذرّ، وما السماوات السبع مع الكرسيّ إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسيّ كفضل الفلاة على الحلقة» . قال قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا» . قال قلت: يا رسول الله كم المرسل من ذلك؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر، جمّ غفير كثير طيّب» . قلت: فمن كان أوّلهم؟ قال: «آدم» . قلت: أنبيّ مرسل؟ قال: «نعم خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه وسوّاه قبيلاً - ثم قال: - يا أبا ذرّ، أربعة سريانيّون: آدم، وشيث، وخنوخ - وهو إدريس وهو أوّل من خطّ بقلم - ونوح؛ وأربعة من العرب: هود، وشعيب، وصالح، ونبيّك يا أبا ذرّ؛ وأوّل أنبياء بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى، وأوّل الرسل آدم، وأخرهم محمّد» . قال قلت: يا رسول الله كم كتاب أنزل الله؟ قال: «مائة كتاب وأربعة كتب: أنزل الله على شيث خمسين صحيفة، وعلى خنوخ ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى من قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة، والإِنجيل، والزبور، والفرقان» . قال: قلت يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: «كانت: يا أيها الملك المسلّط المبتلي المغرور، إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكنّي بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم، فإنّي لا أردّها ولو كانت من كافر. وكان فيها أمثال. وعلى العاقل أن يكون له ساعات، ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكّر في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل أن لا يكون ضاغنًا إلا لثلاث: تزوّد لمعاد، ومرمرة لمعاش، ولذّة في غير محرم. وعلى العاقل: أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظًا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما يعنيه» . قال: قلت يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال: «كانت عبرًا كلّها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، عجبت لمن أيقن بالمقدّرثم هو ينصَب،

وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلّبها بأهلها ثم يطمئنّ إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثم هو لا يعمل» . قال: قلت يا رسول الله فهل في أيدينا شيء مما كان في أيدي إبراهيم، وموسى مما أنزل الله عليك؟ قال: «نعم، اقرأ يا أبا ذرّ: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} » . قال: قلت يا رسول الله فأوصني، قال: «أوصيك بتقوى الله فإنه رأس أمرك» . قال قلت: يا رسول الله زدني، قال: «عليك بتلاوة القرآن وذكر الله، فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض» . قال قلت: يا رسول الله زدني، قال: «إياك وكثرة الضحك، فإنه يميت القلب، ويذهب بنور الوجه» . قلت: يا رسول الله زدني، قال: «عليك بالجهاد، فإنه رهبانيّة أمّتي» . قلت: زدني، قال: «عليك بالصمت إلا من خير، فإنّه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك» . قلت: زدني، قال: «انظر إلى من هو تحتك، ولا تنظر إلى من هو فوقك، فإنه أجدر لك أن لا تزدري نعمة الله عليك» . قلت: زدني، قال: «أحب المساكين وجالسهم فإنه أجدر لك أن لا تزدري نعمة الله عليك» . قلت: زذني. قال: «صل قرابتك وإن قطعوك» . قلت: زدني، قال: «قل الحقّ وإن كان مرًّا» . قلت: زدني، قال: «لا تخف في الله لومة لائم» . قلت: زدني، قال: «يردّك عن الناس ما تعرف من نفسك، ولا تجدْ عليهم فيما تحبّ، وكفى بك عيبًا أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك، أو تجد عليهم فيما تحب - ثم ضرب بيده صدري فقال: - يا أبا ذرّ، لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكفّ، ولا حسب كحسن الخلق» . انتهى. والله أعلم. * * *

خاتمة ... الحمد لله ربّ العالمين، حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، كما يحبّه ربنا ويرضى؛ والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحقّ. وقد وقع الفراغ من تأليف هذا الكتاب المبارك، في اليوم المبارك، من الشهر المبارك، في يوم الجمعة لستّ وعشرين خلت من رمضان سنة ألف وثلاثمائة وخمس وستين. وابتداؤه في جمادى سنة أربع وستين، فكانت مدّة تأليفه ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا. نسألك اللهمّ يا واسع الفضل والإِحسان، منزّل التوراة والإِنجيل والقرآن، أن لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرّجته، ولا غمًّا إلا كشفته، ولا غيظًا إلا أذهبته، ولا غلاً إلا نزعته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا مريضًا إلا شفيته وعافيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضى ولنا صلاح إلا قضيتها يا ربّ العالمين. اللهمّ إنا نسألك من الخير كلّه عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشرّ كلّه عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك الصالحون، ونعوذ بك من شرّ ما استعاذ منه عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك الصالحون، ونسألك الجنّة وما قرّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل، ونسألك أن تجعل كلّ قضاء تقضيه لنا خيرًا. سبحان ربك ربّ العزّة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

يا منزل الآيات والفرقان ... بيني وبينك حرمة القرآن اشرح به صدري لمعرفة الهدى ... واعصم به قلبي من الشيطان يسّر به أمري واقضِ مآربي ... وأَجِرْ به جسدي من النيران واحطط به وزري وأخلص نيّتي ... واشدد به أزري وأصلح شاني واكشف به ضرّي وحقّق توبتي ... وأربِح به بيعي بلا خسراني طهّر به قلبي وصفّ سريرتي ... أجمِل به ذكري وأَعْلِ مكاني واقطع به طمعي وشرّف همّتي ... كثّر به ورعي وأَحْيِ جَناني أسهر به ليلي وأضم جوارحي ... أسبل بفيض دموعها أجفاني أُمْزُجُهُ ربّي بلحمي مع دمي ... واغسل به قلبي من الأضغاني أنت الذي صوّرتني وخلقتني ... وهديتني لشرائع الإِيمان أنت الذي علّمتني ورحمتني ... وجعلت صدري واعيَ القرآن أنت الذي أطعمتني وسقيتني ... من غير كسب يد ولا دكان وجبرتني وسترتني ونصرتني ... وغمرتني بالفضل والإِحسان أنت الذي آويتني وحبوتني ... وهديتني من حيرة الخذلان وزرعت لي بين القلوب مودّة ... والعطف منك برحمة وحنان وزرعت لي في العالمين محاسنًا ... وسترت عن أبصارهم عصياني وجعلت ذكري في البريّة شائعًا ... حتى جعلت جميعهم إخواني لكن سترت معايبي ومثالي ... وحلمتَ عن سقطي وعن طغياني ولقد مننت عليّ ربِّ بأنعمٍ ... مالي بشكر أَقَلِّهِنّ يدان فلك المحامد والمدائح كلّها ... بخواطري وجوارحي ولساني ــــــــــــ انتهى الجزء الرابع بحمد الله، وهو آخر الكتاب ــــــــــــ

§1/1